ج10.تفسير الشيخ الشعراوي
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
والجاهلية هي نسبة إلى جاهل. ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول "
جهلية " ، لكن الحق يقول هنا: " جاهلية " نسبة إلى جاهل. وحتى نعرف
معنى الجاهل بالتحديد لا بد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديماً،
ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن
إفرادياً. مثلما نسمع كلمة " جبل " فيقفز إلى الذهن صورة الجبل، لكن لا
توجد حالة واضحة للجبل؛ لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم.
إذن فهناك معنى للفظ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة. ولكن إن قلنا إن القاهرة
مكتظة بالسكان، أو أن مرافقها متعبة، هناك نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد
بقولنا القاهرة.
إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له، وبين لفظ له حكم، ولذلك
نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن لقبله. وها هوذا رجل عربي قال:
أشهد أن محمداً رسولَ الله - بفتح اللام في كلمة " رسول " - وبهذا القول
تكون " رسول الله " صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب. لذلك قال عربي آخر:
وماذا يصنع محمدا؟ ليفلت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر. إذن كل لفظ له معنى، وهذا
المعنى مفرد ولا بد له من نسبة.
مثلما نقول لصديق: " محمد " ، ويعرف هذا الصديق محمدا، فيسألك: "
وما لمحمد "؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه، فتقول:
" محمد زارني أمس ". وهكذا تكتمل الفائدة.
إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد. فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه
النسبة. وإن كانت النسبة واقعة وبعتقدها قائلها؛ ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه
نسبة علم؛ لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما
مثلما نقول: (الأرض كروية) حيث توحي الكلمة أولاً بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة
هي " كروية " لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك، فإذا ما جئنا
بالدليل عليها فهذه نسبة علم. إذن فالعلم نسبة مُعتقَدة وواقعة وعليها دليل.
أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد
مثلما يكرر الطفل عن والده بعضاً من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها،
إنه يقلد من يثق به، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد. أما إذا كان الإنسان
يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك، فهذا هو الجهل، فالجهل ليس معناه
أنك لا تعرف، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع.
والجاهل يختلف عن الأمي، فالأمي هو الذي لا يعرف، أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية
مخالفة للواقع ومتشبث بها.
} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ { والحق هنا يتساءل: هل يرغبون في
الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل؟ والأمر مع الأمي - كما عرفنا - يختلف عن الأمر
مع الجاهل؛ لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك، أما
الجاهل فلا بد للتعامل معه من عملين.. الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية
الخاطئة، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة. والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم
الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقاداً خاطئاً يتضمن قضايا باطلة.
لكن ماذا إن كانت النسبة مجالاً للنفي ومجالأً للإثبات؟ إن كان النفي مساوياً
للإثبات فهي نسبة شك. وإن غلب الإثبات فهذا ظن. وإن كان النفي راجحاً فذلك هو
الوهم. وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا
هم الجهلة؛ لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة. فإذا كان هناك حكم من الله. فلماذا لا
يرتضون إذن؟ أيريدون حكم الجاهلية؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية.
ولنلحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب. وكانوا
يستفتحون عن أهل المدينة ومكة. وكثيراً ما قالوا: لقد أظلّنا عهد نبي سنتبعه
ونقتلكم به قتل عاد وإرم. ولكن ما إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالوا
العكس، ماذا قالوا للجاهلين؟ هاهوذا الحق يخبرنا بما قالوا:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَىا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }[النساء: 51]
وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش، وسألهم بعض من سادة قريش: أنتم أهل الكتاب
وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد. فقال الأحبار: ما أنتم وما محمد؟ فقال
سادة قريش: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني ونصل الأرحام
ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال الأحبار: أنتم خير منه وأهدى
سبيلا. وبذلك زوروا القول.
وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع، أن واحداً من أحبار اليهود قال لأبي سفيان:
أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه. وقال الأحبار ذلك حسداً لرسول الله.
إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية؟ لا. ولكنه التناقض والتضارب. وماداموا قد
تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم. ولذلك
يتساءل الحق:
} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ { ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله:
} وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً {. وسبحانه لم يقل: إن الأحسن في الحكم هم
المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف، لذلك رد الأمر إلى ما لا يتغير
أبداً وهو حكم الله.
وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه - اولا - يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن
المنهج.
ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكاً منحرفاً من مسلم، فهل نلصق هذا السلوك بالإسلام؟
لا. بل ننظر إلى حكم الله في كتابه. وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلاً وله عقوبة،
فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضاً. والمثال قوله الحق:{ وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38]
وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم
الجاهلية. ولكننا نقول: إنه حكم صاحب المنهج وهو الله.
ونلحظ أن هناك استفهاماً في قوله الحق: } وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً {.
والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن، لا نقل حقيقة الشيء. وساعة يطلب المتكلم
من المخاطب أن ينقل إليه الفهم، هنا نقول: هل كان المتكلم لا يعلم الحكم؟ قد يصح
ذلك في الحياة العادية. وقد نراه حين يقول إنسان لآخر:
من زارك أمس؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره، تلك هي حقيقة الاستفهام، لكن
ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية، إنه - سبحانه - يطلب -
منا أن نجيب على سؤاله: } وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً {. وتلك عظمة
الأداء.
وأضرب مثالاً آخر - ولله المثل الأعلى - عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه
لأنه كان سجيناً مثلاً وأنت الذي أخرجته من السجن. فتقول له: من الذي ذهب ودفع عنك
الكفالة وأخرجك من الحبس؟
إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له: لقد فعلت من أجلك كذا وكذا، ولكنك تريده
هو أن ينطق بما فعلته له، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جواباً إلا
الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا، وبذلك تصبح المسألة إقراراً وليس
إخباراً.
} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ { فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في
الجواب، لن يجدوا إلا أن يقولوا: يارب أنت أحسن حكماً. وهذا إقرار منهم وإخبار
أيضاً. أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماماً؛ لأن المؤمن بعترف ويقر بفضل الله
عليه.
} وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ { فالذي يفهم أن حكم
الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين. ونعلم أن مراحل اليقين
تتفاوت فيما بينها، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية. كأن
يقول لك: لقد ذهبت إلى نيويورك. وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات
شاهقة والعنف منتشر فيها. والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة.
وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقيناً وهذا هو علم
اليقين، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق.
وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة، فتركب معه الطائرة، وتطير الطائرة على
ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم، وبعد إحدى عشرة ساعة تهبط الطائرة قليلاً؛ لترى
أضواء مدينة صاخبة، ويقول لك صاحبك: هذه هي نيويورك، وتلك هي ناطحات السحاب.
هكذا صار علم اليقين عين يقين.
وعندما تنزلان معاً إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن. وتصعد إلى
برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك، وهذا هو حق اليقين.
إذن: فمراحل اليقين ثلاث: علم يقين: إذا أخبرك صادق بخبر ما، وعين يقين: إذا رأيت
أنت هذا الخبر، وحق يقين: إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذاالخبر. وقديماً
قلت لتلاميذي مثالاً محدداً لأوضح الفارق بين ألوان اليقين، قلت لهم: لقد رأيت في
أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر. وبالطبع صدقني
التلاميذ؛ لأنهم يصدفون قولي. وقد نقلت لهم صورة علمية. وصار لديهم علم يقين. وبعد
ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر.
وبذلك يصير علم اليقين عين يقين. وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز
ووزعت على كل واحد منهم قطعة. وهكذا صار لديهم حق يقين. وحين يطلق الحق "
اليقين " فهو يشمل الذي علم والذي تحقق.
فأهل الأدلة، علموا علم اليقين، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين، وأهل
الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين. والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم: أنا
بمجرد علم اليقين موقن تماماً ولا انتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب؛ لذلك
نجد أن سيدنا الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول: لو انكشف عني الحجاب ما ازددت
يقيناً.{ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّىا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ
سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ
عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ }[التكاثر: 1-7]
والبداية تكون علم اليقين، ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين،
ومن لطف الله أنه جعلنا - نحن المسلمين - لا نراها حق اليقين. وهو القائل:{ وَإِن
مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم: 71]
هو يعطينا صورة الجحيم. لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين، فقد جاء
بها في قوله الحق:{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
* لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *
أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }[الواقعة: 75-82]
كل ذلك مقدمة ليقول الحق:{ إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ }[الواقعة: 95]
وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين
اليقين. أما منزلة المكذب الكافر، فله مكانه في النار؛ لذلك سيرى كل الناس النار
كعين اليقين. أما من يدخله الحق النار - والعياذ بالله - فسيعاني منها حق اليقين،
وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ... {
(/712)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
نلحظ أن الخطاب هنا للذين آمنوا. والمنهي عنه هو اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
وما معنى الوليّ؟. الوليّ هو الناصر وهو المعين. وهذا القول مأخوذ من ولي يلي؛ أي
يقف في جانبه. ونسمي الذي ينوب عن المرأة في عقد النكاح " الوليّ ".
وكذلك " وليّ المقتول ". والمراد هو: يا من آمنتم لاحظوا تماماً أنكم
أصحاب مهمة وهي أن تخرجوا الضلالات من البشر، هذه الضلالات تمثلت في تحريف ديانات
كان أصلها الهدى فصارت إلى ضلال، فإياكم أن تضعوا أيديكم لطلب المعونة والنصرة.
إذن قوله الحق: { لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىا أَوْلِيَآءَ } هو
حكم تكليفي. وحيثية الإيمان بالله. فما دمت قد آمنت بالله فكل من تقدح أنت في
إيمانه بمخالفته لمنهج ربه لا يصح أن يكون مؤتمناًَ على نصرتك؛ لأنه لم يكن أميناً
على ما معه فهل تتوقع منه أن يعينك على الأمانة التي معك لا؛ لأنه لم يكن أميناً
على ما نزل عليه من منهج. والولاية نصرة، والنصرة انفعال الناصر لمساعدة المنصور.
وهل تجد فيهم انفعالاً لك ينصرك ويعينك، أو يتظاهرون بنصرتك، ولتعلموا أنهم
سيفعلون ما قاله الحق:{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً
}[التوبة: 47]
إنهم لو دخلوا في صفوفكم لفعلوا فيكم مثلما يفعل المنافقون، فما بالنا بالذين
خانوا أمانة الكتب المنزلة عليهم؟ إذن فالموالاة والنصرة والمعونة يجب أن تكون من
متحد معك في الغاية العليا. وما دام هناك من يختلف مع الإسلام في الغاية العليا
وهي الإيمان فلا يصح أن يأمنه المسلم. وسبحانه يقول: { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ
بَعْضٍ }.
وقد يتساءل الإنسان: كيف يقول الحق فيهم:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَىا عَلَىا شَيْءٍ }[البقرة: 113]
ويقول سبحانه أيضاً:{ وَقَالَتِ النَّصَارَىا لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىا شَيْءٍ
}[البقرة: 113]
ويقول جل شأنه:{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
}[البقرة: 113]
نحن - إذن - أمام ثلاثة أقسام؛ يهود، ونصارى، ومشركون، وقد قال مشركو قريش مثل قول
أهل الكتاب بشقيهم برغم أنهم في خلاف متضارب وكل منهم ينكر الآخر، وسبحانه قال:{
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ }[المائدة: 14]
فكيف من بعد ذلك يقول سبحانه: { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ }؟ وهذا أمر يحتاج
إلى وقفة إيمان لنرى الصورة كاملة، ونعلم أن الذين يخالفون منهج الحق قد يصح أن
يكون بينهم خلاف على السلطات الزمنية، لكنهم عندما يواجهون عملاقاً قادراً على دحر
كل بنيان أكاذيبهم يتفقون معاً. وهذا ما نراه في الواقع الحياتي: معسكر الشرق -
الذي كان - يعادي معسكر الغرب، ولكن ما إن يجيء شيء يتصل بالإسلام حتى يتفقوا معاً
على الرغم من هزيمة المعسكر الشرقي؛ لأن الإسلام بمنهجه خطر على هؤلاء وهؤلاء وعلى
سلطاتهم ولكنه في الحقيقة رحمة بهم إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يتصرفون
في ضوء ما قاله الحق: { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ }.
وعندما ينفرد كل منهم بالآخر فإنه ينطبق عليهم قول الحق:{ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ }[المائدة: 14]
هكذا نفهم طبيعة العلاقات بين أعداء الإسلام.
ويقول الحق: } وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { أي أن من يتخذهم
نصراء ومعينين فلا بد أنّه يقع في شرك النفاق؛ لأنه سيكون مع المسلمين بلسانه ومع
أعداء الإسلام بقلبه.
ويذيل الحق الآية بقوله: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {
ونعرف أن الظلم هو نقل حق إلى غير صاحبه، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك بالله، وهو
الظلم العظيم؛ فالحق يقول:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13]
ذلك أن الإنسان حين يظلم إنساناً آخر ويأخذ منه شيئاً ليعطيه لآخر فهل هناك إنسان
يقدر على أن يأخذ من الله شيئاً؟ لا، فالإنسان لا يستطيع أن يظلم الله، لكنه ينال
عقوبة الشرك وهذا ظلم خائب للنفس والذي يشرك بالله لا يأخذ إلا الخسار، وذلك هو كل
الخيبة.
لأن الظلم حينما يحقق للظالم فهو ظلم هين، ولكن الظلم العظيم هو أن يشرك إنسان
بالله ولا يأخذ إلا العقاب الصارم. فإذا كان المشرك يتأبّى على منهج الله في
الأشياء فهل يجرؤ على أن يتأبّى على قدريات الله غير الاختيارية فيه كالموت
مثلاً؟.
والحق يأمر الإنسان بالإيمان. ومتعلقات الإيمان من شهادة بوحدانيته وإيمان برسله
وكتبه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع
إليه سبيلا. والمشرك يتأبّى على الإيمان والتكاليف فهل يجرؤ على التأبي على المرض
أو الموت؟. لا؛ لذلك فهو يظلم نفسه ظلماً خائباً. والحق سبحانه لا يهديه؛ لأن معنى
الهداية هو أن يجد الإنسان من يدله على الطريق الموصل للغاية. فهداه أي دلّه على
الطريق الموصل للغاية. ولا يتجنّى سبحانه على خلقه فلا يهديهم، بل الذين ظلموا
أنفسهم ولم يؤمنوا هم الذين لا ينالون عناية الحق سبحانه وتعالى باختيارهم.
والحق سبحانه يقول: } فَتَرَى الَّذِينَ... {
(/713)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
المجال هنا كان عن النهي عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء من دون الله، ومن سمع هذا
النهي وفي قلبه الإيمان نفّذ النصيحة. ولكن الذي طمس المرض - وهو النفاق - قلبه
فهو الذي يتولاهم. وهو يسارع إلى هذه الولاية. ونعرف أن المسارعة هي تقليل الزمن
في قطع المسافة الموصلة للغاية فإذا كانت هناك مسافة تقتضي السير لمدة خمس عشرة
دقيقة فالمسارعة تفرض على الإنسان أن يقطعها في وقت أقل من ذلك. وهناك "
يسارع إلى " و " يسارع في " ، مثل قول الحق:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا
مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ }[آل عمران: 133]
والغاية هنا هي المغفرة من الله وعلى المؤمن أن يسارع إليها، أما عندما يقال:
(يسارع في كذا) أي أنه كان في الأصل منغمساً في هذا الموضوع. وعندما يقول الحق: {
يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي كانهم كانوا مع هؤلاء الكفار من البداية، ولذلك
فالمسارعة في ظرفيتهم. وبذلك يتهافتون عليهم. والعلّة العامة أن في قلوبهم مرضاً
جعلهم يبتكرون ويلفقون أسباباً، هذه الأسباب هي { نَخْشَىا أَن تُصِيبَنَا
دَآئِرَةٌ }
والموالاة هنا من الخوف أن تدور الدوائر، ونحتاج إليهم لأن عندهم الأموال والسلاح،
وهذا ما قاله المنافق عبدالله بن أبيّ؛ فقد قال: أنا رجل أخشى الدوائر. أي أنه
يخشى الأحداث والمصائب. مثلما نقول: " الأيام دول ". ولكن كلمة "
دول " هي انتقالية وقد لا يكون فيها ضرر، أما " دوائر " فهي
انتقالية فيها ضرر. وعكس ذلك ما قاله عبادة بن الصامت قال رضي الله عنه:
- أنا سآخذ ولاية الله ورسوله والمؤمنين وسأنفض عني ولاية اليهود والنصارى.
وأورد الحق قول المنافق: { نَخْشَىا أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } وساعة نسمع كلمة " الفتح " ، فلنعرف أدلّ
مدلولاتها أنه الحكم.{ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ }[الأعراف:
89]
أي احكم يا رب بيننا وبينهم.
إذن فقوله الحق: { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ
عِندِهِ } أي الحكم الذي يضع حدّاً لمسألة موالاة أهل الكتاب والذين لا يعلمون.
والأمر من عند الله هو حكم من الله أيضاً. يخاطب المؤمنين به. والمؤمن بالله له
أعمال تؤدى كأسباب إلى مسببات، وقد يأتي للمؤمنين أشياء بدون مقدمات منهم، وهي
الفضل من الله. إذن فعسى الله أن يأتي بالفتح، أي بأسباب أنتم تصنعونها وتعدّون ما
استطعتم من عِدِّة وعُدَّة وتؤذونهم، ولذلك قال في آية أخرى:{ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ }[الحشر: 6]
مثال ذلك ما حدث لبني النضير، فكان الإجلاء، واستولى المسلمون على أرض بني قريظة،
وهذا هو الفتح من عند الله. وسبحانه - إذن - يعامل المؤمنين معاملتين: الأولى أن
يصنع المؤمنون مقدمات تؤدي إلى نتائج:
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }[التوبة: 14]
وهنا جعل الحق قتال المؤمنين سبباً، أما الثانية فهي الأمر من عنده بالنصرة
بالربوبية.
وساعة تسمع " عسى " و " لعل " فهذا معناه الرجاء. والرجاء أن
المتكلم يرجو أن يقع ما دخلت عليه " عسى ". مثال ذلك قولنا: } عسى أن
تكرم زيداً). ومن يقولها إنما يرجو سامعها أن يكرم زيداً، وهذا يعني أن القائل ليس
في يده إكرام زيد. أما إذا قال القائل: (عسى الله أن يكرم زيداً)، فهذا نقل للرجاء
من البشر إلى الله. والقائل هنا بشر ويتكلم عن بشر، والمرجو هو الله، وقدرة الله
أوسع من كل قدرة. هنا ندخل في اتساع دائرة الرجاء فما بالنا إذا كان المتكلم هو
الله؟ إذن فهذا إطماع من كريم لا بد أن يتحقق.
ونتعرف بذلك على درجات الرجاء: رجاء من بشر لبشر، رجاء بشر من إله لبشر، رجاء إله
من إله لبشر، ولأن الرجاء الأخير من المالك الأعلى لذاته فهو الذي يعطي } فَيُصْبِحُواْ
عَلَىا مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ { أي أنهم صاروا إلى الندم.
وبذلك صار قولهم: } نَخْشَىا أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ { هو كشف لما في قلوبهم من
مرض النفاق، وقد خلعوا على المرض وعبروا عنه بهذا الكلام سترا لما في قلوبهم، فكأن
الذي أسروه في نفوسهم هو كراهية هذا الدين وكراهية هذا المنهج وأنهم لا يحبون أن
يستعلي هذا المنهج على غيره.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يدلنا على أن القول الذي نشأ منهم: } نَخْشَىا أَن
تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ { لم يكن هو السبب المباشر. ولكن السبب هو المرض في قلوبهم.
والمرض: أنهم لا يحبون أن ينتصر منهج الإسلام؛ لأنهم يعيشون على ثروات المخالفين
للدين، وساعة تكون السيطرة للإسلام ينتهي ثراؤهم. وكذلك كان أهل الكتاب في المدينة
قبل أن يأتي الإسلام كانوا أصحاب العلم والمال والجاه، وكانت الأوس والخزرج يأخذون
منهم المال بالربا ويشترون منهم السلاح، ويأخذون منهم العلم. ولما جاء الإسلام ضاع
من اليهود كل ذلك فتمكن من قلوبهم المرض؛ لأن الإسلام سلبهم السلطة الزمنية، هذه
السلطة التي جعلتهم يحرفون كتب الله. فإذا كانوا قد دخلوا مع الله في تحريف كتبه،
أفلا يدخلون معكم - أيها المسلمون - في عداوة ويلبسون عليكم بأنهم يعينون وهم
يُخَذِّلون؟
} فَيُصْبِحُواْ عَلَىا مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ { وساعة
يسمعون هذا القول الرباني وهو قرآن يتلى ويتعبد بتلاوته ويُقرأ في المساجد
ويسمعونه، ولم يكن هناك فتح، ولم يكن هناك أمر، ويخبرهم الله بمصيرهم: }
فَيُصْبِحُواْ عَلَىا مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ { ومعنى ذلك أنه
سبحانه كتب الذي في نفوسهم. مثلما قال من قبل: } وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ {.
أي أنهم قالوا في أنفسهم وسمعهم الخالق. ولو لم يقولوا في أنفسهم لأعلنوا أنهم لم
يقولوا ذلك، لكنهم بهتوا حين كشفهم الحق وفضحهم وسجل ما في أنفسهم وأورد مضمون
القول، وكان من اللازم أن يعترفوا بمضمون القول، وكان لا بد لهم أن يتجهوا إلى
الإيمان. لكنهم لم يفعلوا فصاروا إلى الندم. بنص الآية التي نزلت قبل أن يأتي فتح
أو أمر من الله.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ... {
(/714)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
هنا يرى المؤمنون رأي العين ندم هؤلاء. والندم انكسار القلب في الحاضر على تصرف
سابق مثلما يرتكب إنسان حماقة وتظهر آثارها من بعد ذلك، فيقول: يا ليتني لم أكن قد
فعلت ذلك. إنه انكسار نفس على تصرف سابق. وانكسار النفس يتضح على بشرة الوجه.
وساعة يأتي الفتح تجد المنافقين وأهل الكتاب مكبوتين كبتاً قسرياً وهو الكبت الذي
لا يجرؤ صاحبه عليه فيدعي أنه فرحان، إنه قسري بإلحاح بِنْيَة، وظهور أثر ذلك على
وجوههم.
وهنا يفطن المؤمنون إلى ذلك فيقولون: { أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ }. ولو كان هؤلاء المنافقون
من الصادقين لفرحوا ولكانت أساريرهم متهللة، ولظهرت عليهم الغبطة. لكنهم صاروا عكس
ذلك، صاروا نادمين مكبوتين.
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ } أي حبط عملهم وقولهم:
" إنا معكم ". والحبط هو - كما قلنا - الانتفاخ الذي يصيب البهيمة التي
تأكل طعاماً غير مناسب لها، فيظن الناس أنها قد سمنت ولكنهم ياتفتون فيجدون أنها
مصابة بانتفاخ قاتل.
{ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } والخسارة في معناها الواضح
أن يقل رأس المال. لقد فعل المنافقون ذلك ليستروا وراء المسلمين ولم يسلم لهم هذا
الأمر وانكشفوا.
ويقول الحق بعد ذلك: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ... }
(/715)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
والخطاب هنا للمؤمنين، وكل نداء مثل هذا قد يجيء بعده حكم من الأحكام أو بشارة من
البشارات أو وعيد للمخالف. والذي يأتي فيه شبه إشكال وليس بإشكال، هو أن يأتي هذا
القول ويكون ما بعده أمر بالإيمان كقوله الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
آمِنُواْ } فسبحانه يناديهم كمؤمنين ويطلب منهم الإيمان، ومثال ذلك قول القائل:
" يا قائم قم " برغم أن المفروض أن يكون القول: " يا قائم اجلس
" أو " يا قائم تعال " ، أو " يا قائم انصرف إلى فلان "
، فكيف إذن يقول الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ }. هنا نقول:
ما الإيمان؟ الإيمان هو استقرار العقيدة في القلب فلا تطفو للذهن لتناقش من جديد.
ونسمي ذلك عقيدة، أي أمراً معقوداً في القلب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب مؤمناً يطالبه ان يؤمن، فمعنى ذلك أن الحق
يقول: أنت آمنت قبل أن أناديك وبسر الإيمان ناديتك فحافظ على هذا الإيمان دائما.
وجدد دائماً إيمانك لأنني ناديتك بوصف الإيمان الذي عرفته فيك.
إن الحق يوضح: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم ولتكن كل لحظة من لحظات
حياتكم المقبلة في إيمان عالٍ مرتقٍ قبل أن أتكلم معكم بوصف الإيمان أنتم آمنتم
أولاً فناديتكم فحافظوا على ذلك واثبتوا على إيمانكم.
ومعنى قوله: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أي من يتراجع منكم عن الإسلام
فسيأتي الله بعوض عنه، وسيأتي بقوم لن يكونوا مثل هؤلاء المرتدين. إذن فمن يرتد
فعليه أن يفهم أنه لن ينقص جند الله واحداً؛ لأن الذي أذن لشرعه أن ينزل على رسول
ونبي خاتم لن يجعل هذا الرسول وهذا المنهج تحت رحمة أغيار الناس. فإن خرج أناس عن
المنهج فالله يستبدل بهم غيرهم. وفي هذه الآية أسلوب يخالف آية البقرة في الوجه
الإعرابي، وسبحانه يقول في آية البقرة:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ
اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّىا يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ
عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
}[البقرة: 217]
هنا وجدنا الحق يقول: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أما في الآية التي
نحن بصددها في سورة المائدة فهو سبحانه يقول: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
} ونجد الأسلوبين مختلفين. والحكمة العليا في أن الحق سبحانه وتعالى يأتي في كتابه
بآيات متحدة في المعنى إلا أن وجه الإعراب فيها يختلف ليدلنا أن القرآن نزل إلى
الناس كافة.
وقبل أن ينزل القرآن كانت هناك لغتان: لغة تميم، ولغة الحجاز.
وكان الخلاف بين اللغتين محصوراً في الكلمة التي بها تضعيف، أي فيها حرفان من شكل
واحد أي متماثلان. وكلمة " يرتد " بها " دالان " وأصلها
" يرتدد ". و " يرتد " بها مِثْلان والنطق بهما صعب. ولذلك
حاول الناس في مثل هذه الحالة أن يدغموا مِثْلاً في مثل. ولذلك كان من اللازم أن
نُسكن الحرف الأول من المثلين. والمفروض أن " الدال " الثانية ساكنة؛
لأن " مَن " شرطية جازمة. والدال الأولى أصلها بالكسر. ولا بد من
الإدغام. والإدغام يقتضي إسمان الحرف الأول. إذن فمن أجل الإدغام نفعل ذلك.
ونحن نعلم أن الساكنين لا يلتقيان، وكان تسكين الحرف الأول لأنه ضروري للإدغام،
أما الحرف الساكن الآخر فهو الطارئ. فنتصرف فيه، ولذلك نحركه بالفتح حتى نتخلص من
التقاء الساكنين. ولذلك نقول: " من يرتد " بالفتح.
وجاء لي ذات مرة سؤال يقول: كيف يأتي القرآن بـ " يرتد " بالنصب أي
بالفتح؟ وقلت: إنها ليست " فتحة نصب " والسائل يفهم أن " مَن
" إما اسم موصول، وإمَّا هي " مَن " الشرطية، فلو كانت اسماً
موصولاً؛ لكان القول " من يرتدُ " - بالضم - وإن كانت " مَن "
الشرطية لجاءت بالتسكين ولأن ما قبلها جاء ساكناً للإدغام تخلصنا من السكون
بالفتحة وهي " فتحة " التخلص من ساكنين، لأنه - كما قلنا - لا يلتقي
ساكنان.
والذي يُظهر لنا ذلك هو آية البقرة التي قال فيها الحق: " ومن يرتدد "
بدليل أنه عندما عطف قال: " فيمت " بالجزم عطفا على يرتدد. أما السبب في
أن جواب الشرط واضحٌ في آية المائدة أنه لم يأت فعل جوابي أو عطف، وجواب الشرط هو
قول الحق: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { ويدل
على ذلك دخول الفاء على كلمة سوف لكن لو كان الحق قد قال: من يرتد منكم عن دينه
يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه كان يمكن الفهم بسرعة أن " مَن " شرطية،
لأن كلمة " يأت " جاءت مجزومة بحذف آخرها، ومن هنا يتضح أن الفتحة في
" يرتد " هي فتحة التخلص من التقاء الساكنين.
وما السبب في أن الحق يأتي بآية على هذا النسق، وآية أخرى على ذاك النسق؟ نحن نعلم
أن القرآن قد نزل بلغة قريش. وكانت قريش تمتلك السيادة. ولم تكن هناك قبيلة بقادرة
على مواجهة قريش. ونعرف جميعاً أن رحلة قريش إلى اليمن لم يكن ليجرؤ إنسان أن
يتعرض لها، وكذلك في رحلة قريش إلى الشام؛ لأن قريشا تستوطن حيث يوجد بيت الله
الحرام الذي يحج إليه كل عربي.
ويوم أن يتعرض أحد لقوافل قريش فعليه أن ينتظر العقاب له أو لقبيلته، إذن فالبيت
الحرام هو الذي أوجد لهم تلك المهابة لذلك ينبههم الحق إلى ذلك عندما قال في سورة
الفيل:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ
يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ *
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ
}[الفيل: 1-5]
وقد تم وعيد الله لأصحاب الفيل، لأنهم أرادوا هدم بيت الله الحرام. ثم يتبع الحق
سورة الفيل بقوله في سورة قريش؛{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ
الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }[قريش: 1-2]
ليوضح سبحانه أنه من ضمن أسباب صيانة بيت الله الحرام أن حفظ سبحانه لقريش الأمان
في رحلة الشتاء والصيف، ولو انهدم البيت الذي يحقق لقريش السيادة لهجم الناس على
القرشيين من كل جانب؛ لأنه القائل في شأن من قصدهم لهدم بيت الله الحرام.{ فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 5]{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }[قريش: 1]
وما دامت تلك المسألة قد صنعها الله لقريش، فلا بد لهم من عبادة رب هذا البيت:{
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 3-4]
إذن فقريش أخذت السيادة بين العرب بمكانة البيت، وأخذت السيادة أيضاً في اللغة،
وكانت كل أسواق العرب تعقد هناك، وأشهرها سوق عكاظ، وكان ينصب في قريش خلاصة
اللغات الجميلة من القبائل المختلفة. وهكذا أخذت اللغة المصفّاة المنتفاة، فكل
شاعر كان يقدم أفضل ما عنده من شعر. وكل خطيب كان يأتي بأحسن ما عنده من خطب.
وبذلك كانت قريش تسمع أجود الكلمات. ولهذا كانت اللغة التي عندهم هي اللغة
العالية. ولذلك عندما جيء لزمن كتابة القرآن كانت الوصية:
إن اختلف عليكم شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ لأن لغة قريش أخذت من اللغات محاسنها. وبنو
تميم والحجاز كانوا مختلفين في بعض الأشياء. ولذلك كنا نسمع - عندما نتعلم الإعراب
- قول المعلم وهو يسألنا: هل " ما " حجازية أو تميمية؟ وهذا يدلنا على
أن هناك خلافاً بين النطق في القبيلتين.
وفي الآية التي نحن بصددها ندغم ونقول: } مَن يَرْتَدَّ { وفي آية البقرة ننطقها
دون إدغان فنقول: " ومن يرتدد ".
وكأن الحق جاء بآية على لغة الحجاز واية على لغة تميم، وذلك برهان جديد على أن
القرآن لم يأت ليحقق سيادة القريش، إنما هو للناس كافة؛ لذلك نجد من كل لهجة كلمة،
ليتضح أن القرآن لعموم الناس جميعهم.
وعندما نقرأ قول الحق:{ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة: 54]
نعلم أنه سبحانه يعلمنا أنه قادر على أن يأتي بأهل إيمان غير الذين ارتدوا عنه،
تماماً كما أخبرنا من قبل:{ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ
وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
[البقرة: 217]
والقول هنا: خبر عن مصير المرتد إلى جهنم بعد أن تقوم الساعة.
ولكن القول: } مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { يدل على أن إجراءً سيحدث قبل أن تقوم
القيامة. ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن إلهاً ينزل قرآنا يتحدى به ثم يأتي في
القرآن بقضية مازالت في الغيب ويجازف بها، إن لم تكن ستقع؟. والحق يقول: }
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { و " سوف
" تخبرنا بموقف قادم سيأتي من بعد ذلك. ونقول هنا: من الذي يستطيع أن يتحكم
في اختيارات الناس للإيمان؟. لا أحد يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان
إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتحكم ويحكم ويخبرنا بأنه سوف يأتي أناس يؤمنون
بدلاً من المرتدين.
أما إن ارتد أناس، وانتظروا أن يروا البديل لهم، ولم يأت فماذا يكون الأمر؟ لا بد
أن تنصرف الناس عن الدين. ولم يكن الحق ليجازف ويجري على لسان محمد بأن قوماً
سيرتدون وهو لا يعلم أيأتي قوم مرتدون؟ والعلم جاء في هذه الآية كما جاء في كل
القرآن من الله جل وعلا. وقد قالها الحق قضية كونية: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ {. وهل هناك قوم يحبهم الله وهم لا يحبونه؟
ونقول: إن هذا لا يحدث مع الله، وإن كان يحدث في الحياة البشرية مثلما قال الشاعر
العربي:أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون محبّاً غير محبوبوشقاء المحبين إنما
يأتي من أن العاشق يحب أحداً، وهذا الحبيب لا يبادله الحب؛ لذلك يظل العاشق باكياً
طوال عمره. ولنا أن نلحظ أن حب الله هو السابق في هذا القول الكريم: } فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ {؛ لأن هذه هي صفة الانكشاف للعلم،
لقد علم الحق أنهم سيتجهون إليه فأحبهم، وعندما جاءوا فعلوا ما جعلهم محبوبين لله،
ثم ما هو الحب؟. إنه ودادة القلب. وقلنا الكثير من قبل في أمر ودادة القلب. ونعرف
أن هناك لوناً من الحب يتحكم فيه العقل. ولوناً آخر من الحب لا يتحكم فيه العقل
ولكن تتحكم فيه العاطفة.
ومثال هذا عندما نذهب إلى طبيب ويصف لنا دواء مراً غير مستساغ الطعم، ونجد الإنسان
الموصوف له الدواء يذهب إلى الصيدلية للسؤال عن الدواء، فإن لم يجده فهو يلف ويدور
ويسأل في كل صيدليات البلد فإن لم يجده فهو يوصي المسافر إلى الخارج لعله يأتي له
بالدواء. وإذا جاء له صديق بهذا الدواء فهو يمتلئ بالامتنان بالسرور. أيقبل المريض
على الدواء غير المستساغ بعاطفته ام بعقله؟ إنه يقبل على الدواء غير المستساغ
الطعم ويحبه بعقله. والحب العقلي - إذن - هو إيثار النافع.
ومثال ذلك نجد الوالد لابن غبي يحب ابناً ذكياً لإنسان غيره.
الوالد - هنا - يحب ابنه الغبي بعاطفته. ولكنه يحب ابن جاره لأنه يمتلك رصيداً من
الذكاء. إذن هناك حب عقلي وحب عاطفي. وهذا ما يحدث في المجال البشري لكن بالنسبة
لله فلا.
وعندما يقول الحق: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ { أي أنهم يحبون الله بعقولهم، وقد يتسامى الحب إلى أن يصير
بعاطفتهم، وقد يُجرب ذلك حين يجري الله على أناس أشياء هي شر في ظاهرها، ولكنهم
يظلون على عشق لله. ومعنى ذلك أن حبهم لله انتقل من عقولهم إلى عاطفتهم. وسيدنا
عمر جرى معه حل هذا الإشكال. كيف؟
لقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه
".
وهناك من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أحب إليه من ماله وولده لكن عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أنت أحب إليّ من مالي وولدي أما نفسي فلا وأعاد
رسول الله صلى الله عليه وسلم القول: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
نفسه ".
وهنا علم عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد الحب العقلي؛
لأن عمر رضي الله عنه علم أيضا أن الحب العاطفي لا يكلف به، ولذلك قال عمر: الآن
أحبك عن نفسي، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر. أي كأنه في هذه
اللحظة قد اكتمل إيمان عمر. إذن فحب الله لا تقل فيه أيها المؤمن هل هو حب عقلي أو
حب عاطفي؟؛ لأن المراد بحب الإله هو دوام فيوضاته على من يحب، هذا في الدنيا، أما
في الآخرة فالحق يلقاه في أحضان نعمه ويتجلى عليه برؤيته:{ لِّلَّذِينَ
أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ }[يونس: 26]
والحسنى هي الجنة. أما الزيادة فقد قال المفسرون: إنها رؤية المحسن.
} فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { وعندما يقول
الحق: " فسوف " فلنعلم أن ما يأتي بعدها هو من إعلامات النبوة التي جاءت
على لسان محمد في قرآن الله؛ لأن ذلك الأمر قد حدث كما جاء في قرآن الله، فقد ارتد
قوم وانقسموا في الردة إلى قسمين؛ قسم ارتد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقسم ارتد على عهد أبي بكر، ومنهم من ارتد على عهد عمر. وحين تنظر إلى ما بعد
" سوف " لا بد أن تعرف أن هناك امتداداً زمنياً.
وأول الارتداد كان في اليمن وكان ذلك بعد حجة الوداع وفي حياة النبي صلى الله عليه
وسلم.
وكان في اليمن كاهن مشعوذ اسمه عَبْهَلة بن كعب، ويقال له: ذو الخمار، أو ذو
الحمار في رواية أخرى، وهو الذي يعرف في كتب التاريخ الإسلامي باسم الأسود العنسي.
هو أحد الكذابين اللذين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " بَيْنَما
أنا نائم إذ اوتيتُ خزائن الأرض، فوُضع في يديّ سواران من ذهب فكبر عليّ وأهمّني،
فأُوحِي إليَّ ان انفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابَيْن اللذين أنا بينهما
صاحب صنعاء وصاحب اليمامة ".
وكان لهذا الكاهن حمارٌ روّضه صاحبه رياضة من لون خاص تماماً كتدريب القرود، فكان
يقول له: قف. فيقف. ويقول له: سر. فيسير. واعتبر هذا الكاهن أن مثل هذا الأمر
للحمار هو معجزة. أو كان الرجل اسمه " ذو الخمار " أي أنه كان يرتدي
خماراً على وجهه. ومن العجيب أن اي مرتد لم يطالبه من يتعبه بعلامة صدقه في
النبوة.
إن أول شيء في التأكد من صحة قول أي إنسان: " أنا نبي " أن يسأله الناس
عن علامة الصدق في النبوة وأن يتعرفوا على معجزته، لكنا لا نجد ذلك في مرتد أبداً.
وكيف لا يسأل الناسُ الذين يتبعون المرتد عن نفسه وعن دعواه أنه نبي وعن معجزته
التي تدل على صدق رسالته، وهو ما يحدث مع أي رسول، كيف يؤمن أناس بفرد بدون
معجزة؟.
هنا نذهب إلى الجانب النفسي من الأمر ونقول: إن التدين أمر فطري والإنسان الذي ليس
له دين يغضب ويحزن عندما نقول له: يا قليل الدين. ولذلك نجد أن المبطل من هؤلاء
يقول: أنا على دين. إنه لا يتصور أنه مبطل بلا دين. ولذلك قال الحق:{ لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }[الكافرون: 6]
فكأن الأصل في الفطرة الأصلية أن الدين ليس مجرد اسم أو صفة، ولكنه التزام
بتكاليف. والذي يجعل الناس في خشية من الدين هو مشقة التكاليف؛ لذلك فعندما يأتي
إنسان ويقول: أنا نبي ومعجزتي أنني خففت عليكم الصلاة والزكاة والصيام وأبحت لكم
النظر إلى نساء بعضكم.
لا بد أن يسيل لعاب أصحاب الهوى الذين لا بصيرة لهم ويقولون: إن مثل ذلك لدين
جميل، ويستسلمون ويخدعون أنفسهم بأنهم متدينون ورغم تحللهم من بعض التزامات
التدين، إن المرء ليتعجب من مدعي النبوة في الزمن القديم وحتى عصرنا هذا لأننا لم
نجد أحداً من المثقفين قد وقف أمام مدع وقال له:
ما معجزتك؟ ولكن الكل سأل: ما منهجك؟ وعندما سأل أهل اليمن ذا الخمار: ما منهجك؟
كانت إجابته: إنه أسقط عنهم بعض التكليفات بداية من تقليل الصلاة والزكاة إلى
إباحة الاختلاط بنساء غيرهم. واستراح بعضهم لذلك المنهج وذهلوا وغفلوا عن طلب
المعجزة. وكل الذين ادعوا النبوة كانوا من هذا الصنف. ولذلك نجد أن كل مدع للنبوة
يحاول التخفيف من المنهج، فهناك من خفف الزكاة.
وجاءت امرأة اسمها سجاح خففت الصلاة. وجاء ثالث ليخفف الربا فيبيحه. لكن أحداً
منهم لم يأت بمعجزة. واتبعه بعضهم لمجرد تسهيل المنهج. ومدعي النبوة إنما يرضي
النفوس التي لا تطيق ولا تقوى على مشقة المنهج بأن تكون متدينة ملتزمة به.
ومثال ذلك ما حدث في الإسكندرية عندما ظهر مدع للنبوة. وأباح منكراً مثيراً، وتبعه
بعض من المتعلمين الذين أرادوا دينا على هواهم، وكذلك كان الأمر في البداية.
وعندما جاء ذو الخمار، أو ذو الحمار، وهو كما قلنا: مشعوذ، وكان كما يصفه المؤرخون
يسبي قلوب من يسمع منطقه وكان يريهم الأعاجيب، واستطاع بذلك أن يستولي على مُلْك
اليمن، وأعلن ارتداده. وغلب على صنعاء وعلى ما بين الطائف إلى البحرين. وجعل
يستطير شره استطارة الحريق.
وكان سيدنا معاذ بن جبل هو الوالي على اليمن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم،
فأخبر سيدنا معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن كاهناًَ اسمه ذو
الخمار أو ذو الحمار، قد ارتد.
ويذهب سيدنا معاذ إلى حضرموت. وهناك يأتيه كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم يأمره
فيه أن يبعث الرجال لمصاولة ذي الخمار. ويحتال المسلمون للنهوض بما أمرهم به رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك يدخل على ذي الخمار رجل ديلمي اسمه فيروز
فيقتله على فراشه.
وعلى الرغم من بعد المسافة بين اليمن والمدينة إلا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول في ليلتها: " قتل الليلة الأسود العنسي ".
وبعد ذلك يأتي الخبر في آخر الشهر أن مدعي النبوة قد قتل. وتلك من إعجازات النبوة.
إذن فقد تعرض المؤمنون على زمن رسول الله صلى اله عليه وسلم للهزة في العقيدة
بحكاية ذي الخمار أو ذي الحمار. وكانت قصة ذي الخمار كالمصل الواقي الذي يربي
المناعة، وأخبرهم الله بها أولاً: } مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ {.
وذلك ليعطي الحق سبحانه وتعالى المؤمنين مناعة إيمانية وكأنه يقول للمؤمنين: لا
تظنوا أنكم لن تتعرضوا إلى هزات عقدية دينية بل ستتعرضون. وكأن الرسول صلى الله
عليه وسلم يقول: قد يجوز أن يفهم الناس أني وأنا حي أقوم على منهج الله في الأرض
فإذا أنا مت ربما ارتدوا عن الدين.
ورسول الله عندما يبلغ ذلك للمؤمنين عن الله - سبحانه - إنما كان بقصد تربية
المناعة. فلو فوجئ المسلمون بالردة ولم يكن الله قد خبرهم بها لما كان عندهم
احتياط مناعي. والاحتياط المناعي هو أول عملية في الوقاية. ونعلم أن العلم المعاصر
استطاع فصل الميكروب أو الفيروس المسبب لمرض وبائي، ويقوم العلماء بإضعاف هذا
الميكروب أو الفيروس، ثم يوضع قليل من هذا الميكروب أو الفيروس بعد إضعافه في
الجسم البشري، فتتحرك في الجسم أجهزة الوقاية والحماية لتقاتل هذا الميكروب أو
الفيروس وتنتصر عليه، وبذلك تمتلك قوى الوقاية والحماية داخل الجسم القدرةَ على
مقاومة هذا المرض، وهكذا أراد الحق بهذا القول الكريم: } مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ
عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ {.
إذن فحين يوجد الارتداد، لا يفاجأ المسلمون بهذا الارتداد، ويثقون تماماً أنه
بمجرد مجيئ الارتداد فإن وعد الله الآخر يجيء: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { فلا فزع عند المؤمنين ساعة يحدث الارتداد
ولا زلزلة في النفوس. وساعة يأتي الارتداد يقول المؤمن:
إن الذي صدق في أنه يحدث الارتداد، سيصدق في قوله: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ {. وإذا رأيت " السين " تسبق قولاً
فإن هذا يعني أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث قريب وقليل مثل قوله الحق:{
سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ }[البقرة: 142]
أما عندما تقرأ " سوف " فأعلم أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث متسع
وبعيد. ولذلك نحن نرى أن الردة قد امتدت في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وفي عهد
عمر - رضي الله عنه -.
وما هي ذي مواصفات القوم الذين يأتي بهم الله في قوله: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لائِمٍ {؟ إنها مواصفات ست: يحبهم الله، ويحبون الله، أذلة على المؤمنين، أعزة على
الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم.
وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلاً وعزيزاً في آن واحد؟ لأن الحق لا يريد أن يطبعنا
على لون واحد من الانفعال، ولكنه يريد لنا أن ننفعل تبعاً للموقف. فعندما يحتاج
الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفاً فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة. وعندما يحتاج
الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة. وإن احتاج الموقف إلى الكرم،
فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم. فالمسلم - إذن - ينفعل انفعالاً مناسباً لكل موقف،
وليس مطبوعا على انفعال واحد. ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي
لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها ولو طُبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي
لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن ليناً قادراً على
المواجهة كل موقف بما يناسبه.
والمؤمن عزيز أمام عدوه لا يُغلب، ويجابهه بقوة. والمؤمن يخفض جناح الذل من الرحمة
لوالديه امتثالاً لأمر الحق سبحانه:{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ }[الإسراء: 24]
وهل إذا خفض المؤمن جناح الذل لوالديه. أيخدش ذلك عزته؟ لا. بل ذلك أمر يرفع من
عزة الإنسان. والحق يريد المؤمن أن يكون غير مطبوع على لون واحد من الانفعال، ولكن
لكل موقف انفعاله. وحين ينفعل المؤمن للمواقف المختلفة فهو يميز ما يحتاج إليه كل
موقف } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ { ويقال في
اللغة: " ذليل لفلان " فلماذا - إذاً - يقول الحق هنا: } أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ { ، و " على " تفيد العلو.
والذلة تفيد المكانة المنخفضة، فكيف يأتي هذا التعبير؟ لقد جاء هذا القول على هذا
الشكل لحكمة هي: أن المؤمن ما دام يحب الله ويحبه الله. وساعة يكون في ذلة لأخيه
المؤمن فهذا يرفع من قدره. وهي ليست ذلة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه لين جانب
وعطف ورحمة. إذن فقوله الحق: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ { يعني أن المؤمنين
يعطفون على غيرهم من المؤمنين حتى يبدو هذا العطف وكأنه ذلة. وبعض العلماء يقول:
إن المادة " ذال " و " لام " تدل على معنيين متقابلين، مثال
ذلك قوله الحق:{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ }[يس: 72]
أي جعلناها خاضعة لتصرفهم. وهذا التذليل ليس بقهر من الإنسان للأنعام ولكنه بتسخير
من الله. وهي ميسرة لخدمة الإنسان. ومثال آخر. قوله الحق:{ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً }[النحل: 69]
أي متطامنة مهيأة. إذن فهذه ذلة اللين. وهناك " ذُل " - بضم الذال - وهو
ضد العز. وهناك " ذِل " - بكسر الذال - وهو اللين. إذن فالذل بكسر الذال
هو ضد الصعوبة؛ أي اللين. والذُّل - بضم الذال - هو ضد العز -، فإذا اردنا ذلّة
اللين؛ فذل المؤمن للمؤمن من الذُّل، وإن أردنا الذلة التي هي ضد العز، فهي من
الذُّل. وعندما يكون المؤمن على ذِلة للمؤمن. فهي ذِلة اللين والعطف. وعندما يريد
الحق الشيء ليتدانى للمؤمن ولا يتعبه، فهو يقول:{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }[الحاقة:
23]
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }[الإنسان: 14]
أي دُلِّيت عناقيدها. فالفاكهة تنزل إلى المكان الذي يوجد فيه المؤمن. وإن وقف
المؤمن لطال بيده أن يقطف الثمار. وإن اضطجع لاستطاع أن ينال أيضاً من الثمار
لأنها تتدانى له. وإن نام المؤمن لتدانى قطاف الثمار إلى مكانه وبذلك يستطيع أن
يأكل منها في أي وقت وعلى أي وضع.
وهنا يأتي الحق بالقول الحكيم: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ { أي أن ذلة
المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته. وبها يكون المؤمن أهلاً لأن ترفع منزلته؛ لأنه
مصطفى بأن الله يحبه وأنه يحب الله، ولا توجد رفعة أكثر من هذه رفعة. ولذلك نجد
القول المأثور: (من تواضع لله رفعه).
أي من تواضع وفي باله الله فإن الله يرفعه.
} أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ { وهذا هو الوصف الثالث للمؤمنين في تلك الآية
بعد قوله الحق: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {.
إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب، وما دام هو يعرف ذلك فهو ينضم إلى
الجهاد في سبيل الله. } يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { وكلمة " الجهاد
في سبيل الله " تخصص لوناً من الجهاد، فالإنسان قد يجاهد حمية أو دفاعاً عن
جنسيته أو أي انتماء آخر، وكل هذه الانتماءات في عرف الذين لا قيمة لها إلا إذا
نبعت من الانتماء إلى منهج الله، لتكون كلمة الله هي العليا.
وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القتال:
" فيما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليُرَى مكانه،
فَمَنْ في سبيل الله؟ قال: " مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله ".
وما دام المؤمن محبوباً من الله ويحب الله وذليلاً على المؤمنين وعزيزا على
الكافرين، مادام الأمر كذلك فعندما يتولى مؤمن أمر قيادة غيره من المؤمنين فلا أحد
منهم يأنف أن يكون تحت قيادته. وبذلك يخرج المؤمن عن دائرة الاستعلاء والاستكبار؛
لأنه يجاهد في سبيل الله. ولو جاءه إنسان ليلومه على ذلك فهو لا يسمح له، وكأنه
سبحانه يوضح: تنبهوا جيداً إلى أن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله والذين هم
أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله فلا نظن أنهم بمنأى
عن سخرية الساخرين، وهزؤ المستهزئين، ولوم اللائمين ليردوهم عن هذه العملية.
ولذلك يقول الحق: } وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ { وقد وضح ذلك على مر تاريخ
الإسلام وجاء الحق بقوم يحبهم ويحبونه وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين
وجاهدوا في سبيل الله وما خافوا لومة لائم.
وساعة نستقرئ هذه الآية نجد أن " سوف " ابتدأ مدلولها الأول في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم. " وحين سئل رسول الله عن القوم الذين يحبهم الله
ويحبون الله وفيهم هذه الصفات؛ أشار بيده مرة إلى أبي موسى الأشعري، وقال صلى الله
عليه وسلم: " هم قوم من هذا ".
وعندما نزل قوله تعالى:{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ }[الجمعة:
3]
" سأل أبو هريرة - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هم يا
رسول الله؟. فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: " لو
كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء ".
وقد حدثت الردة الأولى في اليمن، وكانت في قوم أبي موسى الأشعري، وكتب رسول الله
إلى معاذ بن جبل - كما أوضحنا - وبعد ذلك تطوع فيروز الديلمي ودخل على من كان يدّعي
النبوة ذي الخمار أو ذي الحمار، وقتله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتها
بالأمر. ولكن خبر القتل جاء بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق
الأعلى. وكانت تلك من علامات النبوة.
وحدث - أيضاً - في زمانه صلى الله عليه وسلم أن ادّعى مسيلمة الكذاب أنه نبي. وكتب
مسيلمة إلى رسول الله كتاباً، يقول: مِن مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله.
ولم يقدر على نزع صفة النبوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في كتاب مسيلمة: " أما بعد. فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك " كأنه
قد فهم أن المسألة بالنسبة لرسول الله تحتاج إلى قسمة، فكتب إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم كلمات فيها هبات النبوة:
" من محمد رسول لله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن
الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين "
ولم يسمع مسيلمة كلام رسول الله، وجهزت الحملة لترسل إليه لتأديبه. وجاء عهد أبي
بكر - رضي الله عنه -، وكانت المعركة على أشدها. وجاء " وحشي " الذي قتل
حمزة - رضي الله عنه - في موقعة أحد. وأراد أن يكفر عن سيئاته فذهب وقتل مسيلمة.
ولذلك كان يقول كلمته المشهورة: أنا قتلت في الجاهلية خير الناس - يقصد حمزة -
وقتلت في الإسلام شر الناس - يقصد مسيلمة - وانتهى أمر مسيلمة.
وجاء إنسان ثالث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه " طليحة بن خويلد
" من بني أسد وادّعى النبوة، وكلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن ذهب
إليه وكان " خالد بن الوليد " وساعة علم الرجل أن خالداً هو الذي جاء
لقتاله لاذ بالفرار، ولكنه من بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه.
ونلاحظ أننا ننطق " الردة " بكسر الرا، وصفاً لتلك الأمور التي حدثت
وقوبلت هذه المقابلة. ولا نسميها " رد " فتح الراء، لأن الرد - بفتح
الراء - يكون عودة إلى حق، أما الردة - بكسرة الراء - فتكون إلى باطل، مثال ذلك
قوله سبحانه وتعالى:{ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }[النساء: 59]
أما الذي يرتد فهو يرتد إلى باطل.
ومن العجيب أن كلمة " الردة " التي جعلها الإسلام علامة على الانتقال من
الإيمان إلى الكفر يستخدمها أعداء الإسلام الذين لا يؤمنون بأديان ما، فعندما يترك
الشيوعية أحد أتباعها يقولون: لقد حدثت رِدة. وكان من الواجب لو أنهم أصحاب مبادئ
أصيلة أن يختاروا لفظاً آخر لكن لا يوجد في اللغة لفظ يعبر عن الرجوع إلى الباطل
إلا كلمة " ردة " وكذلك كلمة " منبر " لا توجد - أيضاً - إلا
في الإسلام، وهو موقف الواعظ من المصلين يوم الجمعة. وعندما يأتون إلى تصنيف جماعة
متطرفة إلى اليسار فهم يقولون: " منبر اليسار " ونقول: لماذا تأخذون هذه
الكلمة من عندنا؟.
ومثال آخر عندما يكتب كاتب: هذه الراقصة تتعبد في محراب الفن. ونقول: لماذا تستخدم
كلمة " محراب "؟. عليك أن تبحث عن كلمة أخرى. وكل ذلك يدل على أن كلمات
الإيمان هي الكلمات المعبرة ولذلك يذهبون إليها.
ويؤخذ في ظاهر الأمر على الإسلام أن من يرتد يُقتل.
ونقول: أيظن أحد أن هذه ضد الإسلام؟ لا إنها لصالح الإسلام؛ لأن الإنسان إذا علم
أنه عندما يقبل على الإسلام فهو يقبل على الدين الكامل؛ لأن من يخرج عليه يهدر دمه
ويقتل. وعلى من يفكر في الدخول إلى الإسلام أن يحتاط لحياته. إذن فالإسلام لا يسهل
لأحد الدخول فيه، ولكنه يصعب عملية الدخول: وينبه كل فرد إلى ضرورة الانتباه قبل
الدخول في الإسلام؛ لأنه دخول إلى دين كامل وليس لهواً أو لعباً.
إن على من يرغب في الدخول في الإسلام أن يفكر جيداً وأن ينتهي إلى الحق؛ لأن حياته
ستكون ثمن الرجوع عن الإسلام وهذا دليل على جدية هذا الدين وعدم السماح بالعبث في
عمليات الدخول فيه. وحين يصعب الإسلام عملية الدخول فيه إنما يعطي فرصة الاختيار
ليعلم من يختار الدين الإسلامي أن يعي أن الرجوع عن الإسلام ثمنه الحياة. وساعة
يطلب دين أن يفكر الإنسان جيداً قبل أن يدخل فيه فهل في ذلك خداع أو نصيحة؟ إنها
النصيحة وهي عملية لصالح الإسلام، وهي أمر علني ليعلم كل داخل في الإسلام أن هذا
هو الشرط.
ولو أن الإسلام يريد تسهيل المسألة لقال: تعال إلى الإسلام واخرج متى تريد. لكن
الدين الحق لا يخدع أحداً. وسبحانه يقول:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ
وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ }[الأنفال: 42]
وتكلمنا من قبل عن الردات التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن
كلمة " سوف " التي جاءت في قوله: } فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { تدل على الامتدادية. وقد حدثت ردة في عهد أبي بكر -
رضي الله عنه - وظهر سبعة ادّعوا النبوة، مثال ذلك: " بنو فزارة " قوم
عيينة بن حصن ارتدوا وأرسل إليهم أبو بكر - رضي الله عنه - من حاربهم. وكذلك قوم
غطفان ارتدوا.
وكذلك قوم قرّة بن هبيدة بن سلمة، وكذلك بنو سُلَيْم. قوم الفجاءة بن عبد ياليل،
فأرسل لهم أبو بكر من يؤدبهم. وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض من بني تميم
الذين ادعت فيهم النبوّة سجاح بنت المنذر والتي تزوجت مسيلمة. وكذلك " كِندة
" قوم الأشعث بن قيس، وكذلك قوم الحًطَم بن ضبيعة وهم بنو بكر بن وائل في
البحرين. وقضى عليهم سيدنا أبو بكر مما جعل كثيراً من القوم يقولون: إن القوم
الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم كل تلك الأوصاف هم أبو بكر ومن معه.
ولكن أيمنع ذلك أن كل جماعة سيكون فيها مثل أبي بكر - رضي الله عنه -؟ لا. ومثال
ذلك علي بن أبي طالب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:
" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان علي رضي الله عنه تخلف عن النبي
صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان به رمد فقال: أنا اتخلف عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فخرج على فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي
فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأعطين الراية - أو
ليأخذنّ - غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله. يفتح الله عليه.
فإذا نحن بعليٍّ وما نرجوه، فقالوا هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ففتح الله عليه ".
وفي عهد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم تحدث إلا ردة واحدة، جاءت من
الغساسنة بقيادة جبلة بن الأيهم وهم من الشام وكانوا موالين للروم، وكان جبلة هو
رئيسهم وأسلم وجاء ليطوف بالبيت الحرام بهيلمان كزعيم للغساسنة. وكان لهم العظمة
في الجياد والملابس. وكان يرتدي رداءً طويلاً فوطئ أحد الناس رداءه؛ فسقط، فلطمه
جبلة، وأبلغ الرجل عمر بن الخطاب. وقال عمر بن الخطاب: إنه القصاص. وقال سيد
الغساسنة: إني أشتري هذه اللطمة بألف دينار ولم يقبل الرجل فعرض سيد الغساسنة
ألفين من الدنانير فرفض الرجل، فزادها إلى عشرة آلاف ولم يقبل الرجل.
وقال جبلة لعمر: أنظرني حتى أفكر في المسألة. فلما أنظره عمر، هرب الرجل إلى الشام
و وتنصر. هكذا يتضح لنا آفاق كلمة " سوف " وأي زمن تأخذ، إن لها
امتدادات حتى زماننا.
إن الردة في زماننا جاءت من فارس ممثلة في البهائية والبابية، وهدف المرتد يكون
جاه الدنيا، إن كان يريد الحكم، ووسيلة المرتد تيسير التكليف لمن يتبعه في
الارتداد. ومن يدعي لنفسه النبوة والقدرة على الإتيان بتشريع جديد إنما يطلب لنفسه
جاه الدنيا، والذي يتبع ذلك المدعي للنبوة إنما يقصد لنفسه تيسير التكليف.
ولماذا تيسير التكليف؟؛ لأن الإنسان مؤمن بفطرته ودليل ذلك أننا إذا واجهنا
إنساناً غير مؤمن، وقلنا له: أنت قليل الدين. يغضب ويثور؛ لأنه لا يتصور أن ينزع
أحد منه أنه متدين بشكل ما. ونرى إنساناً قد يسرف على نفسه كثيراً لكنه ساعة يسمع
إنساناً آخر يسب الدين يثور ويغضب ويتحول إلى مدافع عن دين الله، وتلك هي الفطرة
الإيمانية التي فطر الله كل الناس عليها. والذي يجعل الدين لأمراً شاقاً على النفس
البشرية ليس فطرة الدين، ولكنه تكليف التدين؛ لأنه أمر يدخل في الاختيار.
وقد جعل الحق التكليفات الإيمانية كلها في مناط الاختيار البشري، ولم يشا أن تكون
أمراً قهرياً. ولو شاء سبحانه أن يجعل كل الناس مؤمنين لما قدر أحد على الكفر:{
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ
عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
}[الشعراء: 3-4]
فليس في قدرة أحد أن يتأبى على الله، ولكنه شاء أن يجعل تكاليف الإيمان مسألة
اختيارية. والإنسان حر في أن يفعل تكاليف الإيمان أو لا يفعلها، وفي كلتا الحالتين
سيلقى الجزاء. مثال ذلك: " اللسان " خلقه الله صالحاً أن يقول: "
لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وهذا اللسان نفسه صالح لأن يقول: -
والعياذ بالله - " أنا لا أؤمن بالله ".
ولا يعصى اللسان صاحبه، فقد خلقه الله مجهزاً للتعبير عن مكنونات قلب الإنسان
وخاضعا لإرادة الإنسان. ومثال آخر من مصنوعاتنا نحن: جهاز التليفزيون الذي صممه
البشر ليكون آلة منقادة ومسخرة لما يرسله الإنسان فيه من برامج، فإن أرسل الإنسان
في جهاز التليفزيون أفلاماً وبرامج دينية وعلمية تستكشف آيات الله في الكون وتثبت
قيم الإنسان على الإيمان فهذا اختيار إيماني. وإن أرسل الإنسان أفلاماً خليعة تحض
على المجون والفسق فهذا اختيار يلحق الإنسان بدائرة المفسدين في الأرض.
إذن فالحق خلق الإنسان صالحاً لتطبيق تكاليف الإيمان وصالحاً للخروج عن التكليف.
وحين يأمر الله عباده أن يطبقوا أو ينفذوا التكليف الإيماني فهو يعلم أن قدرة
الإنسان تسع التكليف؛ لأنه العليم بعباده، ولو لم يكن باستطاعتهم تنفيذ التكليف
لما كلفهم به. وكلنا نعرف الفرق بين " العباد " و " العبيد "؛
فكل الكائنات عبيد لله، والإنسان من عبيد الله إن كان متكبراً على التكليف، وإن
خرج على التكليف فهو مسير في أمور لا يقدر على الخروج منها، فلا يستطيع أحد
بإرادته أن يتوقف عن التنفس، وهو - كما نعلم - أحد العمليات التي تجري على الرغم
من الإنسان.
ولا أحد يستطيع أن يتنفس عندما ينتهي أجله. كذلك لا أحد يستطيع أن يقاوم المرض إن
أصابه. إذن فكِبْر الإنسان وخروجه عن طاعة الله في أشياء لا تعني أنه خارج في مطلق
أموره عن الله؛ لأن الحق فعال لما يريد، فلا أحد يتحكم في بدايته حين يولد، ولا
أحد يتحكم في نهايته حين يموت، وهناك أمور بين قوسَيْ الميلاد والموت ما من أحد
بقادر على التحكم فيها، وإرادة الاختيار إنما توجد في بعض الأمور فقط. أما كل ما
عدا ذلك فهو قهري، وكلنا عبيد لله في ذلك. لكن الحق تعالى أعطى لنا الاختيار في
بقية أمور الحياة.
والذكي حقاً هو من يسأل ربه: لقد خلقتني يارب مختاراً.
وماذا تحب أنت أن أفعل؟ هنا يجد الإنسان نفسه أمام أوامر الله ونواهيه وأمام
المنهج بمطلوباته، هذا المنهج الذي يوضح للمؤمن ما الذي يمكن أن يفعله وما الذي
يمكن أن يتجنبه. ويقول المؤمن: إنني أخرج من اختياري إلى مرادك يارب. والعبد الذي
يتنازل عن اختياره إلى مراد خالقه هو واحد من العباد الذين وصفهم الحق بأنهم عباد
الرحمن.
ونرى في حياتنا العادية نموذجا لما يحدث بين رب الأسرة وأفرادها، فرب الأسرة يقول
لأبنائه: أنتم تريدون التنزه، فأي مكان تحبون الذهاب إليه؟
يجيب أحد أفراد الأسرة: لنذهب إلى المكان الفلاني. ويجيب آخر: أنت حر في أن تصحبنا
إلى أي مكان تريد، المهم فقط أن تكون معنا. ومن المؤكد أن الذي يقول مثل هذا القول
لرب الأسرة ينال منزلة رفيعة في قلبه. فإذا كان هذا يحدث بين إنسان وإنسان مثله
فما بالنا بالاستحسان الذي يناله العبد حين يقول ذلك لخالقه الأكرم؟ لا بد أن ينال
منزلة راقية؛ لأنه قد خرج من دائرة العبيد إلى دائرة العباد الذين قال عنهم الحق:{
وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىا الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ
سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ
جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً
وَمُقَاماً }[الفرقان: 63-66]
هؤلاء هم عباد الرحمن الذين يحبهم ويحبونه. أما الذي يتمرد على منهج الله فعليه أن
يعرف أنه غير قادر على أن يتمرد على قدر الله. وأراد الحق أن يعطينا مناعة إيمانية
حين قال: } مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { وتتجلى تلك المناعة في أن المؤمن لا بد أن يلتفت إلى
هؤلاء الذين يرتدون عن دين الله بادعاء أنهم أنبياء من بعد محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
إن هذه الآية توضح لنا ما جد وما يجد من أمر هؤلاء المرتدين، والواحد منهم يعلن:
أنا نبي مرسل. ويَجِدُ هذا النبي المزيف من يستمع له ويصدقه ويتبعه، ولا يجد من
يسأله: إن كنتَ نبياً فما معجزتك؟ لكنه يجد من يصدقون هذا الزيف لهوى في نفوسهم.
هذا الهوى يتلخص في أن مثل هذا النبي المزيف يأتي بمنهج ميسر يخدع به أتباعه الذين
يخدعون أنفسهم بأن الواحد منهم متدين، لكنّه يتبع منهاجاً ضالاً. وكثير من الذين
ادعوا أنهم أنبياء وأنّه هو المهدي المنتظر لم يسألهم أحد: ما المعجزة الدالة على
صدق نبوتكم؟ لأن النبي المزيف من هؤلاء يلهي الناس بالتخفيف من التكليف.
إننا نجد بعضاً من المثقفين أو الذين يدعون أنهم يعملون عقولهم في كل شيء يتبعون
هؤلاء الدجالين. وقد رأينا منذ أعوام قليلة العجب العجاب، عندَما ادعى أحدهم
النبوة. وآمن به واتبعه عدد من الرجال والنساء.
وكانت المرأة المتزوجة تدخل على هذا النبي المزيف لتقبله ويقبلها من شفتيها وأمام
زوجها. أين نخوة الرجل - إذن - في مثل هذا الموقف؟ إنه التدليس الضال الذي يدعي
لنفسه الهداية، إنّها هداية إلى الجحيم.
وهل تنبع تلك التيارات من الإسلام؟ لا، بل تأتي من قوم يبغضون الإسلام، ويصطادون
الرجل الذي تظهر عليه المواهب والمخايل، ويقنعونه بأنه يمكن أن يلعب دور النبي
المزيف.
مثال ذلك الهندي ميزرا غلام أحمد الذي جاء بالقاديانية. ونعلم أن الإنجليز قد
استعمروا الهند لسنوات طويلة، وكانوا يعتبرونها درة التاج البريطاني. ونعلم أن
خصوم الإسلام وعلى رأسهم الاستعمار يحاولون أن ينالوا من الإسلام؛ لأنهم رأوا أن
التمسك بالدين أتاح للمسلمين فتح الأمبراطوريات لا بالسيف ولكن بحماية حق
الاعتقاد.
إذا كانت الدعوة قد نشأت في الجزيرة العربية؛ فقد امتدت إلى آفاق الأرض. وانهزمت
الفرس والروم أمام الذين يحملون راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله
". ومن بعد ذلك نجد أن الذين هزموا التتار هم المسلمون، وكذلك اشتعلت الحروب
الصليبية في حملات متتابعة، ولكن المقاتلين تحت راية الإسلام أنزلوا بهم الهزيمة
الضارية.
إن الذي أرهق الاستعمار من الإسلام طاقة الإيمان والقتال في سبيله ولذلك جاء ميزرا
غلام أحمد وحاول أن يضعف القدرة على الجهاد عند المسلمين، فقال: لقد جئت لكم لألغي
الجهاد من العقيدة الإسلامية. وجرؤ ميزرا غلام أحمد، وأعلن إلغاء القتال. والحق
يقول في كتابه الكريم:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ
}[البقرة: 216]
وسبحانه بقدرته يمهل ولا يهمل. وجاء وباء الكوليرا في الهند سنة 1908 ليقضي على
غلام أحمد وينهي تأكيداً لقوله الحق:{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة: 54]
وظهر أيضاً في فارس وهي موطن سلمان الفارسي مَن ادعى لنفسه النبوة، وكان من الذكاء
بحيث حاول التسلل إلى الإسلام؛ لينقلب عليه من بعد ذلك، قال الرجل: أنا الباب ومن
بعدي سيأتي المهدي.
وعندما سأله الناس: وماذا تحمل من منهج؟ أجاب: جئت لأخفف عنكم بعض التكاليف؛ لأن
الإسلام صار بتكاليفه لا يناسب العصر. واتبعه أناس، وثار عليه أناس. ومن اتبعوه،
ذهبوا إليه بغية تخفيف المنهج، ومن ثاروا عليه كانوا من القوم الذين يحبهم الله
ويحبونه، وجاءوا له بالعلماء يناقشونه ويحاجونه فاعترف بأنه مخطئ وأعلن التوبة في
المسجد الكبير. وعند ذلك تركه الناس.
لكن هذا الرجل وجد من يلتقطه ليعيده إلى ضلاله وتضليله، التقطه قنصل روسيا في
فارس، وهيأ له ملجأ، واوعز إليه أن يعلن أن توبته إنما كانت هرباً من القتل.
واستطاع هذا الباب، واسمه علي محمد الشيرازي أن ينال دعاية واسعة وخاصة بعد أن
انضمت إلى دعوته فتاة اسمها " قرة العين " وكانوا يلقبونها بالطاهرة.
ووقفت لتخطب خطبة في الناس.
ومن يقرأ تلك الخطبة يعرف إلى أي انحلال كان يدعو ذلك الباب.
وأعلنت هذه المرأة أن الإسلام قد انقضت مدته كدين، وأن الباب قد اختفى لفترة؛ لأنه
في انتظار شرع جديد، وأن العالم يمر بفترة انتقال، وصار ينزل المنهج الجديد على
الباب. وقالت تلك " الطاهرة ": إنّ التشريع المختص بالمرأة، والذي جاء
إلى الباب هو:" المرأة زهرة خُلِقَت لتُشَمّ ولِتُضَمّ " " فلا
يمنع ولا يُحَدّ شامّها ولا ضامّها "وما دامت المرأة زهرة إذن فهي تجنَى
وتقطَف " وإلى الأحباب تُهَدى وتتحف.. إلى أن تقول في نهاية خطابها: لا
تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم(!!)
ومن يرغب في أن يعرف مسلسل الفضائح الخلقية التي جاءت في خطاب " قرة العين
" تلك فليقرأ كتاب " نقطة الكاف " للباب الكاشاني طبعة لندن صفحة
154. هذا ما جاء به الباب من بعد أن أعلن إلغاء الإسلام:
لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم فإنه الآن لا منع ولا حد، خذوا حظكم من الحياة، فإنه
ليس بعد الممات شيء. وهذه خلاصة الانحلال الذي جاء به هذا المدعو بالباب، لقد أعلن
أنه لا حساب ولا يوم آخر، وأن المرأة عرضها مشاع تضم وتشم. والغريب أن بعضاً من
المتزوجين قد اتبعوه. وقالوا عن أنفسهم: إنهم متدينون، لقد أخذوا ظاهر الأمر
واعتبروا الفسوق الذي جاء به هذا الباب وأسموه دينا بعد أن سهل لهم بتعاليمه
الفساد، فأخذوا الانحلال عن التكاليف، وادعو أن ذلك دين(!!)
هكذا أراد خصوم الإسلام للإسلام. وقنصل روسيا القيصرية هو الذي شجع هذا الرجل
وحماه في عام واحد وستين ومائتين بعد الألف من الهجرة. وبرغم ذلك حكم أهل فارس
بإعدامه بعد موجة السخط العارم، ولم يستطع أن ينقذه أحد، وتم إعدامه فعلاً. والذين
قرأوا أقواله لحظة الإعدام عرفوا كيف أنه تذلل وخضع وبكى. ولو كان مبعوثاً بحق من
عند الله لما تذلل وخضع وطلب النجاة. ولامتلأ بالسرور والحبور؛ لأنه ذاهب إلى
الله.
لقد عرف هذا الرجل الدجال إلى أي عقاب سيذهب؛ لذلك بكى واسترحم. ولما قتل الباب،
أعلن واحد من رجاله وهو ميرزا حسين أن الكتاب الذي جاء به الباب كتاب كاذب، وكان
اسمه " البيان ". وقال ميرزا حسين علي: إنه جاء بكتاب اسمه "
الأقدس ". كأن المسألة كلها خداع للناس وتبرير الخداع.
ولو رجعنا إلى كتاب يسمونه " بهجة الصدور " لمؤلفه حيدر بن علي البهائي
لوجدنا كل الانحرافات الممكنة، فالبهاء يقول: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، أي لا تجعل
أحداً يعرف ثروتك، ولا إلى أي مكان تذهب ولا تقل للناس: إنك بهائي حتى لا يقتلوك.
واعتبر البهائيون أن القرآن قد انتهت مدته وأن كتاب " الأقدس " هو كتاب
فوق القرآن.
ويقرر كتاب " الأقدس " أن القدس لا بد أن تكون وطناً لليهود وأن موسى
سيد الرسل جميعاً. ومما يدلنا على أن ذلك الرجل كان صنيعة الاستعمار والصهيونية،
أنهم اقاموا له حفل تكريم في بريطانيا ومنحوه وسام الفروسية الإنجليزي؛ لأنه رجل خدم
الاستعمار.
ونجد أن شيخنا رشيد رضا الذي نقل لنا تاريخ الإمام محمد عبده يروي قصة لقاء بينه
وبين ذلك المدعو " بهاء " في بيروت، وحكى الشيخ رشيد عن الإمام محمد
عبده أن هذا البهاء كان يأتي للصلوات الخمس ويصلي الجمعة. وعندما سأله عن تلك
المسألة المسماة بالبهائية. أجاب بأنها محاولة للتقريب بين الشيعة وأهل السنة.
وعندما أمرت الدولة العثمانية بمحاكمة ذلك البهاء توسط قنصل روسيا فاكتفوا بنفيه
إلى بغداد. وعاش فترة فيها ثم مات وقام الأمر من بعده لابنه عباس المسمى عبد
البهاء.
لقد كانت البداية برجل سمى نفسه الباب صاحب كتاب البيان وقال فيه: " ملعون
مطرود من يدعي أنه جاء بشريعة بعد شريعتي إلا بعد مرور ألف سنة ".
وما أن تمر سبع سنوات حتى جاء رجل ثان يسمي نفسه البهاء، وأعلن أنه جاء بشريعة
جديدة، ويعقد الوصية لابنه المسمى " عبد البهاء ". ثم يكون الأمر من
بعده إلى ابنه المسمى " شوقي أفندي " وكان يقيم بعكّا. هكذا انفضحت
أكاذيبهم. ورئيس البهائية الحالي هو يهودي اسمه بترسون.
إذن فالردة عن الإسلام لم تكن نابعة من نفوس المسلمين ولكن مدفوع إليها من خصوم
الإسلام الذين يأخذون أي رجل ملحد فيه بعض من الذكاء وينفخون فيه بدعاياتهم حتى
يشوهوا دعوة الإسلام. وأقاموا مراكز لمثل هذه الانحرافات في بلجيكا وأمريكا
وانجلترا. وحاولوا النفاذ إلى البلاد الإسلامية لينشروا فيها دعوتهم ومبادئهم.
وكانوا يأخذون المرأة كنقطة هجوم على الإسلام. ويتهمون الإسلام بأنه يضع المرأة في
الحريم، ويحبسها في خيمة وإلى آخر تلك الدعايات التي تشوه تكريم الإسلام للمرأة.
ومن العجيب أني سمعت بأذني من واحدة هي بنت لتلك الحضارة الغربية. تقول: كنت أتمنى
أن أكون مسلمة وأمًّا لشاب مسلم.
فعلينا نحن المسلمين ألا ننخدع بتلك الدعايات وتلك المواهب التي تتسلل من باب
تخفيف المنهج والمراد بها قتل قيم الإسلام التي تحمي الإنسان وتحترم مشاعره؛ لذلك
يجب أن ننتبه إلى دعوات المتسللين إلى مجتمعاتنا بغية هدم ديننا. وعلى الحكومات أن
تضرب على أيدي العابثين بدين الله لا أن تترك مسائل الدين لهبّات الأفراد. وكل منا
مطالب بأن يرد عن دين الله كل دخيلِ عليه وكل محاولة لوضع أمور ليست من الدين في
شيء. وجزى الله قضاء مصر خيراً حينما تصدوا لمثل هذه الدعوات ووقفوا دفاعاً عن
الإسلام لتبيين وإيضاح كل أمر دخيل عليه، فدستور الدولة ينص على أن مصر بلد مسلم،
وإن كانت بعض التقنيات في دور التشريع.
وجزى الله قضاء مصر عنا خيراً، فقد وضحوا تلك المسائل وبينوها. وعرفنا بسلوكهم أن
خميرة الإيمان هي التي تحكم سلوك المسلم الحق، وإن تخلت عنه بعض القوانين التي
عليه أن يحكم بها.
وكلما حدث حادث من تلك الحوادث لنا أن نتذكر القول الصدق من الله:{ ياأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة: 54].
وكل هذه الحركات المناوئة للإسلام تنتهي ويبقى الإسلام قوياً بأبنائه الذين يحبهم
الله ويحبونه. هؤلاء الذين وصفهم الحق:{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لائِمٍ }[المائدة: 54].
ويذيل الحق سبحانه هذا القول الكريم:{ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن
يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[المائدة: 54].
نعم إنه فضل من الله؛ لأنهم ما داموا يحبهم الله ويحبون الله وهم أذلة على
المؤمنين وأعزة على الكافرين فقد جعلهم سبحانه حملة لواء منهجه لتكون كلمة الله هي
العليا. وذلك تفضل من الله. ولنعلم أن الخير لا يعود منا على الله؛ لأنه سبحانه هو
واهب كل خير، ولم يأت لنا الخير من بعد خلقنا، ولكن نحن الذين طرأنا على الخير،
نحن طرأنا على الأرض، وعلى السماء بما فيهما من كل كنوز الخير، ففي الأرض العناصر
والمعادن والقوت، وفي السماء الشمس والقمر والنجوم، وكل ذلك فضل الخالق على
المخلوق.
إن فضل الله يؤتيه سبحانه وتعالى من يشاء وتتسع قدرته لكل مطلوب؛ لذلك لا يمن
المؤمن على الله بإيمانه، فليس عند الله أزمة في الذين يؤمنون به، وهو قادر على أن
يأتي بقوم يحملون دعوته، فإذا ما ارتفعت رأس الباطل فهذا دليل على أن قطافها قد
حان؛ لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
فكأن الله حين يندب المؤمنين لمهمة إيمانية فلا يقال: إن المؤمنين إنما يفعلون ذلك
لمصلحة ربهم. لا، ولكن ذلك فضل من الله على المؤمنين حين يختارهم لمهمة حمل البلاغ
عن الله، ويعود الخير إلى المؤمنين ثمرة مضاعفة. إذن فحين يكون اختيار الله للمؤمن
لمهمة إيمانية فهذا فضل من الله على المؤمن. ونعرف أن الفضل هو الأمر الزائد عن
العدل فالحق سبحانه وتعالى قد قال:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
وكل تكليف من الحق للخلق هو فضل من الله؛ لأنك إن نظرت إلى كل تكليف من الحق للخلق
لوجدت أن التكليف إنما يعود لصالح الخلق وما دامت الفائدة من التكليف تعود إلى
الخلق فليس من المطلوب إذن أن يثاب الخلق المؤمنون المكلفون، لكن الله يأبى أن
يكلف خلقه بتكاليف ويذهبون إلى هذه التكاليف بطاعة ومحبة دون أن يجازيهم على ذلك
بحسن الثواب.
ولهذا نجد الحق يقول:{ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ
يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ }[الحجرات: 17].
المنّة إذن لله حين تفضل على الخلق الذين أطاعوه بحسن حياتهم في إطار تكاليفه
الإيمانية، وفوق ذلك هناك الثواب، وهذا هو عين التفضل من الحق على الخلق
المؤمنين:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ
خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
وساعة نسمع " بفضل الله " فلنعلم أن فضل الله لا حدود له. وقد نجد من
يقول: ولكن الحق سبحانه وتعالى قال:{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىا
* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىا }[النجم: 39-40].
ونقول: لنفترض أن إنساناً مات، ونجد الأمر من الخالق سبحانه وتعالى بأن نصلي عليه؛
لندعو له بالرحمة. ودعاؤنا للميت بالرحمة يأتي له بخير أكثر مما فعل هو في حياته،
ولولا أن صلاتنا على الميت تثيب الميت وتثيبنا في آن واحد لولا ذلك ما أمرنا الحق
بأداء هذه الصلاة.
وقد يقول قائل: هذا الخير الذي يأتي إلى الميت من دعاء المصلين عليه ليس من سعي
الميت.
ونقول: إن " اللام " في قوله الحق:{ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىا
}[النجم: 39].
هذه اللام تفيد الاستحقاق والملكية. وهو قول كريم يحدد العدل ولا يحدد الفضل.
ونضرب مثلاً من حياتنا نحن البشر - ولله المثل الأعلى - تجد السيد يقول للخادم
عنده: إن لك أجراً عندي يساوي مائة جنيه. ثم يجيء السيد في آخر الشهر ويقول
للخادم: خذ مائة وخمسين جنيهاً. العدل إذن هو أن يأخذ الخادم أجره وهو مائة جنيه،
ولكن الخمسين جنيهاً الزائدة هي الفضل الزائد عن الأجر.
إننا حين يأمرنا الحق سبحانه وتعالى بأن نصلي على الميت فهذا تفضل من الله على
الميت وعلينا أيضاً. هذا لون من تفضل الله على خلقه. وسبحانه يجازي كل إنسان بما
عمل ويمنحه فوق ذلك، ومن قصّر في شيء من العمل. ويصلي عليه الناس ويدعون له
بالرحمة فتفيض رحمة الله على العبد وعلى غيره من العباد. وهذا هو مناط قول الحق:{
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ
مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58]
وعندما نحقق في هذا الموقف وحده نجد أن الجزاء يكون أفضل من العمل. وما الذي يجعل
المؤمن يصلي على ميت مؤمن؟ إنه إيمان هذا الذي مات وإيمان من مات ملك له، وعلى ذلك
فملكية المؤمن لإيمانه تمتد بعد أن يموت لتشمل صلوات ودعاء من صلوا عليه.
وذلك يدخل في فضل الله:{ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[المائدة: 54].
وما دامت المسألة فضلاً من الله يشمل كل مؤمن فلا بد أن الحق عنده من السعة ما
يعطي الكل. وسبحانه واسع عليم. والحديث القدسي يقول: " يا عبادي، لو أن
أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان
مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما
هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير
ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ".
إذن فخزائن الله ملأى لا تنفد، وسعة الحق مطلقة.
ولهذا نحن أيضاً نجد أن الحب في الله يزداد دائماً، فساعة نشاهد اثنين يتحابان في
الله، فحبهما يزداد كل يوم؛ لأنه الحب في الله. أما إن كان الحب لأمر محدود فذلك
الحب ينتهي ويترك كل منهما الاخر بانتهاء السبب لذلك الحب.
ولنأخذ قضية واضحة أمامنا: من كان يحب في الله فالحب لغير المحدود لا حدود له. ومن
كان يحب في غير الله، فالحب هنا لمحدود ويرتبط طردا وعكسا بمدى الإثراء من هذا
المحدود. ومن يحب لغرض من أغراض الدنيا يقيس ما يعطيه لمن يحب، فإن زاد ما يعطيه
على ما يأخذه يحس بالخسارة. وعندما نتبادل الحب في الله فلا شيء ينقص عند الله
أبداً؛ لأنه سبحانه يعطي الاثنين معاً اللذين يتحابان فيه. وسبحانه العليم أزلاً،
وصاحب القدرة الذي يعطي كل إنسان المناط الذي يستحقه.
ويقول الحق من بعد ذلك: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ... {
(/716)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وحين نهانا الحق عن أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء فعلينا أن نأخذ بالقياس أن
النهي إنما يشمل كل خصوم ديننا، فلا نتخذ أيّاً من أعداء الدين وليّاً لنا؛ لأنه
سبحانه وتعالى لم يتركنا بغير ولاية، وهو وليّنا وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم
والذين آمنوا.
إذا أردنا المقارنة بين ولاية الله، وولاية أعداء الله فلنعرف أن كل عدو لله له
قدرة محدودة لأنه من البشر، أما ولاية الله لنا فلها مطلق القدرة. وأي عدو له قد
يتظاهر لنا بالولاية نفاقا. أما ولاية الله لنا فلا نفاق فيها لأنه لا قوة أعلى
منه. وإن كان الحق قد منعنا أن نتخذ من أعدائه أولياء فذلك ليحررنا من الولاية
المحدودة ليعطينا الولاية التي لا تتغير وهي ولايته سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } وهكذا يكون التعويض في
الولاية أكبر من كل تصور. وساعة نرى " إنما " فلنعرف أن هناك ما نسميه
" القصر " أو " الحصر ".
مثال ذلك نقول: " إنما الكريم زيد ": كأن القائل قد استقرأ آراء الناس
ولم يجد كريماً إلا زيداً، وكأنه يقول: " زيد كريم وغير زيد ليس بكريم "
واختصر الجملتين في جملة واحده بقوله: " إنما الكريم زيد " وأثبت بهذا
القول الكرم لزيد ونفاه عن غيره. أما إن قال القائل: " زيد كريم " فهذا
القول لا يمنع أن يكون غيره من الكرماء.
إن الحق سبحانه يحصر الولاية في قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ } وهو قد نهانا من قبل عن ولاية أهل الكتاب، وعن ولاية كل من
لا توجد عنده مودة أو محبة تعين المؤمن على مهمته الإيمانية. فلو كان عند أحد من
أهل الكتاب أو الملاحدة محبّة ومودّة تُعين المؤمن على أداء مهمته لما بقي هذا
الإنسان على منهجه المحرّف أو على إلحاده، بل إن ذلك سيجعله يذهب إلى الإيمان
برسالة الإسلام.
إننا نجد بقاء الكافر على كفره أو إلحاده أو عدم إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه
وسلم دليلا على أنه لم يستطع الوصول إلى الهداية أو أنه - إن كان من أهل الكتاب -
لم يستطع أن يكون مأموناً على الكتاب الذي نزل إلى نبيّه وفيه البشارة بمحمد صلى
الله عليه وسلم فكيف - إذن - يعين إنسان مثل هذا إنساناً مسلماً؟. إنه لا يستطيع
أن يعين ولا أن يوالي ولا أن يكون على هداية؛ لأنه لم يستطع أن يهدي نفسه. ولذلك
قال صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، قولوا آمنا
بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ".
لأن الذي لا يستطيع أن يهدي نفسه لن يستطيع هداية غيره.
وحين نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال أهل الكتاب كان يعلم أنهم في ريب من
أنفسهم، وفي ضلال وخلط، فهم إما يخلطون الحق بالباطل، وإما في غيظ من الذين آمنوا؛
لذلك نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسألهم، وهذا هو الاحتياط للدين، فقد
يسألهم المؤمن سؤالاً، فيجيبون بصدق، فيكذبهم المسلم، وقد يجيبون بكذب فيصدقهم
المسلم؛ لذلك لا يصح ولا يستقيم أن يسألهم المسلم أبداً عن شيء؛ لأنه عرضة لأمر من
اثنين: إما أن يصدق بباطل، وإما أن يكذب بحق. وأهل الكتاب أنفسهم قد تضاربوا، ألم
يقل الحق على ألسنتهم:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىا عَلَىا شَيْءٍ
}[البقرة: 113].
وكذلك قالت النصارى:{ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىا شَيْءٍ }[البقرة: 113].
إذن فأي الموقفين نصدق؟ أنصدق رأي اليهود في النصارى؟ أم نصدق رأي النصارى في
اليهود؟ ولا نستطيع أن نكذب رأي اليهود في النصارى، ولا نستطيع أن نكذب رأي
النصارى في اليهود، إذن فحين يقول الحق سبحانه: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ { فعلينا أن نفهم أنه سبحانه وتعالى ما دام قد
نهاكم عن أن تتخذوا أولياء من دون الله فلن يترككم أيها المؤمنون دون ولي. بل
متعكم فقط من ولاية من لا يمكن صادقاً في معونتكم ولا في نصرتكم.
لقد أراد سبحانه أن يكون هو بطلاقة قدرته وليكم، ورسول الله أيضاً وليكم، وكذلك
الذين آمنوا. ونجد من يقول: الحق هنا قد عدد الولاية فيه سبحانه وتعالى وفي الرسول
صلى الله عليه وسلم وفي المؤمنين، لماذا لم يقل - إذن -: أولياؤكم هم الله والرسول
والذين آمنوا؟
ونقول: هل كانت للرسول ولاية منفصلة عن ولاية الله والمؤمنين؟ وهل كانت للمؤمنين
ولاية منفصلة عن ولاية الله والرسول؟ لا؛ لأن الولاية كلها منصبة لله، فلم يعزل
الحق الرسول عن ربه، ولا عزل المؤمنين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم
الولاية إلى أجزاء، بل كلها ولاية واحدة وأمر واحد، ونلحظ أن الخطاب في " كاف
الخطاب " هو للجمع: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ { ، و " كاف " الخطاب هنا تضم المؤمنين ومعهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى ولي الرسول وولي المؤمنين، والرسول ولي
المؤمنين، وجاء في المؤمنين قول الحق:{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ }[التوبة: 71].
كم درجة من الولاية هنا إذن؟ الله ولي الرسول وولي المؤمنين. ذلك أن سبحانه شاء
بفضله ألا يعزل الولاية أو يقسمها بل جعلها ولاية واحدة، والرسول صلى الله عليه
وسلم ولي المؤمنين، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض؛ لذلك نجد أن كل مؤمن مطلوب منه
معونة ونصرة أخيه المؤمن.
إن الإنسان - كما نعلم - ابن أغيار، وما دام الإنسان ابناً للأغيار فعلينا أن نعرف
أن المؤمنين لن يظلوا كلهم في حالة توجيه النصيحة. ولن يظلوا جميعهم في حالة تلقٍ
للنصيحة. وكل واحد منهم يكون مرة ناصحاً ومرة يكون منصوحاً، فساعة يصيب الضعف
مؤمناً في جزء من المنهج يجد أخاه المؤمن قد هبّ لنصحه ليعتدل. وساعة يصيب الضعف
الناصح في جزء من منهجه فالمنصوح السابق يهب لنصح أخيه ليعتدل. والذي خلق الخلق
وهو أعلم بهم، ويعلم كيف تستوعب الأغيار الخلق، وكيف أن كل إنسان له خواطره وله
ظنونه وله مواقف ضعف وله مواقف قوة. إنه - سبحانه - لم يطلب من الناس أن يوصوا
بالخير فحسب ولكنه قال:{ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
}[العصر: 3].
لماذا إذن التواصي بالحق؟؛ لأن سبل الحق شاقة، ولأن أصحاب الحق يلاقون المتاعب من
أصحاب الباطل؛ لذلك لا بد أن يؤازر أصحاب الحق بعضهم بعضاً فيقول الإنسان من أهل
الحق لأخيه ما يساعده على التمسك بما هو أعز من الراحة والصحة والمال. ولا بد أن
نجعل الحق واضحاً في حياتنا وسلوكنا، وأن يتذاكر أهل الحق بما حدث لغيرهم وكيف
صبروا، هكذا يكون التواصي بين المؤمنين.
وتلك هي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض: } وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ {.
إذن فقوله الحق: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ { هو ما يسمونه في اللغة "
أسلوب الحصر " ، أي لا ولي لكم غير الله. وحين يُرَدّ الإنسان من الولاية
المحدودة القدرة ويجعل العوض له في غير محدود القدرة فذلك كسب كبير للعبد، ولذلك
يقول صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه
كربة من كرب الآخرة، ومَن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون
العبد ما كان العبد في عون أخيه ".
كيف تكون أنت أيها العبد في عون أخيك؟ يتحقق لك ذلك عن طريق أن تقدم لأخيك المؤمن
المعونة والنصرة والمؤازرة والتواصى. وتقدم لأخيك من وقتك وطاقتك وقدرتك ومالك ما
يعينه. وإياك أن تحسب المسألة بأنك كنت تستطيع أن تفعل كذا وكذا في الوقت الذي
أعطيته لأخيك المؤمن، بل يجب أن تحسبها بأن الله هو الذي أعطاك الوقت والمال
والجهد وأنت لا تفعل شيئاً بقدرتك أنت، وأن قدرتك المحدودة عندما تعطي بعضها منها
لأخيك فأنت تصل قوتك المحدودة بصاحب القوة غير المحدودة وهو الله. وبذلك يكون الله
في عونك وتكون أنت الأكثر كسباً. فمن يرد الله بجانبه فلا بد أن يكون مع الخلق
دائماً بالمعونة، وبهذا السلوك يرتقي المؤمن إلى أعلى درجات الذكاء.
} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ { وسبحانه يريد
أن يبين لنا مميزات أصحاب الإيمان؛ لأننا حين نتعرف على شعب الإيمان وصفاته
الجميلة إنما نميز بهذه الصفات المؤمنين من غيرهم.
وإقامة الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله؛ لأن الصلاة هي الصلة
المتجددة بإعلان الولاء لله خمس مرات في كل يوم. والنبي صلى الله عليه وسلم قال:
" بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله،
وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت ".
وهذه الأركان الخمسة هي الدعائم والأسس التي تقام عليها عمارة الإسلام. وأي بيت لا
يقوم بالأسس وحدها، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة وعشرات الفضائل والمطلوبات غير
الأسس، وإذا ما راجع كل واحد منا علاقته بأسس الإسلام فلسوف يجد أنه يشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر، ومن بعد ذلك يقيم الصلاة.
ثم يؤتي الزكاة، لكن إن كان فقيراً فهو معفىً من أداء الزكاة. وحتى الذي يؤدي
الزكاة فيؤديها في وقت واحد في السنة. ومن بعد ذلك يصوم رمضان. لكن المريض أو
المسافر أو الذي له عذر فهو يفطر ويقضي الصوم؛ ويفدي عن الصيام المريض الذي لا
يرجى شفاؤه والعجوز الذي تصيبه بالصوم مشقة شديدة. ومن يحج البيت يفعل ذلك مرة
واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
هذه هي أركان الإسلام، وفيها إعفاءات كثيرة للمسلم. اللهم إلا الصلاة فهي أساس
يتكرر ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة
".
ويقول صلى الله عليه وسلم: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ".
ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها
فقد كفر ".
لذلك لا تسقط أبداً، فنحن نصلي ونحن قيام، ونصلي ونحن قعود، ونصلي على جنوبنا.
ونصلي ونحن غير قادرين على أية حركة، نصلي بالإيماء. ومن لا يقدر على هز رأسه
بحركات الصلاة في أثناء المرض الشديد فهو يصلي بعينيه. ومن أصابه - والعياذ بالله
- شلل جعله لا يقدر على تحريك جفنيه بحركات الصلاة فهو يصلي بالخواطر وبالوعي أي
يجري أركان الصلاة على قلبه. أما من ذهب عنه الوعي فقد سقطت عنه الصلاة.
ولذلك يقول الحق: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ { ويقول
بعد ذلك: } وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ {؛ لإن إيتاء الزكاة معناه تقوية أثر حركتك
لغيرك وتعدية أثر هذه الحركة للضعيف عنك، وحينما تزكي إنما تعطي مالاً، والمال هو
ناتج من أثر حركتك في الوجود، وعطاؤك من مالك بالزكاة يدل أيضاً على الإيمان. ثم
يذيل الحق الآية بقوله: } وَهُمْ رَاكِعُونَ {. وهل الركوع هنا بمعنى الركوع في
الصلاة؟ أو بمعنى الخضوع لكل تكاليف منهج الله؟ أو أنها نزلت هنا في مناسبة خاصة
لحالة خاصة؟
هنالك رواية تقول: إن عبدالله بن سلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
إن قوماً من قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا ولا نستطيع
مجالسة أصحابك لبعد المنازل.
وشكا عبدالله مما يلقاه من اليهود، فنزلت تلك الآية: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ { [المائدة: 55].
فقال ابن سلام: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء. وتزيد الرواية في موقع آخر:
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس بين قائم وراكع ودخل إنسان
إلى المسجد وسأل الصدقة فلم يعطه أحد فقال الرجل: أشهد الله أني جئت إلى مسجد رسول
الله وطلبت الصدقة وما أعطاني أحد شيئاً، وسمعه علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه
وكان يصلي - فمد على يده بحيث يراها الرجل وأشار له أن يأخذ من يده الخاتم كصدقة،
فأخذه الرجل. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل فقال: هل أعطاك أحد شيئاً.
فأجاب الرجل نعم خاتما، وأشار إلى علي بن أبي طالب. وهنا نزلت الآية بتمامها: }
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ { [المائدة: 55].
وأياً كانت المناسبة التي نزلت فيها الآية، فالركوع معناه الخضوع، والخضوع يكون
لكل تكاليف منهج الله. فإذا كنا نقول: فلان ركع لفلان فهذا معناه أن فلاناً قد خضع
لفلان.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ... {
(/717)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
ونلحظ أن الحق أوضح في الآية السابقة: إن الله هو المولى، وهنا تكون أنت أيها
العبد المؤمن من الذين يتولاهم الله، تماماً مثل قوله: { يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ }.
وحين يكون الله في معونتك فهو يعطيك من قدرته غير المحدودة فكيف تتولى أنت الله؟
ويكون القول الحاسم في هذا الأمر هو قول الحق:{ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ }[محمد: 7].
والحق في الآية التي نحن بصددها جاء بالمقابل لما جاء في الآية السابقة عليها فهو
القائل من قبل: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
}.
وفي هذه الآية يأتي بالمقابل. فيقول سبحانه: { وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
[المائدة: 56].
هذه المقابلة توضح لنا كيف ينصر الله العبد، وكيف ينتصر العبدلله. ولم يقل سبحانه
في وصف من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا: إنهم الغالبون فقط، ولكنه أورد هذه
الغلبة في معنى عام فقال: { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }.
وكلمة " حزب " معناها: جماعة التف بعضهم مع بعض على منهج يرون فيه
الخير. ولا يمكن أن يجتمع قوم بقوة كل فرد فيهم بفكر كل فرد منهم إلا إذا كان هذا
الأمر هو خير اجتمعوا عليه، إذن فحزب الله في أي وضع وفي أي تكوين ولأيَّةِ غايةٍ
هو الحزب الغالب. وعلى المستوى الفردي نجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزّبه أمر قام إلى الصلاة ".
فما معنى حَزّبه هنا؟ معناه أمر أتعبه وأرهقه وفكر فيه كثيراً. وبذلك يعلمنا رسول
الله ألا نقصر رؤيتنا على رأينا وحده، ولكن لنلجأ إلى الله. فنهزم الأمر الذي
يحزبنا ولا نقدر عليه بأن نقيم مع الله حزباً بالصلاة.
إننا عندما نأخذ من سنة رسول الله المثل والقدوة نعرف أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يكن يحزبُه أمر يتعلق بدنياه وإنما أمر يتعلق بمنهج الله وبالدين؛ لذلك
يذهب رسول الله إلى من يعطيه ويعطي أهل الإيمان كل الطاقة. إنّه يذهب إلى الصلاة.
ويعلن أن أسبابه قد انتهت ولم يعد يقوى على تحمل هذا الأمر الذي حَزَبَهُ، ولأن
الله لا يغلبه شيء؛ لذلك فسبحانه يرفع الهمَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويغلب كل أمر صعب. وإن حَزَبَنا هذا الأمر في نفوسنا فسنجد العجب.
إذن فحين تعز الأسباب على المؤمن في أمر ما ويكون قد أعطى كل جهده وما زال هذا
الأمر يحزب المؤمن ويشتد عليه ويرهقه فعلى المؤمن أن يقوم إلى الصلاة، وييسر الحق
هذا الأمر للمؤمن بالخير. والمؤمن عندما يحزبه أمر ما إنما يذهب بالصلاة إلى
المسبب وهو الله، لكن على المسلم ألا يذهب إلى الله إلا بعد أن يستنفد كل الأسباب،
فالأسباب إنما هي يد الله الممدودة، ولا يمكن للمؤمن أن يرفض يد الله ويطلب ذات
الله، فإن انتهى الأخذ بالأسباب فليذهب إلى المسبب:
{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَآءَ الأَرْضِ أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }[النمل:
62].
وسبحانه الذي يجيب المضطر وهو الذي يكشف السوء وهو الذي جعل البشر خلفاء في الأرض،
وسبحانه لا شريك له في ملكه، وهو القائل:{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ
والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
}[النمل: 65].
وإذا قال قائل: ولكني أدعو الله ولا يستجيب لي. ونقول: أنت لم تدع دعوة المضطر؛
لأنك لم تستنفد الأسباب. وعليك أن تستنفد الأسباب كلها. فإن استنفدت الأسباب فالحق
يجيبك ما دمت مضطراً.
إذن فحزب الله عندما يَغلِب إنما يعطينا قضية مكونة من " إن المؤكِّدة واسمها
وخبرها " وهذه قضية قرآنية وهي تختلف عن القضية الكونية التي تصف واقع
الحياة: ويقول الحق: } وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ { [المائدة: 56].
وسبحانه يعلم ما يكون في كونه، ولن تختلف قضية القرآن عن قضية واقع الكون. وساعة
تجد قوماً تجمعوا وفي صورتهم الرسمية الشكلية أنهم رجال الله، ولا يَغْلِبُون
فعلينا أن نعرف أنهم خدعوا أنفسهم وخدعوا الناس بأنهم حزب الله وواقع الحال أنهم
ليسوا كذلك؛ لأنه سبحانه قال:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات:
173].
وهذه قضية قرآنية. ونأخذ الأمر دائماً بسؤال: هل غلبت أم لم تغلب؟ فإن كنت قد غلبت
فإن جنديتك لله صدقة. وإن لم تكن فأنت تخدع نفسك بأنها جنديّة لله وهي ليست كذلك.
" ولنا المثل الواضح من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان بين
صحابته في موقعة أُحُد وأمر الرُّماة أن يقفوا موقفاً خاصاً، فلما وجد الرّمَاة
استهلال نصر المؤمنين على الكافرين، وأن الذين يحاربون أسفلهم يأخذون الغنائم،
ذهبوا هم أيضاً إلى الغنائم وخالفوا أمر الرسول حينما قال لهم: إذا رأيتمونا
تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم فلا تبرحوا
حتى أرسل إليكم ".
فلما خالفوا أمر رسول الله أَكانوا جُنوداً لله بحق؟ لا، بل اختلت جُنديتهم لله.
ولم يمنع وجود رسول الله فيهم سُنَّة الله الإيمانية في كونه ألا تقع، ولو ظلوا
مُنتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول لهان أمر رسول الله في نظرهم؛ لذلك أراد
الحق أن يُوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا، وحتى يَعضُّوا على أمر
سيدهم وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّواجذ. وقد أورد الحق ذلك الأمر
ورسول الله فيهم من أجل مصلحة الإسلام، فلو نصرهم على الرغم من مخالفتهم لرسول
الله لجرأهم ذلك على أن يخالفوا.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ
الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً... {
(/718)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
والهُزُوُ هو السُّخرية والتَّنكيت. وهُزْء أهل الكتاب من أهل الحق لون من
الانفعال العكسى. فساعة يرى بعض أهل الباطل واحداً ملتزماً يُصلّي ولا يُحملق في
النساء قد يصفونه بصفات غير لائقة؛ لأنهم لا يستقبلون التزامه إلا بلونٍ من
السخرية، وحتى لا يفهم أنه خيرٌ منهم، وقد يضلونه فيتبعهم.
ولنفرض أن ثلاثة من الشباب جمعت بينهم الصداقة ثم انحرف منهم اثنان والْتزم واحد
منهم. وكان لأحد المنحرفين أُخت فيطلب زميله المنحرف يد هذه الأخت، ويأتي له
الصاحب الذي لم ينحرف ليطلب الأخت نفسها، هنا نجد الأخ لا يوافق على زواج أخته
بالمنحرف، بل يوافق على زواجها من الذي لم ينحرف؛ لأنه لن يخدع نفسه. وعندما
يعاتبه المنحرف فهو يرد عليه: وهل أستأمنك على أختي؟ أنا أعرفك حق المعرفة.
وهكذا نرى أن القيم هي القيم. وعندما يكون هناك إنسان على حق ويلتقي بأناس على
باطل نجدهم لا يتركونه وشأنه، ولأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا مثله فلا أقل من أن
يهزأوا منه حتى يحتفظوا لأنفسهم بفسادهم. وعندما ننظر إلى العادات الضَّارة التي
تنتشر، مثل شمّ الهيروين أو تدخين المخدرات نجد أن الذي وقع في مصيدة هذه المصائب
يريد أن يجر غيره إلى مثل هذا المستنقع. ونجد في القرآن ما يقوله لنا خالق الطباع
والعليم بها:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ
يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }[المطففين: 29-30].
مثل قول أهل الباطل للمؤمن: احملنا إلى الجنة على جناحك. أو: أتريد أن تكون
وليّاً.{ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ
}[المطففين: 31].
ويرجع الواحد منهم إلى أهله فيحكي بسرور: لقد قابلنا إنساناً غارقاً في الإيمان
وسخرنا منه:{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ
أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ }[المطففين: 32-33].
بل قد نجد أن أهل الإضلال يتهمون المؤمن بأنه على ضلال، فماذا يكون العقاب يوم
الحشر؟{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى
الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
}[المطففين: 34-36].
وكأن الحق يسأل المؤمنين: ألم آخذ لكم حقكم؟ إذن فالذين يتخذون الدين هُزُواً
ولعباً. وادعوا الإيمان نفاقاً. إياكم أن تأمنوا لهم.
ولقد حذرنا الحق بداية:{ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىا أَوْلِيَآءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ }[المائدة: 51].
وهنا أمر بعدم اتخاذ الذين يتخذون الدين مادة للهزء أولياء، وعلى المؤمنين اليقظة
والحذر؛ لأن الحق يقول: { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن كنتم
مؤمنين حقاً فعليكم الأخذ بيقظة الإيمان، عليكم ألا توالوا اليهود والنصارى وكذلك
من يتمسح في الإيمان نفاقاً ويريد الانتفاع بمزايا الإسلام ليأخذ حقوقه الظاهرية
وقلبه مع غير المؤمنين. وتقوى الله تبدأ من أن ينفذ المؤمن المنهج، ويحاول أن
يستبقي للمنهج مناعة اقتداره أمام خصومه بألا يُدخل المؤمنُ في حماية المنهج من لا
يؤمن من اليهود والنصارى والكافرين والمنافقين.
ويقول الحق من بعد ذلك: { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا....
}
(/719)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
والنداء هو دعوة بجهر. ومقابل النداء المناجاة. وتثبت هذه الآية أن الأذان مشروع
بالقرآن، وفي ذلك رد على الذين يقولون: إن الأذان قد شرع بالسنة. أو أن القرآن
بهذه الآية قد أقر تشريع الأذان. { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } ذلك
أنهم كانوا يقولون عن الأذان: لقد صاحوا صياح الحمير. ووصفهم الحق بقوله: { ذالِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } والعقل - كما نعلم - هو الأداة التي تؤدي
مهمة الاختيار ما بين البدائل؛ أي أن يختار الصالح من الأمور فيدرس مزايا كل أمر
ومضاره ويختار الأمر الرابح.
إن الهوى هو الذي يدفع العقل إلى أن يختار أمراً مخالفاً. فيجنح بالعقل إلى
الضلال. وآفة الرأي الهوى. ولا يميل الإنسان عن جادة الصواب إلا إذا أراد أن يخدم
هواه. ولذلك لا بد أن يكبح المؤمن جماح هواه بعقله، والعقل مأخوذ من عقال البعير،
فصاحب الجمل يقيد ساقه بقطعة من الحبل حتى لا يجمح. ويحتاج الإنسان إلى العقل
ليكبح جماح الهوى، ولينقذ الإنسان من الضلال لا أن يبرر الهوى. والذين يريدون
العقل تحرراً من الفكر نقول لهم: أنتم لا تفهمون معنى كلمة العقل. فقد جاءت كلمة
العقل لتمنع الهوى لا ليجترئ الإنسان بهواه على رأيه وسلوكه المستقيم، والعقل هو
الذي يمنع الفكر من أن يكون مبرراً للهوى.
فلو كانوا يعقلون لقلنا لهم: إن الأعمال التي تنادون بها عمر نفعها مظنون وقد
تنفعكم في دنياكم، وعمر الدنيا لا يستطيع أحد أن يحدده بالنسبة لنفسه، فدنيا الفرد
قد لا تزيد على مائة سنة. ودنيا الإنسان هو عمره فيها. وقد ستر الله سبب الموت
وكيفيته عن الخلق حتى يعرف الإنسان أن عمره مظنون وقد ينتهي قبل أن تطرف عينه. ولو
كانوا يعقلون لما باعوا آخرتهم بدنياهم. ولو عقلوا لأداروا مسألة البدائل في
رءوسهم ولعلموا أنهم بموقفهم هذا من قضية الإيمان والإسلام إنما يقفون موقفاً
خاسراً ليس في مصلحتهم.
ويقول الحق بعد ذلك: { قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ... }
(/720)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
و " قُلْ " هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين يخاطب الحق
الرسول، فالخطاب أيضاً لأمته صلى الله عليه وسلم، فنقول نحن أيضاً: { قُلْ
يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ } [المائدة: 59].
و " نَقَم يَنْقِم " أي كره مني أن أفعل هذا، فلماذا تكرهون إيماننا يا
أهل الكتاب؟ هل الإيمان مما يكره؟ وجاء الحق هنا بسؤال لا يقدرون على الإجابة عنه،
فنحن آمنا بالله وبرسله وما أنزله علينا وما أنزل من قبل، فما الذي يُكره في هذا؟
وأبلغ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اليهود أننا نؤمن بالله وبالرسل ومنهم سيدنا
عيسى ابن مريم عليه السلام، فغضبوا منه كثيراً. فكيف يكره أهل الكتاب إيمان
المسلمين بالله؟
مثال ذلك عندما يدعوك إنسان إلى تصرف غير مستقيم أو إلى الذهاب إلى مكان مشبوه
فترفض ذلك يكرهك هذا الإنسان، فتقول له: أتكره في سلوكي أن أكون مستقيماً؟ ونعلم
أن الإنسان الأمين هو ثروة لمن يعرفه والذي يستحق النقمة والكراهية هو الفعل
الضار، أما الإيمان بالله فهو أمر محبوب لأنه يُعلم الإنسان الأدب مع كل خلق الله،
ويعلم الإنسان الحفاظ على أعراض الناس، ويعلم الإنسان ألاَّ يعتدي على أموال ودماء
الناس ولا يغتاب الناس، ولا يرتشي، وأن يخلص في العمل وألا يكذب في ميعاد، فأي شيء
في هذا يستحق الكراهية؟
إذن، فمن يكره إنساناً لأي سبب من هذا فهو كره بلا منطق، وكان من الواجب أن يكون
سبب الكره سبباً للمحبة. وقد يأتي من يقول لك: ليس في فلان من عيوب إلا كذا.
وقد يورد سبباً معقولاً. ولكن لا يقول أحد أبداً: لا عيب في فلان إلا أنه شهم؛ لأن
الشهامة لا يمكن أن تكون عيباً، كأن القائل قد أعمل ذهنه حتى يكتشف عيباً، لم يجد
إلا صفة رائعة، وقال عنها: إن كنت تعتبر هذه الصفة عيباً فهذا هو عيبه. ويسمون ذلك
من أساليب الأداء الأدبي عند العرب وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم، فيقول قائل: لا
عيب في فلان إلا كذا. وساعة يسمع السامع هذا يظن أن العيب الذي سيورده هو صفة
قبيحة فيفاجأ بأنها خصلة جميلة. وبذلك يؤكد القائل المدح بما يشبه الذم: { قُلْ
يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ }.
أنتم تقولون: إنكم أهل كتاب وعندكم التوارة، وكان يجب أن تعلموا كيف يشذب الإيمان
النفوس ويدفع عنها الشر؛ لأن لكم سابقة في الإيمان، فقد آمنتم بالله وبالرسل
السابقين على موسى وآمنتم بموسى، والمسلمون آمنوا بالله وآمنوا بما أنزل إليهم
وآمنوا بالرسل ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فكيف يُكره ذلك؟
وإن كان هذا مما يُكره فعلينا كمؤمنين أن نسألكم: لماذا تنكرون علينا ذلك؟ لا شك
أنكم تنكرون علينا إيماننا بالله لأنها قضية غير واضحة في أذهانكم.
ولو كانت واضحة في أذناهكم ما كرهتم إيماننا. إذن فمسألة الإيمان بالله غير مستقرة
في وجدانكم كأهل كتاب بدليل أنكم تكرهون من آمن بالله، ودليل ذلك أنكم أنزلتم الله
منزلة لا تليق بكماله، فجسمتموه وقلتم:{ حَتَّىا نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً }[البقرة:
55].
وقلتم:{ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }[آل عمران: 181].
وقلتم:{ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }[المائدة: 64].
إذن فأنتم تكرهون لنا أن نؤمن بالله إيماناً يليق بكمال الله؛ لأنكم لم تؤمنوا
بالله صحيح الإيمان، ولو طابق إيماننا إيمانكم ما كرهتمونا. وكذلك لم تؤمنوا
بالكتب بدليل أنكم حرفتموها. ولم تؤمنوا بالرسل لأنكم وقفتم من عيسى عليه السلام
هذه المواقف. إذن فأنتم تنقمون منا وتكرهون أموراً لا تُكره عند الطبع السليم،
وهذا دليل على أن طبعكم هو المختل. وإذا كنتم تكرهون هذا الإيمان فماذا تملكون لمن
تكرهون؟ لا قوة لكم لتفعلوا لنا أي شيء. ولكن حين يكرهكم الله فماذا يفعل بكم؟
إنكم حين تكرهوننا لا تملكون قدرة لعقابنا، لكن الذي يكرهكم هو الله وعنده القدرة
المقتدرة لينتقم لنا منكم.
إذن فكراهيتكم لنا لا قيمة لها. وإذا كنا نجاريكم، والمجاراة لون من جدال الخصوم
فماذا يعنيكم من كوننا مؤمنين؟
مثال ذلك أن يتهمك إنسان بأنك بخيل فتقول له: هب أنني بخيل فعلاً فماذا يعنيك من
هذا؟ وهذا ما نسميه مجاراة الخصوم؛ لذلك نقول لأهل الكتاب: هب أن لكراهيتكم لنا
رصيداً وأنكم تستطيعون إيذاءنا، فلكم شر من هذا وهو عقاب الله، وسنرى ماذا سيحدث
لكم عندما يكرهكم الله. وهو قادر على كل شيء. وعلى فرض أن إيذاءكم لنا هو شر،
فالأكثر فاعلية هو عقاب الحق لكم؛ لأنه عندما يكرهكم يقدر أن يعاقبكم بما شاء. إذن
فالصفقة - صفقة كراهيتكم لنا - خاسرة من ناحيتكم.
ولذلك قال الحق: } قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن... {
(/721)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
فإن سلمنا جدلاً أنكم يا أهل الكتاب تعتبرون كيدكم لنا سيصيبنا بشر. على الرغم من
أنكم لا تملكون أن تجازونا بشيء. وها هوذا الحق يخبركم على لسان رسوله بالأكثر
شراً من هذا، وهي العقوبة التي يصنعها الله لكم وهو قادر على إنزالها بكم وهي
الأكثر ضرراً. وهذا لون - كما قلنا - من مجاراة الخصم. ويعلمنا الله ذلك على لسان
رسوله فيقول لخصومه:{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ
مُّبِينٍ }[سبأ: 24].
والرسول على الهدى بالقطع وخصومه على ضلال بالقطع، ولكن رسول الله يسلم الأمر
طالباً من خصومه أن يراجعوا أنفسهم ليناقشوا القيم التي يدعو إليها الإسلام.
وسيجدون أن قيم الإسلام هي الهدى وأنهم على ضلال. ونعلم أن الهدى والضلال لا
يجتمعان، فنحن كمسلمين على هدى، وأنتم على ضلال. ووسيلة التمييز أن يحكم الإنسان
عقله في المسألة، وبذلك يرى مَن الذي على هدى ومَن الذي على ضلال، فأنت لا تناقش
الخصم في أصل الدعوى، ولكن سلم للخصم جدلاً. والتمييز النهائي هو الفيصل. وسيجد
المميز حيثية ضلال الخصم واضحة وضوح حيثية هدى المسلمين.{ قُلْ يَـاأَهْلَ
الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا
وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }[المائدة: 59].
فإن كنتم تعيبون علينا أو تكرهوننا أو تأخذون إيماننا سُبَّة فهذا أمر لا يُكره
الإنسانُ من أجله؛ لأنكم تدعون أنكم مؤمنون بالله. وكذلك لا يمكن أن يُسب الإنسان
من أجل الإيمان بما أنزله الله في كتاب؛ لأنكم أيضاً تقولون إنكم مؤمنون بالتوارة.
وتقولون إنكم مؤمنون بالأنبياء السابقين على موسى. والخلاف أن عيسى عليه السلام
جاء بعد نبيكم فكفرتم به، لكننا آمنا به فنحن منطقيون مع أنفسنا ومع ربنا.
والحق يبلغنا: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }. ونعرف أن صيانة الاحتمال
تقتضي ألا يحكم الحق عليهم جميعاً بأنهم فاسقون؛ لأن فيهم بعضاً من الناس تراودهم
نفوسهم بالإيمان وبالإسلام؛ لذلك لم يكن الحق أبداً ليعمم الحكم على كل أهل الكتاب
بالفسق؛ ليعطي الفرصة لمن يفكر أن يعلن إيمانه.
ومن بعد ذلك يأتي الخبر على لسان الرسول بعقابهم: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ } إذن فهناك
أمر أكثر ضرراً لكم لأنه ما كان يصح أن تكرهوا إيماننا، والأكثر ضرراً من هذا هو
لعنة الله { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } ويأتي سبحانه بالأوصاف التي فيهم، من لعنة الله
وغضبه عليهم وجَعْلِه بعضاً منهم قردة وخنازير. وكيف يأتي الله بمثل هذه الأوصاف
كمثوبة؟ إن هذا لون من فتح باب الرجاء والأمل ثم يصدمهم من بعد ذلك تماماً مثل قوله
تعالى:
{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[آل عمران: 21].
والعذاب الأليم يُنذر به، وكذلك اللعنة لا يمكن أن تكون ثواباً، لكن الأسلوب
القرآني يعطي النفس المخالِفة لوناً من الانبساط، ثم يعطيها اللون المناقض له من
الانقباض، ليكون ذلك أبلغ في الانقباض وأكثر إيلاماً.
ومثال ذلك - كما قلنا من قبل - المسجون الذي يطلب كوب ماء فيأتي له الحارس بكوب
الماء ويقربه من فمه ثم يسكب الماء على الأرض، هذه العملية زرعت في نفس السجين
الأمل في الأرتواء أولاً، ثم يكون سكب الماء على الأرض سبباً في التعذيب والإمعان
فيه، لكن لو رفض الحارس أولاً تقديم الماء لعاش السجين في اليأس وهو إحدى
الراحتين.
ونرى ذلك أيضاً فيمن ينتظر حكماً قد يكون إعداماً وقد يكون براءة، وتكون فترة
الانتظار هي المليئة بالقلق. وعندما يضعون المنتظر في الميزان يجدون وزنه في
انخفاض. وبعد الحكم بإعدامه يبدأ وزنه في الزيادة؛ لأن اليأس إحدى الراحتين. إذن
فانبساط النفس ومجيء القبض بعدها هو الأمر الأنكى والأشد قسوة على النفس، ولذلك
يقول الحق:{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[آل عمران: 21].
هذه البشارة تأتي بالانبساط للنفس ويتلوها الانقباض، ومثل قول الحق:{ وَإِن
يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ }[الكهف: 29].
أي أنه قد وقع عليهم لون من العذاب يستدعي الإغاثة، ومن بعد ذلك يغاثوا لا بما
ينقذهم ولكن بما يزيد عذابهم.
وساعة يسمعون " يغاثوا " تنفرج أساريرهم وتسكن وتطمئن نفوسهم، وبعد ذلك
يحدث الانقباض بسماعهم: } بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ { ، إذن فكلمة
" مثوبة " تأتي لهم بشيء من الانبساط يتلوه العذاب.
هذا. وإنّ أفعل التفضيل يأتي على صورة " أفعل " ، " أكرم " ،
" أجود " ، " أشجع " فهذا لون من زيادة الصفة في طرف عنها في
الطرف الآخر. اللهم إلا كلمات قليلة جاءت في اللغة على غير صيغة التفضيل منها كلمة
" خيرط وكلمة " شر " فلم تأت منها كلمة " أَخْيَر "
بمعنى أكثر خيراً. ولا كلمة أشر بمعنى أكثر شرا، ومرة تأتي كلمة " خير "
ويقابلها الخير الأقل. والذي يميز المعنى هو وجود كلمة " من " كقولنا:
" فلان خير من فلان ". أما إن قيل: فلان خير " فمقابله هو "
شر " لأنه لا توجد كلمة " أَخْيَر ".
وهكذا نجد كلمة " خير " تأتي للوصف مرة وتأتي للمبالغة في الوصف مرة
أخرى، والفاصل للتمييز بين الاثنين هو وجود " مِن ". فيقال: فلان خير من
فلان ومثلها في ذلك كلمة شر، وقد ورد استعمال كلمة خير للتفضيل ولغير التفضيل في
قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَىا
إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ
مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[الأنفال: 70].
والحديث النبوي يقول: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي
كل خير ".
إن في كل مؤمن خيراً. ولكن في المؤمن القوي خير أكثر مما في المؤمن الضعيف.
والمثال على أن كلمة " خير ". تقابل كلمة " شر " ، هو قول
الحق:{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ }[آل عمران: 180].
و " خير " هنا ليست أفعل التفضيل ولكنها للوصف العادي؛ وإذا جاءت "
مِن " تعرف أنها للتفضيل، وعدم الإتيان بلفظة " مِن " يدلنا على
أنها للوصف العادي ومقابله كلمة " شر ". وهنا يقول الحق: } قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ {. وجاءت كلمة " بشر " هنا للتفضيل
ولا يعني ذلك أن المؤمنين في " شر " ولكنها مجاراة للخصم. واعتبار أن ما
يقوله الخصم مقبول جدلاً. وهناك الأكثر شراً في الواقع وعند الله وهو المراد من
قوله تعالى: } مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً
وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ { [المائدة: 60].
لماذا إذن يكون مصير هؤلاء إلى شر؟ لأنهم كرهوا سلوك المؤمنين ولم يستطيعوا أن
ينفسوا عن الغل الذي في صدورهم بعقوبة المؤمنين. ولكن الله يكرههم ويملك لهم
العقوبة ويكون مصيرهم الذي يوضحه الحق في قوله: } لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ
عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ { واللعنة هي الطرد من
الرحمة. والطرد من الرحمة يعني حرمانهم من الخير.
ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يكون هناك خادم في خدمة إنسان ما وهو يسكن
ويأكل ويلبس على حساب السيد، فإذا لم يؤد هذا الخادم حقوق الخدمة على وجهها
المطلوب، لا يرضى عنه سيده، ويطرده من الخدمة، وحين يطرد الإنسان فهو يُعْلن للناس
أن هذا الخادم لم يؤد حق الخدمة، فلا يستخدمه أحد بعد ذلك، وهذا هو الغضب. وبهذا
نعرف الفرق بين أن يُطرد من الرحمة فقط ولا يعقب ذلك شيء، أو أن يستمر الغضب
بالإعلان عن السبب في الإخراج من الرحمة، فهذا معناه أن الله بعد أن طردهم يلاحقهم
بغضبه وسخطه وأن لعنه لهم لا ينفك عنهم.
والله سبحانه وتعالى يعلن لأهل الكتاب: إن طردي لكم من رحمتي وتواصل غضبي عليكم هو
شر عظيم. وغضب الله - كما نعلم - يترتب عليه أشياء في كل حركة من حركات حياتهم،
إنه يمنع الهُدى أن ينفذ إلى قلوبهم، بأن يختم على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان، ولا
يخرج منها الكفر. أو أن يجعل منهم القردة والخنازير. وإن تساءلنا: كيف يكون نسلهم؟
نعرف أن الذي يُمسخ لا يَتَناسل، إنه يُمسخ إلى أن يُرى مسخاً ثم يؤخذ إلى الموت.
وهل هم الذين اعتدوا في السبت أو الذين عبدوا العجل أو الذين كفروا بعد نزول مائدة
عيسى؟ إنهم كل هؤلاء. أو أنهم قردة، أي في خصال القردة، كالطيش وخفة الحركة
وانكشاف العورة، أو طبائعهم وخصالهم كالخنازير، فهؤلاء لهم خبث ونتن وزخم كزخم
الخنزير. وأهم ميزة في الخنزير أنه لا يغار على أنثاه. وهذه موجودة فيهم. وتفشت
فيهم عادة تشغيل بناتهم في الدعارة وغير ذلك من أعمال الباطل.
وهكذا نفهم قوله الحق: } وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ { إما على
أساس أنه المسخ الحقيقي. والمسخ الحقيقي لا يظل متماثلاً ممسوكاً وإنما يكون المسخ
لزمن محدود يراه الناس ممسوخاً ثم يموت وينتهي، وإما أن نفهمها على أن سلوكهم
كسلوك القردة والخنازير.
ويتابع الحق: } وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ { والعبادة إنما هي طاعة العبد للمعبود فيما
أمر به وفيما نهى عنه. والطواغيت هم الذين يزينون لهم الشر والنفاق وأكل السحت
والإثم. ويكون مصيرهم هو قوله الحق: } أُوْلَـائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن
سَوَآءِ السَّبِيلِ { وهذا هو الواقع الذي يعيشون فيه وهو شر كله، وهم لا يفكرون
في السير في الطريق السليم.
وعندما نقرأ قول الحق كاملاً في هذه الآية: } قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـائِكَ
شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ { [المائدة: 60].
نعرف أنهم في حالة غفلة عن مسار الهدى الموصل للحق؛ لأن } سَوَآءِ السَّبِيلِ { هو
الأمر المستوي الموصل للغاية. وكانت طرق العرب إما فيها رمال وإما بين الجبال،
وكانوا يختارون السير في وسط الطريق حتى لا ينالهم أذى من جرف هاوٍ من الرمال فيقع
بهم أو أن تقع عليهم صخرة من جبل.
ولذلك قال الحق:{ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ
أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً
أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ
فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ }[الصافات: 51-55].
أي أنه في وسط الجحيم. ويقول الحق بعد ذلك عن الذين غضب عليهم: } وَإِذَا
جَآءُوكُمْ قَالُواْ... {
(/722)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وهؤلاء هم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً وسخرية. وهم ساعة يدخلون على المؤمنين
يدخلون ومعهم الكفر. وعندما جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا أيضاً
بالكفر. أي أنّ الكفر قد لازمهم داخلين خارجين. وكأن جلوسهم مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يزدهم أي شيء. وكان من الممكن أن يدخل إنسان على مجلسه صلى الله عليه
وسلم، وهو كافر، وبعد ذلك تمسّه عناية الهداية فيخرج مؤمناً.
ومثال ذلك: فضالة بن عمير الليثي الذي جاء ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في
عام الفتح. وعندما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضالة قال له: ما كنت تحدث به
نفسك؟ فقال: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
أستغفر الله لك. ووضع يده عليه السلام على صدر فضالة. فكان فضالة يقول: والله ما
رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه.
لقد مسته العناية، فقد دخل - أولاً - بكفره وخرج - ثانياً - بعميق الإيمان. لكن
هؤلاء دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر، كأن الدخول كان نفاقاً، بدليل قوله الحق: {
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } وهذا القول دليل نفاقهم، فقد
أعلنوا الإيمان لكنهم دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر. وكانوا يكتمون أن الدخول إلى
رسول الله هو محض نفاق. وهذه خاصية لمن قالوا آمنا، ولكان كان دخولهم إلى الإسلام
نفاقاً؛ لأن كفرهم أمر مستقر في قلوبهم لا يتزحزح، وكان يكفي في الأسلوب أن يقول
الحق: وقد دخلوا بالكفر وخرجوا به، ولكنه قال: " وهم " وذلك تحديداً
لهويتهم الكافرة، فكأن عملية الدخول بالكفر والخروج بالكفر هي عملية مسبقة؛ لذلك
يكشفهم الحق: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ }.
وجاء سبحانه بأفعل التفضيل " أعلم " فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من إشراقات الله عليه وتنويره له كان يعلم أيضاً أنهم منافقون. ولكن علم رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى علم الحق سبحانه وتعالى فعلم الله ذاتي وعلم رسوله
فيض منه - سبحانه -.
إذن فقوله الحق: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ } لم يمنع أن هناك أناساً قد علموا أنهم
منافقون. وقد استقر في ذهن النبي أنهم منافقون وأن الله أعلم بما كانوا يكتمون.
والكتم هو حبس الإحساس النفسي أن يخرج وأن يظهر واضحاً، ومحاولة الكتم عملية غير
طبيعية لأنها قسرية. ويكاد كفرهم أن يظهر ويخرج فيحاولون أن يكتموه لأنهم يحرصون
ألا ينكشفوا، ولكن علم الله لا تخفى عليه خافية.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَتَرَىا كَثِيراً مِّنْهُمْ... }
(/723)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
والمسارعة في الإثم تعني أنهم من بداية الأمر في الإثم، ويسارعون فيه، أي أنهم
كانوا على أولية الإثم ويجرون إلى آخرية الإثم، فَضَلاَلُهم واضح من البداية، وكأن
خلقهم الكفر يفضحهم، برغم محاولتهم كتمان ذلك. ويجدون أنفسهم مسارعين إلى فعل
الإثم، أي أن عملهم ينزع إلى الكفر، ويجعلهم الحق يغفلون عن الكتمان، فتبدو منهم
أشياء هي أكثر فضيحة من القول، ذلك أن الإثم مراحل: مرحلة قول، ومرحلة فعل. والفعل
أكثر فضحاً من القول.
{ وَتَرَىا كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ويقول
الحق: { كَثِيراً مِّنْهُمْ } صيانة لاحتمال أن يوجد الإيمان في قلب القليل منهم،
وذلك لتبرئة أي إنسان يفكر في الإيمان. وهم أيضاً يسارعون في العدوان، فإذا كان
الإثم هو الجُّرم على أي لون كان، فالعدوان هو إثم يأخذ به إنسان حقاً لغيره، مثال
ذلك الإنسان الذي يحقد، إثمه لنفسه ولذلك يعاني من تضارب الملكات حتى يبدو وكأنه
يأكل بعضه بعضاً.
إن الحقد - كما نعلم - جريمة نفسية لم تتعد الحد. ويقال عن الحقد: إنه الجريمة
التي تسبقها عقوبتها، عكس أي جريمة أخرى، فأي جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحقد
والحسد، فتنال عقوبة الحقد صاحبها من قبل أن يحقد؛ لأن الحاقد لا يحقد إلا لأن
قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير. ولذلك يقال في الأثر: "
حسبك من الحاسد أنه يغْتّم وقت سرورك ".
إذن من يرتكب إثماً في نفسه لا يتعدى أثر إثمه إلى غيره، أما الذي يرتكب العدوان
فهو ينقل حق إنسان إلى غيره. وهو قسمان؛ هناك من يعتدي ليعطي حقا لغير ذي حق.
وهناك من يعتدي بالسكوت على الظالم، فالظالم تتملكه شهوة الظلم، لكن من يرى الظالم
ويسكت ولا ينهاه فهذا عدوان أيضاً؛ لأن الظالم عنده وفي نفسه ما يدفعه إلى أن
يظلم، أما الشاهد الذي يصمت فليس عنده في نفسه ما يدفعه إلى أن يُسكته. فمن - إذن
- الأكثر شراً؟ إنه الذي يصمت عن تنبيه الظالم إلى أنه يظلم.
{ وَتَرَىا كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } نلحظ
أن كلمة " سارع " مثلها مثل كلمة " نافس " تدل على أن هناك
أناساً في سباق؛ كأنهم يتسابقون على الإثم والعدوان، كأن الأثم والعدوان غاية
منصوبة في أذهانهم، ومتفقة مع قلوبهم.
{ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والسحت هو كل مال
مصدره حرام، سواء أكان رشوة أمْ ربا أم سرقة أم اختلاساً أم خطفاً أم اغتصاباً، كل
تلك الألوان وما ماثلها من السحت إنها أخذ لحق الغير. وأخذ حق الغير له صور
متعددة، فإن أخذه أحد خفية فتلك هي السرقة. وإن سارع إنسان لخطف شيء من بضاعة
إنسان آخر فهذا هو الخطف. وإذا لحق به صاحب البضاعة وتجاذبا وتشادَّا فهذه
المجاذبة تخرج بالخطف إلى دائرة الغضب. وإن كان الإنسان أميناً على شيء وأخذه فهذا
هو الاختلاس، وكل ذلك أكل مال بالسحت. وبئس هذا اللون من العمل.
ويقول الحق بعد ذلك: { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ... }
(/724)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
والربانيون هم الذين يُنسبون إلى الرب في كل تصرفاتهم، وكذلك الأحبار الذين يعرفون
الدين، ولا هؤلاء ولا أولئك ينهون هؤلاء الناس من أهل الكتاب عن ارتكابهم الإثم
وأكلهم السحت، فكيف يُنَصَّبُ هؤلاء الربانيون والأحبار أنفسَهم قادة للضمير
الديني دون أن يقوموا بواجبهم بوعظ الناس؟ وفي هذا تأكيد على أن الربانيين
والأحبار إنما يريدون فقط سلطة الهيمنة على الناس.
والربانيون هم رؤساء النصارى، والأحبار هم رؤساء اليهود. وكان من بين اليهود
والنصارى من تتملكه شهوات أكل السحت والظلم وقول الإثم، فلماذا لم يتحرك المنسوبون
إلى الله للنهي عن ذلك وهم الذين أخذوا حظهم في الدنيا من أنهم منسوبون إلى حماية
منهج الله من انحرافات البشر؟. ألم يكن من واجبهم نهي الظالمين والآثمين عن الظلم
والإثم؟
إن الذي يظلم له شهوة في أن ينتفع من الظلم، أما أنتم أيها الربانيون والأحبار
فلماذا لا تتحركون لوقف ذلك؟ لا شك أنهم قد أمتلأوا سروراً من هذا الإثم وذلك
العدوان وأكل السحت، ومبعث سرورهم أن الواحد من هؤلاء لو كان سليماً في تصرفاته
وأحكامه لغار على المنهج، لكنه يقبل الانحراف؛ لأن من مصلحته أن ينحرف غيره حتى لا
يلومه أحد. وجاء الحق بـ " لولا " في أول هذه الآية تحضيضية أي يقصد بها
الحث على الفعل.. أي كان يجب أن يناهم الربانيون والأحبار عن أكل السحت وقول الإثم
والعدوان. ثم تتجلى دقة الأداء القرآني - كما هو دائماً - في قوله الحق: {
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }.
ونذكر أن تذييل الآية السابقة قال فيه الحق عن سلوك العامة من أهل الكتاب: {
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، إذن فالحق يفرق بين بئس عن صناعة وبئس عن
عمل. وبئس الربانيون والأحبار هو بئس الصناعة. ونعلم أن كل جارحة من جوارح الإنسان
لها حدث خاص بها: فالعين حدثها أن ترى، والأذن حدثها السمع، واليد اللمس ومناولة
الفعل، والرِّجل تسعى، واللسان مجال عمله الكلام. والجوارح تنقسم إلى قسمين:
اللسان وحدثه القول، وبقية الجوارح أحداثها أفعال، بدليل أن الله يقول:{ كَبُرَ
مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 3].
إذن فالقول مقابله الفعل. والقول عمل، والفعل عمل. وما دام هناك قول وفعل من عامة
أهل الكتاب في ذلك المجال لذلك يقول الحق: { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
وقال عن الربانيين والأحبار: { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } لإيضاح الفرق
بين من يعمل ومن يصنع، فمن فُتق ثوبه بإبرة وخيط ليصلحه، فهو خائط، ولكن الذي
يحترف ذلك هو " الخيَّاط "؛ فصاحب الحرفة هو من يأخذ وصفها لأنه يجيدها،
أما الذي يمارسها لمرة واحدة فلا يأخذ من الصنعة إلا بقدر ما يدل على أنه لم
يتقنها.
وكان الربانيون والأحبار قد اتخذوا أمر الدين والكهنوت صناعة بتجويد كبير. وذلك هو
الذي جعل السلطة التقنينية في العالم كله تنتقل من منهج السماء إلى منهج الأرض.
وحينما نرجع إلى تاريخ القانون نجد أن الأصل في التقنين كان من الكهنة الذين كانوا
منسوبين إلى الله وخبر السماء، وهم الذين كانوا يحكمون بين الناس، لكنهم أفسدوا،
ورأى المجتمع أنهم يحكمون في قضية بحكم، ثم في قضية مشابهة يحكمون بنقيض الحكم
السابق، وأنهم ارتشوا في سبيل ذلك، وما يزوا بين الناس، وعرف الناس أن الكهنة غير
مأمونين على العدالة؛ لذلك تركوا الكهنة وبدأوا يضعون قوانين خاصة بهم بعيدة عن
حكم الكهنة. وهكذا انتقلت المسألة من تقنينات وحكم الكهنة إلى المجتمع الذي لم يعد
يتمسك بالدين بسبب انحرافات أحكام الكهنة عن العدل وأنهم باعوا الأحكام لصالح من يدفع
أكثر، أو يحكمون لصاحب النفوذ. وهكذا صارت المسألة صناعة لهم. وبئست تلك الصناعة.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَقَالَتِ الْيَهُودُ... {
(/725)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
ونعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يميناً وتنفعل شِمالاً وتنفعل إلى أسفل وإلى
أعلى، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة. وليلاحظ كل منا أصابعه
في أثناء أي عمل، سيجدها تتباعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة. وخلقة
الأصابع بالمفاصل والعُقل وحجم كل عقلة يختلف عن الأخرى؛ لتؤدي المهمة بانسجام.
وساعة تعوّق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها، أي ربطتها عن
التصرف المطلوب منها.
ومعنى قوله: " يد الله مغلولة " أي أن يد الله - والعياذ بالله - مشلولة
الحركة. وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل زحف
الإسلام عليهم لينقض باطلهم. وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون
والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال
" فنحاص " وهو واحد من اليهود: لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله
مغلولة. ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا: " وقالت
اليهود يد الله مغلولة ". ومعنى ذلك أن " فنحاص " عندما قال ذلك
سمعوه وسرّهم ما قال، ووافقوه عليها.
أو أنهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة وقد آخى بين
المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود
فيتندرون على تلك الحال ويقولون: إن يد الله مغلولة عن محمد وآله.
أو أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعقابنا أياماً
معدودة. والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلاً لأحداث خلقه إنما يكفر بالله؛ لأنه
يُنزلُ الله من مكانته. فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع
يكون من خَلْق الله. وكيف يقدر خلقٌ من خلق الله أن يربط يد الله؟. لقد اجترأوا
على مقام الأولوهية وهذا من سوء الأدب، تماماً كما قالوا:{ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }[آل عمران: 181].
وحينما قالوا: " يد الله مغلولة " وردّ الحق عليهم: { بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ } وقال قبلها: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعاً
لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق. ولكن
الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد
وصفاً لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } وهذا
يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفاً لا يليق فلا بد أن ندحضه؛ لأن الحق لا يدعو على
عبيده؛ لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له.
إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبراً، وإما تعليماً لنا، فإذا كانت خبراً
نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد
هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بجلال الله.
وهذه المسألة لها نظير، فعندما علم الحق سبحانه وتعالى تشوّق رسوله والمؤمنين أن
يذهبوا إلى المسجد الحرام؛ قال لرسوله:{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن
شَآءَ اللَّهُ }[الفتح: 27].
وهل هذا إخبار من الله، أو هو تعليم لنا؟. إنه تعليم لنا أن نفعل ذلك عندما نشتاق
إلى فعل. وكذلك هنا: } وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ { لذلك
يعلمنا سبحانه أن نقول: } غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ { مثلما علمنا أن نقول: } إِن شَآءَ
اللَّهُ { حتى ننسب كل قدر لله. وقد حاول الفلاسفة أن ينسونا تقدير المشيئة،
فقالوا: إن الله خلق النواميس والأكوان وجعل لها قوانين تعمل في الكون. وهل زاول
الحق سلطانه ساعة خلق النواميس ثم ترك الأمور لذاتها؟ لا؛ لذلك جاء سبحانه بمعجزات
تخرق النواميس ليدلنا على أن النواميس لم تأخذ هي الكلمة للتصرف بل إن يد الله ما
زالت في كونه، فالنار - على سبيل المثال - التي تحرق يأتيها الأمر:{ كُونِي
بَرْداً وَسَلَاماً }[الأنبياء: 69].
والماء الذي يُغرق يأتيه الأمر:{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنِ اضْرِب
بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
}[الشعراء: 63].
وقال:{ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً
وَلاَ تَخْشَىا * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ
الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ }[طه: 77-78].
والعصا التي خلقت من غصن شجر جاف، تتحول إلى أفعى، أي نقلها كلها إلى جنس آخر، من
نباتية إلى حيوانية. هذا هو خرق النواميس.
ويقول الحق عن هؤلاء الذين ادعوا أن يد الله مغلولة: } غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ { أي أنهم طردوا من رحمة الله، لأنهم هم الذين بشروا
على أنفسهم وقالوا إن يد الله مغلولة، وسبحانه قادر أن يمنع عطاءه عنهم.
ويتابع سبحانه: } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ { ، وهو
يعطي من يريد، وكلمة " اليد " في اللغة تُطلق على الجارحة وتطلق على
النعمة، فيقول الرجل: إن لفلان علي يداً لا أنساها؛ أي أنه قدم جميلاً لا يُنسى.
واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد. وتُطلق اليد ويراد بها
الملكية فيقول سبحانه:{ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ
}[البقرة: 237].
أي الذي يملك أن يُنكح المرأة، هو الذي يعفو. وفي القتال نجد القول الحكيم:{
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }[التوبة: 14].
أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال:{ مَا
مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }[ص: 75].
وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية.
وقد كرّم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه، وخلق كل شيء بـ " كن ". إذن:
كلمة " اليد " تطلق على معانٍ متعددة. والرسول يقول: " المسلمون
تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ".
أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة. وعندما نقرأ كلمة " يد الله
" فهل نحصرها في نعمته أو ملكه؟{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[الملك: 1].
والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فنقف عند الوصف، نعم له يد، وله يدان، وإياك أن
تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك؛ لأن الأصل أن لك وجوداً الآن، ولله
وجود، لكن وجودك غير وجود الله، وكذلك يده ليست كيدك. حتى لا نشبه ونقول: إن له
يداً مثل أيدينا، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة، والهدف الراقي هو
تنزيه الحق. وهناك من يقول: إن لله يداً ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما يأتي
وصفاً لله على أنه " ليس كمثله شيء " والتأويل ممكن. مثلما بيّن الحق:
انه قد صنع موسى على عينيه.
وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت، بأنه له يداً ولكن ليست كالأيدي،
وله وجود لا كالوجود البشرى، وله عين ليست كالأعين، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار
" ليس كمثله شيء ". وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل، ويراد بها النعمة
ويراد بها القدرة. ويقول الحق: } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ { والمراد هما هو
" النعمة ". ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يداً واحدة تعطي. لا، بل
يرد بما هو أقوى مما يمكن، فهو يعطي بيديه الاثنتين، وهو القائل:{ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }[لقمان: 20].
أنه يُعطي الظاهر ويُعطي الباطن. وإياك أن تقول تلك اليد اليمنى وتلك اليد اليسرى؛
لأن كلتا يدي الله يمين: } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ {
أي أنه سبحانه لا يمكن. أن يكون بخيلاً، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق؛
لأن الذي يطغى بنعمة، قد يذهب به الطغيان إلى بلاء وسوء مصير؛ لذلك يقبض سبحانه
عنه النعمة ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة. ولذلك نجد القول الحق في سورة
الفجر:{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16].
ورد الحق بعد ذلك بقوله: } كلا {.
فلا الإعطاء هنا للإكرام، ولا المنع للإهانة. فكيف يكون الإعطاء دليل الإكرام وقد
يعطيك الله ولا تؤدي حق النعمة؟ وكيف يكون المنع دليل الإهانة وهو قد منعك من
وسيلة انحراف؟ إذن فهو قد أعطاك بالمنع - في بعض الأحيان - أنه قد أعطاك الأبقى
وهو الهداية.
إذن فمنعه أيضاً عطاء.
} بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ { والناس تنظر دائماً إلى
عطاء الله بعطاء الإيجاب، ولا تنظر عطاء السلب أي المنع، وهو أن يصرف عنك الحق
مصرف سوء، وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي تحرى الحلال في مصدر ماله ويتقي الله في
عمله ويأخذ دخله ويدير حركة حياته في إطار هذا الدخل، وقد يعود هذا الرجل إلى
منزله فيجد حرارة الابن مرتفعة قليلاً، ولأن ماله حلال وذرات جسمه تعرف أن ماله
حلال؛ لذلك يستقبل الأمر بهدوء ويعرض الابن على طبيب في مستوصف خيري بقروش قليلة،
فيصف الطبيب دواء بقروش قليلة ويتم شفاء الابن.
هذا الرجل يختلف حاله عن حال رجل آخر أتى بماله من السحت، وساعة يرى حرارة ابنه قد
ارتفعت نجد باله يدور بين ألف خاطر سوء، ويدور الرجل بابنه على الأطباء ولا يصدق
طبيباً واحداً.
الرجل الأول رزقه الله الاطمئنان بمنع هواجس الحدَّة من قلبه وخواطره، أما الرجل
الثاني فهو ينفق أضعاف ما أكله من سحت. إذن } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ { أي أن
هناك عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه
الإنسان هو عطاء المال وهو عطاء المال وهو عطاء يذهب إلى الفانية. أما المنع فهو
يمنع الإنسان من ارتكاب آثام. وبعد ذلك يأخذ الإنسان نعيمه في الآخرة. ونحن نجد
كثيراً من الناس تدعو، ولكنهم لا يعلمون أن الله قد أعطى بالمنع.
يقول الحق تبارك وتعالى:{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ
وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإسراء: 11].
لذلك يعطي الحق أحياناً أشياء يكون العبد قد ألح عليها، وبعد ذلك يتبين الإنسان
أنها شر، كأن الحق ساعة منع الإنسان لفترة كان ذلك صيانة له.
} بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ { إذن فكله إنفاق. وسبحانه
ينفق كيف يشاء، فلا يبخل أبداً حتى وإن منع، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين
الإنفاق، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة. فإن أردت بـ
" اليد " القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين.
وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم المناعة الإيمانية ضد كل
متمرد عليه، أو ضد كل متأبٍ ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب.
فكأنه سبحانه وتعالى يوضح: وطَّنْ نفسك يا محمد ولتوطن أمتك نفسها على أن هؤلاء
الكفرة لن يكتفوا بالقدر اليسير والقليل من الكراهية لك، بل كلما جاءت لك نعمة
بزيادة الهدى من الله سيحسدونك، وسيبغضونك، وسيزداد تمردهم وحقدهم عليك، فوطن نفسك
على ذلك. وفي هذا ما يعطي مناعة إيمانية، يسد كل منافذ وسوسة النفس ويجعل النفس
على استعداد لاستقبال ما يحدث حتى ولو كان من المكاره.
ولنقرب هذا الأمر من الذهن.
لا تشبيهاً ولكن لمجرد تقريب الأمر من الذهن - والله المثل الأعلى - لننظر إلى ما
حدث في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت انجلترا تخوض الحرب ضد
النازية، وكانت الأهوال تتساقط من الطائرات على المدن الإنجليزية. وجاء تشرشل
ليقود الحرب فقال للإنجليز. إن الهول والصعاب هي التي تتنظركم فوطنوا أنفسكم على
مواجهة الشدائد.
وإذا كان هذا قد حدث في حرب بين شعبين، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وهو يعلم
ضرورة التمحيص لأمته التي تحمل راية المنهج الكامل للهداية. كان لا بد إذن من أن
يوطن نفس رسوله ونفوس المؤمنين معه على مواجهة الحسد والبغض والحقد والمكر
والتبييت.
ويقول الحق: } وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَآءَ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ {. ولا يأتي قول الحق: " بينهم
" إلا إذا كان هناك طائفتان، والمقصود إما الطوائف اليهودية فيما بينها، وإما
طوائف النصرانية فيما بينها، أو بين اليهودية والنصرانية، خصوصاً أن هذه الآيات
مستهلة بقوله الحق: } يَا أَهْلَ الْكِتَابِ {. فإذا كانت لليهود فالعداوة
والبغضاء قائمة بين طوائفهم بعضها مع بعضها الآخر. وإذا كانت للنصارى فالعداوة
والبغضاء حاصلان فيما بين طوائفهم، وإن كانت بين اليهود كقسم وبين النصارى كقسم
فهي مسألة ممكنة. وهذه العداوة والبغضاء لا تنتهي أبداً بل هي قائمة بينهم إلى يوم
القيامة.
ويقول الحق: } كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ {
وهذا خبر عما وقع في حضن الإسلام، ومثال ذلك خروج " بني قينقاع " على
العهد بعد أن جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع وقال لهم:
" يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً ".
فرفضوا وقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغماراً لا
يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا.
فنزل فيهم قول الحق:{ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ
إِلَىا جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }[آل عمران: 12].
فكان " بنو قينقاع " أول اليهود الذين نقضوا ما بينهم وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين موقعتي بدر وأحد.
وكان سبب ذلك أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها - بضاعة - لتبيعها في سوق "
بني قينقاع " ، فجلست إلى صائغ يهودي بالسوق، وحاول اليهود إجبارها على كشف
وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، وهي لا تشعر به، فلما
قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت المرأة. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ
فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وحدثت بذلك الفتنة، لكن الله أطفأ الفتنة
وأجلى " بني قينقاع " ، ثم " بني النضير " وكان لهم - قبل ذلك
- التجمع القوي في المدينة بالثراء والعلم.
وقاتل المسلمون " بني قريظة " وأجلوا أهل خيبر، وتملك واستولى المسلمون
على وادي القرى. حدث هذا في حضن الإسلام فماذا حدث في غير حضن الإسلام؟
لقد رأيناهم أيام المجوس وقد أهلكهم بختنصر، وكذلك تيتوس الروماني، ورأيناهم
مقطعين في الأرض في كل زمان ومكان، وقد يقول قائل: إذا كان الحق قد قال: }
كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ { فلماذا لا تنطفىء
الحرب الحالية بيننا وبينهم؟ ونقول: إن الذي يطفئ نيران الحرب لا بد أن يكون من
جنود الله. وعندما نصبح جنوداً لله فلسوف تنطفئ هذه الحرب.
والمثال القريب منا هو انتصارنا في العاشر من رمضان. لقد كان انتصارنا بالعمل تحت
راية " الله أكبر " وقد جزى الله بالخير الضباط والجنود الذين كانوا
يعلمون أن العتاد في جانب العدو كان أكبر من عتادنا، لكن النتيجة كانت في صالحنا
لأننا دخلناها تحت ظل " الله أكبر ".
أما الذين ادعوا أنه انتصار حضاري فنقول: عن أي حضارة تتحدثون؟ والإسلام هو نبع
الحضارة المتوازنة، وليس الادعاء بالحضارة هو الخروج عن منهج الله. إننا إن ثبتنا
على مبدأ " الله أكبر " لا كشعار ولكن كتطبيق لأطفأ الله نيران أي حرب.
ويترك سبحانه في كونه السنن التي تعطي التجارب الواقعية لمن يتشكك في الإيمان.
ومثال ذلك ما حدث من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض المقاتلين
في غزوة أحد فكادت الهزيمة تلحق بهم. وفي غزوة حنين قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة
ولذلك يقول سبحانه:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
}[التوبة: 25].
وقد ترك الله هذه السنن الكونية ليلفت أي غافل عن الدين أن الخصم ينال منه؛
فالغفلة تؤدي إلى الانحراف، والانحراف لا يمكن أن يؤدي إلى النصر. هكذا يحذر الحق
معسكر الإيمان. أما معسكر الكفر فالحق يريد له الذلة، فيعطيه في بعض اللحظات نصراً
على المؤمنين في أوقات غفلتهم، وما أن يُفيق المؤمنون من الغفلة حتى تأتي ضربتهم
لمعسكر الكفر. وتأتي الضربة وقت أن يكون معسكر الكفر في علو وغلو. ولنا في المثل
الريفي الإيضاح.
يقول المثل: لا يقع مؤمن من على حصيرة، والمقصود أن التواضع يحمي الإنسان من وهم
العلو والكبر؛ لأن الذي يقع هو الذي يتخيل أنه علا في الأرض ولذلك يعميه الله عن
الحرص، ويأتي قوله:{ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }[الإسراء: 7].
أي أن يتم العصف بكل شيء. وأهل السياسة عندما يريدون أن ينزلوا بخصومهم العقاب
يرفعون خصومهم ويمدون لهم في حبال الصبر والإمهال حتى يعلو الخصم كثيراً ثم ينكشف
ويظهر سوء سلوكه فيقع أمام الناس.
ولذلك نجد القرآن صريحاً مطلق الصراحة في هذا المجال:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا
ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا
فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ
}[الأنعام: 44].
فسبحانه يمد ويملي لهم ليأخذوا وليبنوا وليترفوا، وليفرحوا بما أخذوا، ومن بعد ذلك
يفتح الله عليهم أبواب كل شيء. وأمثلة ذلك في الحياة كثيرة.
لقد رأينا الدول القوية تساعد خصومنا، واتفق المعكسر الشرقي والمعسكر الغربي
لسنوات على مساعدة الخصم، وقلنا لهم: أنتم الآن في مقام: } فَلَمَّا نَسُواْ مَا
ذُكِّرُواْ بِهِ { وأنتم أيها الخصوم قد تنتقلون إلى مقام: } حَتَّىا إِذَا
فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ {. وسوف تنتقلون من بعد ذلك إلى مقام: } أَخَذْنَاهُمْ
بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ {.
وقد حدث أن سقط الاتحاد السوفيتي بأكمله، وأخذهم الله بغتة بأيدي أناس منهم،
وكثيراً ما تحدث الكوارث لمن يضطهد أهل الإيمان. إذن: فلا داعي لأن يغتر أحد بما
وصل إليه.
ويقول الحق: } وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَآءَ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً
لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ
لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ { [المائدة: 64].
وهم مكبوتون دائماً. فالحق لا يُمَكّنهم من كل أهوائهم. لذلك يبغون في الأرض
فساداً بأساليب الاختفاء. ومن يقرأ " بروتوكلات صهيون " يجد اعترافاتهم
بأنهم أصحاب النظريات التي تقود إلى الأفكار الخاطئة كالماركسية والوجودية
والداروينية وهي أمور مرتبة من قبل ليظهر أثرها الضار في الشعوب غير اليهودية. أما
اليهود فقد حصنوهم ضد هذه المبادئ الفاسدة، هكذا أرادوا التبييت ضد العالم، وهكذا
يكون سعيهم بالفساد بين الناس. وإذا نظرنا إلى الانحراف الحالي في الكون فإننا
نجدهم وراءه.
فالرأسمالية الشرسة من اليهود. والشيوعية الشرسة من اليهود. وهؤلاء الذين يدعون
أنهم أنبياء من بعد رسول الله إنما يحدث لهم ذلك بفعل اليهود، وكذلك الجمعيات التي
تتخفي وراء أسماء " الماسونية والروتاري والليونز " ، كلها من اليهود.
ومع ذلك نتلفت إلى قوم يقولون إنهم متحضرون ويفخرون بأنهم أعضاء في الروتاري،
ونسألهم: ماذا تفعلون في تلك الأندية؟ يقولون: نقوم بالأعمال الخيرية والخدمات.
ونقول لهم: لماذا لا تفعلون أعمال الخير باسم الإسلام؟. وهل تظنون أن هناك خيراً
يأتي من خارج الإسلام؟!
ويكتشف الكون كل فترة من الزمن أن الفساد الذي فيه إنما هو بسبب هؤلاء الناس وبسبب
مكائدهم؛ لذلك يصيبهم الحق بالكوارث كل فترة من الزمن؛ لأنهم يسعون في الأرض
فساداً. وهذا السعي في الأرض بالفساد إنما يأخذ صوراً متعددة، مرة يأخذ شكل
النظريات العلمية، ومرة يأخذ شكل التطرف في الأنظمة السياسية من رأسمالية شرسة أو
شيوعية شرسة، وكل ذلك تخريب لحياة الناس.
والناس حين تجرب نظاماً فهي تقيس نجاحه أو فشله بمقدار ما يعود عليها من خير أو من
شر.
لقد كانت روسيا - على سبيل المثال - تمد العالم بالقمح من سيبيريا. ولكنها الآن
تشكو قلة الزراعة وتنتظر من يبيع لها القمح. وعلى الجانب الآخر نجد الرأسمالية
الشرسة تطحن أبناء تلك البلدان في الحياة غير المسئولة باسم الحرية. وقد شهدت
ألمانيا - مثلاً - قسمة عاصمتها القديمة " برلين " إلى قسمين، ولكل قسم
حياة، وشهدت إعادة التوحيد لأرض ألمانيا بما يصاحبه من مشكلات جمة.
وقد تذهب بعض المجتمعات إلى أيدي أناس لهم شراسة أشد كالحزب الحاكم في كل دولة لا
تتبع منهاجاً متوازناً، ونجد رجال هذا الحزب كهيئة تأخذ الدعوة ونقيض الدعوة حتى
لا يتمرد عليهم أحد، فعَرق العامل في أيديهم ومصنع الرأسمالي في أيديهم وهم يعيشون
حياة الأمراء ولا يجرؤ أحد على أن يسألهم.
ومثال ذلك أيضاً نظرية الوجودية التي تدعو كل إنسان ليثبت وجوده، وصاحبتها موجة من
الانحلال اللا مسئول، ذلك أنهم لم يفهموا إثبات الوجود على أساس أنه مسئولية العمل
الصالح في الكون، ولكن فهموا الأمر على أنه انطلاق غرائز على الرغم من أن المفترض
في كل إنسان إذا أراد أن يمد يده، فعلى يده أن تتوقف حيث يوجد أنف إنسان آخر. لكن
هؤلاء الناس عاملوا الناس كأطفال، تماماً كما يأتي الأب لابنه بلعبة يلعب بها
ولتكن آلة تليفون، يقدمها الأب لابنه ليستغل طاقته قبل أن يكون مكلفاً، ولكن الأب
لا يسمح للابن أن يعلب بآلة التليفون الحقيقية، وهؤلاء الناس يأخذون الكبار إلى
اللعب واللهو حتى لا يتدخل الكبار في أمور الجد.
ومثال ذلك لعبة كرة القدم، إنهم ينفخون فيها بالبطولة وينقلون قوانين الجد إلى
اللعب. وقبل المبارة بثلاث ساعات تجد قوات الأمن قد سدّت الطرق إلى الملعب الذي
يشهد المباراة. ولو أخطأ الحكم خطأ تافهاً فإنّ الجهور يثور ويهيج. ولكن عندما
يخطئ الحكام والحكومات ألف خطأ فلا أحد يتكلم، لماذا؟. لأنكم نقلتم قوانين الجد
إلى اللعب واللهو وتركتم الجِد بلا قوانين.
مثال آخر: نجد كل فاكهة أو محصول أو صناعة في الوجود يقيمون لها الاحتفالات
ويتوجون عليها ملكة، ملكة الكروم، ملكة القمح، ملكة الأزياء، وكل ذلك من أجل إبراز
مفاتن النساء، ولا يوجد تكريم للعقول التي تنتج. وعلى سبيل المثال نجد ملابس
الشباب الرياضية تغطي جسد الشباب من الذكور، لكنهم لا يفعلون ذلك بالنسبة للإناث،
لماذا لا يغطون أجساد البنات أيضاً أثناء ممارسة الرياضة؟ والغرض - بطبيعة الحال -
هو دغدغة أعصاب الناس، وكل ذلك إفساد في الأرض.
} وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً { ومن العجيب أن سعيهم للفساد يلبسونه ثوب
الحق وثوب الارتقاء وثوب الحضارة.
ويأتي أناس من المسلمين ويشجعون مثل هذا الفساد، وينسون الحقيقة البديهية وهي: }
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ { فسبحانه وتعالى قد خلق الكون على هيئة
الصلاح، فإذا استقبلت خير الله بصلاح الوجود الذي طرأت أنت عليه فأنت تحسن حياتك
وعملك، أما إن لم ترد صلاح الكون فعليك ألا تأتي بفساد.
والحق خلق الكون على نظام دقيق، ونرى ذلك في الأشياء التي لا دخل للإنسان فيها،
ونجدها في منتهى الدقة والاستقامة، الشمس والكواكب والفصول والرياح، لكن الفساد
يأتي عندما تدخلت يد البشر بغير منهج الله. إذن فالفساد هو الذي يصرف الناس عن
منهج الله. ونجد بعضاً من الناس يركبون رءوسهم ويظنون أن ما يفعلونه هو الصلاح،
فينطبق عليهم قول الحق:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }[البقرة: 11-12].
هذا هو حكم الحق فيهم.. إنهم يدّعون الصلاح، ولكن يجب عليهم أن يرتدعوا فلا
يفسدوا. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ... {
(/726)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
هذا القول يدل على أن أهل الكتاب جميعاً في غير حظيرة الإيمان، والحق يوضح لهم: إن
فسادهم كان سابقاً على ظهور الإسلام، ولهذا جاء الإسلام ليخرج الناس من فسادكم
أنتم. لقد كان لكم منهج من الله ولكنكم حرّفتموه، وإن لكم رسلاً أرسلهم الله إليكم
ولكنكم أسأتم إليهم، وطقوساً دينية ابتدعتموها. وجاء الإسلام لا ليهدي الملاحدة
فقط، ولكن ليهدي أيضاً الذين أضلهم أرباب أهل الكتاب. وكانوا من بعد الإسلام
يحاربون الإسلام بالاستشراق، وكانوا يؤلفون الكتب ليطعنوا الإسلام. لكنهم وجدوا أن
الناس تنصرف عنهم؛ لذلك جاءوا بمن يمدح الإسلام ويدس في أثناء المديح ما يفسد
عقيدة المسلمين.
إننا نجد بعضاً من المؤلفات تتحدث عن عظمة الإسلام تأتي من الغرب، ولكنهم يحاولون
الطعن من باب خلفي كأن يقولوا: إن محمداً عبقري نادر في تاريخ البشرية ويبنون كل
القول على أساس أن ما جاء به محمد هو من باب العبقرية البشرية، لا من باب الرسالة
والنبوة. ونجد مثالاً على ذلك رجلاً أوروبياً يؤلف كتاباً عن مائة عظيم في العالم
ويضع محمداً صلى الله عليه وسلم على رأسهم جميعاً. ونقول له: شكراً: ولكن لماذا لم
تؤمن أنت برسالة محمد بن عبد الله؟
إن شهادتهم لنا لا تهمنا في كثير أو في قليل. لقد هاجمونا من قبل بشكل علني.
ويحاولون الآن الهجوم علينا بشكل مستتر. وهم أخذوا بعضاً من أبناء البلاد
الإسلامية ليربوهم في مدارس الغرب وجامعاته من أجل أن يجعلوا من هؤلاء الشباب دعاة
لقضاياهم في إفساد المسلمين، ولم ينجحوا إلا مع القليل؛ لذلك نقول لشبابنا: احذروا
أن تكونوا المفسدين وتدعوا أنكم المصلحون، فلا تأخذوا المسألة بالطلاء الخارجي
ولكن انظروا إلى عمق القضايا، وتذكروا قول الحق:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم
بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف: 103-104].
علينا أن نرقب كل فساد في الكون، وسنجد أن لأصابع أعداء الإسلام أثراً واضحاً. لقد
كان من اجتراء الصهيونية إلى حد الوقاحة أن تقول: ليطمئن شعب الله المختار،
فثمانون في المائة من وسائل الإعلام في العالم خاضعة لإرادتنا ولا يمكن أن يُعلم
فيها إلا ما نحب أن يُعْلَم. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: { وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [المائدة: 65].
فسبحانه وتعالى بهذه الآية يقدم الفرصة لهؤلاء الناس حتى يدخلوا إلى حظيرة الإيمان
ويستغفروا الله عن خطاياهم الماضية وليبدأوا حياة جيدة على نقاء وصفاء بدلاً من
التحريف والتضليل. وليعرفوا معرفة حقة قوله تعالى في رسوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }.
هذا القول يجب أن يتهافت إليه غير المسلمين مع المسلمين ليأخذوا من ينبوع الرحمة،
وفي ذلك تصفية عقدية شاملة لكل إنسان أن يبدأ طريق إصلاح نفسه.
وقوله الحق: } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ { إنما
يدعوهم إلى الإيمان والتقوى. والإيمان محله القلب، أي أن يستقر في القلب الاعتقادُ
بوجود إله أعلى، ونؤمن بالبلاغ عن الإله الأعلى بواسطة الرسل، وأن نؤمن بالرسل
وبالمناهج التي جاءوا بها، وأن نتبع هذه المناهج، وأن نؤمن بأن المرجع إلى الله،
هذا الإيمان ينعكس على الحركة الإيمانية في الأرض، ويحقق الإيمانُ مع التقوى اتجاهَ
الإنسان إلى الصالح من العمل. وأن يبتعد عن غير الصالح من العمل اتباعاً لقول
الحق:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
}[العصر: 1-3].
ولذلك نجد قولاً لأحد العلماء الصالحين من العرب هو: إن الإيمان كالْعُمُد
والأعمال كالأطناب. وعرف أن كل بيت له أساس من الأعمدة، وله أوتاد تثبته. والخيمة
العربية هي بيت من القماش السميك على عمود من الخشب وتشد الخيمة إلى الأوتاد
بحبال، وهذه الحبال هي الأطناب ولا تقوم الخيمة إلا إذا ربطت بأحبال وشدت إلى
أوتاد. وكان العربي يفك هذه الخيمة، ويحملها على ظهر بعيره لينصبها في أي مكان.
وكان العربي يختار القماش الذي إن نزل عليه المطر، يمتص الماء ويمنع سقوطه داخل
الخيمة.
إذن فالإيمان عمود، والأعمال أطناب، وهكذا تكون دعوة الحق لأهل الكتاب حتى يؤمنوا
ويتقوا الله حتى يكفر عنهم سئياتهم، والكفر - كما نعرف - هو الستر والتغطية والعفو
هو محو الأثر، كأن الحق سيغطي على سيئاتهم ثم يمحو أثرها وذلك بأن يعفو عنها؛ لأن
الإسلام إنما جاء رحمة يجب أن تستغل ليكفر الحق عن سيئاتهم التي ضللوا بها شعوبهم.
لقد كان من الواجب عليهم أن يعرفوا أن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فرصة
للتراجع عن الكفر والبهتان. وقد جاء صلى الله عليه وسلم ليقيم تصفية عقدية في
الكون، فالملحد يجب عليه أن يتعرف على خالق الوجود ويؤمن به، والمبدل لمنهج الله
ينبغي أن يعود إلى منهج الله. وتلك هي التصفية العقدية الشاملة.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ... {
(/727)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
أي أنهم لو طبقوا التوارة والإنجيل دون تحريف، وآمنوا بالقرآن الكريم لكان خيراً
لهم. والتوارة كتاب اليهود. والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام، وقد أنزل الله بعد
ذلك الكتاب الجامع المانع وهو القرآن الكريم، وأراد لهم الحق بالإيمان بما جاء في
التوارة والإنجيل من بشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان بالتوارة
والإنجيل - من قبل تحريفهما - إنما يقود إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبما أنزله الله إليه. واليهود - كما عرفنا - هم الذين توعدوا العرب بمجيء رسول
الله، لكن العرب سبقوهم إلى الإيمان بمحمد بن عبد الله { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ
كَفَرُواْ بِهِ }.
لقد كانوا - أهل الكتاب - يملكون المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن وهو الإيمان
بالتوارة الصحيحة والإنجيل الصحيح؛ لأن فيهما نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان سيدنا عبدالله بن سلام وكان من أحبار اليهود يقول: " لقد عرفت محمداً
حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد ". وحينما يعد الحق أهل الكتاب إن
آمنوا واتقوا بأن يكفر عنهم سيئاتهم ويقيهم من عذاب النار فحسب، ولكن سيمحو هذه
السيئات ويدخلهم الجنة. وسبحانه هو الأعلم بهم، ويعلم أن منهم الماديين المرتبطين
بالدنيا لذلك جاء لهم بخير الإيمان في الدنيا فقال:
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ
إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }
فسبحانه يمد لهم أيضاً يد الأسباب في الدنيا، والمؤمن هو من يرتقي في الأخذ
بالأسباب فيأخذ نعيم الدنيا والآخرة، أما الكافر فيأخذ الأسباب دون أن يشكر الخالق
عليها.
لقد أراد الحق لأهل الكتاب أن يحسنوا الإيمان أولاً بصحيح التوارة وبصحيح الإنجيل
حتى يكون ذلك هو المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن، فهذا هو السبيل إلى تكفير
السيئات بألا يدخلوا النار بل ويدخلون الجنة في الآخرة. وهم بالإيمان لا يأخذون
خير الآخرة فقط بل يأخذون خير الدنيا أيضاً؛ لأن الحق لا يضن على مجتهد في
الأسباب، وهو القائل:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
فمن بقي منهم على الكفر يأخذ من أسباب الدنيا ولكنه لا يأخذ أبداً من عطاء
الآخرة:{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً
مَّنثُوراً }[الفرقان: 23].
وبذلك يوضح الحق مصير أهل الكفر في الآخرة أولاً، ويوضح من بعد ذلك مصيرهم في عاجل
الدنيا، فإن أخذوا بالأسباب أعطاهم الله نتائج الأسباب، وهو سبحانه الذي يحتفظ
بطلاقة القدرة، فقد يعطل الأسباب ويسلب الأشياء خواصها، فالمزارع قد يأخذ بكل
الأسباب من حرث للأرض وتسميد لها وانتقاء لسلالة البذور، ولكنَّ إعصاراً قد يهب
فيقتلع كل شيء أو فيضاناً يغرق الزرع، أو حشرة فتاكة كدودة القطن تأكل المحصول.
إذن، فالأسباب وراءها مُسبِّب له طلاقة القدرة، وسبحانه هو الذي وضع القوانين
الكونية، وهو - أيضاً - الذي يسلبها خواصها.
فأنت أيها الإنسان سيد الكون بإرادة الله ومقهور في كثير من الأقضية لقهرية
الجبار. صحيح أن لك بعض الاختيارات في بعض الأشياء، ولكن هناك قهريات في أمور لا
دخل لك فيها، فالمرض قد يقتل، والحادث المفاجئ قد يقتل، وتلك أشياء من قهريات الله
التي تخرج الإنسان عن الأسباب.
إن الحق سبحانه يرينا أن بلاداً كانت دائمة المطر ثم أصابها الجفاف، لماذا؟ لأن
الناس تغتر من رتابة النعمة، ولذلك يمسك الحق الكون بيده، وهو سبحانه لا يسلمه
لأحد أبداً. لذلك يأتي في بعض الأحاديين ويقبض أسبابه حتى لا يفتن الإنسان
بالأسباب ورتابتها.
وأمثلة ذلك في حياتنا كثيرة، نرى المزارع الذي يملك عشرات الأفدنة فتهاجمها الدودة
فتأتي على الأخضر واليابس، بينما جاره الذي لا يملك إلا قطعة يسيرة وقليلة من
الأرض تطرح الخير كله لصاحبها؛ لأنه دفع ما يسميه أهل الريف " غفرة الأرض
" أي زكاتها. والدودة في هذه الحالة تكون هي من جنود الحق فتأكل المال الباطل
ولا تلمس المال الحلال.{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[المدثر:
31].
ولذلك يقدم الحق أسبابه لمن يسعى فيها، ويزيد للمؤمن. ويقول: } وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ
لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم { والرزق - كما علمنا -
قسمان: قسم مباشر وقسم يأتي بالرزق المباشر، والرزق المباشر هو ما ننتفع به على
الفور، كطعام نأكله أو ماء نشربه، أما الرزق الآخر فهو المال الذي قد نشتري به
الرزق المباشر. وجاء سبحانه بأمور الحياة الواقعية حتى نفهم أن المنهج إنما نزل
لينظم حركة الإنسان في هذه الحياة، والآخرة هي الجزاء على حسن العمل في الدنيا.
وبعد أن وعدهم - سبحانه - بالجنة جزاءً للإيمان يمد لهم الأسباب في الدنيا رخاءً
وسعة وترفاً وسعادة. ونجد من يسأل: وكيف يأكلون من فوقهم؟ ونقول: إن الأكل هو
المظهر الأساسي لحياة الإنسان؛ لأن كل حركة يصنعها الإنسان هي فرع عن وجود حياته.
ووجود حياة الإنسان يتوقف على ثلاثة عناصر مهمة هي الأكل والشرب والتنفس. فإذا ما
أردنا استبقاء الحياة والتناسل فلا بد من توفير لهذه المصادر الثلاثة.
إننا عندما ننظر إلى ترتيب الثلاثة في الأهمية نجد أن الإنسان قد يصبر على الطعام
شهراً. وقد يصبر على الماء مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام، أما التنفس
فلا يطيق الإنسان ألا يجد الهواء لمدة دقائق.
ومن رأفة الحق بالخلق أن جعل الحيازة لهذه الأنواع المقومة لاستبقاء الحياة تترتب
حسب أهميتها.
لذلك نرى من يملك على إنسان آخر طعامه ويتحكم فيه، لكن الحق يجعل في جسد الإنسان
ما قد يقيته شهراً. ونرى أن الحيازة في الماء أقل من الحيازة في الطعام؛ لذلك لم
يُمَلِّكْهَا الحق إلا نادراً؛ ذلك أن الإنسان لا يطيق الصبر على العطش إلا لمدة
تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام. وأما الهواء فلم يجعله الحق ملكاً لأحد على
الإطلاق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عنه إلا بمقدار الشهيق والزفير، ولا
يستطيع الإنسان أن يدخره في حجم رئتيه؛ لذلك لم يأمن الحق أحداً من الخلق على
ملكية الهواء.
وقوله الحق: } لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم { مقصود به أن
الاستقامة في تطبيق منهج الله تُخْضِعُ الأسباب الكونية لهم، أما إذا ما تمرد
الإنسان على منهج الله فقد يعطيه الله زهرة الحياة الدنيا ثم يأخذه أخذ عزيز
مقتدر، فالنواميس الكونية لم تنعزل عن يد الحق.
لذلك يخاطب - سبحانه - الخلق خطاباً، فإن انفعلوا للخطاب، يسرَّ لهم كل ما سخره
لهم في الكون. وإن لم ينفعلوا فهو ممسك الأسباب ويمكنه أن يخرق قوانينها، فلا
الأرض ولا الهواء ولا أي شيء خرج عن طاعة الله، فإذا ما تمردت جماعة على نعم الله
أو على الله فسبحانه يجعلهم نكالاً لغيرهم ويقبض عنهم الأسباب.
والإنسان سيد هذه الكائنات في هذا الكون، وهو منفعل - أيضاً - بقدرة ربه وقد يمرض،
وقد يموت، وقد ينكسر، وقد يغرق، فإذا كان الإنسان وهو المنفعل بـ " كن "
من ربع فكيف حال الأشياء الأدنى منه؟ إنها أيضاً منصاعة بـ " كن ".
والحق قادر أن يقول للأرض: كوني جدباً، وهو القادر على أن يوقف المطر لأنه هو
سبحانه الذي يجعل الأشياء تسير سيراً رتيباً. ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في خطابه
لكل خلقه عن الأرض: } بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىا لَهَا {. فإذا كان الحق قد أوحى
للأرض لتبرز الكنوز أو تحدث الزلازل، فما بالنا بكل شيء آخر؟. إن كل شيء إنما يسير
بأمر الله، ذلك أن كل شيء يسبح بحمد الله، ولكن الإنسان لا يفقه لغات غيره من
الكائنات: } لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمًْ {.
وخطاب الله لكل خلقه يفهمه المنفعل له من أي جنس من أجناس الوجود، ولو علمك الله
هذا الانفعال، لسمعت لغة الكائنات الأخرى. مثال ذلك سيدنا سليمان عليه السلام الذي
سمع قول نملة لبقية النمل:{ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ }[النمل: 18].
وماذا قال سليمان بعد ذلك؟.
قال سليمان:{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ }[النمل: 19].
وهو سبحانه القائل:{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ
وَالطَّيْرَ }[الأنبياء: 79].
والهدهد قال في القرآن:{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }
[النمل: 25].
إذن فكل كائن في الوجود يعرف قضية الإيمان وقضية التوحيد. وكل من في الوجود ينفعل
لربه. وهكذا كل الأشياء التي تحفظ للإنسان حياته أو نوعه. فماذا عن حال من يتمرد
على الله؟. إنه سبحانه قد يقول للأسباب: انقبضي عنه. ونرى ذلك في حال بعض البلاد
على ألوان مختلفة، فالبلاد التي تقع في منطقة يعرف عنها أنها دائمة المطر، يخرق
الله طبيعة البيئة فتصير إلى جفاف، وغيرها التي تستطيع أن تصل إلى الفضاء الخارجي.
لا تقدر على مواجهة إعصار، وذلك ليتأكد لنا أن يد المكوّن - سبحانه - فوق أسباب
الكون.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ
وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ
وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم { أي أن يأتي الخير من كل ناحية. فإذا كان يراد بالأكل
المباشر، فالمطر هو الذي ينزل من أعلى يروي الأرض فيخرج الزرع، وكذلك النخل يعلونا
ويأتينا بالتمر، وكذلك أشجار الفاكهة من برتقال وتفاح وغير ذلك. أما ما تحت
الأقدام فهي الخضراوات، والفواكه التي تنمو دون أن يكون لأي منها ساق على الأرض
كالبطيخ والشمام وغير ذلك.
ولنا في سقوط الفاكهة من على أشجارها العالية بعد تمام النضج الحكمة البالغة،
فالرزق الذي طاب وإن لم تسع إليه يأت إليك تحت قدمك.
وإن توسعنا في فهم قوله الحق: } لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ
أَرْجُلِهِم {. فلله أسرار فوق الأسرار، وله فيما تحت الأرض أسرار. ألا نأخذ كل
شيء يعيننا على الحياة من طبيعة الأرض سواء أكان حديداً أم نحاساً أم بترولاً؟.
وهكذا نجد أن كل شيء في الوجود يخدم بقاء نوع الإنسان أو استبقاء حياته هو من عطاء
الله.
إذن فلو أن أهل الكتاب أقاموا التوارة والإنجيل والقرآن وساروا على المنهج لوهبهم
الله كل خير. ويؤكدالحق هذا المعنى في آية أخرى فيقول: } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَىا آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَآءِ وَالأَرْضِ {.
ونرى أن الحق قد أفاء على بعض الناس من النعمة الشيء الواسع والكثير ومن بعد ذلك
يطغى أهلها بالنعمة فيمهلهم ربنا إلى أن يعلو أمرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وحياتنا المعاصرة خير شاهد على ذلك؟ فكل بلد أخذت نعمة الله لتحاج بها الله وتكون
ضد منهج الله نجدها تبوء بالفساد. ويأتي بأس أهلها فيما بينهم شديداً ويخربون
بيوتهم بأيديهم. وكم من بلاد كانت متعة الناس أن يذهبوا إليها للترف أو الانفلات
ثم يأتي بأس أهلها بينهم وتخرب بأيدي أبنائها. وفي واقع الكون ما يؤيد صدق ذلك،
وكأن الحق يقول لنا: اعتبروا يا أولي الأبصار.
ويقول سبحانه:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ }
[النحل: 112].
والمراد بالقرية ليس قرية الريف التي نتعارف عليها اليوم؛ لأن القرية في عرف
العربي القديم هي المكان الذي يقابل العاصمة. وكانت البيئة العربية قديماً بيئة
" التبدّي " أي أنهم يقيمون في البادية وينتقلون من مكان إلى مكان، ولم
يكونوا متوطنين في مكان واحد. وكانت عاصمة البدو هي القرية التي تتكون من عدد صغير
من البيوت. ولذلك يسمي القرآن الكريم " مكة " بأم القرى. ويضرب الله
مثلاً بالقرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها واسعا من كل مكان، أي أن خيرها
ليس ذاتياً ولا نابعاً منها ولكن يأتيها من كل مكان. وفي العصر الذي نعيشه نجد أن خير
الدنيا يصب في قلب بعض القرى، وما أن يكفر أهل القرية بأنعم الله فما الذي يحدث؟{
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ }[النحل: 112].
وهذا واقع نراه في كثير من البلاد التي أخذت نعمة الله فبدلتها كفراً فأحلوا قومهم
دار البوار. ويرينا سبحانه القرى التي يلبسها الحق لباس الجوع والخوف. وعندما ننظر
إلى قول الحق: " لباس " نرى أن الجوع له لذعة، واللباس له شمول ويلفهم
الجوع كما يلفهم الثوب، وكذلك الخوف فتصير كل جارحة فيهم خائفة: أي أن الحق سلط
عليهم الجوع فلا يجدون موادّ الاقتيات. وكذلك الخوف يأتيهم فإما أن يكون الخوف
بسبب بأسهم فيما بينهم لأن عداوة بعضهم بعضاً شديدة، وإما أن يكون الخوف من عدو
خارج عنهم. وهذا واقع معاصر.
وكيف يكون الكفر بنعم الله؟ الكفر بنعم الله إما أن يكون بمعنى ستر النعمة.
واستعمالها في معاصي الله، ومثله مثل الكفر بالله أي ستر وجود الله، وقد يكون
الكفر بنعمة الله بالتكاسل عن استنباط النعمة من مظانها. وفساد العالم الآن يأتي
من أناس كُسالى عن استنباط نعم الله المطمورة في كونه، وأناس يجدّون في استنباط
نعم ويحبسونها لأنفسهم ولا يعطون منها الضعاف، ويستخدمون النعمة في المعاصي.
إذن فقوله الحق:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىا آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَلَـاكِن كَذَّبُواْ
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[الأعراف: 96].
وقوله الحق: } وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ
أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ
أَرْجُلِهِم {. هم حكم عام؛ فهل وُجِدَ من يؤديه؟. نعم؛ هناك أناس منهم عرفوا ذلك
وساروا إلى السبيل المستقيم، وعن هؤلاء يقول سبحانه: } مِّنْهُمْ أُمَّةٌ
مُّقْتَصِدَةٌ {. أي منهم أمة تسير إلى أغراضها وإلى غايتها على الطريق المستقيم.
وهذه إشارة إلى أن بعضاً من أهل الكتاب يفعل ذلك، والبعض الآخر لا يفعل، وهذا
القول أشار أيضاً إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يُخلى وجوده وكونه من خلية خير
فيه، وقد تكون خلية الخير هذه من أضعف الناس الذين لا شوكة لهم في الدنيا ولا جاه
ولا قوة.
ولولا هؤلاء الناس لهدَّ الله الأرض ومن عليها. ويوضح الرسول صلى الله عليه وسلم
هذا الأمر بقوله: " لولا عباد لله رُّكع، وصبية رضع، وبهائم رُتّع لصُبّ
عليكم العذاب صبا ثم رُصَّ رَصّا ".
كأننا مكرمون في هذا العالم من أجل الضعاف فينا. وكأن الحق لا يحجب الخير عن كونه،
بل يجعل في الكون ذرات استبقاء للخير. ولذلك نجد من يقول: إذا بالغ الناس في
الإلحاد زاد الله في المد. وقد تجد بلداً كلها من الملاحدة، وتجد فيها عبداً
واحداً متبتلاً لربه، ويكون هذا الرجل هو الذي يستبقي الله من أجله هواء تلك
البلدة وماءها. ولذلك قال سبحانه: } مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ
مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ {.
ويقول الحق من بعد ذلك: } يَـاأَيُّهَا الرَّسُولُ... {
(/728)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
تبدأ الآية بخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عظمة رسولنا المصطفى عليه
الصلاة والسلام وعلو مكانته عند من اصطفاه خاتماً لرسالاته في الأرض أن الله ذكر
الرسل في خطابه لهم بنداء أسمائهم فقط كقوله الحق:{ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ
بِأَسْمَآئِهِمْ }[البقرة: 33].
أو قوله الحق:{ يامُوسَىا إِنِّي أَنَا اللَّهُ }[القصص: 30].
أو قوله الحق:{ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ }[المائدة: 116].
أو قوله الحق:{ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ }[هود: 48].
فسبحانه ينادي كل رسول له بالاسم المشخص للذات بصرف النظر عن أي صفة، لكن رسول
الله لم يُناد باسمه أبداً بل ناداه الحق بالمشخص للوصف: " يا أيها الرسول
". أو قوله الحق: " يا أيها النبي ".
فكأنك يا رسول الله قد اجتمعت فيك كل مسائل الرسالة لأنك صاحب الدين الذي سينتهي
العالم عنده ولا يكون بعد ذلك لله في الأرض رسالة إلا فهم يؤتيه الله لأحد في كتاب
الله.
ومن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أقسم بحياته، على الرغم من أن الحق لا
يقسم بحياة أحد من البشر إلا رسوله، فقد أقسم بحياته. وهو سبحانه يقسم بما يشاء
على ما يشاء، أقسم بالريح والضحى والليل والملائكة، لكنه ما حلف بحياة بشر أبداً
إلا حياة محمد صلى الله عليه وسلم.{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ }[الحجر: 72].
أي وحياتك يا محمد هم في سكرتهم يعمهون أي يترددون حيارى. ويقول الحق هنا مخاطباً
الرسول: " يا أيها الرسول ". وما دام محمد هو الرسول الخاتم الذي جاء
مصدقاً لما بين أيديهم من الكتب، فمعنى هذا أن كل خير في أي كتاب سبق القرآن موجود
في القرآن وفيه أيضاً زيادة مما تتطلبه مصالح الحياة المستجدة. وما دام الخطاب
للرسول فهذا يعني أنه رسول مرسل من قبل الله بمنهج لخلقه ليبلغه لهم: { بَلِّغْ
مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }. وكيف يقول الحق لرسوله: " بلِّغ "
وهو أن يعلم أن مهمة الرسول هي البلاغ؟
لقد أراد سبحانه بذلك إخبار الناس أنه إن أبلغهم بما يكره بعضهم فهو يبلغ التزاماً
بأمر الله، فهو لا يقول من عنده، ذلك أن الرسول عليه البلاغ، فإن أبلغ أحداً ما
يكدره فليس له مصلحة في ذلك. ويورد سبحانه ذلك حتى إذا بَلَّغ الرسول حكماً من
الأحكام فعليهم أن يستقبلوا الحكم على أساس أنه قادم من الله وسبحانه يعلم أن
رسوله لا يكتم البلاغ ولكن ليجعل لرسوله العذر عند البشر، فهو سبحانه حين يخاطبهم
بشيء قد يكرهونه، فهو بلاغ من الله: { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }. أي أنه إن لم يفعل ولو في
جزئية يسيرة من المنهج فهذا معناه أن البلاغ ناقص والله يريد أن يكون البلاغ
كاملاً بالدين المتكامل.
إن التركيبة الإيمانية تقتضي أن يأتي القول بهذه الطريقة حتى ينسجم البلاغ بشكل
كامل؛ فقد نزل المنهج بكليته، ويجب أن يُطبق بكليته من أجل أن ينصلح الكون وحتى لا
تفسد حركة الإنسان في الكون، فقد أنزل سبحانه المنهج وأحكمه ليسير العالم على حسب
تصميمه له دون أن يختل. ولذلك يقول الحق: } وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ {. وبذلك يعطي الحق رسوله المناعة الكاملة. فلم يأت برسالة محمد صلى
الله عليه وسلم إلا لخير الناس.
لقد سبق أنَ خلق الله آدم وأعطاه المنهج. وكان على آدم أن يبلغ المنهج إلى الذرية
وقد فعل، لكنَّ بعضاً من أجيال بني آدم غفلت عن المنهج؛ فيبعث الحق الرسل لتذكر
بالمنهج. ولا يأتي رسول إلا بعد أن يكون الفساد قد فشا وانتشر بين الناس. وقد جعل
الله في النفس الإنسانية نفساً لوامة، ونفساً تأمر بالسوء، ونفساً مطمئنة.
إن مهمة النفس اللوامة هي أن ترد على كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء. لكن إن
لم تلم النفس اللوامة، فالنفس الآمرة بالسوء تتمادى ولا يردعها رادع. أما النفس
المطمئنة فهي النفس التي تطمئن إلى منهج الله. ومثال ذلك الإنسان الذي تلح عليه
شهوته لارتكاب معصية ما فيرتكبها، ومن بعد ذلك يندم ويلوم نفسه، ويتوب عن المعصية،
هذا الإنسان يردع نفسه ذاتياً. لكن إن سيطرت النفس الأمارة بالسوء فلا رادع.
وماذا إذا ساد الفساد بين عموم الناس؟ وماذا لو لم يتناهَوْا عن المنكر الذي
يفعلونه؟ هنا لا بد أن يرسل الحق رسولاً بمعجزة جديدة ليأخذ العالم إلى منطق
الرشاد ومنهج الحق.
ولا يختار الحق الرسول إلا إذا علم الرسول أنه مبلغ عن الله. وسبحانه في الآية
التي نحن بصددها يعطي رسوله المعذرة إن بلغ قومه شيئاً يسؤوهم، فما على الرسول إلا
البلاغ في قوله: } وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ {. ونعرف أن
الرسالة تقتضي: المرسِل وهو الله، والمرِسَلَ إليهم وهم الخلق، ومرسَلاً وهو النبي
صلى الله عليه وسلم والمرسَل به وهو ما نزل على الرسول ليبلغه. وفي كل أمر مثل هذا
نجد أن كلمة " أرسل " تتعدى إلى مفعولين؛ المرسَل: مثال ذلك أرسلت
فلاناً إلى فلان، والمرسل إليه: وهو فلان. إذن فهنا مفعولان اثنان، أولهما تعدى
الفعل إليه بذاته والآخر تعدى إليه الفعل بحرف الجر.
وحرف الجر هنا هو: " إلى ". وبطبيعة الحال يعرف الرسول أنه مرسَل إلى
الناس من الله رعاية لمصالحهم؛ فليس في أمر الرسالة شيء لصالح الله. وإن رأيت
تعدياً بـ " إلى " فهو لتحديد الغاية المرسل إليها، مثل قوله الحق:
{ وَرَسُولاً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ }[آل عمران: 49].
وهذا يوضح أن عيسى - عليه السلام - جاء مبعوثاً بمنهج إلى بني إسرائيل لصالح بني
إسرائيل. ومثلما يقول الحق: } وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً {. أي لصالح
الناس. و " اللام " هنا تفيد المعنيين؛ النفعية والغاية.
} بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ { أي أنه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ الرسالة كاملة
فمعنى ذلك أن البلاغ يكون ناقصاً. ومعاذ الله أن يكون بلاغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد أنقص شيئاً، فمنهج الله كل متكامل.
وقد يقول قائل: ولكن الناس قد لا تؤدي فروض الله في مواعيدها، والمثال على ذلك هو
الصلاة. ونقول: إن هذا عجز في إدارة الناس لحياتهم حسب منهج الله. ومن واجب
المجتمعات أن تنظم حركة الناس اليومية من بعد صلاة الفجر إلى الظهر. وفي ذلك قدر
هائل من الحيوية والنشاط، وينتهي العمل عند الظهر، فلا تتصادم حركة الناس مع منهج
الله، ولا توجد عرقلة ولا نشاز في حركتهم.
ثم يقول الحق: } وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {. وكان لا بد أن يأتي هذا
القول الحكيم؛ لأننا نعرف أن الرسول لا يجيء إلا بعد أن يعم الشر ويسود الفساد،
ذلك أنه لو لم يسد الفساد، ولم يعم الشر لا كتفى الله بالمجتمع ليردع بعضه بعضاً،
أو يكتفي الحق بأن تردع النفسُ اللوّامةُ النفسَ الأمارةَ بالسوء لتستوي النفس
المطمئنة على عرش السلوك البشري.
لكن عندما يعم الفساد الكونَ. فالسماء ترسل الرسول بمنهج يصلح حال البشرية.
وبطبيعة الحال لن يترك المجتمعُ الشريرُ الرسولَ لحاله بل يقاومه؛ لأن مثل هذا
المجتمع يريد أن تكون كفة الكون غير متوازنة؛ لأن هناك منتفعين بالفساد والشر، وهم
المدافعون عن الفساد، فإن جاء من ينصف الضعفاء والمظلومين فلا بد أن يتعرض للمتاعب
التي تأتيه من قبل الأقوياء المفسدين.
إن هذه المتاعب تبدأ أول ما تبدأ في النفس؛ ولأن الرسول مخاطب من الله فيمكنه أن
يتحملها لأن الحق قد أعده لهذه المهمة، ومثل تلك المتاعب تأتي أيضاً للأتباع، لذلك
يمدهم الله بالمدد الذي يجعلهم يتحملونها. والحق يحفظ للرسول ذاته على الرغم من كل
ما يحدث: } وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {.
فكأن الحق يقول لرسوله: اطمئن يا محمد؛ لأن من أرسلك هداية للناس لن يخلي بينك
وبين الناس. ولن يجرؤ أحد أن ينهي حياتك. ولكني سأمكنك من الحياة إلى أن تكمل
رسالتك. وإياك أن يدخل في رُوعك أن الناس يقدرون عليك، صحيح أنك قد تتألم، وقد
تعاني من أعراض التعب في أثناء الدعوة، ولكن هناك حماية إلهية لك. ونحن نعلم قدر
المتاعب التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم. ألم تكسر رباعيته صلى الله عليه
وسلم في غزوة أحد؟ ألم يشج وجهه؟ ألم تدم أصبعه فيقول:
" إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت ".
لكن قول الحق سبحانه لرسوله: } وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ { لم يكن
المقصود هو منع الجهاد في سبيل الله والمعاناة في سبيل نشر الدعوة. ولكن الحق يبين
لرسوله: إن أحداً غير قادر على أن يأخذ حياتك.
ولم يمنع سبحانه المتاعب عن رسوله الكريم حتى لا يكون هناك أحد الداعين إلى الله
لا يتحمل من الآلام أكثر مما تحمل رسوله صلى الله عليه وسلم، ولننظر ونستمع جيداً
إلى " ما ترويه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - حول هذه الآية إنها
قالت:
سهر رسول الله ذات ليلة وأنا إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال: (ليت
رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة)، فقالت: وبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت
سلاح فقال صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك. فنام صلى
الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم رأسه من قُبّة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله ".
وهناك باحثة بلجيكية عكفت على دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلت
إلى هذه النقطة، فتوقفت عندها لتقول: لو كان هذا الرجل يخدع الناس جميعاً ما خدع
نفسه في حياته، ولو لم يكن واثقاً من أن الله يحرسه لما فعل ذلك كتجربة واقعية تدل
على ثقته في خالقه. وأضافت الباحثة البلجيكية: ولذلك أنا أقول بملء اليقين: "
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ". لقد أسلمت المرأة لمجرد
وقوفها عند لمحة واحدة من لمحات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق من بعد ذلك: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {.
ونعرف أن الهداية تعني الدلالة الموصلة إلى الغاية، وهي أيضاً المعونة التي توصل
طالب الهداية إلى الغاية. وكان الكفار الذين يبيتون للرسول وينهكون أنفسهم في
المكر والتفكير والتبييت، فيقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم كل سبيل، وينصره عليهم،
ويأتي التطبيق العملي لنصر الله للمؤمنين في بدر:{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ }[البقرة: 249].
لقد بيتوا، ولكن عند المواجهة لم يقدروا على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ولم
يستطعوا إيذاءه، برغم المكر والتبييت؛ لأن الحق قطع عليهم كل سبيل لإيذاء محمد،
ولن توجد وسيلة من وسائل اللؤم والخبث قادرة على قتل رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وقد تمثل ذلك يوم خرج رسول الله مهاجراً وغطى الله أبصار فتيان القبائل
الذين حملوا سيوفهم ليقتلوا محمداً وليفرق دمُه بين القبائل فلم يبصروه لأن الله
جعل على أبصارهم غشاوة.
إذن فكلما فكروا في طريقة سد الله عليهم منافذ تنفيذ فكرتهم. وكأنه يقول لهم: لن
تستطيعوا مصادمة محمد في منهجه لا بالعلن ولا بالدس ولا بالخفية، بل أنتم - أيها
الكفار - تخدمون الدعوة من حيث تريدون هدمها، فقيامكم ضد محمد في بداية الدعوة كان
لإثبات أن الحق جل وعلا أراد أن يشتد عود الدعوة بكفر أهل قريش. وعندما أردتم قتل
محمد وأن يتفرق دمه بين القبائل خرج محمد سالماً وأغشى الله أبصار الذين أرادوا
القتل. وهاجر صلى الله عليه وسلم. وفي الطريق إلى الهجرة يكون دليله من الكفار وهو
عبدالله بن أريقط. كان ذلك لنعلم أن الكفر كان وسيلة الهداية إلى طريق رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
عبدالله بن أريقط وهو كافر لا تغريه المكافأة أن يشى ويسعى بالرسول لدى مشركي مكة.
ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة. وكذلك الغنم تُعفَّى الأثر، والأرض تشد قوائم
فرس سراقة لتغوص وتسوخ فيها.
إذن فكل جنود الله في صف محمد بن عبدالله. وهكذا رأينا كيف لم يهد الحق القوم
الكافرين إلى الغاية التي أرادوها وهي التمكن من محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضاً
لا يهديهم الله إلى الإيمان. ويقول الحق من بعد ذلك: } قُلْ يَـاأَهْلَ
الْكِتَابِ... {.
(/729)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
و " قل " - كما نعرف - هي خطاب له صلى الله عليه وسلم، وما يلي ذلك بلاغ
من الله لأهل الكتاب إنهم بلا منهج لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل بل حرفوهما،
ولم يؤمنوا بالقرآن، وهو المنهج الكامل المنزل على محمد بن عبدالله.
وحين يقول الحق: { لَسْتُمْ عَلَىا شَيْءٍ } فكلمة " شيء " تقال لأدنى
فرد من أي جنس، فالقشة شيء، وورقة الشجرة شيء، وما يطلق عليه شيء - إذن - هو
الأقل.
وقوله الحق: { لَسْتُمْ عَلَىا شَيْءٍ } أي إياكم أن تظنوا أنكم حين تقومون بتنفيذ
جزء من تعاليم التوارة والإنجيل وتخفون الباقي وتهملونه تكونون قد أخذتم شيئاً من
الهداية، لا؛ فأنتم لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وتؤمنوا بالكتاب
الذي أنزل على محمد، والمنهج ليس عرضة لأن تأخذوا منه ما يعجبكم وأن تتركوا ما لا
يعبجكم.
وعندما يقال: { لَسْتُمْ عَلَىا شَيْءٍ }. ونعرف أن الشيء هو أقل مرتبة في الوجود،
ولذلك نقول: شيء خير من لا شيء. ويقال بالعامية: هاش خير من لاش و " هاش
" هو الهالك من ثياب المنزل الممزقة، أي أن الذي يملك ملابس ممزقة أفضل ممن
لا يملك شيئاً على الإطلاق.
وقوله الحق: { لَسْتُمْ عَلَىا شَيْءٍ حَتَّىا تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ
وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } هو إيضاح لهم أنهم في
المرتبة الأدنى من الكائنات لأنهم بلا منهج. ويضيف: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً
مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي أنهم لن
يظلوا على درجة واحدة ثابتة من الطغيان والكفر، بل كلما أنزل الحق إليك آية يا
محمد، وكلما نصرك الله في أمر ازدادوا هم طيغاناً وكفراً. وكان من المفروض أن
زيادة نزول الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون إضعافاً لتشددهم وترقيقا
لقلوبهم، لكنه سبحانه أراد أن تشتد شراستهم ووحقدهم في أمر الاعتراف بالإسلام.
وقد حدث من خالد بن الوليد وكان فارس الجاهلية ضد الإسلام أن قال لعمرو ابن العاص:
لقد استقر الأمر لمحمد. واتجه الاثنان إلى الإسلام على الرغم من أن كلا منهما يعرف
قوته ومكانته بين قومه. وبعد أن رأى خالد وعمرو أن الخيبة هي نصيب الواقف ضد محمد
مهما علا شأنه. ذهبا إلى الإسلام، وهذا هو موقف المتدبر للأمر دون حقد ولَدَد. أما
الذي يزدحم بالمعاناة حقداً ولدداً فتزيده آيات الله لنصرة منهجه حقداً ولدداً
وطيغاناً؛ لأن الله شاء ألا يهديهم. ولذلك تصير كل آية في صف الإيمان والمؤمنين
مصدرَ إثارةٍ وغيظ ومرارة في نفوس أهل الكفر. وهكذا يوطن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمره تجاه هؤلاء الكفار.
إنك يا رسول الله لا تواجه طاقة محدودة ولكنك تواجه طاقة من الشر النامي.
وكل آية إنما تهدي الذي في أعماقه بذرة من خير، أما الذي ينتفي الخير من داخله
فالمسألة تزيده سراشة في قلبه. إن الشرير يُصَعِّد الشر ويزداد جُرمه وإثمه، أما
الخير فينزل من قِمّةِ الجرم إلى أقل درجة. ولنا المثل في قصة سيدنا يوسف عليه
السلام، فالحق يقول على لسان أخوة يوسف:{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[يوسف:
8].
ومن بعد ذلك قالوا لأبيهم: } مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىا يُوسُفَ {. ثم أخذوا
في التبييت والتدبير وقالوا: } أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ {.
وكان أول التدبير لهم هو ما قاله الحق حكاية عنهم: } اقْتُلُواْ يُوسُفَ {.
ومعنى القتل هو إزهاق الروح. وهذه أعلى درجات الشر، لكنهم يتراجعون عنها ويقولون:
} أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً {. فهم لم يرغبوا في قتله، واكتفوا بأن يتركوه في مكان
بعيد، وتصوروا أن بعض السيارة قد يلتقطه فيبعدون يوسف عن أبيه. إذن هم بدأوا
التدبير قتلاً، ثم انتهوا بالتفكير لنجاة يوسف:{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ }[يوسف: 9].
والمرحلة الثالثة قولهم: } وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ { والجب فيه مياه،
وهناك أناس كثيرون يذهبون إلى مصادر المياه. هكذا يورد الحق لنا كيفية نمو الخير
من بطن الكيد.
إذن، فقوله الحق: } وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً { أي أن الكثير منهم سيواصل رحلة التصعيد في الشر،
فوطن نفسك يا محمد على ذلك.
ونلحظ أن الحق قد وضع صيانة لاحتمال أن تفكر قلة منهم في الإيمان، لذلك لم يشملهم
كلهم بالحكم، ولكن الحكم شمل الكثرة من هؤلاء الكافرين. ولذلك يقول الحق لرسوله: }
فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ { أي لا تحزن عليهم يا رسول الله.
فعلى الرغم من عداوة وشراسة من صادموا دعوته صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم كل تلك
المحاولات، كان لا يكف عن الدعاء لهم: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون
". وكان لا يكف عن القول: " لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله
". وقد تم ذلك بالفعل.
وكان الصحابة بعد الغزوات الأولى يقول كل منهم للآخر: أنا حزين لأن عمراً أفلت مني
ولم أقتله. فيقول الآخر: وأنا حزين لأن عكرمة أفلت مني. ويقول الثالث: وأنا لا
أدري كيف أفلت منا خالد بن الوليد. ولم يمكن الحق الصحابة الأوائل من هؤلاء
المقاتلين الأشاوس لأنه يدخرهم للإسلام ليحملوا السيف للإسلام مدافعين وناشرين
لدعوته. وها هوذا عكرمة بن أبي جهل يتلقى الطعنة الأخيرة في حياته فيضع رأسه على
فخذ خالد بن الوليد ويسأله: أهذه ميتة ترضى عني رسول الله؟ إذن فقد أراد الله من
عدم تمكين المسلمين منهم في أوائل الغزوات أن يكونوا جنداً للإسلام بقدراتهم
القتالية فاستبقاهم أحياء ليخدموا الدعوة. ويقول الحق بعد ذلك: } إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ... {
(/730)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
هم - إذن - أربعة ألوان من الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله. وهذه الآية وردت في
صورتها العامة ثلاث مرات، مرة في سورة البقرة، ومرة هنا في سورة المائدة، ومرة في
سورة الحج.
ففي سورة البقرة يقول الحق:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالنَّصَارَىا وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ }[البقرة: 62].
ولنلحظ أن كلمة " الصابئين " في هذه الآية منصوبة.
وفي سورة المائدة نجد قول الحق: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ
صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة: 69].
ولنلحظ أن كلمة " الصابئون " هنا مرفوعة ومقدمة على كلمة " النصارى
".
وفي آية سورة الحج يقول الحق:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىا وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ }[الحج: 17].
هنا إخبار عن أربعة، وزاد الحق عليهم اثنين في آية الحج، ونجد أن الإخبار يختلف،
وكذلك يختلف الأسلوب، فمرة تتقدم النصارى على الصابئين، ومرة تتقدم الصابئون على
النصارى، ومرة تكون الصابئون مرفوعة، ومرة تكون منصوبة بالياء.
وأما اختلاف الإخبار، فهو سبحانه يخبرنا في سورة البقرة فيقول:{ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 62].
والخبر في سورة المائدة هو: { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ
صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة: 69].
والخبر في سورة الحج هو:{ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }[الحج: 17].
والآيات الثلاث في مجموعها تتعرض لمعنى واحد، ولكن الأساليب مختلفة وكذلك الغايات
فيها مختلفة.
ونلحظ هنا أن الحق قال: " آمنوا " والإيمان هنا هو الإيمان اللفظي أي
بالفم وليس بالقلب، والمتصفون بذلك هم المنافقون والذين هادوا، هم أتباع موسى،
والنصارى هم أتباع عيسى، والصابئون ليسوا أتباعاً لأحد فقد كانوا أتباعاً لنوح ثم
صبأوا عن ديانة نوح وعبدوا الكواكب، أو هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية
وعبدوا الملائكة. والمجوس وهم عبدة النار. إذن الحق يريد أن يجري تصفية إيمانية في
الكون، فمن يبادر ويدخل في هذه التصفية. يسلم من شر ما فعله قبل ما مجيء الإسلام،
ذلك أنهم أضلُّوا أناساً أو حكموا بالظلم.
والحق في سورة البقرة يقول: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أنه -
سبحانه - غفر لهم ما فعلوا من سوء وجزاهم على عملهم الصالح الذي لم يحبطوه ويذهبوه
بعمل السيئات والآثام. هذا ما يتعلق بالآيتين... آية سورة البقرة، وآية سورة
المائدة، ونلاحظ أن آية سورة المائدة لم يرد فيها قوله: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ } ولعل ذلك راجع إلى الاكتفاء بذكرها في سورة البقرة، وذلك له
نظير في القرآن الكريم.
كحمل المطلق على المقيد ونحو ذلك.
أما في آية سورة الحج فهي التي يأتي فيها الحكم: } إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ { كأنهم لن يؤمنوا ولن يعملوا الصالح، فتكون هذه هي
التصفية العقدية في الكون.
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصفي المسألة الإيمانية في الأرض ويقول عن
المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ { وهو ابتداء الخبر،
وتكون فيه " الذين آمنوا " في محل نصب لأنه اسم " إن " كما
يقول النحاة، وهو سبحانه قال هنا: و " الصابئون " وهي معطوفة على منصوب.
وهذا كسر للإعراب. إنّ الإعراب يقتضي أن تكون الكلمة منصوبة فتكون " الصابئين
" لماذا إذن عدل الحق عن إنزال الكلمة حسب سياقها من الإعراب وأنزلها بكسر الإعراب
مع أنه في آية أخرى قال: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالنَّصَارَىا وَالصَّابِئِينَ {.
لقد جاءت هنا في مكانها ودون كسر للإعراب، وهي قد جاءت مرة قبل كلمة "
النصارى " وجاءت مرة أخرى بعد كلمة " النصارى ". وهنا لا بد أن
نتعرف على زمنية الصابئين، فقد كانوا قوماً متقدمين قبل مجيء النصرانية، فإن أردنا
أن نعرف زمانهم نجد القول الحق يقدمهم على النصارى، وإن أردنا أن نعرف منزلتهم
فإننا نقرؤها في موضع آخر من القرآن ونجدهم يأتون بعد " النصارى ". إذن
فعندما أرّخ الحق لزمانهم جاء بهم متقدمين، وعندما أرّخ لكمّهم وعددهم ومقدارهم
يؤخرهم عن النصارى؛ لأنهم أقل عدداً فهم لا يمثلون جمهرة كثيرة كالنصارى.
وجاء بها الحق مرة منصوبة ومرة مرفوعة، لنعرف ونلتفت إليهم. وكسر الإعراب كان
لمقتضى لفت الانتباه. وكان الصابئة قوماً يعبدون الكواكب والملائكة، وهذا لون من الضلال.
إذن فهناك اليهود الذي عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء موسى عليه السلام مبلغاً عنه،
وهناك النصارى الذين عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء عيسى ابن مريم - عليه السلام -
مبلغاً عنه، وهناك المنافقون الذي أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولكن لم يلمس الإيمان
قلوبهم.
وأراد الحق أن يلفتنا إلى أن الصابئين هم قوم خرجوا عن دائرة التسليم بوجود إله
خالق غيب، ويحدثنا الحق أنه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا صالحاً. فالإيمان بالله شرط
أساسي لقبول العمل الصالح والإثابة عليه. وجاء بهم متقدمين على النصارى احتراساً
وتوقيا من مظنة أنه لا يعفو عنهم إن آمنوا وعملوا العمل الصالح.
ونلحظ أنها جاءت أيضاً في معرض جمع الله فيه بينهم وبين من يعبدون أغياراً من دون
الله؛ لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد.
إنه سبحانه وتعالى يتيح لكل إنسان أن يدخل حظيرة الإيمان ويقيم تصفية عقدية يدخل
فيها الكل إلى رحاب الإيمان ويقطعون صلة لهم بالشرك. فلو آمن المنافقون واليهود
والنصارى والصابئون وعملوا الصالحات فلهم الأجر والمثوبة من الله ولا خوف عليهم من
عذاب الآخرة ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وجاء العمل الصالح بعد الإيمان؛
لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح يكون عرضة للسلب والعياذ بالله ولا فائدة فيه،
وسبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح فيأمر كل مؤمن بصالح
العمل حتى يكون لهم الأجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما الذين يصرّون على موقفهم الكفري، فإن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأنه على كل
شيء شهيد. وكلمة " يفصل " تدلنا على أنه سبحانه وتعالى سيصدر الحكم الذي
يبين صاحب الحق من غيره. ونعرف أن الذي يحكم إنما يحكم ببينة. والبينة هي الإقرار،
والإقرار - بلغة القانون - سيد الأدلة. أو الحكم بشهود. أو الحكم باليمين، وهو
سبحانه يفصل بين المواقف المختلفة. والفصل هو القضاء بحكم. وعندما يكون الذي يحكم
هو الذي شهد، فهو العادل. لذلك قال الحق: } إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ {.
ويقول الحق بعد ذلك: } لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ... {
(/731)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، الذي يقتضي الوفاء الشديد. ولا تُوثق العهود إلا
مظنة المخالفة. والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة. فهناك الميثاق الأول عندما كنا
جميعاً في ظهور الآباء.{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ
بَلَىا شَهِدْنَآ }[الأعراف: 172].
أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىا ذالِكُمْ إِصْرِي
قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ
}[آل عمران: 81].
أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة. وفي كل جزئية من جزئيات الدين يؤخذ ميثاق،
فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق. وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه
الميثاق في العقبة، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير، كما يربطه بكل
قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد، وكان اليهود يعتبرون عرب الأوس والخزرج
مجرد همج وخدم يعملون لهم، وأرتأوا السيادة لأنفسهم. وكلما اختلفوا معهم هددوهم
بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلاً.
وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه، فالأوس حالفت بني قريظة.
وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير. وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور
النبي القادم، وذلك ما جعل كلاً من الأوس والخزرج يُسرع إلى التعرف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صلى الله عليه وسلم
إلى الإسلام فآمنوا به صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم
من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك
ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثني عشر رجلاً.
وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق ألا يزني وألا يقتل أولاده وألا
يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصي رسول الله في معروف. وعادوا إلى
المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون
رجلاً وامرأتان هما نسبية بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرة بن عديّ، وكانت
مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد من ذلك إرباك قريش، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لهم:
" " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فأخذ
البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه
أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلْقَة (السلاح) وتكلم
أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا
قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى
قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم
والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ". وبسط
يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه "
وكانت بيعة العقبة ميثاقاً يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به. وقد أوفوا. وهذا
لون من العهود والمواثيق. وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق،
فمعنى ذلك أن هناك عهداً موثقاً مؤكداً: } لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا
لاَ تَهْوَىا أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ {
[المائدة: 70].
وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلاً بالمنهج، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا: هل
المنهج الذي جاء به على هواهم أولا؟. فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو
كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغاً
عن الله وتنفيذاً له في حركة الحياة.
لكنّ بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم
وأول التمرد التكذيب. وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق، ولم يكتفوا
بالتكذيب، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به. ولذلك لا
يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم.
ما هو الهوى أولاً؟. هو من مادة " الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم
ياء ". ونجدها منطوقة مرة هَوى ومرة هواء. ومرة " هوى " بضم الهاء
وكسر الواو وتشديد الياء، وكلها تدل على التغلغل والانحياز. والهوى هو لطف الشيء
في النفس والميل إليه. فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعاً وقد يكون غير
مستحب أو غير مقبول ولا مشروع.
وهل كل الهوى كذلك؟. لا، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير. وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير
الإنسان تبعاً للحق. أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الأوكسجين
ليغذي به الجسم وتسير به الحياة. ولذلك يقول الأثر: وأقبلْت كالنَّفَس المرتَدِّ.
إنه الإقبال الرقيق، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئاً نحبه فإننا نشعر بطعمه، وعندما
نشرب شيئاً نحبه نتذوق طعمه، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئاً نحبه
يكون إحساساً لطيفاً.
وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط، وهو الهُوِىّ من هَوى يهوى - بالكسر للواو -
ولذلك يقال: هُوِىّ الدلو، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر. فأي نوع من
الهوى تقصده الآية؟
يقول الحق: } كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىا أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ { إذن الهوى الذي يُتَحَدّث عنه هنا
هو هوى النفس المجردة عن المنهج، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى
غير طاعة الله. وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها؟ لا؛ لأنه أنزل الرسل
تحمل منهجاً ملخصه " افعل " و " لا تفعل ". وهكذا يمكن أن
يصير المنهج قَيِّماً على خواطر النفس.
لكن ما دام الحق قد أراد أن يكون المنهج قَيِّماً على خواطر النفس، فلماذا أوجد
النفس؟. لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق
والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق. إذن فالغريزة تكون موجودة وقد
خلقها الله لمهمة، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها.
ويقول قائل: ما دام الله قد خلق غريزة الجنس.. فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها؟
ونقول له: اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع، واستخدامها
فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج.
وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على
الحياة بالنهم والتخمة والشره. وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على
الناس، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما ينفع الناس. إذن فكل
غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول: لا. إن
هناك إطاراً يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن
ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر.
ويقال في المثل العربي: " آفة الرأي الهوى " فإذا ما وقف اثنان أمام
القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم
حتى وإن كان له هوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال:{ وَمَا يَنطِقُ
عَنِ الْهَوَىا }[النجم: 3].
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون: ما دام
الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى. ونقول: أنتم لا تحسنون الفهم عن الله
ولا عن رسول الله، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده
الله، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وسلم
كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له، فينطق محمد بالتعديل كما
انزله الله.
ولم يخالف صلى الله عليه وسلم ربه في أي أمر. وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق
فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي
هوى.
وحين قال الحق: } وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىا {. إنما يبلغنا أنه لم يكن عند
محمد حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى، فمعنى الهوى أن
يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن
فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف، فيقول سبحانه:{ عَفَا اللَّهُ
عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ
وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }[التوبة: 43].
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول
الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق:{
ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }[التحريم: 1].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرّم أموراً على نفسه، ولم يحرمها على الناس،
وهنا يوضح له الحق: لا تحرم على نفسك ما أحللتُ لك. إذن هذا أمر لمصلحة الرسول.
وعندما جاء زيد بن حارثة ليخبر بين أن يكون مع رسول الله كعبد له، وأن يكون مع
أهله، آثر زيدٌ رسول الله، فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن جعله في مقام الابن،
وكان التبني معروفاً عند العرب، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد، فلما أراد الله أن
يبطل التبني قال: } ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ {.
وكلمة " أقسط " تعني أعدل، ومعناها أن القسط أيضاً في دائرة العدل.
وعندما يقال: فلان له القسط، أي له العدل. إذن فالقسط أولاً لرسول الله، والأكثر
قسطاً هو حكم الله، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر، ولكن الله يريد لك
الأقسط.
إذن فقوله الحق سبحانه: } وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىا {. هو قول لا يستدرك عليه
من مخالف لمنهج الإسلام، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام: إن الله يصوب لمحمد،
فكيف لا ينطق محمد عن الهوى؟. نقول: وهل تعرف معنى الهوى؟ إن الحكم بالهوى يعني
أنّه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر، إنما جاء على
لسان رسول الله نفسه. وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله.
والحق يقول عن بني إسرائيل: } كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىا
أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ { إذن فهم فريقان: منهم
من لا يقبل عن الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب. ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد
وشدة الخصومة على الرسول، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين، فيحاول أن يقتل
الرسول.
والتكذيب هو أول نقطة في اللدد، ثم هناك من يترقى في اللدد ويخشى أن يصل البلاغ
إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول. والتكذيب هو إنكار لقول أو فعل. أما القتل
فهو إزالة لأصل الحياة. والذي يقتل هو الأكثر لدداً.
وتتجلى دقة القرآن حين يأتي الحق بصيغة الماضي، لفئة وصيغة المضارع لفئة أخرى: }
فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ { لأن التكذيب هو تأب من المكذِّب،
أما القتل فهو تأبٍ على وجود الرسول من الذين يكذبون. والأبشع هو القتل؛ لأنه
إزالة لكل أثر من آثار وجود المقتول. وجاء التكذيب في صيغة الماضي. وجاء في المسألة
البشعة بصيغة المضارع.
فالحدث حين يكون بشعاً فهو يبرد بعد مرور فترة من الزمن. وهذا ما يجعل المجتمع
يثور عندما تحدث جريمة بشعة، ولكن ما إن تمر عليها عشر سنوات ويصدر الحكم بقتل
المجرم لا ينفعل الناس، بل منهم من يتعاطف مع المجرم. ولذلك يحذرنا الحق أن ننسخ من
الأذهان صورة قتلهم للرسل، بل يجب أن نستحضر بشاعته دائما فلا نعطف على الذين
قتلوا الرسل، وقد قال علماء العربية: إن التعبير بالفعل المضارع يكون لاستحضار
صورة الفعل.
وساعة يأمر القاضي العادل بالقصاص من إنسان قتل إنساناً آخر، فهو لا يجعل القتل
حدثاً منسياً لأنه ماضٍ، بل يستحضره في ذهنه وكأن دمه ما زال ينزف ومكان الطعنة
واضحاً؛ لأنه لا يأخذ شيئاً مستوراً بالماضي، بل يأخذ شيئاً واقعاً في الحال. وكأن
الحق يأمرنا باستحضار صورة ما حدث أمامنا. ومثال آخر لاستحضار الصورة: نجد الحق
يقول لنا:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً }[الحج: 63].
إنه أنزل الماء، لكنه يتبع ذلك:{ فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً }[الحج: 63].
هو سبحانه يستخدم الفعل المضارع لتظل الصورة في أذهاننا مستحضرة في الحال وفي
الاستقبال. والحق يقول: } فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ { وكيف يقول
الحق: إنهم يقتلون الرسل، والرسل لا تقتل، وأنه سبحانه يريد أن يجعل لهم من العمر
ما يمكنهم من تمام البلاغ عنه، إن الأنبياء فقط هو الذين يجوز عليهم القتل؟ ونقول:
إن الأنبياء رسل أيضاً بدليل أن الحق قال:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ }[الحج: 52].
إن كليهما مرسل، والفرق أن الرسول يصحب وينزل معه منهجه، والنبي مرسل كنموذج هداية
بمنهج قد سبق. ويقول الحق من بعد ذلك: } وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ... {
(/732)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
" وحسب " إن كانت بفتح الحاء وكسر العين فمعناها الظن، وإن كانت بفتح
الحاء وفتح السين فبمعنى " عد " ، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء.
والذين أخذ الله عليهم الله الميثاق وهم - بنو إسرائيل - ظنوا أن تكذيب الرسل
وقتلهم لا يكون فتنة. ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين، وقد رجحوا ألا تكون فتنة.
والأصل في الفتنة - كما نعرف - هي الاختبار، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألاّ
ينجح. فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختباراً؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي
وقعوا فيه عندما قالوا:{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }[المائدة: 18].
والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا:{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً
مَّعْدُودَةً }[البقرة: 80].
لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر. وكان
هذا ظناً خاطئاً. إن المنهج لم يأت لينجي أناساً بذواتهم مهما فعلوا، ولكن المنهج
جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل. ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا
بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العد والحساب، فالحساب
هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه. ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم
فهو يقول: لك كذا وعليك كذا. لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب.
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق: { وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ
} أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه وأنهم غير محاسبين عليه. ونعرف أن "
أَنْ " تنصب الفعل. وقال لي سائل: لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها {
وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ }.
وقلت له: إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم: " أبو عمرو
" و " حمزة " و " الكسائي " ، وكان لكل منهم أسلوب
متميز. وعندما نعلم أن " أنْ " تنصب الفعل لا بد أن يكون الفعل الذي
يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين، " فأن " بعد العلم لا تنصب،
كقوله الحق:{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىا وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الأَرْضِ }[المزمل: 20].
وألفية ابن مالك تقول: (وبلن انصبه وكي كذابِأَنْ لا بعد علم). أما " أن
" التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يُرفع الفعل بعدها، فالذي
رجح وجود الفعل وأدركه إدراكاً راجحا يرفع، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح
ينصب، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة. فقد بنوا الأمر على أنَّ الرجحان
يقرب من اليقين. وما دام قد حدث ذلك تكون " أَنْ " هنا هي " أن
" المؤكدة، لا " أن " الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة
فأصلها أنّ.
} وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ {. وتأتي " فتنة " بالرفع لأنها
اسم تكون. و " تكون " من " كان.
و " كان " لها اسم مرفوع وخبر منصوب. وهي هنا ليس لها خبر؛ لأنها مِن
" كان التامة ". فهناك " كان الناقصة " وهناك " كان
التامة ". ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن، مثلما نقرأ قوله الحق:{ وَإِن
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىا مَيْسَرَةٍ.. }[البقرة: 280].
و " كان " فعل ماضي، و " ذو عسرة " اسم كان التامة؛ لذلك لا
خبر لها؛ لأن المقصود هو القول: وإن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. ولا بد لنا أن
نعرف ما معنى " تام " وما معنى " ناقص "؟ نعلم أن كل لفظ ننطق
به ويدور حول أمرين اثنين، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإمّا لفظ مستعمل. والمستعمل
هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم، فإن كان لا دخل للزمن
فيه فهو الاسم ككلمة " أرض " و " شمس " و " قمر ".
وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر " في " مثلاً. صحيح أنه يدل على
شيء في شيء؛ ولكنه لا يستقل بالفهم؛ لذلك لا بد أن ينضم لشيء، كقولنا: الماء في
الكوب أو قولنا: التلميذ في الفصل. فإذا كان للفظ معنى ومستقل بالفهم، والزمن له
دخل فيه فهو الفعل.
مثال ذلك قولنا: السماء. إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل.
إذن فالزمن لا دخل له بها، وكلمة: كلُوا نجدها تأتي من الأكل، وهي معنى مستقل
بالفهم والزمن جزء منه. ولفظ " في " يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلا
بد من أن ينضم لشيء آخر.
إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل، فإن كان
مستقلاً بالفهم فإننا نسأل: هل الزمن جزء منه؟ وفي هذه الحالة يكون " فعلاً
" وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم. وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئاً
آخر ليستقيم المعنى فهو " حرف ".
وهكذا تعرف الألفاظ. والفعل هو " معنى زائد عليه زمن " كقولنا: أكل؛ فهي
تعني تناول إنسان طعاماً في زمن ماضٍ، وهكذا نفهم قولنا: " كان ". فإن
قلنا: " كان " بمعنى حدوث شيء في الماضي، كقولنا " كان زيد مسافراً
" فهي ناقصة. وفي ضوء هذا نفهم قول الحق:{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَىا مَيْسَرَةٍ }[البقرة: 280].
فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه، فالفعل يكون تاماً لا يحتاج إلى
خبر.
وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخبر. مثل قوله تعالى:
} وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ { أي ألا توجد فتنة، فهي لا تحتاج إلى خبر.
وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها
اختباراً آخر العام فيُمضي الوقَت في تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب،
وكان هذا حسباناً خاطئاً؛ لأن المنهج لم يأت اعتباطاً، ولكنه جاء كنظام حركة
للحياة ليعمله المؤمن. وكان المفروض أن يستقبلوا المنهج على حسب تعاليم المنهج.
ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب، فهم
حسبوا - بكسر السين - وما حسبوا - بفتح السين - وكان المفروض أن يقوموا بالحساب،
فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل.
وكل شيء عند الله يكون بالحساب، حساب للعبد وحساب على العبد. } وَحَسِبُواْ أَلاَّ
تَكُونَ فِتْنَةٌ { أي ظنوا أنها ليست اختباراً. وظنوا أن الرسالات والمناهج هي
مسألة لا اختبار لهم فيها، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه. ونعلم أن
وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأَبْصار والأفئدة:{ وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ
الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78].
إذن فوسائل الإدراك: سمع، وبصر، وفؤاد. وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه.
أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له. وبذلك يكون السمع اكثر اتساعاً من
العين. والسمع هو وسيلة الإدراك التي توجد أولاً في الإنسان حين يولد. ونجد
المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه؛ لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة
عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية. لكن الطفل إذا سمع صوتاً بجانب أذنيه
ينفعل، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولاً، ولذلك يأتي لنا الحق بذك السمع أولاً
ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة.
" فعموا وصموا " وهو سبحانه يسألهم أولاً عن التجربة الشخصية فيهم. ولم
يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط، " فعموا " أي لم يروا حتى الأمور
المتعلقة بهم، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج
من الله ولا اتفقوا على تنفيذه. وسبحانه يعاتبهم أولاً أنهم لم يستعملوا عيونهم.
وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم
الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا.
فإذا كانوا أولاً في غفلة فلم يروا، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان وانقياد
عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم؛ لذلك " فعموا وصموا " منطقية جداً
هنا.
وبعد ذلك قبل الله منهم، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر، وعبروا، ولكنهم بمجرد
خروجهم من البحر، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها.
قالوا لموسى: نريد إلهاً كما لهم آلهة. وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم.
مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب. ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم. } ثُمَّ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ {.
والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد، فلو لم يتب الله على
من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر
بلا عودة. وحين يقبل الحق توبة المذنب، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي
المجتمع من شره. والتوبة مراحل: الأولى: حين يشرع الله التوبة، والثانية: أن يتوب
العبيد، والثالثة: هي قبول الله للتوبة. وهذا ما جاء به الحق:{ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة: 118].
ماذا تعني توبة الله عليهم؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا.
إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة، ثم توبتهم، ثم قبول الحق
للتوبة. لكن هؤلاء عموا وصموا، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم. فماذا حدث منهم
بعد ذلك؟ عموا وصموا مرة أخرى } ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ
وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {.
و " عموا " مأخوذة من الفعل " عمى " ، ومثلها مثل "
أكلوا " و " شربوا " و " حضروا " ، فأين الفاعل؟ الفاعل
هو " واو الجماعة ". وابن مالك قعّد لهذه المسألة، فساعة تسند الفعل إلى
اثنين أو إلى جماعة، فلا بد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع، فلا تقول:
" قاما زيد وعمرو " ولكن تقول: " قام زيد وعمرو " ، ولا نقول:
" قاموا التلاميذ " بل نقول: " قام التلاميذ " ، لأن مدلول
" الواو " هو مدلول " التلاميذ "؛ قال ابن مالك:وجرد الفعل
إذا ما أسندا لاثنين أو جمع كـ " فاز الشهدا "أي أن الفعل إذا أسند
لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. أما
كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة، وإما على إضمار مبتدأ أي
العُمْىُ والصُّم كثير منهم، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة
من العرب وهم بنو الحارث بن كعب، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع
إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل: قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي.
وحمل بعضهم قوله تعالى: } وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ { على هذا،
وكان قول الحق: } كَثِيرٌ مِّنْهُمْ { صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر
الإيمان في قلوبهم، وكلمة " كثير " جاءت حتى تنبه إلى أن الحق سبحانه
وتعالى لا يهمل أبداً القلة التي تدير أمر الإيمان في خواطرهم. ليؤكد ويعاضد ما
جاء في قوله تعالى: } وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ {. } ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ
كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ { و " بصير "
مثلها مثل " عليم " ، أي شاهد وليس مع العين أين. ويقول الحق من بعد
ذلك: } لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ... {
(/733)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
وهناك ثلاث آيات تتعرض لهذه المسألة: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }. والآية الثانية:{ لَّقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ }[المائدة: 73].
والآية الثالثة:{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }[المائدة:
116].
إذن فالخلاف في المسألة جاء على ثلاث صور:
طائفة تقول: المسيح هو الله. وطائفة تقول: إن المسيح هو إله مع اثنين آخرين.
وطائفة تقول: إن المسيح هو وأمه إلهان. ولكل طائفة رد. والرد يأتي من أبسط شيء
نشاهده في الوجود للكائن الحي، فالإنسان - كما نعرف - سيد الكون والأدنى منه
يخدمه. فالإنسان يحتاج إلى الحيوان من أجل منافعه، وكذلك يحتاج إلى النبات والجماد،
هذا السيد - الإنسان - يحتاج إلى الأدنى منه. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على
تأليه سيدنا عيسى وسيدتنا مريم، فقال:{ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ }[المائدة:
75].
وهذا استدلال من أوضح الأدلة، لا للفيلسوف فحسب ولكن لكل المستويات، فماداما
يأكلان الطعام فقد احتاجا إلى الأدنى منهما. والذي يحتاج إلى الأدنى منه لا يكون
الأعلى ولا هو الواحد الأحد. والمتبعون لهذه الفرق الثلاثة مختلفون.
والحق سبحانه وتعالى يقول: { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } وكلمة { ثَالِثُ
ثَلاَثَةٍ } تستعمل على أنه واحد من ثلاثة لكنه غير معين. فكل ثلاثة يجتمعون معاً،
يقال لكل واحد منهم إنه { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ }. وليس هذا القول ممنوعاً إلا في
حالة واحدة، أن نقول: ثالث ثلاثة آلهة؛ لأن الإله لا يتعدد. ويصح أن نقول كلمة:
" ثالث اثنين " لأن الله يقول:{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىا ثَلاَثَةٍ إِلاَّ
هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ }[المجادلة: 7].
إذن فمن الممكن أن نقول: هو رابع ثلاثة، أو خامس أربعة أو سادس خمسة. وهو الذي
يصير الثلاثة به أربعة أو يصير الأربعة به خمسة أو يصير الخمسة به ستة. إننا إن
أوردنا عدداً هو اسم فاعل وبعد ذلك أضفناه لما دونه، فهذا تعيين بأنه الأخير. فإن
قال قائل: الله رابع ثلاث جالسين فهذا قول صحيح. لكن لو قلنا إنهم آلهة. فهذا هو
المحرم، والممنوع؛ لأن الإله لا يتعدد.
ويلاحظ أن الحق لم يقل: ما يكون من نجوى اثنين إلاّ هو ثالثهم؛ لأن النجوى لا تكون
إلا من ثلاثة، فإن جلس اثنان معاً فهما يتكلمان معاً دون نجوى؛ لأن النجوى تتطلب
ألا يسمعهم أحد. والنجوى مُسَارَّةَ، وأول النجوى ثلاثة، ولذلك بدأها الحق بأول
عدد تنطبق عليه. فإن قلت: " ثالث ثلاثة " فهذا قول صحيح إن لم يكونوا
ثلاثة آلهة.
والحق أراد أن يدفع هذا القول بالبطلان حين قال: { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ
}.
والطعام مقوم للحياة ومعطٍ للطاقة في حركة الحياة؛ لأن الإنسان يريد أن يستبقي
الحياة ويريد طاقة، والطعام أدنى من الإنسان لأنه في خدمته، فإذا ما كانا يأكلان
الطعام فهما في حاجة للأدنى. وإن لم يأكلا فلا بد من الجوع والهزال.
ولذلك فهما ليسا آلهة. بعضهم يقول: } كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ { هي كناية عن
شيء آخر هو إخراج الخبث. ونقول: ليس إخراج الخبث ضرورياً لأن الله سيطعمنا في
الجنة ولا يخرج منا خبث. فهذا ليس بدليل. ويرتقي الحق مع الناس في الجدل، فاليهود
قالوا في المسيح - عليه السلام - ما لا يليق بمكانته كنبي مرسل وقالوا في مريم
عليها السلام ما لا يليق باصطفائها من الحق.
واليهود إذن خصوم المسيح. وأنصار المسيح هم الحواريون! فإذا كان لم يستطع أن يصنع
من خصومه ما يضرهم ولا مع حوارييه ما ينفعهم فكيف يكون إلهاً؟ والنص القرآني يقول
عن مريم:{ يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ }[آل عمران: 43].
والمسيح نفسه كان دائماً مع الله خاشعاً عابداً. والذي يعبد إنما يعبد من هو أعلى
منه؛ فالإله لا يعبد ذاته. وإذا كان هذا قول من ينتسبون إلى السماء إيماناً بإله
وإيماناً بمنهج، فماذا عن قول الذين لا ينتسبون إلى السماء من الملاحدة الذين
ينكرون الأولوهية؟
إذن كان من الواجب أن يؤمن المنسوبون إلى السماء بواسطة مناهج وبواسطة أنبياء وأن
يصفوا هذه المسائل فيما بينهم. وعلى سبيل المثال كان العالم موجوداً ومداراً قبل المسيح
فمن إذن كان يدير العالم من قبل ميلاده؟ ولذلك أراد الحق سبحانه جل جلاله أن يحسم
الموقف. والقرآن يعلمنا:{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24].
أيمكن أن يكون المتناقضان محقين؟ لا؛ لأن أحدهما لا بد أن يكون على هدى ولا بد أن
يكون الآخر على ضلال. ولذلك نقول: كلامكم لا يلزمنا وكلامنا لا يلزمكم. ونفوض
الأمر إلى الإله الذي نؤمن به. وحتى نصفي هذه المسألة نذكر قول الحق:{ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }[آل عمران: 61].
ونقول: اجعل لعنتك على الكاذبين. حتى تخرجنا من هذا الخلاف ولا تجعل واحداً منا
يسطير على الآخر، فأنت صاحب الشأن، فها نحن أولاء بأنفسنا ونسائنا وأولادنا ندعو
دعاءً واحداً: اجعل لعنة الله على الكاذبين منا. وما تلاعن قوم وابتهلوا إلا وأظهر
الله المسألة في وقتها. ولم يقبل أحد من أهل الكتاب هذه المباهلة، والحق يقول: }
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ... {
(/734)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
إذن فالذين لا يعلنون التوبة عن ذلك يقعون في الكفر ويعذبون. ثم يقول الحق: {
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىا اللَّهِ...
(/735)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
فكأن هذا القول يقتضي التوبة واستغفار الحق.
ويقول سبحانه بعد ذلك: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... }.
(/736)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
و " أفك " يعني انصرف أو صُرف، أي يصرفهم غيرهم. وهذا يعني أن هذا إيعاز
من الشيطان؛ لأن المسيح عليه السلام ما هو إلا رسول مثل من سبقوه من الرسل وأمه
(صدِّيقة) مصدِّقة بما جاء به، والدليل على بشريتهما أنهما يحتاجان كسائر البشر
لما يَقوَّم حياتهما من طعام وشراب وكساء، والأولوهية المدّعاة منهم تتنافى مع هذا
الاعتقاد وهذا هو الإفك بعينه الذي يتصادم مع العقل المجرد عن الهوى.
يقول الحق سبحانه وتعالى: { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ... }
(/737)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
والعقل يستنكر أن نعبد أحداً غير الله، فغيره لا يملك أن يصنع الضر للخصوم، ولا
النفع لنفسه أو لأشياعه وأنصاره بدليل أن الأعداء فعلوا ما فعلوه وما ملك عيسى
عليه السلام أو الحواريون أن يضروهم ولا استطاعوا أن يفعلوا شيئاً ينفعون به
أنفسه.
ويختم الحق الآية بقوله: { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }. وكلمة "
السميع " تدل على قول. وكلمة " العليم " تدل على شيء يدور في
الخواطر، والشيء الذي يدور في الخواطر أهو حراسة سلطة زمنية جعلتهم يقولون هذا
الكلام؟ إنه سبحانه العليم بذلك. فإن كان قد حصل كلام فهو قد سمعه، وإن كانت قد
دارت خواطر في النفس فهو يعلمها؛ لأن العاقل قبل أن يتكلم لا بد أن يدير الكلام في
النفس. وكل كلام لا بد له من نزوع. وهو سبحانه السميع العليم أزلا وأبدًا.
ويقول الحق: { قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ... }
(/738)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله: { قُلْ يَـاأَهْلَ
الْكِتَابِ } أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها. والغلو هو أن يتطرف
إنسان في حكم ما إيجاباً أو سلباً. وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما
التفريط في المنزلة الدنيا. ولذلك نجد المتناقضات دائماً في الغلو. " ورسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا علي - كرم الله وجهه -: يا عليّ، يهلك فيك
رجلان.. محب غال ومبغض غال " ويقول: " يا عليّ لا يحبك إلا مؤمن ولا
يبغضك إلا منافق ".
ويقول: " يا علي ستقاتلك الفئة الباغية "
إن هناك من أحب سيدنا عليًّا إلى درجة أنهم اعتبروه نبياً وقالوا: إن الوحي أخطأ
عليًّا وجاء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو اعتبروا عليًّا إلهاً!! وكل
ذلك غلو، فقد أحبّوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط.
أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي: إنه كافر. جاء الغلو - إذن - من ناحية
المحبين فجعلوه نبياً أو فوق ذلك مما يدخلهم في الشرك، أو من المبغضين القائلين
بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين، ولذلك يجب ألاّ نغلو في الدين فلا نحب إنساناً
ونرفعه فوق مستوى البشر، ولا نبغض إنساناً وننزل به إلى الحضيض. بل يجب أن نعطي كل
واحد قدره ومقداره الذي وضعه الله فيه؛ لأن وضع الله له هو تكريمه: { قُلْ
يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً
وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [المائدة: 77].
وجاء مثل هذا القول في آية أخرى:{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي
دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ }[النساء: 171].
وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر؛ قال الحق بعد ذلك:{
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }[النساء: 171].
فلا داعي للغلو بنسب الأولوهية له أو أنه ثالث ثلاثة. فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى
هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى، فافهموا أن كل الأشياء جاءت بـ
" كن "؛ لأنه وإن وجُدت مقدمات للإنسان، فَرَقَّ هذه المسألة إلى واحد
لم يأت من إنسال، وستصل إلى آدم وآدم من تراب؛ إذن كل الكون كلمة. وإن وجدت
أسباباً فما طمره الله في الكلمة الأولى، فحين يجيء إنسان أُنشئ بكلمة فلا تقولن:
إن هذا شيء عجيب؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ
شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].
وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأمر من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال
وقانون التناسل، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا؛ لأنه مخلوق من أم، وآدم مخلوق
بلا أب ولا أم.
وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر. والكلمة من الله تنشئ حياة. والحياة إدخال
روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الحياة. إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي
الروح لتدخل في المادة: } وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِّنْهُ {. } وَرُوحٌ مِّنْهُ { مثلها مثلما قال في آدم:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }[الحجر: 29].
إذن فآدم كلمة، وآدم روح منه، وكذلك المسيح، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك. ويطلب
الحق من المنسوبين إلى السماء: } انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ {. فإذا كنتم منسوبين
إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل، وكان يجب أن تقفوا بعيسى
عندما أراد الله له من التكريم؛ لأن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة، فلو كان من جنس
آخر غير البشر لا متنعت الأسوة فيه؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها، فلو
رأه الناس خاشعاً متعبداً لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير
مادة البشر.
وقلت مرة: لو أن إنساناً رأى أسداً يفترس في الغابة ويصول ويجول على الحيوانات،
أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه أسداً؟. لا. لكن لو رأى فارساً مثله شجاعاً في
حرب يصول ويجول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله. إذن فالأسوة لا تكون
إلا مع وحدة الجنس، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولاً.
} قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ { لقد
جاء الحق هنا بالحديث شاملاً لكل أهل الكتاب؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور.
فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها، وأولئك جاءوا بالمغالاة
في الجهة الأخرى؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة؛ لأن الحق لا يتعاند؛ فهو شيء
ثابت لا يتغير أبداً ولا يتعارض. والإنسان إن رأى حدثاً من الأحداث بعينيه ثم طُلب
منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غداً ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعاً لأنه
شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه، لكن الكاذب لا يذكر ذلك، وقد يقول
قضية ويكون فيها كاذبا فلا بد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية. ولذلك
يقال " إن كنت كذوباً فكن ذكوراً ".
إن الذي يحكم الحق هو واقعة؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعاً. لكن الكاذب لا يستقرئ
واقعاً فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى. ونذكر الكاذب الذي جلس يقول: مرة كنا
سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر. وكانت الدنيا
قمراً كالظهر وقوله: " قمراً كالظهر " هي التي تكشف كذبه، فكيف يكون في
ليلة العيد قمرٌ، وأول ليلة في عيد الفطر هي أول ليلة في شوّال، وليس فيها أي قمر،
الهلال يكاد يكون مخفياً.
إذن فالذي يستوحي واقعاً لا يتغير كلامه لأنه حق. والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر
ماذا قال فيخلط. لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قوله سيتضارب. وإذا تضارب هذا
القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه. وإذا شك
الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزر إضلال الناس؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب
ألا يجرب الناس عليه أي شيء من المخالفة. ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام:{
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ }[الممتحنة: 5].
لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء؟؛ لأنه إن قال شيئاً ثم عمل بما يناقضه فقد
يتصور من يراه أنه - والعياذ بالله - كذاب.
} قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً
وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ { ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون
إضلال غيرهم. لذلك قال سبحانه:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ }[البقرة: 109].
وسبحانه يوضح لهم: لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا؛ لأن وزرك أن تعمل، وهناك وزر آخر
هو أن تُضلِّل غيرك. ولذلك يقول الحق:{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
}[النحل: 25].
قال الحق ذلك مع أنه قال: } وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {. حتى نفهم
الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال؛ والثاني هو وزر الإضلال.
} وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ { أي لا تقلدوا أناساً
اتبعوا الهوى. والهوى هو لُطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على
طريقة لا تنبغي. ولذلك كل كلمة " هوى " في القرآن جاءت في مجال الخسران
والضلال. وعندما نقرأ قوله الحق: } وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَىا فَيُضِلَّكَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ {.
وهو القائل سبحانه: } وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىا {.
وقد جاء الهوى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون
هواه تبعاً لما جئت به "
أي المطلوب أن يطوِّع الإنسان هواه لمطلوب الله. وما دام قدْ طوِّع هواه لمطلوب
الله، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع. } وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ
قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ
السَّبِيلِ {. إن هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سبباً في الإضلال عن
سواء السبيل.
ويقول الحق بعد ذلك: } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ... {
(/739)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة تصبره على ما يلاقيه
من خصومه من أهل الكتاب، وكأنه يقول له: إن هذا الأمر ليس بدعاً وليس عجيباً؛ لأن
تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا، فها هوذا موقفهم من نبي الله داود، وكذلك موقفهم
من عيسى ابن مريم عليه السلام. وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى
هؤلاء. فالمسألة ليست خاصة بك وحدك، وإنما هي طبيعة فيهم، ويبسط سبحانه في التسرية
عن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف
ولا تهتز. فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـاكِنَّ الظَّالِمِينَ
بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام: 33].
فمرة قالوا عن الرسول: إنه مجنون، ومرة أخرى قالوا: " ساحر " وثالثة
قالوا: " كذاب ". وهم يعرفون كذبهم، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول
بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحداً على مصالحهم إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فهو الأمين دائماً. وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا، ومن صدهم
عن دين الله بالكفر، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا
يُؤمَن عليه إلا محمد بن عبدالله.
ما هذا الأمر العجيب إذن!!
لقد عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة رسالته - ما في ذلك ريب - ولكن لأن
لهم أهواء أصرّوا على الضلال تمسكاً بالسلطة الزمنية. هم يعرفون أن محمداً هو
الأمين. ولذلك نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع عليّاً - كرم الله وجهه
- ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعاً.
إذن { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذِّبُونَكَ }. أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق. أنت عندهم يا رسول الله
الأمين. أنت عندهم يا رسول الله في منتهى السمو الخلقي. ولو لم تقل أنك رسول من
الله لكانوا قد رفعوك إلى أعلى المنازل. ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم
الزمنية.
ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة، فعرضوا عليك الملك، وعرضوا عليك الثراء، ولو كنت
تقصد شيئاً من ذلك لحققوا لك ما تريد. ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله.
لقد عرضوا عليك الملك طواعية. وعرضوا عليك الثروة. وزينوا لك أمر السيادة فيهم
شريطة أن تتخلى عن الرسالة. لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم
مما فيه من متاعب، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك. إنك تتبع ما أنزل
إليك من ربك.
ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشِّعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك
وتجويع من معك.
ومع هذا كله ما تنازلت عن البلاغ. وكان يجب أن يفطنوا إلى أنك لا تطلب لنفسك
شيئاً، لا المال ولا الجاه بل أنت رسول من الله لا تأكل من صدقة أحد، لا أنت ولا
أهلك. وكان يجب أن يتساءلوا: لماذا تدخل بنفسك إلى هذه الحرب الضارية؛ فلا أنت
طالب جاه ولا أنت طالب مال، ولا أنت طالب لمتعة من تلك المتع. وكان يجب أن يأخذوا
العبرة، فهم يعرضون عليه كل هذه الأشياء. وهو يرفضها؛ لأنه خاتم الأنبياء؛ لذلك
يتمثل فيه خير كل من سبقه من الأنبياء. يتمثل فيه على سبيل المثال ما قاله سليمان
لوفد بلقيس ملكة سبأ:{ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ
أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ }[النمل: 36].
إذن كان يجب على الناس أن يفطنوا إلى أن النبوة حينما تأتي إنما تأتي لتلفت الناس
إلى السماء وإلى منهجها ولتنتظم حركة حياتها في الكون، وأن المنتفع أولاً وأخيراً
بالمنهج هم أنفسهم؛ لأنهم هم الذين يشقون بمخالفتهم منهج الله.
وليجرد كل إنسان نفسه من كل شيء ولينظر إلى المنهج ولسوف يجد أنه في صالحه. فها
هوذا سليمان الذي دانت له الدنيا وأُعْطِيَ ملكاً لم يعطه الله لأحد من بعده فسخر
الله له الريح وسخر له الجن يفعلون له ما يشاء. وكان سليمان يعطي الدقيق النقي
للعبيد ليستمتعوا بالطيبات، ويأكل هو ما تبقى من نخالة الدقيق، وكان ذلك دليلاً من
الله أن هذه المناهج ليست لصالح نبي، ولكن كل نبي إنما يريد بالمنهج صالحَ من
أُرسل إليهم.
وكانت مقاومة أهل الكتاب لنبي الله داود، وكيف أنهم اعتدوا في يوم السبت فدعا
عليهم داود عليه السلام فمسخهم الحق قردة، ولعنهم في الزبور، وكذلك قالوا الإفك في
مريم البتول ولعنهم الله في الإنجيل، ولم يكن اللعن إلا بناءً على ما فعلوا؛ لذلك
يذيل الحق الآية بالقول: } ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {.
والعصيان - كما نعلم - هو العصيان في ذات الإنسان وفي أموره الخاصة التي لا تتعدى
إلى الغير، أما الاعتداء فهو أيضاً معصية ولكنها متعدية إلى الغير. مثال ذلك:
الحاقد إنما يعاقب نفسه، أما السارق أو المرتشي فهو يضر بغيره. إذن فهناك معصية
وهناك عدوان، المعصية تعود على صاحبها دون أن تتعدى إلى الغير، أما العدوان فهو
أخذ حق من الغير للنفس، وضرر يرتكبه الفرد فينتقل أثرة إلى الغير.
ويقول الحق من بعد ذلك: } كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ... {
(/740)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في حركة الحياة على الأرض. وقد جعل
الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون
سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه. فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق، ولا
يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح. هذا الضمير هو
خميرة الإيمان، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على معصية، هذا إن كان من أصحاب
الدين.
ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في
حالتها المتقلبة، فها هوذا قابيل يتحدث عنه القرآن:{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ
قَتْلَ أَخِيهِ }[المائدة: 30].
ومن بعد ذلك، قتل قابيل هابيل، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد، وانتقل
قابيل إلى ما يقول عنه القرآن:{ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[المائدة: 30].
فبعد أن غواه غضبه إلى أن قَتَل أخاه وسلبه الحياة. يبعث الله له غراباً ليريه كيف
يواري سوأة أخيه؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه. وانتقل بالندم من مرحلة
أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته، إذن فالنفس البشرية وإن
كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثماً
أو معصية. ولذلك تجد كثيراً من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي، لكنهم
يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على
تدارك آثار تلك المتاعب؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر.
لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لأخر بمعصية؟. إنه اعتراف للتنفيس؛ لأن كل حركة
في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى
الانتقام، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل: { حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }. حتى تصرف الطاقة السعارية عندك، فإن أغضبك أحد
وأنت قائم فاقعد، وإن كنت قاعدا فاضطجع، وأن كنت ثابتاً في مكان فلتسر بضع خطوات.
والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة
الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدّة الغضب.
ولذلك فالشاعر العربي ينصح كل مستمع للشكوى ألا يرد السماع بل يصغي لصاحب الشكوى؛
لذلك يقول:ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجعوحينما تظهر
المشاركة لصاحب الشكوى فأنت تريحه، وتهديه إلى الاطمئنان. وينصح الشاعر صاحب
الشكوى أن يضعها عند ذي المروءة؛ لأن ذا المروءة إنما يعطيك أذنه ومشاعره وهو جدير
أن تستأمنه على السّر، وكأن الأسرار في خِزانة لن يعرف أحد ما بداخلها، وبمثل هذا
الاعتراف يريح الإنسان نفسه، ويصرف انفعاله إلى شيء آخر.
وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء ولا تجد من ينهها أو ينهاها، فالسوء يعم
وينتشر، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول.
ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر
فعلوه، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يظنن
المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلاً منا بشر. وعرضة للأغيار، ومن
لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخاً خالياً من خواطر السوء
فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء
فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر، أما إن جاء سعار الشهوة
لإنسان وكان صديقه مؤمناً خالياً من خواطر السوء، فهو ينهاه ويوصيه بالحق والصبر.
وهكذا. يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي؛ فمرة يكون الإنسان ناهياً، ومرة أخرى
يكون الإنسان منهياً.
وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى
خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 1-3].
ولم يخصص الحق قوماً ليكونوا الناهين، وقوماً آخرين ليكونوا المنهيين، لا، بل كل
واحد منا عرضة أن يكون ناهياً إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام، وعرضة أيضاً لأن
يكون منهياً إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام، وبذلك نتبادل النهي والتناهي، ويسمون
ذلك " المفاعلة " مثلما نقول: " شارك زيد عمرا " ، ولا يشارك
الإنسان نفسه إنما يشارك غيره، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة، ومرة
أخرى يكون مفعولاً، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه؟. إنها مثل " تشارك " و
" تضارب " أي أن يأتي الفعل من اثنين. ومن السهل إذن أن ينهي إنسان
صديقاً له أو ينهاه صديق له. وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة
الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس، أي أن كل نفس تنهى نفسها. إذن فالتفاعل إما
أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع.
} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ { ولننتبه هنا إلى أنهم قد
فعلوا المنكر بالفعل، فكيف يكون التناهي عن المنكر؟. يمكن أن نفهم العبارة على
أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله، أي أن الإنسان منهم كان يرى
زميلاً له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه. ومثلها في ذلك قوله الحق:{ إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }[المائدة: 6].
وهذا القول لا يعني أبداً أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة. إنما يعني أن
نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها.
وقوله الحق: } كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ { يجعلنا في
حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة.
ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها، وإلى أي اتجاه تسير، فلا يترك الإنسان
نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم. وكذلك ينتبه الإنسان إلى أصدقائه
وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبداً في دائرة هذا الحكم } كَانُواْ لاَ
يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ { وساعة
نسمع " لبئس " فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم، وحين يقسم الله فهذا
تأكيد للقضية، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر؟,. لا. فليس أحد منا كالله،
ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق، إما إقرار، وإما شهادة، وإما قسم.
والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود، أو باليمين، وحين يأتي الحق
بالحكم فهو يأتي به على معرفة الخلق. وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا.
وبما أن الحق لم يقل: لبئس ما كانوا يقولون، ذلك أن القول مقابل للفعل، وكلاهما
أيضاً عمل، فالقول عمل جارحة اللسان، والفعل هو عمل الجوارح كلها، ويجمع القول
والفعل وصف " العمل ". ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول، إنما هي
عمل قد نتج عن فعل.
ولنر الحديث النبوي القائل: " من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده وإن لم يستطع
فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان ".
وقوله الحق: } لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ { دليل على أنهم كانوا يفعلون
المنكر والقبيح قولاً وعملاً.
ويتابع الحق من بعد ذلك فيقول: } تَرَىا كَثِيراً... {
(/741)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
ونلحظ الفارق بين أن يخبر الحق رسوله بأمور حدثت من قبل مثل قوله الحق:{ لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىا لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ }[المائدة: 78].
وبين الواقع الذي يجري في زمن رسول الله؛ فالخبر الأول هو خبر عن أمر صدر منهم مع
من سبق من الرسل. لكن هناك أشياء يا رسول الله أنت تراها بنفسك، وهذا دليل على أن
كفرهم لم يكن نزوة وانتهت، لا، بل كفرهم أصبح ملكة فيهم انطبعت عليها نفوسهم، كيف؟
نعلم أن الإسلام حينما جاء واجه معسكرات شتّى، وهذه المعسكرات كانت تفسد حركة
الإنسان في الحياة، والحق سبحانه وتعالى خلق الكون مسخّراً للإنسان ويريد أن يظل
الإنسان حارساً لصلاح الكون أو أن يزيد صلاح الكون وألا يسمح بتسرب الفاسد إلى
الصالح.
إن هذا هو مراد الحق من وجود منهج للإنسان. وهدف المنهج أن يحمي حركة الحياة كلها
من الفساد وأن يزيد صلاحية الكون، فعملنا في الكون دائماً لصالحنا؛ ولا يوجد عمل
يفعله مخلوق يأتي للحق سبحانه وتعالى بصفة زائدة على كمالاته - سبحانه -؛ لأن الحق
له كمال الصفات، وهو الذي خلقنا وأوجدنا وأمدنا، وتكليفنا منه لم يزده سبحانه
شيئا، فهو - سبحانه - مستغن بذاته عن جميع خلقه.
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذن - ليحارب معسكرات هي معسكر أهل الشرك في
مكة، ومعسكر أهل الكتاب، وكان المفترض في أهل الكتاب أن لهم صلة بالسماء ولهم إلف
بمناهج الرسل. وبعجزات الرسل وعندهم البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في
كتبهم، ومعكسر المنافقين الذين ظهروا بعد أن قويت شوكة الإسلام، فأعلنوا الدخول في
الإسلام وهم لم يؤمنوا بل أضمروا الكفر.
وعندما نتوقف عند معكسر أهل الكتاب، كان من الطبيعي أن ينتظر منهم رسول الله أن
يؤمنوا لأنه جاء بالمنهج الذي يقوي من صلة السماء بالأرض، لو كانوا صادقين وحريصين
على تلك الصلة. وخصوصاً أنهم كثيراً ما تباهوا بمقدم النبي قبل أن تأتي الرسالة. وكانوا
يقولون للأوس والخزرج:
لقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، يأتي سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وفي ذلك جاء قول الحق:{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }[البقرة: 89].
وقالت لهم كتبهم: إن النبي إنما يأتي في أرض ذات نخيل، وهذا ينطبق على مكان مبعثه
صلى الله عليه وسلم. إذن فقد عرفوا المكان، وعرفوا الصفات، وعرفوا الجبهات التي
سيحارب فيها لأنه سبق لأنبيائهم أن حاربوا فيها. وعندما جاء محمد رسولاً من عند
الله اهتزت سلطتهم الزمنية، وأرادوا أن يستبقوها بتحريفهم منهج السماء. وجاء محمد
صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني ليعيد حركة الكون إلى الإيمان.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بينما كانوا ينسجون الإكليل كتاج لملك
ينصبونه.
هكذا أوقف رسول الله سلطتهم الزمنية ولم يعد لهم الجاه، ووحّد الأوس والخزرج، وكان
اليهود يعيشون على الشقاق بينهما، ببيع الأسلحة والإقراض بالربا. ومع مجيء محمد
صلى الله عليه وسلم تهدم بنيان سلطتهم؛ لذلك حاولوا أن يشجعوا خصوم رسول الله وهو
ما زال في مكة ليهزموا الدين الجديد حتى لا يزحف الدين إلى المدينة ويهدر سلطانهم:
وفي ذلك جاء القول الحق:{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـائِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ
وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[آل عمران: 77].
والثمن القليل هو الأبهة والرئاسة وسدة الحكم. وها هوذا كعب بن الأشرف كبير يهود
وله ثراء ولسان، يخرج إلى قريش ليناقشهم في ضرورة وأد الدين الجديد والقضاء عليه.
فقالت له قريش: إنك من أهل الكتاب. ولك صلة بالسماء.
فيقول لهم: إنكم أهدى من محمد سبيلا!! كيف يصير المشركون عبدة الأصنام أهدى من
محمد سبيلا؟.
وهكذا نرى قوله الحق: } تَرَىا كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ {. لقد تحالفوا مع معكسر الشرك الذي كان بينهم وبينه خصومة حتى لا تتسرب
السلطة من أيديهم. وتعاونوا مع الذين أشركوا لإيقاف زحف الدين الجديد.
} تَرَىا كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ
هُمْ خَالِدُونَ { [المائدة: 80].
ويتولونهم أي ينصرونهم ويعينونهم ويدعون أنهم على حق، وكأن الدين الجديد على باطل.
ويقسم الحق هنا أنه بئس ما زينت لهم النفس الأمارة بالسوء، لأنهم افتقدوا النفس
اللوامة، وغلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء.
وتتابع الآية: " أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون " وينشأ عن
السخط الابتعاد عن طريق الهداية. والبعد عن طريق الهداية يقود إلى العذاب الخالد.
كأن الحق يوضح لهم: على فرض أنكم أخذتم متاعاً قليلاً في الحياة، ولكنكم أتيتم
لأنفسكم بمتاعب أزلية تنتظركم في الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ... {
(/742)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
فلو كان عندهم إيمان بالله حقيقة وبالمنهج المنزل من الله، ما اتخذوا أهل الشرك
أولياء، ولكن كثرة هؤلاء أهل فسق. ونلحظ أن الكثير فاسق، وهذا يعني أن القليل غير
فاسق.
ويقول الحق بعد ذلك: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ... }
(/743)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
الحق سبحانه وتعالى يُقْسم لرسوله صلى الله عليه وسلم أن واقع الحياة مع فرقتين
كاليهود والنصارى سيتجلى واضحاً على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله
في ناحية، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة ولكنهم اتفقوا جميعاً في الهدف.
فاليهود أشد عداوة لأنهم أخذوا سلطة زمنية جعلتهم السادة في المنطقة، أما النصارى
فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمنية وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله.
والجانب الذي ليس له سلطة زمنية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم
الزمنية ويقيم العدل بين الناس. فما العلّة في ذلك؟
يقول الحق: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىا ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَاناً }. و " القسيسون " جمع قَس وهو المتفرغ للعلم الرباني. و
" الرهبان " هم الذين تفرغوا للعبادة. فكأن القسيس مهمته أن يعلم العلم.
والراهب مهمته أن ينفذ مطلوب العلم ويترهبن.
إننا نجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى قد امتن بشيئين وبذلك جعلهم أقرب مودة للذين
آمنوا، امتن سبحانه بأن منهم قسيسين يحافظون على علم الكتاب، وامتن بأن منهم
رهباناً ينفذون مدلول المطلوب من العلم، وبذلك صاروا أقرب مودة للذين آمنوا إن
ظلوا على هذا الوضع؛ لأن العلّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. وما دام قد عللها
- سبحانه - بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون فذلك لأنهم لا يتطاولون
إلى رئاسة وليس لهم تكبر أو ترفع؛ لأن طبيعة دينهم تعطيهم طاقة روحية كبرى حتى
إنهم يقولون: " من ضرب على خدّك الأيمن فادر له خدّك الأيسر ". وهذا
يعطيهم شحنة إيمانية نراها ناضحة عليهم.
{ ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ } وقد جاء واقع الكون مؤيداً لهذا، فمواقف اليهود من رسول الله
صلى الله عليه وسلم معروفة حتى إنهم نزلت بهم الخسّة وتمكن منهم الحقد ودفعهم
الغدر أن أرادوا أن يقلوا عليه حجراً ليقتلوه وحاولوا دسّ السّم له.
وحين تجد إنساناً لا يجد طريقا إلى الخلاص من خصمه إلا بأن يقتله، فيمكنك أن
تواجهه قائلاً: أنت لا تملك شجاعة تواجهه بها في حياته، ولو كنت تملك تلك الشجاعة
ما فكرت في أن تقتله. وهذا دليل على أنه أضعف منه وليس أشجع منه، فلو كان قوياً
لكان عليه أن يواجه هذا الخصم مواجهة في حركة حياته ولا يفكر في قتله؛ لأن الضعيف
هو من يرى أن حياة الخصم ترهقه.
لقد كان اليهود أهلاً لهذا الضعف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم حينما جهر بدعوته اتبعه بعض الناس، ولكن هؤلاء
المؤمنين الأوائل عانوا من اضطهاد أهلهم وذويهم.
حتى إن البيت الواحد انقسم. مثال ذلك تجد أن أم حبيبة السيدة رملة وهي بنت أبي
سفيان تؤمن بينما والدها شيخ الكفرة آنذاك، وتذهب أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة
ويحرص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الخلايا الإيمانية لأنه يعلم
أنها ستفرخ الإيمان بعد ذلك. وبتلك الهجرة إلى الحبشة أراد صلى الله عليه وسلم أن
يحمي بذور الإيمان لتكون هي مركز انتشار الإيمان من بعد ذلك؛ لأنهم سوف يؤدون مهمة
إيمانية، والشجاعة - كما نعلم - تقتضي الحرص. وشاعرنا أحمد شوقي - رحمه الله - قال
في إحدى مقطوعاته النثرية التي سمّاها " أسواق الذهب ": ربما تقتضيك
الشجاعة، أن تجبن ساعة؟
وهذه الشجاعة لا تكون على العدو فقط ولكنها تكون شجاعة في مواجهة النفس، مثال ذلك:
لو أن جماعة من الأقوياء كانوا جالسين معاً في جلسة سمر، ثم دخل عليهم صعلوك يحمل
مسدساً، وقام بتوجيه السباب لكل منهم، هنا يتحايل عليه هؤلاء إلى أن يتمكنوا منه
ليعاقبوه.
إذن فالشجاعة تقتضي أن يجبن الإنسان لحظة إلى أن يتمكن من الخصم. وهذه هي الكياسة
والحيلة، فالإيمان ليس انتحاراً، بل يقتضي الإيمان ألا يدخل المؤمن معركة إلا
وعنده حسبان في الكسب. وها هوذا حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يسمي خالد بن
الوليد " سيف الله المسلول " في معركة لم ينتصر فيها خالد، ولكنه انتصر
انتصاراً سلبياً بأن عرف كيف يسحب الجيش، فالأَمرُ بسحب الجيش يحتاج إلى قوة أكثر
مما يحتاج إليه النصر. فالمنتصر تكون الريح معه. أما المهزوم فتكون الريح ضده.
ونجد القرآن الكريم يقول:{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ
مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىا فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ
مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }[الأنفال: 16].
إذن فالمناورة والكيد من المهارة القتالية لأنها تتيح من بعد ذلك القدرة على
مواجهة العدو.
وينير النور الإلهي بصيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستعرض الأرض كلها حتى
يختار مكاناً آمنا يذهب إليه هؤلاء المؤمنون، فيختار الحبشة. لم يشأ صلى الله عليه
وسلم أن يأمرهم بالذهاب إلى أي قبيلة من القبائل، لأنه يعلم أن كل قبائل الجزيرة
تخشى قريشاً، فموسم الحج جامع للقبائل تحت سيادة قريش. ومن يقف ضد إرادة قريش
فسيتعرض للمتاعب، وعلى ذلك لن يأمن رسول الله على خلايا الإيمان أن يذهبوا إلى أي
قبيلة. واستقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض كلها، واختار الحبشة؟ لماذا؟
ها هي ذي كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية إلى زماننا: " إن بها
ملكاً لا يُظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم به
".
وفي حديث الزهري: لما كثر المسلمون، وظهر تعذيب الكفار - قال عليه الصلاة والسلام:
" تفرقوا في أرض الله فإن الله سيجمعكم، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: إلى ها
هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة ".
وتسللوا في جنح الليل إلى الطريق متجهين إلى الحبشة. وعندما علمت قريش بالخبر
حاولت أن تقطع عليهم الطريق لتعيدهم إلى مكة لتواصل الحملة عليهم والتنكيل بهم لصدهم
عن الإسلام. ولكن الحق أراد أمراً مختلفاً وكان الطريق سهلاً، ووصلوا إلى الحبشة،
وأنجاهم الله من كيد الكافرين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك - بما علمه له ربه - الخبرة الكاملة
بالرقعة الأرضية ويعرف من يظلم من الحكام ومن لا يظلم. وصدق رسول الله في فراسته
الإيمانية، فحينما ذهب المؤمنون المهاجرون إلى الحبشة وجدوا أنهم دخلوا دار أمن،
أمنوا فيها على دينهم. وجن جنون قريش وأرادوا استرداد هؤلاء القوم من النجاشي ملك
الحبشة فأرسلوا صناديدهم ومعهم الهدايا والتحف لملك الحبشة.
سافر عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، وعمارة بن الوليد بن المغيرة. وطلب وفد
قريش من النجاشي أن يسلمهم هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة، وحاولوا الدس للمهاجرين
عند النجاشي، فاتهموا المسلمين المهاجرين أنهم قوم تركوا دين الآباء واعتنقوا
ديناً جديداً يعادي الأديان كلها. ويقولون في عيسى بن مريم قولاً لا يليق به أو
بأمه. ورفض النجاشي أن يصدق حرفاً واحداً، وطلب أن يسمع من هؤلاء المهاجرين. فتقدم
جعفر بن أبي طالب وقال:
" أيها الملك كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش
ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله
إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده
ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان, وأمرنا بصدق الحديث
وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن
الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقدف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا
نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما
جاء به من الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ
لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وترك
عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا عليه من الخبائث، فلما قهرونا وضيقوا علينا
وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، وآثرناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم
عندك ".
وثبت للنجاشي أن المسيح بشهادة القرآن نبي نقي طاهر العرض. وهكذا لم يستمع إلى
وشاية وفد قريش. وامتلأ قلب النجاشي بالإيمان ولم يستكبر مع أنه ملك ووقف أمام
محاولات قريش للنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما سمع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة مريم قال: إن هذا
والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وعرف رسول الله أن الإيمان قد خامر قلب النجاشي، بدليل أن أم حبيبة بنت أبي سفيان
عندما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر الزوج لكنها بقيت على دينها على الرغم من
أنّها كانت تحبه خالص الحب، وهنا انفصلت أم حبيبة عن زوجها وذلك حتى يثبت الحق أن
- هجرتها - كانت لله.
وأراد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكرمها وأن يكرم النجاشي على
موقفه من عدم تسليم المؤمنين إلى وفد قريش وموقفه من أنه شهد للإسلام بأنه يخرج من
نفس المشكاة التي خرج منها إنجيل عيسى عليه السلام، لذلك يجعله رسول الله - صلى الله
عليه وسلم ولي نكاحه لأم حبيبة؛ لأنه مأمون على ما عَرَف من الإنجيل، ومأمون على
ما سمع من القرآن في مريم، ومأمون على أنه لم يسلم المهاجرين؛ لذلك اختاره وكيلاً
عنه في زواجه من أم حبيبة بعد أن تنصر زوجها، وتلك حادثة واحدة أضاءت أكثر من
موقف: موقف أم حبيبة التي أثبتت أنها لم تذهب إلى الهجرة تبعاً لزوجها، فلو تبعت
زوجها لتنصرّت كما تنصر. وأضاءت أن رسول الله كان لا ينطق عن الهوى حين قال مسبقاً
عن النجاشي: إنه لا يظلم عنده أحد. وعندما يبلغ الرسول نبأ وفاة النجاشي فهو - صلى
الله عليه وسلم - يصلي عليه صلاة الغائب.
} لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ
آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىا ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ { [المائدة: 82].
وهذا امتنان من الله بأن جعل منهم القسيسين الذي يعلمون وهذا تكريم للعلم والرهبان
الذين ينفذون منطوقات العلم. إذن فلنعلم أننا يجب أن نفرق بين العَالِم الذي قد
يُكتفى بأخذ العلم عنه إن لم يكن يعمل به، وأن نحترم الذين يعبدون الله تطبيقاً
للعلم بالله ونترك هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم لينالوا جزاءهم، ولكن علينا أن
نأخذ بعلمهم ونعمل به.فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي واجنِ الثمار وخلِّ العود
للنارونجد أن قوله الحق: } ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً {
حيثية تجعلهم أقرب مودّة للمسلمين. فهل الرهبانية ممدوحة عند الله؟ وإذا كانت
ممدوحة عند الله فلماذا قال سبحانه:{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىا آثَارِهِم
بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }[الحديد: 27].
هو سبحانه يحدثنا عن موكب الرسل إلى أن وصل إلى عيسى عليه السلام وما جاء به من
الإنجيل وكيف أودع في قلوب الذين اتبعوه شفقة شديدة ورقة وعطفاً وابتدعوا
الرهبانية زيادة منهم في العبادة ولم يفرضها الله عليهم، لكنهم التزموها ابتغاء
رضوان الله؛ لكن منهم من حافظ عليها والكثير منهم فسق عنها. وسبحانه حين يفرض
أمراً تعبدياً فعلى المؤمن أن يؤديه. ويزيد ثواب المؤمن إن ترقى في التعبديات. لكن
إن ترقى الإنسان في التعبد فعليه أن يعطي هذا الترقي حقه لأنّه ألزم به نفسه أمام
الله. إذن فالمأخوذ عليهم ليس ابتدع الرهبانية، ولكن عدم رعاية بعضهم لها حق
الرعاية.
} ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ { إذن فمنهم من يرصد حياته للعلم، ومنهم النموذج التطبيقي العملي
وهم الرهبان، وليس فيهم الاستكبار أو العلو، وما دام فيهم ذلك فهذا يعني أنهم لا
يطلبون السلطة الزمنية. وسيظلون أقرب إلينا مودة ما دامت فيهم هذه الحيثية. فإن
تخلوْا عن واحدة منها وأصابوا سلطة زمنية فهذا يعني أنهم تخلوْا عن الصفة التي حكم
الله لهم بسببها بأنهم أقرب مودة. وإن تمسكوا بها على العين والرأس.
ويقول الحق من بعد ذلك: } وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ...َ {
(/744)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر
وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في
وظائف الأعضاء. لقد قال العلم: إن لكل آلة وظيفة، فالعين ترى، والأذن تسمع،
واللسان يتذوق ويتكلم، والأنف يشم، واليد تلمس، وقال العلماء في البداية: إن هذه
هي الحواس الخمس الظاهرة، وكلمة " الظاهرة " هذه إنما جاءت للاحتياط؛
لأن هناك أموراً يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل
الجوع أو العطش، أو في أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلاً.
لقد حاول العلماء إدراك كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر، فقالوا: إن هناك
حاسة اسمها حاسة العضل، فعندما يحمل الإنسان شيئاً ما فإنه يجهد العضلات لدرجة
تمكنه من التمييز بين درجات الجهد. وعرفوا أيضاً أن هناك حاسة اسمها حاسة البين،
وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى ولو كان
السمك يبلغ الواحد من العشرة من المللميتر.
إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها، وهناك حواس تترك بعضاً من الأثر
في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة، ومقرها الوجدان. كإدراك
حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر، فإذا استطاب الإنسان شيئاً أخذ منه مرة ثانية،
وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك.
إذن فهناك إدراك يدرك. وهناك وجدان يجد، وهناك نزوع ينزع. مثال ذلك إدراك وردة
جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقاً وحباً؛ أي
وجداناً، وأنت حر في أن تدرك ما شئت، وأن تجد ما شئت، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف
الوردة؛ لأن الشرع يحرم ذلك. وحارس البستان أيضاً يمنعك من ذلك. هذا على الرغم من
أن أحداً لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها. فالإدراك - إذن - مباح،
والوجدان أمر مباح.
أما النزوع فهذا هو الأمر الذي تتدخل فيه الشريعة، ولنا أن نكرر أن الإدراك مباح
والوجدان مباح إلا في إدراك جمال الأنوثة، فالشرع يتدخل من البداية. فأنت قد تدرك
جمال المرأة فتجد في نفسك حباً وميلاً، فإذا نوعت فكيف يمكنك أن تضبط نفسك؟ فأنت
بعد الإدراك والوجدان إما أن تنزع وإما أن تكبت. وإن نزعت انتهكت أعراض الناس، وإن
كبت، أصابك القهر والألم؛ لذلك يتدخل الشرع في هذه المسألة من بدايتها فيمنعك
تحريماً من أن تدرك، وذلك بأمر واضح وهو غض البصر؛ لأن المسألة الجنسية من الصعب
أن تفصلها عن بعضها، فالإدراك يمكن فصله عن الوجدان، والنزوع يمكن فصله عن الوجدان
والإدراك في أمر الوردة.
أما في المسألة الجنسية فهي سعار.. إما أن يقابله الإنسان بأن يعف وإما أن يلغ.
فإن عف الإنسان فهو يكبت ويتوتر، وإن ولغ الإنسان في أعراض الناس فهذا أمر يسبب
هتك أعراض الناس. ولذلك يمنع الشرع من البداية مسألة الإدراك.
وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء لنفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان
والنزوع، فها هوذا الحق يقول: } وَإِذَا سَمِعُواْ { وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما
المسموع، يجيب القرآن: } مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ {. وهذا هو سبب الوجدان
الذي يأتي في قوله: } تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ
مِنَ الْحَقِّ {. فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم: } يَقُولُونَ رَبَّنَآ
آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ { ، وهذه هي العملية النزوعية. والقرآن
الذي نزل من أربعة عشر قرناً، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به
العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له
علامات ظهرت في عيونهم التّي فاضت بالدمع.
وهنا نميز بين أمرين: الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع
لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال: " اغرورقت عين
فلان " أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من
العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها
امتلاء، تماماً مثلما نملأ إناء أو كوباً إلى النهاية فيزيد ويفيض.
إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن: " مِنْ "
تتكرر في الأداء هنا. } وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ {. فـ "
من " تسبق من الدمع. و " من " مدغومة في " ما " فصاروا
معاً " مما و " مِن " تسبق الحق.
} تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ { فـ " مِن " هنا هي: " مِن "
الابتدائية. و " مما عرفوا " هنا " مِن " السببية أي بسبب
أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و " من الحق " للتبعيض،
أي عرفوا بعضاً من الحق؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن.
إذن جاءت " مِنْ " ثلاث مرات، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع
البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع. وهذه المراتب هي
مظاهر الشعور التي انتهى إليها العالم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف
الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكاً ووجداناً ونزوعاً.
والنزوع هو الذي يهمنا هنا، لقد قالوا: } فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {
والإيمان امر يعود إليهم. أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين، فكأن
المؤمن ينال حظاً عالياً، إنه يؤمن لذاته، ثم من بعد ذلك يكون وعاءً ولساناً يبلغ
منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة
الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الْفَاسِقُونَ }[آل عمران: 110].
أي إنكم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجت للناس لا حسباً ولا نسباً ولكن اتباعاً لمنهج،
ومن يتبع المنهج بـ " افعل " و " لا تفعل " فهو الذي يطبق
عملية الإيمان بالله. ومن أهل الكتاب من يؤمن بالله فيصير مسلماً، ولكن الكثير
منهم يخرج عن حدود الإيمان. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق:{ وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ
عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىا
عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
رَّحِيمٌ }[البقرة: 143].
إذن فالأمة التي تتبع منهج الإسلام - وهو منهج الاعتدال - هي الأمة المهتدية التي
تسير إلى العمل الصالح الصحيح وتعمل به وتطبقه؛ لأنه المنهج الذي ينسخ ما قبله
ويصححه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المهيمن على كل من سبقه من الرسل، وحياته
وما جاء فيها من سلوك هو سنة إيمانية تهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم. وجاءت في
هذه الآية مسألة تحويل القبلة لتعلم المسلمين أن الأمر الأول بالاتجاه إلى بيت
المقدس كان اختباراً ينجح فيه من يذعن لصاحب كل أمر وهو الله، وكان ذلك من الأمور
الشاقة إلا على من وفقه الله إلى الهداية، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بتحويل القبلة
إلى الكعبة وهي أول بيت وضعه الله للناس.
إذن فمادمنا شهداء، وما دام الرسول شهيداً علينا، فالرسول إنما يشهد أننا بلغنا
وننال منزلتين: منزلة تلقى البلاغ عن الرسول، ومنزلة الإبلاغ من بعد ذلك إلى غيرنا
من الناس. والمؤمن لا يكون شهيداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول صلى
الله عليه وسلم. هذه الشهادة التي جاء بها الحق في وصف أمة المؤمنين:{ كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ
خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }[آل
عمران: 110].
فأنتم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجها الله للناس بشرط أن تتبعوا المنهج بـ "
افعل " و " لا تفعل ". تأمرون بالطاعات وتنهون عن كل ما نهى عنه
الدين، وبذلك تكونون قد طبقتم المنهج الدال على صدق إيمانكم بالله إيماناً صحيحاً
صادقاً. ولو صدق أهل الكتاب مثلكم في إيمانكم، لكان خيراً لهم مما هم عليه.
لكنّ بعضاً منهم يدير أمر الإيمان في قلبه، والكثير منهم يخرج ويفسق عن مقتضى
الإيمان.
إذن فهم عندما قالوا: } آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ { ، فذلك إقرار
بأن الإيمان كان إيمان ذات وإيمان بلاغ إلى الغير. وهم بذلك قد دخلوا الإسلام
وصاروا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وها هوذا الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
وها هوذا الحق يحدد لنا قيمة الكلمة الطيبة المبلغة عن الله:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }[إبراهيم:
24-25].
إن الكلمة الطيبة هي شجرة لها من الثمار ما ينفع الناس وتظل بظلها الحنون سامعها،
ولها أصل ضارب الجذور في الأرض. ولها فروع تعلو إلى اتجاه السماء. وتعطي الثمار في
كل زمن بإرادة خالقها. وهذا المعنى المحسوس مادياً يضربه الله كمثل للناس حتى
يعرفوا قيمة المعاني السامية. إذن سيظل صاحب قوله الحق في بلاغ منهج الإيمان إلى
الناس يقطف ثمار هذه الكلمة ما بقي إنسان مؤمن إلى أن نلقى الله.
} فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ { والشاهد هو المبلغ. وعندما يطلب مؤمن من الله
أن يكتبه مع الشاهدين فهو يطلب لنفسه المكانة مع النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين. فالشهيد ليس هو من قتل فقط، إنما الشهيد هو من يعطي شهادته. والشهيد في
معركة إيمانية تفقه حياته هو إنسان أعطى شهادة على أن ما ذهب إليه إثمن من حياته
كلها. وهو في ذلك يعطي شهادة علمية. ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَمَا لَنَا لاَ
نُؤْمِنُ... {
(/745)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
عندما يأتي التعجب هنا فهذا معناه أن الإنسان يحب أن يعلم أن إيمانه بالله مسألة
تعطينا الخير لأنفسنا. فحين نؤمن بالله يقابلنا الحق بفيض الكرم من اطمئنان وخير
وعطاء. فإياكم أيها الناس أن تعتقدوا أن الإيمان جاء ليحجب حرياتكم أو أنه يمنع
عنكم اشتهاء الأشياء. ولكن الإيمان جاء ليعلي الحرية، ويعلي الشهوة فلا يأخذها
الإنسان عابرة تنتهي بانتهاء الدنيا ولكن ليأخذها الإنسان خالدة ما بقيت السموات
والأرض.
إذن فالدين إنما جاء بالنفعية العاقلة؛ لأن العاقل إنما يأخذ على مقدار عمره من
نفع يسير ولا يضر أحداً، وإن كان يضر النفس أو الغير فالدين يأمر بترك هذا النفع،
ذلك أن النفع إما أن يفوت الإنسان أو يفوته الإنسان. والذكي هو من يؤثر نفع غيره
على نفع نفسه.
مثال ذلك أن يأتيك سائل يسألك الطعام لأنه لم يأكل منذ يومين، ولا يكون في جيبك
إلا جنيه واحد فتعطيه له، إنك بذلك تؤثره على نفسك، فتكون ضمن من قال فيهم الحق
سبحانه:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الحشر: 9].
وبمثل هذا السلوك يكون الإنسان قد اقتدى بالأنصار الذين استضافوا المهاجرين وخلصوا
الإيمان فأحبوا أهله، ولا يجدون حقداً أو حسداً فيما خُصّ به المهاجرون من مال
الفيء وغيره، وكان جل همهم أن يسعد المهاجرون وقد سبق أن آثروهم بأشياء كانت لهم
وارتضوا لأنفسهم عدم البخل، فوقاهم الله شر البخل فكانوا من الفائزين. والمتصدق
بجنيه إنما يأخذ من الله عشرة أمثاله، وهذه نفعية كبرى. وعندما أمرنا الشرع بغض
البصر عن محارم الغير، والمنفذ لذلك يحفظه الله ويغض الجميع عيونهم عن محارمه،
أليست هذه نفعية؟ إذن فمن الحمق أن يظن إنسان أن الدين يقيد الحرية، لأن الدين
إنما يعلي الحرية وينميها، وينمي الانتفاع عند المؤمن بأن يحول بينه وبين النفعية
الحمقاء.
ودائماً أضرب هذه المثل: لنفترض أن رجلاً له ولدان؛ الأول منهما يستيقظ صباحاً من
النوم فيفعل مثلما علمه أبوه: يتوضأ ويصلي ويتجه إلى دراسته بعد أن يتناول إفطاره،
أما الابن الثاني فلا يستيقظ إلا بصعوبة ويظل يتناوم إلى أن يأتي الضحى ثم يخرج من
المنزل إلى المقهى. إن كلاً من الولدين أراد النفع لنفسه، الأول أراد النفع الآجل،
والثاني أراد النفع العاجل، وبعد أن تمر عشر سنوات يتخرج الابن الأول ليكون مفلحاً
وناجحاً في الحياة، ولكن الابن الثاني يظل صعلوكاً فاشلاً، إذن فكلاهما نظر إلى
النفعية ولكن المنظار مختلف.
وإياكم أن تفهموا أن هناك إنساناً لا يحب نفسه، لا.
كلنا نحب أنفسنا. ولكن هناك من يحب نفسه حباً يعطي لها طول البقاء، فيجد ويجاهد،
وقد يكون شهيداً، وآخر أحب نفسه بضيق أفق فحافظ على حياته بالجبن وهو قد مات ألف
مرة في أثناء هذا الجبن، وفقد كرامته حرصاً على حياة لن يزيد في مقدارها يوماً
واحداً. والمتنبي يقول:أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصاً عليها مستهاماً بها
صبافحب الجبان النفس أورده التُّقَى وحب الشجاع النفس أورده الحرباولذلك فالمتأمل
بعمق في أمر الدين يقول لنفسه: " ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق
" ، والمؤمن يرى أنه من العجيب ألا يؤمن لأنه يطمح إلى مكانة المؤمن.
" ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " إذن فالمؤمن يطلب مكانة
الإنسان الصالح.
ويقول الحق من بعد ذلك: } فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ... {
(/746)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
إنها كلمة الحق التي تقال في كل مكان وزمان. قالها نجاشي الحبشة وله سلطان لأهل
الجاه من قريش الذين استبد بهم باطلهم؛ لذلك كان لهذه الكلمة وزنها، فعندما سمع ما
نزل من القرآن من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. إذن
فهي كلمة حق لها وزن، والله سبحانه وتعالى يجزل العطاء لكل من ساند الحق ولو بكلمة
فهو سبحانه (الشكور) الذي يعطي على القليل الكثير، و (المحسن) الذي يضاعف الجزاء
للمحسنين.
ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك. وكان قول
النجاشي عظيماً، لكن العمر قد قصر به عن استمرار العمل بما قال. فقد قال كلمته
وجاءه التوكيل من رسول الله ليعقد للرسول على أم حبيبة بنت أبي سفيان فقعد عليها
وكيلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرها من ماله ثم مات، ولم تكن أحكام
الإسْلام قد وصلت إليه ليطبقها؛ لذلك كان يكفيه أنه قال هذا القول، ولذلك صلى عليه
النبي صلاة الغائب.
وهناك قصة " مخيريق " اليهودي. لقد تشرب قلبه الإسلام وامتلأ به وكان في
غاية الثراء فقال لليهود: كل مالي لمحمد وسأخرج لأحارب معه. وخرج إلى القتال مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل فمات شهيداً، وهو لم يكن قد صلى في حياته كلها
ركعة واحدة. إذن مجرد القول هو فتح لمجال الفعل.
{ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ } والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولاً إنما
تأخذ كمالها من عمرها. ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول. ذلك أن
الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة. وعلى ذلك
أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من
الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق:{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ
}[الشعراء: 214].
فهؤلاء قد جزاهم الله حسن الثواب وسمّاهم " محسنين " وكذلك فعل النجاشي،
فقد ذهب إلى الإيمان دون أن توجه له دعوة وكان ذلك قبل أن يكتب رسول الله صلى الله
عليه وسلم الدعوة للملوك ليؤمنوا، وعلى هذا فالنجاشي محسن؛ لأنه قفز إلى الإيمان
قبل أن يطلب منه. وساعة يتكلم الحق عن منزلة من منازل الإيمان فهو أيضاً يتعرض
للمقابل، وذلك لتبلغ العظة مراميها الكاملة. فإذا تحدث عن أهل الجنة فهو يعقبها
بحديث عن أهل النار، وإذا تحدث عن أهل النار فهو يعقبها بحديث عن أهل الجنة؛ لأن
النفس الإنسانية تكون مستعدة للشيء ومقابله.
ويقول الحق من بعد ذلك: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ... }
(/747)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
ونعرف أن كلمة " صاحب " وكلمة " صحبة " وكلمة " أصحاب
" ، هذه الكلمات تدل على الملازمة، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا
قهرية؛ فلا أحد يصاحب أحداً بالقهر.
ونفهم من قوله: { أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار
وأهلها، وليس هذا مرادا، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم، وإما
أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنهى.
وبعد أن تكلم الحق عن المشركين وتكلم عن اليهود وتكلم عن النصارى. فهو يتكلم عن
المؤمنين، إنه ينفض أذهاننا أولا ليزيل عنها ما علق بها من أمر المخالفين
ومناهجهم، ويأتي لنا من بعد ذلك بالأحكام، وقد فعل ذلك في هذه السورة التي تبدأ
بآية العقود:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }[المائدة:
1].
وعقد الإيمان هو ما يرتفع ويسمو على ما يقوله المشركون ويخرج عما يقوله اليهود
والنصارى. ومن بعد ذلك نلاحظ أن الحق بعد أن تكلم عن ضرورة الوفاء بالعقود، فهو
يلزم المؤمنين بالمنهج الذي يحمي حركة الحياة. وحركة الحياة يتم استبقاؤها أولاً
بالطعام والشراب. لذلك قال:{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ }[المائدة:
1].
ومن بعد استبقاء حركة الحياة بالطعام والشراب، ها هوذا يقول: { حُرِّمَتْ }. وهنا
لنا وقفة، فعندما يحلل الله شيئاً من أجناس الوجود؛ وحينما يحرم شيئاً آخر من
أجناس الوجود فللسائل أن يسأل بعقلانية ويقول: ما دام الحق قد حرم هذه الأشياء
فلماذا أوجدها؟ ونعلم في حياتنا العادية أن كل صانع إنما يحدد خصائص لصنعته. ومثال
ذلك صانع الطائرة يصمم طائرته ويحدد الوقود اللازم لها، ولا يمكن أن تسير بوقود
سيارة، فإذا كانت الآلات التي من صنع البشر تفسد إن استخدمنا لها ما لا يناسبها.
فكيف إذن نقول لصانعنا: لماذا خلقت الأشياء التي لا تناسبنا؟ لا بد أن لها مهمة في
الكون واستخداماً آخر يجعلها تنتج الأشياء المفيدة لنا. مثال ذلك سمّ الحية، إنه
يقتل الإنسان، ولكن الله ألهم الإنسان القدرة على استخراج السّم من الحيّة لقتل
بعض الميكروبات.
إذن فالعالم قد خلقه الله بتركيب معين. ومثال ذلك نجد التمساح وهو راقد على الشاطئ
والطيور تلتقط من فمه بعضاً من غذائها ولا يؤذيها؛ لأن هذه الطيور هي التي تنبه
التمساح إذا جاء صياد ليقتنصه، فالطيور تحرص على مصدر قوتها وتحافظ على حياة
التمساح، والكهرباء نستخدمها في مجالها، أما في عكس مجالها فهي تصعق وتدمر.
إذن فليس للإنسان أن يسأل لماذا حرم الله أشياء على الإنسان؟ لأن لتلك الأشياء
دورة في الحياة. ولا يصح أن ننقل الوسيلة لتكون غاية. والحق أراد بالحلال والحرام
أن ينتفع الإنسان بالصلح له.
مثال ذلك أن حرم الله أكل لحم الخنزير. والخنزير إنما وُجد ليأكل ميكروبات. إذن
فليس للإنسان أن يُحَوَّل الوسيلة إلى غاية. ويعطي الحق كل يوم للإسلام قوة تأييد
تأتيه من خصوم الإسلام.
ومثال ذلك: إننا نجد أن الأمراض تنتشر بنسب عالية في الأمم التي تستهلك لحم
الخنزير، وتشرب الخمر، وهناك مرض اسمه " تشمع الكبد " ينتشر في تلك
البلدان، فهل كنا نؤخر تنفيذ أمر الله إلى أن تنشأ المعامل وتقول لنا نتائج أكل
الخنزير؟ أو كان يكفي أن نحرم على أنفسنا ما حرم الله؟ إن علينا أن ننفذ أوامر
الله صيانة لنا:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }[فصلت: 53].
وكل يوم تظهر لنا آية تؤكد صدق إيماننا بالله؛ لذلك فلا يقولن أحد: لماذا خلق الله
تلك الأشياء المحرمة؟ لقد خلقها الله وسيلة لا غاية. ومثال ذلك أن خلق الله لنا
البترول لنستخرج منه الوقود؛ فهل أحد منا يقدر على شرب البترول؟! إذن فالتحليل
والتحريم لصالح الإنسان. فإن خرج الإنسان عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ولذلك يقول
الحق:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ
مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً }[يونس: 59].
كأن الحق يستنكر أن نصنع من حلال ما خلق أشياء محرمة. وأن نحرم أشياء حللها الله.
كترك البحيرة والسائبة والوصيلة؛ وكلها أرزاق من الله. هو سبحانه خالق كل الأشياء
وهو الذي يحدد نفعها وعدم نفعها للإنسان. والبحيرة هي الناقة التي كانوا يشقون
أذنها حتى لا يتعرض لها أحد بعد أن تكون قد نتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، وكانوا
يطلقونها في المراعي لا تُركب ولا تُحلب ولا يُمنع عنها مرعى أو ماء. وكانوا
يقولون إنها للآلهة. وعندما نستكشف آفاق من يستفيد منها، كنا نجد الكهنة هم الذين
يستفيدون منها. وكذلك السائبة وكانوا يتركونها تطوعاً لا يركبها أحد ولا يحلبها
أحد وكان المستفيد منها الكهنة أيضاً. وكذلك الوصيلة وهي الأنثى التي جاءت في بطن
واحد مع ذكر وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وكذلك كانوا يطلقون
الفحل الذي نتج من صلبه عشرة أبطن وقالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه ولا
يمنع من ماء ولا مرعى، والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنا لم أحرم هذه الأشياء
فلماذا تحرمونها؟
هو سبحانه قد حرم الميتة والدم لأنه هو الذي حدد وبيّن ما هو حلال وما هو حرام.
وسبحانه الذي يرزق الرزق فيكون مرة رزقاً مباشراً ومرة يكون رزقا غير مباشر. ولذلك
جاء الحق بالقول الكريم: } ياأَيُّهَا الَّذِينَ... {
(/748)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
إذن فأمر التحريم موكول إلى خالق الآله الإنسانية، وأمر التحليل موكول إلى خالق
الآله الإنسانية. وأنت أيها الإنسان لا تتدخل في ذلك أبداً. لأن تدخل الإنسان يكون
أحياناً بتحريم ما أحل الله، وأحياناً يكون تدخل الإنسان بتحليل ما حرم الله.
إياك أيها الإنسان أن تحرم ما أحل الله لك، وإياك أن تحلل ما حرم الله عليك. ونحن
هنا أمام مراحل عدة، لا تعتقد أن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تقل إن هناك
أمراً حلله الله هو حرام، ولا تمتنع عن أمر حلله الله ظناً أنه حرام، ولا تُفْتِ
بأمر حلله الله على أنه حرام، ولا تجعل أمراً حلله الله فتحرمهَ على نفسك، فلا
ينذر أحد ألا يأكل لحم الضأن أو البرتقال - على سبيل المثال - لأن النذر في ذلك
ليس حلالاً، لأن تحريم الأشياء المحللة بالنذر هو أمر محرم. ولذلك علمنا الحق
قائلاً لرسوله:{ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }[التحريم: 1].
لا بد لنا أن نعى ذلك الأمر وأن نعرف مراحله: لا تعتقد، لا تقل، لا تمتنع، لا
تُفْتِ، لا تنذر، لماذا؟ لأن في ذلك اعتداء.
يقول الحق تبارك وتعالى: { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ
لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [المائدة:
87].
وما الاعتداء؟ إنه تجاوز الحد فيما حرم الله أو فيما حلل الله. أي أن الله يحب من
يقف عند الحدود. وهو سبحانه يقول مرة:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا
}[البقرة: 187].
ومرة يقول:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229].
فهي المنهيات: لا تقترب. وفي ما أحله الله: لا تتعدَّ؛ لذلك جاء القول على لسان
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " الحلال بين والحرام بين وبينهما
مُشْتَبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المُشْتَبهات فقد استبرأ لدينه
وعرضه، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه،
ألا وإن لكل ملكٍ حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه؛ ألا وإن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
إذن فكل كائن له مميزات وله مهمة في الوجود. وأنت أيها الإنسان لا تقلب الوسيلة
إلى غاية، فهناك كثير من المخلوقات هي وسائل ولا تصلح أن تكون غايات؛ ولذلك أمرنا
الحق بأن نأخذ ما ننتفع به مباشرة وأن نترك الأشياء التي حرمها علينا؛ فلا نقرب -
على سبيل المثال - لحم الخنزير؛ لأن الخنزير مخلوق ليخلصك من الميكروبات، فإن
أكلته تكون قد قلبت الوسيلة إلى غاية. وعليك أيها الإنسان أن تحتفظ بالوسيلة
كوسيلة وأن تحتفظ بالغاية كغاية.
والذي يحدد لك ذلك هو من صنعك.. إنه الله.
ودليل ذلك أن خصوم الإسلام يكتشفون كل يوم المميزات التي جاء بها الإسلام فيتجهون
إليها. إن الله بتحريمه وبإيماننا بهذا التحريم منعنا من متاعب التجربة إلى أن
تثبت، والكفار الذين لم يأمنوا اضطرتهم الظروف إلى تناوله، وعلى ذلك فكل شيء محلل
أو محرم بأوامر الله يظهر لنا فائدته أو ضرره طبقاً لقول الحق سبحانه وتعالى:{
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
}[فصلت: 53].
إذن فلا اعتقاد في شيء حلال أنه حرام ولا قول بمثل ذلك ولا امتناع عنه ولا يفتي
إنسان بمثل ذلك. ويأتي الأمر: } وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ {. ونعرف أن الاعتداء إنما هو أن نتجاوز الحد فيما حرم أو فيما
حلل، والحق سبحانه يحب من يقف عند حدود الله. فلا يقربها الإنسان حتى لا تحدثه
نفسه بمعصية. وعندما يبتعد المسلم عنها فهو يتقي الشبهات.
والحق يبين لنا قد أحللت لكم كذا وحرمت عليكم كذا وهو الخالق. فيجب أن نأخذ من
الخالق مواصفات ما يبقي لنا الحياة؛ هذا الإبقاء هو ما نصنعه نحن حينما نخترع آلة
توفر علينا الحركة وتعطينا الثمرة بأقل مجهود، فحين يصنع الصانع آلة من الآلات
يصنع لها ما يوجد لها الطاقة لتقوم بعملها، ولا يستطيع المستعمل لهذه الآلة أن
يغير وقود هذه الطاقة، فإن غير نوع الطاقة، فالآلة لا تؤدي مهمتها. فما بالنا
بالذي خلق؟
إنه حين يوضح أنّ هذه الآلة لا تصلح إلا بما أحللت، ولا يصح أن تدخل عليها ما حرمت
عليك. هنا يجب أن نطيع الخالق؛ لأنه هو الذي يعلم ما يصلح لنا وما لا يصلح. ولم
يدع أحد في الكون أنه خلق نفسه، فلنرد اقتياتنا وحفظ حياتنا إلى خالقنا، ولنأخذ ما
حلله ونبعد عما حرمه، فالآلة - الإنسان - تصلح بأن تفعل الحلال وأن تترك فعل
الحرام. إذن هناك أشياء تُفعل، وهناك أشياء لا تُفعل. وهناك أشياء لم يأت فيها
الحل أو الحرمة، فإن أقبل عليها الإنسان فهي تصلح، وإن لم يقبل عليها الإنسان فهي
تصلح أيضاً. والحق سبحانه وتعالى يوضح: أنكم لم تخلقوا هذه الآلة - الإنسان - وأنا
الذي خلقتها، فإنا أعلم بما يعطيها مدد الطاقة ومدد البقاء، فإن صنعتم غير ذلك كنتم
معتدين.
ولذلك يخاطب الحق الذين آمنوا بأنه خلقهم من عدم وأمدهم من عدم ورزقهم لاستبقاء
حياتهم ونوعهم، وعليهم أن يأخذوا من الله هذه الأحكام: } لاَ تُحَرِّمُواْ
طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ {. وسبحانه يوضح: إن الذي يؤمن بأني إله
فليأخذ مني مواصفات استبقاء حياته. وعندما يقول سبحانه ذلك فلا بد أن يكون هناك
سبب داعٍ لهذا القول ولما نزل قوله - سبحانه -:
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىا ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }[المائدة: 82].
الحق جاء في هذا القول الكريم بحيثيات مدحهم وحيثيات قربهم من مودتنا، فمنهم
القسيسون والرهبان الذين زهدوا في الحياة. ولما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذلك بكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وفيهم أبو
بكر الصديق وعمر وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر
الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن،
واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا
اللحم ولا الودك أي الدسم. ويجبوا المذاكير ويسيحوا في الأرض كما يفعل الرهبان،
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه فقال: "
ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب
عن سنتي فليس مني ".
وأنزل الحق سبحانه وتعالى: } ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ
طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ { [المائدة: 87].
وكلمات الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته وللناس منطقية، فإذا كانوا يريدون أن
يمتنعوا عن طبيات ما أحل الله حتى يعلنوا الزهد مثل السابقين عليهم، ومن يريد
الرهبنة أَلا يصلي؟ أنه يقيم الصلاة؛ والصلاة لا بد لها من حركة، والحركة لا بد
لها من قوة، والصلاة لا بد لها من ستر العورة، وستر العورة يقتضي اللباس، وهذا
اللباس يحتاج إلى تفكير من أين يأتي هذا. القماش يأتي من تاجر أقمشة، وتاجر
الأقمشة لا بد أنه يأتي به من المصانع التي تنسجه، والمصانع التي تنسجه لا بد أن
تأتي من المصانع التي غزلته، والمصانع التي غزلته لا بد أن تأتي به من المحالج
التي حلجت، ثم لا بد من الحيوانات التي أخذ منها إن كان صوفاً، وأن تُربى وتربيتها
تحتاج إلى زراعة. إذن فكل هذه الأشياء تتطلب حركة واسعة، أنت لا تشعر بها إلا حين
تحتاج إلى الثوب. فإن كنت تريد أن تنقطع للعبادة فإياك أن تنتفع بحركة من يقيم
أركان الإسلام، ويتحرك في الحياة في ضوء منهج الله ساعياً إلى الرزق، وهذا أمر لا
يتأتى.
وأيضاً، ألا يأكل الذي يريد الانقطاع إلى العبادة؟ إنه يأكل ليقوم إلى الصلاة.
وكلنا يعرف كيف يجيء رغيف الخبز. صحيح أن الإنسان يذهب إلى المخبز ليشتري رغيف
الخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن. والمطحن جاءته الغلال من المخازن، والغلال
جاءت من الذي زرع. والذي زرع احتاج إلى الآت تحرث وآلات تغرس وإلى آلات تجنى، وبعد
ذلك احتاج إلى أشياء أخرى كالسماد وغيره، إن هذا يحتاج إلى طاقة هائلة.
إذن فالإنسان في حركته في الصلاة محتاج إلى كل هذه الأعمال، فإياك أن أردت أن
تعتزل الحياة أن تنتفع بعمل من لم يعتزل الحياة. والعمل الذي لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب. ولذلك يكون على ولي الأمر إن رأى حرفة يتطلبها الوجود الإنساني والوجود
الإيماني ولم يذهب إليها أناس طوع أنفسهم عليه أن يلزم قوماً بأن يفعلوها. وكل
صناعة هي فرض كفاية إن قام بها البعض سقطت عن الباقين. وإن لم يقم بها البعض أثم
الجميع.
إذن فلا بد من حركة الحياة. وحركة الحياة تُسْلم حلقة إلى حلقة أخرى. فلا تأخذ
الثمرة وأنت مع ذلك تعتزل الحياة. والحق سبحانه وتعالى يقول: } لاَ تُحَرِّمُواْ
طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ {. إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشرع
واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم، وهذا اعتداء.
وإذا كان الله قد حرم أشياء وحلل أشياء فهذا بمقتضى صلاحية الأشياء المحللة
للإنسان. وعلى الإنسان أن ينظر إلى الأشياء الموجودة المحرمة على أنها رزق غير
مباشر لأنها وسيلة إلى رزق مباشر، كما عرفنا أننا نستخلص من سم الثعبان علاجاً،
إذن فالثعبان مخلوق لمهمة تخدم الإنسان. والعالم كله حلقات، حيوانات تستفيد من أذى
بعضها إلى أن يصل الخير كله إلى المؤمن، فلا يقولن إنسان " لماذا خلق إذا كان
قد حرم ".
فلا تعتد لتحلل ما حرمه الله وتحرم ما حلله الله، فبترك الاعتداء ينتظم الوجود،
وحين ينظر الإنسان إلى الغابة يجد أن لكل حيوان مهمة مع غيره، هذه المهمة تؤدي إلى
الصلاح فيما يصلح للإنسان. لقد حرم الحق بعض الأشياء كرزق مباشر؛ لأنها رزق غير
مباشر. والرزق المباشر هو ما يأكله الإنسان مباشرة وما يلبسه، والرزق غير المباشر
هو وسيلة إلى الرزق المباشر، وما حرمه الله هي أشياء مخلوقة كوسائل إلى صحة غيرها.
} ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ
لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ { أي لا تجعلوا الحرام حلالاً، ولا تجعلوا الحلال
حراماً، و " لا تعتدوا " أي كلوا من الطبيات دون أن تتجاوزوا الحد، وهذا
هو معنى قوله الحق:{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ }[الأعراف: 31].
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ... {
(/749)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
أولا نسأل: ما هو الرزق؟ الرزق هو ما انتفع به. فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق،
والذي تلبسه رزق، والذي تتعلمه رزق، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق،
وكل شيء ينتفع به يُسمى رزقاً.
ولكن حين يقول الحق: { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً }
فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان. وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل
الإنسان من الرزق الحلال الطيب. إذن هناك رزق حرام، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا
ينتفع به، هذا رزق جاء به طريق حرام، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها
رزقه. أو الرزق هو ما أحله الله، وهنا اختلف العلماء وتسائل البعض: هل الرزق هو
الحلال فقط والباقي ليس رزقاً؟ وتسائل البعض الآخر: هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه
ما يكون حلالاً ومنه ما يكون حراماً؟ الحق يقول:{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً }[المائدة: 88].
كلوا ما رزقكم هذا أسلوب، { مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } هذا أسلوب آخر. فما رزقكم
الله أي نأكله كله، وهذه لا تصلح؛ لإننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه؛
لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحاً لإيجاد مثله، وإما أن يكون غير صالح
لإيجاد مثله، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلاً فهو لا ينتج سنبلة قمح، إذن يجب
علينا أن نأكل بعضاً ونستبقي بعضاً صالحاً لأن ينتج مثله، فعندما نحتفظ بالقمح فهو
يصلح أن يأتي بسنابل القمح؛ لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ
ببعض الورق لا نأكله، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق، فلو أكل الإنسان كل القمح
الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض
الرزق لنصنع به امتداداً رزقياً في الحياة؟
والرزق الحلال هنا نوعان: ما يصلح لامتداده فيحجب احتجاز بعض منه من اجل أن
يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر. وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلاً. نأكل
بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة. ولذلك نجد الحق في سورة يوسف يقول عن
رؤيا الملك:{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىا سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ
سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا
الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }[يوسف:
43].
هنا قال أهل تفسير الرؤيا:{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ }[يوسف: 44].
إنه اضطراب في الجواب؛ لأن كونها أضغاث أحلام أنها لا معنى لها، وقولهم بعد ذلك: {
وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } فمعنى ذلك أن لها تأويلاً
وقد كان لها تأويل، ثم من الذي رأى الرؤيا؟ إنه الملك. ويأتي الحق بيوسف مفسراً
للرؤيا.
إذن فلا ضرورة أن يكون الرائي مؤمنا ولا صالحاً. وقد يقول قائل: كيف يطلعه الله
على مثل هذه المسائل؟ ونقول: قد تكون الرؤيا إكراماً للرائي، وقد تكون الرؤيا
إكراماً للمعبر الذي يعرف التأويل، وهي هنا إكرام للمعبر وهو سيدنا يوسف. وعرف
سيدنا يوسف كيف يفك " شفرة " الرؤيا، والعجيب في الرؤيا أن البقر الهزيل
يأكل البقر السمين: وهنا قال يوسف:{ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا
حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ }[يوسف:
47].
أي كلوا البعض وليكن قليلا قليلا، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن
سنين الجدب لتأكلوا فيها ما جمعتوه في سنين الخصب، اتركوا البعض الآخر. لاستمرار
النوع. وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنابله وكذلك
الذرة نتركها في غلافها. وكان تعبير الرؤيا دقيقاً لأنه يريد أن يستبقي للناس
حياتهم في زمن الجدب، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني، فتأكل الناس الحب، وتأكل
الماشية التبن المتبقي، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة. ونلحظ
أن المأكول في هذه الآية هو القليل، أما الباقي فهو الكثير في سنابله، هذا في أيام
الرخاء؛ فماذا عن أيام الجدب؟{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ
يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ }[يوسف:
48].
أي أن الناس ستأكل في أعوام الجدب الكثير من الحبوب التي في المخازن ويجب أن
يحتفظوا بقليل مما يحصنون في هذه المخازن، وذلك لاستبقاء جزء من القمح للزراعة.
إذن فـ (من) في قول الحق سبحانه وتعالى: } وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
حَلاَلاً طَيِّباً { للتبعيض أي أكلوا بعض ما رزقكم الله، فإن كانت الأشياء مما
يكون بقاؤها سبباً لامتداد نوعها فالنوع يكون متصلاً. مثال ذلك رجل عنده بذور
البطيخ وزرعها، وبعد أن جاءت الثمار أكلها هي والبذور فمن أين يزرع في العام
القادم؟ كان يجب أن يحتفظ ببعض منها لتكون بذوراً. وكان يجب أن يحتفظ بجزء من
البطيخ ليعطي منه الجار أو المحتاج؟
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: } مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ { تصلح لاستبقاء النوع
وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر. } وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ
مُؤْمِنُونَ { أي أنك حين تتقى من تؤمن به إلهاً فليس في ذلك غضاضة؛ لأنك آمنت أنه
إله وقوي، والغضاضة في أن تأمر بأمر مُساوٍ لك، أما الانقياد والائتمار لأمر
الأعلى منك، فهذا لا يكون سبباً في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم.
ونجد الحق يشرع لنا ذلك في قصة سيدنا موسى على السحرة، فألقى موسى عليه السلام
عصاه، ورآها السحرة حية، والساحر ينظر إلى الشيء الذي تم سحره فيراه على حقيقته
وصورته الأصلية، أما المسحورون بالرؤية فهم الذين يرون الشكل المراد لهم رؤيته.
ورأى السحرة حبالهم مجرد حبال؛ وعصا موسى هي التي صارت حية.
هنا عرفوا أنها مسألة أخرى فماذا قالوا؟:{ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
* رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 47-48].
لقد عرفوا أن هذا أمر خارج عن نطاق البشرية. إذن فما كان من أمر السحرة تجاه قوم
فرعون هو تخييل للنظر:{ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىا
}[طه: 66].
وقال الحق:{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ }[الأعراف: 116].
أما موسى عليه السلام فحين ألقى العصا أول مرة ووجدها حية خاف لأنه رأى في ذلك
قلباً للحقيقة. أما عند السحرة فليست حبالهم حيات حقيقية ولكنها سحر لأعين الناس
أي تخيل للناظر. ومثال آخر هو سيدنا سليمان عندما أرسل لبلقيس ملكة سبأ. وجاء
رسوله يقول لها:{ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }[النمل: 31].
فماذا قالت لحاشيتها من رجال القتال؟:{ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىا
تَشْهَدُونِ }[النمل: 32].
وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأياً سياسياً؛ فقالوا:{ قَالُواْ نَحْنُ
أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِينَ }[النمل: 33].
الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال
الواقعة، وموازين رد الفعل، وأدارت بلقيس المعركة سياسياً، فأرسلت هدية من مقام
ملكة، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها، وعندما وصل رسلها بالهدية،
ماذا قال سليمان؟{ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ
آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ
لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }[النمل:
36-37].
وهنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري، وها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوى
هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور، أما إذا كان الأمر من غير المساوى ومن
الأعلى - سبحانه - فلا ذلة فيه لأحد. وكان إيمان بلقيس إيماناً ملوكياً.
فقالت:{ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[النمل: 44].
إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قالت: } وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ
{. إذن فلا غضاضة في إيمانها. وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة
في أن يحكمهم إنسان آخر. لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين، ولا غضاضة في
ذلك: ونعود إلى قوله جل شأنه: } وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً
طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ { [المائدة: 88].
أي: اجعلوا للإيمان حيثية، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به. فأنت لا تؤمن
إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان. وقوله أولاً في الآية السابقة: } وَكُلُواْ
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم
بِهِ مُؤْمِنُونَ { [المائدة: 88].
وقوله في تذييل هذه الآية: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
{ [المائدة: 88].
هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين، إيمان خوطبوا به، وإيمان أقروه به، ومن بعد ذلك
يقول الحق: } لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ... {
(/750)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
عندما ننظر في قول الحق: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ } نعرف أن " يؤاخذ " من " أخذ " ويأخذ من أخذ،
فإن قلت: " أخذت فلاناً بكذا " فذلك دليل على أنك أنزلت به نكالاً لأنه
لم يدخل في تعاقد خيري معك، ولكن أن تقول: " آخذته ". كأن المفاعلة حدثت
بأن دخل معك في عقد الإيمان ولذلك يأخذ الحق الكافرين أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يؤاخذ
المؤمنين، لماذا؟ لأن المؤمنين طرف في التعاقد، أما الكافرون فليسوا طرفاً في
التعاقد؛ لذلك يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
إذن فالمؤاخذة غير الأخذ، المؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل
جريمة نُصَّ عليها؛ فلا يؤاخذه أبداً بجريمة لم ينص عليها، ولا يتم توقيع عقاب على
أحد دون تحذير مسبق. ولذلك ففي القانون المدني يقولون: لا عقوبة إلا بجريمة ولا
جريمة إلا بنص.
إذن لا بد من النص أولاً على العقاب على الجريمة؛ لأن النص على فعلٍ ما بأنه جريمة
يجعل الإنسان يراجع نفسه قبل الإقدام على مثل هذا الفعل. أما عدم وجود نص على أن
ذلك الفعل جريمة يجعل الإنسان حراً في أن يفعله أو لا يفعله لأنه فعل مباح.
وعلينا أن نلحظ التعاقد في قوله الحق: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمَانِكُمْ }. وعندما ننظر إلى معنى: " اللغو " نجده الشيء الذي
يجري على اللسان بدون قصد قلبي؛ مثل قول الإنسان في اللغة العامية: لا والله أو:
والله أن تأتي للغداء معنا، هذا هو اللغو. أي هو الكلام من غير أن يكون للقلب فيه
تصميم. وسبحانه وتعالى قد خلقنا وهو الأعلم بنا علم - سبحانه - أن هناك كلمات تجري
على ألسنتنا لا نعنيها. ودليل ذلك أن الأم التي تحب وحيدها قد تدعو عليه، لكن ذلك
بلسانها، أما قلبها فيرفض ذلك. ولهذا يقول المثل الشعبي: أَدْعي على ابني واكره من
يقول آمين.
إذن الحق سبحانه وتعالى علم بشريتنا، وعلم أن اللسان قد يأتي بألفاظ لم تمر على
قلبه فيقول سبحانه: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }
واتبع الحق ذلك: { وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ }. وساعة
نرى كلمة " ولكن " نعرف أن هناك استدراكاً، والاستدراك هو إثبات ما
يتوهم نفيه أو نفي ما يتوهم ثبوته. وساعة نرى كلمة " عقَّدتُم " فهي
دليل على أنها عملية جزم قلبية، وأن الإنسان قبل أن ينطق بالقسم قد أدار المسألة
في ذهنه وخواطره وانتهى إلى هذا الرأي.
إذن فاللغو هو مرور كلمة اللسان دون أن تمر علة القلب، وضربنا مثلاً على ذلك وهو
دعاء الأم على وحيدها.
ونحن نرى أن هناك ألفاظاً كثيرة تمر على ألسنة قد تؤدي إلى الكفر ولكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله يضع لنا صدق النية فيقول: " " أخطأ
من شدة الفرح ". قالها رسول الله تعليقاً على رجل قال: " اللهم أنت عبدي
وأنا ربك " ".
هذا هو اللغو ومن رحمة الله بنا أنه يعفو بعميق وواسع رحمته فيقول لنا: } لاَ
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم
بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ {. وكلمة " عقدتم " دليل على أن اللسان
لم يعقد شيئاً فحسب ولكن عقده بإحكام قوي. فساعة تبالغ في الحدث فأنت تأتي له
باللفظ الذي يدل على المعنى تماماً بتمكين وتثبيت. وعلى ذلك فكلمة " عقَّد
" غير " عَقَدَ " إذن فكلمة " عقَّد " أي أن الإنسان قد
صنع عقدة محكمة. ومثال على التأكيد قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَغَلَّقَتِ
الأَبْوَابَ }[يوسف: 23].
قد يقول قائل: ألم يكن يكفي أن يقول الحق سبحانه: " وغلقت الأبواب "؟
ونقول: لا إن الحق قد أتى بالفعل الذي يؤكد إحكام الإغلاق. فإغلاق الأبواب يختلف
من درجة إلى أخرى؛ فهناك غلق للباب بلسان " طبلة " الباب؛ وهناك غلق
بالمزلاج، وقوله الحق: } وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ { أي أن امرأة العزيز بالغت في
غلق الأبواب. وكذلك قوله الحق: } عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ {. أي جالت في قلوبكم
جولة تُثبِّت صدق نيتكم في الحلف. وهناك صورة أدائية أخرى تلتقي مع هذه الصورة في
المعنى، حين قال سبحانه:{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ }[البقرة: 225].
ونلحظ هنا أن القلوب قد كسبت، فما الذي تكسبه القلوب في مثل هذه الحالة؟ نعرف أن
الكسب هو وجود حصيلة فوق رأس المال. والكسب الزائد في القسم، هو أن يؤكد الإنسان
بقلبه هذا القسم؛ أي أن القسم انعقد باللسان والقلب معاً وسبب نزول آية سورة
المائدة } لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ { أن الصحابة
الذين حرموا على أنفسهم طيبات المطاعم والملابس والمناكح وحلفوا على ذلك فلما نزل
قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً
وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }[المائدة: 87-88].
قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية أي أن تحريم الحلال لغو لا كفارة فيه،
ونعلم أن الإنسان لا يصح له أن يحلف على شيء ليس له دخل فيه؛ كقول إنسان ما: والله
لن أصلي. إن مثل هذه اليمين لا تنعقد، ولذلك لا كفارة لها. لكن إن قال: والله
لأشربن الخمر. هنا نقول له: امتثل إلى ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
" من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
".
والحق سبحانه وتعالى يقول: } وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ
الأَيْمَانَ { إذن فهناك استدراك يتعلق باليمين المؤكدة وهي تستدعي المؤاخذة. فكيف
تكون المؤاخذة وهي عقوبة، على الرغم من أنه لا عقوبة إلا بنص؟ إن الحق سبحانه
وتعالى ستر العقوبة ومنعها بالكفارة: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما
تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ".
والكفارة هي ستر للعقوبة. فهل معنى ذلك أن الإنسان تلزمه الكفارة ما دام قد عقَّد
الأيمان؟ لا، تكون الكفارة فقد حين تحنث في القسم فلم تبر فيه. فتكون الكفارة في
هذا المجال كالآتي: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو
تحرير رقبة، أو صوم ثلاثة أيام لمن لم يجد.
والمناسب في الكفارة يختلف في مفهوم المفتين باختلاف الحانث، ومثال ذلك أن خليفة
في الأندلس حلف يميناً وأراد أن يؤدي عن اليمين كفارة، فجاء إلى القاضي منذر بن
سعيد وسأله عن كفارة هذه اليمين؛ فقال: لا بد أن تصوم ثلاثة أيام. وكان يجلس شخص
آخر فأشار للقاضي إشارة فلم يعبأ القاضي منذر بن سعيد بتلك الإشارة. وخرج القاضي
ومعه ذلك الشخص، فسأل القاضي: يا أبا سعيد، إن في نفسي شيئاً من فتواك؛ لماذا لم
تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ فقال القاضي منذر بن
سعيد: أمثل أمير المؤمنين يزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟
وهذا يدلنا على أن القاضي منذر بن سعيد قد أجهد نفسه ليختار الكفارة التي تزجر.
وهذا يعلمنا أن الكفارة في جانب منها زجر للنفس وفي جانب آخر جبر للذنب. وقد رجح
القاضي منذر بن سعيد جانب الزجر على جانب جبر الذنب؛ لأن الخليفة لن يرهقه إطعام
عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق أكثر من رقبة.
وفي الإطعام لعشرة مساكين من أواسط ما نطعم به الأهل، قد يقول قائل: هل الأوسطية
هنا للكمية أو الكيفية؟ ونقول: يراعى فيها الكمية والكيفية. فإن كانت وجبة الإنسان
مكونة من رغيف واحد فليعرف أن مِن أهله من يأكل في الوجبة الواحدة ثلاثة أرغفة
فيكون الأوسط في مثل هذه الحالة رغيفين مع ما يكون من أدم كلحم ودسم. وكذلك
الكسوة؛ أن يكسو الإنسان الذي يكفر عن يمين عشرة مساكين بما يستر العورة وتصح به
الصلاة؛ كإزار ورداء أو قميص وعمامة، أو أي ملابس تسترهم. وها نحن أولاء نجد أن
كفارة تحرير رقبة تأتي في المرتبة قبل الأخيرة ويأتي بعدها قول الحق: } فَمَن
لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ {. إذن فالحق لم يرتب الكفارة وإنما
علينا أن نختار منها الكفارة الملائمة.
ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول: } وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ { والحفظ هو عدم
التضييع. أما كيف نحفظ أيماننا؟ فنقول: إن على الإنسان ألا يجري اليمين على لسانه،
هذه واحدة. والثانية: أن يحاول الإنسان ألا يحنث في اليمين. وهذا يقتضي ألا يحلف
الإنسان على شيء يقوله بلسانه ويخضعه لقلبه إى إذا كان على ثقة من أنه سيجند كل
جوارحه للقيام بهذا العمل الذي أقسم أن يقوم به، وهذا هو معنى قوله الحق: }
وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ {.
ويذيل الحق الآية الكريمة: } كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {. والشكر هو الثناء من المّنعم عليه على المُنْعِمِ
بالنعمة، فكأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر؛ لأنها جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه،
ولأنها جعلت اليمين الذي عقَّدته له كفارة، وفي كل من الأمرين تيسير يستحق الشكر
لله.
ويتابع الحق القول: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {
(/751)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
ساعة تسمع كلمة: " إنما " فاعلم أنهم يسمونها في اللغة " أداة قصر
" كقولنا: إنما زيد مجتهد، وهذا يعني أننا قَصِرَنْا زيداً على الاجتهاد. لكن
إذا قلنا: إنما المجتهد زيد، فنحن في هذه الحالة قَصَرْنا الاجتهاد على زيد. وساعة
تقصر إنساناً على وصف فذلك يسمونه: " قصر موصوف على صفة " ، وعندما
نقول: إنما زيد شاعر. فهذا يعني أن زيداً شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب. أما إن
قلت: إنما الشاعر زيد، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد؛ فكأنك نفيت عن الآخرين
أنهم شعراء، وأن زيداً فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتباً وخطيباً وعالماً مع
كونه شاعراً. إذن فساعة ترى " إنما " فاعرف أنها أداة من أدوات القصر.
والحق سبحانه يقول هنا: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90].
أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو الشيء
الرديء الخبيث القذر. والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر،
وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام؛ وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معاً.
ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما
يخامر العقل ويستره. وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس
فيها شيء من عصير العنب، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل، لكن
الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل. لماذا إذن تكون الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجساً من عمل الشيطان؟
إنّ الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في
الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض. وأراد الحق أن يضمن للإنسان
سلامة أشياء متعددة؛ سلامة نفسه فلا يُعتدي عليها بالقتل أو غير ذلك، وسلامة عقله
فلا يُجنى عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل، وسلامة عرضه فلا يَلغ فيه أحد
وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة، وسلامة ماله حتى يحفظ على
الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته، وذلك حتى لا يزهد
العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتواكل، فالإنسان
إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعباً عليه، وهكذا كانت صيانة المال لا
تبدد طاقة ولا تهدر حقا، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره، وهكذا حتى لا يشيع العجز
الاصطناعي في الكون.
ولذلك قال الحق وهو مانح كل مال:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً }[البقرة: 245].
أي أنه - وهو المانح سبحانه وتعالى - قد احترم حركة الإنسان فلا يستمرئ أحد البطالة.
وعندما تنتشر البطالة في الإسلام يعالج الأمر بحكمة بالغة؛ فهو يطلب من الوالي أن
يسبب لهم الأسباب ليعملوا. وذلك حتى لا يتعودوا على الأخذ بغير عمل لئلا تكون
مصيبة على المجتمع. وأراد سبحانه بالشريعة السمحاء أن يحمي الإنسان من كل ما
يبدده، فحينما حرم الخمر، أي منع عن الإنسان ستر العقل، ذلك أن ميزة الإنسان على
الحيوان هي العقل.
إن الإنسان يختلف عن الحيوان بأنه يحفظ حياته بالعقل، أما الحيوان فيحفظ حياته
بالغريزة. ولذلك فالحيوان لا يملك إلا رداً واحداً إذا ما تم الاعتداء عليه؛ الكلب
يعض المعتدي والقطة تخمش المعتدي، أما الإنسان فعندما يعتدي عليه أحد فهو يختار
بين بدائل للرد على العدوان، إما أن يضرب وإما يقتل وإما أن يسامح.
ومثال لذلك نراه في الريف، عندما يحاول راكب الحمار أن يجبر الحمار على القفز على
قناة صغيرة فيها مياه يرفض الحمار ذلك تماماً ومهما ضربه راكبه فهو يرفض القفز؛
لأن غريزته تمنعه من ذلك. أما الإنسان فقد ينتابه الغرور ويظن أنه قادر على القفز
فوق القناة فيقفز لكنه قد يقع في المياه. وتوجد المجازفة عند الإنسان، لكنها لا
توجد عند الحيوان بمقتضى الغريزة.
ومثال آخر من عالم الحيوان. نجد ذكر الجاموس يقترب من الأنثى ليشمها فإن وجدها
حاملاً لا يقربها، هكذا الحيوان. أما الإنسان فلا. والحمار يتناول طعامه من
البرسيم مثلا ما يشبعه ولا يزيد أبداً في الطعام مهما ضربه صاحبه؛ لأنه محكوم
بالغريزة، أما الإنسان فقد يأكل فوق طاقته.
وهكذا نجد الغريزة هي التي تعصم الحيوان، والعقل هو الذي يعصم الإنسان. ولذلك لا
يملك الحيوان القدرة على الاختيار، ولكن ميزان غرائزه لا يختل أبداً. أما ميزان
الغرائز عند الإنسان فقد يختل.
لقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بالاختيار بين البدائل بالعقل، ولذلك لا يصح ولا
يستقيم من الإنسان أن يطمس هذه القدرة بالخمر. فإن طمس قدرة الاختيار، فإن غرائزه
في هذه الحالة لا تنفعه لأنها غير مؤهلة لحمايته، ولذلك نجد الذي يطمس عقله يضع
نفسه في مرتبة أقل من الحيوان؛ لأن الحيوان تحميه الغريزة، والإنسان يحفظه عقله،
وهو في هذه الحالة قد طمسه وغطاه، وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل. وكل ما
يستر العقل خمر ولو كان أصله حلالاً؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف. وكذلك حرم
الله الميسر.
ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار، إنه " الميْسر " ولم يسمه
" المعسر " ذلك أن أحداً لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر، وكل
من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن
حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب، وإن كسب فالمكسب يُغْريه بالمزيد من
اللعب.
والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسباً يعرض الخسارة التي مني بها، وقد يبيع اللاعب
للميسر كل ما يملك كي يعوض خسارته ومع ذلك فالكسب من الميسر هين على النفس تبدده
وتنفقه فيما لا ينفع بل قد ينفقه فيما يضر، فالمكسب ليس له والخسارة محسوبة عليه.
والذين يلعبون الميسر مع بعضهم لا تربطهم صداقة أو محبة. فكل منهم حريص على أن
يأخذ ما في جيب الآخر. وهذا اللون من اللعب يعطل القدرة على الكسب الحلال؛ لأن
الكسب الحلال يحتاج إلى حركة في الكون. والميسر يشل حركة الكاسب لأنه يزهد في
العمل. والخسران يشل حركة الخاسر لأنه مهما سعى في الأرض فقد لا يستطيع أن يسدد
ديونه.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للناس ألا ينتفع أحد بشيء إلا نتيجة كده
وعمله. والحق يريد أن يكون جسد كل إنسان من ناتج عرقه في عمل مشروع وكذلك أجساد من
يعول. وأبلغنا أيضاً أن الأنصاب رجس من عمل الشيطان. والأنصاب ثلاثة قداح كانت
توجد عند الكاهن؛ قدْح مكتوب عليه أمرني ربي، والقدح الثاني: مكتوب عليه نهاني
ربي، والقدح الثالث: غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه. فإن كان في نية
إنسان السفر أو الزواج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح. فإن
خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل.
وإن خرج نهاني ربي لم يفعل. أما أن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج
أحد القدحين: إما الذي يحمل الأمر، وإما الذي يحمل النهي. ولم يتساءل أحد لماذا
عندما يخرج القدح الغفل لا يعتبر أن هذا أمر خارج عن نطاق التحريم. ويؤخذ على أنه
إباحة واختيار يعمل أو لا يعمل. لقد أنساهم الحق ذلك حتى يدلنا على أن ذلك أمر
كاذب جاء به الكهنة من عندهم. فإن سألهم سائل: من الإله الذي أمر ونهى؟ هنا يقول
القائل منهم: الله هو الذي أمر وهو الذي نهى. (والله يعلم إنهم لكاذبون).
والحق سبحانه وتعالى حين ينهانا عن تلك الأمور فهو يريد للإنسان أن ينمي ملكة
الاختيار بين البدائل. وعلى الإنسان أن يستنبط وأن يحلل وأن يعرف المقدمات فيدرسها
ويحلل الخطوات ليصل إلى النتائج. لا أن يعطل القوة المدركة التي تختار بين
البديلات، فالخمر تستر العقل، وكذلك الميسر يضع الإنسان بين فكي الوهم، وكذلك
الأنصاب تعطل القدرة على السعي والرضوخ للكهنة. وعندما تسأل شارب الخمر: لماذا
تشربها؟ يجيب: إنني أريد أن أستر همومي. وستر الهموم.
لا يعني إنهاءها. ولكن مواجهة الهموم هي التي تنهي الهموم بالأسباب المتاحة
للإنسان. فإن لم تقو أسبابك فالجأ إلى المسبب في إطار قول الحق:{ أَمَّن يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }[النمل: 62].
وعندما تستنفد أسبابك وتلجأ إلى الله فهو يعينك على الأمر الشاق المسبب للهموم.
ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة. فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة.
ومعنى " حزبه " أي خرج عن نطاق أسبابه. ولذلك كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يلجأ إلى رب الأسباب. وقد نجد من يقول: إنني أدعو الله كثيراً ولكنه لا
يستجيب لي.
ونقول: إما لأنك قد دعوت في غير اضطرار، وإما لأنك لم تلفت إلى الأسباب، وأنت حين
تتجنب الأسباب فأنت ترفض يد الله الممدودة لك بالأسباب. وأنا أتحدى أن يوجد مضطر
أنهى الأسباب، ولا يأتي له الفرج. وأنت حين تدعو بحاجة وتتأخر عليك، نقول لك: إنك
دعوت بغير اضطرار.
وكثيراً ما أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى المنزه دائماً - وأقول: هب أن
تاجراً من تجار الجملة الكبار يجلس أمام المخازن التي يملكها وجاءت السيارات
الشاحنة بصناديق بضائعه. والعمال يحملون البضائع ليضعوها في المخازن. وفجأة رأى
عاملاً من عماله يكاد يقع بالصندوق الذي يحمله، هنا نجد التاجر يهب بلا شعور لنجدة
العامل. فما بالنا بالحق الذي خلق لنا الأسباب؟ إنك إن استنفدت الأسباب فإن الله
يعينك مصداقاً لقوله:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ }[النمل: 62].
إذن فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. والأزلام هي نوع من
الميسر؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين
قسماً ويخصصون لإنسان نصيباً وللثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة، وللرابع أربعة
أنصبة وللخامس خمسة أنصبة، وللسادس ستة أنصبة، والسابع له سبعة أنصبة. وكانوا
يأتون بالقِداح السبعة. قدح اسمه " الفذ " ويأخذ الفائز به نصيباً،
والقدح الثاني: " التوأم " ويأخذ نصيبين، والقدح الثالث اسمه "
الرقيب " يأخذ ثلاثة. والقدح الرابع اسمه " المُسْبِل " ويأخذ ستة.
والسابع اسمه " المُعَلَّى " ويأخذ سبعة أنصبة. وهناك ثلاثة قداح هي
المنيح والسفيح والوَغْد، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة.
وذلك رجس من عمل الشيطان.
إن النفس العاقلة لا تقبل على مثل هذه الأعمال، بل لا بد أن يحرك أحد تلك الأطماع،
ذلك أن المخالفات إنما تنشأ من أمرين؛ إما أن تكون من النفس، وإما أن تكون من
الشيطان. والمخالفة التي تكون من النفس هي التي تحقق شهوة من نوع خاص بحيث إذا
زحزحت النفس عنها فهي تريدها. والمخالفة التي من نزغ الشيطان تختلف، فقد يوعز
الشيطان لإنسان بالسرقة، فيرفض، فيعرف الشيطان أن لهذا الإنسان مناعة ضد هذه
المعصية، فيوعز بمعصية أخرى، فإذا وجد مناعة انتقل إلى معصية ثالثة؛ لأن وسوسة
الشيطان تطلب الإنسان عاصياً على أي لون من الألوان.
فإذا وقفت عند معصية بذاتها فاعلم أن ذلك من عمل نفسك، وإن انتقلت بالوسوسة من
معصية عزت على الشيطان إلى معصية أخرى فاعلم أنها من عمل الشيطان ولا دخل للنفس
بها. والعاقل الذي يتمعن في كل تلك المسائل المحرمة يرى أن الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام هي أمور لا تستطيبها النفس غير المنزوعة من الشيطان، فكأن قوله الحق: }
رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ { يدلنا على أن العاقل لا يمكن أن يصنع هذه
الأشياء.
ويذيل الحق الآية: } فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {. ويأمرنا سبحانه
باجتناب الرجس الذي جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والاجتناب هو أن يعطي
الإنسان الشيء المجْتَنَب جانَبَه، أي المنع للذرائع والأسباب والسد لها؛ لأنك إن
لم تجتنبها فمن الجائز أن قربك منها يغريك بارتكابها. وبعض الناس يظنون أن الخمر
لم يأت لها تحريم وإنما جاء الأمر فيها بالاجتناب.
ونقول لهم: إن التحريم هو النص بعدم احتسائها، وأما الاجتناب فهو أقوى من التحريم
لأنه أمر بعدم الوجود في مكانها. فإذا كان الحق قد قال في قمة العقائد:{
فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ }[الحج: 30].
فقد قال هنا اجتنبوا الرجس الذي يجمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. والحق
سبحانه وتعالى واجه العادات التي شاعت قبل الإسلام ليخلع الفاسد منها ولم يجابهها
دفعة واحدة وذلك لتعليق النفس بها والإلف لها، وإنما كان التحريم لها بالتدريج.
لقد حزم الإسلام الأمر أولاً في مسائل العقائد، أما الأمور التي تترتب على إلف
العادة فكان تحريمها على مراحل.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى عن شيء إنه: " رجس " ، فذلك حكم الحق الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ونحن نقبل هذا الحكم حتى ولو لم نفهم
نحن معنى الرجس، أو لم نتأكد مادياً من أن الشيء المحرم هو من الرجس، ذلك أنه يكفي
في ذلك حكم الله الذي يرضخ له العبد المؤمن الذي قبل التكليف من ربه؛ لأن ربه
مُؤتمن على كل مصالحه. وما دام الحق قد قال عن شيء إنه رجس، فهو رجس ولا جدال في
ذلك.
أقول ذلك لأن بعضاً يظل متصيداً لأي ثغرة مفتعلة متسائلا: كيف يكون ذلك العمل أو
ذلك الشيء من الرجس؟ ونقول: إننا نرضخ لحكم الله تعالى وننفذ ما أمر به، فهو إله
مأمون على كل الخلق، وتثبت لنا الأيام دائماً صدق قول الحق في أن الأشياء التي قال
عنها سبحانه إنها رجس، هي من الرجس فعلاً، فحين يقول سبحانه لخلقه: افعلوا كذا، لا
نسأله: وما علة ذلك التكليف، ولكننا ننفذ أمر الحق، ونكتشف في أعماقنا فائدة ذلك
التكليف.
أما عندما يكلفنا عبد مساوٍ لنا بشيء فلا بد أن نسأل: لماذا؟ والعبد المساوى لنا
عليه أن يقدم لنا العلة لأي فعل يطلب منا القيام به، ولكننا لا نسأل الله عن علة
التكليف لنا؛ لأننا نؤمن بأنه إله حكيم، والأيام ستثبت لنا أن قول الله حق. ومثال
على ذلك نجد أن الذي لا يشرب الخمر امتثالاً لنهي الله عن ذلك الفعل، هو إنسان
مستقيم السلوك، طاهر القصد، ولا يتأتى منه نشاز في الكون. أما الذي يشرب الخمر فهو
معوج السلوك، غير طاهر القصد، ويتأتى منه نشاز في الكون. وقد أثبتت التجربة أن
شارب الخمر إنما يصاب بأمراض في الكبد ويعاني من ارتباك في إدارة حياته وكلماته.
نحن نقرأ قول الله سبحانه:{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
}[البقرة: 282].
والتقوى - كما علمنا - أن نجعل بيننا وبين غضب الله وقاية؛ لذلك نفعل ما أمرنا به.
وحين نفعل أوامر الإله الحق فإننا نتعلم حكم الله في الفعل. ومثال ذلك قوله الحق:{
إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ }[العنكبوت: 45].
ونحن نعرف كيف تنهانا الصلاة عن الفحشاء والمنكر؛ لأننا نسلم وجوهنا وقلوبنا الله
فننفذ ما أمر به. وكذلك نجد في الزكاة نماء. ونجد الحج يصفي النفس من أي كبر ويغسل
الذنوب. وكل فعل أمر به الحق نجد له الأثر في نفوسنا بعد أن نقوم به. أما إن فعلت
الحكم للعلة فذلك يبعد بك عن مرتبة الإيمان.
ونجد أن الطبيب يأتي لشارب الخمر بصورة ملتقطة للكبد بواسطة الموجات الصوتية أو
الأشعة فيجد شارب الخمر صورة كبده وقد امتلأت بالتهرؤ وصارت عرضة لأمراض كثيرة
ثقيلة وربما تعطلت وظائف الكبد في بعض الأحيان، وهنا يأمر الطبيب شارب الخمر أن
يمتنع عن شرب الخمر. فهل امتناع شارب الخمر في مثل هذه الحالة هو امتناع بسبب
الإيمان أو بسبب الأمر الطبي؟ إنه امتناع بسبب الأمر الطبي، ويستوي في ذلك المسلم
العاصي والكافر. ولكن المؤمن الذي يمتنع عن شرب الخمر ابتداءً، فهو قد امتنع لا
لعلة الأمر ولكن لأن الأمر من الله، وهو يتبع أوامر الحق دون سؤال عن العلة.
والمؤمن يأخذ الحكم من الله دون طلب تعليل منه ليشرح له أسباب المنع في سلوكه.
والحق سبحانه قال: } إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ
رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ { والعداوة المسبقة بين الشيطان
وأبينا آدم عليه السلام بينها - سبحانه - بقوله للملائكة:{ اسْجُدُواْ لأَدَمَ
فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ }[البقرة: 34].
وكان الشيطان موجوداً مع الملائكة، وكان الأولى أن يسجد هو؛ لأن الأمر إذا كان
للجنس الأعلى وهو الملائكة، فيجب أن ينسحب على الأدنى، لكنه عصى وقال:{ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }[البقرة: 61].
إذن فالعداوة مسبقة بين آدم والشيطان، فكيف إذن نقبل نحن أبناء آدم وسوسته؟ وكيف
نقبل نزغه؟ وكيف نقبل إغراءه؟ لا بد إذن أن نتجنب ذلك لأنه رجس ومن عمل الشيطان،
حتى ننجو من كل سوء، ويأتي لنا كل فلاح.
ويقول الحق: } إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ... {
(/752)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منا،
والخطاب هنا موجه للمؤمنين.
إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر - من قبل - بالأنصاب
والأزلام؟ قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب
والأزلام، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب
والأزلام، وما داموا مؤمنين فلا بد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام.
ويقول سبحانه: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ }. والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه،
وتتعلق الإرادة بمريد، فهل يقدر على إنقاذ ما يريد أم لا يقدر؟ إن كان يقدر على
إنقاذ ما يريد، فالقدرة تكون من بعد الإرادة.
وحينما يريد سبحانه وتعالى فالقدرة تبرز المراد، فقدرته لا تتخلف ولا مراده يتخلف؛
لأن كل شيء منفعل له سبحانه وتعالى، وتختلف المسألة عند الإنسان والشيطان،
فالإنسان يريد، ولكن أله القدرة على إنفاذ ذلك؟ أحياناً تكون له بعض من القدرة على
إنفاذ ما يريد، وأحياناً لا.
والشيطان يريد، لكن أيقدر على إنفاذ ما يريد؟ إنه يقدر في حالة إطاعة الإنسان له.
وهكذا تكون إرادة الشيطان، وهو يحب أن تحدث المعصية من الإنسان، ويتمنى الشيطان
ذلك، ويخطط لذلك. لكن الفعل لا يأتي إلى الوجود إلا إذا وافق الإنسان على طاعة
الشيطان.
إذن فالإرادة إن كانت ممن يقدر على الإرغام والإبراز فهي تظهر العمل فوراً،
والقادر المطلق هو الله، وهو يحكم ما يريد، ولذلك يأتي قوله الحق:{ إِنَّمَآ
أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].
لكن خلقه حين يريدون فالأشياء لا تنفعل لهم انفعالها لخالقها؛ لأن إرادة المخلوقات
تقتضي أن ينفذ الإنسان على قدر طاقته، وهي مهما زادت محدودة. وإرادة الشيطان تحتال
على الإنسان حتى يفعل ما يتمناه، ولا يستطيع الشيطان أن يُكره الإنسان قهراً على
فعل ما، ولكنه يزين له الفعل. فليس للشيطان سلطة الإكراه ليقهر الإنسان على فعل،
وليس للشيطان قدرة على الإقناع أو الإتيان بأدلة تجعل الإنسان يفعل مراد الشيطان
وهو راضٍ عن عمله. ولذلك يقول الشيطان في الآخرة للمذنبين: إن الذنب ذنبهم.{ وَمَا
كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي }[إبراهيم: 22].
هكذا يعلن الشيطان أنه غير قادر على البشر، لا بالقهر ولا بالحجة، إنّه فقط زين
لهم الأمر، فمن كانت له شهوة فالشيطان يزينها له فيرتكب الذنب. ويعلن الشيطان:{
مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }[إبراهيم: 22].
ويعترف الشيطان أنه مهما صرخ مستغيثاً - يوم القيامة - فلن يجد من يغيثه، وكذلك
أصحاب الذنوب الذين اتبعوه سيصرخون ولن يجدوا من الشيطان عوناً ينجيهم من العذاب.
و " أصرخ فلان فلانا " أي ذهب ليزيل صراخه وينجده.
إذن فقول الحق: } إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ { يشرح لنا أن إرادة الشيطان هي إرادة تزيين، لا
إرادة قدرة على القهر أو الإقناع. وإذا سمعت كلمة " يوقع " ، فافهم أن
هناك شيئين الأصل فيهما الالتحام، وهناك من يريد أن يجعل بينهما يفصل هذا
الالتحام. ولذلك يقال: " فلان مشى بالوقعية " أي أنه أراد أن يصنع فجوة
وشرخاً بين اثنين الأصل فيهما الالتحام.
وكلمة " بينكم " تفيد الانفصال. وهذا الانفصال هو الذي توضع فيه
الوقيعة. لماذا؟ لأن المؤمنين إخوة، ولأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه
بعضا، والشيطان يسعى بالخمر والميسر بأن يمشي بالوقيعة بين المؤمنين. ونجد مجالس
الخمر فيها هذا؛ فالشاربون معاً كثيراً ما تقوم بينهم المعارك ويدور بينهم السباب.
ولاعبو الميسر يأخذ بعضهم مال بعض، وهكذا يتحولون من وحدة كالبنيان إلى فرقة وتحدث
بينهما العداوة والبغضاء.
وما الفرق بين العداوة والبغضاء؟ العداوة هي انفصال متلاحمين حدثت بينهما عداوة
وبغضاء. والبغضاء هي انفعال القلب بشيء مكروه.
كأن البغضاء توجد في الصدور بعد حصول العدوان، فكأن العداوة تكون هي المنطقة الوسط
التي باعدت بين هذين الشخصين بعد أن استسلما لنزغ الشيطان. وهذان الاثنان كان
يجمعهما من قبل الصفاء والمودة والحب والأخوة الإيمانية.
والعداوة في هذه الحالة تأخذ من مشاعر كل طرف؛ لأن العداوة إن كانت من طرف واحد
فعمرها قصير، ولكنها تطول إن كانت بين طرفين. ولذلك تكون المعركة حامية بين عدوين
يستشعر كل منهما العداوة للآخر. وهي تكون عداوة مؤججة وملتهبة إن لم يتدخل طرف
ثالث ليحسم بالحق بين الاثنين، فيخزي الذي على الباطل ويأخذ الحق منه ويعطيه
لصاحبه، وهنا يحس صاحب الحق أن هناك من ينصره. وبهذا تحسم العداوة وتنقضي. لكن إن
لم يجد الطرفان رادَّا ولا رادعاً، تظل العداوة متوهجة. ولذلك حينما عرض الحق أمر
موسى عليه السلام وأمر فرعون، قال عن موسى:{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
}[القصص: 8].
والتقطوا موسى لماذا؟{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[القصص: 8].
فهل عرفوا هم من البداية أنه عدو؟ لا، لقد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الله
أفسد مرادهم. فاللام في قوله: " ليكون " هي لام الغاية والعاقبة وليست
لام العلة الفاعلة، وقد أثبت سبحانه بذلك أن فرعون ليس إلهاً، وأن أتباعه كانوا
قوماً مغفلين لا فطنة لهم. فلو كان فرعون إلهاً لعرف أن هذا الوليد الذي سيربيه
سيكون عدواً له.
والعداوة هنا هل هي من ناحية موسى فقط تجاه فرعون؟ لا. إنها عداوة بين الله وموسى
كطرف، وفرعون كطرف. لذلك قال:{ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ }[طه: 39].
ولم تنته هذه العداوة إلا بغرق فرعون. والحق ينبهنا: } إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ { و " في " هنا هي للسببية كقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: " دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش
الأرض حتى ماتت ".
ونقول في حياتنا اليومية: أُخذ فلان إلى الحبس لمدة أعوام في قطعة مخدرات. أي أنه
أوقع نفسه في المكروه بسبب شيء ما. وقوله الحق: } فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ {
دلت على أن العداوة والبغضاء مظروفة في الخمر والميسر. ويقول بعد ذلك: }
وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
{.
إن ذكر أي أمر يعني أن يكون هذا الأمر في بؤرة الشعور دائماً، فكل معلومة يذكرها
الإنسان تكون في بؤرة شعوره، ومن بعد ذلك تتحرك لتحل محلها معلومة أخرى. وعندما
يكون بال الإنسان مشغولاً بشيء فهذا الشيء لا يتزحزح من بؤرة الشعور إلى حاشية
الشعور إلا بعد أن يأتي أمر آخر يشغل البال.
ولذلك نقول: إياكم أن تعتقدوا أن الذهن يفهم أي أمر من مرة واحدة أو من مرتين أو
من ثلاث مرات. لا، بل يفهم الذهن من مرة واحدة كآلة التصوير، والمهم أن يكون ساعة
التقاط المعلومة خالياً من غيرها؛ ولذلك كنا نعرف أن إخواننا المكفوفين الدارسين
معنا أقدر على الاستيعاب الحفظي منا نحن المبصرين؛ لأن المبصر عندما يكون بصدد
مسألة قد تنشغل عيناه بشيء، فتكون بؤرة شعوره مشتتة. أما الأعمى فبؤرة شعوره تذكر
فقط ما يسمعه.
وهكذا نعرف ما هو " الذكر ". والخمر تطمس العقل وتستره فكيف يذكر الله
إذن؟ وكذلك الصلاة، وهي الذكر، تسترها الخمر عنا. وكذلك الميسر الذي يلوح فيه
الوهم بالكسب كالسراب، فيلهث اللاعب خلف اللعب لعله يكسب، ويفقد القدرة على ذكر
الله والصلاة.
ولأن العداوة مسبقة بين الإنسان والشيطان، نجد الشيطان قد قال فيما يحكيه الحق
عنه:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82].
قد عرف الشيطان كيف يقسم؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه، فلو أن الله أراد عباده
لما أخذهم الشيطان. ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله: } فَهَلْ أَنْتُمْ
مُّنتَهُونَ {. هذا استفهام، وهو طلب فهم الشيء، هذا ما نعرفه عندما يكون
الاستفهام من البشر، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا، فهذا أمر الأمر
سبحانه وتعالى. كيف؟ إن هناك أمراً من الآمر هو حكم لازم. وهناك أمر يريده الله من
المأمور ليأمر به نفسه.
وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر. ومثال ذلك -
والله المثل الأعلى - يقول الأب لأحد أبنائه: إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي
واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أو لا؟ ولم يقل:
انته عن اللعب؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه، وحتى يدير
المسألة بمقابلها، ولا يجد إلا أن يقول: لقد انتهيت عن اللعب.
وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل، فبدلاً من أن تكون حكماً من الله أصبحت
حكماً من العبد المأمور. وهذا أبلغ أنواع الحكم؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة
سؤال، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل. ومثال ذلك
عندما فتر الوحي عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقال أهل قريش: إن رب محمد قد
قلاه وأبغضه وكرهه، ثم نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىا }[الضحى: 3].
ويتابع الوحي:{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىا }[الضحى: 6].
وعندما يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة يجيب: نعم يا رب أنت وجدتني
يتيماً فآويتني. وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الأمر. وهذه أبلغ أنواع الأمر.
وعندما يقول الحق: } فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ { يعلم المخاطبون ماذا يريده
الله، فيقولون: نعم انتهينا يا ربنا. وبالغوا كثيراً في هذا الانتهاء، فالإمام
عليّ - كرم الله وجهه - يقول: لو وقعت قطرة منها في بحر ثم جف البحر، ونبت فيه
الكلأ واندلع لساني من الجوع ما قربته. ولم يكن هذا أمراً مفروضاً، ولكنها
المبالغة في الانتهاء على أقصى صورة.
وها هوذا سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: لو وقعت قطرة منها على يدي
لحرمتها على نفسي. وهكذا كان رد فعل قول الحق: } فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ {.
وبذلك تم حسم مسألة الخمر. ونعرف أن التكليف في تحريم الخمر جاء متدرجاً،
والتكاليف الإيمانية إنما تأتى على لسان رسول، والرسول لا يأتي إلا إذا عم الفساد
في المجتمع، وفي ذوات البشر في آن واحد. فلا نجد من يلوم نفسه، أو يتدخل ليرد آخر
عن فساده؛ هنا تتدخل السماء بإرسال رسول، ولا تصب السماء كل أحكامها في أول الأمر،
ولكنها تدعو خلال الرسول بالإيمان بالله الواحد حتى يتلقوا منه الحكم. فالأيمان
بوحدانية الله هو قمة العقيدة التي لا هوادة فيها.
لكن في الأمور التي تتعلق بالأحكام، فالأحكام تُغيِّر أوضاعاً عرفية وأوضاعاً
اجتماعية متداولة بين الناس. فإذا أراد الله أن يغير عادة بحكم فهو يأتي بهذه
المسألة تدريجا؛ لأنه سبحانه وتعالى يتلطف مع خلقه برحمته.
ومثال ذلك: كان الرجل يملك المال فلا يعطي أباه ولا أمه، إنما يعطي المال لأولاده؛
لأنه يعرف أن والده منته وسيموت قريبا، وأن الابن هو الذي يستقبل الحياة، ولذلك
فالابن يأخذ كُلَّ المال. هنا قال الحق: لا، إنك أنت يا صاحب المال قد تموت قبل
أبيك فاترك له شيئاً.{ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ }
[البقرة: 180].
لقد أراد أن يخرجهم من عدم العطاء إلى الوصية التي تكون منهم. وبعد أن استقرت
الأحكام، قرر الحق للوالدين نصيباً من الميراث. إذن جاء الأمر أولاً بتلطف في
الخروج عن حكم الإلف والعادة والعرف؛ حتى لا يخرجهم إخراجاً قسرياً. والحق سبحانه
وتعالى لا يريد أن يجعل المال دُولة بين الأغنياء فحسب أي يتداولوه دون غيرهم، بل
يريد أن يجعل المال دولة بين الناس. لذلك جاء الميراث.
إننا عندما نحسب ميراث ألف فدان مثلا نجده قد ذاب وتقلص وتناثر خلال ثلاثة أجيال
إلى فدانين وخمسة أفدنة. وهذا تدرج أجيالي لا قسري. حتى يرتب الإنسان حياته وحياة
أبنائه، فيترك المالك لأولاده ميراثاً وخيراً ليديروا العمل فيه. أما الذي لا يملك
فهو يعطي لأبنائه حرفة أو وظيفة. لذلك يذيب الدِّيُن المسألةَ المالية والعقارية
أو الإقطاع كما يقولون، لا بالقسر حتى لا تحدث للمجتمع هزة حقد أو هزة توتر؛ لأن
الذي جمع ماله من عرقه ومن اجتهاده ساعة يرى المال قد خرج منه إلى من لم يعرق ومن
لم يجد، فهو يحقد، والحق يقول:{ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }[محمد: 36-37].
وساعة يحدث الضغن في المجتمع فإن كل استقرار وود ينتهي. وهذا هو منتهى التلطف في
رعاية العادات. وكانت الخمر ومجالسها عادة موجودة عند العرب، وكان من الصعب أن
يخرجهم منها مرة واحدة. لذلك جاء تحريمها بتدرج وبتلطف والذكي والفطن عندما يسمع
الآية التالية يعرف أن الله قد بيت للخمر تبييتاً محكما للقضاء عليها وذلك
بتحريمها، يقول الله تعالى:{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً }[النحل: 67].
فسبحانه يقول: " ورزقاً حسناً " ، ولم يصف السكر بأنه حسن. ومعنى هذا أن
أخذ الرزق وتخميره واتخاذه سكراً هو إتلاف للحسن. وجاء الحق بـ (السكر) أولاً
ليخبرنا أنهم كانوا يأخذون منه الرزق أولاً النصيب الذي يجعلونه خمراً. ومن بعد
ذلك يطرح الحق الأمر كعظة من الواعظ للموعوظ، والعظة ليست إلزاماً، إنما هي إبداء
رأي حكيم لغيره، وهذا أول التبيت للدخول إلى تحريمها، ثم يقول الحق:{
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }[البقرة: 219].
وهكذا رجح الحق جانب الإثم على جانب المنفعة. ومن بعد ذلك يأتي للصلاة، ولم يكن
هناك حكم جازم بعدم شرب الخمر قبل الصلاة إلى أن قام واحد للصلاة وهو سكران، ونعوذ
بالله مما قال، قال: قل أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. لقد اضطرته الخمر أن يخطيء
في القمة العقدية، لذلك جاء الأمر:{ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَىا }[النساء: 43].
ونعلم أن المسلم يصلي خمسة فروض في اليوم، وحتى لا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران
فهذا يقتضي أن يمر النهار كله تقريبا دون خمر إلى ما بعد العشاء.
وبذلك أطال الحق المسافة الزمنية التي يمتنع فيها عن تعاطي الخمر. وفي ذلك حبس
للنفس عن المعتاد عليه حتى يألف الشخص المعتادُ تركَ ما اعتادَهُ. ومن بعد ذلك
يطلبون من الرسول رأياً شافياً في الخمر فيأتي قوله الحق: } إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ { [المائدة: 91].
لقد كان هذا هو التدرج الذي يخرجهم من الإلف والعادة في أعمالهم، فيأتي الأمر
بالتحريم وكأنه صادر منهم. ويردف الحق سبحانه وتعالى ذلك الحكم الجزئي في الخمر
والميسر فكأنه يقول: ما دامت المسألة كما علمتم مني بأن هذا رجس ومن عمل الشيطان
فلا تعينوا الشيطان على نفوسكم وأخلصوا في عبادة الحق وحده، ويقول سبحانه - بعد
ذلك: } وَأَطِيعُواْ اللَّهَ... {
(/753)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
لقد نقل الله الحكم بعدما انتهى من هذه الجزئية إلى حكم عام هو طاعة الله وطاعة
الرسول. وأنت ساعة تستقرئ أمر الله بالطاعة فأنت تجدها في صور متعددة. فمرة يقول:
{ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [المائدة: 92].
فقد كرر الأمر بالطاعة لله وللرسول، فالإطاعة لله في الحكم العام، وإطاعة الرسول
في تفصيله، ومرة يقول سبحانه:{ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ }[آل عمران:
32].
إنه هنا لا يكرر أمر الطاعة، فهناك أمر للطاعة، وهناك مطاع، وهناك مطيع والمطيع،
هم المخاطبون، فهو هنا يوجد أمر الطاعة، والمطاع هنا هو الله، والرسول يأتي معطوفا
على لفظة الجلالة.
ومرة يقول الحق سبحانه:{ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }[النور: 56].
نحن إذن أمام حالات للطاعة: الأولى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، والثانية:
أطيعوا الله والرسول، والثالثة: أطيعوا الرسول، ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك
" أولي الأمر " فيقول جل وعلا:{ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }[النساء: 59].
وحين قال الحق: { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [المائدة: 92].
فهو يكرر الأمر بالطاعة عند الله وعند الرسول، لكن عند أولي الأمر لم يأت سبحانه
بأمر: " وأطيعوا "؛ ذلك أن طاعة أولي الأمر تكون من باطن الطاعتين: طاعة
الله، وطاعة الرسول؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا قال الحق: {
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } تكون طاعة الله في الحكم العام،
وطاعة الرسول في تفصيل الحكم. والمثال قوله الحق:{ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ }[آل عمران: 97].
هنا نطيع الله في الحكم العام، ونطيع الرسول في تفصيل الحج. لأن التفصيل لم يأت في
القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني مناسككم " وعندما
يتوحد الأمران: " وأطيعوا الله والرسول " فهذا يعني أن هناك أمراً
واحداً قد صدر من الله، وصدور وحصول الفعل من الرسول يكون للقدوة والأسوة وتوكيدا
للحكم.
وإذا كان لله أمر بالإجمال وللرسول أمر بالتفصيل فسبحانه يقول: { وَأَطِيعُواْ
اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }. وإذا كان الأمر للرسول فقط ولم يرد فيه شيء من
الله فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قوله الحق:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة ولا تتناقض طاعة مع طاعة. والحق هنا يقول: {
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ }. لماذا هذا التحذير؟
يأتي هذا التحذير ليعلمنا الله أن الشيطان لن يدعنا ندخل في مجال طاعة الله وطاعة
الرسول، وسيحاول جاهداً أن يُلبَّس علينا الأمر. فعندما يعرف الشيطان ميلاً في نفس
إنسان إلى لون من الشهوات، يدخل إليه من باب المعاصي. وإن كان الإنسان قد أوصد بعض
السبل أمام الشيطان فلا يستطيع مثلا إغراءه بالسرقة أو شرب الخمر، لا يتركه بل
يدخل إليه من باب الطاعة، فيأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء وينسيه هل غسل
هذه اليد أو تلك، وهل أسبغ الوضوء أم لا؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة
فينسيه عدد الركعات أو عدد السجدات، وهكذا يدخل الشيطان للمؤمن من ناحية الطاعة.
ومعنى قوله سبحانه: } وَاحْذَرُواْ { أي احذروا أن يحتال الشيطان عليكم؛ لأنه
سيحاول أن يدخل لكم من كل مدخل، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية، وأشد أعمال
الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة. ولذلك قال الحق: }
وَاحْذَرُواْ { وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما، وحين يأتي إلى الصلاة
فهو يتذكر هذا الموضوع. والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة، فقد أقسم
الشيطان فقال:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82].
وقال الحق سبحانه:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16].
إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج. ومثال ذلك عندما يتصدق
إنسان بصدقة قد يعلنها ويقول: لقد تصدقت أكثر من فلان. وهكذا يضيع منه الأجر.
الشيطان يحاول - إذن - أن يدخل علينا من باب لا تفطن إليه وهو باب الطاعة. وأروي
لكم هذه القصة حتى تعرفوا مدى تَدَخُّل الشيطان، وقد حدثت مع الإمام أبي حنيفة رضي
الله عنه. فقد جاء إليه من يسأله الفتوى في أمر غريب؛ قال السائل: ضاعت مني نقودي،
فقد دفنتها في مكان من الأرض، ونزل السيل فطمس مكان النقود وأزال الحجر الذي وضعته
علامة على مكانها. فقال الإمام أبو حنيفة: اذهب الليلة بعد صلاة العشاء وقف أمام
ربك إلى أن يطلع الفجر، وقل لي ماذا سوف يحدث. وعندما جاءت صلاة الفجر جاء الرجل
متهللاً إلى أبي حنيفة وقال: وجدت مالي.
فسأله أبو حنيفة " كيف؟ قال الرجل: بينما أنا أقف للصلاة تصورت مكان وضع
النقود، ومتى نزل السيل، وكيف سار، وهكذا قست المسافة وقدرتها إلى أن عرفت موقع
النقود. فضحك الإمام وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك.
هكذا ترى كيف يدخل الشيطان من باب الطاعة. ولذلك قال الحق: } وَأَطِيعُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا
عَلَىا رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ { [المائدة: 92].
أي فإن أعرضتم عمّا كلفتكم به فاعلموا أنكم بتوليكم وإعراضكم لن تضروا الرسول؛ لأن
الرسول ما كلف إلاّ أن يقوم بالبلاغ المبين، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما
كلفتم به. إن الحق يعلم أزلاً أن بعضاً من عباده قد يقول: إن هذا الحكم لم يَرِد
في القرآن؛ لذلك جاء بالأمر بطاعة الرسول. وهكذا صارت للرسول طاعة مستقلة، وأرادها
الله حتى يَرُدّ مقدماً على الذين يسألون عن نص فيه كل تفصيل. بينما نجد هذه
التفاصيل في السنة النبوية الشريفة.
ومثال ذلك عدد ركعات كل صلاة، إنها لم تَرِدْ في القرآن، ولكننا عرفناها تفصيلاً
من الرسول. وفَوَّض الحق رسوله في التشريع:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
فسبحانه قد علم أزلاً أن هناك من سيدَّعي أنه لن يطيع إلا القرآن. ولذلك قال
الرسول صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث
بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله عزوجل، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما
وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله "
أي أن الرسول هو المبلغ عن ربه، وأن علينا أن نحذر الشيطان إذا أراد أن يدخل علينا
من باب الطاعة. ولكن لماذا قال الحق: } فَإِن تَوَلَّيْتُمْ {؟ وعن أي شيء يكون
التولي؟
قال الحق ذلك ليوضح لنا أن الإنسان له الاختيار في أن يذهب إلى الطاعة، وله
الاختيار في أن يذهب إلى المعصية، وإن تولى الإنسان عن الطاعة إلى المعصية، وعن
الإيمان الذي جاء به الرسول الذي بلغ عن الله إلى البقاء في الكفر، فليعلم ذلك
الإنسان أن الرسول قد أوفى مهمته وأداها. فالمطلوب من الرسول أن يبلغ المنهج، وقد
بلغ صلى الله عليه وسلم بلاغاً مبيناً، محيطاً، واضحاً ومستوعباً لكل أقضية
الحياة.
لقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم مطلوب الله منا أن نؤمن بإله واحد، قادر، حكيم، له
كل صفات الكمال، ذلك هو الأمر الأول في العقيدة. وأبلغنا صلى الله عليه وسلم أن
نبتعد عما كان عليه العرب من الأنصاب، ومن الأوثان، ومن الأصنام. وبلاغ الرسول صلى
الله عليه وسلم يطلب منا إيماناً، وعملاً، والعمل ينقسم إلى قسمين: عمل إيجابي،
وعمل سلبي. ويتركز العمل الإيجابي في " افعل كذا " ، إذا لم تكن تفعله،
أما العمل السلبي فهو أن تكف عما نهاك عنه الله، ونهاك عنه الرسول صلى الله عليه
وسلم.
إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد، وأن نكف عن عبادة الأوثان
والأصنام، والطلب - كما نعرف - هو أن تنشيء كلاماً تطلب به من مخاطبك أن يفعل
شيئاً لم يكن مفعولاً وقت طلبه. فإذا أوضح الحق: لا تعبد الأوثان، فهذا طلب الفعل،
وهو أن نكف عن عبادة الأوثان. وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت،
فهذا طلب لأفعال. وطلب الفعل يقال له: " أمر ". وطلب الكف عن فعل يقال
له: " نَهْي ".
وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام، تجدها لم تأت مرة واحدة، وإنما جاءت
على مدار ثلاثة وعشرين عاماً. فعندما جاء الإسلام آمن به أناس، ولم يكن قد صدر
إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة، وإنما كان المطلوب
منهم بعضاً يسيراً منها، وكانوا يؤدونها، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله
الواحد، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة.
ومنهم من امتدت حياته، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها، وكان إسلامه بذلك إسلاماً تاماً.
إذن، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم. فإن
لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكماً واحداً ونفذه فله كل ما وعد الحق به. ومثال ذلك
" مخيريق اليهودي " الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما كان يوم أُحُد، وقف في قومه قائلاً: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر
محمد عليكم لَحَقُّ. فلم يجيبوه، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع
فيه ما يشاء. ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد. ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام
الإسلام، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مُخَيْريق خير يهود "
ولا بد لنا أن نفرق دائماً بين " أركان الإسلام " والمطلوب من المسلم.
ونعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " بني الإسلام على خمس: أشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج،
وصوم رمضان "
هذه هي أركان الإسلام. أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه، فالمطلوب من المسلم أن
يشهد مرة واحدة في حياته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ومطلوب منه
دائماً أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته. لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك
مالاً. وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضاً مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا
يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر
فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء. وقد يسقط عنه الحج لأنه لا
يملك المال الكافي. هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لآخر، وهكذا نعرف أن من عاش
في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد، فقد أدى
مطلوب الإسلام منه.
وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر، والميسر، ذهب أناس إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن
ينزل تحريم الخمر والميسر. ومجرد السؤال هو دليل على اليقظة الإيمانية، فالإنسان
لا يكون مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وهنا أنزل الحق سبحانه وتعالى القول
الكريم: } لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ... {
(/754)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
لقد أنزل الحق هذه الآية ليُطَمْئن المؤمنين السائلين عن الحكم في إخوانهم الذين
ماتوا أو استشهدوا وكانوا يشربون الخمر قبل نزول الحكم بتحريمها. { لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } و {
طَعِمُواْ } لا تخص الطعام فقط ولكن تشمل وتضم الشراب أيضاً، فالحق يقول:{ إِنَّ
اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي }[البقرة: 249].
وعلى ذلك فالماء طعام، بمعنى أن طعمه يكون في الفم. وهكذا عرف المسلمون السائلون
عن إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا أن إسلامهم كان مقصوراً على الأحكام التي نزلت
في أثناء حياتهم، فقد نفذوا المطلوب منهم بعدم عبادة الأصنام. وقد يكون منهم من
مات قبل أن تفرض الصلاة، أو مات قبل أن تنزل أحكام الزكاة أو الصوم، ولذلك لم
يفعلوها. وعلى ذلك يكون عملهم الصالح هو تنفيذ التعاليم التي نزلت إليهم. لقد
اتقوا الله فنفذوا مطلوب الإيمان على قدر ما طلب منهم الحق، آمنوا بالإله المكلِّف
وجعلوا بينهم وبين الله وقاية بأن نفذوا مطلوبه سبحانه امراً ونهياً.
والإيمان له قمة هي أن يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبعد ذلك
بالأحكام التي تنزل من السماء. واختلف العلماء فيما بينهم في مسألة زيادة الإيمان
ونقصانه، فمن العلماء من قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنما نظروا إلى
الإيمان بالقمة العقدية وهي الإيمان بالله: والذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص
إنما نظروا إلى الإيمان بالأحكام التي ينزلها الله، وأخذوا ذلك من قوله الحق:{
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَـاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ }[التوبة: 124].
فكل آية تنزل بأحكام جديدة فهي تزيد الإيمان. فعندما نزل الحكم بالزكاة أمن به
المسلمون وطبقوه. ومنهم ممن لم يكن يملك المال فلم يطبق الحكم على الرغم من أنه
آمن به.
فالمسلم يؤمن بالحكم، وإن كان مستطيعاً فهو يفعله، وإن كان غير مستطيع فهو لا
يفعله. ولهذا كانوا يستبشرون بالأحكام التي تنزل بها الآيات. وعلى ذلك يكون خلاف
العلماء خلافا على جهة منفكة، ونلحظ أن الحق يقول: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ
وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ
وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة: 93].
إذن، فهنا ثلاث مراحل: هناك من أدرك حكماً فاتقى الله وآمن وعمل صالحاً، وبعد ذلك
انتقل وأفضى إلى ربه فلا جناح عليه، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً أخرى فآمن بها
وعمل بها، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً قد زادت فعمل بها أيضاً. والإيمان الأول
ارتبط بالعمل الصالح، وكذلك الإيمان الثاني الذي جاء في الآية.
ثم يأتي الإيمان الثالث مرتبطاً بالإحسان.
والإحسان كما نعلم له وجهان: الأول أن يعبد المؤمن الله كأنه يراه، وكلما جاء
تكليف، يحسن المؤمن في أدائه، كأنه يرى الله، وإن لم يكن يراه فإنه يحس أنه سبحانه
يراه. وإذا ما استوعب المسلم كل أحكام الله التي استوعبت بدورها كل أقضية الحياة،
فهو يحسن أداء هذه الأحكام. والوجه الثاني للإحسان أن يزيد المؤمن في أداء هذه
التكاليف فوق ما فرض الله، وهي النوافل. وبذلك لا يكتفي المؤمن بتصديق الأحكام
التي نزلت، بل يزيد من جنسها. والحق يقول:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ }[الذاريات: 15-16].
وجاء الحق بالتعليل وهو:{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
}[الذاريات: 16].
ووجه إحسانهم أن الواحد منهم لا يقف عند ما كلفه الله به، بل يزيد على ما كلفه
الله من جنس ما كلفه سبحانه، فالحق قد فرض على المسلم خمسة فروض، والمحسن هو من
يزيد ويتقرب إلى الله بالنوافل. وفرض سبحانه على المسلم صوم رمضان، والمحسن هو من
يؤدي صيام رمضان بتمامه ويزيد بصوم أيام أخرى من العام. وفرض سبحانه على المسلم
زكاة مال بقدر اثنين ونصف في المائة وهو ربع العشر، والمحسن قد يزيد الزكاة إلى
أكثر من ذلك. وفرض سبحانه على المسلم حج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا، والمحسن
هو الذي يزيد مرات الحج.
إذن، فالمحسن هو من عشق التكليف من الله، وعرف منزلة القرب من الله، فوجد أن الله
قد كلفه دون ما يستحق - سبحانه - منا فزاد من العمل الذي يزيده قرباً من الله.
ويضيف الحق في وصف المحسنين:{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
}[الذاريات: 17].
ولم يكلفنا سبحانه بألا نهجع إلا قليلاً من الليل. كلفنا فقط بأن نصلي العشاء،
وبعد ذلك قد ننام لنصحو لنصلي الصبح، أما المحسن الذي عرف حلاوة الخلوة مع الله
فهو لا يهجع إلا قليلاً من الليل. ويضيف الحق سبحانه في وصف المحسنين:{ وَبِالأَسْحَارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 18].
ولم يكلف الله المسلم بالاستغفار في السحر، لكن المحسن يفعل ذلك ويضيف الحق
سبحانه:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19].
ولم يقل سبحانه: إنه حق معلوم، لأن الحق المعلوم هو الزكاة. وهذه المراحل الثلاث
هي التي تُدخل المؤمن في مرتبة الإحسان. ولذلك نجد الحق في آخر مرحلة في الآية
التي نحن بصددها يتحدث عن الإحسان: } ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ { أي أن يزيد
الإنسانُ المؤمنُ من جنس ما فرض الله. ووقت أن كان التكليف في دور الاستكمال فكل حكم
يأتي كان يستقبله المؤمن بإيمان وعمل. أما الذين أدركوا كل التكاليف خلال الثلاثة
والعشرين عاماً - المدة التي مكثها وعاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا ثم
انتقل إلى الرفيق الأعلى - فقد استوت عندهم التكاليف، وإذا ما أرادوا الإحسان فلا
بد لهم من الزيادة من جنس التكليف.
ويقول الحق من بعد ذلك: } يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ... {
(/755)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
وهذا انتقال لحكم جديد، فبعد أن تكلم الحق فيما أحله لنا وقال سبحانه:{ أُحِلَّتْ
لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ }[المائدة: 1].
وبعد أن تكلم الحق سبحانه فيما حرم علينا من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل
لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكى وذبح
وحرَّم ما ذبح للأصنام وما استقسم بالأزلام وكذلك الخمر والميسر، أراد أن يعطينا
محرمات من نوع خاص، وحتى نعرف هذه المحرمات لا بد لنا أن نعرف أن هناك أشياء محرمة
في كل زمان وكل مكان، كالخمر والميسر والزنا وغير ذلك من النواهي الثابتة، سواء
أكانت عبادة أصنام أم أزلام أم غير ذلك من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وهناك
محرمات في أزمنة خاصة، أو في أمكنة خاصة. والفعل، أي فعل، لا بد له من زمن ولا بد
له من مكان.
نحن مأمورون بالصلاة في زمانها في أي مكان طاهر وصالح للصلاة فيه، وكذلك الصوم
يتحكم فيه الزمان، أما الحج فالذي يتحكم فيه هو الزمان والمكان. وأما العمرة فالذي
يتحكم فيها هو المكان؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعتمر في أي زمان - غالباً - ويتكلم
سبحانه هنا عن نهي في مكان خاص وفي زمان خاص، فالصيد ليس محرماً إلا في حالة أن
يكون الإنسان حُرماً.
ونعلم أن كلمة و " حُرُم " هي جمع " حَرَام " ، والحرام إما
أن يكون الإنسان في المكان الذي يبدأ فيه بالتحريم. ومثال ذلك منطقة رابغ التي
يبدأ عندها الإحرام بالنسبة لسكان مصر، فإن وصلت إلى هذا المكان وبدأت في عمل من
أعمال الحج أو العمرة فأول عمل هو الإحرام. ومن لحظة الإحرام حتى ولو أحرمت من
بلدك أو بيتك لا يحل لك الصيد. و " الحرم " أيضاً هو وصف للمكان حتى وإن
لم يكن الإنسان حاجاً، فالصيد محرم في الحرم، والحرم له حدود بينها الشرع، فالصيد
فيه حرام على المُحْرِم وغير المحْرِم. ونعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد
جعل الحق لها الأرض كلها مسجداً وطهوراً.
وعلى ذلك فأي مكان يصلح للصلاة، ويصلح أن نقرأ فيه العلم، ويصلح أن نقيم عليه
مصنعاً ويصلح أن نزرعه. إذن فأي أرض تصلح أن تكون مسجداً لأنها مكان للسجود. ولكن
المسجد بالمعنى الاصطلاحي هو المكان المخصص للصلاة. أما المسجد الحرام فمركزه
الكعبة وحولها الطواف وحول ذلك جدران الحرم. ويقع المسجد الحرام في دائرة الحرم،
والتي تبدأ من التنعيم والجعرانة والحديبية والجحفة وغيرها، هذه حدود الحرم.
فالإنسان إذا ما جاء إلى ميقات الحج عند رابغ مثلا فهو لا يصطاد؛ لأنه أصبح في
دائرة الحرم، فالصيد محرم عليه حتى ولو لم يكن حاجاً أو معتمرا.
والحج - كما نعلم - هو رحلة فرضها الله مرة واحدة في العمر يخرج إليها المسلم الذي
يحيا في كل مكان مع نعمة المنعم. وعندما يخرج المسلم إلى الحج فهو يتحلل من كل
النعم التي تصنع له التمييز ليستوي مع كل خلق الله. وأول سمة مميزة للإنسان هي
الملابس، لذلك يخلع المسلمون ملابسهم ويرتدون لباساً موحداً يتساوون فيه. وحين
يترك المسلم النعمة كلها فذلك لأنه ذاهب إلى المُنْعِم.
ومن بعد ذلك يريد الحق أن يؤدبنا تأديباً إيمانياً مع الوجود كله. ويصفي الله في
الحج هذه المسألة كلها، فالكل سواء في ملابس تكاد تكون واحدة، وكلهم شُعْثٌ غُبْر،
وكلهم يقولون: " لبيك اللهم لبيك ". هكذا تتم تصفية التفاوت في الإنسان
بالإحرام.
ومن بعد ذلك ينظر إلى الجنس الأدنى وهو الحيوان، ويعلمنا الحق الأدب مع هذا الجنس فيأتي
بتحريم صيده. ويعلمنا الأدب مع الزرع الذي تحت الحيوان فيمنع المسلم من قطع شجر
الحرم. وهكذا تصفي كل هذه المسألة، وتصبح العبودية مستطرقة في الجميع.
وتزول في الحج كل الألقاب والمقادير المتباينة من فور اتجاههم إلى الحج، وحول
الكعبة يرى الخفيرُ الوزيرَ وهو يبكي، ويشعر الجميع أن الكل سواء، والحق يقول:{
وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }[آل عمران: 97].
فالحيوان يأمن وكذلك النبات، هذا ما أمر به الحق في دائرة الحرم؛ لأن ذلك تدريب
للإنسان على أن يخرج من النعمة إلى المنعم. ومن بعد ذلك يدخل إلى المسجد ويطوف حول
الكعبة. ونجد الإنسان - سيد الوجود - يقف من كل ما يخدمه في الوجود موقفاً
مختلفاً، فالحيوان يأخذ كرامته وكذلك النبات، وكذلك الجماد يأخذ أيضاً كرامته، فمن
عند الحجر الأسود يبدأ الطواف سبعة أشواط.
في الحج ينفض الإنسان أي طغيان عن نفسه ويتساوى مع كل الناس، ينفض طغيانه أمام
الجنس الأدنى وهو الحيوان فحرّم عليه صيده - ونعلم أن الحيوان يغذي الإنسان -
وينفض أيضا طغيانه مع النبات - والنبات يغذي الإنسان - فحرّم قطعه.
وينفض الحق كبرياء الإنسان أمام الجماد - وهو أحط الأجناس - فأمر الحق الإنسان أن
يستلم الحجر الأسود أو أن يقبله، وإن لم يستطع من الزحام فعليه الإشارة للحجر، ومن
لم يستطع استلام الحجر أو تقبيله فقد يخيل إليه أن حجه لم يقبل وذلك زيادة منه في
التعلق بالمناسك والاحتياط في أدائها.
كل ذلك حتى يحقق الله سبحانه وتعالى استطراق العبودية، ودائماً نجد من يتساءل:
وكيف نقبل الحجر على الرغم من أن الله قد نهانا عن الوثنية وعبادة الأصنام؟ ونقول؟
إن الحجرية ليست لها قيمة في هذا المجال، ولكن رب الإنسان والحيوان والنبات والحجر
هو الذي أمرنا بذلك، بدليل أننا نرجم حجراً آخر هو رمز إبليس، والعبد في أثناء
أداء المشاعر - إنما ينتقل من مراد نفسه إلى مراد ربه، فيقبل ويعظم حجراً ويرجم
حجراً آخر، وهكذا صفيت العبودية بالنسبة للناس فاستطرقوا، وصُفيت العبودية بالنسبة
للحيوان والنبات والجماد.
ويلفتنا سيدنا عمر رضي الله عنه فيقول للحجر الأسود: " أنا أعلم أنك حجر لا
تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ".
كأن سيدنا عمر رضي الله عنه يعلمنا حتى لا يقول أحد: إنها وثنية، فالوثنية أن تعبد
حجراً بمرادك، أما الحجر الأسود فنحن نعظمه بمراد الله. } يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىا
بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [المائدة: 94].
ما الفرق بين ما تناله الأيدي وما تناله الرماح؟. ما تناله الأيدي هو صغار الأفراخ
والأشياء السهلة اليسيرة، أما ما تناله الرماح فهو ما تصطاده بجهد وبالرمح وحسن
تصويبه. وقال الحق: " ولنبلوكم " لأن هناك فارقاً بين أن يلح الإنسان
على المعصية فيفعلها، وبين أن يصل إلى منزلة لا يلح فيها على معصية، بل قد تقع
عليه المعصية، وإن وقعت عليه المعصية فهو لا يرتكبها.
كأن الحق يبتلينا ما دمنا لا نلح على المعصية، ويريد أن يرى ماذا يكون التصرف منا
إن جاءت المعصية إلينا فهل نفعلها أو لا؟. فإن كان الإيمان قوياً فلا أحد يقرب
المعصية. ولذلك يبتليكم الله يشيء من الصيد المحرّم عليكم بان يجعله في متناول
أيديكم.
حدث ذلك في الحديبية لقد كاد الصيد يضع نفسه بين أيدي المؤمنين ولم يقربوه وكان
هذا اختباراً. ونعلم أن الابتلاء غير مذموم في ذاته، إنما المذموم فيه الغاية منه؛
لأن الابتلاء اختبار، وقد ينجح إنسان، وقد يفشل إنسان آخر. وكأن الحق قد ابتلى
المؤمنين بان جعل الصيد يتكاثر أمامهم حتى يقوي عود الإيمان في قلب المؤمن فلا
يتهافت على المعصية وتتكون لديه المناعة وذلك. } لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ
بِالْغَيْبِ { وسبحانه وتعالى العالم بكل شيء قبل أن يحدث. لكن هناك فرق بين علم
وعلم، وإن علم الله أزلي لا يتخلف، ولكن هذا العلم ليس حجة على الناس؛ لأن الحجة
على الناس هو ما يقع منهم فعلاً، ولذلك كان الابتلاء.
وأسوق هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إن الوالد قد ينظر إلى أحد أبنائه ويقول:
أنه يلعب طول السنة ومن الأفضل ألا ندخله الامتحان؛ لأنه سوف يرسب. ولا يدخل الابن
الامتحان، ولكن الوقاحة قد تصل به إلى الحد الذي يقول فيه: لو كنت دخلت الامتحان
لكنت من الناجحين. ولو كان والده أدخله الامتحان ورسب، لكان هذا الرسوب حجة عليه.
إذن فعلم الحق لا يلزمنا الحجة، إنما العلم الواقعي هو الذي يلزمنا بها.
وقد حدثت هذه الابتلاءات في النبوّات كثيراً. ومثال ذلك ابتلاء الحق لليهود بتحريم
الصيد يوم السبت، فكان الحيتان تأتي في هذا اليوم مشرعة وكأنها تلح عليهم أن
يصطادوها. وفي الأيام الأخرى لا تأتي الحيتان، فيحتالون لعصيان الأمر باختراع نوع
من الشباك السلكية تدخل فيها الحيتان، وتطل محبوسة فيها إلى يوم الأحد فيأخذونها.
وتكون حيلتهم هي دليل الغباء منهم؛ لأن الصيد قد تم بالنية والعمل والاستعداد
المسبق. وكان الابتلاء في الإسلام بشيء من الصيد. } لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن
يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىا بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {.
وقد علمنا من قبل قوله الحق:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا
}[البقرة: 229].
فإن كانت المسائل مأمورات فعلينا أن ننفذها. وإن كانت نواهي فيجب ألا نقربها حتى
لا نقع فيها فتكون حجة علينا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتّقى
الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعٍ يرعى حول
الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه
"
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {
(/756)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
أي لا تقتلوا الصيد إن كنتم قد أحرمتم بالحج أو بالعمرة أو بهما معا، وإن لم
تحرموا فالصيد محرّم أيضاً في حدود منطقة الحرم. وسبحانه قد جعل الحرم زماناً
والحرم مكاناً. وهو فَيْءٌ يلجأ إليه الناس من غرور عزة قوم على حساب ذلة قوم
آخرين. وقديماً كان يحارب بعضهم بعضا، ولذلك جعل الحق أربعة أشهر حرماً في الزمان،
أي لا قتال فيها، وذلك حتى يستريح المتعب من الحرب، ويستريح من يخاف على عزته، أو
يذوق فيها الجميع لذة السلام والأمن، وقد يستمرون في ذلك الاستمتاع بالسلام
والأمان. وكذلك جعل الحق الحرم أيضاً مكاناً آمناً، لا يتعرض فيه أحد لأحد. وكان
الإنسان يقابل في الحرم قاتل أبيه فلا يتعرض له، كل ذلك ليحمي عزة المسلمين أن
تنكسر أمام غيرهم.
ومثال ذلك طرفان كلاهما على خلاف مع الآخر، وكل منهما يرغب في الصلح مع الطرف
الآخر. وهنا يتدخل أي إنسان من الخارج فينجح؛ لأن الطرفين ميالان للصلح. وكل منهما
يريد إنهاء الحرب ولكن تأخذه العزة بالإثم وتستولي عليه الحمية ويأنف أن يبدأ خصمه
بطلب الصلح.
وقد أراد الحق أن تكون هناك في الأشهر الحرم فرصة للائتلاف والصلح وذلك بأن يلجأ
الناس إلى البيت الحرام حتى تنفض البشرية عن نفسها البغضاء وحتى يرتاح البشر من
القتال، فتصدر الأحكام في رويّة واتزان وهدوء أعصاب.
ويقول الحق جل وعلا: { يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ
الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً
لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [المائدة: 95].
ولا يعتبر الشيء صيداً إلا إذا كان مما يؤكل. أما إذا كان الشيء المصاد لا يؤكل
كالسبع وغيره فقد قال بعض العلماء: لا يمنع ولا يحرم ولكنا نقول: إن الصيد هو كل
ما يصاد سواء ليؤكل أو حتى غير مأكول، وذلك لنعلم أنفسنا وجوارحنا وأعضاءنا الأدب
ونحن حرم. ومعنى " حُرُم " هو أن نكون محرمين أو في الحرم، والحرم له
حدود معروفة. وداخل الحرم ممنوع على الإنسان أن يصطاد أي شيء من لحظة بلوغه ميقات
الحج والعمرة.
إذن فحيز الصيد محدود بالنسبة لكل من دخل الحرم المكّي الشريف سواء أكان محرماً أم
لا. وحيز الصيد بالنسبة لمن أراد الحج أو العمرة هو أكثر رقعة واتساعا، ذلك أن
التحريم يبدأ من حين الاحرام بالحج أو العمرة أو بهما. ولكن ماذا يكون الحكم إن
اعتدى إنسان على الحكم واصطاد؟
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً }.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق قتل الخطأ بالعمد، وذلك حتى ينتبه كل مسلم
إلى كل فعل وهو محرم، أو وهو في البيت الحرام.
هب أنك أردت أن تحك جلد رأسك بأظافرك وأنت محرم، هنا قد يتساقط بعض شعرك؛ فإن ثبت
ذلك فعليك هدي للكعبة أو صوم أو إطعام مساكين؛ لأن الحق يريد لك حين تحرم أن تنتبه
بكل جوارحك إلى أن كل حركة من حركاتك محفوظة ومحسوبة عليك، ولتكن في منتهى اليقظة
الإيمانية، وأي خطأ مهما يكن يسيراً يوجب الفدية. لذلك من قتل وجب عليه الجزاء
لتعديه على شيء حرمه الله. والجزاء محدد بنص القول الحق: } فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ { وعند المثلية وقف العلماء أيضاً: أتكون المثلية بالقيمة،
أو المثلية في الشكل؟
والمثلية في القيمة تعني أن تقوِّم الشيء المقتول بثمنه، وتشتري بالثمن شيئاً من
الأنعام وتذبحها. والمثلية في الشكل تعني أن نشبه الشيء المقتول بمثيل له مما يذبح
ويكون أقرب إلى شكله. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل مسلم ضبعاً
أمر المسلم أن يفدي بكبش. والصحابة رضوان الله عليهم: علي، عمر، وعثمان و عبدالله
بن عمر أمروا رجلاً قتل نعامة أن يفديها ببدنة ناقة أو بعير لأنها تشابه النعامة
في العلو. وحينما قتل إنسان ظبياً فداه بشاة. والظبي أو الغزال هو الذكر، والغزالة
هي الأنثى، وعندما قتل غزالاً صدر الحكم بالفداء بعنزة. ومن قتل " يربوعاً
" - وهو من الزواحف وأكبر من الفأر قليلاً - صدر الحكم أن تكون الفدية "
الجفرة " وهي ولد الماعز بعد أن يستغني عن لبن أمه ويستطيع الأكل.
إذن، فالمثلية هنا مثلية الشكل. وقال أبو حنيفة بإباحة أن تكون المثلية بالقيمة إن
لم يوجد الشبيه. وعلى ذلك فالذي يصطاد من أجل أن يطعم نفسه يدفع ثمن الخطأ لغيره
من المحتاجين. وإن كانت المثلية بالقيمة فالذي يحدد هذه القيمة أناس لهم بصيرة
وهما اثنان من ذوي العدل. } يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ
الْكَعْبَةِ { وهم الذين لا يميلون عن الحق، ويقيمون الميزان.
ويأمرنا الحق أن نحكم بالإنصاف لنكون من ذوي العدل، أي أن الإنسان حين يواجه خصمين
فهو يعطي نصفه لخصم ونصفه الآخر للخصم الثاني، فلا يميل بالهوى ناحية أحدهما. ولا
يدير الإنسان وجهه إلى الخصم أكثر مما يديره للآخر.
وإن سأل أحد: كيف نأتي بذوي العدل؟ ونقول: انظر إلى عدالتهما في نفسيهما ولنر
تصرفات الإنسان هل هي مستقيمة أو لا؟ وهل هو مسرف أو معتدل سواء في الطعام أو
الغضب أو في أي لون من ألوان السلوك؟ ومن كان مأموناً على نفسه فهو مأمون على
غيره، ويجب كذلك أن يكون من ذوي الخبرة في هذا الأمر، ولذلك يجب أن ينتبه الناس
إلى هذه المسائل لأننا نرى أن موجة من النفاق للشباب تسود بعض المجتمعات، فنسمع
أصواتاً تقول: إن الشباب يجب أن يتولى القيادة.
ونقول لأصحاب هذه الأصوات: تمهلوا ودققوا النظر في مثل هذا القول؛ لأن الشباب عليه
أن يزاول عمله الخاص في فترة الشباب، وعلينا ملاحظته وهو يؤدي عمله فإن نجح ورأينا
فيه أمانة على حركة نفسه، وعدلاً مع نفسه وعدم إسراف على نفسه فإننا نرشحه من بعد
ذلك ليخدم أمته بعد أن يثبت أنه مأمون في عدالة نفسه. ولا يصح أن نجرب في الأمة
مَن لا يَستند إلى رصيد من الخبرة السابقة.
إنه لا يصح أن نولي الأمر في أي قطاع لمن أطلقوا عليهم: الأطفال المعجزة. ومن يريد
أن يجرب فليجرب في نفسه، وفيما يملك، لا في الأمم والشعوب. وعلى الشاب أن يبدأ
حياته بنشاط جدي لذاته، ليستخلص النفعية القريبة منه وألا يغش نفسه، فإن نجح في
ذلك، نأخذ منه بعض الوقت أو كل الوقت لخدمة أمته بعد أن يثبت لنا أنه قد وصل إلى
النضج العقلي الكافي، وقد زادت تجاربه وفقد شهية الطموح الشخصي والمتع الصغيرة،
ووصل إلى القدرة على التجرد ليحكم بين الناس.
فإذا كان الحق قد أمرنا أن نختار ذوي العدل للحكم في رقبة شاة، فما بالنا برقاب
الناس ومصالح الناس؟
نحن - إذن - مطالبون بأن نميز ذوي العدل بين الناس من خلال مراقبة حركة الإنسان مع
نفسه وعلى نفسه وعلى أهله، وعندما نكتشف أنه صار مأموناً على نفسه، هنا نستطيع أن
نوليه أمور غيره بالخدمة العامة، وذلك حتى لا تخيب الأمة، فالأمم إنما تخيب
باختيار غير مدروس لقيادات المواقع المختلفة فيها.
ولنا أن نلحظ في عملنا دقة المعاني التي جاءت في القرآن الكريم، فنحن هنا في أمر
شاة أو حيوان نستصدر الحكم من ذوي العدل. } فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ {
وما يحكم به ذوا العدل إنما يذهب كله للكعبة؛ ليأكله الموجودون في البيت الحرام
لعبادة الرحمن. وقد أراد الله أن يضمن قوت الذين يسكنون وادياً غير ذي زرع حتى من
أغلاط الذين يعتدون على ما حرَّمَ الله صيده من الحيوان.
ولكن ما الحل إذا ما كان المخطئ لا يملك القدرة على أن يقدم هدياً بالغ الكعبة؟
والحق سبحانه لا يترك مثل هذه الأمور دون بيان أو تفصيل، فهاهوذا يضع الكفارة
بإطعام مساكين، يحدد عددهم الاثنان من ذوي العدل. ومن لا يستطيع إطعام مساكين
فليصم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه. } أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ
أَمْرِهِ { والوبال هو الثقل والعاقبة.
ولماذا الوبال؟ لأن الإنسان حين يدفع من ماله ثمن شراء المثل لما قتل سيعز عليه
ماله، وأيضاً إن أطعم مساكين فهو سيشتري الطعام بمال يعز عليه، وكذلك يسبب له
الصيام الإرهاق. إن هذا اللون من الكفارة يذيق الإنسان وبال ما فعل. وأراد الحق
بذلك ألا يجعل الإحساس مجرد أمر شكلي، أو أن تظل الإساءة أمراً شكلياً. وشاء
سبحانه أن يرتب النفع للإحسان والضر للإساءة، حتى تستقيم الأمور في الكون. ولنا في
قصة ذي القرنين المثل الواضح على ذلك:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ
قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ
وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً }[الكهف: 83-84].
لقد مكن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سببا. ومع ذلك لم يركن ذو
القرنين إلى ما أعطى فلم يتقاعس ولم يكسل، بل يخبرنا الحق:{ فَأَتْبَعَ سَبَباً
}[الكهف: 85].
لقد أخذ ذو القرنين من تمكين الله له في الأرض، وأخذ من عطاء الله له بشيء من كل
سبب، إنه أخذ طاقة وإحساساً بالمسئولية ليواصل مهمته:{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا
قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ
فِيهِمْ حُسْناً }[الكهف: 86].
لقد بلغ مغرب الشمس في نظر عينيه، لأن الإنسان عندما يقف وقت الغروب في خلاء
فالشمس تغرب أمامه وكأنها تسقط في آخر الأفق. والحقيقة أن ذلك هو نهاية قدرة
البصر. وجاء التفويض لذي القرنين: إما أن يعذب هؤلاء القوم، وإما أن يعاملهم
بالحسنى. وليقس عمل كل إنسان منهم، وليجاز كل إنسان منهم حسب عمله. وهو لا يفعل
ذلك عن هوى، لأنه ممكن في الأرض من الحق سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الحق:{ قَالَ
أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ
فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً }[الكهف: 87].
وكل إنسان - حتى النفعي - حين يرى أن ارتكاب العمل السيء يأتي له بالمتاعب
والخسارة، يرجع عنه ولو لم يكن مؤمناً باليوم الآخر. أما من يؤمن باليوم الآخر
ويعمل عملاً صالحاً فماذا تكون نوعية معاملته؟ ها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول:{
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا وَسَنَقُولُ
لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }[الكهف: 88].
إنه ينال التكريم والتشجيع، فالتكريم والتشجيع يجب أن ينالهما صاحب الحق فيهما لا
المنافق أو المتمسح بالأبواب. هكذا يكون دستور كل متمكن في الأرض. وهكذا تكون
رعاية أوامر الله ونواهيه. وحين أمرنا الحق بتحريم الصيد في البيت الحرام أو على
المحرم ووضع عقوبة لمن أخطأ، فهو سبحانه وتعالى عادل معنا، فلا عقوبة إلا بنص ولا
تجريم إلا بعد النص، ولذلك قال سبحانه: } عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {. فسبحانه يعفو
عما سلف، أما من عاد ليرتكب نواهي الله في هذا المجال فيعاقبه الحق. فلا يقبل منه
هدى ولا إطعام مساكين ولا صوم؛ لأن في تكرار المخالفة إصراراً عليها، لذلك ينتقم
منه الله، وهو العزيز الذي لا يُغْلَب.
وبعد أن تكلم الحق عن صيد البر وحكمه، أراد أن يوضح لنا أن ذلك الحكم لا ينسحب على
كل صيد. فسبحانه حرم صيد البر إن كنا حرماً، أو في دائرة الحرم. ويجيء قول الحق: }
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ... {
(/757)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
وهذا قول دقيق يبين تحليل صيد البحر وطعامه، وتحريم صيد البر على المحرم كما حرّم
الصيد في دائرة الحرم على المحرم وغير المحرم؛ لأن المسألة ليست رتابة حِلٍ، ولا
رتابة حُرمة، إنما هي خروج عن مراد النفس إلى مراد الله. وصيد البحر هو ما نأخذه
بالحيل ونأكله طرياً، وطعام البحر هو ما يعد ليكون طعاماً بأن نملحه ولذلك قال: {
مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ }. ولهذا جاء الحق بطعام البحر معطوفاً على صيد
البحر. والشيء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شيء على شيء آخر،
فالعطف يقتضي المغايرة.
إذن فالمقيم يأكل السمك الطري والذي في سيارة ورحلة فليأخذ السمك ويجففه ويملحه
طعاماً له، مثلما فعل سيدنا موسى مع الحوت. ولكنْ هناك ألوان من الصيد ليست للأكل،
كاللؤلؤ والمرجان والحيوانات التي نستخرجها من البحر لعظامها وأسنانها وخلاف ذلك،
فماذا يكون الموقف؟ لقد أباح لنا سبحانه الاستمتاع بكل صيد البحر. وجاء هذا التحليل
هنا بأسلوب اللف والنشر، مثلما قال الحق:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ
الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ
}[القصص: 73].
وكلنا يعرف أن الليل للراحة والنهار للتعب. والليل يسلم للنهار، والنهار يسلم
لليل. إذن فالمسكن يعود إلى الليل، وابتغاء الفضل بالكد يعود إلى النهار. إذن فقد
جاء الحكم على طريق اللف والنشر المرتب، وأوضحت من قبل كيف أن الشاعر العربي قد
فعل ذلك فقال:قلبي وجفني واللسان وخالقي راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ.فالقلب راض،
والجفن باكٍ، واللسان شاكر، والخالق غفور، ولكن الشاعر جاء بالأحكام منشورة بعد أن
لف الكلمات الأربع الأولى. أي أنه طوى المحكوم عليه مع بعضه ثم نشر الأحكام من بعد
ذلك. وفي حياتنا - في أثناء السفر - نشتري الهدايا للأبناء ونرتبها حسب ورود
الأبناء إلى حياتنا، أي أننا نلف الهدايا ثم ننشرها من بعد ذلك. وبعد أن حلل الحق
صيد البحر جاء بتحريم صيد البر إن كنا حُرُماً، وذلك تأكيد جديد على تحريم صيد
البر في أثناء الإحرام أو الوجود في الحرم.
ويذيل الحق الآية بقوله: { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُون } أي
اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية؛ لأنكم لستم بقادرين على تحمل عذاب النار،
فالحق - كما قلنا من قبل - له صفات جمال، وهي التي تأتي بما ييسر وينفع كالبسط،
والمغفرة والرحمة، وله سبحانه وتعالى صفات القهر مثل: الجبار وشديد العقاب وغيرها.
وكل صفة من صفات الحق لها مطلوب. فعندما يذنب الإنسان فالتجلي في صفات الله يكون
لصفات الجلال، ومن جنود صفات الجلال النار.
إذن فإياكم أن تظنوا أنكم انفلتم من الله، فمساحة الحرية الممنوحة لكل إنسان تقع
في المسافة بين قوسين: قوس الميلاد، وقوس الموت، فلا أحد يتحكم في ميلاده أو
وفاته. إياك - إذن - أيها الإنسان أن تقع أسير الغرور؛ لأنك مختار فيهم بين
القوسين. ومحكوم بقهرين، قهر أنه قد خلقك بدءاً، وقهر أنك ستعود إليه - سبحانه
وتعالى - نهاية.
ويقول الحق من بعد ذلك: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ... }
(/758)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
" جعل " تعني بَيَّن ووضَّح، فقال: إن الكعبة محرمة ولها كرامة تستحق من
المؤمن أن يأمن فيها. أو " جعل " تعني إيجاد صفات للأشياء بعد أن تكون
ذات المادة موجودة، مثل قوله الحق سبحانه:{ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 7].
أي أنه سبحانه خصص جزءا من خلايا الإنسان ليكون عيناً، وجزءا آخر ليكون أذنا،
وجزءا ثالثاً ليكون لساناً. والحق هنا يقول: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ }. ونعرف أن كل الأسماء للمعنويات
مأخوذة من المُحسات.
والكعب هو الشيء الناتيء الخارج عن حد المتساوي. ومثال ذلك الكعب في القدم يكون
مرتفعاً. وكذلك الفتاة نطلق عليها: " طفلة " وهي دون البلوغ، وعند
البلوغ وظهور الثديين نقول إنها " كَعَاب وكاعب " ، أي أن ثدييها قد
صارا مرتفعين، والكعبة نتوء، والنتوء ارتفاع، وهذا الارتفاع هو علامة البيت،
فالبيت هو مساحة من الأرض، أما الارتفاع فهو يحدد الحجم.
ومثال ذلك عندما نريد حساب مساحة الأرض؛ نقيس الطول والعرض؛ ونضرب الطول في العرض
حتى نحسب المساحة. أما إذا كان هناك ارتفاع فهذا يعني الانتقال من المساحة إلى
الحجم. والحق سبحانه يقول:{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ }[البقرة: 127].
أي أن سيدنا إبراهيم بعمله إنما أراد أن يصنع للبيت ارتفاعاً وحجماً، وهذا البناء
يدل على صناعة حجم لمساحة من الأرض. إذن فالكعبة هي البيت بعد أن صار له ارتفاع.
وكلمة " بيت " تعني المكان الذي أعد للبيتوتة، فالإنسان يضرب في الأرض
طيلة نهاره وعندما يحب أن يستريح يذهب إلى البيت.
فالله جعل الكعبة بيتاً للناس حتى يستريحوا فيه من عناء حياتهم ومشقة كدحهم لأنه
بيت ربهم باختيار ربهم، لا باختيارهم، فكل مسجد هو بيت الله ولكن باختيار خلق
الله، أما الكعبة فهي بيت الله باختيار الله، وهي قبلة لبيوت الله التي قامت باختيار
خلق الله.
{ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } وكلمة {
الْبَيْتَ الْحَرَامَ } تدل على أن له حرمات كثيرة. وجعل الله الكعبة بيتاً حراماً
لكل المسلمين قياماً. والقيام هو الوقوف، والوقوف هو القيام على الأمر. والقائم
على أمرٍ ما يحفظ له قوام حياته ووجوده.
وهكذا نفهم أنه سبحانه أراد أن تكون الكعبة هي البيت الحرام ليحفظ على الناس قوام
حياتهم، بالطعام والشراب واستبقاء النسل ودفع الأذى، وفوق ذلك له سيطرة وسيادة
وجاه وتمكين، ولذلك يعطي الإيمان الحياة الراقية، فالحياة مسألة يشترك فيها المؤمن
والكافر، وتبدأ بوجود الروح في المادة فتنتقل المادة إلى الحالة الحس والحركة،
والمؤمن هو من يرتقي بحياته فيعطي لها بالإيمان منافع، ويسلب عنها المضار، فيأخذ
السيادة، وبذلك تتصل حياته الدنيا بحياته في الآخرة، فلا تنتهي منه الحياة أبداً.
لقد جعل الحق سبحانه وتعالى الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.. أي قواماً لحياتهم
سواءً الحياة الدنيا او حياة الآخرة، الحياة المادية التي تنتهي بالموت، والحياة
التي تبدأ بالآخرة. والحق سبحانه يقول عن ذلك:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[الأنفال:
24].
هكذا يكون الإيمان بالله وصلاً لحياتين: الحياة المادية في الدنيا، وحياة الآخرة.
وأراد الحق بذلك دفع الأذى وجلب النفع والجاه والسيطرة للمؤمنين، ونعرف أن البيت
الحرام هو أول بيت وضع للناس:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }[آل عمران: 96].
كذلك نعرف أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أقام القواعد من البيت، أما البيت نفسه
فقد أقيم من قبل ذلك. وما دام الحق سبحانه قد قال:{ وُضِعَ لِلنَّاسِ }[آل عمران:
96].
فمعنى ذلك أن الله لم يحرم الناس من قبل إبراهيم أن يكون لهم بيت. فالناس معناها
البشر من آدم إلى أن تقوم الساعة، وأقام إبراهيم خليل الرحمن البُعْد الثالث وهو
رفع القواعد للبيت الحرام. والحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَإِذْ بَوَّأْنَا
لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ }[الحج: 26].
أي أن الحق سبحانه وتعالى أظهر مكان البيت لإبراهيم عليه السلام، ونعرف أن إبراهيم
أشرك ابنه إسماعيل في إقامة القواعد من البيت، ونعلم أن إسماعيل قد جاء إلى هذا
المكان رضيعاً مع أمه، وقال إبراهيم بعد أن رفع القواعد متوجها إلى ربه بالدعاء:{
رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }[إبراهيم: 37].
لقد عرف إبراهيم مكان البيت وأنه بوادٍ غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا نبات. وجاء
الحق بهذه الكنابة لنعرف أنه لا حياة بدون زرع، والماء لازم للزرع. وبذلك يكون
إبراهيم عليه السلام قد لبى نداء الله بأن يأتي إلى مكان ليس به أي نعمة تقيم
الحياة، ولا يوجد فيه إلا المنعم، ولذلك نرى سيدتنا هاجر عليها السلام عندما تتلقى
الأمر من إبراهيم بالسكن مع ابنها في ذلك المكان تناديه: يا إبراهيم إلى من
تتركنا؟ فيقول لها: إلى الله تقول: رضيت بالله. هنا تركته سيدتنا هاجر ليمشي كما
أراد، فالله لن يضيعها لا هي ولا ابنها؛ لأنها قالت: رضيت بالله.
وقص الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا قصتها، والسعي الذي قامت به بين
الصفا والمروة، وكيف كانت ثقتها في أن الخالق الأكرم لن يضيعها لا هي ولا ابنها،
بل سيرزقهما، فتسعى بين الصفا والمروة لعلها تجد طيراً يدلها على موقع للماء،
وتعود إلى المروة لعلها تجد قافلة تسير. إنها تأخذ بالأسباب مع علمها أنها في صحبة
المسبب الأعظم. وسعت سبعة أشواط. وهي الأنثى وفي تلك السن، وذلك من لهفتها على
توفير شربة ماء لطفلها.
السعي - كما نعرفه - عملية شاقة. ولو أن الله أعطاها الماء على الصفا أو على
المروة لما أثبت كلمتها: " إن الله لا يضيعنا ". ولكن الحق يعطيها الماء
عند قدمي طفلها الرضيع. وبذلك لها يكون سبحانه قد نبهنا وأرشدنا إلى قضيتين: أمّا
الأولى فإن الإنسان يلزمه أن يسعى على قدر جهده، وأما الثانية فهي أن السعي لا
يعطي بمفرده الثمرة، ولكن الثمرة يعطيها الله. وجعل الله من السعي بين الصفا
والمروة تعليماً لنا بدرس عملي تطبيقي أن نأخذ بالأسباب ولا ننسى المسبب؛ لأن فتنة
الناس تأتي من الغرور بالأسباب.{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ
اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].
إنه لا يصح أبداً أن تعزلك الأسباب عن المسبب، ولا تقل سأبقى مع المسبب إلى أن
تأتيني الأسباب؛ لا، كُنْ دائماً مع الأسباب، وتذكر دائماً المسبب. ولذلك نقول: إن
الجوارح تعمل، ولكن القلوب تتوكل. وهذا هو المغزى من عطاء الحق سبحانه الماء لهاجر
عند قدمي ابنها، وبذلك تستجاب دعوة إبراهيم التي دعا بها الله:{ رَّبَّنَآ إِنَّي
أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }[إبراهيم:
37].
لقد دعا إبراهيم عليه السلام بالرزق من الثمرات، لأن الوادي غير ذي زرع. ولذلك جعل
الحق أفئدة الناس تهوي إلى الكعبة وإلى البيت الحرام. يقول - سبحانه -:{ أَوَلَمْ
نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ
رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا }[القصص: 57].
وكلمة " يُجبى " تدلنا على أن الناس لا تأتي بهذه الثمرات اختياراً إلى
البيت الحرام الذي جعله الله قياماً لحياة من يوجد فيه، بل يأتون بالثمرات قهراً.
وهناك أناس لهم مزارع كبيرة وحدائق وفيرة الثمار في الطائف وفي غيرها من البلاد،
وعندما يريد إنسان الشراء من نِتاج مزارعهم يقولون له: إنه مخصص لمكة فإن أردت
شراءه فاذهب إلى مكة.
لقد استجاب الحق لدعاء إبراهيم: } فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ {. و " تهوي " - بكسر الواو - تدل على السقوط من حالق.. أي
من مكان مرتفع شاهق. وكأن الشوق إلى الكعبة يجعل الإنسان مقذوفاً إليها. ولذلك نجد
الكَلِف بالحج - المحب له والمتعلق به - تشتاق روحه إلى الحج.
وعلينا أن نفرق بين " يَهْوَى ".. أي يحب الذهاب، و " يَهوى "
بكسر الواو أي يذهب بالاندفاع، فالإنسان إن سقط من مكان عالٍ لا يستطيع أن يقول:
سأتوقف عند نقطةٍ ما في منتصف مسافة السقوط؛ لأن الذي يقع من مكان لا يقدر على أن
يمسك نفسه. ولذلك قال الحق:{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ }[إبراهيم: 37].
وهذا دليل على أن الهْوُي ليس من صنعة الجسم، ولكنه من صنعة الأفئدة.
والأفئدة بيد الله - سبحانه - هو الذي جعلها تهوِي، والكعبة هي البيت الحرام وهي
قوام لحياة الناس، وسبحانه القائل:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }[آل عمران: 97].
فالداخل إلى الكعبة آمن حتى ولو كان قاتلاً. وكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه في
الكعبة فلا يتعرض له، إذن فقد أعطى الحق لهم من مقومات الحياة الشيء النافع وحجب
عن الموجود منهم الضر.
وأما السيادة والجاه فقد عرفنا ان قريشاً سادت العرب وكان رجالها سدنة وخدماً لبيت
الله، والكل يأتي إليهم فلا أحد يتعرض لقوافلهم الذاهبة إلى الشام أو اليمن. وإلا
فمن يتعرض لقوافل قريش فإن قريشاً تستطيع الانتقام منه عندما يأتي إليها. وكان ذلك
قمة السيادة. إذن فمقوم الحياة إما أن يأتي بنافع كالرزق، وأما أن يمنع الضار؛
وذلك بالأمن الذي يصيب كل داخل إليها، وكذلك بالسيادة التي أخذتها قريش على العرب
جميعاً. وأعطى الله المثل لقريش على حمايته للكعبة، عندما جاء أبرهة ليهدم
الكعبة:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].
ورد سبحانه كيد أصحاب الفيل؛ لأنهم لو هدموا الكعبة لضاعت السيادة من قريش، ولذلك
قال الحق وصفاً لذلك:{ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 5].{ لإِيلاَفِ
قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }[قريش: 1-2].
جعل الحق أصحاب الفيل كعصف مأكول أي كتبن أو نحوه أكلته الدواب وألقتهُ رَوْثا،
فعل - سبحانه - ذلك حتى تألف قريش وتطمئن إلى أن الكعبة لن يمسها سوء، وإلى أن
رحلات الشتاء والصيف مصونة بحكم حاجة كل القبائل إلى الحج. وقال سبحانه:{
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 3-4].
أي أسبغ عليهم النعمة بالطعام وسلبهم المضرة بالخوف، وأبقى لهم السيادة والجاه
بخدمة الكعبة التي جعلها الله للناس جميعاً قياما وامناً؛ لأن الذين يذهبون إلى حج
البيت يُكفر عنهم سبحانه سيئاتهم ويخرجون من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، وهذا
قيام لحياتهم الأخروية أيضاً.
إذن جعل الله البيت الحرام قياماً لكل ألوان الحياة، والبيت الحرام مكان كما نعلم.
وجعل الحق الشهر الحرام أيضاً قياماً للحياة، والشهر الحرام هو زمان كما نعلم.
والشهر الحرام هو أحد الأشهر الحرم الأربعة: شهر منها فرد أي غير متصل بغيره من
الأشهر الحرم وهو رجب - ولذلك يسمى رجب الفرد - وثلاثة سرد أي متتابعة يلي بعضها
بعضاً وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. والمراد بالشهر الحرام هو الجنس لكل شهر
من الأشهر الحرم.
ونعلم أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى فاعل. والفاعل يحتاج إلى زمن ليفعل فيه الفعل،
وإلى مكان يفعل فيه، وإلى سبب يدعو إلى الفعل، وإلى قدرة تبرز هذا الفعل. ولذلك
نذكر جميعاً قول الحق سبحانه:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ
غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }
[الكهف: 23-24].
فإياك أن تقول: إني فاعل ذلك غداً إلا بعد أن تتبعها بقولك: " إن شاء الله
". ولا يمنعنا هذا أن نخطط لمستقبلنا. فمادمنا قد استعنا بالمشيئة، فلنا أن
نخطط لحياتنا. ونقول: " إن شاء الله " لأن عناصر الفعل: فاعل، ومفعول
يقع عليه الفعل، وزمان، ومكان، وسبب، وقدرة تبرز الفعل. ولا أحد منا يملك واحداً
من هذه العناصر، فأنت أيها الإنسان لا تملك وجود ذاتك غداً، ولا تملك وجود المفعول
غداً، ولا تملك الزمان، ولا تملك المكان، ولا تملك السبب؛ لأنه من الجائز أن
يتغير، ولا تملك القدرة على العمل، فقد تسلب منك القدرة قبل أن تفعل الفعل.
إذن، فأنت لا تملك من عناصر الفعل شيئاً. فلا تجازف وتقول: أنا أفعل ذلك غداً. بل
أسندها إلى من يملك كل العناصر، وقل: " إن شاء الله " ، وبذلك لا تكون
كاذباً.
وهنا في هذه الآية يوجد عنصران: المكان، والزمان، المكان هو البيت الحرام، والزمان
هو الشهر الحرام، والذي يحدث الفعل فيه نسميه: المفعول فيه، وهو إما ظرف مكان وإما
ظرف زمان. وأراد الحق سبحانه بذلك أن يؤكد ما فيه قيام الناس زمانا ومكانا، فلو
أنه سبحانه لم يفعل ذلك بالنسبة للزمان وهو الأشهر الحرم، والمكان وهو الحرم،
لاستمرت الحرب بين قبائل العرب إلى ما لا نهاية. ولذلك أراد بالأشهر الحرم أن يعطي
للعقل فرصة للتأمل في أسباب الحرب، ويعطي كل إنسان من العرب الراحة من القتال.
وكان كل عربي في ذلك الزمن يهتم بالاستعداد للقتال اهتمامه بالطعام والشراب، فكل
منهم تربى على الفروسية والقتال والضرب بالرمح والمبارزة بالسيف.
وحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لينساح بالدعوة في أرض الله صحب معه
الكثير من الرجال الذين لم يكونوا في حاجة إلى التدريب على أعمال الحرب، فقد كان
كل الناس تقريباً جاهزين للقتال. وكأن الله سبحانه أراد للإسلام أن ينهي الثأر بين
القبائل، وأن يستفيد الإسلام من استعداد كل عربي للقتال. واستفاد الإسلام أيضاً من
أن أمة العرب كانت - غالباً - متبدية؛ بيت كل إنسان منهم على ظهر البعير، يشد
رحاله، وينصب خيمته وينام؛ لأن الناس إنما ارتبطوا بالأوطان عندما بنوا المنازل،
فمن بنى لنفسه بيتاً في مكان ما فهو يشتاق إلى ما بناه.
وكأن الحق قد أعدهم للانسياح بكلمة الله في الأرض فلا يحزن لترك مكان إلى مكان
آخر، بل إن الشخص منهم كان يذهب إلى البلاد ويتوطن فيها ليؤصل الوجود الإسلامي.
فكان كل واحد منهم نواة الخير للأمم التي انساحوا إليها؛ فمن ذهب منهم إلى الشام
توطن فيها ولم يصعب عليه فراق الجزيرة. وكذلك من ذهب إلى مصر وغيرها من البلدان.
إذن فقد أراد الحق بحرمة الأشهر الحرم والبيت الحرام أن يرتاح العرب من القتال
بدلاً من أن تهلك الحربُ الحرثَ والنسلَ، وأراد الحق ذلك قياماً للناس، واستبقاء
للنوع.
وكذلك حرم الله: } وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ { والهدي هو الذي يُهْدَى للحرم
فيأكله الناس هناك، ذلك لأن الحرم موجود بوادٍ غير ذي زرع. والهدي هو البهيمة التي
يتطوع بها أي إنسان ويضع حول عنقها قلادة من لحِاء وقشر الشجر أو غير ذلك، وعندما
يرى الناس القلادة يعرفون أن تلك البهيمة مهداة للحرم فلا يقربها أحد حتى صاحبها
وإن قرصه وعضه الجوع، وفي ذلك قيام للناس.
وتتابع الآية: } ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ { أي أنه مدبر لهم ما يحفظ حياتهم في كل حالٍ من
أغيار الحياة؛ فقد رتب سبحانه لهم حفظ الأرواح، وحفظهم من الجوع، وآمنهم، وحفظ لهم
السيادة، كل ذلك بتدبيره وهو الحكيم. لقد دبر كل شيء أزلاً، وأتت الأمور على وَفْق
ما دبر من خير ومصلحة، فإذا كان كل ذلك قد فعله سبحانه وتعالى فلأنه الأعلم
والأحكم.
وقد حدث كل ذلك بعلمه وحكمته، ونؤمن أن ما لا نعرفه قد فعله وصنعه - أيضاً - بهذه
الحكمة المطلقة وذلك العلم المطلق. } ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
{ لقد رتب حياة الناس في الجزيرة وحول البيت الحرام على الرغم من انهم قبل الرسالة
كانوا يعبدون الأصنام، ولكنه هداهم بالرسالة المحمدية. ولذلك قال: } اعْلَمُواْ
أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { فسبحانه جعل
البيت أمنا وأماناً، وهذا إخبار شرعي لا إخبار كوني.
والفرق بين الإخبار الكوني والإخبار الشرعي أن الإخبار الكوني لا بد أن يحدث لأنه
لا دخل للناس به، أما الإخبار الشرعي فهو أمر يجب أن يقوم الناس بتنفيذه، فإن أطاع
الناس الخبر القادم من الله جعلوا البيت آمنا، وإن أساءوا جعلوه غير آمن.
وفي زماننا القريب عندما اعتدى شاب يدعى جهيمان على الحرم، تساءل الناس: كيف يعتدي
إنسان على الحرم وقد أراده الله حرماً آمناً؟ وقلنا: إن أمر الله بجعل البيت
حراماً آمنا هو أمر شرعي ينفذه المؤمنون إن أطاعوا، وإن لم ينفذوه فهم غير مؤمنين.
والمثال على الأمر الشرعي والكوني قوله الحق:{ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
}[النور: 26].
إنَّنَا نجد في الحياة خبيثاً يتزوج امرأة طيبة، ونجد طيباً يتزوج خبيثة. وهذا
يثبت لنا أن قوله الحق: } وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ { هو أمر شرعي بأن نزوج
الطيب طيبة مثله، وهو واجب التنفيذ إن كنا مؤمنين بالمنهج، أما إن خالفنا المنهج
فإننا نزوج الطيب خبيثة والطيبة خبثاً، وبذلك يختل التكافؤ في الأسرة، وتصير حياة
المجتمع جحيماً، ومن أجل أن نحفظ للمجتمع توازنه علينا أن نزوج الطيب للطيبة وأن
نترك الخبيثة للخبيث، حتى لا تكون حياتنا في فتنة. وينبهنا سبحانه إلى ضرورة
مراعاة أوامره الشرعية فيقول لنا سبحانه: } اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ... {
(/759)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
أي تيقظوا لأحكام الله، وكونوا طوع ما يريد، فمن يخالف الله فعليه أن يعرف أنه
سبحانه وتعالى شديد العقاب. ومن كان يطيع الله فليعلم أنه سبحانه غفور رحيم. وجاء
سبحانه بصفة من صفات الجلال لتتقابل مع صفتين من صفات الجمال، فصفة: { شَدِيدُ
الْعِقَابِ } تتقابل مع صفتي: { غَفُورٌ رَّحِيمٌ }؛ لأن كل الناس ليسوا أخياراً،
وكل الناس ليسوا أشراراً؛ لذلك جاء للأخيار بما يناسبهم من المغفرة والرحمة، وجاء
للأشرار بما يناسبهم من شدة العقاب، وغلبت رحمته ومغفرته غضبه وعقابه، ونلحظ ذلك
من مجيء صفة واحدة من صفات الجلال: { شَدِيدُ الْعِقَابِ } ويقابلها صفتان من صفات
الجمال وهما: { غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
ويقول الحق من بعد ذلك: { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ... }
(/760)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
الرسول هو المبعوث من المرسِل الحق سبحانه إلينا نحن العباد. والحق سبحانه هو
الفاعل الأول، المطلق الذي لا فاعل يزاحمه، والمفعول الأول بالرسالة هو الرسول صلى
الله عليه وسلم، والمفعول الثاني هو نحن. وهناك في النحو المفعول معه، وهناك أيضاً
المفعول له، والمفعول فيه، والمفعول به، وأيضاً يوجد المفعول إليه والمثال على
المفعول إليه قوله تعالى:{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىا أُمَمٍ مِّن
قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ }[النحل: 63].
وفيه أيضا المفعول منه. والمثال على المفعول منه هو قوله الحق:{ وَاخْتَارَ
مُوسَىا قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا }[الأعراف: 155].
و " قومه " هي مفعول منه. لأنه اختار من قومه سبعين رجلا ممن لم يعبدوا
العجل ليعتذروا عمن عبد العجل ويسألوا الله أن يكشف عنهم البلاء.
إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي البلاغ (ما على الرسول إلا البلاغ)، أما
تنفيذ البلاغ فهو دور المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدوْها
فلهم الجنة، وإن لم يؤدُّوها فعليهم العقاب. وأراد الحق أن يكون البلاغ من رسوله
مصحوبا بالأسوة السلوكية منه صلى الله عليه وسلم، فالرسول يبلغ وينفذ أمامنا ما
بلغ به حتى نتبعه، ولذلك قال الحق:{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }[الأحزاب: 21].
وهذا ما ينقض ادعاء الألوهية لبشر. فلو كان هناك إله رسول لقال الناس: كيف نتبع
هذا الرسول وله من الصفات والخصائص ما يختلف عنا نحن البشر؟ إن الرسول لا يستقيم
ولا يصح أن يكون إلها لأنه هو الأسوة والقدوة للمرسل إليهم. إنه يصلي ويصوم ويزكي
ويحج ويفعل غير ذلك من الأفعال، ويأمر من أرسل إليهم أن يتبعوه فيما يفعل، فلو كان
إلها فإن المرسَل إليهم - وهم البشر - لا يقدرون على أن يفعلوا مثل ما يفعل؛ لأنه
إله وطبيعته تختلف عن طبيعتم ولذلك لا يستطيعون التأسي والاقتداء به، فالأسوة لا
تتأتي إلا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم.. أي يكون بشراً بكل أغيار البشر.
والحق سبحانه قال:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ
الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء:
94].
أي أن البشر تساءلوا - جهلاً - عما يمنع الله - سبحانه - أن يرسل لهم رسولاً من
غير جنس البشر، ولماذا أرسل لهم رسولاً من جنسهم البشري؟ وهنا يأتي الأمر من الله
سبحانه:{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95].
وبهذا يبلغ الحق رسله ضرورة إبلاغ الناس أن الرسول لهم لا بد من أن يكون من جنس
البشر؛ لأن الملائكة لا يمشون مطمئنين في الأرض، ولو جاء الرسل من الملائكة لقال
البشر: لن نستطيع اتباع ما جاء به الملائكة لأنهم لا يصلحون أسوة لنا؛ لأنهم من
جنس آخر غير جنس البشر، ثم إن الملائكة من خلق الغيب، فكيف يبعث الله للبشر هذا
الغيب ليكون رسولاً؟ ولو حدث ذلك فلا بد أن يجعله الحق في صورة بشرية.
ففي آية أخرى يقول الحق:{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }[الأنعام: 9].
إنهم طلبوا أن ينزل الله عليهم ملكاً، ولو استجاب الله لهم وأرسل رسوله ملكاً
لتجسد المَلَك في صورة بشرية، وهم من بعد ذلك قد يستمرون على الكفر ويعاندون ولا
يؤمنون، عندئذ يحق عليهم عذاب الله ويهلكهم. إذن فمهمة الرسول هي البلاغ ولنا فيه
الأسوة.
وتتابع الآية: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ { كأنه
سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نأخذ شكل الإيمان دون أن نؤمن حقيقة؛ لأن الأمر الشكلي
قد يجوز على أجناس البشر أن ينخدعوا فيه، ولكن الله ينظر إلينا بقيوميته، فسبحانه
لا تأخذه سنة ولا نوم. وفي هذا القول تحدّ للمنافقين من أنه سبحانه سيحاسبهم، فإن
كتم الإنسان الكفر في قلبه وأظهر الإيمان الشكلي، فسوف ينال عقاب الله، وعلى
الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة المؤمنين أن يحكموا على ظاهر الأمر وأن
يتركوا السرائر لله.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن أن يحكم بكفر إنسان أعلن الإيمان ولو
نفاقاً. وقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم أنه بشر، وعرف أن البشرية محدودة القدرة.
ولذلك قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته
من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار
ليأخذها أو ليتركها ".
هكذا يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نظن فيه قدرة فوق قدرة البشر "
وعندما قتل صحابي رجلاً أعلن الإيمان قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
هلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه " إذن فنحن لنا الظاهر، أما السرائر
فأمرها موكول إلى الله. ولذلك يقول الله: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا تَكْتُمُونَ {. ونعلم أن ظاهرة النفاق تعطي للمنافق حقوق المسلم الظاهرة
الموقوتة بحياته وزمنه، ولكن الباقي في الحياة الأخرى طويل ينال فيه جزاء ما أبطن
من كفر. والكتمان غير الإخفاء. فكتم الشيء يعني أن الشيء ظاهر الوضوح ولكن صاحبه
يكتمه، أما الإخفاء فهو ما يدور بالخواطر، ويمكن أن يخفيه الإنسان، ولكنه مع مرور
الوقت لا يستطيع ذلك، فالشاعر العربي يقول:ومهْما تكُنْ عندَ امرىء من خليقةٍ وإن
خالها، تخْفى على الناس تُعْلَمويقال: يكاد المريب أن يقول خذوني.
ومادام الحق يعلم كُلّ ما يبدي البشر وكل ما يكتمون، وهو شديد العقاب، وغفور
ورحيم، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، ويجازي على السيئة بمثلها، فماذا علينا أن
نفعل؟ يأتينا القول الفصل في أمر الله لرسوله أن يخبرنا: } قُل لاَّ يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ... {
(/761)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
إذن فالخبيث لا يستوي أبداً مع الطيب، بدليل أن الإنسان منا إذا ما ذهب لشراء سلعة
فهو يفرز البضاعة ليختار الطيب ويبتعد عن الخبيث. وهذه قضية كونية مثلها تماماً
مثل عدم تساوي الأعمى والبصير، وعدم استواء الظلمات والنور. ويأتي الحق إلى
المحسات ليأخذ منها ما يوضح لنا الأمر المعنوي. ولذلك يحذرنا أن نغتر بكميات
الأشياء ومقدارها، فإن الطيب القليل هو أربى وأعظم وأفضل من الكثير الخبيث. والأمر
الطيب قد يرى الإنسان خيره في الدنيا، ومن المؤكد أن خيره في الآخرة أكثر بكثير
مما يتصور أحد؛ لأن عمر الآخرة لا نهاية له، أما عمر الدنيا فهو محدود.
وكثير من الناس عندما يحضرون قسمة ما، فكل واحد يرغب في أن يأخذ لنفسه النصيب
الأكبر؛ لأن الإنسان تغريه الكثرة. وهذا الطمع يشيع الخبث في جميع ما يأخذه
الطامع، فالذي يطمع في حفنة من قمح - على سبيل المثال - تزيد على حقه، فهو يفسد
حياته بهذا الشيء الخبيث. وذلك كخلط الماء الطاهر بماء نجس فتغلب النجاسة على
الماء. إذن فلا يصح أن نحكم على الأشياء بكميتها وقَدْرِها، ولكن يجب أن نحكم على
الأشياء بكيفيتها وصفتها وبعمرها في الخير.
والمثال الذي لا أمل من تكراره هو التلميذ الذي يكد لمدة عشرين عاماً فهو يتخرج
إنساناً له مكانة لائقة، أما التلميذ الذي يقضي عشرين عاماً في اللعب واللهو فهو
يتلقى وينال مستقبلا فاشلا مؤلما. إذن، على كل منا أن يقدر النفعية بديمومتها، ولا
يغتر بكثرة الخبيث.
والمثال يتكرر في حياتنا ولا بد أن نضعه أمام أعيننا لنرعى الله ولا ننساق كما
ينساق كثير من الناس إلى هلاكهم، فبعض الناس لا يرتضون قسمة الله في مواريثهم،
فيعطي بعضُهم للذكور ولا يعطي للإناث. أو يقلل من نصيب الإناث. ونقول لمن يفعل
ذلك: أنت لا تعلم ماذا تفعل. ولو أن ابنك الذكر يعلم أن يد الله في الأشياء لقال
لك: ارحمني ولا تزدني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال:{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً }[النساء: 11].
ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى أن قسمة الله هي أعدل قسمة، وإياك أن تظلم ابناً لك
أو قريباً بزيادة فوق ما قدره الله له؛ لأن هذا عين الظلم. فإن فاتت على المورِّث
وهو حي نقول لمن أخذ: احذر ولا تقبل ما هو فوق شرع الله وأَعِدْ ما هو فوق حقك.
افعل ذلك برجولة الإيمان. وإياك أن تظن أن الذي سيديم الستر لأولادك هو هذه
الزيادة التي ليس لك حق فيها؛ لأنك بهذه الزيادة ستقطع الأرحام وتغرس بذور
الكراهية والبغض.
ولو نظرت إلى هذه المسألة وأقمتها على ما شرعه الله فستجد أن الرزق سيفيض عليك من
كل جانب ما دمت قد راعيت حق الله في إرادته التي حكم بها لينشأ الاستطراق الأسري
وتظهر العدالة الربانية؛ لذلك يجب ألا يجتريء أحد على قسمة الله؛ لذلك أقول لكل من
يقرأ هذه الكلمات ويفكر في الاجتراء على قسمة الله.
تُب إلى الله ولا يصح أن تشوه استقامتك الإيمانية. وإياك أن يظن إنسان أنه كأب
يمكنه أن يحتاط لأبنائه. فكثيراً ما رأينا أناساً تركهم أهلهم أغنياء وصاروا في
عوز وفاقة وفقر، ورأينا أناساً أهلهم فقراء، وأفاض الله عليهم من رزقه، فسبحانه
القائل:{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً
سَدِيداً }[النساء: 9].
إذن فعلى المؤمن أن يحذر الكثرة إن كان بها شيء خبيث. ولنا العبرة في الحكاية التي
حدثت مع أبي جعفر المنصور حينما بويع للخلافة، وذهب الناس يهنئونه بإمارة
المؤمنين، ودخل عليه سيدنا مقاتل بن سليمان وكان أحد الواعظين.
هنا قال أبو جعفر لنفسه: جاء ليعكر علينا صفو يومنا، سأبدأه قبل أن يبدأني وقال
له: عظنا يا مقاتل. قال مقاتل: أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟
ذلك أن السمع أكثر من الرؤية، فالرؤية محدودة ومقصورة على ما تدركه العين، لكن
السمع متعدد؛ لأن الإنسان قد يسمع أيضاً تجارب غيره من البشر.
قال أبو جعفر: تكلم بما رأيت. قال: يا أمير المؤمنين، مات عمر بن عبدالعزيز وقد
ترك أحد عشر ولداً. وخلف ثمانية عشر ديناراً كُفن منها بخمسة، واشتروا له قبراً
بأربعة، ثم وزع الباقي على ورثته. ومات هشام بن عبدالملك، فكان نصيب إحدى زوجاته
الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور. كان نصيب الزوجات الأربع هو
ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثُمن التركة فقط. والله يا أمير المؤمنين لقد
رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولداً من أولاد عمر بن عبدالعزيز يحمل على مائة فرس
في سبيل الله، وولدا من أولاد هشام بن عبدالملك يسأل الناس في الطريق.
إذن فعلى كل منا أن يعرف أنه لم يدخل الدنيا بثروة، وعليه أن يتأدب مع الله ويرعى
حق الله، ولا يتدخل في قسمة الله.
} قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {
[المائدة: 100].
على المسلم - إذن - أن يستحضر كل ملكاته العقلية حتى يميز الخبيث من الطيب ويرفض
الشيء الخبيث؛ لأننا لو تدبرنا الحكم بعقولنا لوصلنا إلى أن حكم الله هو الحكم
الحق العادل.
} لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { والفلاح - كما نعلم - مأخوذ من أمر محس وهو فلح
الأرض، فالإنسان يأخذ حبة قمح ويزرعها فتعطيه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
والحق سبحانه يسمي لنا كل عمل الآخرة بالفلاح؛ لأن الكلمة لها وقعها الجميل، فإذا
كانت الأرض، وهي مخلوقة من مخلوقات الله بما تحتويه من كل العناصر اللازمة للزرع
واللازمة لكل حياة، هذه الأرض تعطينا لقاء حبة قمح سبع سنابل، في كل سنبلة مائة
حبة، فكم يعطيك خالق الأرض؟ فاتق الله أيها المسلم ولا تتدخل في قسمة الله، وضع
أمامك هذا التوجيه الحكيم الذي ورد في الأثر: شرّكم من ترك عياله بخير وأقبل على
الله بشرِّ.
وعلى الأبناء الذي ابتلوا بهذا أن يراجعوا الأمر بنخوة إيمانية؛ لأن الأب حينما
أحب ابناً له وزاد له في الميراث كان أحمق الحب، وعلى الابن أن يحترم عاطفة الحب،
وأن يجازي الأب عنها ويرحمه، فيعيد الأمر إلى نصابه ويعطي كل ذي حق حقه حتى لا
يتعرض أبوه لعذاب النار الذي سيناله نتيجة تدخله لصالحه في قسمة الله.
ويقول الحق بعد ذلك: } ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {
(/762)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
وهذا نهي عن السؤال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذروني ما تركتم فإنما
هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه
ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ".
ونعرف أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم عندما أخذوا يماطلون في أمر ذبح البقرة،
وتساءلوا عن لونها، وشددوا فشدد الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة لكانت مقبولة
منهم، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم حتى جاءت البقرة الموصوفة ملكاً ليتيم، كان هذا
اليتيم ابناً لرجل صالح وكانت له عِجْلة فأتى بها موضعا كثير الشجر والمرعى وقال:
اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وعندما ساوموا اليتيم على ثمنها باعها لهم
بملء جلدها ذهباً.
" وقد شدد بعض الناس في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبدالله بن
حذافة بن قيس السهمي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي؟
فأجاب رسول الله: أبوك حذافة. ولو فرضنا أن هذا السائل كان ينسب لغير أبيه ألا
يكون في ذلك فضيحة لأمه وقد قالت له أمه: ما رأيت أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون
أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس ".
لقد أراد الحق أن يخفف من أسئلة الناس في الأمور التي تؤدي بهم إلى المشقة والتعب
وتسيء إليهم وتقبل الحق من رسوله أسئلة المؤمنين عن القواعد الشريعة مثل سؤالهم عن
الخمر والأهلة والحيض والشهر الحرام وغيرها. أما الأسئلة الأخرى فقد قال الحق في
شأنها: { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }.
ذلك أن البعض استمرأ السؤال وكأنه يمتحن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك جاء
الأمر بألا يتعمد المؤمنون السؤال عما ستره الله عنهم كي لا ينفضح عرضهم. { وَإِن
تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } فإن نزل القرآن
وهو يحمل الإجابة كان بها. وإن لم تأت الإجابة فلا يقولن أحد: إن النبي ليس عنده
جواب. أو هي سؤال عن الأشياء التي اقترحوها ادعاء منهم أنها تثبت صدق النبوة فقد
حكى الله عنهم:{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً *
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن
نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 90-93].
لقد ظهر من هذا القول سوء النية المبيتة منهم، فالرسول لن يأتي بالآيات، بل تأتيه
الآيات بالأمر المكلف به؛ لأن الرسول لا يختار ما يُؤْتى به من آيات، ولكن الحق هو
الذي يرسل الآيات المناسبة.
ولذلك يقول الحق: { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ... }
(/763)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
والحق لم يرسل هذه الآيات رحمة بمن سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنها فقد سأل
قوم عن ناقة وعقروها فأبادهم الله. وقوم عيسى عليه السلام سألوا عن مائدة ونزلت
عليهم وتوعدهم الحق بعدها إن لم يؤمنوا. وكانت سنة الله مع خلقه إن اقترحوا هم آية
ولم يصدقوها فإن الحق يهلكهم أو يعذبهم. ويعطي سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ضماناً.{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }[الأنفال: 33].
إذن فالأسئلة التي سألوا عنها لم يجبهم عنها لأنه سبحانه قد عفا عنها. والعفو -
كما نعلم - مأخوذ من عفّى الأثر أي أذهب الأثر, وعفو الله من مغفرته ورحمته.
ويقول الحق بعد ذلك: { مَا جَعَلَ اللَّهُ... }
(/764)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
وهذه الآية جاءت في السورة التي أحل الله فيها بهيمة الأنعام، وحرّم منها ما حرّم.
فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يستبقي حياته من قوت، وما يستبقي نوعه
بالتزاوج. وإذا كان الحق هو الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض فقد أعدّ له كل هذه
المقومات للحياة من قبل آدم عليه السلام، أعدّ سبحانه لخلقه الأرض والسماء والماء
والهواء، ومما ذخر وخَبّأ وأوجد في الأرض من أقوات لا تنتهي إلى يوم القيامة.
ولنا أن نلتفت إلى فارق مهم بين " الخلق " ، وبين " الجَعْل
". فالخلق شيء، والجعل شيء آخر. والخلق هو إيجاد من عدم. والجَعْل هو توجيه
مخلوق لله إلى مهمته في الحياة. فخلق الله لا يخلقون شيئاً، إنما الخلق والإيجاد
له سبحانه. وعلينا - نحن الخلق - أن نخصص كل شيء لمهمته في حياته التي أرادها
الله، أي أن نترك " الجعل " لله و لا نتدخل فيه، بمعنى أن الخالق سبحانه
وتعالى خلق الخنزير - على سبيل المثال - ليأكل من القاذورات وليحمي الإنسان من
أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان - إذن - أن يخصص الخنزير لهذه المهمة فلا يحوّله
إلى غير مهمته كأن يأكله مثلا؛ لأن تحويل مهمة مخلوق لله إلى غير مهمته هو أمر يضر
بالإنسان الذي أراده الله سيداً مستخلفاً في الكون.
وأبلغ سبحانه الناس أنه قد أحل أشياء وحرّم أشياء، وعلى الإنسان أن يرضخ لما حلله
الله فيقبل عليه، وأن يرضخ بالابتعاد عما حرّم الله. والخالق سبحانه وتعالى هو
الذي " خلق " وهو الذي " جعل " وهو القائل:{ جَعَلَ اللَّهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ }[المائدة: 97].
وهو القائل:{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ }[الأنعام: 1].
والحق سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نجعل له أنداداً:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً
لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }[البقرة:
21-22].
فسبحانه وتعالى موجود وواحد أحد، فلا يصح أن تجعلوا له أنداداً؛ لأن ذلك عبث.
ويثبت لنا سبحانه أن قضية الفساد في الأرض تنشأ من تعدي الناس إلى الجعل المخلوق
لله فيحولونه إلى غير ما خلقه الله له.
والخَلْقُ في حياتهم اليومية يحرصون على أن يستخدموا الأشياء فيما هي مخصصة له.
ومثال ذلك: أنت تستقبل من صانع الجبن قالباً من جبن. وتستقبل من صانع الصابون
قالباً من الصابون، ثم تجيء بالجبن والصابون إلى المنزل، فتخبر أهل البيت بأن
الجبن للأكل والصابون للغسيل، ويطيع الجميع هذه التوجيهات.
لكن إن استخدم أحد الصابون للأكل والجبن للغسيل يحدث إفساد في صحة أفراد الأسرة.
وكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى لنا أبناء من أصلابنا، فكيف نأخذ أبناء من غير
أصلابنا لنجعلهم أبناء لنا؟ إن هذا خطأ في الجَعْل.
ولذلك قال الحق:{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }[الأحزاب: 4].
إن الدعيّ هو في حقيقة أمره من غير صلبك، وزوجتك ليست أمّاً له، فكيف تجعله ابناً
لك، وتمكنه من أن يجلس في حجر امرأة غير أمه ويشب على ذلك وينظر إلى غير محارمه
على أن ذلك حلال ومباح له، إنه بذلك يفقد التمييز بين الحلال والحرام؛ لذلك
فالتبني إفساد في الجعل.
إن كل فساد ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقاً لله في مهمة غير تلك التي جعلها الله
له. والحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيته، وما يحفظ
نوعه، فعلينا أن نتبع ما يأمر به الحق من اتباع ما هو حلال، والابتعاد عما هو
حرام. وإن قال قائل: ولماذا حرّم الله بعض الأشياء التي خلقها؟ ونقول: إن الذي
خلقها جعلها لمهمة غير التي يريد الإنسان أن يوجهها له، ومثال ذلك تحريم أكل لحم
الخنزير.
والإنسان منا إذا ما رأى صورة من معيشة الحيوانات في الغابة. يتعجب، ففضلات حيوان
هي غذاء لحيوان آخر. وسم الثعبان هو حماية وعلاج. ونعرف أن الإنسان يستخلص سم
الثعبان ليستخرج منه علاجاً لبعض الأمراض ولقتل بعض الجراثيم.
ولذلك يقول الحق سبحانه:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن
رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ
أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ }[يونس: 59].
كيف إذن نجعل من أنفسنا مشرعين نحلل الحرام ونحرم الحلال؟ إن الله الذي خلق كل شيء
لم يمنحنا الإذن بذلك. وعلينا أن نسلم بأن كل شيء مخلوق لمهمة فلا يصح أن نوجه
شيئا إلى غير مهمته. وتوجيه أشياء إلى غير ما جعلت له أنتج آثاراً ضارة، ومثال ذلك
استخدامنا لمبيدات الحشرات في الحقول، تلك المبيدات أبادت الضار في نظرنا، وأبادت
النافع أيضاً. وعلى الإنسان - إذن - أن ينتبه جيداً فلا يساوي بين الحرام والحلال،
وأن ينتبه تماماً فلا يتعدى الجعل المخلوق لله. يقول سبحانه: } مَا جَعَلَ اللَّهُ
مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىا اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ {
[المائدة: 103].
والبحيرة هي الناقة التي تُشق أذنها كعلامة على أنها محرّمة فلا يتعرض لها أحد،
ولا تُرد عن مرعى، ولا تُرد عن ماء، ولا يُشرب لبنها، ولا يُركب ظهرها، ولا يُجز
صوفها؛ لأنهم قالوا: نُتجت خمسة أبطن آخرها ذكر. و " السائبة " وهي
الناقة التي يقدمها الرجل إن برئ من مرضه أو قدم من سفره كنذر سائب.
فلا يربطها، وتأكل كما تريد، وتشرب ما تريد، وتنام في أي مكان، ولا أحد يتعرض لها
أبداً، وقد سميت " سائبة " بمعنى مأخوذ من الماء السائب. ونعرف أن صفة
الماء وطبيعته الأساسية هي الاستطراق، فإن سقط الماء على قمم الجبال فهو يملأ
الوديان أولاً، ثم يصعد إلى الأعالي، هكذا يكون استطراق الماء ما لم يتحكم فيه
الإنسان بإقامة السدود والمضخات وشبكات توزيع المياه.
والوصيلة هي الناقة التي تصل أخاها، فالناقة عندما تحمل وتضع المولود، هنا ينظر
أصحاب الناقة إلى جنس المولود، فإن كان ذكراً أكلوه، أما إن كان المولود أنثى فهي
لهم يستبقونها لأنها وعاء إنجاب لنتاج جديد ويكفي فحل واحد لإخصاب عشرات الإناث.
فإن نتجت الناقة في بطن واحد ذكراً وأنثى فإنهم لا يذبحونهما ويقال: " وصلت
الأنثى أخاها " فحرمته علينا.
وفي ريفنا المصري نجد الأطفال يتمنون أن يأتي وليد الجاموسة أو البقرة ذكراً حتى
يأكلوا من لحمه وحتى يشربوا من لبن الجاموسة أو البقرة كما يهوون. ذلك أن الطفل
ينظر إلى مصلحته المباشرة، أما الكبار فهم يتمنون دائماً أن يكون وليد البهيمة
أنثى، لأن الأنثى وعاء لنتاج جديد.
والـ " حام " هو الفحل الذي يُحمى ظهره من أن يُركب، ويتركونه لينطلق
كما يريد. وهو الذي لقح عشرة أجيال من الإناث، أو هو الذي نتجت من صلبه عشرة أبطن.
وكان من الضوابط لهذه العملية أن يعرفوا أن حفيد هذا الفحل - ابن ابنه - يمكنه أن
يلقح.
وكل هذه المسائل: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، هي من اختراعات أهل الكفر
الذي يفترون على الله، فالحق سبحانه وتعالى خلق هذه الأنعام ليستمتع الإنسان
بأكلها وشرب لبنها وتسخيرها إلى ما يفيده.
ومعنى " يفتري الكذب " أي أنه يختلق كذباً ويدعيه ليطرأ به على صدق
ليخفيه فالكذب ستر لحقيقة كانت قائمة. والحقيقة القائمة منذ أن خلق الله الخلق أن
هذه الأنعام جميعها مسخرة لخدمة الإنسان، وأبلغ سبحانه آدم بمنهجه، وكان من
المفروض أن يبلغ كل جيل الجيل الذي يليه، لكن طول الزمن والغفلة هما السببان وراء
نسيان الناس لبعض الأحكام؛ لذلك بعث الله الرسل ليذكروا الناس بالمنهج، وليزيلوا
الكفر عن وعي الناس، فالكافرون أناس ستروا منهج الله، وستروا البلاغ عن الله، وهم
بذلك يفترون الكذب على الله.
ومثال ذلك قصة دخول الأصنام إلى الكعبة، فقد سافر رجل اسمه عمرو بن لُحي إلى بلاد
الشام، فوجد أوثاناً وأصناماً فنقل منها صنما يقال له " هبل " إلى مكة،
وكان هو أول من أدخل الأصنام إلى مكة، وكما فعل عمرو بن لُحَيّ فعل غيره بوضع
قوانين وقواعد لم يأت بها الله، كالوصيلة والبحيرة والسائبة والحام. وكان ذلك
افتراءً على منهج الله وتغييراً لمنهج الحق، وعلى فرض أنه لا منهج قد وصلهم من
الله، ألم يكن من ضرورة التعقل أن ينظروا في أمر هذه البدع والضلالات؟
إن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع العقل من أن يصل إلى حقيقة كونية سليمة.
ولكن قد يجهد العقل ويتعب بالتجربة الطويلة حتى يصل إلى حقيقة ما. لذلك أراد
سبحانه حماية الناس من شقاء التجارب القاسية فأنزل منهجه ليحدد الحرام من الحلال.
قال سبحانه:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[التوبة: 33].
ويقول في موضع آخر من القرآن الكريم:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىا
بِاللَّهِ شَهِيداً }[الفتح: 28].
ولقائل أن يقول: لماذا إذن وُجد في العالم أديان أخرى. كاليهودية والنصرانية،
ولماذا إذن هناك ملاحدة ما دام الله قد قرر ألا يوجد مع الإسلام دين آخر؟
ونقول: أنت لم تفهم مراد الآيتين الكريمتين، إن الحق سبحانه يقرر مرة أن الذي الذي
سيظهر ولو كره المشركون، ومعنى ذلك أن هناك كافرين ومشركين، وأهل ديانات أخرى
وسيظهر الإسلام عليهم، ويجعله الله هو السائد بالحجة والبرهان وبشهادة الكافرين
والملحدين والوثنيين أنفسهم؛ لأن أمور الحياة ستتبعهم في كل قضايا حياتهم، ولا
يجدون حلولاً لهذه المتاعب إلا بأن يذهبوا إلى قضية الإسلام، لا لأنه إسلام، ولكن
لأن أسلوب وقواعد الإسلام هي التي ستخلصهم من مشكلاتهم، ولجوؤهم إلى أقضية تتفق مع
الإسلام - مع كفرهم بالإسلام - هو شهادة قوية على أن الإسلام جاء دين الفطرة، ودين
العقل، وأن الكل سيحتاج إليه قهراً عنه. ومن لم يأخذ ديناً فيسضطر إلى أن يأخذه
نظاماً.
وإذا كان الحق سبحانه قد ذيل الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها
بقوله عز وجل: } وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ { فلأنه سبحانه ينبهنا إلى أنهم
لو تعقلوا الأمر لما جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من المحرمات عليهم.
ولنا أن نتساءل: أجعلتم هذه الأشياء حراماً تكريماً لها أم زهداً فيها؟. فإن كان
هو الزهد، فمعنى ذلك أنهم أخرجوها عما خلق الله؛ لأن الله خلقها لنأكل لحمها
وننتفع بها. وإن كان هو التكريم، فهل من التكريم أن يترك الإنسان الحيوان الذي
خدمه دون حماية من ذئب، ودون طعام يعده له ويتركه يلغ في أرض الغير؟. إن هذا أسلوب
يدل على عدم الوفاء للحيوان الذي خدم الإنسان، ومثل هذا السلوك لا يستبقي حياة هذا
الحيوان، بل يعرضها للخطر، لهذا يأبى العقل السويِّ هذا الزهد وذلك التكريم. فإن
كان عمرو بن لُحَيِّ أو غيره قد جاءوا بأشياء وتقاليد لم يجعلها الله، فعلينا أن
نشكر الحق سبحانه لأنه جاء بالإسلام ليعدل من هذه المسائل.
والمدقق للنظر في آيات القرآن يجدها تمثل برنامجاً مطمْئِناً لحياة الإنسان على
الأرض، وكأنها حاسب آلي يضبط إيقاع حركة الإنسان في الأرض بدقة تتفوق بكل المقاييس
على دقة أي حاسب آلي من صنع البشر، ذلك المسمى " كمبيوتر ". إن هناك
" كمبيوتر " إلهياً يهدي الإنسان من أن يضل أو يُضل. فالسماء تعدل
للإنسان سلوكه إن ذهب بعيداً عن الصراط المستقيم. ولا يقولن إنسان: إنما أنا أتبع
ما كان عليه آبائي. لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: } وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ...
{
(/765)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
بل على الإنسان أن يلتفت إلى أن أول تغيير لمنهج الله كان من أحد الآباء الذين
أصابتهم الغفلة. وقول الإنسان: إنما أتبع ما كان عليه آبائي، هو قضية منقوضة؛ لأن
الذي غيّر أول تغيير لم يقل: { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } لأنه
لم يقلد أباً له، وأيضاً فمن المحتمل أن الآباء لم يعقلوا ما غيروه من منهج الله
ولم يهتدوا إلى الحق.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول تبارك وتعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ
آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
}[البقرة: 170].
إن الآية التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْاْ } لم يقل الله فيها اتبعوا ولكن قال: (تعالوا) أي ارتفعوا كأنهم
انحطوا وتسفَّلوا بقولهم: { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } إنهم
بذلك يرفضون وينكرون كل ما يأتي إليهم من غير طريق تقليد الآباء، فقد قفلوا الطريق
وسدوه على أنفسهم.
أما آية سورة البقرة: { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ }
فيحتمل أن يقولوا: ونتبع كذلك ما جاء به الدين، فالنكير أشد على من قال: {
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ }.
وعلى هذا فالاستدراك من الله في كل آية من الآيتين جاء مناسبا لحالهم. كيف ذلك؟
لأن الذي لا يعقل يمكن أن يعلم عن طريق شخص آخر استخرج واستنبط واكتشف، فإنه إن
فاته التعقل لم يفته أن يأخذ العلم من غيره، أما الذي لا يعلم فقد باء ورجع
بالجهل؛ لأنه لم يصل إلى العلم بنفسه، وكذلك لم يتعلم من غيره.
وجاء - سبحانه وتعالى - بهمزة الإنكار لمسألة اتباع الآباء دون منهج الله. ونلحظ
أن الحق جاء بعملية الهداية كأمر مشترك في الآيتين، ذلك أن الهداية من السماء، أما
التعقل والعلم فهما عمليتان إنسانيتان.
ويقول الحق من بعد ذلك: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... }
(/766)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
والحق سبحانه قد قال من قبل:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ
أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَآ }[المائدة: 104].
والقولان يدلان على أن هناك فريقين: فريقا يسير على الضلال، وفريقا يسير على
الهداية. وهناك معركة بين الفريقين. فهل تدوم هذه المعركة طويلاً؟ نعم ستظل هذه
المعركة طويلاً؛ لأن أهل الضلال لا يحبون أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وكذلك
فهم يستفيدون من فساد الكون.
والمؤمن يحب الطاعة ويحاول أن يجعل أخاه المؤمن مُحباً للطاعة، فإن رآه على مُنكر
فإنه ينهاه عنه ويدفعه إلى المعروف، فالخير حين يكون من الإنسان ينفع سواه، وقد
يتأجل نفعه هو لنفسه إلى الآخرة. وخير المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. وصدق
المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. ونزاهة المؤمن يستفيد منها المجتمع، وتضر
أهل الضلال. أما إن كان المجتمع فاسداً فالمؤمن يشقى بفساد هذا المجتمع.
إذن فمن مصلحة المؤمن أن يعدي الخير منه إلى سواه، حتى ينتشر الخير ويعود الخير
إلى المؤمن من حركة الخير في المجتمع. ولذلك قال الحق سبحانه: { عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ } أي ألزموا أنفسكم، وكأن نفوس المؤمنين وحدة واحدة. وهو تعبير عن
ضرورة شيوع الرتابة الإيمانية المتبادلة. ومثل هذا الأمر جاء في التعامل مع أموال
السفهاء؛ لقد قال الحق:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ }[النساء:
5].
لأن السفيه لا حق له في إدارة ماله حتى يرشد؛ لأن المال في الواقع هو مال كل
المسلمين، وعليهم إدارته لينتفع به كل المسلمين. وتكون إدارة الأمر أولاً بالنصح،
فإن لم يرتدع السفيه فليرفع عليه أقرب الناس إليه قضية حجر، ذلك لأن أي شر ينتج من
سلوك السفيه بماله إنما يعود على المجتمع، وعلى هذا فالمال يظل مال الناس يقومون
على إدارته إلى أن يعود السفيه إلى رشده فيعود له حق التصرف في ماله.{ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }[النساء: 6].
لم يقل الحق إذن: { فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ذلك أن الرشيد أصبح
مأموناً على ماله؛ لذلك يعود المال إلى السفيه من فور عودته إلى الرشد. وكذلك قول
الحق: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي أنكم يا جماعة المؤمنين كل منكم مسئول عن
نفسه وعن بقية النفوس المؤمنة، ومن الهداية أن نقوّم الذي على فساد. ولا يقولنّ
مؤمن: " وأنا مالي ". وتتابع الآية { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ } فما دمتم قد حاولتم تقويم الفساد فأنتم قد أديتم ما عليكم في ضوء
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
ولكن كيف يكون التغيير بالقلب؟ أي أن يكون تصرف الإنسان المؤمن هو المقاطعة لمن
يخرج على منهج الله، فإن قاطع كلُّ المؤمنين أيَّ خارج على منهج الله فلا بد أن
يرتدع، وعلى المؤمن ألا يقابل منحرفاً أو منحرفة بترحيب أو تعظيم، فالتغيير بالقلب
أن يكون التصرف السلوكي الظاهري مطابقاً لما في القلب، فيحس فاعل المنكر أنه
مستهجن من غيره.
وقد يستسهل الناس أمور الشر أولاً إذا ما صادفهم من ينافقهم بمجاملات في غير
محلها، لكن لو استشعر فاعل المنكر أنه مقاطع من جماعة المسلمين وإن لم تضربه على
يده، فلا بد أن يرتدع، والحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }[الأنعام: 68].
أي أنك ساعة تعرض عن الذين يخالفون منهج الله، وساعة يعرض غيرك عنه، فإن ذلك
يؤذيه، ولا يجعل الناس يستشرون في الشر ويتفاقم ويعظم ضررهم إلا احترام المجتمع
لهم. والمثال في القرى نجد أن الذي يمتلك بندقية ينال احتراماً ومجاملات تجعله
يتجبر بسلاحه، ولو أن الناس أعرضت عنه لضاعت هيبته ولعاد مرة أخرى يسلك السلوك
الملتزم. وما المقياس في أمر التغيير بالقلب ومعاملة فاعل المنكر بعدم مودة ومحبة؟
نقول: علينا أن نستمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل مرة عن هذه الآية:
} عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ { ، فقال: " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن
المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متّبعاً ودنيا مُؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك - بخاصة نفسك - ودع عنك العوامّ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن
مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم ".
وأنت حين لا تولي منحرفاً عن منهج الله مودة، ورحمة، ومعروفاً تكون قد ألزمت نفسك
الإيجابية.
وإذا سأل المؤمن: وكيف يقاوم الإنسان؟. أجاب العلماء: من فرّ من اثنين، فقد فرّ،
ومن فر من ثلاثة لم يفرّ. أي أن الإنسان في القتال إن واجهه شخصان ففِراره هَرب من
المواجهة. وأما إن فرّ الإنسان وهو يواجه ثلاثة من الأعداء، فهذه حماية للنفس
وليست فِراراً. واستنبط العلماء هذا الحكم من وعد الله بنصر المؤمنين إن كان
أعداؤهم مثليهم أي كعددهم مرتين وذلك من قول الحق تعالى:{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }[الأنفال: 66].
هي إذن نسبة الرجل إلى الرجلين، فإن فرّ مؤمن من أمام اثنين في أثناء القتال فقد
خرج عن موعود الله بالنصر له ويسمى فاراً ويبوء ويرجع بغضب الله ويكون مآله جهنم؛
لأن الله قد قال: } فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ
مِئَتَيْنِ { فقد وعد الله المقاتل المؤمن الصابر بالنصر إذا كان يقابل اثنين من
الكفار.
لكن إذا هرب من مواجهة ثلاثة فقد فعل ما يحمي حياته؛ لأن الدين لا يدعو إلى
الانتحار؛ لذلك نقول لمن يبغون تغيير المنكرات في الدنيا: لا ترموا بأنفسكم إلى
التهلكة ولا تقاتلوا عدوّاً يغلبكم بكثرته. واتبعوا قول النبي الصادق الأمين على
استمرار أمته ما دامت تتمسك بمنهج الله.
وتغيير المنكر بالقلب يتمثل - كما قلنا - في مقاطعة المنحرف مصداقاً لقوله تعالى:
} ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ { ونلاحظ أن " على " حرف جر، والكاف للخطاب،
والميم للجمع، و " أنفسكم " منصوبة. فعليكم هي " اسم فعل " أي
هي ليست اسماً على حقيقته وليس حرفاً على حقيقته، بل هي حرف دخل على ضمير فأدى
مؤدى اسم الفعل، أو هو اسم فعل منقول من الجار والمجرور.
} عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ { أي
ألزموها، وحافظوا عليها، ومن الهداية أن نعرف كيف نواجه القضايا بالعقيدة
الإيمانية، فينظر المؤمن إلى الكمية العددية للمهتدين، والكمية العددية للضالين.
فإن كانت الكمية العددية مساوية فلتقبل على المواجهة. وإن كانت الكمية الضالة ضعف
الكمية المؤمنة فلتُقْبِل الكمية المؤمنة على المواجهة أيضاً. وإن كانت الكمية
الضالة أكثر من الضعف فالمؤمن معذور إن حمى نفسه بعدم المواجهة، ولكن عليه أن
يقاطع كل منكر أو فاعلَ المنكر.
كلنا نعرف تماماً أن كل فرد يحب أن تكون له مكانة في المجتمع. فإن رأى الإنسان أن
الصيت والمكانة والذكر الحسن للصادق المستقيم فالإنسان يتجه إلى أن يكون صادقاً
مستقيماً. وأن رأى الفرد أن المكانة في المجتمع تكون للكاذب المنحرف فهو يتجه إلى
أن يكون كاذباً منحرفاً؛ لذلك فعلى المؤمنين ألا يكرّموا إلا من يسير على المنهج
الصالح. فقد روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: } ياأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
{ وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" إنّ الناس إذا رأوْا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله - عز وجل - أن يعمهم
بعقابه "
} لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعاً { ويطمْئِن الحق المؤمنين إلى أنهم إن قابلوا الضرر في حياتهم فليعلموا
أن هذه الحياة ليست هي كل شيء، بل هناك حياة أخرى نرجع فيها إلى الله، فمن كان في
جانب الله أعطاه الله خلوداً أبدياً في النعيم، ومن كان ضد منهج الله أعطاه الله
عذاب الجحيم. وقال الحق ذلك لأن المؤمن لا يضمن نفسه في كثير من المواقف، فقد يدخل
معركة وفي نيته الإخلاص لكنه قد ينحرف، فيصيبه الضرر على قدر ما انحرف.
وعلى الذي يسيرون في ضوء منهج الله دائماً أن يحتفظوا بتلك القضية في بؤرة شعورهم.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة حينما كان في غزوة أحد، وأمر
الرماة ألا يبرحوا أماكنهم وإن رأوا المؤمنين في انتصار ورأوا الأعداء في هزيمة.
واتجه الرماة إلى الغنائم من فور أن رأوا انتصار المؤمنين، فلم ينصرهم الله وهم
على مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبذلك تعلم المؤمنون الدرس: أن يطيعوا
الله والرسول في كل خطوة.
ولو أن الله سبحانه لم يقل: } إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {. فماذا يكون موقف الذين لم يشهدوا
نصراً لجند الله، وهم قد دخلوا المعارك الأولى واستشهدوا؟. لقد علموا من البداية
أن المرجع إلى الله وأنه سيعطيهم حياة أخرى. وسينبئهم الله بما فعلوا. والإنباء
هنا بمعنى الجزاء والتكريم.
وكما ساس الحق حياة المؤمن وهو يتحرك في الحياة الدنيا، فإنه سبحانه يسوس حياة
المؤمنين بما يضمن له الحياة الآخرة في نعيم الخلد والجنة، لذلك يقول الحق سبحانه:
} يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {
(/767)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)
الحق - سبحانه - كما ساس ودبر حياة المؤمن الدنيوية، دبر وتولى - جل شأنه - حياته
الأخروية ليلفته إلى أنه يجب عليه ألا ينظر إلى حياته العاجلة فقط ولكن عليه أن
يدبر أمر نفسه فيما يستقبله من أمر الحياة الآخرة، ففي لحظة مواجهة الموت عليه ألا
ينسى الوصية إن كان مديناً لأحد أو كان له دين عند أحد. وكذلك إن سافر الإنسان
ضرباً في الأرض فعليه أن يوصي حتى لا يضيِّع على ورثته حقاً لهم. أو يسدد ما عليه
من دين ليبرئ ذمته، وأن يُشْهِد على وصيته اثنين من المسلمين، أما إذا كان الإنسان
يصاحب في السفر أناساً غير مسلمين فعليه أيضاً أن يُشهدهم على الوصية، ولم يترك
الحق لنا في هذا الأمر أي عذر، بل لا بد من شهادة اثنين. والشهادة هي الأمر
المشهود في الحاضر، ومثال قوله الحق:{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ }[البقرة: 185].
أي أن الإنسان إذا حضر الشهر وأدركه فليصم، والشهادة تأتي بمعنى الرؤية مثال ذلك
قوله تعالى:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }[النور: 2].
أي أن يحضر مشهد الجلد جماعة من المؤمنين. وتأتي الشهادة أيضاً بمعنى الحكم:{
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ }[يوسف: 26-27].
إذن فالشهادة تأتي بمعانٍ متعددة. والأصل فيها المشهد، أي الشيء الذي تشاهده.
والوصية - كما نعلم - هي إيصاء بأمر يهم الموصي بالنسبة للموصى إليه. والمؤمن يوصي
بالخير. ويسمعه من لا يرث، أي الذي ليس له شرعاً نصيب في التركة، لكن قد يكون لغير
الوارث سبب من أسباب المنفعة مع المورِّث. وعلى الرغم من ذلك فالسامع للوصية يبرئ
ذمته فيبلغ ما سمع إلى الورثة؛ لأن الوصية هي مسألة في نفس الموصي، وقد لا يكون
لها حيثية عند من يسمعها أو يتلقاها ولكنها ذات حيثية في نفس الذي يقولها؛ لذلك
جعل الله الوصية قبل الدين في قوله الحق:{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ
أَوْ دَيْنٍ }[النساء: 12].
إن ذلك يحدث على الرغم من أن الدَّيْن مقدم على الوصية؛ لأن الدين حق والوصية
تبرع. ويريد الحق ذلك؛ لأن الدين له مُطالب سيطالب به، ولكن الموصي إليه قد لا
يكون صاحب حق ولكنه يتلقى تبرعاً بالوصية، أو يكون حقه لدى الموصي غير موثق بصك أو
شهادة؛ لذلك يقدمه الحق سبحانه وتعالى ليجعلنا نهتم بأمر الوصية. أو يكون الذي وصى
بشيء قد عاش في الحياة ويعلم مَنْ مِنَ الناس أثر في حياته علمياً أو أدبياً أو
خلقياً أو اجتماعياً؛ لذلك يريد الله سبحانه وتعالى ألا يبارح الإنسان الحياة إلا
بعد أن يؤدي المؤمن هذا الحق الأريحي لمن كان له عليه دين في دنياه.
وهذه مسألة قد لا تشغل الورثة، بل قد يكرهونها. لكن صاحب الوصية هو الذي يعلم
حيثياتها.
ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد أمر الوصية حتى في الوقت الذي يعز فيه التأكيد،
فأمر الإنسان أن يوصي بها إن كان بين أهله وقومه، ويؤكد الحق أهمية الوصية أيضاً
إن كان الإنسان مسافراً، فإن أحس باقتراب الموت فله أن ينادي اثنين من أهل دينه
ويوصيهما. وإن لم يجد أحداً من أهل دينه فليُسْمِع وصيته اثنين من غير أهل دينه،
ولذلك مناسبة:
فقد حدث أن رجلاً مسلماً اسمه بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان
على سفر مع غير مسلمين وحضرت له مقدمات الموت فكتب ورقة ووضعها مع كل ما معه من
متاع - احتياطياً - ونادى على اثنين من غير المسلمين وهما تميم الداري وعدّي بن
بدّاء، وأوصاهما أن يسلما متاعه لأهله، ومات الرجل. لكنَّ الاثنين فتحا المتاع
ووجدا فيه إناءً مفضضاً ومُذَهَّبا وله قيمة، فأخذاه وباعاه بألف درهم واقتسما
المبلغ، وسلما المتاع لأهل الميت الذين عثروا على الورقة المكتوب فيها كل التفاصيل
بما فيها خبر الإناء الثمين. وسأل أهل الميت الشخصين اللذين سلما المتاع عن الإناء
فأنكرا أي معرفة به. وأنكرا أيضاً أنها رأيا صاحب الإناء يبيعه. وبعد فترة عثر أهل
الميت على الإناء معروضاً للبيع. وعرفوا أن البيع الأول كان من الشخصين اللذين
حضرا موت صاحب الإناء. فذهب أهل الميت إلى رسول الله يعرضون عليه مسألة خيانة
الأمانة في أمر الوصية، فنزل قوله الحق: } يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ
اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا
مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي
بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ
إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ { [المائدة: 106].
إنه أمر من الله لرسوله أن يحضر هذان الاثنان من بعد أن يؤديا صلوات دينهما وأن
يقسما بالله، وأن يأتي أهل الميت ومعهم الورقة وليكشف الرسول الحق من الباطل. وقد
أسلم تميم الداري من بعد ذلك وقص القصة وأحضر الخمسمائة درهم التي كانت في ذمته
والتي أخذها ثمنا لنصف الإناء وأحضر الخمسمائة درهم الأخرى التي عند عدي ليرد ثمن
الإناء كله إلى أهل الميت.
ولماذا قال الله: } تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ {؟. إنه أمر بأن
نحتجزهم من بعد الصلاة؛ لأن الإنسان عادة بعد أن يؤدي الصلاة سواء أكان من أهل
الكتاب أم من غيرهم تصفو نفسه بالاستعداد للصدق بعد أن وقف بين يدي الله، ويكون في
هذه الحالة أقل اجتراءً على الكذب؛ لذلك يقول الحق سبحانه: } يِا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ {.
أي الشهادة التي يختلف فيها الناس وتختلف فيها الأقوال بين طرفين، ذلك أن كلمة
" بين " تعني انفصال كائنين فيصير كل منهما طرفاً.
إن هذه الشهادة تحتاج إلى الفصل بين وجهتي النظر. والذي يقوم بهذا الفصل هو من
يستجوب الاثنين اللذين من ذوي العدل من المسلمين أو من غير المسلمين، ويتم
الاستجواب من بعد أداء الصلاة. فإن صار الأمر الذي شهدا فيه واضحاً، كان بها. وإن
لم يكن قولهما واضح الصدق وفيه شك وريبة، فعلى الشاهدين أن يقسما بالله أنهما لا
يشتريان بآيات الله ثمنا حتى لا يكونا من الآثمين.
ويقول الحق من بعد ذلك: } فَإِنْ عُثِرَ عَلَىا أَنَّهُمَا... {
(/768)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
فإن ظهر أن الشاهدين قد حرفا وصية الميت أو أخفيا بالكذب بعضاً من تفاصيلها، فلنا
أن نستدعي اثنين من أقرب الناس للميت فيقسمان بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا
في الشهادة، وأن هذا الاتهام بالكذب ليس افتراءً ولكنه قائم على الحقيقة، ولو ظهر
أن شهادتهما فيها كذب فهما المستحقان لعقاب من يظلم غيره.
وبذلك يفسح الحق لنا المجال أمام إقامة العدل بأن نستقصي الصدق، فإن ظهر لنا بدليل
ما كذب الشاهدين اللذين حضرا موت صاحب الوصية، فلنأت بشاهدين من أولياء الميت بدلا
منهما. وكلمة " عثر " تعني الوقوع على شيء على غير قصد. فإن عرفنا أن
الإثم ظاهر من شهادة هذين الشاهدين، فلنا أن نستقصي الصدق في شهادة اثنين غيرهما
من أهل الميت.
وفي الواقعة التي نزلت فيها الآية، قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهمي
فأقسما بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا وأن الشهادة التي يقدمانها هي شهادة
الحق لا اعتداء ولا جور فيها على أصحاب الشهادة الأولى. ولماذا كل ذلك؟ لأن الهدف
هو أن تأتي الشهادة على الوجه الصحيح لها، فيقول الحق: { ذالِكَ أَدْنَىا... }
(/769)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
إن الشهود الأُول الذين قدموا الشهادة لأنهم حضروا لحظة الوصية عندما قالها الميت
يقدمون شهادتهم بعد أن يؤدوا الصلاة وبعد أن يقسموا أن ما يقولونه هو الحق. ولا بد
لهم أن يحرصوا على صدق القول بدلاً من أن يفتضح أمر كذبهم.
والشهادة كما نعرف تطلق على أي أمر نحضره. والشهادة - كما نعلم - تُطلق على
متلازمات متعددة يجمعها كلها " الحضور " كقوله الحق:{ وَأَذِّن فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىا كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن
كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ }[الحج: 27-28].
أي أن نداء الحج يسمعه الناس فيأتون من كل مكان وعلى كل وسائل النقل وقد تكون صعبة
حتى يشهدوا منافع لهم. وسبحانه وتعالى يقول:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ
إِلاَّ هُوَ }[آل عمران: 18].
وشهادة الله هي حكم من الله. والملائكة أيضاً تشهد، وشهادتهم هي شهادة الإقرار.
وكل ذلك ناشئ من أمر حاضر يستقرئه الشاهد. ونحن نرى الشاهد يقف أمام المحكمة،
فتسأله النيابة فيقول ما رأى، ويسأله محامي الخصم فيقول ما رأى، ويسأله محامي
الدفاع فيقول ما رأى. وما دام الشاهد صادقا فلن يخشى محاورة أي طرف يسأله.
والأطراف التي تسأل الشاهد تطلب منه أن يأتي بالواقعة على أساليب مختلفة. وما دامت
الواقعة صادقة تظل كما هي مهما تنوعت الأسئلة وتغيرت الأساليب؛ لأن الشاهد الصادق
يستوحي واقعاً لا يتغير، أما الشاهد الكاذب فهو يلف ويدور ويغير من أقواله. ولهذا
نرى وكيل النيابة اللبق الحاذق يبحث في ذاكرة الشاهد عن أدق الخفايا.
وهكذا نعرف أن الشهادة تطلق على الحضور. أما إذا كان الشاهد هو الذي يملك الحكم
فشهادته حكم. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: { شَهِدَ اللَّهُ }. إن الله يشهد أي
يحكم.
وفي قصة سيدنا يوسف عليه السلام نرى كيف أوقع الحق بإخوة يوسف عندما أخذوا أخا
يوسف الصغير معهم في الرحلة إلى مصر. وكيف دبر يوسف لهم أمراً ليحتجز أخاه معه.
وكيف كان الصراع بين إخوة يوسف خوفاً على أبيهم بعد حجز الأخ الصغير. فيقول لهم
شقيقهم الأكبر كما أخبر القرآن الكريم:{ ارْجِعُواْ إِلَىا أَبِيكُمْ فَقُولُواْ
ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا
كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }[يوسف: 81-82].
ونعرف أن إخوة يوسف كذبوا في المرة الأولى عندما فعلوا فعلتهم الشنعاء ضد يوسف
لكنهم صدقوا في المرة الثانية التي احتجز فيها شقيق يوسف. ولذلك طلبوا أن يسأل
والدهم إما أهل القرية التي كانوا بها وإما رفاقهم في القافلة.
لقد أُخبروا أن أخاهم قد استخرج من وعائه بعض من أدوات الملك وهو الصواع الذي يكال
به ولهذا جاءت شهادتهم هذه المرة مطابقة للواقع، وهو ما أخبروا به.
إذن فالشهادة هي الفيصل في التنازع. ولذلك يوصي النبي صلى الله عليه وسلم ألا يشهد
الرجل على أمرٍ إلا بعد أن يكون قد رآه رأي العين، كما يرى الشمس: " على
مثلها فاشهد أو فدعْ ".
الحق سبحانه وتعالى يقول:{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }[آل عمران: 70].
وهكذا نعلم أن الشهادة كلها تدور حول الحضور والشهود. ولهذا تأتي الشهادة في لوازم
متعددة، فهي مرة تعني الحضور، وهي مرة تأتي بمعنى الحكم، وثالثة بمعنى الإقرار.
وكلها معانٍ ملتقية.
والشهادة تتطلب أمرين: الأول هو حضور الشاهد لحظة وقوع المشهود به، والثاني هو
أمانة النقل، ولذلك جعل الله في بعض الأحكام شهادة اثنتين من النساء تعدل شهادة
رجل واحد. وقد يقول قائل: كيف يساوي الإسلام بين شهادة رجل جاهل أو أمي وشهادة
امرأتين قد تكون كل منهما على درجة عالية من الثقافة والعلم؟
ونقول: إن المسألة في الشهادة ليست عمل عقلٍ، ولكنها أمانة نقل، وأمانة النقل لا
شأن لها بالثقافة، فالشهادة تحتاج إلى حضور الحادثة، ثم إن المرأة يكون دائماً
أمرها مبنياً على الستر وعدم التهجم على الرجال. فقد تقع حادثة وتوجد امرأة بجانب
هذه الحادثة، وبطبيعة الحال لن تتجاسر وتتقدم وتسأل لمعرفة كل التفاصيل، على العكس
من الرجل الذي يرى الحادثة، فيحاول أن يعرف كل ما جرى. وحين أراد الحق الشهادة من
امرأتين، لم يطلب ذلك لضعف الثقة في المرأة أو زيادة الثقة في الرجل، ولكن لأن
الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهد وأمانة نقل.
إن البعض يحاول أن يروج لمثل هذه القضايا وكأنها وسيلة للتهجم على بعض الداعين
لله، ولذلك أقول لهم: يجب أن يفهم الإنسان منكم الفارق بين عداوته مع بعض الداعين
إلى الله وأن يتعدى حدوده إلى أن يحاد الله؛ لأن الإنسان منهم لا يرد الحكم على
الداعية، وإنما يرد الحكم على الله.
وأمر الحق سبحانه في شهادة اثنين من الرجال أن يؤديا الصلاة، ثم يتم حبسهما لفترة،
وبعد ذلك يتم استدعاؤهما للشهادة، فإن رد أهل الميت شهادتهما في أمر الوصية فيتم
استدعاء اثنين من أولياء الميت لأداء الشهادة في شأن الوصية، كل ذلك لماذا؟ من أجل
أن تأتي الشهادة على وجهها الصحيح الذي يُظهر كلَّ الحقيقة.
ويذيل الحق القول الكريم: } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { وذلك بلاغ للمؤمنين كافة وإلى الناس عامة؛ لأن
الله لا يهدي إلا من تطامن إلى منهج الله، أما من يفسق فلن يعينه الله، ذلك أن
الله لا يعين كافراً ولا ظالماً ولا فاسقاً. أما من آمن بالله، فالحق سبحانه
وتعالى يعينه على هذا المنهج ويهديه إلى الصراط المستقيم.
ولماذا أنزل الله هذه الآيات بعد أن أجرى الأحداث التي تتطلبها؟ نعرف أن الحكم إن
نزل في ظرف يتطلبه، تكون النفس إليه أشوق وبه أعلق، مثال ذلك: كوب الماء الذي
يتناوله العطشان، إنه يتناوله بشوق ولهفة. عكس الإنسان الذي يتناول كوب الماء وهو
غير عطشان، فقد يضعه في مكان قريب منه دون أن يشربه، وكذلك الدواء الذي يُؤتى به
للمريض لحظة معاناته القصوى من المرض، إنه يقبل عليه بلهفة مهما كان مر الطعم،
وهكذا جاءت بعض أحكام القرآن مناسبة لأحداث وقعت لتكون اللهفة على التطبيق موجودة
في النفوس المؤمنة.
ويقول الحق تعالى بعد ذلك: } يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ... {
(/770)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
وينبهنا الحق سبحانه هنا إلى ضرورة أن نستعد لليوم الذي يجمع الله فيه الرسل يوم الحساب،
أي أننا علينا أن نراعي الالتزام في تكاليف المكلف الأعلى في كل عمل من أعمال
الحياة؛ لأنه سبحانه سوف يسأل الرسل في ذلك اليوم: { مَاذَآ أُجِبْتُمْ }؟ أي كيف
استجاب الناس إلى المنهج الذي دعوتم إليه؟ وفي هذا تقريع لمن خالف الرسل. ونعلم أن
الحق سبحانه وتعالى قد قال:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ شَهِيداً }[النساء: 41].
ونعلم - كذلك - أن يوم المشهد الأعظم سيأتي رسولنا - صلى الله عليه وسلم - شهيداً
على أمته وعلى كل الرسل السابقين عليه، ومثال ذلك في حياتنا - ولله المثل الأعلى -
نجد الأهل ينتظرون الابن على باب لجنة الامتحان ويسألونه: كيف أجبت.
إن الأهل يطلبون من الابن أن يعطيهم تقدير الموقف إجمالياً. أما إن سألوه بماذا
أجبت؟ فمعنى هذا أنهم يطلبون منه أن يحكي لهم ماذا أجاب تفصيلياً عن كل سؤال.
وسؤال الحق لرسله: { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه
للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا برسالات الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي
البلاغ عن الله.
وبماذا يجيب الرسل يؤمئذ عن الله؟ هم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب
الإيمان: { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ونجد من يتساءل:
كيف - إذن - يقولون: { لاَ عِلْمَ لَنَآ } على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم
ومن لم يستجب لها؟ ونقول: لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد
علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية
والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضاً فالأنبياء قد علموا
الذين آمنوا بالمنهج وكانوا معاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد
أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة
الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم: { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ
الْغُيُوبِ }.
ويقول الحق من بعد ذلك: { إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى... }
(/771)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
لماذا إذن يجمع الله كل الرسل ويسألهم سؤالاً على الإجمال، ثم لماذا يأتي بعيسى
ابن مريم ليسأله سؤالاً خاصاً عن حادثة مخصوصة؟
أراد الحق بذلك أن يعلمنا أنه سيسأل الرسل سؤالاً يوضح لنا أدب الرسل مع الحق،
ويبين لنا تقريع الحق لمن كفروا بالمنهج، أما سؤاله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم،
ذلك السؤال الخاص عن الحادثة المخصوصة، فمرد ذلك إلى أن بعض الذين آمنوا به قد
وضعوه في موضع الألوهية أو بنوّة الألوهية، وفي ذلك تعدٍِ على التنزيه المطلق للحق
سبحانه وتعالى. ونعلم أن قصارى ما صنعت الأمم السابقة أن بعضهم كفر بالرسل، وبعضهم
كذب الرسل، لكن لم يدع أحد من هذه الأمم أن الرسول الذي جاء هو إله، لم يقل ذلك
أحد وإن كان بعض فرق اليهود قد قالوا: إن عزيرا هو ابن الله وهذه الفرقة قد انقرضت
ولم يبق يهودي يقول ذلك، وسبحانه قد جعل الشرك به قمة الكفر الذي لا غفران له.
[النساء: 48].
فكأن عيسى عليه السلام سيواجه السؤال ضمن الرسل، ثم يسأله الحق سؤالاً خاصاً به.
ويقدم الحق السؤال لعيسى ابن مريم بعد أن ذكِّره بعدد من النعم التي أنعم بها
سبحانه وتعالى عليه وعلى أمه مريم عليه وعليها السلام: { إِذْ قَالَ اللَّهُ
ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىا وَالِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ
عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ
طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوتَىا بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَا إِلاَّ سِحْرٌ
مُّبِينٌ } [المائدة: 110].
ونجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى يعدد بعضاً من نعمه على سيدنا عيسى وهي: التأييد
بروح القدس وهو سيدنا جبريل عليه السلام، والكلام في المهد بما يبرئ أم عيسى
السيدة مريم عليها السلام مما ألصقوه بها من اتهامات، وتعليم الحق له الكتاب
والحكمة والتوراة والإنجيل. وأنه سبحانه قد أقدره على أن يصنع من الطين كصورة
الطير بإذن منه سبحانه وأن ينفخ فيه فيصير طيراً بإذنه سبحانه، وكذلك أقدره الحق
سبحانه أن يبرئ الأعمى من العمى. وأن يعيد إلى الأبرص لون جلده الطبيعي ويشفيه،
وأجرى على يديه تجربة إعادة الموتى إلى الحياة بإذن منه سبحانه، وكذلك منع الحق عن
عيسى ابن مريم كيد اليهود وكف أيدي الذين أرادوا صلبه وقتله على الرغم من أنه جاء
لهم بالمعجزات السابقة حتى يؤمنوا فآمن بعض منهم وكفر الذي قال: عن تلك المعجزات:
إنها مجرد سحر.
وعندما نتأمل بالخواطر أمراً واحداً من تلك الأمور نجد أن قدرة الحق سبحانه وتعالى
لها تمام الوضوح الظاهر، فمجرد كلام عيسى في المهد هو معجزة؛ والمهد - كما نعلم -
هو الفراش المريح للطفل يعده له الأهل ساعة أن يولد؛ لأن الطفل لا قدرة له على أن
يتزحزح من مكانه إن كان هناك شيء بارز في مهده يضايقه؛ لأن الطفل يملك الحس ولكن
لا قدرة له على مدافعة ما يتطلبه الحس.
إن الطفل المولود لا يستطيع مثلا أن يمد يده ليزيل الحصوة الناتئةمن الأرض تحت
المهد لذا يمهدون فراشه ويوطئونه له. إنه مجرد روح في جسد صغير لا حول ولا قوة له
إلا استبقاء الحياة بالتعلق بثدي الأم، فإن تكلم طفل في المهد، فمعنى ذلك أنه
امتلك إرادة يسيطر بها على كل جسمه إلى الدرجة التي يمكنه أن ينطق بها الكلام،
وهذا لا يحدث أبداً. ونجد الأهل يمهدون الفراش للطفل، لأنهم يعلمون أن أقصى تعبير
عن الانفعال هو أن يبكي. وإذا ما تمكنت حشرة صغيرة من لدغ الطفل كالبرغوث أو البعوضة
فالطفل لا يملك إلا البكاء.
وقد تكلم عيسى في المهد بعد أن أقدره الحق على ذلك. ثم جاء الحق بحقيقة هي المقابل
للمهد وهي الكلام في الكهولة. فإن كان قد تكلم في المهد إعجازاً ليبرئ أمه البتول
فإنه سوف يتكلم كهلاً مبلغاً عن الله. ولم يتكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد إلا
بما قاله الحق في القرآن الكريم:{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ
وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً
بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }[مريم: 30-33].
قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرئ أمه الصدِّيقة، ذلك أنهم اتهموها
في أعز شيء لديها، ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها. وإنقاذاً لها أبلغها الحق عن
طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول:{ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ
صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً }[مريم: 26].
وسبحانه وتعالى يعلم أن ميلاد عيسى من أم لم يمسسها رجل هو خرق لناموس الكون في
الحمل، وكذلك أراد الحق أن يكون هناك خرق للناموس في الكلام فيتكلم عيسى في المهد
بكلام معجز له معنى. وعلمه الحق الكتاب: } وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ { أي
علمه الله الكتابة، وعلمه التوراة، وأنزل عليه الإنجيل، وألهمه الحكمة وهي الكلام
المحكم الصواب بإلهامات الله ومقابلها في الإسلام أحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم.
وجاءت دقة الأداء القرآني لتمنع أي تصور لتدخل من ذات عيسى فيما أجراه الله على
يديه وذلك منعاً للفتنة فقال الحق: } وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ { إذن فعيسى لا يخلق الطير ولكن يصنع من الطين مثل هيئة الطير، فالحق
وحده هو الذي يخلق الطير؛ فلأنه الإله فهو الذي يخلق خلقاً عاماً، أما البشر
فبإمكانهم أن يخلقوا أشياء ويشكلوها كمثل المخلوقات، لكنها ليست مخلوقات.
إننا نرى ذلك في التماثيل التي ينحتها المثَّال من الصخر أو يشكلها من الطين كهيئة
الجمل أو العصفور، لكنه لا يملك أن ينفخ فيه الروح، وقد يخترع الإنسان أشياء مثل
الكوب من الرمل المصهور المنقى، لكننا لم نسمع عن خلق كوب ذكر وكوب أنثى ليتوالد
من الاثنين نسل من الأكواب!
إننا نرى دائماً أن خلق الإنسان لشيء إنما يظل معقوداً على حاله فلا ينسل ولا ينمو
ولا يحس، والخالق الأعظم يخلق من عدم، أما أنت أيها الإنسان فتصنع أشياء مما وهبك
الله من أشياء موجودة مطمورة في الأرض أو ظاهرة. ولم يضن سبحانه عليك بل أطلق عليك
بأنك خلقت، ولكن لتنتبه إلى أنه سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.
إذن فعيسى صَنَع من الطين مثل هيئة الطير، وكان ذلك بإذن من الله، ونفخ فيه فكان
طيرا بإذن الله. والفارق بين قدرة الحادث وهو العبد، وقدرة الباقي القدير وهو الرب
أمران. الأول: أن الحق سبحانه وتعالى حينما يقدر أمرا فهو يستطيعه بطلاقة قدرته أن
يُقدر بعضًا من خلقه على أن يفعل الشيء، لكن العبد لا يستطيع أن يقدر عبدًا آخر أن
يصنع شيئاً مثل الذي يصنعه.
والمثال على ذلك: نجد الطفل إن أراد أن يحمل كرسياً فهو لا يقدر، ويأتي شاب قوي
ليحملَ الكرسي للطفل، هذا الشاب إنما يعدي أثر قوته إلى الطفل ولم يُعَدِّ لَهُ
قوته ولم ينقلها له، ويبقى الطفل ضعيفاً كما هو، أما الحق سبحانه وتعالى فهو
يُقْدرُ من يريد على ما يريد. فبعظمته سبحانه يعدي من قدرته إلى من لا يقدر
ليَقْدر. والعظمة إذن فيما فعل المسيح هي أن الحق سبحانه أراد له أن يحيى فنفخ في
الطين فصار طيراً بإذن الله. وقد سبق سيدنا إبراهيم سيدنا عيسى في ذلك عندما سأل
الله:{ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَىا }[البقرة: 260].
فسأله الله:{ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن }[البقرة: 260].
فقال إبراهيم: " بلى " أي أنه آمن، وأضاف:{ بَلَىا وَلَـكِن
لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }[البقرة: 260].
والكلام هنا جهته منفكة، فإبراهيم قد آمن، والإيمان اطمئنان القلب إلى عقيدة ما،
وما جرى زاد إبراهيم تيقناً. ولم يسأل إبراهيم ربه: أتحيى الموتى ولكن إبراهيم أقر
أولاً بقدرة الحق على الإحياء وتساءل عن الكيفية. وطلب الكيفية لا شأن له
بالإيمان؛ لأن الكيفية تتطلب تجربة. فأمره الحق أن يأتي بأربعة من الطير وضمها
إليه ليتعرف عليها جيداً. وأن يقطعها إبراهيم بيديه ويضع كل قطعة على جبل
ويناديها، فتأتي القطع بنداء إبراهيم وقد صارت هي الطير نَفْسَهَا التي كانت من
قبل.
وهكذا أراد الله لعيسى عليه السلام أن يصنع من الطين مثل هيئة الطير بإذن الله وأن
ينفخ فيها بإذن الله فيصير الطين طيراً.
وأراد الله لعيسى أن يبرئ الأكمه أي الذي ولد أعمى. وقد يقول قائل: إن في عصرنا
يتم ترقيع القرنية ويمكن أن يَرَى ويبصر بعض من الذين ولدوا بلا قدرة على الإبصار.
ونقول: إن ما يحدث في عصرنا هو سبق وتقدم على بناء على تجارب، أما ما حدث مع عيسى
فكان خرقاً للناموس وأراده الله معجزة. وكذلك أراد الله أن يجري على عيسى شفاء
الأبرص أي الذي أصابه بياض كالرقع في بشرته. وكذلك كف بني إسرائيل عنه عندما
أرادوا إيذاءه وقتله. وعندما رأوا كل ذلك آمن بعضهم، وكفر البعض واتهموا عيسى عليه
السلام بأنه ساحر. وكان ذلك منهم كذبا وافتراء عليه؛ لأنه نبي مرسل بمعجزات واضحة.
وفي هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه وتعالى يسرد نعمه على
سيدنا عيسى عليه السلام. وسرد النعمة على الرسول ليس المقصود منه تنبيه الرسول إلى
النعمة، فالرسول يعلم النعم جيداً لأنها جرت عليه، ولكنه تقريع لمن رأى هذه
الأحداث والنعم ولم يلتزم الإيمان بالله بعدها، وقد أجرى سبحانه كل هذه النعم على
عيسى عليه السلام وأيده الله بما يقوي ويزكي رسالته إلى قومه. فكانت نعمة أولا
عليه، لأنه مصطفى، مختار، مؤيد. ونلحظ أن هذه الآيات والنعم تنقسم إلى قسمين: قسم
يقنع أصحاب العقول والألباب والفكر والمواجيد النفسية. وقسم يقنع القوم الماديين
الذين لا يؤمنون بملكوت الله في غيب الله. والقسم الأول الذي يقنع أصحاب العقول
والألباب هو تعليم الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل.
والقسم الثاني الذي يقنع الماديين هو الأمور المادية الحسية التي يتعرف من يراها
على أنها لا يمكن أن تجري على يد بشر، كأن يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه
فيكون طيراً. وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. وهذه الآيات خرق للناموس
المادي، ولذلك يتبع الحق كل واحدة منها بذكر كلمة: } بِإِذْنِي { أي أن هذه المعجزات
لم تكن لتحدث لو لم يأذن بها الله. ولم يذكر الحق ذلك بالنسبة للآيات الأخرى لأنها
أمر ظاهر ومعروف، حتى يكون الأمر واضحاً أمام كل إنسان ممن يحبون عيسى ويرتفعون به
إلى مقام أعلى من مقام النبوة المؤيدة ممن أرسله. وحتى لا يخدع قوم عيسى في هذه
الآيات ويظنوها مزية مطلقة له، ولكنها مجرد آيات معجزات لإثبات صدق الرسالة عن
الله.
إن عيسى عليه السلام حينما أخذ كل قطعة من الطين ليصور منها طيراً وينفخ فيها
فتكون طيراً لم يفعل ذلك بقدرته وإرادته، وإنما حدث ذلك بإذن من الله، ولم يحترف
عيسى تلك المسألة، وكذلك كان إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وكل
ذلك خرق لناموس المادة، لذلك كرر الحق القول بأن هذا الخرق كان بإذن منه سبحانه
حتى نعرف أن عيسى لم يأخذ من قدرة الله طلاقة له بل انحصر الأمر في هذه المسائل
التي أذن الله فيها فقط.
إننا نجد أن كل خرق لناموس الغيب عند الأنبياء أو الأولياء، أو من يعطيهم الله هذه
الإشراقية، هذا الخرق إنما هو لتكريم النبي أو الولي أو الذي تشرق عليه فيوضات
الله، وعلينا أن نعرف أن الله لم يعط إنساناً واحداً القدرة على العلم بالغيب.
مطلقاً إنما يطلع الحق بعضاً من خلقه بهبة من تجلياته على شيء جزئي. فالخلق سبحانه
وتعالى هو مالك الغيب:{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ
هُوَ }[الأنعام: 59].
ولم نر إنساناً علاماً للغيب ولكن يُعْلِمُهُ الله بغيب من بعض غيبه، حتى نعلم
أنها أحداث وقتية يتجلى الله فيها بفضله، ليثبت حالة من الحالات، ثم يظل الإنسان
مع الناموس العام في كون الله. والناموس الكوني هو الأمور والقوانين التي أطلقها
الله في الكون لتعمل لخدمة المؤمن والكافر والطائع والعاصي. ومثال ذلك شروق الشمس
وغروبها، وحركة السحاب حاملاً المطر، ووجود الأرض بعناصرها القابلة للزراعة. وخرق
الناموس يكون بإذن من الله للرسل والأنبياء والأولياء؛ إننا نجد كل ذلك آيات من
الحق لإثبات صدق الرسول في البلاغ عنه، وهذا الإثبات مشروط بشروط: أولها أن يكون
النبوغ قد بلغ درجة قصوى في هذا المجال الذي تحدث فيه تلك المعجزة، والمثال على
ذلك: خرق الحق سبحانه لناموس العصا وهي فرع من شجرة وجعل موسى عليه السلام يلقيها
فإذا هي حية تسعى. وما أجراه الله على عصا موسى لم يكن سحراً ولكنه نقلها من جنس
إلى جنس في عصر نبغ فيه الناس في السحر، ونعلم أن موسى أنس إلى ربه فقال وأطنب
وأسهب وأطال:{ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي
}[طه: 18].
وعرف موسى من بعد مقام الأنس والانجذاب مقام الخشية فأوجز قائلاً:{ وَلِيَ فِيهَا
مَآرِبُ أُخْرَىا }[طه: 18].
لقد عرف موسى عليه السلام أنه يخاطب مولاه فأطال الأنس به وعرف أيضاً مراعاة
المقامات وانتقل من الانجذاب والأنس إلى مقام الرهبة فقال: (ولي فيها مآرب أخرى).
وجاء الأمر بإلقاء العصا:{ أَلْقِهَا يامُوسَىا }[طه: 19].
وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام فلم تعد للتوكؤ والهش على
الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حيّة:{ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا
هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىا }[طه: 20].
ولذلك كان لا بد أن تُدهش المسألة موسى عليه السلام، لذلك أوجس خيفة.
ولكن موسى عندما عرف سرّ عصاه لم يوجس خيفة بل تحدى السحرة الذين جاء بهم فرعون في
يوم الزينة، وعرف موسى أنه ليس بساحر مثلهم ولكن الله أتاه معجزة ستبهر حتى
السحرة، فالسحرة يعلمون أن عملهم تخييل وليس تغييراً للأشياء، أما الحق فهو يغير
الأشياء نفسها.
لقد جاء السحرة بناء على امر فرعون إلى يوم الزينة، ويعلمنا القرآن بلمحات جانبية
أن نظام السحرة كان موجوداً، ولذلك طالب السحرة بأجرهم إن هم غلبوا موسى:{ قَالْواْ
إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ }[الأعراف: 113].
وعلى الرغم من اختلاف مواهب هؤلاء السحرة ورقي كل منهم في فرع من فروع السحر، إلا
أنهم جميعاً سجدوا للحقيقة عندما ألقى موسى عصاه وقالوا:{ قَالُواْ آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 47-48].
وهكذا عرفوا أن ما فعله موسى ليس قدرة بشرية ولكنه قدرة فوق قدرة البشر. إنها
المعجزة التي يجريها الله على يد الرسل لإثبات صدقهم في إدعائهم أنهم رسل من الله.
وكذلك نبغ قوم عيسى عليه السلام في الطب. ولم يجرؤ أحدهم على أن يشفي بكلمة واحدة
الأكمه والأبرص أو أن يخرج الميت من موته إلى الحياة. وعلى الرغم من تقدمهم في
الطب لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك. والحق سبحانه يسهل المعجزات على رسله، والمثال
في الإسلام هو الإسراء برسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، وحَدَثَ الإسراء في لمح
البصر، ونحن في زماننا نرى التقدم الآلي والفني قد اخترع الصواريخ التي يمكن أن
تختصر الوقت لمثل الرحلة من مكة إلى القدس ولكنها تمت بوساطة آلة تعمل وبأجهزة
أعدت بنظام دقيق بعد تجارب مضنية، ولكن الحق عندما أراد لم يكن الأمر سوى كلمة منه
تصير معجزة في التو واللحظة. ولنحفظ ذلك جيداً. إن المعجزة خرق اقتدار لا سبق
ابتكار أي أنها خرق لنواميس الكون حادث من اقتدار المقتدر - سبحانه - ولم يحدث ذلك
من ابتكار واختراع واكتشاف مكتشف.
ويُسلّي سبحانه عيسى عليه السلام بذكر هذه البيانات، لكنَّ الكافرين من قوم عيسى
عليه السلام قالوا إنها سحر: } فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَا
إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {. ونعلم أن الحق خلق الخلق وجعل الإيمان أمراً فطرياً
فيهم، ثم تأتي الغفلة فتبهت جزئية من جزئيات الإيمان، وتتلوها غفلة أخرى فتبهت
جزئية أخرى، وتأتي غفلة ثالثة فتصير إلى الران وهو ما يعطي القلب فلا تنفذ إليه
الهداية، وذلك بسبب ما كسبوا وفعلوا من الذنوب: } كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىا
قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {.
ولنستمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه حذيفة:
" حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر
الآخر. حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن
وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة
من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْت (أي الأثر اليسير من الشيء) ثم ينام النومة فتقبض
الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل (أي أكثر العمل في الكف) كَجَمْرٍ دحرجته
على رجلك فنَفِط فتراه مُنْتَبِراً (أي متورّماً) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاةً
فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في
بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه
مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيَّكم بايعت، لئن كان
مسلماً ليردنّه على دينه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنّه على ساعيه، وأمَّا
اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً ".
وها هوذا الحديث الثاني الذي حدثنا به حذيفة عن رفع الأمانة والفتنة. قال حذيفة:
" كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال
قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره: قالوا أجل. قال:
تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا. قال: أنت لله
أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكِت فيه نكتة
سوادء، وأي قلب أنكرها نكت. فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا
فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرْبادّاً كالكور مُجَخِّياً -
أي مقلوباً - لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ".
قال حذيفة: وحدثت أن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر.
قال عمر: " أكَسْراً لا أبا لك، فلو أنه فُتح لعله كان يُعاد ".
هكذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة وضياع المناعة
الإيمانية من النفس البشرية. وأراد سبحانه للمناعة الإيمانية أن تبقى في عباده،
لذلك تدخل بالرسل حتى تتكون المناعة ويكبح المجتمع جماح كل فرد. تحدثه نفسه بفتنة.
وعندما كان يتم الفساد في الأرض. نجد الحق يرسل الرسول ليعيد البريق إلى النفس
اللوامة، ويحيي في المجتمع القدرة على أن يتناسق السلوك فيه على ضوء منهج الله.
ولذلك نجد أن المقاومة التي تحدث للرسل إنما تحدث من الذين يستمتعون بالفساد
وبآثار الفساد. وحين يأتي منهج الهداية فهو يأخذ بأيدي المظلومين ويغضب منه
الظالمون الأقوياء الجبابرة، ولذلك يهاجمون الرسل والمنهج القادم من الله؛ لأن هذا
المنهج سيقطع عليهم سبل الفساد الذي يدر عليهم عائداً هو في نظرهم كبير.
لقد رأينا صناديد قريش وقد تصدوا للدعوة، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بالمساواة
بين كل البشر.
لقد كانوا يعرفون أن مجرد النطق بـ " لا إله إلا الله محمد رسول الله "
يعني فقدانهم لسلطان إرهاب الناس والقبائل. ولو كانت المسألة مجرد كلمة تقال،
ويبقى الأمر على ما كان عليه لقالوها، ولكنها كانت كلمة تغير من الأمر سياسياً
واقتصادياً واجتماعياً، ولا يبقى من جبروت لأحد، فكل الناس سواسية. لذلك تصدى
صناديد قريش لدعوة الإسلام. وهكذا نجد أن كل رسول يأتي يبرز له من يعاديه من أصحاب
الفساد والجبابرة في الأرض، مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ }[الأنعام:
112].
والمثال على ذلك هو إرادة الحق في أن يجعل صيحة الإيمان في الجاهلية تأتي أولاً
إلى أذن سادة العرب جميعاً وهم قريش الذين لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، لكن النصر
لا يأتي لمحمد وهو في مكة حيث كانت مقام السيادة؛ لأن النصر لو حدث في أول الدعوة
ومحمد صلى الله عليه وسلم يحيا بين قومه في مكة لقال قائل: لقد حدث النصر من قوم
ألفوا السيادة وأرادوا أن يسودوا العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها، وأن قريشاً
قد ساندت محمداً لاستبقاء هذه السيادة وبسطها على غيرهم، ولكنه - سبحانه - جعل
مقام النصر ينبع من المدينة المنورة.
إنّ الصرخة أولاً جاءت في أذن السادة ثم التف حولها المستضعفون في الأرض الذين لا
يستطيعون حماية أنفسهم، ثم هاجروا وقوّاهم الله من بعد ذلك على الأقوياء.
إننا نجد كل داع إلى الله يأتي إنما يريد استبقاء خير النبوات حتى لا يأتي الران
على القلوب، وإن استبقاء هذا الخير يغضب منه الجبابرة والمنحرفون الذين يريدون
السيادة على العالم بفكرهم. والداعية إلى الله الذي لا تجد له عدواً يصيبه بالسوء
حظه من ميراث النبوة ضعيف، والداعية الذي له أعداء له من ميراث النبوة الشيء
الكثير.
والكافرون بعيسى عليه السلام عندما رأوا قوة الآيات التي جاء بها عيسى عليه
السلام. قالوا: } إِنْ هَـاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ { وهذا يعني أن معجزات عيسى
عليه السلام قد أحفظتهم وأغضبتهم وأحنقتهم وملأت مشاعرهم بالخيبة. إنه قول من قوم
يكرهون منهج الحق، وعلى ذلك يكون كفر الكافر نعمةَ يدعم بها الحق الداعي إليه؛ لأن
ذلك يحفزه ويدفعه إلى الدفاع عن دين الله، فمقاومة الإيمان تظهر قوة المؤمن
بالعقيدة التي يؤمن بها.
ويقول سبحانه وتعالى من بعد ذلك: } وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ... {
(/772)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
وكلمة الحَوَارِيّ مأخوذة من المحسات. فالحُوَّارَي تطلق على الدقيق النقي الخالص.
وأطلقت على كل شيء نقي بصفاء خالص، و " الحَوَاري " هنا تعني المخلص
والمحب لمنهج الخير. وسبحانه يقول: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } والوحي بمعناه العام هو
الإعلام بخفاء؛ أي أن الحق ألهمهم أن يؤمنوا برسالة عيسى المبلغ عن الله، أي أعلمهم
بخواطر القلب التي أعلم بها أُمَّ موسى ان تلقى ابنها في اليم ليلقيه اليم إلى
الساحل، وهو غير الوحي للرسول، فالوحي للرسول هو الوحي الشرعي بواسطة رسول مبلغ عن
الله هو سيدنا جبريل عليه السلام، أما وحي الله إلى أم موسى أو إلى الحواريين فهو
استقرار خاطر إيماني يلتفت بعده الموحى إليه ليجد الواقع يؤيد ذلك. وعندما لا
يصادم إلهام القلب أمراً واقعاً ولا يجد الإلهام ما يصادمه في نفس الإنسان، فهذا
لون من الوحي، أي هو إعلام بخفاء، كأن يتوقع الرجل مَقْدَم صديق من سفر، أو لوناً
من الطعام يشتهيه فيجده على المائدة.
إذن فالإلهام وارد من الله لخلق الله مادام لا يصادم شيئاً في النفس أو في الواقع؛
لأن الإلهام الذي يقابل صداماً ليس من الله. فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف
القول غرورا.
إن الله أوحى للحواريين أن يؤمنوا به وبرسالة عيسى عليه السلام. وبمجرد مجيء عيسى
وسماعهم أنه رسول من الله أعلنوا الإيمان به وصاروا من خلصائه. وساعة نرى: "
إذ " فلنفهم أن معناها تذكر وقت الحدث الذي قال فيه الحواريون: نحن آمنا
بعيسى نبياً من عند الله وأشهدوه أنهم مسلمون.
ومن بعد ذلك يقول الحق: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ... }
(/773)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
كان عيسى قال لهم: عليكم بتقوى الله فلا تسألوه هذه الآية، لأنكم مادمتم قد أعلنتم
الإيمان فأنتم لا تقترحون على الله آية لإثبات صدق رسوله، وحسبكم ما أعطاه الله لي
من آيات لصدق رسالتي. وعليكم ان تلزموا أنفسكم بالمنهج الذي أعلنتم أنكم مؤمنون
به.
وقد توقف العلماء عند قولهم: { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } وتساءل العلماء: كيف
كان هذا القول، وخصوصاً أن معناه الظاهري: أيقدر ربك؟ وكيف للحواريين أن يقولوا
ذلك بالرغم من أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام بأنهم مسلمون؟ وقال العلماء أيضاً: إن
من يتكلم في اللغة عليه أن يكون متبصراً باشتقاقات الألفاظ واستعمالات الألفاظ
وسمات الألفاظ، وكلمة " يستطيع " بمعنى يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى
أجاب، وكأن معنى سؤالهم: أيستجيب الله وينزل علينا مائدة من السماء؟ و "
استطاع " تقابل: " استجاب " وسبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء،
وهو الذي يطيعه كل شيء، وهو الذي يرضخ لحكمه كل شيء، والحق لا يطلب، إنما يأمر
مصداقاً لقوله تعالى:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ
كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].
الله سبحانه وتعالى لا يقول لشيء كن إلا ويعلم أنه يطيع، ولا يأمره الحق أن يطيع
إلا ويكون استعداده الانفعالي أنه حين يسمع قول الله: " كن " فلازم أن
يكون، والمثال على هذا هو قوله سبحانه وتعالى:{ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ *
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }[الانشقاق: 1-2].
إنها لن تنتظر إلا سماع الأمر فقط. وساعة تسمع الأمر فهي تنفعل، ومعنى تنفعل أي
تطيع. وكل الكون مطيع لخالقه سبحانه وتعالى. أو يكون معنى هل يستطيع: هل يفعل.
وذلك من باب التعبير عن المسبب بالسبب؛ إذ الاستطاعة من أسباب إيجاد الفعل. وقيل
المراد: هل تستطيع سؤال ربِّك من غير صارف ولا مانع يمنعك عن سؤاله؟ فقد قرأ
الكسائي وغيره هل تستطيع ربَّك بنصب كلمة (ربَّك) وأصلها هل تستطيع سؤال ربَّك،
فحذف المضاف (سؤال) وأقيم المضاف إليه وهو كلمة رب مقامه فنصب. وقال الزمخشري: ما
وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم، وقولهم: (هل يستطيع) كلام لا
يتأتَّى مثله من مؤمنين معظمين لربهم.
وقال الحواريون ما جاء به القرآن الكريم: { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ... }
(/774)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
وكأنهم أرادوا أن يتشبهوا بسيدنا إبراهيم خليل الرحمن عندما سأل الله عن كيفية
إحياء الموتى ليطمئن قلبه. لقد آمنوا بعلم اليقين، ويريدون الآن الانتقال إلى عين
اليقين؛ لذلك سألوا عن المائدة التي صارت بعد ذلك حقيقة واضحة.
وهكذا نعرف أن هناك فارقا بين أن يؤمن الإنسان بذاته، وأن يشهد بالإيمان عند غيره.
فالذي يشهد بالإيمان عند غيره يحتاج إلى يقين أعمق.
ويخبرنا الحق بما قاله عيسى عليه السلام - وهو يختلف عن قولهم في هذه المائدة -
قال سبحانه: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... }
(/775)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
وقوله الحق: { مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ } إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة
في الأرض. والكون كلمة مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد
ويكدح.
والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي
إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت، فتأخذ
الزوجة طيراً فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات.
إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله. وكلمة
" مائدة " لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام. أما إن كانت بغير طعام
فنطلق عليها " خواناً "؛ لأن " المائدة " مأخوذة من مادة
" الميم والألف والدال " والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من
أشياء. أو هي تعطي مما عليها من أشياء. فالمائد هو المُعْطَي.
وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة
لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويطلب من فضل ربوبية
الرازق أن يرزقهم، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين.
والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن
الله، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى. إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج.
أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى
عن الله مباشرة، أما الحواريون فليسوا كذلك، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ عن
الله وتم ذلك بواسطة رسول، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغة في سلم الإيمان
درجة أعلى. إنه يتلقى عن الله، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو
ربه.
إنه رسول مُصطفى مُجتَبَى؛ لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول: " اللهم
ربنا " و " اللهم " هي في الأصل " يا الله " ، وعندما
كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها، فصارت: "
اللهم ". وكأن هذا اللفظ: " اللهم " تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة
الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه،
فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء.
إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية: " اللهم "
فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله. وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد. أما
تجليات كلمة " رب " فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب، والفارق بين عطاء
الألوهية للخلق، وعطاء الربوبية، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد.
والعابد يطيع المعبود فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، أما عطاء الربوبية فهو سبحانه
المتولي للتربية للأجسام والعقول والمواهب والقلوب، والرب هو رب للمؤمن وللكافر.
ويتولى الرب تربية الكافر على الرغم من إنكار الكافر للألوهية. فسبحانه يربي
الماديات التي تقيم حياته.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء الكافرين:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[لقمان: 25].
والحق سبحانه يبلغ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عمن خلق السموات
والأرض، ولن يجدوا إجابة على ذلك إلا قولهم: إن الله هو الخالق. وهي إجابة الفطرة
الأولى. ونرى في حياتنا أكثر من مثل على ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يسأل
الأطفال عن شيء من الذي أحضره؟ فإننا نجد الإجابات تتسلسل إلى أن تصل إلى أن معطي
كل شيء هو الله، فإن سأل الطفل أمه: ماذا سنأكل؟ وتجيب الأم - على سبيل المثال -
سنأكل بامية مثلاً. ويسأل الطفل: من أين؟ تجيب الأم: اشتراها والدك من بائع الخضر.
ويسأل الطفل: ومن أين جاء بها بائع الخضر؟ تقول: الأم. من تاجر في السوق. يسأل
الطفل: ومن أين جاء بها التاجر؟ تجيب الأم: من الفلاح الذي حرث الأرض وبذر فيها
بذور البامية. يقول الطفل: من الذي خلق الأرض وأنبت النبات؟ تقول الأم: إنه الله
ربنا خالق كل شيء.
لقد وصلت الأم بحوارها مع الطفل إلى عطاء الربوبية الذي يستوفي فيه المؤمن
والكافر، والمؤمن هو الذي يأخذ بجانب عطاء الربوبية عطاء الألوهية أيضاً، وهو
التكليف. فعطاء الألوهية يعطي المؤمن عطاء الربوبية مضافاً إليه العطاء الذي لا
ينفذ، إنه يعطي المؤمن زمانا لا يموت فيه ونعمة لا يتركها ولا تتركه، ويأخذ المؤمن
بالمنهج يقين الإشراق والإقبال على العمل في ضوء منهج الله.
لقد قال عيسى ابن مريم داعيا الله: } اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا
مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ { وألزم عيسى نفسه بنداء الألوهية أولاً معترفاً
بالعبودية لله ملتزماً بالتكليف القادم منه ثم جاء بنداء الربوبية. فيا من أنزلت
علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا نحن ندعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء.
وأخذ نداءه زاوية القيم ثم زاوية المادية وهي الرزق، لكن الحواريين قدموا بشريتهم
فطلبوا من المائدة الأكل والطعام فقالوا: (نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن
قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين)، أما عيسى ابن مريم بصفائية اختياره رسولاً
فقد أخر الطعام عن القيم فقال: } اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً
مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ
وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {.
صحيح أن الرزق يمس الأكل، ولكن الرزق ليس كله أكلاً. فالرزق هو كل شيء تحتاج إليه
وتنتفع به، فالأكل رزق، والشرب رزق، والملبس رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، وكل شيء
تنتفع به هو رزق من عند الله، ولذلك جاء عيسى بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل
وتتسع لغيره. ويجيب الحق على دعاء عيسى ابن مريم: } قَالَ اللَّهُ... {
(/776)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
وساعة يقول الحق: " إني " فهو يستخدم نون الإفراد. ونعلم أن هناك
أسلوبين لحديث الحق سبحانه عن نفسه. إنه ساعة يتحدث عن وحدانيته يأتي بنون الإفراد
فيقول سبحانه:{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ }[طه: 14].
وساعة يتحدث سبحانه وتعالى عن سيال القدرة الشاملة العامة لكل صفات الكمال التي
تتطلب إيجاد الشيء يأتي بنون التعظيم فيقول:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
وهو سبحانه أراد هنا أن يعطينا معنى التوحيد فقال: { قَالَ اللَّهُ إِنِّي
مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ }. ذلك أن المائدة ستنزل من السماء، ولا يقدر على ذلك إلا
الله وحده سبحانه وتعالى.
ويتبع الحق ذلك بقوله: { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ
عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ }. فسبحانه يرسل رسله بعد
أن يجتبيهم، وإياك أيها العبد أن تقول: إن فلاناً بذاته من الرسل أفضل من فلان؛
لأن الحق هو الأعلم برسله: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }.
وعلينا أن نتبع الرسل، وعندما حاول بعض من أهل الجاهلية التعجب من شأن القرآن الذي
نزل على محمد صلى الله عليه وسلم كما يخبر القرآن الكريم في قوله تعالى:{
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[الزخرف: 31-32].
وقال أهل الجاهلية: لماذا لم ينزل القرآن على رجل عظيم من مكة أو من الطائف؟!
قالوا ذلك استهزاء بشأن محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحق سبحانه وتعالى في ذلك
القول الفصل، فليس لأحد أن يختار الرسول؛ لأن الرسول مُصطفى من الله، ولا يملك أحد
من البشر أن يختار رسولاً من أصحاب السلطان أو الجاه.
وسبحانه وتعالى يعد كل رسول الإعداد اللائق لمهمته، ومقام الرسالة النبوية هو
الأعلى في الدنيا والآخرة. والحق سبحانه - وهو المنظم لأمور خلقه - قسّم الموّاهب
- رحمة منه - فيما بين العباد ليتساندوا ويتآزروا ويحتاج كل منهم إلى عمل الآخر.
وحين يرسل سبحانه رسولاً فهو يختار الآية المناسبة له وللعصر الذي جاء فيه، وما
اقترح قوم آية وجاء بها الله، ثم لم يؤمن الذين اقترحوا الآية بعد مجيئها إلاّ
أنزل الحق سبحانه بهم العذاب الأليم. وحين يطلب اتباع الرسول آيات معينة، إنما
يحمل هذا الطلب في طياته التفلّت والتحلل من الالتزام بمنهج الله، كأن الذين
يطلبونها يصرون على الكفر بالرسول على الرغم من طلبهم الآية، ولذلك يقول الحق
سبحانه:{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }
[الإسراء: 59].
وكذلك اقترح قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآيات غير آيات القرآن،
على الرغم من أن آيات القرآن تقنع كل من له عقل يفكر وقلب يحس، وسنة الله مع الذين
يطلبون الآيات ثم لا يؤمنون بها واضحة وهي العذاب الشديد، ومثال ذلك قوم ثمود
الذين طلبوا ناقة للدلالة على صدق رسالة صالح عليه السلام، وعندما حدثت المعجزة
كفروا بها فعاقبهم الله شر العقاب.
وبعض من قوم الرسول صلى الله عليه وسلم غالوا في طلب آيات غريبة:{ وَقَالُواْ لَن
نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ
لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا
تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ
إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 90-93].
وكان محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً بآله وعشيرته، لذلك لم يطلب من الحق آيات غير
التي أنزلها الله عليه، وعيسى عليه السلام دعا بأدب الرسل أن ينزل المائدة. واختلف
العلماء أأنزل الحق سبحانه وتعالى المائدة أم لم ينزلها؟
إن هناك من تمسكوا بقول الحق سبحانه: } قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا { ،
وهناك من قالوا: إن الحق سبحانه وضع شروطاً لنزول المائدة، وهو إنزال العذاب بهم
إن لم يؤمنوا، فتراجعوا عن طلب إنزالها ومن قالوا بنزول المائدة اختلفوا في
مواصفاتها، فمنهم من قال: إن المائدة نزلت وعليها سمكة مشوية من غير فلوس وقشور
ولا شوك فيها. ذلك أنها مائدة من السماء ومعها خمسة أرغفة، وعلى كل رغيف شيء مما
يعرفون: رغيف عليه عسل، وآخر عليه زيتون، وثالث عليه سمن، ورابع عليه جبن، وخامس
عليه قديد من اللحم.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: } وَإِذْ قَالَ اللَّهُ... {
(/777)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
ونعرف أن هذا هو الحوار الذي سوف يدور بين الحق وبين عيسى ابن مريم عليه السلام
يوم يجمع الحق سبحانه وتعالى الرسل:{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ
مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ
}[المائدة: 109].
وقد يقول قائل: ولماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي؟:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ } [المائدة: 116].
وكلنا يعرف أن لكل حدث زمناً ومكاناً. وزمان الحدث هو يوم القيامة. ومكان هذا
الحدث في ساحة المشهد والحشر، وسبحانه هو خالق كل زمن وكل مكان، وله أن يتحدث عن
أي أمر بأي صيغة شاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل، فقد أوجد كل
شيء من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، وبيده أمر كل ما خلق ومن خلق. وهو أزلي قيوم، أما نحن
بنو الإنسان فأمر الزمن يختلف، الزمن بالنسبة لأفعالنا هو واحد من ثلاثة؛ ماضٍ: أي
أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم؛ مثل قولي " قابلني زيد " ، ومعنى
ذلك أن الفعل قد تم وصار محققاً.
وحاضر: أي أن يكون الحدث في حالة وقوعه، أي يحصل الآن مثل قولي: " يقابلني
زيد " وأنت تقصد الحال أي أنه يقابلني الآن.
إن معنى ذلك أن العين ترى زيداً وليس مع العين أين. ومستقبل: أي أن يكون الحادث
سوف يقع مقولي: " سيقابلني زيد ". وهنا لا يملك الإنسان نفسه أن يحدث
منه الحدث، ولا يملك ألا يقع على الإنسان الذي سوف يقابله أمرٌ قد يمنعه من إتمام
الحدث، ولا يملك الإنسان أن يظل السبب للمقابلة قائماً. إذن فمع المستقبل لا يصح
للإنسان أن يحكم بشيء، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث. والذي يملك هذا هو
الحق سبحانه وتعالى وحده. ولذلك يعلمنا القرآن شرف الصدق في الكلمة بقوله تعالى:{
وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ
اللَّهُ }[الكهف: 23-24].
وعلى الإنسان أن يحترم قدرته المحدودة، وان يتذكر دائماً قدرة الحق سبحانه وتعالى
عليه. وهذا لا يعني أن الحق سبحانه يمنعنا من التخطيط للمستقبل، لا، بل يطلب منا
أن نخطط وأن ندرس كل الاحتمالات، وعلينا أن نقول: " إن شاء الله "؛
لأننا بذلك نقدم مشيئة من يملك كل أمر وهو الله - سبحانه وتعالى-.
وقد حاول بعض المستشرقين من أعداء الإسلام أن ينفذوا بسمومهم إلى عقول المسلمين
بالتساؤل عن عدم ترتيب الأفعال على نسق حدوثها في بعض من آيات القرآن، فقال قائل
منهم: كيف يقول الحق - سبحانه -:
{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا
يُشْرِكُونَ }[النحل: 1].
وهذا خبر عن يوم القيامة فكيف يأتي به الله على صيغة الماضي، ثم يقول بعد ذلك: }
فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ {؟ واستعجال الشيء لا يكون إلاّ إذا لم يكن قد حدث، فكأن في
الكلام تناقضاً، ذلك لأنه يقول: أتى، ويقول بعد ذلك: فلا تستعجلوه؟
ونقول: إن الذي يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنساناً مثلك محكوماً بأزمانه.
بل المتكلم هو صاحب كل الأزمان وخالقها. وعندما يقول سبحانه: } أَتَىا أَمْرُ
اللَّهِ { فمعنى ذلك أن أمر الله آتٍ لا محالة، لأنه لا قدرة تخرج مراده على ألاّ
يكون. وأي فعل من الحق سبحانه وتعالى إنما يتجرد عن ملابسات الزمان وعن ملابسات
المكان، فإن كنا نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى:{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَّحِيماً }[النساء: 100].
فليس معنى ذلك أن مغفرة الله ورحمته قد مضى زمانها وانقضى وقتها. ولكن لنقل: كان
الله غفوراً رحيماً ولا يزال غفوراً رحيماً، فسبحانه وتعالى غفور ورحيم قبل أن
يوجد من يغفر له ويرحمه، ومن باب أولى يكون غفورا رحيما بعد أن يوجد من يستحق
المغفرة والرحمة. وسبحانه منزه عن أن تعتريه الأحداث فيتغير؛ لأن الزمن مخلوق من
الله، فلا تقل متى أو أين؛ لأنهما به وجدا. والحق يأتي بالماضي لأنه متحقق الوقوع،
ليثبت حدوث أمر لم يحدث بعد، ذلك لأن الله إذا قال عن شيء إنه سيحدث فلا بد أن
يحدث.
ويؤكد الحق سبحانه في أي كلام من عيسى ابن مريم على أنه " ابن مريم "
وهنا يسأل الحق عيسى - عليه السلام -: } أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ
إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ { ونعرف أن السؤال إنما يأتي دائماً على وجهين:
إما سؤال يعرف به السائل ما كان يجهله فيريد أن يعلمه من المسئول، كقول القائل:
أقابلك فلان أمس؟ وإما أن يأتي السؤال لا ليعلم السائل من المسئول، ولكن ليقرر
السائل المسئولَ.
ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - يسأل التلميذ أستاذه ليتعلم منه وليخبره الأستاذ
بعلم جديد وخبر جديد. وأيضاً يسأل الأستاذ التلميذ ليقرره بالحقيقة ويوافقه عليها
لتستقر لدى التلميذ. وسؤال الله عيسى من النوع الأخير؛ ليكون ذلك حجة على من قال
بألوهية عيسى أو بنوته لله. وحاول بعض المستشرقين أن يشككوا في القرآن فقالوا: إن
هناك تناقضاً في القرآن - والعياذ بالله - واستندوا على ذلك بقول الحق:{
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24].
أي أن الحق يقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويعتقد، ولكنه سبحانه يقول في موضع آخر
من القرآن الكريم:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
}[الرحمن: 39].
فهل معنى ذلك أنهم لن يُسألوا؟ لا، بل سوف يُسألون ليقرروا ما فعلوا لا ليعلم الله
منهم ما فعلوا، فهو سبحانه عليم بكل شيء.
وهؤلاء المستشرقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين، وجه ليعلم
السائل، ووجه ليقرر المسئول، وسؤال الحق للناس يوم القيامة ليقرروا ما فعلوا وكان
منهم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، وليس سؤال الحق سبحانه هو سؤال من يرغب في أن يعلم
فسبحانه عليم بكل شيء، وعلى الإنسان أن يحتفظ بالمقام الذي وضعه فيه ربه، وكذلك
كان عيسى ابن مريم. وكذلك يكون سؤال الله لعيسى، إنه لتقريع وتأنيب وتوبيخ من
قالوا عن عيسى ما لم يبلغهم إياه.
إن عيسى عليه السلام لم يبلغهم ولم يطلب منهم أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون
الله؛ لأن عيسى ابن مريم، إنما يبلغ ما أُوحي إليه من ربه فقط، ولهذا تأتي إجابة
عيسى رداً على أي تزَيُّد من الأتباع: } قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ { وساعة نسمع } سُبْحَانَكَ { فلنعرف أنها إجمال
التنزيه لله، وهو تنزيه أن يشابهه خلق من خلق الله، فلله وجود، وللإنسان وجود، ولكن
إياك أيها الإنسان أن تقول: إن وجودي كوجود الله؛ لأن وجود الله ذاتي، ووجودك غير
ذاتي وكل ما فيك موهوب لك من الله؛ لذلك فلا غناك مثل غنى الله، بل غناه ذاتي
وغناك موهوب منه سبحانه، ولا أي صفة من صفاتك كصفات الله، فله سبحانه مطلق القدرة
والقوة، وعليك أن تأخذ كل شيء يتعلق بالله في نطاق " سبحانه " "
وليس كمثله شيء ".
وكذلك يكون تنزيه عيسى لربه وخالقه: } سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ
مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ { فعيسى ابن مريم يعلم أن الرسول المصطفى من الله ليس له
أن يقول إنه إله. ويرد عيسى على ذلك بقضية متفق عليها: } إِن كُنتُ قُلْتُهُ
فَقَدْ عَلِمْتَهُ { لأن الكل متفق على أن الله يعلم كل ما يبدر من العباد من سلوك
وأقوال وأفعال } يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ {. والكل
يعلم ارتفاع الحق وتنزهه عن أن يوجد له معلوم جديد لم يعلمه من قبل. والكل يعلم -
كذلك - أن الله يعلم خفايا الصدور؛ لذلك يقول عيسى: } تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي
وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ { ويقرر أن الحق العليم بكل شيء يعلم أن ذلك لم
يخطر له على بال، وهذه هي العلة في إيراد ثلاث صور في هذه الآية.
الصورة الأولى هي قوله سبحانه وتعالى: } سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ
مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ { وهذا تنزيه من عيسى لربه، والصورة الثانية هي قول عيسى:
} إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ { ، والصورة الثالثة هي: } تَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ {. إذن فلا شيء من عند عيسى، وقد
يسأل سائل: وماذا يكون في النفس؟ الذي يكون في النفس هو ما أسِرُّ به ولم يظهر؛
لأن النفس تُطلق مرة ويراد بها الذات التي تضم الروح والجسد معا، وعندما تُطلق على
ذات الله فنحن ننزهها عن أن تكون أبعاضاً، ولكنها ذاته المأخوذة في نطاق التنزيه.
والمثال هو قول الحق:{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىا نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }[الأنعام:
54].
وهكذا يكون فهمنا لمجيء كلمة " نفس " منسوبة لله، إنه المنزه أن يكون
مثلنا، فلله وجه ولنا وجه، ولكن وجه الله نفهمه في نطاق } لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ { وكذلك يد الله وكذلك كل صفات الله. ونعلم أن لله أسماء أعلمنا ببعضها،
وعَلَّم بعضاً من خلقه بعضها، واستأثر ببعضها لذاته. وهناك بعض من الصفات لله تأتي
لمجرد المشاكلة، كقول الحق:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ }[النساء: 142].
ولا نقول أبداً: إن الله مخادع، ولكن الصفة هنا جاءت للمشاكلة لذكرها في مقابلة
يخادعون الله. ولذلك لا نأخذ منها اسماً لله، بل إنه جاء للرد على ما يبدو من
أعداء الله.
ويختم عيسى ابن مريم قوله: } إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ { هي مبالغة في
ذات الحدث، ومبالغة في تكرير الحدث، فهو سبحانه يعلم غيب كل واحد من خلقه وغيب كل
ما في كونه، وهكذا جاء القرآن برد عيسى عليه السلام وهو رد يستوعب كل مجالات
الإنكار على الذين قالوا مثل هذا القول:
ويتابع القرآن على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ما يناقض ما قاله بعض من أتباعه
فيقول: } مَا قُلْتُ لَهُمْ... {
(/778)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
لقد عرض سيدنا عيسى عليه السلام - من خلال قوله لربه تبارك وتعالى - المنهج الذي
جاء به على الناس جميعاً وبلغه تمام البلاغ، فقد أبلغ أنه عبد الله وأنه لرسوله،
ومادام الحق علاّم الغيوب فهو أعلم بكل شيء حتى بما في النفس، كأنه يثبت أيضاً أن
نفسه لم تحدثه بأي خاطر من تلك الخواطر. ويعلن أنه لم يبلغ إلا ما أمر به ربه.
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ } [المائدة: 117].
والشهيد هو الرائي الذي لا عمل له في تحريك المشهود إلى غير ما شهده.
ويقول عيسى ابن مريم عليه السلام: { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْْ } وأمر توفيه الحق لرسالة عيسى ورفعه إليه، قد ذكرناه من
قبل في خواطرنا ولكن أضيف الآن بعضاً من اللمحات؛ لأني أرى أنّ من حق كل قارئ أو
متلق لهذه الخواطر أن يجد الخلاصة الملائمة التي تغنيه عن الرجوع إلى ما سبق من
قول في هذا الأمر، وذلك حتى تتصل المعاني في ذهن القارئ.
لقد كان لميلاد عيسى عليه السلام ضجة، وكذلك كان لمسألة توفِّي الله له ضجة. ولقد
شبه الله لقتلة عيسى أنهم قتلوه، فعندما أرادوا أن يقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي
باب في باب، وهذا نظام البيوت القديمة حيث يوجد باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة
وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد. وفي سقف هذا البيت فتحة.
وعندما دخل رجل يدعى " تطيانوس " طالباً لعيسى عليه السلام نظر عيسى
لأعلى ووجد شيئاً قد رفعه، واستبطأ القوم تطيانوس وخرج عليهم من بعد ذلك،
فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بعد أن ألقى الله شبه عيسى على تطيانوس. أو أن عيسى
حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال عيسى للحواريين: أيكم يُلقى شبهي عليه
وله الجنة؟. وكان كل حواري يعلم أنه لا رسالة له مثل عيسى عليه السلام. فماذا إذن
يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟. وتقدم " سرخس " فألقي عليه شبه
المسيح عليه السلام وقتل اليهود سرخس. أو أن الذين ذهبوا لقتل عيسى وعرفوا أنه رفع
فخافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا به، ولهذا جاء القتلة بشخص
وقتلوه، أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا عيسى لليهود وتيقظت في نفسه ملكة التوبة
فقدم نفسه بدلاً وفداءً للرسول.
ومسألة التوفي - كما نعلم - هي الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل، ونحن -
المسلمين - نعرف أن الحق رفع محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسراء والمعراج إلى
السموات وعاد إلينا مرة أخرة ليكمل رسالته؛ لذلك نصدق أمر رفع عيسى وأن الله توفاه،
أي استرده كاملاً دون نقض للبنية، وأنه سيعود مرة أخرى ليصلي خلف مؤمن بالله
وبمحمد رسول الله.
وإن أمر الرفع في الإسلام مقبول. فقد رفع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعراج،
ودار بينه وبين إبراهيم عليه السلام حوار، وكذلك دار حوار بينه وبين يحيى عليه السلام،
وآدم عليه السلام وغيرهم من الأنبياء، وفرض الحق الصلاة على أمة المسلمين في تلك
الرحلة.
نحن - إذن - نصدق تماماً مسألة صعود الإنسان بشحمه ولحمه إلى السماء كأمر وارد
وحاصل، أما طول المدة أو عدمها فذلك لا ينقض المبدأ.
أما مسألة ارتباط نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض بقيام الساعة، فالنصوص في هذه
المسألة من القرآن الكريم محتملة وغير قطعية الدلالة، وقد وردت في السنة النبوية
المطهرة، ولكنها غير معلومة من الدين بالضرورة فلا نكفر من يتأبى عليه فهمها، وقد
أراد الحق سبحانه الرحمة بالخلق؛ لذلك فكل شيء يقف فيه العقل ولا يزيد به حكم من
الأحكام يأتي به الله في أسلوب لا يسبب الفتنة. فإن صدقنا أن عيسى رفع فلن يزيد
ذلك علينا حكماً ولن ينقض حكماً، ولذلك جاء الحق سبحانه بمسألة الإسراء بنص قطعي،
أما مسألة المعراج فلم تأت نصاً في القرآن بل جاءت التزاماً لأن الحق سبحانه قال:{
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىا * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىا * عِندَهَا
جَنَّةُ الْمَأْوَىا }[النجم: 13-15].
وهكذا فالإسراء آية أرضية، والمعراج آية سماوية. والآية الأرضية يمكن أن يقيم رسول
الله الدليل عليها، وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ووصفه
لهم بقوله سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
}[الإسراء: 1].
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف القوافل التي رآها في طريق العودة، إذن كان
الإسراء آية أرضية، أما الآية السماوية وهي المعراج فجاءت التزاماً وكذلك أمر رفع
عيسى عليه السلام، فمن يرى أن ذلك جاء من طلاقة قدرة الله فهو يصدق ذلك. ومن يقف
عقله نقول له: إن وقوف عقلك لا يخرجك عن الإيمان واليقين. وعندما نتأمل بالدقة
اللغوية كلمة " توفيتني " نجد " توفاه " قد تعني أماته، فالحق
سبحانه يقول:{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ
}[السجدة: 11].
والحق سبحانه وتعالى يقول أيضاً:{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىا عَلَيْهَا
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَىا إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى }[الزمر: 42].
إنه سبحانه يسمي النوم وفاة، وسماه - أيضاً - موتاً.
وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض. ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة، والذي
ينام إنما يغيب عن حس الحياة، إذن فمن الممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم. ويقال
أيضاً عن الدِّين توفيت دَيني عند فلان أي أخذت دَيني كاملاً غير منقوص. وكذلك أمر
قتل المسيح قال فيه الحق جل وعلا القول الفصل:{ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ
وَلَـاكِن شُبِّهَ لَهُمْ }[النساء: 157].
ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضاً، فالحق يقول:{ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ }[آل
عمران: 144].
فالموت خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية
فتذهب الروح.وقد قال الحق على لسان المسيح: } فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي { أي أخذتني
كاملاً غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع. ونعلم أن كل ذلك سيكون مجالاً للحوار
بين عيسى ابن مريم والحق سبحانه يوم المشهد الأعظم جاء به القرآن لنا ليخبرنا
بالذي يُثَبِّت صدق الإيمان.
إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه: إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم،
ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله، فالحق سبحانه شهيد
دائماً ورقيب دائماً، ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على
أن يشهد ويغير ويمنع. ويخبرنا الحق من بعد ذلك بما جاء على لسان عيسى ابن مريم في
قوله الكريم: } إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ... {
(/779)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
ولقائل أن يقول: أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح؟. لقد ادّعى بعض أتباع عيسى أنهم
أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة
في هذه الآية.
ونقول: إن عيسى لم يقل: " يا رب اغفر لهم " ولكنه قال: { إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول
من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة
تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد الله باختيارهم.
إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم
عباد الله. إذن فالخلق نوعان: عباد الله ذهبوا لله إيماناً ومحبة وطاعة، والنوع
الثاني هم العبيد الذي يُقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله.
بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادراً على
أن يخلق خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق
ذلك مع الملائكة.
لكن قدرة القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة
تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك
آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به. إن كل الوجود - ما عدا
الإنسان - مقهور، ولا يقدر على المعصية: الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب
وكل ما في الكون مقهور لله.
إذن لو أراد الله خلقاً مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به،
ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله
مختاراً بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه
ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف -
سبحانه - أحداً بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف
من لم يبلغ رشد العقل؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط: الأول:
أن يوجد العقل، والثاني: أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد، والثالث: ألا
تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما.
وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف. وهم: المجنون وغير ناضج العقل
لأنه لم يبلغ الرشد، والمقهور بفعل فاعل. وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على
الطاعة والعقاب على المعصية، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة، ومن دخل التكليف طائعاً
فهو من عباد الله.
ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا
التكاليف التي خيرّوا فيها.
إذن فالعبادة هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر.. أي
بين المراد لله وغير المراد لله. فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من علمه
بكفرهم: } إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ {؟. ونقول: إن معنى "
العباد " و " العبيد " الذي شرحناه سابقاً هو وضع الإنسان في
الدنيا وما يكون عليه فيها، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه
السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عباد طائعون.
وعندما نستقرئ كلمة " عباد " في القرآن نجد أن العباد هم الصفوة
المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماماً. ومثال ذلك
قول الحق سبحانه:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىا الأَرْضِ
هَوْناً }[الفرقان: 63].
أنه يأتي هنا بالخصال الجميلة لهذه الصفوة من العباد. والشيطان نفسه يعلن عدم
استطاعته إغواء العباد المخلصين كما يقرر القرآن الكريم:{ إِلاَّ عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 83].
أما في الآخرة فكلنا عباد، وها هوذا الحق سبحانه يخاطب الذين أضلوا غيرهم بقوله
تعالى:{ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي }[الفرقان: 17].
إن الكل عباد لله يوم القيامة، والكل ينفذ مراد الله، ولا ولاية لأحد على أي شيء
من أبعاضه وجوارحه، فالعين التي كانت مسخرة للعبد في الدنيا تأتمر بأمر العبد
فيختار أن يرى الحلال أو يرى الحرام، هذه العين تسترد حريتها من صاحبها فلا ولاية
له عليها في اليوم الآخر، وكذلك اليد واللسان والجلد والقدم، وكل الأبعاض. وتكون
النفس الإنسانية في الدنيا كقائد لكل الأبعاض والجوارح تنفذ أوامر الإنسان سواء
للخير أو للشر، وسواء للطاعة أو للمعصية. لكن هذه الأبعاض والجوارح تنطلق يوم
القيامة لتشهد على كل ما فعل الإنسان، فليس لأحد مراد غير مراد الله:{ لِّمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
لقد انتهت مرادات البشر وبقي مراد الله فصار الكل عباداً لله. وعلى هذا فليس هناك
إشكال في قول عيسى: } إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ {. ونعلم أيضاً أن كلمة
" عبيد " تشملنا كلنا فيما نحن غير مخبرين فيه مثل إرادة التنفس أو
ميعاد الميلاد أو ميعاد الموت، ولكن المؤمنين يرتقون من " العبيدية "
إلى " العبادية " بتنفيذ منهج الله، أما الكافرون والعصاة فهم يعصون
الله بما لهم من اختيار ويسيرون في درب العصيان معاندة لمنهج الله. وحتى يثبت الحق
لنا جميعاً أن الكافرين مجرد عبيد فهو يصيبهم بالمرض والفاقة والآلام النفسية
العميقة ولا يجرؤ واحد منهم أن يصادم مراد الله في هذه الأحداث التي يجريها عليهم.
ولذلك فالمؤمن يشكر الحق باختياره لأن الله حماه بأدوات الاختيار وجوداً ونضجاً
وعدم إكراه.
ولنا أن نلحظ أننا كلنا في يوم القيامة - كما قلنا من قبل - نصير عباداً لله فلا
مراد لأحد فينا على أي شيء، وكل المراد يكون لله، وقد أورد الحق سبحانه ما جاء على
لسان عيسى عليه السلام فقال: } إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { وهذا التذييل لكلمات
عيسى ابن مريم لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله
وأشركوا به، فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على أمره ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي
هؤلاء الناس قوة من دون الله، فهو القادر العزيز، إن شاء غفر لهم فلا راد لمشيئته.
وبعض السطحيين الذين يتلمسون الأخطاء في القرآن قالوا: ألم يكن الأجدر أن يقول
عيسى: إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؟. ونرد على هؤلاء السطحيين فنقول: إن كل
كلمة في القرآن جاذبة لمعناها، وكل معنى في القرآن عاشق لكلمته. ولذلك جاء التذييل
في هذه الآية بما يخدم طلاقة المشيئة في تعذيبهم أو في الغفران لهم، فإن عذبهم
فليس هناك قوة ثانية تستطيع أن تحميهم من عذابه؛ لأنه - سبحانه - عزيز، وإن غفر
لهم فلا توجد قوة أعلى تسأله: كيف غفرت لهم وقد كانوا كافرين؟
إذن فسبحانه لا يسأل عما يفعل لأنه عزيز حكيم. وأيضاً فقولهم: كان الأنسب أن يقول:
فإنك أنت الغفور الرحيم. نقول لهم: هي تناسب قوله } وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ {
ولكنها لا تناسب } إِن تُعَذِّبْهُمْ { فكان لا بد أن يأتي تذييل الآية بما يناسب
} إِن تُعَذِّبْهُمْ { وبما يناسب قوله تعالى: } وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ {.
والحق بعد ذلك يقول: } قَالَ اللَّهُ هَـاذَا يَوْمُ... {
(/780)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
نعرف أن هناك صدقاً ينفع يوم القيامة وهو الصدق الموصول بصدق الدنيا. وهناك صدق لا
ينفع يوم القيامة ومثال ذلك قول إبليس اللعين كما يحكي القرآن الكريم:{ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ }[إبراهيم:
22].
مثل هذا الصدق لا ينفع أحداً؛ لأن الآخرة ليست دار التكليف. لكن الصدق الموصول
بصدق الدنيا هو قول عيسى عليه السلام: { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ }.
ولذلك يقول الله في الصدق الموصول: { هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ }.
ذلك أن صدق الصادقين يوم القيامة هو صدق موصول بصدقهم في زمن التكليف وهو الدنيا
ويتلقون رضاء الله: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وإن تساءل
إنسان: كيف يرضى العبد عن ربه؟.
نقول: إن العباد المؤمنين عندما يعاينون الجزاء المعد لهم في الآخرة يمتلئون
بالحبور ويقولون:{ الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا
الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ }[الزمر: 74].
هذه الآية التي تتحدث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم بقوله: { ذالِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ } كأن هناك فوزاً سطحياً، وفوزاً عظيماً، والفوز السطحي: هو ما يعطيه
الإنسان لنفسه في دار التكليف من متعة قصيرة العمر والأجل فيبدو ظاهرياً وكأنه قد
فاز، وفي الحقيقة ليس هو الفوز العظيم لأن الندم سيعقبه، وأي لذة يعقبها الندم
ليست فوزاً؛ لأن الدنيا بكل ما فيها من نعيم هو نعيم على قدر إمكانات الإنسان
وتصوره، وهو نعيم مهدد بشيئين؛ أن يزول النعيم عن الإنسان، وكثيراً ما رأينا
منعمين زال عنهم النعيم، أو أن يترك الإنسان هذا النعيم بالموت، ونرى ذلك كثيراً.
أما النعيم الذي هو الفوز العظيم فهو النعيم الموصول الذي لا يمنعه أحد، ولا يقطعه
شيء. ويختم الحق سبحانه سورة المائدة بقوله: { للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ... }
(/781)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
والسماء والأرض هما ظرفان للوجود وللكائنات كلها من أبراج وكواكب وشمس وقمر ونجوم
وهواء وغمام وماء وحيوان وإنسان. فالأرض وهي المُلْك الأسفل الذي نراه وما فيه من
أقوات وحيوان وإنسان. والسماء وما تحوي وتضم من الملكوت الأعلى، هما جميعاً لله مِلْكا
ومُلْكاً فهو - سبحانه - الذي يملك كل شيء ويملك كذلك المالك للشيء. وقول الحق: {
للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ينطبق مع قول المسيح ابن مريم:{ إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[المائدة: 118].
أي أنه ليس لشيء من خلق الله أن يخرج عن مرادات الله، أما في الدنيا فقد جعل الله
أسبابها في أيدي الناس، رزق إنسان في يد إنسان آخر، ومَلَّك بعضنا أمر بعض، فهناك
مالك الطعام ومالك الثوب، ولكن ليس كل مالك مَلِكاً؛ لأن المَلِك هو الذي يملك
المالك، وهذه سنن الكون. وفي الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدين. فكأن الحق
أنهى هذه السورة بالحديث عن نهاية الحياة؛ لأنه سبحانه قد بدأها بالحديث عن أحكام
الله فقال:{ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ
}[المائدة: 1].
لقد تكلم سبحانه في الأحكام عن الصيد في البر والصيد في البحر وعن الحلال والحرام
من الأنعام وعن النكاح، وعن كل ما يتعلق بمسئوليات الحياة، ومَلَّكَ بعضنا أمر
بعض، لكن في اليوم الآخر فالمسألة مختلفة. فبدأ السورة بأمر هو { أَوْفُواْ
بِالْعُقُودِ }.
إن كل أمر ورد من الأمر الأعلى، فالمأمور يفعل أو لا يفعل. فهناك من الناس من يؤمن
ومن يعصي، ومعنى ذلك أن المأمورين لهم حرية الاختيار، فلو كان الأمر لا بد أن يفعل
دون اختيار لكان الآمر قد خلق الخلق وهم مفطورون على أن يفعلوا فيكون بذلك قد
قهرهم، لكن الآمر الأعلى ترك هذه الأوامر لاختيار البشر، وهم صالحون للطاعة
والوفاء بالعقود، وهم صالحون للمعصية.
لقد بدأ سبحانه السورة بمنطقة الاختيار في الإنسان التي خلقها الله لينشأ عنها
التكليف. وأوضح بعد ذلك أن للاختيار أمداً محدداً سينتهي، ويجمع الله الناس يوم
ينفع الصادقين صدقهم ويكون الأمر كله لله.
ويختم الحق السورة بقوله سبحانه: { للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي
أنه سبحانه يملك الكون كله، والكون - كما نعلم - مكون من أجناس متعددة. وأول جنس
في الكون هو الخادم الذي لا يُخْدَم هو الجماد، والجماد قد يكون ماءً أو جبالاً أو
حديداً، أو شمساً، أو قمراً، أو نجوماً، كل هذه جمادات، أي ليس لها حس. وهذه
الجمادات تخدم أول ما تخدم النبات. والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان.
هكذا يكون الجماد خادماً لكل ما يعلوه من نبات وحيوان وإنسان. النبات يخدم الحيوان
والإنسان.
والحيوان يخدم الإنسان. وكل هذه الأشياء التي تخدم الإنسان لا اختيار لها وكلها
مقهورة لخدمة الإنسان؛ فالشمس لم تغضب يوماً على البشر فلم تمدهم بحرارتها ولا
المطية تأبت على صاحبها.
والإنسان فيه قسمان: قسم مقهور للحق فلا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيه أو يسيطر
عليه مثل المرض أو الموت وهو في ذلك يشترك مع الحيوان والنبات والجماد، وقسم يكون
الإنسان فيه مختاراً وهو تطبيق المنهج.
إننا إذا نظرنا إلى الجانب الذي قهر فيه الحق الإنسان نجده لمصلحة الإنسان.
فالإنسان لا يختار أن يتنفس ولا أن يسري الدم في عروقه ولا أن تعمل كليتاه. إنه
مقهور في كل ذلك. ومن رحمة الله بالخلق أن جعلهم مسيّرين ومقهورين في هذه النواحي،
فلم يجعل تنفس أحد بيد صاحبه ولا جعل القلب يعمل بإرادة الإنسان. والإنسان - إذن -
يُخير في مسائل التكليف فقط. وكأن الحق يذكر الإنسان أن منطقة الاختيار هي عقد بين
المؤمن وربه؛ لأن الاختيار سيسلب من العباد يوم القيامة، ويكون كل العباد مقهورين
ويصير الكائن البشري مثل الجماد والنبات والحيوان. ولذلك يقول الحق سبحانه: }
للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىا كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ { [المائدة: 120].
إنّ الإنسان يوم القيامة سيصير بلا اختيار لأن الحق استعمل " ما " هنا
وهي تدل على الأشياء غير العاقلة أي التي لا اختيار لها. كأن العقل له عمل في
الدنيا وهو التمييز بين البدائل، أما في الآخرة فالكل متساوٍ أمام خالقه. وعلمنا
من قبل الفارق بين " مُلْك " و " ملكوت " وكلنا يقرأ قول
الحق:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
}[الأنعام: 75].
كأن الحق ينبهنا إلى أن العالم فيه ما يقع تحت الإحساس والإدراك، وفيه ما لا يقع
تحت الإحساس والإدراك. فالذي يقع تحت الحس والإدراك هو عالم المُلْك. والذي لا يقع
تحت الحس والإدراك هو عالم الملكوت. ولا نعرف عن عالم الملكوت إلا ما أخبرنا به
الله. وهناك في عالم الملك ما يخفيه الله عنا، وسبحانه وحده هو القادر على كل شيء،
والحق يطلب منا أن نعتبر بما في العالم المشهود من ظواهر. وله سبحانه مطلق العلم
بعالم " الملكوت " أي ببواطن هذه الظواهر غير المشهودة. و " الملك
" و " الملكوت " موجودان في الدنيا والآخرة، إلا أن المُلْك ظاهر
والملكوت خفي.
ويوزع الحق سبحانه وتعالى أسباب الملك في الدنيا بين أيدي خلقه، ويملك التصرف فيما
بين أيدينا وفيما خفي عنا، ويشاء الحق أن ينهي هذه المسألة من مبررات الخلافة للإنسان
على الإنسان وفي الأرض فيقول: } للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
فِيهِنَّ { فلله الملكوت، ولكم بعض الملك أيها العباد في ظواهر نسبة الأشياء إلى
أسبابها وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فكل شيء ينتهي إلى الله.
ولكن لماذا قال الحق: } وَمَا فِيهِنَّ { على الرغم من أن الحق استخلف الإنسان في
الأرض، والإنسان عاقل وكان من حقه أن يُغلب فيأتي القول: ومن فيهن؛ لأن (مَن)
للعاقل، لقد أراد الحق بذلك أن ينبئنا أن الكل أصبح لا اختيار له، وأصبح مقهوراً
على المراد منه فقد تساوى الجميع عاقلهم وغير عاقلهم فيقول لنا: } وَمَا فِيهِنَّ
وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {.
وبهذه الآية ختمت سورة المائدة. وهي سورة مدنية، وهي من آخر ما نزل من القرآن
الكريم، وفيها التشريع. وفيها التكاليف. وفيها الأحكام. وفيها ما يتعلق بكل السور
المدنية من بيان اعوجاج أهل الكتاب.
ومن بعد ذلك جاءت سورة الأنعام، وهي مكية. وجاءت المكية بعد المدنية في الترتيب
المصحفي حسب ما انتهى إليه آخر عرض للقرآن في آخر رمضان من حياة سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام. ومن المعلوم أن القرآن له " ترتيب
نزولي " و " ترتيب مصحفي ". والترتيب النزولي حسب ما نزلت سورة
القرآن في مكة أو المدنية. ورب قائل يقول: إن الحق أنزل هذا القول الكريم فوق
عرفات وهو قوله سبحانه:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }[المائدة: 3].
فكيف يقال ذلك؟
نقول: لنفهم معاً معنى الاصطلاح القائل: " مدني " و " مكي " ،
هناك آيات من القرآن نزلت بالمدينة، وآيات أخرى نزلت بمكة، وآيات ثالثة فيما
بينهما، وآيات رابعة نزلت بين السماء والأرض. وجاء الاصطلاح " مكي " على
الآيات التي نزلت قبل الهجرة، وجاء الاصطلاح " المدني " على الآيات التي
نزلت من بعد الهجرة، وإن نزلت بمكة.
وأراد الحق أن يكون للقرآن ترتيب نزولي وترتيب مصحفي، وقد شاء سبحانه أن يعدل
بالقرآن ميزان الكون الإنساني المضطرب، واضطراب الكون الإنساني إنما يكون بواسطة
أناس لا يؤمنون بإله، أو بأناس يؤمنون بإله ويشركون معه غيره فيعبدون أوثاناً، ويقولون:
} مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { أو بأناس
يعبدون النار، أو بأناس تابعين لمنهج سماوي ولكن حرفوا فيه قليلاً أو كثيراً.
إننا نجد أن الأقرب إلى الإيمان بالله هم الأجناس الذين آمنوا بالرسالات السابقة
على رسول الله، فقد جاءتهم الرسل ومعهم المعجزات، ومعهم كتب المناهج، والمنطق
يقتضي أن يكون هؤلاء هم الأقرب للإيمان من غيرهم، ولذلك كان من المطلوب أن نواجه
أولاً الوثنيين ونصفي المعركة مع أهل الكتاب من بعد ذلك؛ لأن أهل الكتاب لهم إلف
بنزول منهج السماء إلى الأرض بواسطة الرسل.
إذن ففي نزول القرآن كانت الأمور المكية التي تتعلق بالعقيدة الأساسية هي الظاهرة.
وهي الاعتراف بألوهية واحدة تحكم الكون. أما في المدينة فد ناقش الرسول صلى الله
عليه وسلم أهل الكتاب في كل أمور الدين بعد أن استتب أمر التوحيد.
لقد كان هذا الترتيب منطقياً مع هذه الحقيقة. فقد كان في العالم موجتان اثنتان:
موجة إلحاد، وموجة تغيير في منهج الله السماوي. ولذلك كانت قلوب المسلمين مع قلب
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب؛ لأنهم على الأقل يؤمنون بإله، وأن
الإله يرسل الرسل ومعهم المنهج الإلهي والمعجزات الدالة على صدق رسالتهم، وحتى
الذين انحرفوا من أهل الكتاب كانوا يتمسحون في هذا الكتاب المنزل إليهم بالرغم من
أنهم حرفوه.
لقد وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقف بجانب الروم عندما واجهوا فارس. وعندما
هزمت الروم حزن المسلمون وفرح الكفار؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب؛ إنهم كانوا
نصارى، وكانت هزيمتهم تعني انهزام منطق السماء أمام منطق الإلحاد، لذلك حزن
المسلمون، وفرح الكفار. وأراد الله أن يصور لنا الموقف، وأن يوجه قلوبنا إلى الذين
يؤمنون أيضاً بأن هناك إلهاً حتى ولو كانوا قد أخطأوا في تصور هذا الإله وفي
البلاغ عنه، أو أخطأوا في تأويل ما جاءت به الرسل فقال سبحانه:{ الـم * غُلِبَتِ
الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ }[الروم: 1-5].
إنّ المسلمين يفرحون بنصر الروم على فارس؛ لأن الروم لهم علاقة بالسماء، والرسل،
والمناهج، والوحي. وجعل الله الأمر واضحاً هكذا لكي يبين موقفنا وليجعلها إعجازاً
لكتابه ولرسوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجوداً بمقر الدعوة وهو
الجزيرة العربية، وليس عنده سفارات ولا مخابرات ولا مكتب حربي حتى يأتيه بالأخبار
وينبئه عن استعدادات الروم التي تُجري لرد الهزيمة.
هذا الرسول يتنبأ بخبر معركة قادمة بين الفرس والروم، وينتصر فيها الروم، معركة
تحدث بعد سبع أو تسع سنوات. وعندما راهن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه المشركين على
ذلك، وجعل بينه وبينهم خمس سنين أجلاً لغلبة الروم وظهورهم على الفرس، ذكر ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده
في الخطر وماده في الأجل " فكانت مائة بعير إلى تسع سنين.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم كلام الواثقين، لأنه ينقل الخبر عن الله،
وجعله الله قرآناً يتلى ويصلى به، ومحفوظاً أبد الدهر، ولا يمكن أن يكذب هذا
القائل إنه - سبحانه - هو الذي يملك ميزان الكون كله، وأي إنسان من رجالات الحرب
المعاصرين لا يمكنه أن يتنبأ بمصير معركة قادمة، على الرغم مما قد يُجمع لها ويحشد
من معلومات عن القوة والعدة والعتاد. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله
وهو واثق تمام الوثوق مما يبلغ.
وقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الخصم الإلحادي، وكان قلبه مع أهل الكتاب،
ونرى أيضاً أن أهل الكتاب كانوا يستبشرون بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم, ألم
يقل بعض أهل الكتاب وهم اليهود في المدينة للأوس والخزرج: قد أظل زمان نبي يُبعث
وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. ولكنهم كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد
ذلك؛ لأنه سيسلب منهم السيادة، والسلطة الزمنية.
إذن فنزول القرآن أولاً كان في مكة، ومن بعد ذلك نزل في المدينة. لكن في الترتيب
المصحفي - كما قلنا - جاءت المدنيات أولاً، وبعد ذلك جاءت المكيات. وذلك حسب ما
أراد الله عندما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام
في رمضان الأخير من حياة الرسول الكريم.
إنَّ أصل الإيمان واحد، وهو الإيمان بإله، ووحي، ورسل، ومنهج، وكل ذلك له فائدة
إقامة نظام يحكم الحياة. وهو نظام ضروري لتنصلح حال الحياة سواء آمن الناس بإله أو
كفر بعضهم. وجاء هذا النظام الذي يحكم في السور المدنية أولاً ولم يغفله الحق في
بعض السور المكية. إنّ الحق شاء لرسوله أن يوحد القلوب المؤمنة بإله واحد أولاً
ليواجهوا معكسر الإلحاد. ولكن هناك من اختلف وتخلف عن مؤازرة موكب الإيمان.
وهكذا تنتهي خواطرنا حول سورة المائدة، ومع أن سورة المائدة مدنية وسورة الأنعام
مكية إلا أن السياق بين تذييل المائدة وافتتاح الأنعام فيه اتساق واضح. فالحق يقول
في آخر سورة المائدة: } للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ
وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {
ويقول سبحانه في أول سورة الأنعام:{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ }[الأنعام: 1]
فسبحانه وتعالى قدير ويملك كل الكون، ولم يأخذ ذلك الملك افتئاتاً أو ادعاء، ولكنه
جل شأنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي جعل الظلمات والنور.
(/782)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
ويبدأ سبحانه سورة الأنعام بقوله تعالى: { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }
وساعة تسمع كلمة الحمد، فعليك أن تفهم أنها كلمة المدح والثناء والشكر. فالحمد أمر
فطري موجود ونوجهه لله، فقد أخذ - سبحانه - بأيدينا ووضح وبين لنا أن الحمد لله
حتى لا نختلف في مجال توجيهه؛ لأنه سبحانه هو الذي أمد كل إنسان بشيء من أسبابه.
وحين تسأل أحداً عن شيء فإن سلسلات ما أمدك به منسوبة لله. إذن فكل حمد يجب أن
يتوجه إلى الله.
وأضرب هذا المثل: هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان ما موحش، لا يوجد به أي شيء
من أسباب الحياة، وأراد ان يأكل ويشرب ويستتر حتى ينام، لكنه لم يجد شيئاً من هذا:
وأخذته سنة من النوم ثم استيقظ فجأة فوجد مائدة عليها كل أطايب الطعام والشراب،
وبجانب ذلك وجد خيمة فيها فراش وغطاء وصنبور للغسيل. وساعة يرى كل ذلك فهو لا يبدأ
في استخدام أي شيء قبل أن يتساءل عن مصدره، لأنه يريد أن يشكر الذي أنعم عليه كل
هذه النعم السابغة. فكأنك أيها الإنسان حين واجهت الكون ووجدت أشياء تخدمك ولا عمل
لك فيها، ولا للسابقين عليك عمل فيها؛ لأن أحداً لم يدعها لنفسه، فوجدت شمساً
تشرق، وهواءً يهب، وماءً يروى، وأرضاً تُزرع، وغير ذلك من كل ما يخدمك، وأخبرك
الحق أنه هو الذي منحك كل هذا ألا تشكره إذن؟
إن البشرية عندما استفادت من المصباح الكهربائي قامت الضجة لتكريم اديسون الذي
اخترعه، فما بالنا بخالق الشمس التي تنير الكون كله؟ إن الاختراعات البشرية تخلد
أصحابها وتقوم الضجة لتكريمهم. فما بالنا بخالق الكون كله؟ ما بالنا نكرم صانع
المصباح الذي ينير مساحات ضيقة مهما اتسعت بالقياس إلى الأرض ويغفل بعضنا عن تنزيه
خالق الشمس التي تنير الأرض في النهار وتختفي نصف اليوم حتى يستريح الإنسان؟
ولكنها تسير سيرا دائماً، فإن غابت عنك فقد أشرقت على غيرك فهي في فلكها تسبح.
إذن فالحمد لله حينما استقبل الإنسان هذا الوجود. ووجد كل مقومات الحياة التي لا
يمكن أن تخضع لقوة بشر، ولا لادعاء بشر. إن الحمد أمر واجب الوجود وإن اختلف الناس
حول من يوجه له الحمد. إننا نوجهه إلى الله تعالى لأنه هو واهب النعم.
وسور القرآن التي بدأها الخالق بالحمد لله خمس سور هي: الفاتحة، والأنعام، والكهف،
وسبأ، وفاطر، وتتركز حول شيئين: تربية مادية بإقامة البنيان بالقوت أو بقاء النوع
بالتزاوج أو بتربيتهم تربية روحية قيمية، فيمدهم بمنهج السماء. فمرة يقول الحق: {
الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
وكلمة " رب " تعني أنه تولى تربية الخلق إلى غاية ومهمة، والتربية تحتاج
إلى مقومات مادية ومقومات معنوية، روحية ومنهجية؛ لذلك يأتي بها الحق شاملة للكون
كله كما في فاتحة الكتاب:{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة: 2].
فهو سيد كل العالمين ومالكهم ومربيهم، وهو الذي ينشئهم التنشئة التي تجعلهم صالحين
لأداء مهمتهم في الحياة بقوة البنيان وببقاء النوع بالتزاوج وبقوة القيم. ومرة
ثانية يأتي الحق بالمنهج وحده، مثل قوله الحق سبحانه:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَىا عَبْدِهِ الْكِتَابَ }[الكهف: 1].
ومرة أخرى يأتي الحق بالأشياء المنظورة فقط فيقول: } الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ { [الأنعام:
1].
إنه سبحانه يأتي هنا بأشياء تختص بالمادة المنظورة، كالسماوات والأرض، والظلمات
والنور، وهي أشياء يمكنك أن تراها بوضوح، ومرة يأتي الحق بأشياء غير منظورة مع
الأشياء المنظورة كقوله الحق:{ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ
}[فاطر: 1].
ويأتي بالمجموع كله في فاتحة الكتاب، ويأتي بالمنهج فقط كما في سورة الكهف، ويأتي
بالكون المادي كما في سورة الأنعام، ويأتي بالكون المادي والمعنوي كما في سورة
فاطر.
إذن فالحمد مُسْتَحَقٌّ مستحق، ويُوجه الله حتى ولو كانت أسبابه الظاهرة من غير
الله؛ لأن كل أسباب الدنيا والكون تنصرف أخيراً إلى الله. وهنا - في سورة الأنعام
- خص الحق الحمد لله خالق السموات والأرض بما فيهما من كائنات، وأتى من بعد ذلك بالظلمات
والنور. والخلق كما نعلم إيجاد من عدم. والجعل يأتي لشيء مخلوق ويوجه إلى الغاية
منه. ولذلك قال الحق: } وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ { والظلمة أمر عدمي،
والنور أمر إيجابي، والنور يبدد الظلمة.
إذن فالأصل هو وجود الظلمة التي تختلف في ألوانها، مثال ذلك: ظلمة الكهف، وظلمة
البحر، وظلمة البر، ولذلك قال الحق سبحانه:{ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ
إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا }[النور: 40].
إنها يده يعرف اتجاهها ولكنه لا يكاد يراها. إذن فالحق يخصص الحمد هنا لخلق
السماوات والأرض لأنها ظرف كل الكائنات. وقال العلماء: لا تأخذ الظلمة على أنها
الظلمة المادية التي لا ترى فيها الأشياء لا غير، ولا تأخذ النور على أنه النور
الحسي الذي ترى به الأشياء فقط، ولكن لنأخذ الظلمات والنور على الأمر المعنوي
والأمر الحسي كذلك - وسبحانه - جعل الظلمات في هذه الآية جمعا وجعل النور مفردا،
لأن الظلمات تتعدد أسبابها لكن النور ليس له إلا سبب واحد.
والحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }[الأنعام: 153].
والسبل هي جمع، وسبيل الله مفرد لأنه واحد. كأن سبل الشيطان متعددة، وسبل الناس
كذلك متعددة حسب أهوائهم، لكن سبيل الله واحد؛ لذلك يجعل الهداية نوراً والضلال
ظلمات.
} وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ { ونقول: - ولله المثل الأعلى - إنك إيها الإنسان عندما يفيض الله
عليك ويجعل من بين يديك ما تعديه من جميل إلى غيرك فأنت تقول: أنا صنعت لفلان كذا
وكذا ثم ينكر من بعد ذلك.
كأن " ثم " تأتي هنا للاستبعاد. إن " ثم " تأتي للعطف مثل حرف
" الفاء ". ولكن الفاء تكون للجمع بين شيئين ليست بينهما مسافة زمنية،
مثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى:{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }[عبس: 21].
ومن يحب إنساناً ومات هذا الإنسان فهو يعجل بدفنه، وذلك حتى لا يرم ويتعفن أمامه.
ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد الإقبار:{ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ }[عبس: 22].
كأن فترة زمنية قد تطول حتى تقوم القيامة فينشر الحق خلقه. وقد يكون البعد بُعْدَ
رتبة أو منزلة، ولذلك يأتي الحق بـ " ثم " هنا كفاصلة بين خلق السموات
والأرض، وجعل الظلمات والنور، وبين الذين كفروا بربهم، } ثْمَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ { إنهم الذين يساوون الله بغيره. ونستطيع أن
نجعل " يعدلون " من متعلقات كفرهم.. أي أنه بسبب كفرهم يسوون الله
بغيره. أو يكون المراد أنهم يعدلون أي يميلون عن الإله الحق إلى غير الإله، أو
يجعلون لله شركاء. وهو قول ينطبق على الملحدين أو المشركين بالله. لقد أوجد سبحانه
السموات والأرض من عدم وليس لأحد أن يجترئ ليقول الله: كيف خلقت السموات والأرض؟
لأنه سبحانه يقول في آية أخرى:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً }[الكهف: 51].
وأوجد سبحانه السموات والأرض من عدم، فالسماء والأرض ظرف للكون وتم خلقهما قبل
الإنسان وقبل سائر الخلق، ولم يشهد خلقهم أحد من الخلق، فلا يصح أن يسأل أحد عن
كيفية الخلق، بل عليه أن يأخذ خبر الخلق من خالقهما وهو الله. وقد أتى بعض الناس
وقالوا: إن الإرض انفصلت عن الشمس ثم بردت، وهذا مجرد ظنون لا تثبت؛ لأن أحداً
منهم لم ير خلق السموات والأرض. وهؤلاء هم أهل الظنون الذين يدخلون في قوله
تعالى:{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
لقد قال القرآن ذلك من قبل أن يأتي هؤلاء. وكأنه سبحانه يعطينا التنبؤ بمجيء هؤلاء
المضلين قبل أن يوجدوا، فهم لم يشهدوا أمر الخلق، بل طرأوا - مثلنا جميعاً - على
السموات والأرض، وكان من الواجب ألا يخوضوا في أمر لم يعرفوه ولم يشاهدوه. وكذلك
قولهم عن خلق الإنسان كقرد وهم لم يكونوا مع الله لحظة خلق الكون والإنسان، ولا
كانوا شركاء له، ولذلك يعلمنا الحق الأدب معه فيقول سبحانه:{ وَلاَ تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }[الإسراء: 36].
وعلينا أن نأخذ خبر الخلق عن الله القائل: } هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ... {
(/783)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
هو سبحانه يأتي لنا بأمر الخلق فأوضح أنه خلقنا من طين، بعد أن تكلم عن أمر خلق
السماوات والأرض، وهو - سبحانه - قد أخبرنا من قبل ذلك أنه خلقنا من تراب وحمأ
مسنون ومن صلصال كالفخار، وهي متكاملات لا متقابلات، وكذلك أوضح الحق أنه خلق كل
شيء من ماء، فاختلط الماء بالتراب فصار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً كالفخار
وكلها حلقات متكاملة. ونحن لم نشهد الخلق ولكنا نتلقى أمر الخلق عنه - سبحانه -
ونعلم أن الطين مادة للزرع والخصوبة.
وعندما قام العلماء بتحليل الطين وجدوه يحتوي على العديد من العناصر، وأكبر كمية
من هذه العناصر الأوكسجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم الفلور، ثم الكلور، ثم
الصوديوم، ثم المغنسيوم، ثم البوتاسيوم، ثم الحديد، ثم السيلوز، ثم المنجيز وغيرها.
والعناصر في هذا الكون أكثر من مائة، ولكنها لا تدخل كلها في تركيب الإنسان، إنما
تدخل في تركيب ما ينفع الإنسان من بناء وزينة وغير ذلك. مصداقاً لقول الحق سبحانه
وتعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }[فصلت: 53].
لقد قام أهل الكفر من العلماء بهذا التحليل وذكروا تلك النتائج التي أخبرنا بها
الرسول الكريم في الكتاب المعجز الباقي المحفوظ بأمر الله كحجة مؤكدة. وصان الحق
لنا هذه الحجة حتى يأتي عالم غير مؤمن ويتوصل إلى بعضٍ من الحقائق الموجودة في القرآن.
ولم يحضر أحد منا لحظة الخلق، ولكنا نشهد الموت وهو نقض للحياة، ونقض الشيء يكون
على عكس بنائه. ونرى من يهدمون بناء يبدأون بهدم آخر ما تم بناؤه وتركيبه، فيخلعون
الزجاج أولاً وهو آخر ما تم تركيبه، ثم الأخشاب، ثم الأحجار، كذلك نقض الحياة
بالموت. تخرج روح الإنسان أولاً ثم بعد ذلك ييبس ويجف ليصير صلصالاً كالفخار ثم
حمأ مسنوناً أي يصيبه النتن والعفن ثم يتبخر منه الماء فيصير تراباً. ولذلك نحن
نصدق الذي خلقنا في أمر خلقنا ونصدقه في أمر السماوات والأرض، وعندما يقول قائل
بغير ذلك، نقول له كما أخبر القرآن الكريم:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
ويخبرنا الحق هنا بقضية الرجل: { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ
ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } ولا أحد فينا يعلم أجله مهما عرض نفسه على الأطباء،
والأجل الأول هو الأجل المحدد لكل منا، والأجل المسمى عنده هو زمن البرزخ ومن بعده
نبعث من قبورنا، ولذلك قال سبحانه:{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ }[الأعراف: 187].
وقد يعرف الأنسان مجيء مقدمات نهايته واقتراب موته بواسطة ما كشف الله عنه من
أسراره بواسطة تقدم العلماء.
فليس هذا من الغيب وفي بعض الحالات يصح هذا المريض ويشفى ويبرأ، ويقولون: قد حدثت
معجزة، أما الأجل المسمى فلا نستطيع أن نعرفه، وحدد الحق سبحانه ذلك في خمس
مسائل:{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }[لقمان: 34].
وقد تكلم الحق عن المكان ولم يتكلم عن الزمان: } ثُمَّ قَضَى أَجَلاً { أي قضى
أجلاً لكل واحد، ثم جعل أجلاً لكل شيء مسمى. والآجال في الآحاد تتوارد إلى أن يأتي
أجل الكل وهو يوم القيامة، } ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ { والدلائل التي أوردها
الحق كفيلة بألا تجعل أحداً يشك، ولكن هناك من يماري في ذلك بعد كل هذه المقدمات.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } وَهُوَ اللَّهُ... {
(/784)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
والله هو علم على واجب الوجود، وهو الاسم الذي اختاره الله لنفسه شاملاً لكل صفات
الكمال، والصفات الأخرى نحن نسميها الأسماء الحسنى: مثل القادر، والسميع، والبصير،
والحي، والقيوم، والقهار، كلها صفات صارت أسماء لأنها مطلقة بالنسبة لله. وهذه
الصفات حين تنصرف على إطلاقها فهي الله، ومن الجائز أن تضاف في نسبتها الحادثة إلى
غير الله. أما اسم " الله " فلا يطلق إلا على الحق سبحانه وتعالى.
ويتحدى الله الكافرين به أن يسمي أحدهم أي شيء غيره بـ " الله ".{ هَلْ
تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }[مريم: 65].
وسمع الكافرون ذلك ولم يجرؤ أحدهم أن يسمي أي شيء باسم " الله ". وهو
لون من التحدي باقٍ إلى قيام الساعة ولا يجرؤ أحد أن يقول عكسه أو أن يقبله فيسمي
شيئاً أو كائناً غير الله بـ " الله ".
ولا نعرف شيئاً وجد بذاته أزلا وقبل أن يوجد الكون إلا الله، أما أتفه الأشياء في
حياتنا والتي نعتبرها من غير الأساسيات فهي لا توجد بذاته بل لا بد من صانع لها.
فكوب الماء مثلاً لا يؤدي ضرورة قصوى في الحياة؛ لأن الإنسان يستطيع أن يشرب الماء
بكفه أو بفمه مباشرة، هذا الكوب احتاج من الإنسان إلى علم وإمكانات وقدرة وحكمة.
وجاء العلم للإنسان بما وهبه الله للإنسان من قدرة بحث عن المادة التي في الكون،
فنظر الإنسان إلى الرمل واكتشف وسيلة لصهر الرمال، واكتشف وسيلة لتنقية الزجاج
بمواد كيماوية، واكتشف أسلوباً آلياً لإنتاج هذه الأكواب.
لقد أخذت رحلة صناعة الكوب من الإنسان رحلات علمية وصناعة كبيرة، وهو غير ضروري
كضرورة قصوى في الحياة، إنما هو من الترف، فما بالنا بالضروريات من شمس، وقمر
وهواء وماء؟ هذه الأشياء - إذن - لا بد لها من صانع وإذا كان صانع أتفه شيء في
حياة الإنسانية يذهب إلى إدارة لتسجيل اختراعه؛ ليستفيد منها، فما بالنا بالذي صنع
كل شيء، ولم يصنعها ليستفيد منها ولكن ليستفيد خلقه منها.
إن البشرية تعرف من صنع المصباح وتاريخه، وأين ولد، وأين عاش، وأين تعلم. فما
بالنا بالذي صنع الشمس والنجوم والأرض والإنسان؟ ورحمنا الحق فدل على نفسه وأخبرنا
أنه سبحانه الذي خلق. ولم يأت أحد ليعارضه سبحانه ويدعي صناعة الكون، وما دام لا
يوجد شيء له أثر إلا بمؤثر، فلا بد لنا أن نعرف أنه سبحانه ما دام قد قال: إنه هو
الذي خلق وأبدع ولم تنشأ معارضة له فإن قوله هو الصدق. وإن كان هناك صانع للكون
ولم يعلم أن الله قد أخبرنا أنه سبحانه الذي خلق الكون فذلك الصانع النائم التائه
عما صنع لا يصلح أن يكون إلهاً.
وإن كان قد علم أن الله أخبرنا أنه سبحانه خلق لنا الكون ولم يجرؤ هذا الصانع على
أن يبلغنا بالحقيقة فهذا - الصانع المدعي - ليس له حق في الألوهية.
أما الحق سبحانه، فقد أعلمنا وعلمنا بالدليل القطعي أنه الذي خلق الكون، وما دام
الأمر كذلك فيجب أن نستمع له، والترجمة العملية لسماع الحق هي عبادته وطاعته فيما
أمر وفيما نهى، بل إن عالم الملكوت الذي لا ترونه يعبده سبحانه. وكل شيء في الوجود
مؤتمر بأمره ويسبح بحمده.{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ
وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }[الإسراء: 44].
وتدل السماوات السبع والأرض وكل من فيهن من مخلوقات على دقة الصنعة وعلى ملكية
الله لها وتنزهه سبحانه وتقدسه بأنه لا شريك له، وكل شيء له وسيلة للتسبيح
والتنزيه، ولكنا لا نرى ذلك ولا نفهمه ولا نفقهه. ويبلغنا الحق هنا أنه المعبود
الموجود في كل الوجود. } وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ { وما دام معبوداً فينبغي أن يكون مطاعاً في
الأوامر والنواهي. ولكن بعضنا يطيع، وبعضنا يعصي. ولذلك رتب الحق على الطاعة
جزاء؛: إما نعيماً وإما عقاباً. وهناك فارق بين وجود الشيء وإدراك الشيء، وإياك أن
تخلط بين إدراك الوجود، والوجود، فالذي لا تدرك وجوده إياك أن تقول إنه غير موجود.
ومثال ذلك ما نراه على مر تاريخ البشرية. لقد ترك الخالق في الوجود أسراراً
يستنبطونها فتبرز لهم بالمنافع وكانت قبل أن يعرفها البشر ويقفوا عليها تؤدي
مهمتها في الوجود، ومثال ذلك الجاذبية الأرضية؛ لقد كانت موجودة قبل اكتشاف
الإنسان لها وتؤدي عملها قبل أن يعرفها الإنسان، وجاء ذكرها في القرآن بشكل لا
يثير بلبلة ساعة نزل القرآن:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }[فاطر: 41].
أوجد الحق قوانين الجاذبية لتمارس السماوات والأرض أعمالها ويحفظهما بقدرته من
الزوال، وجعل من الجاذبية نظاماً بديعاً يحفظ الكون من الاختلال. إذن فالجاذبية
كانت موجودة، ولم يعرفها الإنسان إلا مؤخراً، وهكذا نعرف أن هناك فارقاً بين وجود
الشيء وبين إدراك الشيء.
فإذا قيل لك: } لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ { [الأنعام: 103].
فأنت أيها المؤمن تصدق ذلك؛ فذات الحق لا تبصرها العيون وهو يعلم كل ما هو خفي عنك
ولا تدركه عيونك. وفي الكون أشياء قد لا ندركها على الرغم من أنه سبحانه وتعالى
خلقها وعملت في خدمتك، وبعد أن أدركتها ظلت تعمل في خدمتك، فإن حدثك الحق بشيء لا
تدركه فلا تقل: ما دام هذا الشيء غير مدرك فهو غير موجود.
وعلى سبيل المثال أنت لا تدرك الكهرباء، ولا الجاذبية، ولا قمة أسرار الحياة وهي
الروح التي تعطيك سر الحياة، وتنفعل بها كل جوارحك، وإن خرجت الروح صرت جثة هامدة،
إن أحداً لا يعرف مكان الروح ولا يدركها، ولا سمعها أحد أو شمها أو ذاقها أو
لمسها. إن الروح موجودة في ذاتك ولا تدركها، هأنتذا - إذن - لا تستطيع أن تدرك
مخلوقاً لله فكيف تدرك خالقك وهو الله؟ إنك لو أدركته لما صار إلهاً؛ لأنك إن
أدركت شيئاً فقد قدرت عليه جوارحك، ويصير مقدوراً عليه لعينك أو ليدك، والقادر
المطلق لا ينقلب مقدوراً أبداً، ومن عظمته أنه لا يُدرك.
مثال آخر: الرؤيا التي تراها وتتحرك فيها. هل الرؤيا موجودة في جسمك؟ أو ماذا؟
والحِلْم وهو الصبر على غيرك لأن تتحمله وتعطف عليه وتضحك له، هذا الحلم يجعلك
تنفعل، فهل تدرك أنت هذا الحلم؟ أنه معنى من بعض المعاني في نفسك التي تحرك جوارحك
ولا تدركها، مثله مثل الشجاعة التي تصول بها وتجول ولا تراها محيزة، ولا تعرف
شكلها أو لونها أو طعمها، فالأعلى الذي يدير هذا الكون غير مدرَك بالأبصار. والذي
يُتعب الناس أنهم يحاولون الجمع بين الإدراك والوجود، ولذلك نقول: ابحث أيها
الإنسان في كونك ولسوف تجد فارقاً بين الإدراك والوجود.
ونعلم أن اسم الله نفسه وهو لفظ ننطقه لنفهم ونستدل به على أنه الخالق الأعلى وهو
متحدًى به. وأنت أيها الإنسان قد اخترعت - على سبيل المثال - التليفزيون وكان من
قبل أن يوجد معدوماً لا اسم له، وصار له اسم منذ أن أوجده الإنسان، صالحاً لمهمة
معينة، أما اسم الله فهو موجود وقديم من قبلك وأخبرك به الرسل، وهو سبحانه وتعالى
له اسم في كل لغة من اللغات، ووجود هذا الاسم في كل اللغات بنطق مختلف هو دليل على
أسبقية وجود الذات وهو الله. وبعد ذلك جاء الكفر، وعرفنا أن الكفر كان محاولة لستر
الوجود الأول، وبذلك دلت كلمة الكفر على الإيمان. والذي يرهق الإنسان هو محاولته
لحصر الموجود الأعلى في شكل طبقاً لإمكانات وحدود البشر. ولا أحد يستطيع أن يحصر
وجوده سبحانه في شكل معين؛ لأن من عظمته أننا لا نقدر على تصوره، والإيمان به
سبحانه يدل عليه وهو يقول عن نفسه ما شاء. وأحب أن تحفظوا هذا المثل وتضربوه
لصغاركم:
لنفترض أن إنساناً يجلس مع أسرته في حجرة، ثم طُرق الباب، وكل من يجلس في الحجرة
يتيقن أن طارقاً بالباب ولا يختلف أحد منهم في هذه المسألة. فيقول أحد الأبناء:
" الطارق محمد " ويقول الثاني: " إنه محمود " ويقول الثالث:
" لا، إنه إبراهيم " فتقول الزوجة: " إن الطارق امرأة " ، لكن
أحد الأبناء يقول: " لا، إنه رجل " فيقول الأب: " لعله شرطي جاء
يسألني عن أمر " ترد الزوجة: " توقع خيراً، إنك تصنع كل خير ولا بد أن
يأتي لك كل طارق بخير ".
هنا اختلفت الأسرة لا في تعقل الطارق، ولكن في تصور الطارق، يقول الأب: "
بدلا من الحيرة لنسألة من أنت؟ " ، فيجيب الطارق: " أنا فلان ".
وهكذا الكون، طرأ الإنسان عليه وتساءل من الذي خلقه. ذلك أن الإنسان جاءته الغفلة
بعد أن عرف آدم ربه وبعد أن أشهد الحق ذرية آدم أنه ربهم. ثم أرسل الحق الرسل
ليبلغوا الخلق منهجه واسمه وصفاته. وأراد سبحانه بذلك ألا يرهق خلقه، وأبلغ الناس
من خلال الرسل أنه الخالق الأكرم.
وآفة الفلاسفة أنهم لم يكتفوا بتعقل الإله، بل أرادوا أن يتصوروه، وهذا أمر غير
ممكن. لذلك نقول: علينا أن نستمع إلى الحق يقول ما شاء عن نفسه ولا داعي للخلاف.
وسبحانه وتعالى يقول: } وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ { وإياك
أيها المسلم أن تفهم أن السماء والأرض هنا ظرفية، لأن الظرفية وعاء وحيز، وإذا كنت
لم تعلم مكان روحك في جسدك، فكيف تعلم مكان الله؟ لقد قصد الله بذلك القول أنه
معبود في السموات ومعبود في الأرض.
ولنلحظ أن بعض آيات القرآن توقف الذهن عندها كي تظل الأذهان دائماً مشغولة بكلمات
الله، ولو جاء القرآن بكلمات يسهل على الفهم العادي إدراك معانيها لما تجددت معاني
الكتاب العظيم في كل زمان، وكأن الحق قد قصد ذلك حتى يثبت الناس في كل العصور من
إيمانهم. وها هم أولاء بعض من الذين يحاولون الخوض في القرآن تساءلوا عن معنى قوله
الحق:{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَـاهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَـاهٌ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }[الزخرف: 84].
تساءلوا عن معنى التكرار أنه إله في السموات وإله في الأرض. وظن بعض السطحيين أنه
قصد القول بأن هناك إلهاً في السماوات وإلهاً آخر في الأرض، ولم يفطنوا إلى أن
المعنى المقصود هو: إنه إله يعبد في السماء ويعبد في الأرض، وهو صاحب الحكمة
المطلقة في كل أفعاله وهو المحيط بكل كونه. وأن الحق إنما يريد بهذا القول أن يشغل
الأذهان به.
ونقول أيضاً لهولاء الذين لم يفهموا المعنى: هناك قاعدة في اللغة تحدد النكرة
وتحدد المعرفة؛ فعندما نقول: " جاءني الرجل " فهذا الرجل يكون معروفاً
للقائل والسامع. ولكن عندما نقول: " جاءني رجل " فهذا غير معروف للسامع
وقد يكون معروفاً للقائل. وإذا قلنا: " جاءني رجل وأكرمت رجلاً " فمعنى
ذلك أن القائل يتحدث عن رجلين؛ أحدهما جاء، والآخر كان موضع التكريم. أما إن قال
القائل: " جاءني رجل فأكرمت الرجل " فالحديث هنا عن رجل واحد.
إذن فالنكرة إن أعيدت نكرة تكون مختلفة، والنكرة إن أعيدت معرفة تكون هي بعينها.
وعندما قال الحق سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَـاهٌ وَفِي الأَرْضِ
إِلَـاهٌ }[الزخرف: 84].
تصور البعض أن " إله " نكرة، عندما أعيدت صارت غيرها، ولو كان الأمر
كذلك لفسدت الدنيا. ولكن القاعدة الغالبة من العلماء عرفوا روح النص. وقال أهل
العلم بالتوحيد: لا بد لنا أن نلتفت إلى أنه سبحانه قال: } وَهُوَ الَّذِي { ،
وكلمة " الذي " اسم موصول واحد يدلنا على أن الحق صلته بالسماء وبالأرض
واحدة، ولهذا نقول لمن وقفوا عند هذه الآية: لا تبحثوا عن النكرة المكررة بمعزل عن
الاسم الموصول، لأن الاسم الموصول معرفة.
} وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ { إنه إله واحد يعلم السر والجهر، ويترتب على هذا أساس الثواب
والعقاب. فلا تظن أيها الإنسان أنك تفلت من حساب ربك، وإن كان سبحانه يعلم السر
فمن باب أولى أن يعلم الجهر. ولو قال إنه يعلم السر فقط لظن بعض الناس أنه سبحانه
لا يعلم إلا المستور لكونه - سبحانه - غيبا، ونقول: لا. هو - جل شأنه - وإن كان
غيبا إلا أنه يعلم الغيب ويعلم المشهد، أو أنه - سبحانه - لم ينتظر علمه إلى أن
يبرز الشيء جهرا بل هو بكمال علمه وطلاقة إحاطته يعلمه من أول ما كان سراً ويعلمه
ويحيط به بعد أن برز وظهر ووجد وكأنه - سبحانه - يؤرخ للعلم في ذات الإنسان الواحد
} يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ {.
وهو سبحانه يعلمنا انه لا يقف عند السر فقط:{ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ
فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه: 7].
إنه - سبحانه وتعالى - يعلم السر من قبل أن يكون سراً. وكل أمر قبل أن يصبح جهراً
يكون سراً، وقبل أن يكون سراً هو أخفى من السر. ويذيل الحق تلك الآية بقوله: }
وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ { والكسب إنما ينشأ من عملية تجارة في رأس مال ما
والزائد عليه يكون هو الكسب، وقد يكون الكسب خيراً أو شراً، فالذي يكسب شراً هو
الذي يأخذ فوق ما أحل الله له.
والكسب كذلك يكون خيراً، فإن قدّم الإنسان حسنة يكسب عشر حسنات. والمتكلم هو الله
الذي له الحمد لأنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور. ولكن الكافرين يترصدون
لكلمة التوحيد، ويأتيهم الخبر بأن الحق خلقنا من طين، ويعلم السر وما هو أخفى من
السر، ويعلم ما نكسب من خير أو شر، ولا يؤثر ذلك كله في المنصرفين عن دعوة الحق من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يميلهم ويعطفهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك يقول
سبحانه: } وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ... {
(/785)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
كأن الآيات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدق البلاغ عن ربه لا
تقنعهم، بل يعرضون عنها. مع أن الواجب كان يقتضي أن يرهفوا الآذان لما يحل لهم لغز
الحياة. وما زال الإعراض مستمراً حتى زماننا هذا بالرغم من أننا توصلنا إلى معرفة
العمر الافتراضي لبعض الأشياء التي من صناعتنا مثل مصباح الكهرباء الذي يتغير بعد
كل فترة، وغيره من الأجهزة، ولكنا لا نعرف العمر الافتراضي للشمس ولم تحتج إلى
صيانة ذات مرة، ولم نجد من يسأل: (وكيف يحدث كل هذا الإعجاز؟).
وقد أتى الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أن الذي خلق الخلق كله يخبرنا
بمطلوبه ويفسر لنا الكون، ولكن الإنسان يعرض عن ذلك.
إن أول " مطب " يقع فيه الإنسان، أنه تأتيه الآيات التي تدل على لغز هذا
الوجود من خالق الوجود، وكيفية تدبير الكون قبل وجود الإنسان، وكيفية جعل ما في
الكون من قوت يقيم به حياته ويستبقي نوعه، وبرغم ذلك ينصرف عن سماع كل ذلك. إن
الكفار لم يعرضوا فقط، بل انتقلوا إلى المرحلة الثانية وهي التكذيب، فلم يكتفوا
بترك خبر الإيمان والإعراض عنه ولكنهم يزيدون في ذلك ما يوضحه الحق بقوله: {
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ... }
(/786)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
فهذا خروج من الإعراض إلى التكذيب، فالإعراض أمر سلبي، والتكذيب هو الوقوف
إيجابياً في موقف الضد والصد عن سبيل الله، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي
الاستهزاء. إننا إذن أمام ثلاث مراحل: إعراض، تكذيب، استهزاء. وكل ذلك لعلهم
يصرفون المتِّبع عن الاتباع. ومثال ذلك ما ضربه الحق لنا في أمر نوح:{ وَاصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ
إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ
مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ
مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }[هود: 37-38].
فقد أوحى سبحانه إلى نوح البلاغ الحق وأمره أن يصنع الفلك تحت عنايته سبحانه وألا
يخاطبه في شأن الكافرين الظالمين الذين لم يستجيبوا لدعوة الله ويَشْرَع نوح في
إنشاء الفُلْك، ولكن الكافرين يستهزئون به لجهلهم ولعدم الوثوق من الغرض والهدف.
ويسخر نوح من كل من يسخر منه.
ومثال آخر وهو انتصار الإسلام بعد أن كان أهل الكفر قوة، ولكن المتكبر الطاغي منهم
يأتي بعد صلفه وكبريائه صاغراً. ومنهم من قتل وأسر وذاق مرارة الذل النفسي. وقد
كانوا من قبل يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثال على ذلك الوليد بن
المغيرة، وهو السيد في قومه، يأتي فيه قول الحق:{ إِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
}[القلم: 15-16].
وكان الوليد صاحب ثراء من المال ومنعة وقوة من البنين، وأعرض عن القرآن وسخر منه.
فجعل الحق منه أمثولة للناس، وطبع على أنفه علامة لازمة افتضح بها، وكانت سُبّةً
له وعاراً لا يفارقه كلما ذكر.
وقد نزل هذا القول في القرآن وقت ضعف المسلمين، ثم يأتي خبر ضربه على أنفه الذي هو
محل الأنفة والكبرياء والعنجهية، ثم تأتي بدر ليرى المسلمون تحقيق ذلك، إنه كلام
إلهي متحدًى به ومتعبد بتلاوته. وهكذا تصدق كل قضية يأتي بها الله.
ويقول الحق بعد ذلك: { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا... }
(/787)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)
هذا ما شاهدته قريش في رحلات الشتاء والصيف. رأوا آثار عاد قوم هود وبقايا ثمود
قوم صالح. وكانت إمكانات عاد وثمود أكبر من إمكانات قريش. إن قريشاً لا سيادة لها
إلا بسبب وجود الكعبة، ولو كان الحق ترك أبرهة يهدم الكعبة لما مكن لهم في الأرض.
ها هي ذي حضارات قد سبقت وأبادها الحق سبحانه وتعالى: ويوضح القرآن ذلك:{ أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ
بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ *
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
}[الفجر: 6-13].
إنها حضارات كبيرة لهم صيت وخبر في آذان الدنيا مثل حضارة الفراعنة. وكل ذلك
الصولجان لا يحميه أحد من أمر الله. وزالت الحضارات وأصبحت أثراً بعد عين، وصدق
عليها قول الحق:{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ
خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[العنكبوت: 40].
والحق يجازي كل كافر الجزاء الوافي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر قومه بما
حدث لغيرهم من أقوام آخرين { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن
قَرْنٍ } والقرن عادة هو الجيل الذي يحكمه زمن محدود أو حال محدود، فإن نظرنا إلى
الزمن فالقرن مائة سنة كأقصى ما يمكن، والجيل الذي يعيش هذا القدر يرى حفيده وقد
صار رجلاً. ونعلم أن نوحاً عليه السلام عاش تسعمائة وخمسين سنة. يقول سبحانه:{
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ
إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً }[العنكبوت: 14].
وحياة نوح على طولها تسمى قرناً. إذن فالقرن هو جيل يجمعه ضابط إما زمني وإما
معنوي، والقرن الزمني مدته مائة سنة، أما القرن المعنوي فقد يكون عمر رسالة أو
مُلْك.
ويخبر الحق أهل الكفر بأنه قد قدر على غيرهم وأبادهم بعد أن مكن لهم في الأرض وذلك
بألوان مختلفة من أنواع التمكين: { وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم
مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } ، وهذا الخبر يأتي
من السماء بما حدث لقوم سابقين مثل قوم سبأ، فقد قال عنهم الحق في موضع آخر من
القرآن الكريم:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن
يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }[سبأ: 15].
ومسكن سبأ باليمن آية دالة على قدرة الله؛ حديقتان وارفتان عن يمين وشمال؛ ليأكل
أهل سبأ من رزق الله ويشكروا نعمة الله. وكان لهم سد مأرب، ووهبهم الله القدرة
لبنائه، فقطعوا من الجبال التي ليس عمل فيها ليحجزوا ماء المطر الساقط من السماء،
كل شيء إذن فعلوه وإنما فعلوه لأن الله قد أراده، وهم أعرضوا عن أمرين: عن الرزق
الوفير الذي منحهم الله إياه وأرادوا أن يعتمدوا على أنفسهم كما فعل قارون حيث قال:
{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي }.
ظنوا أنهم قادرون على رزق أنفسهم وكذلك لم يشكروا الله، ولذلك أرسل الله عليهم سيل
العرم، أي أنه عقاب من جنس العمل، وهكذا تكون عاقبة الإعراض والكفر بنعم الله. فقد
سلط الله عليهم حيوانا من أضعف الحيوانات وأحقرها وهو الفأر فنقب السد فأغرق
أموالهم ودفن بيوتهم.
ويخبر الحق رسوله بكل هذه الأخبار ليلفت بها وينبه إليها قوماً رأوا آثار حضارة
عاد وثمود، والرؤية سيدة الأدلة، وطالبهم الرسول بها حتى يعرفوا عاقبة الإعراض
والتكذيب والاستهزاء، ولم يطلب الحق من رسوله إلا البلاغ فقط، أما إيمان القوم
فليس مكلفاً به صلى الله عليه وسلم، إن هؤلاء قد خافوا من سيطرة " لا إله إلا
الله " فهم الذين صنعوا من أنفسهم آلهة وتسلط بعضهم على بعض. فتخيل القوي أنه
إله على الضعيف. وتخيل الغني أنه إله على الفقير، وتخيل العالم أنه إله على
الجاهل، أما " لا إله إلا الله " فهي تساوي بين الناس جميعاً، وهم
يرفضون ذلك لأنهم يريدون السيادة.. ومثال ذلك قولهم:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ
هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
فهم لم يجرؤوا على الطعن في القرآن، إنما طلبوا أن تكون السيادة لغني من أغنياء
القريتين مكة أو الطائف وتناقض هذا القول مع عملهم وسلوكهم مع الرسول، فقد حفظوا
كل نفيس حرصوا عليه عند محمد صلى الله عليه وسلم. ولو كان الواحد منهم يرى شيئاً
أو مغمزاً في أمانة رسول الله لما فعلوا ذلك. ولكن الواحد منهم بالرغم من التكذيب
بمحمد لم يكن يأتمن إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان حينما تقع مصلحته
أمام تكذيبه فهو يغلب مصلحته على تكذيبه.
ويبين الحق سبحانه أن إعراض هؤلاء، وتكذيب هؤلاء واستهزاء هؤلاء، لا يمت إلى حقيقة
أمرك يا رسول الله، ولا إلى حقيقة القرآن في شيء، وإنما هو العناد، مثلهم مثل آل
فرعون الذين جحدوا آيات الله على الرغم من أن أعماقهم رأت هذه الآيات بيقين لا
تكذيب فيه.{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }[النمل: 14].
فقد أنكر قوم فرعون رسالة موسى عليه السلام مع أنهم تأكدوا من صدقها، ولكنهم
أنكروها بالاستكبار والعلو والظلم، فكانت عاقبتهم من أسوأ العواقب، وهذا هو حال
المنكرين دائماً لأيات الله.
وها هم أولاء منكرون جدد لرسالة رسول الله. يقول الحق سبحانه وتعالى فيهم: }
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً... {
(/788)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
هذا الكتاب - القرآن - لو نزل إلى هؤلاء المكذبين مكتوباً في ورق من المحس المشاهد
فلمسوه بأيديهم لقالوا ما قاله كل مكذب، إنه سحر ظاهر. وقد طالب المكذبون الرسول
صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ليقرأوه كشرط من ضمن شروط أخرى
قال عنها الحق مصوراً جحودهم:{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ
وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا
فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً
نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً
}[الإسراء: 90-93].
فبعد أن وضح لهم إعجاز القرآن حاولوا زوراً، واقترحوا من الآيات ليؤمنوا، كان يفجر
لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ينبوعاً في أرض مكة لا ينقطع ماؤه، أو يكون لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة بستان من نخيل وعنب. تتخلله الأنهار، أو أن يدعو
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنزل السماء عليهم قطعاً كعذاب شديد، أو أن
يتجسد لهم الله والملائكة ليَروْهم رأي العين، أو أن يكون لرسول الله بيت من ذهب
مزخرف، أو أن يصعد إلى السماء ويأتيهم بكتاب من الله يقرر صدق رسالته، ولكن الله
برحمته واتساع حنانه ينزه ذاته أن يتحكم فيه أحد أو أن يشاركه في قدرته فيعلن لهم
على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قوله - سبحانه وتعالى -:{ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 93].
لأن الذي يبعث الآيات هو رب العالمين، ولا أحد يجرؤ أن يفرض على الله آياته. ورسول
الله صلى الله عليه وسلم هو مُستَقْبِل لآيات الله لا مقترح للآيات، ذلك أنه صلى
الله عليه وسلم يعلم أن من يقترح على الله آية ثم يأتي فيكذب بها يصيبه ويناله
الهلاك، هذه سنة الله، ورسول الله يعلم أنه النبي الخاتم؛ لذلك لن يطلب أي آية من
الله حتى لا ينزل عقاب الله من بعدها إن كذبوا بها. ويبلغ الحق رسوله عتو
المتجبرين المنكرين واستكبارهم. { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي
قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ
إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
الحق يعلم أن قلوب بعض المنكرين قد صارت غفلاً لا يدخلها الإيمان ولا يخرج منها
الباطل - كما أراد هو لهم - فلو نزَّل إليهم كتاباً في قرطاس ليكون في مجال رؤية
العين ولمسوه بأيديهم فلن يؤمنوا. ويأتي أمر لمس الكتاب بالأيدي؛ لأن اللمس هو
الحاسة التي يشترك فيها الجميع حتى الأعمى منهم، وبرغم ذلك فسيكذبون قائلين: {
إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ومثل هذا الرد لا ينبع عن عقل أو تدبر أو
حكمة.
ولا يتناسب مع القوم الذين عُرفوا بالبلاغة والفصاحة، وبحسن القول وصياغته؛ لأن
السحر إنما يغير من رؤية الناس للواقع، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم
متهماً بالسحر منهم فلماذا لم يسحرهم هم، ولماذا استعصموا هم بالذات على السحر؟
والمسحور ليس له عمل ولا إرادة مع الساحر، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم ساحراً
لصنع من السحر ما يجعلهم يؤمنون.
إن من العجيب وهم أبصر الناس بفن القول، وهم أهل النبوغ في الأداء، ويعرفون القول
الفصل والرأي الصحيح ويميزون بين فنون القول: خطابةً، وكتابةً، ونثراً، وشعراً،
والقول المسجوع، والقول المرسل، من العجيب أنهم يقفون أمام معجزة القرآن مبهوتين
لا يعرفون من أمرهم رشداً، فمرة يقولون إنه سحر، ومرة يقولون: إنه كلام كهنة،
وثالثة يقولون: إنه كلام مجنون.
والقرآن ليس بسحر، لأنه يملك من البيان ما يملكون وفوق ما يملكون ويحسنون، ولا
يفعل رسول الله معهم ما يجعلهم يؤمنون على الرغم منهم، وليس القرآن كذلك بكلام
كهنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ بينهم ويعلمون أنه الصادق الأمين الذي
لم يتلق علماً من أحد، فضلا عن أن كلام الكهان له سمت خاص وسجع معروف، والقرآن ليس
كذلك. ويعلمون أنه كلام رجل عاقل، فكلام المجنون لا ينسجم مع بعضه، وها هوذا الحق
يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
* وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ
}[القلم: 2-4].
وقد أعد الله رسوله ليستقبل النبوة بقوة الفعل، لا بسفه الرأي، وله في إبلاغ رسالة
ربه ثوابٌ لا مقطوع ولا ممنوع، وهو على الخُلق العظيم. والخُلُقُ العظيم - كما
نعلم - هو استقبال الأحداث بملكات متساوية وليست متعارضة ولا يملك ذلك إلا عاقل.
وقد شهدوا بخُلُق محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يأتي هذا الخلق العظيم من مجنون؟
وكيف يصدر السلوك المتصف بالسلامة والصلاح والخير من مجنون؟ كانت - إذن - كل
اتهاماتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبع من إصرارهم على الكفر، لا من واقع
لمسوه، فكل ما قالوه في رسول الله هم أول الناس الذين شهدوا عكسه ولمسوا نقيضه.
وجاءوا - إصراراً على الكفر - يطلبون أية أخرى: } وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ... {
(/789)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
ما المَلَك؟ المَلَك جنس جعله الله من الغيب، ونحن لا نؤمن به إلا لأن الله الذي
آمنا به قال: إن له ملائكة مثلما قال: إن هناك جنّاً، والملائكة من جنس الغيب،
والجن مستور عنا. وهؤلاء المنكرون الجاحدون يطلبون نزول مَلَك حتى يؤمنوا. إذن فهم
قد عرفوا أن هناك غيباً وأن فطرتهم الأولى تحمل أثراً من منطق السماء لكنهم
ينكرون، وقولهم بالملَك دليل على أن في أعماقهم رواسب من دين إبراهيم ودين
إسماعيل، وبقيت تلك الآثار في النفوس لأنها مسألة لا تمس السيادة، ولو أنزل الحق
لهم ملَكَاً لما آمنوا أيضاً، فهم مكذبون. ولا يريد الحق أن يطبق عليهم سنته بنزول
الآية التي يطلبونها حتى لا ينزل بهم عقابه إن كفروا بها. فلو أنزل الحق عليهم
ملَكَاً كما يطلبون ثم كفروا لقضي الأمر وأهلكوا بدون إمهال. إذ لو تجلى الملَك
لهم وظهر على طبيعته ما تحملته كياناتهم البشرية.
ولقد نزل الملَكُ بآثاره الدامغة وهو غيب أنزله - سبحانه وتعالى - بالوحي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفعل في رسول الله ما فعل، ولم يظهر من عمله مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا أثره فحسب. وها هوذا رسول الله يشرح لنا ذلك لحظة مجيء
الملك أول مرة في غار حراء:
فقال الملك: اقرأ.
" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني فقال: اقرأ: فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني فقال: اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني، فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ
مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *
عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
بيته يرجف فؤاده ودخل على زوجه السيدة خديجة بنت خويلد، فقال: (زملوني زملوني).
فزملوه حتى ذهب عنه الروع. وأخبرها الخبر وقال: " لقد خشيت على نفسي "
فقالت خديجة - رضي الله عنها - وهي تعدد صفات وخلق رسول الله العظيمة: " كلا
والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم وتقري
الضيف، وتعين على نوائب الدهر ".
هكذا كان الإيمان الأول من خديجة من فور أن عرفت خبر الوحي. ويطمئن الحق رسوله من
بعد ذلك قائلاً:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ *
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }[الشرح: 1-4].
وشرح الله صدر رسوله فصار هذا الصدر مهبط الأسرار والعلم وحط عن ظهر الرسول الكريم
الأعباء الثقال، وارتبط اسم الرسول صلى الله عليه وسلم بأصل الإيمان والعقيدة حتى
صار اسم رسول الله مقروناً باسمه - جل شأنه - في الشهادة الأولى للإسلام "
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ".
إذن كان هذا حال رسول الله حين تجلَّى له المَلَك لا بالحقيقة الملكية، ذلك أن
هناك فارقاً بين البنيان البشري والبنيان الملكي. فالبنيان البشري يستقبل الأشياء
المادية التي تناسب تكوينه، فإن جاءت له طاقة أعلى منه فلا يمكنه أن يستقبلها إلا
إذا أعد الله المَلَك وصَّوره بصورة تجعله قابلاً للإرسال، وأعد الله الرسول ليكون
قابلاً للاستقبال. ونعلم جميعاً قصة موسى لما جاء لميقات ربه، وقال الله في وصف
ذلك اللقاء:{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىا لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىا
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىا صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ
قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }[الأعراف:
143].
والمانع لرؤية الله هو عدم قدرة الإنسان على الإحاطة البصرية بالله، فعندما تجلى
الله للجيل المتماسك الصلب صار الجبل دكاً، أي مفتتاً وخر موسى عليه السلام
مصعوقاً من هول ما رأى، ولما أفاق تاب الله وأعلن أنه أول المؤمنين به سبحانه فإذا
كان الإنسان قد صعق من تجلي الحق للجبل، فكيف يقدر على أن يتجلى الحق له؟
إننا نعلم أن كل تكوين له قدرة استقبال لما يناسبه من أشياء، وضربنا لذلك مثلاً من
دنيانا العلمية - ولله المثل الأعلى دائماً وهو منزه عن كل مثال - نجد الإنسان منا
عندما يدخل الكهرباء إلى بيته لرغبته في الانتفاع بقانون النور والضوء لمدة أطول
وبفوائد الكهرباء المتعددة، ولكنه عندما يريد أن ينام فهو يطلب الانتفاع بقانون
الظلمة، فيطفئ المصابيح، ويضع مصباحاً صغيراً لا يتحمل أن يأخذ الطاقة مباشرة من
الكهرباء من مصدرها القوي؛ لذلك يأتي الإنسان بمحول للطاقة فيستقبل المحول طاقة
الكهرباء العالية من مصدرها ويخفضها بصورة تناسب المصباح الصغير. وهكذا نحتفظ بضوء
ضعيف في الليل لنستفيد من قانون الظلمة لننام.
وقد امتن الحق علينا أنه خلق النور وخلق الظلام، وكل منهما له مهمة. فإذا كان
خَلْقُ النور والضوء والكهرباء قد أتاح للإنسان بناء حضارة، فالظلام أتاح للإنسان
أن يرتاح وتسكن نفسه فيقوم ممتلئاً بالنشاط والحيوية. وإذا كنا نحتفظ في الليل
ببصيص نور لا يزعج، فنحن نفعل ذلك حتى لا نحطم الأشياء أو نصطدم بها إذا ما قمنا
في الليل لقضاء حاجة.
وكذلك الإنسان.. إنه لا يستطيع بضعفه أن يأخذ عن الله مباشرة.. ومن رحمة الحق
بالخلق أن جعل بينه وبين الخلق وسائط، بتلقي المَلَك عن الله، والملك وسيط،
والمَلك ينقل إلى الرسول المصطفى، والرسول المصطفى وسيط، ومن تغفيل أهل الكفر أنهم
طالبوا بإنزال ملك رسول.
ويرد الله عليهم في موضع آخر من القرآن الكريم:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ
إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً
* قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 94-95].
لقد طالبوا - جهلاً - أن ينزل إليهم ملك رسول بالهدى، ويأمر الحق رسوله أن يرد
عليهم بأنه لو كان بين البشر ملائكة.. أي لو كان هناك ملائكة يمشون في الأرض لنزل
إليهم الملك كرسول. ولما كان هذا غير حاصل، فقد أرسل الحق رسولاً من البشر؛ لأن
المفروض أن يُبلغ الرسول وأن يكون كذلك أسوة سلوكية للمنهج، بأن يطبق المنهج على
نفسه، فلو نزل ملك كرسول وطبق المنهج على نفسه لقال له البشر: إنك مَلَك تقدر على
ما لا نقدر عليه وأنت لا تصلح أسوة لنا؛ لذلك كان لا بد أن يكون الرسول من جنس
المرسل إليهم أنفسهم حتى يكون أسوة لهم وقدوة.
إن هذا هو ما يبطل الادعاء بألوهية عيسى عليه السلام أو بنوته لله؛ لأن عيسى عليه
السلام طالبهم أن يفعلوا مثله. وأراد الحق ببشرية الرسل أن يؤكد القدوة والأسوة في
الرسل، ولذلك قال: } وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ {؛ لأن البشر
لا يستطيعون استقبال إشعاعات وإشراقات المَلَك لأنهم غير معدِّين لاستقبال تلك
الإشعاعات والإشراقات. ولذلك يقول الحق: } وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً... {
(/790)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
إذن فلو أراد الله أن يبعث رسولاً من الملائكة لجعله على هيئة البشر لعدم
استطاعتهم معاينة المَلَك على صورته الأصلية، وقد يهلكون عند رؤيته {
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } أي ولخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما
يخلطون هم على أنفسهم فإنهم سيقولون - حينئذ - إنما أنت بشر ولست بملك، وقد أنزل
الله المَلَك على صورة البشر كما حدث مع خليل الله إبراهيم عليه السلام يقول
تعالى:{ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ
فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ }[الحجر: 51-53].
لقد أنزل الله الضيف من الملائكة على إبراهيم عليه السلام فخاف منهم بعد أن قرَّب
العجل ورآهم لا يأكلون إلى أن قالوا له ما يطمئنه من خبر ببشارة من الله، بأن يولد
له الغلام إسحاق من زوجته " سارة " بعد أن رزقه الله من قبل إسماعيل من
" هاجر ".
وكذلك أنزل الحق إلى مريم البتول مَلَكاً وتمثل لها بشراً سوياً لينبئها بحملها
بعيسى عليه السلام. إذن فالمَلَك يتجسد في صورة بشرية عندما يرسله الله في مهمة
إلى البشر؛ لأن الملك لا يأتي إلى البشر على حقيقته. ومن امتنان الله على رسوله
أنه أعطى له الفرصة ليرى جبريل على حقيقته مرة عند سدرة المنتهى، ومرة حين تجسد له
على هيئة دحية الكلبي ومرة في صفة رجل مسافر جاء يسأل الرسول عن الإسلام والإيمان،
وحدثنا عنه عبدالله بن عمر قائلاً:
" حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر
السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى
ركبيته ووضع كفيه على فخذيه. قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم
الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت.
قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن نؤمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال:
فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال:
فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن
أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء
يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي: يا عمر أتدري من
السائل؟ قلت: الله ورسوله وأعلم. قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "
إذن، فنحن ببشريتنا لا نستطيع رؤية الملَك إلا بعد أن يجسده الله بشراً. ولذلك قال
الحق: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } إذن فالَّلبس موجود بدليل أن الله أرسل الملائكة في
صوة بشر لإبراهيم عليه السلام ومريم ابنة عمران ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو جالس
بين قومه.
ويسلي الحق سبحانه وتعالى رسوله من بعد ذلك قائلاً: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ... }
(/791)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
هنا يخبر الله رسوله أن أهل الكفر كثيراً ما سخروا من قبلُ بالرسل السابقين
وأخزاهم الله بالعذاب الذي أنذر به أهل التكذيب للرسل، فالذين يسخرون بخير السماء
يحيطهم سبحانه بالعذاب جزاء لما كانوا يستهزئون.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... }
(/792)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
نعلم أن الحق لم يقل أبداً: سيروا على الأرض؛ لأن الأرض ظرف يسير فيه الإنسان،
والإنسان مظروف في الأرض. وقد حدث هذا البلاغ من الله قبل أن نصل بالعلم إلى معرفة
أن الأرض كروية ومعلقة في الهواء، والهواء يحيط بها، وأن الهواء هو أقوات الإنسان
بما فيه من أوكسجين وبما يغذي النبات من ثاني أوكسيد الكربون، ونعلم أن الإنسان
يصبر على الطعام لأسابيع ويصبر على الماء لأيام ولا يصبر على انقطاع الهواء عنه
للحظات. ولذلك لا يملَّك الله الهواء لأحد أبدا، وهكذا عرفنا أن الهواء من جنس
الأرض. وعندما يسير الإنسان فالهواء يحيطه، وعلى ذلك فهو يسير في الأرض. وهذا من
الإعجاز الأدائي في القرآن ونقرأ قوله الحق:{ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }[النحل: 36].
وهنا في سورة الأنعام يقول الحق سبحانه: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ
انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام: 11].
ما الفرق بين الاثنتين؟ خصوصاً ونحن نعلم أن الفاء من حروف العطف وكذلك " ثم
" هي أيضاً من حروف العطف وكلتاهما حرف يُفيد الترتيب، ولكن الفارق أن الفاء
تعني الترتيب مع التعقيب أي من غير تراخٍ ومضى مدة.. مثل قولنا: جاء زيد فعمرو، أي
أن عَمْراً جاء من فور مجيء زيدٍ من غير مهلة. ولكن " ثم " تعني طول
المسافة الزمنية الفاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، فعندما يقول الحق:{
فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
}[النحل: 36].
فكأن النظر والتدبر هو المراد من السير وبذلك يكون سيرَ الاعتبار.
ويقول الحق: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } يعني أن الإنسان قد يسير في الأرض للتجارة أو الزراعة
أو لأي عمل، وعليه أن يتفكر في أثناء ذلك وأن يتأمل, إذن فهناك سير للاعتبار وسير
للمصلحة. والسير للاعتبار يعني أن يأخذ الإنسان العبرة مباشرة، أما السير للمصلحة.
والسير للاعتبار يعني أن يأخذ الإنسان العبرة مباشرة، اما السير للمصلحة فهو أن
يأخذ الإنسان العبرة ضمن المصلحة. وكان سير قريش بقوافلها إلى الشام واليمن يجعلها
قادرة على أن ترى آثار المكذبين سواء من أهل ثمود أو قوم عاد أو غيرهم. وكان عليهم
أن يأخذوا العبرة في أثناء سعيهم لتجارتهم.
ويقول الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك: { قُل لِّمَن مَّا فِي... }
(/793)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
كأن الحق يعلَّم رسوله السؤال والجواب؛ حتى يتعلم الناس من خلال ذلك أن كُلَّ
المُلْك لله؛ لأنهم مهما بحثوا عن مالك الكون فلن يجدوا إلا الله، حتى المكذبين
منهم قال الحق عنهم:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ
}[العنكبوت: 61].
وعلى الرغم من شركهم بالله لا يقدرون إلا على الإقرار بأن الله هو خالق كل شيء؛
لأن الإنسان قد يغتر بما لذاته من اختيار، لكن عندما ينظر لما يقع على ذاته من
اضطرار فهو يعترف فوراً على الإيمان. وقد يختار الإنسان أشياء لكنَّ هناك أحداثاً
تقع عليه لا اختيار له فيها وذلك لينبه الحق خلقه أنه فعال لما يريد وأنه يحكم هذا
الكون وأن الاختيار ما كان إلاّ ليختبر الإنسان نفسه باتباع تكاليف الله.
والأحداث ثلاثة: حدث يقع عليك، وحدث يقع فيك، وحدث يقع منك. وما يقع عليك ليس لك
فيه اختيار، وما يقع فيك لا اختيار لك فيه، ولا يبقى لك إلا ثلث الأحداث وهو ما
يقع منك. وأنت محكوم في ذلك بقوسين لا اختيار لك فيهما: قوس الميلاد وقوس الموت،
إذن فالأمر كله لله.
ويطمئن الحق خلقه قائلاً: { كَتَبَ عَلَىا نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وهو قول
ليُطَمِئَن به الحقُّ عباده حتى لا يظن الناس أن الله يعاقبهم دون حساب؛ لأنه
الحليم ذو الفضل وهو القائل:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ }[يونس: 58].
ويعفو سبحانه عن الكثير، وباب رحمته وفضله مفتوح ويفسح التوبة لكل عاصٍ. ومن فضل
الله أنه جعل بعضاً من الكفار يقفون في بداية الإسلام ضد المسلمين ثم يكونون من
بعد ذلك سيوفاً للإسلام، وسبحانه الرحيم الذي يجمعنا للحساب يوم القيامة الذي لا
ريب فيه ولا شك، ونسير جميعاً مدفوعين إلى ذلك اليوم ويأتي الكافر على رغم أنفه،
والمؤمن يتيقن رحمة الله وفضله ويفرح بلقاء ربه.
والكافر - والعياذ بالله - قد خسر نفسه بعمله مصداقا لقوله الحق: { الَّذِينَ
خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وخسران النفس مترتب على عدم
الإيمان؛ لأننا لو نظرنا إلى الغايات وإلى الوسائل لوجدنا أن الوسيلة تأتي قبل
الغاية، ولكن في التحضير العملي الغاية تتضح قبل الوسيلة؛ فالذي يستذكر إنما
يستحضر في ذهنه الغاية وهي النجاح، فيبذل الجهد لينجح؛ لأننا نعلم أن كل شرط هو
واقع بين أمرين، بين جواب دافع، وجواب واقع؛ فالنجاح دافع للمذاكرة، والمذاكرة
تجعل النجاح واقعاً، ويقول ابن الرومي:ألا مَنْ يُرِيني غايتي قَبْلَ مَذْهبي
ومِنْ أين والغايات بعد المذاهبِ؟وهذا القول منه غير سديد؛ لأن الإنسان عليه أن
يتنبه إلى الغاية وأن يتعرف على الوسيلة التي توصله إلى الغاية، فإذا كانت الغاية
أن يذهب الإنسان إلى الله، والوسيلة هي المنهج، فلماذا الحيرة إذن؟ وهكذا نعلم أن
الذين لم يؤمنوا قد خسروا أنفسهم لأنهم لم يميزوا الغاية الدافعة وهي الذهاب إلى
الله والنزول على حكمه، عن الغاية الواقعة وهي الوسيلة، وسبحانه قد يسرها لعباده
إذ قد أتى لهم بالمنهج الذي يسيرون عليه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ
وَالنَّهَارِ... }
(/794)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
إن من عظمة الموجود الأعلى الواجب الوجود أنه يتكلم عن نفسه بضمير الغيب وهو
سبحانه القائل في أول بعض الآيات: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }.
و " قل " هي أمر، فكأن الحق حين يقول: " هو " فلا يمكن أن
تطلق " هو " إلا على الله ولا تنصرف إلا الله. { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي
الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وكلمة " سكن " هي من مادة السين والكاف
والنون، وتأتي لمعان متعددة؛ فتكون من السكنى أي الاستيطان، وتكون من السكون الذي
هو ضد الحركة. والمثال على الاستيطان هو قول الله لآدم:{ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ }[البقرة: 35].
إن الحق سبحانه يقول هنا: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } فكأن
الليل والنهار ظرف، وكل الوجود مظروف فيه. وظرفية الليل والنهار تأتي على ظرفية
المكان وهو الأرض. وكل مكان في الأرض يأتي عليه الليل والنهار. فإن أردنا
الاستيطان في السكن فهي موجودة، وإن أردناها من السكون - وهو ضد الحركة - فهي
موجودة؛ ذلك أن كل متحرك يؤول إلى ساكن، والإنسان سيد الحركة ثم يموت أو يسكن في
الأرض. وهكذا نرى أن الجنس الأعم الذي يشملهما معًا هو { مَا سَكَنَ } ولذلك قال
الحق: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ } [الأنعام: 13].
وحينما يقول: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ، فهو يتكلم عن
الزمان، واحتوائية الزمان للزمانيات، أي للأشياء التي تحدث في هذا الزمان.
والإنسان كما نعلم حدث. وكل ما يطرأ عنه حدث، وكل ما في الكون حدث، وقد أحدثه الحق
الواجب الوجود.
وما دام الحدث قد وُجد فلا بد له من زمان ولا بد له من مكان. أما مكان الحدث فهو
السماء والأرض، وما بينهما. وأما زمان الحدث فهو الليل والنهار.
إذن فالحق قد تكلم عن خلق الزمان من بعد أن أعلن لنا أنه خالق المكان.{ قُل لِّمَن
مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ }[الأنعام: 12].
وهكذا نعلم أن الزمان والمكان قد وُجِدا عندما شاء الله أن يحدث هذا الكون. ولا
تقل أبداً أيها الإنسان: أين كان الله قبل أن يخلق الكون؟ لأن " أين "
هي بحث عن مكان، و " متى " هي بحث عن زمان. و " أين " و
" متى " إنما وجدتا بعد وجود الحدث في الكون. والكون هو ظرف قار أي شيء
ثابت. والزمان هو ظرف غير قار، لأنه يكون مرة ماضياً، ومرة يكون حاضراً أو
مستقبلاً.
والحق سبحانه عندما قال: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي أن
له الظرفين: القار وغير القار.. أي له - سبحانه - الساكن وكذلك له ما يتحرك في
الكون؛ لأن كل متحرك يؤول أمره إلى سكون.
أو أن قوله الحق: } وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ { أي ما حل في
الليل والنهار، أي له سبحانه ما حل في الليل والنهار متحركاً كان أو ساكناً.
والحق يذيل هذه الآية بقوله: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { فالسمع متعلق
بالمسموع أي الذي له حركة، والعلم متعلق بالمسموع والمنظور والمشموم وكل شيء من
آلات الإدراك؛ لذا جاء قوله - سبحانه -: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { ليشمل
المتحرك والساكن، فسبحانه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء.
ونعلم أنه إذا أخبر الحق عن نفسه بصفة من صفات يوجد مثلها في البشر فنحن نأخذها في
إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. فأنت أيها الإنسان لك سمع فيقال عنك: سميع.
ولك علم فيقال: عليم. ولك بصر فيقال: مبصر. ولك قدرة فيقال: قادر. وقد تكون ذا مال
وفير فيقال: غني. ولك وجود فيقال: موجود. وأنت حي فيقال حي.
لكن أهذه الصفات التي فيك هي عين الصفات التي في الله؟ لا؛ لأن صفات الله إنما
نأخذها في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. ونحن نشاهد ذلك في أنفسنا؛ فالإنسان
منا له حال حياة، وحال موت. وفي حال الحياة له حالتان: حالة يقظة، وحالة نوم. وفي
حالة اليقظة نحن نرى بقانون البصر، ولهذا البصر حدود؛ فهو محكوم بقانون الضوء،
وكذلك السمع محكوم بقانون الصوت والموجة والذبذبة.
ومع ذلك فالإنسان ينام ويغمض عينيه ويرى رؤيا فيها ألوان حمراء وخضراء وغيرها،
فبأي شيء أدركت الألوان وعينك مغمضة؟ إذن فما دام في البشر رؤيا بدون عين فلا تقل
عن رؤيا الله لنا إن له عيوناً مثل عيوننا، بل هو يرى في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ {. إنه سبحانه وتعالى قيوم يحكم عبادَه في الزمان والمكان في حالة يقظتهم وفي
حالة نومهم.
ومثال من حياتنا اليومية، نحن نجد الرجل وزوجه ينامان في فراش واحد، وقد يرى الرجل
في المنام أنه يواجه أعداءه، وترى الزوجة نفسها محاطة بسعادة الأبناء والأحفاد،
ويستقيظ كل منهما ليحكي ما رأى في أكثر من ساعة، على الرغم من أن مخ الإنسان لا
يعمل في أثناء النوم إلا لسبع ثوان.
إذن، ففي النوم تُلغى المعية وكذلك الزمن، والمكان. فإذا كانت تلك هي القوانين
التي تحكم الإنسان، فعلينا أن نعرف أن خالق كل القوانين وهو الحق لا يمكن إدراك
صفاته، وعلينا أن نأخذها في إطار: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. ويقول الحق من بعد
ذلك: } قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ... {=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق