الأربعاء، 10 مايو 2023

ج27. تفسير الشعراوي

ج27. تفسير الشعراوي

قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)

معنى { قُلْ... } [القصص: 49] أي: في الردّ عليهم { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىا مِنْهُمَآ... } [القصص: 49] أي: أهدى من التوراة التي جاء بها موسى، وأهدى من القرآن الذي جاء به محمد ما دام أنهما لم يُعجباكم { أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [القصص: 49] يعني: لو جئتمُ به لاتبعته.

وهذا يعني منهجين: منهج حقٍّ جاء به محمد، ومنهج باطل يُصرون هم عليه، وهذا التحدي من سيدنا رسول الله للكفار يعني أنه لا يوجد كتاب أهدى مما جاء به، لا عند القوم، ولا عند مَنْ سيأتي من بعدهم، وحين يُقر لهم رسول الله بإمكانية وجود كتاب أَهْدى من كتابه يطمعهم في طلبه، فإذا طلبوه لم يجدوا كتاباً أهدى منه، فيعرفوا هم الحقيقة التي لم ينطق بها رسول الله، وهل يستطيع بشر أن يضع للناس منهجاً أهدى من منهج الله؟

إذن: يقول لهم: { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [القصص: 49] وهو يعلم أنهم غير صادقين، لأن الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتَم الرسل، فلن يأتي رُسُل بعده، بحيث يأتي الرسول فتستدركوا عليه فيأتي آخر بكتاب جديد، وأنتم لن تستطيعوا أنْ تأتوا بكتاب من عند أنفسكم؛ لأن كل مُقنّن سيأتي الذي يخدم مذهبه، ويُرضي هواه.

لذلك نقول: ينبغي في المقنِّن ويُشترط فيه:

أولاً: أن يكون على علم واسع، بحيث لا يُسْتدرك عليه فيما بعد، وهذه لا تتوفر في أحد من البشر، بدليل أن القوانين التي وُضِعت في الماضي لم تَعُدْ صالحة الآن ينادي الناس كثيراً بتعديلها، حيث طرأتْ عليهم مسائل جديدة غابتْ عن ذِهْن المشرِّع الأول، فلما جدَّتْ هذه المسائل أتعبت البشر بالتجربة، فَطالبوا بتعديلها.

ثانياً: يشترط في المشرِّع ألاَّ يكون له هوى فيما يُشرِّع للناس، ونحن نرى الرأسماليين والشيوعيين، وغيرهم كُلٌّ يشرع بما يخدم مذهبه وطريقته في الحياة؛ لذلك يجب ألاّ يُسند التشريع للناس لأحد منهم؛ لأنه لا يخلو من هوى.

ثالثاً: يُشتَرط فيه ألاَّ يكون منتفعاً بشيء مما يشرع.

وإذا اقتضت مسائل الحياة وتنظيماتها أنْ نُقنّن لها، فلا يُقنِّن لنا من البشر إلا أصحاب العقل الناضج والفكر المستقيم، بحيث يتوفر لهم نُضْج التقنين، لكن إلى أنْ يوجد عندهم نضج التقنين أيّ منهج يسيرون عليه؟

فإنْ حدثتْ فجوة في التشريع عاش الناس بلا قانون، وإلاَّ فما الذي قنَّنَ لأول مُقنِّن؟ الذي قنّن لأول مُقنِّن هو الذي خلق أول مَن خُلق.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا... }.

(/3229)

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

وهذا يعني أن الله تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا، فلم يَأْتِهم بكتاب آخر، لكن كيف كان سيأتيهم هذا الكتاب؟ يجيب الحق - تبارك وتعالى - على هذا السؤال بقوله تعالى:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].

إذن: الكلام عندهم ليس في الكتاب، إنما فيمن أُنزِل عليه الكتاب، وهذا معنى: { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ... } [القصص: 50].

ثم يقول سبحانه: { وَمَنْ أَضَلُّ... } [القصص: 50] يعني لا أضل { مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ... } [القصص: 50] أي: أتبع هوى نفسه، أما إنْ وافق هواه هوى المشرِّع، فهذا أمر محمود أوضحه رسول الله في الحديث الشريف: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".

فنحن في هذه الحالة لا نتبع الهوى إنما نتبع الشرع؛ لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم في الطاعة والعبادة: اللهم إنِّي أخشى ألاَّ تثيبني على طاعتي؛ لأنك أمرتنا أنْ نحارب شهوات أنفسنا، وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي.

وأضلُّ الضلال أن يتبع الإنسان هواه؛ لأن الأهواء متضاربة في الخَلْق تضارب الغايات، لذلك المتقابلات في الأحداث موجودة في الكون.

وقد عبَّر المتنبي عن هذا التضارب، فقال:أَرَى كُلَّنَا يَبْغي الحياةَ لنفسهِ حَرِيصاً عَليها مُسْتهاماً بها صبَّافحبُّ الجبانِ النفس أوردَهُ التقى وحُبُّ الشجاع النفسَ أَوردَهُ الحَربَافنحن جميعاً نحب الحياة ونحرص عليها، لكن تختلف وسائلنا، فالجبان لحبه الحياة يهرب من الحرب، والشجاع يُلقي بنفسه في معمعتها مع أنه مُحِبٌّ للحياة، لكنه محب لحياة أخرى أبقى، هي حياة الشهيد.

وآخر يقول:كُلُّ مَنْ في الوُجودِ يطلبُ صَيْداً غير أنَّ الشباك مُختلِفَاتفالرجل الذي يتصدق بما معه رغم حاجته إليه، لكنه رأى مَنْ هو أحوج منه، وفيه قال تعالى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }[الحشر: 9].

نقول: هذا آثر الفقير على نفسه، لكنه من ناحية أخرى يبغي الأجر ويطمع في عَشْرة أمثال ما أنفق، بل يطمع في الجنة، إذن: المسألة فيها نفعية، فالدين عند المحققين أنانية، لكنها أنانية رفيعة راقية، ليست أنانية حمقاء، الدين يرتقي بصاحبه، ويجعله إيجابياً نافعاً للآخرين، ولا عليه بعد ذلك أن يطلب النفع لنفسه.

فالشرع حين يقول لك: لا تسرق. وحين يأمرك بغضِّ بصرك، وغير ذلك من أوامر الشرع، فإنما يُقيِّد حريتك وأنت واحد، لكن يُقيِّد من أجلك حريات الآخرين جميعاً، فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك، فإذا نظرت إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج الإلهي فلا تَنْسَ ما أعطاك.

لذلك حين " نتأمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من الأعراب الذين آمنوا، يشتكي إليه ضَعْفه أمام النساء، وقلة صبره على هذه الشهوة، حتى قال له: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، ومع ذلك لم ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل علم أنه أمام مريض يحتاج إلى مَنْ يعالجه، ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة، خاصة وقد صارح رسول الله بما يعاني فكان صادقاً مع نفسه لم يدلس عليها.

لذلك أدناه رسول الله، وقال له: يا أخا العرب، أتحب ذلك لأمك؟ أتحب ذلك لزوجتك؟ أتحب ذلك لأختك؟ أتحب ذلك لابنتك؟ والشاب في كل هذا يقول: لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِداك.

عندها قال صلى الله عليه وسلم: " كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبون ذلك لأمهاتهم ولا لزوجاتهم ولا لأخواتهم ولا لبناتهم ".

فانصرف الشاب وهو يقول: والله ما شيء أبغض إليَّ من الزنا بعدما سمعتُ من رسول الله، وكلما هَمَّتْ بي شهوة ذكرتُ قول رسول الله في أمي، وزوجتي، وأختي، وابنتي.

فالذي يُجرِّيء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب، وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها.

وسبق أن قلنا لطلاب الجامعة: هَبُوا أن فتى عنده شَرَه جنسي، فهو شرهٌ منطلق يريد أنْ يقضي شهوته في الحرام، ونريد له أن يتوب فقلنا له: سنوفر لك كل ما تريد على أنْ تُلقي بنفسك في هذا (الفرن) بعد أن تُنهي ليلتك كما تحب، ماذا يصنع؟

ثم يقول تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [القصص: 50] وفي مواضع أخرى:{ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[المائدة: 108]،{ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264]، وكلها دلَّتْ على أن الله لا يصنع عدم الهداية والتقوى - وإلاَّ فقد هدى الله الجميع هداية الدلالة والإرشاد فلم يأخذ بها هؤلاء فحُرِموا هداية الإيمان.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ... {.

(/3230)

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

كلمة { وَصَّلْنَا.. } [القصص: 51] تُشعر بأشياء، انفصل بعضها عن بعض، ونريد أنْ نُوصِّلها، فقوله تعالى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 51] أي: وصَّلنا لهم الرسالات، فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم الله برسالة أخرى ليظلَّ الخَلْق مُتصلِين بهدي الخالق وبمنهجه، أو: أن الأمر خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى وصَّلنا له الآيات، فكلما نزل عليه نجم من القرآن وصَّلنا بنجم آخر حسب الأحداث.

لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول الله، حين قالوا كما حكى عنهم القرآن{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً... }[الفرقان: 32] فردَّ عليهم القرآن ليبين لهم حكمة نزوله مُنجَّماً:{ كَذَلِكَ... }[الفرقان: 32] أي: أنزلناه كذلك مُنجَّماً{ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32].

فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول الله مرة واحدة، وهو محتاج إلى تثبيت مستمر مع الأحداث التي سيتعرَّض لها، فيوصل الله له الآيات ليظل على ذَكْر من سماع كلام ربه كلما اشتدتْ به الأحداث، فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلِّيه، ويُسرِّي عنه ما يلاقي من خصومه.

وحكمة أخرى في قوله:{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32] فكلما نزل قِسْط من القرآن سَهُلَ عليهم حفظه وترتيبه والعمل به، كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا، وسوف يسألون فيها رسول الله، فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة.

لا بُدَّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى:{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33].

وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى، فكيف تتأتى لنا الإجابة لو جاء القرآن كما تقولون جملة واحدة، ثم سبحان الله هل اطقتموه مُنجمَّاً حتى تطلبوه جملة واحدة؟

ثم تختم الآية بحكمة أخرى: { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 51] فكلما نزل نجم من القرآن ذكَّرهم بما غفلوا عنه من منهج الله.

ثم يقول الحق سبحانه: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ... }.

(/3231)

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

كأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سأجعل خصومك من أهل الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لأنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم، وما جاء في كتابك ذُكرَ في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم.

لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب الله تُعوِّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن، يقول تعالى:{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }[الرعد: 43].

فهم أيضاً شهداء على صدق رسول الله بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم.

ويقول تعالى:{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا * إِنَّ هَـاذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَىا * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا }[الأعلى: 16-19].

ويقول سبحانه:{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ... }[آل عمران: 199].

وإلا، فلماذا أسلم عبد الله بن سلام وغيره من علماء اليهود؟

إذن: أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم لا بُدَّ أنْ يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل الإسلام، سيادةً في العلم، وفي الحرب، وفي الثروة.

وكان من هؤلاء عبد الله بن أُبَيٍّ، وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكاً عليهم، فلما هاجر سيدنارسول الله إليها أفسد عليهم ما يريدون، ونزع منهم هذه السيادة، والسلطة الزمنية حينما تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات الله لخدمة أهوائهم، لا لخدمة مرادات الله.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِذَا يُتْلَىا عَلَيْهِمْ... }.

(/3232)

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)

هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يُتْلَى عليهم القرآن قالوا: آمنا به، وشَهِدوا له أنه الحق من عند الله، وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيماناً، فهم كانوا من قبله مسلمين، فقد آمنوا أولاً بكتبهم، وآمنوا كذلك بالقرآن.

(/3233)

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد ديناً حقاً لا بُدَّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة، لأنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين.

هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل، فالمسألة واضحة؛ لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد ديناً{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ... }[الأعراف: 157].

آمنوا به؛ لأنهم وجدوا نَعْته، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئاً من هذا، فأخذوا من أميته دليلاً على صِدْقه.

فقوله تعالى: { أُوْلَـائِكَ... } [القصص: 54] أي: أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله، والذين سبق وصفهم { أُوْلَـائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54] أجر لإيمانهم برسلهم، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

لذلك جاء في الحديث الشريف: " ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَة - جارية - فأدَّبها فأحسن تأديبها، فأعتقها بعد ذلك، ثم تزوجها ".

وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، وهذه هي حيثية { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54].

وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين، ومنهم - كما بيَّن سيدنا رسول الله: " عبد مملوك أدى حق الله، وأدَّى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَةٌ... ".

ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام، وأتى قبله، وهو المسيحية، فلهم ذلك أيضاً؛ لذلك يقول تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... }[الحديد: 25] وأهم هذه المنافع{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ... }[الحديد: 25] وذكر الحديد، لأن منه سيصنع سلاح الحرب.

إذن: أنزل الله القرآن لمهمة، وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعر:فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أَوْ حَدٌّ مُرْهَف يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍفَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهلولي أنا شخصياً ذكريات ومواقف مع هذه الآية { أُوْلَـائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر، كان دائماً يُواسي المسلمين، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن، وكانت تعلَق بذهنه بعض الآيات، فجاءني مرة يقول: سمعت المقريء يقرأ:

{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 107].

فألسنا من العالمين، قلت له: نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعاً، فمَنْ آمن به نالته رحمته، ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها، ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعانٍ وتبصُّر تجد أنه رحِم غير المؤمن، قال: كيف؟ فقرأتُ له قوله تعالى:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ... }[النساء: 105] ولم يقل بين المؤمنين{ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105].

فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم، وأنْ يردَّ عليه حقَّه، ثم{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }[النساء: 106] لأن الله لا يحب الخوَّان الأثيم ولو كان مسلماً.

ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الآية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طعمة بن أبيرق المسلم، وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته، وأذاع أمره بين الناس، فقصَّ اليهودي ما كان من أمر طُعْمة بن أبيرق، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة؛ لأنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته.

وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم؛ لأنه حديث عهد بإسلام، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق، ومالوا إلى إدانة اليهودي، وفعلاً عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلاً يُخرجه من هذا المأزق، مع أنهم لا يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق.

وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي، فيقول له: هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105].

فأدانت الآية ابن أبيرق، ودلَّتْ على أن هذه ليست الحادثة الأولى في حقِّه، ووصفتْه بأنه خوّان أي: كثير الخيانة وبرَّأتْ اليهودي، وصححتْ وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة المسلم بالسرقة، وغفلوا عن الأثر السيء لو قلبوا الحقائق، وأدانوا اليهودي.

فالآية وإنْ أدانت المسلم، إلا أنها رفعتْ شأن الإسلام في نظر الجميع: المسلم واليهودي وكل من عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الآية، ولو انحاز رسول الله وتعصَّب للمسلم لاهتزتْ صورة الإسلام في نظر الجميع. ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم الإسلام، وقد أسلموا فعلاً بعد ما حدث؟

وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه، حتى قالوا: مَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإنْ أعَنْتَه على أمره، فشاهد الزور يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته، وتطأ قدمُك على كرامته.

وقوله تعالى: } وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ... { [القصص: 54] هذه أيضاً من خصالهم أن يدفعوا السيئة بالحسنة، فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] } وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { [القصص: 54] النفقة الواجبة على نفسه وعلى آله، والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة، ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة.

(/3234)

وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

هذه صفة أخرى من صفات المؤمنين { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ... } [القصص: 55] واللغو: هو الكلام الذي لا فائدة منه، فلا ينفعك إنْ سمعتَه، ولا يضرك عدم سماعه، وينبغي على العاقل أنْ يتركه، فهو حقيق أنْ يُترك وأنْ يُلْغى.

ولذلك كان من صفات عباد الرحمن:{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }[الفرقان: 72] أي: لا يلتفتون إليه.

وسبب نزول هذه الآية: لما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رُسُل النجاشي وكانوا جماعة من القساوسة، فلما جلسوا أسمعهم سورة (يس)، فتأثروا لها حتى بكَوْا جميعاً، ثم آمنوا برسول الله، ولما انصرفوا تعرَّض لهم أبو جهل ونهرهم وقال: خيَّبكم الله من رَكْب - وهم الجماعة يأتون في مهمة - أرسلكم من خلفي - يعني: النجاشي - لتعلموا له أخبار الرجل، فسمعتموه فبكيتُم وأسلمتُم، والله ما رأينا رَكْباً أحمق منكم، فما كان منهم إلا أنْ أعرضوا عنه.

هذا معنى قول الحق سبحانه: { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.... } [القصص: 55].

وهؤلاء مرُّوا باللغو مرورَ الكرام، وأعرضوا عنه، فلم يلتفتوا إليه، وزادوا على ذلك أنهم لم يسكتوا على اللغو إنما قالوا: { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص: 55] لنا أعمالنا الخيِّرة التي يجب أنْ نُقبل عليها، ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أنْ تُترك، فكلٌّ مِنَّا له شَأْن يشغله.

{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ.. } [القصص: 55] والسلام إما سلام تحية كما هو شائع بيننا، وإما سلام للمتاركة كما لو دخلتَ مع صاحبك في جدل، فلما رأيتَ أنه سيطول وربما تعدَّيْتَ عليه فتقول له تاركاً: سلام عليكم. تعني: إنني ليس لديَّ ما أقوله لمفارقتك إلا هذه الكلمة.

ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وبين عمِّه، فبعد أنْ ناقشه ولم يَصل معه إلى نتيجة قال له:{ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي... }[مريم: 47].

ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... }.

(/3235)

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

هذا خطاب لسيدنا رسول الله، خاصٌّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلَّ على دين قومه، ولكنه كان يحمي رسول الله حماية عصبية قربى وأهل، لا محبة في الإسلام، ولله تعالى حكمة في أنْ يظلَّ أبو طالب على الكفر؛ لأنه بذلك كسب قريشاً ونال احترامهم، حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد وعدم مجاملته له، وأعجبهم أن يظل على دين الآباء، فاحترموا حمايته لابن أخيه، وهذا منع عن رسول الله إيذاءهم، وحمى الدعوة من كثير من الاعتداءات عليها.

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أنْ يردَّ له هذا الجميل، وردُّ رسول الله للجميل لا يكون بعرَض من الدنيا، إنما بشيء باقٍ خالد، فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم، قُلْ لا إله إلا الله كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة " فقال: يا ابن أخي، لولا أن قريشاً تُعيِّرني بهذه الواقعة، ويقولون ما آمن إلا جزعاً من الموت لأقررت عينك بها.

لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب، جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد، إن الكلمة التي طلبتَ من عمِّك أنْ يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها.

ونلاحظ هنا دقة الأداء من العباس، حيث لم يقُلْ: إن هذه الكلمة لا إله إلا الله، بل سماها (الكلمة) لماذا؟ لأنه لم يكن قد أسلم بعد.

وسبق أنْ تكلَّمنا في معنى الهداية { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... } [القصص: 56] وقلنا: إنها تأتي بأحد معنيين: بمعنى الإرشاد والدلالة، وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدلالة، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17] أي: سمعوا الدلالة وأطاعوها، فزادهم الله هداية أخرى، هي هداية الإيمان والمعونة.

يقول تعالى في هذه المسألة:{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }[فصلت: 17] يعني: دللناهم{ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىا عَلَى الْهُدَىا }[فصلت: 17]؛ لذلك حُرموا هداية المعونة.

إذن: الهداية المنفية عن سيدنا رسول الله { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... } [القصص: 56] هي هداية المعونة والتوفيق للإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والإرشاد، وكان مما قال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىا تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف: 10].

فهداية الدلالة صدرت أولاً عن الله تعالى، ثم بالبلاغ من رسوله صلى الله عليه وسلم ثانياً.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ... }.

(/3236)

وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

وهذه المقولة { إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... } [القصص: 57] قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله، وقال: إننا نعلم أنك جئتَ بالحق، ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا، ولا بُدَّ أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول.

والخطْف: هو الأخْذ بشدة وسرعة.

إذن: فهم يُقرُّون للرسول بأنه جاء بالحق، وأنه على الهدى، لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا، وكان عليهم أنْ يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويُتخطَّفوا وبين أنْ يظلُّوا على كفرهم.

فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم - على فرض أن هذا صحيح - قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ به مدة بقائك فيها، وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر، ولا يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الآخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه.

أما إنْ ظلُّوا على كفرهم، فمتاع قليل في الدنيا الفانية، ولا نصيبَ لهم في الآخرة الباقية. إذن: فأيُّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول الله، هذه واحدة.

ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تُتخطَّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد الله عليهم: قُلْ لهم يا محمد: كذبتم، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [القصص: 57].

فقد أنعم الله عليكم وأنتم كافرون مشركون به، تعبدون الأصنام في جاهلية، ومكَّن لكم حياة آمنة في رحاب بيته الحرام، ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذي زرع حيث يُجْبي إليه الثمرات من كل مكان، فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به، واهتديتم إلى الحق؟ كيف يكون منكم هذا القياس؟

ومعنى: { نُمَكِّن لَّهُمْ... } [القصص: 57] نجعلهم مكينين فيه، كما في قوله تعالى:{ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ... }[يوسف: 21] والتمكين يدل على الثبات؛ لأن ظرف المكان ثابت على خلاف ظرف الزمان.

وقال: { حَرَماً آمِناً.. } [القصص: 57] مع أن الأمن لمن في المكان، لكن أراد سبحانه أن يُؤمِّن نفس المكان، فيكون كل ما فيه آمناً، حتى القاتل لا يُقتصّ منه في الحرم، والحيوان لا يُثار فيه ولا يُصَاد، والنبات لا يُعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن، ألاَ تراهم يرجمون حجراً في رمي الجمرات في حين يُكرِّمون الحجر الأسود ويُقبّلونه.

وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم - عليه السلام - نجد أن له خطة، وأن الحق سبحانه يُعدُّه ليكون حرماً آمناً، فلما جاءه إبراهيم قال:{ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ... }[إبراهيم: 37].

هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إلا الهواء، لأن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء؛ لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر، فلما علمتْ أنه اختيار الله لهم قالت: إذن لن يضيعنا.

وقد رأتْ بنفسها أن الله لم يُضيِّعهم، فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ في طلبه بين الصفا والمروة سبعة أشواط على قَدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء في سَعْيها، ولو أنها وجدته لكان سعيها سبباً إنما أراد الله أنْ يُصدِّقها في كلمتها، وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب لتتأكد أن كلمتها حق، ثم شاءتْ قدرة الله أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد، وهو يضرب بقدمه الأرض، ويبكي من شدة الجوع والعطش، وانبجستْ زمزم.

ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقْفر أراده لهم سكناً دائماً، لا مجرد استراحة من عناء السفر؛ لذلك قال:{ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ... }[إبراهيم: 37].

وكأنه - عليه السلام - يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان، وأن يكون البيت مُصلَّى لله، لا تنقطع فيه الصلاة، وهذا هو الفرق بين بيت الله باختيار الله وبيت الله باخيتار عباد الله.

فالبيت الذي نبنيه لله تعالى قد يُغلق حتى في أوقات الفروض، أما بيت الله الذي اتخذه لنفسه فلا يخلو من الطواف والصلاة في أيِّ وقت من ليل أو نهار، ولا ينقطع منه الطواف إلا لصلاة مكتوبة، فإذا قُضيتْ الصلاة رأيتهم يُهرعون إلى الطواف.

وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى ملأ ساحته، ودخل الماء الكعبة وغطَّى الحجر الأسود، فكان الناس يطوفون سباحة، ورأينا أناساً يغطسون عند الحجر ليُقبِّلوه، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أن يظلَّ الطواف حول بيته لا ينقطع على أيِّ حال.

كذلك نفهم من قوله تعالى:{ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... }[إبراهيم: 37].

من الفعل هَوَى يهوي، يعني: سقط؛ لأن الذي يسقط لا إرادةَ له في عدم السقوط، كذلك مَنْ يأتي بيت الله أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعاً يدفعه كأنه لا إرادة له.

كما نفهم منها معنى آخر، فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها، فمنّا مَنْ لا يصلي أو لا يُزكِّي. إلا الحج حيث قال الله فيه:{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً... }[الحج: 27] فمجرد أن تؤذن يأتوك.

لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويُمسك على أهله ليوفِّر تكاليف الحج، فهو - إذن - الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها مَنْ لم تطلب منه.

ونلحظ أن إبراهيم - عليه السلام - دعا بالأمن للحرم مرتين: مرة في قوله:{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً... }[البقرة: 126] يعني: اجعل هذا المكان بلداً آمناً، كأيِّ بلد آمن لا تُقام إلا في مكان يُؤَمِّنون فيه كل مُقوِّمات الحياة، فأيّ بلد لا تُبنى حتى من الكافر إلا إذا كان آمناً فيها، فالطلب الأول أنْ يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن، كما يأمن كل بلد حين ينشأ، وهذا أمن عام.

ثم يدعو مرة أخرى{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً... }[إبراهيم: 35] بعد أن أصبحتْ مكة بلداً آمناً يطلب لها مزيداً من الأمن، وهذا أمن خاص، حيث جعلها بلداً حراماً، يأمن فيها الإنسان والحيوان والنبات، بل والجماد.

وقد وقف البعض عند قوله تعالى:

{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97].

وقالوا: أين هذا الأمن، وقد حدث في الحرم الاعتداء والقتل وترويع الآمنين، كما حدث في أيام القرامطة لما دخلوا الحرم، وقتلوا الناس فيه، وأخذوا الحجر، وفي العصر الحديث نعرف حكاية جهيمان، وما حدث فيها من قَتْل في الحرم.

وهذه الآية:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97] جملة خبرية غرضها الأمر والحثّ، كأنه تعالى قال: أمِّنوا من دخل الحرم. وهذه ليست قضية كونية، إنما قضية شرعية، وفرْق بين القضيتين: الكونية لا بُدَّ أن تحدث، أما الشرعية فأمر ينفذه البعض، ويخرج عليه البعض، فمَنْ أطاع الأمر الشرعي لله وأراد أنْ يجعل أمر الله صادقاً يُؤمِّن أهل الحرم، ومَنْ أراد أنْ يكذِّب ربه يهيج الناس ويروعهم فيه.

ومن الآيات التي كثيراً ما يُسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى:{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ... }[النور: 26] يقولون: كثيراً ما يتزوج خبيث من طيبة، أو طيبة من خبيث، فالواقع لا يتفق مع الآية. نقول أيضاً هنا: هذه قضية شرعية تحمل أمراً قد يُطاع وقد يُعْصَى، وليست قضية كونية لا بُدَّ أنْ تأتي كما أخبر الله تعالى بها، ولا يتخلّف مدلولها.

فالمعنى في الآية: إن زوجتُم فزوِّجوا الخبيث للخبيثة، والطيب للطيبة؛ ليتحقق التكافؤ بين الزوجين ويحدث بينهما الوفاق، حتى إنْ عيَّر الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أنْ تردّ عليه، لا بُدَّ من وجود التكافؤ حتى في (القباحة)، وإلا فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث، أو الخبيث مع الطيبة؟

إذن: فالآية وأمثالها قضية شرعية في صيغة الخبر، وإنْ كانت تعني الأمر، كما تقول عن الميت: رحمه الله بصيغة الماضي، وأنت لا تدري رحمه الله، أو لم يرحمه، إذن: لا بُدَّ أن المعنى دعاء: فليرحمه الله، قلتها أنت بصيغة الماضي، رجاء أن تكون له الرحمة.

نعود إلى قوله تعالى: } أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً... { [القصص: 57] ونلحظ هذا التمكين وهذا الأمن من قصة الفيل، حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة، ويتقدّم الجيش فيل ضخم يقال له محمود، فلما قالوا في أذنه (أبرُكْ محمود وارجع راشداً) يعني: انفد بجلدك (فإنك ببلد الله الحرام) فبرك الفيل واستجاب.

ثم جاءت معركة الطير الأبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش فجعلهم كعصف مأكول. هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش سكان حرمه؛ لتظل الكعبة مسكونة بهم، وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل الأنحاء للحج كل عام، فسوف يظل لهم الأمن بين القبائل، ولا يجرؤ أحد على الأعتداء عليهم، أو التعرُّض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف، وأيُّ أمن، وأيُّ مهابة بعد هذا؟

ومع الحجيج يُجلب الطعام وتُجلب الأرزاق، وصدق الله العظيم:{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 1-4].

وكيف بعد هذا الأمن والأمان يخاف مَنْ يؤمن بمحمد أنْ يُتخطَّف من أرضه؟ إنها مقولة لا مدلولَ لها.

(/3237)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

كلمة { وَكَمْ.. } [القصص: 58] كم هنا خبرية تفيد الكثرة، كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على الكثرة، كما تقول لمن ينكر جميلك، ولا تريد أنْ تُعدد أياديك عليه: كم أحسنتُ إليك، يعني: أنا لن أُعدِّد، وسوف أرضى بما تقوله أنت لأنك واثق أن الإجابة سوف تكون في صالحك، وعندها لا يملك إلا أن يقول: نعم هي كثيرة. فكم هنا تعني الكثرة، وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه.

ومعنى: { مِن قَرْيَةٍ... } [القصص: 58] من للعموم أي: من بداية ما يُقال له قرية { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [القصص: 58] البطر: أن تنسى شُكْر المُنعم على نعمه، أي: أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلَّبَ في نِعمه، أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل.

ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة، أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه، كالولد الذي تأتي له أمه مثلاً بطبق العدس فيتبرَّم به، وربما لا يأكل، فتقول الأم كما نقول في العامية؛ أنت (بتتبطر) على نعمة ربنا؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفصحى.

إذن: من البطر أنْ تتجبَّر، أو تتكبر، أو تتعالى على نعمة الله، فلا ترضي بها، وتطلب أعلى منها.

ومعنى { مَعِيشَتَهَا } [القصص: 58] أي: أسباب معيشتها { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 58] فما داموا قد بطروا نعمة الله فلا بُدَّ أن يسلبها من أيديهم، وإنْ سُلبتْ نِعم الله من بلد هلكوا، أو رحلوا عنها { إِلاَّ قَلِيلاً } [القصص: 58] هم الذين يقيمون بعد هلاك ديارهم.

{ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 58] نرثهم لأنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم، وإذا تُرِك مكان بلا خليفة يرثه آل ميراثه إلى الله تعالى.

وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع، يقول تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ... }[النحل: 112] يعني: بطرت بنعمه تعالى{ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ... }[النحل: 112].

ومعنى الكفر بالله: سَتْر وجود الله، والسَّتْر يقتضي مستوراً، فكأن الأصل أن الله تعالى موجود، لكن الكافر يستر هذا الوجود، وهكذا يكون الكفر نفسه دليلاً على الإيمان، فالإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه.

ومثال ذلك قولنا: إن الباطل جُنْدي من جنود الحق، فحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته، ويكتوون بناره، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب، ويطلبون فيه المخرج حين تعضُّهم الأحداث.

وكذلك نقول بنفس المنطق: الألم أول جنود الشفاء؛ لذلك نجد أن أخطر الأمراض هو المرض الذي يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيِّ ألم، فلا يدرى به إلا وقد استفحل أمره، وتفاقم خطره وعزَّ علاجه، لذلك نسميه - والعياذ بالله - المرض الخبيث.

ففي قوله تعالى:{ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ... }[النحل: 112].

دليل على وجود النعم، ومع ذلك كفروا بها أي: ستروها، إما بعدم البحث في أسبابها، والتكاسل عن استخراجها، أو ستروها عن المستحق لها وضنُّوا لها على العاجز الذي لا يستطيع الكسب؛ لذلك يسلبهم الله هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم.

وهناك أشياء لو ظلت موجودة لأعطتْ رتابة، ربما فهموا منها أن هذه الأشياء إنما تأتيهم تلقائياً بطبيعة الأشياء، وحين يسلب الله منهم نعمه ويطقع هذه الرتابة، فإنما ليفهموا أن الرتابة في التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف، كيف؟

نقول: الحق - تبارك وتعالى - حرَّم علينا أشياء وأحلَّ لنا أشياء، فمثلاً حرَّم الله علينا الخمر حتى أصبحنا لا نشربها ولا حتى تخطر ببالنا، فأصبحت عادة رتيبة عندنا، والله تعالى يريد أنْ يُديم على الإنسان تكليف العبادة، حتى لا يعتادها فيفعلها بالعادة، فيكسر هذه العادة مثلاً في صوم رمضان.

ويُحرِّم عليك ما كان حلالاً لك طوال العام، وقد اعتدْتَ عليه، فيأتي رمضان وتكليف الصيام ليُحرِّم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالأمس، ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوِّق العبد إليها، وتُعوِّده الانضباط في أداء التكاليف.

ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة الله{ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ... }[النحل: 112] والجوع له مظهران: أنْ تطلبه البطن في أول الأمر، فإنْ زاد الجوع ضعُفَتْ الجوارح، وتألمتْ الأعضاء كلها، وذاقتْ ألم الجوع، والله تعالى يريد أنْ يُرينا إحاطة هذا الألم، فشبَّهه باللباس الذي يحيط بالجسم كله، ويلفّه من كل نواحيه.

وهذه سُنَّة الله في القُرى الظالمة، كما قال سبحانه: } وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىا... {.

(/3238)

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

إذن: لا بُدَّ أن نُعْلِم بالمنهج، ويأتي رسول يقول: افعل كذا، ولا تفعل كذا، حتى إذا حَلَّ العذاب بالكافرين يكون بالعدْل، وبعد إلزامهم الحجة، لا أنْ نترك الناس يذنبون، ثم نقول لهم: هذا حرام.

وسبق أنْ قُلْنا ما قاله القانون: لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنصًّ، ولا نصَّ بإعلام. وما كان الله ليهلك قرية ظلماً، إنما عقوبةً لهم على ما فعلوا.

والقرية لها تسلسل فنقول: (نَجْع) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة، و (كَفْر) لعدة أسر، ثم (قرية) ثم (أم القرى) وهي الحضر أو العاصمة، وقد نزل القرآن في أمة مُتبدية، تعيش على الترحال، وتقيم في الخيام تتنقل بها بين منابت الكلأ، فقالوا (أم القرى) للمكان الذي تجد به القرى، وتتوفر فيه من مقومات الحياة ما لا يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغيرة، كما يعيش الآن أهل الريف على قضاء حوائجهم من (البندر)، كأنّ أُمّ القرى لها حنان، يشمل صغار البلاد حولها.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ... }.

(/3239)

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)

معنى: { مِّن شَيْءٍ... } [القصص: 60] من أيِّ شيء من مُقوِّمات الحياة، ومن كمالياتها { فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا... } [القصص: 60] فمهما بلغ هذا من السُّمو، فإنه متاع عمره قليل، كما قال سبحانه:{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء: 77].

لذلك طلبنا منكم ألاَّ تنشغلوا بهذا المتاع، وألاَّ تجعلوه غايةً، لأن بقاءك فيها مظنون، ومتاعك فيها على قَدْر نشاطك وحركتك.

وسبق أنْ قلنا: إن آفة النعيم في الدنيا إما أن يتركك أو تتركه، وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر الدنيا، إنما مدة بقائك أنت فيها، ومهما بلغتَ من الدنيا فلا بُدَّ من الموت.

لذلك يدلُّنا ربنا - عَزَّ وجَلَّ - على حياة أخرى باقية مُتيقَّنة لا يفارقك نعيمها ولا تفارقه.

{ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [القصص: 60].

{ خَيْرٌ... } [القصص: 60] لأن النعيم فيها ليس على قَدْر نشاطك، إنما على قَدْر الله وعطائه وكرمه، { وَأَبْقَىا.. } [القصص: 60] لأنه دائم لا ينقطع، فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة لاختار الآخرة.

لذلك، فإن الصحابي الذي حدَّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد، وتيقَّن أنه ليس بينه وبين الجنة إلا أنْ يُقتل في سبيل الله، وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها، ورأى أن مدة شغله بمضغها طويلة؛ لأنها تحول بينه وبين هذه الغاية، ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة. لماذا؟ لأنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.

والحق - سبحانه وتعالى - حين يُجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقول:{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ... }[التوبة: 52] إما أن ننتصر عليكم ونُذلكم، ونأخذ خيراتكم، وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا{ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا... }[التوبة: 52].

إذن: لا تتربصون بنا إلا خيراً، ولا نتربّص بكم إلا شراً.

وفي موضع آخر قال سبحانه:{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا }[الأعلى: 16 - 17] لذلك ذيَّل الآية هنا بقوله تعالى: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [القصص: 60] لأن العقل لو قارن بين الدنيا والآخرة لا بُدَّ أنْ يختار الآخرة.

ثم يقول الحق سبحانه: { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ.... }.

(/3240)

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

تُعد هذه الآية شرحاً وتأكيداً لما قبلها، والوعد: بشارة بخير، وإذا بشَّرك مُساوٍ لك بخير أتى خيره على قدر إمكاناته، وربما حالت الأسباب دون الوفاء بوعده، فإنْ كان الوعد من الله جاء الوفاء على قدر إمكاناته تعالى في العطاء، ثم إنَّ وعده تعالى لا يتخلف{ وَمَنْ أَوْفَىا بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ... }[التوبة: 111].

لذلك قال { وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ... } [القصص: 61] أي: حتماً { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [القصص: 61] أي: للعذاب.

وهذه الكلمة { الْمُحْضَرِينَ } [القصص: 61] لا تستعمل في القرآن إلا للعذاب، وربما الذي وضع كلمة (مُحضر) قصد هذا المعنى؛ لأن المحضر لا يأتي أبداً بخير.

ويقول تعالى في موضع آخر:{ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }[الصافات: 158].

وقال تعالى:{ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ }[الصافات: 57] ثم يقول سبحانه مُؤكِّداً هذا الإحضار يوم القيامة حتى لا يظن الكافر أن بإمكانه الهرب: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ... }.

(/3241)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)

والسؤال هنا للذين أشركوا، لا لمن أُشرك بهم، وكلمة { وَيَوْمَ... } [القصص: 62] منصوبة على الظرفية، لا بُدَّ أن نُقدِّر لها فعلاً يناسبها، فالتقدير: واذكر يوم يناديهم، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لمن يذكره رسول الله؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة.

والآية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي لا واقعةَ بعدها، ويوم الحاقَّة أي الثابتة التي لا تَزَحْزُحَ عنها، ويوم الصَّاخة أي: التي تصخّ الآذان التي انصرفتْ عنها في الدنيا، ويوم الطامة التي تطمُّ، ويوم الدين، أي: الذي ينفع فيه الدين.

والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لأمرين:

الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُودي وأُوذِي وهزِيء به وسُخِر منه، واجتمعت عليه كل وسائل النكالَ من خصومة فبيَّتوا به بمكر، وصنعوا له سحراً.. إلخ.

وحين تجد دعوة تُقابَل بهذه الشراسة، فاعلم أنها ما قُوبلت هذه المقابلة إلا لأنها ستهدم فساداً ينتفع به قوم ترهبهم كلمة الإصلاح؛ لأنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم وطغيانهم، فطبيعي أن يقفوا في وجهها.

لذلك نجد كثيراً من الغربيين يعرفون عظمة الإسلام من شراسة عداوة خصومه، يقولون: لو لم يكُنْ هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه، ولو كان أمراً هيِّناً لتركوه للزمن يمحوه، لكنهم أيقنوا أنه الحق الذي سيُذهِب باطلهم، ويقضي على طغيانهم.

فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه، ويذكره لقومه ليعتبروا، فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا إلى الله.

إذن: ليس حظ الله تعالى من هذا العمل أنْ يُرهبهم إنما ليحذرهم، لئلا يقع منهم الكفر الذي يُوقِفهم هذا الموقف، كما تُبشِّع لولدك عاقبة الإهمال، وتُحذِّره من الرسوب لينفر من أسبابه، ويبحث عن أسباب النجاح.

يقول تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ... } [القصص: 62] وقد ناداهم في الدنيا: يا أيها الناس، يا بني آدم فصمُّوا آذانهم، وأعرضوا عن نداء الله، واليوم يناديهم نداءً لا يملكون أنْ يصمُّوا آذانهم عنه؛ لأنه{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16] فكأن الحق يُذكِّرهم بهذا اليوم، لعلهم يرعوون، ولعلهم يرجعون.

الأمر الثاني: أن الآية جاءت تسلية لسيدنا رسول الله يقول له ربه: لا تيأس مما يصنعون معك، ولا يحزنك كيدهم وعنادهم؛ لأنني سأصنع بهم كيت وكيت. وأنت تستطيع أن تدرك سِرَّ هذا الإيعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكو لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه فتقول أنت لتُرضيه: انتظر سوف أفعل به كذا وكذا، فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة ويسعد بها، وكذلك حين يسمع رسول الله العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها، وتُسرِّي عن نفسه ما يلاقي.

ومضمون النداء } أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62] فلم يقُلْ شركائي ويسكت، إنما وصفهم } الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62] لأنه سبحانه واحد لا شريك له، وهؤلاء شركاء في زعمهم فقط، والزعم كما يقولون: مطية الكذب؛ لذلك لن يجدوا جواباً لهذا السؤال } أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62].

ولو كان أمامهم شركاء لقالوا: ها هم الذين أضلُّونا، فأذِقْهم يا رب العذاب ضِعْفين، لكنهم لم يجيبوا فهذا دليل على أنهم غَير موجودين، لقد وقف هؤلاء المشركين حائرين، لا يدرون جواباً كما قال تعالى:{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ... }[القصص: 66].

ثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ... {.

(/3242)

قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)

والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم، ومعنى { حَقَّ عَلَيْهِمُ... } [القصص: 63] أي: ثبت ووقع، فهو أمر لا محالة منه، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم، كما قال سبحانه في موضع آخر:{ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ }[الصافات: 31].

وقال الحق سبحانه وتعالى:{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ }[النمل: 85].

لكن، ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقَّ عليهم؟ القول: أن كلَّ واحد له مكان عندي في الجنة على فَرْض أنكم جميعاً آمنتم، وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعاً كفرتم.

وماذا قالوا؟ قالوا: { رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... } [القصص: 63] سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى، كما قال تعالى في شأن فرعون:{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[يونس: 91].

الآن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الاختيار، ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم، فيدُكَ التي كنت تبطش بها، ورِجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك.. كلها خرجت عن إرادتك وطَوْع أمرك؛ لأنها الآن طَوْعٌ لأمر الله{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النور: 24].

ومعنى { هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ... } [القصص: 63] أي: المشركين { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... } [القصص: 63] أي: لنكون سواء، هذه عِلَّة غوايتهم، أن يكونوا في الخُسْران سواء، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم، وليكونوا أمثالهم.

وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزماً مستقيماً، لا يشاركه فساده وانحرافه، فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده، ولماذا يمتاز عنه الآخرون؟ واقرأ قوله تعالى:{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً... }[النساء: 89].

ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم، ليُزهدوهم في الخير والصلاح، وليغروهم بما هم فيه، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلَم من ألسنتهم، كما يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }[المطففين: 29 - 30].

وليت الأمر ينتهي عند الغَمْز واللمز، إنما يتمادى هؤلاء، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية{ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ }[المطففين: 31] يعني: فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة، مما يدلّ على أنهم جميعاً تُسعِدهم هذه المسألة وتُرضي شيئاً في نفوسهم المريضة الحاقدة.

لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم، وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء، لذلك يتولَّى ربه - عز وجل - الدفاع عنه يقول له: لا تحزن فسوف نقتصُّ لك، ونسخر منهم، ونجعلهم أضحوكة في يوم بَاقٍ لا ينتهي فيه عذابهم:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

[المطففين: 34-36].

وكأن الحق - تبارك وتعالى - يسترضي عباده المؤمنين: أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم؟ نعم يا رب، فسخرية الكفار من أهل الإيمان في دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية، وهي سخرية دائمة لا نهاية لها.

إذن: } أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... { [القصص: 63] يعني: حتى نكون سواء، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر، ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ، لأنه لما طغى وطُرد من رحمة الله، ومن الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملائكة. أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير، فقد حَزَّ في نفسه أن يلاقي هذا المصير وحده، في حين ينعَم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه.

لذلك نجد إبليس - لعنه الله - لا يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم، إنما يطلب من الله أنْ يُنظره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية، فهو (المعلم) الكبير، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في الغواية قد لا ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16].

والبعض يفهم قوله تعالى:{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[الأعراف: 14-15] أن الله تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب، لكن{ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[الأعراف: 15] ليست إجابةً، إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب، فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى؛ لأنك من المنظرين فعلاً، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يظلَّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة باقياً أمام ذريته ليُذكِّرهم دائماً: هذا الذي أغوى أباكم آدم.

وقولهم: } رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... { [القصص: 63] لنا وقفة مع } هَـاؤُلاءِ { [القصص: 63] وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه، تقول: هؤلاء الرجال، وهؤلاء النساء، وهي عبارة عن: الهاء للتنبيه، وأولاء اسم إشارة، وكذلك في هذا، هذه، هذان، هاتان، فالهاء فيها للتنبيه لتنبيه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه، ويهتم بما تقول، فلا يفوته من كلامك شيء.

هذا حين تخاطب مثلك لأنه يحتاج إلى تنبيه، أما إذا خاطبت ربك - عز وجل - فمن سوء الأدب أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه، كما استخدمها المشركون، فما داموا قد قالوا } رَبَّنَا... { [القصص: 63] فليس من الأدب أن يقولوا } هَـاؤُلاءِ... { [القصص: 63] أيُنبِّهون الله عز وجل؟

لذلك نلحظ هذا الأدب في خطاب نبي الله موسى - عليه السلام - فيما حكاه عنه القرآن:{ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَىا * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىا أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا }[طه: 84] فقال (أولاء) بدون هاء التنبيه تأدُّباً مع ربه عَزَّ وجَلَّ.

ونلحظ أنك لا تجد خطاباً من الكفار إلا باستخدام هؤلاء:{ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا... }[الأعراف: 38]{ رَبَّنَا هَـاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا }[النحل: 86] أما المؤمن فلا يليق به أبداً أن يُنبِّه الله تعالى، بل ولا تصدر من مؤمن لمؤمن لأنه دائماً منتبه.

ثم يقولون: } تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ { [القصص: 63] الآن ينكُصون كما قالوا من قبل } رَبَّنَا... { [القصص: 63] يقولون الآن } تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ.. { [القصص: 63] لكن هيهات تنفعهم هذه البراءة، لقد انتهى وقتها، ومضى زمن التكليف والاختيار، والآن وقت الحساب وسلَبْ الإرادة والاختيار، وما أشبههم بفرعون حين قال الله له:{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[يونس: 91].

وقولهم: } مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ { [القصص: 63] يقول الشركاء: ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها على عبادتنا، ولا قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها، إنما كنتم في انتظار إشارة منا، كما قال كبيرهم إبليس:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ... }[إبراهيم: 22].

إذن: فهؤلاء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم؛ لأن الشركاء كانوا أصناماً أو غيرها، وليس لهم منهج يتكلَّمون به، ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به، وإلا فماذا قالت الأصنام أو الشمس أو النجوم لمن عبدها؟ بِمَ أمرتهم، وعمَّ نهتْهم؟

إذن: هو إله بلا منهج وبلا تكليف، وهذا ما يريده المشركون؛ لأن الذي يُتعب الناس في قضية الإيمان بالألوهية ما تقتضيه من تكاليف، وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية وما تشتهي، ويُوقفها عند حدود لا تتعداها.

إذن: } مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ { [القصص: 63] بل يعبدون ذواتهم، ويعبدون شهواتهم ورغباتهم، وما أسهل أن يعبد الإنسان آلهة لا تلزمه بشيء، فيسير في حياته على هواه، وهذه هي التي روجَتْ لعبادة هذه الآلهة.

لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم الإنسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الأولى لشهواته، وإلا فلو أن المسألة كلها وسوسة شيطان، فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولاً على حَدِّ قَوْل الشاعر:إبليسُ لما عَصى مَنْ كان وسْوَسَهُ؟ إذن: فهي كبرياء النفس ورغباتها، وليس للشيطان إلا أنْ يُلوِّح لها فتقع؛ لذلك جاء في الحديث الشريف: " إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلْسلت الشياطين ".

وما دامت الشياطين سُلسلت، فليس لها حركة مع الإنس؛ لأن الله تعالى يعلم منّا أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان، فكأنه سبحانه يقول: ها هي الشياطين صُفِّدت وسُلْسِلت، فمَنْ أغواكم وزيِّن لكم حال سَلْسلتها؟ إذن: هي نفسك التي تَوسوس لك؛ لذلك نقول: كل معصية تقع في رمضان ليس للشيطان فيها نصيب، إنما هي شهوة النفس.

وسبق أنْ بيِّنا كيف نُفرِّق بين المعصية متى تكون من الشيطان؟ ومتى تكون شهوة نفس؟ إنْ كانت المعصية تُوقفك عندها لا تتزحزح عنها إلى غيرها، فاعلم أنها من نفسك، أما إنْ عزَّتْ عليك معصية ففكَّرْتَ في غيرها، فهي من الشيطان؛ لأنه والعياذ بالله يريدك عاصياً على أي وجه، وبأيِّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها، على خلاف شهوة النفس، فهي تريد شيئاً بذاته لا تريد غيره.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ... {.

(/3243)

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)

وسبق أن ناداهم{ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }[القصص: 62] أي: في زعمكم؛ لأنه سبحانه ليس له شركاء، وهنا يقول لهم { ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } [القصص: 64] ولم يقُلْ شركائي، مع أنهم اتخذوهم شركاء لله.

فمعنى { شُرَكَآءَكُمْ... } [القصص: 64] أفي دعوى الألوهية؟ لا، لأنهم تابعون لهم، إذن: فما معنى { شُرَكَآءَكُمْ... } [القصص: 64]؟ قالوا: الإضافة تأتي بمعَانٍ ثلاثة: إما بمعنى (من) مثل: أردب قمح أي: من قمح، أو بمعنى (في) مثل: مكرالليل أي: مكر في الليل، أو: بمعنى (لام) الملكية مثل: قلم زيد أي: قلم لزيد.

فالمعنى هنا { شُرَكَآءَكُمْ... } [القصص: 64] أي: من جنسكم أو فيكم يعني: لا يتميز عنكم بشيء، والإله لا بُدَّ أن يكون من جنس أعلى، فإنْ كان من جنسكم، فهو مُسَاوٍ لكم، لا يصلح أن تتخذوه إلهاً.

ومعنى { ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ.. } [القصص: 64] يعني: نادوهم لينصروكم، ويشفعوا لكم، كما قلتم:{ هَـاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }[يونس: 18].

وقلتم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر: 3].

إذن: فنادوهم ليُقربوكم من الله، وليشفعوا لكم، والذي يقوم بهذه المهمة لا بُدَّ أنْ يكون له منزلة عند الله يضمنها، وهل يضمن هؤلاء الشركاء منزلة عند الله؟ كيف وهم لا يضمنونها لأنفسهم؟

{ فَدَعَوْهُمْ... } [القصص: 64] يا شركاءنا، يا مَنْ قُلْتم لنا كذا وكذا أدركونا { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ... } [القصص: 64] لأنهم مشغولون بأنفسهم { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } [القصص: 64] يعني: لو كانوا يهتدون بهَدْي الله، وهَدْي رسوله، ويروْن العذاب الذي أنذرهم به حقيقة وواقعاً لا يتخلفون عنه لَمَا حدث لهم هذا، ولما واجهوا هذه العاقبة.

أو: أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الآخرة تمنَّوا لو أنهم كانوا مهتدين.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ... }.

(/3244)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

قال هنا أيضاً { يُنَادِيهِمْ... } [القصص: 65] فما الغرض من كل هذه النداءات؟ إنها للتقريع وللسخرية منهم، وممَّنْ عبدوهم واتبعوهم من دون الله، ومضمون النداء: { مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 65] والإجابة: موافقة المطلوب من الطالب، فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله، أأخذتُم بما جاءوا به من أحكام؟ أعلمتم منهم علماً يقينياً حقاً؟

وهذا الاستفهام للتعجيز؛ لأنهم إنْ حاولوا الإجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون؛ لذلك يقول بعدها { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ... } [القصص: 66] أي: خفِيَتْ عليهم الحجج والأعذار وعموا عنها فلم يروْهَا { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } [القصص: 66] لا يملكون إلا السكوت كما قالوا: جواب ما يكره السكوت، وكما قال سبحانه:{ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً }[المعارج: 10].

وهؤلاء لا يتساءلون؛ لأنهم في الجهل سواء، وفي الضلال شركاء، وكل منهم مشغول بنفسه{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس: 34-37].

وكما سُئِل المشركون: { مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 65] في موضع آخر يسأل الرسل:{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ... }[المائدة: 109] أي: فيما علمتم من العلم، وأوله: علم اليقين الأعلى، وثانيها: علم الأحكام، فبماذا أجابكم الناس؟

وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب لله، وهم يعلمون تماماً بماذا أجاب أقوامهم، وأن منهم مَنْ آمن بهم، وتفانى في خدمة دعوتهم وضحّى واستشهد، ومنهم مَنْ كفر وعاند، ومع ذلك يقولون:{ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }[المائدة: 109].

فكيف يقولون:{ لاَ عِلْمَ لَنَآ.. }[المائدة: 109] وهم يعلمون؟ قالوا: لأنهم غير واثقين أن مَنْ آمن آمن عن عقيدة أم لا، فهم يأخذون بظواهر الناس، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله، كأنهم يقولون: أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق لا عن إجابة النفاق، وإجابة الحق نحن لا نعرفها، وأنت سبحانك علاَّم الغيوب.

إذن: جعلوا الحق - تبارك وتعالى - هو السُّلْطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية في محكمة العدل الإلهي التي سيُعلن فيها على رؤوس الأشهاد{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ... }[غافر: 16].

والسؤال عند العرب يُطلق، إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف، كما يسأل التلميذ أستاذه، أو يكون السؤال للإقرار بما تعرف، كما يسأل الأستاذ تلميذه ليقرّ على نفسه، ومن ذلك قوله تعالى:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }[الرحمن: 39] أي: سؤالَ علم؛ لأننا نعلم.

وقوله تعالى:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24] أي: سؤال إقرار منهم، وإنْ كان كلامي يوم القيامة حجة، لأنه لا مردَّ له، لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم، وليشهدوا على أنفسهم.

والحق - تبارك وتعالى - يدلُّك على أنه تعالى يُبشِّع مظاهر يوم القيامة على الكافرين، لا لأنه كاره لهم، بل يريدهم أنْ يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلّهم يرعوون ويتوبون؛ لذلك يفتح لهم باب التوبة لأنه رب ورحيم.

لذلك جاء في الحديث القدسي: " قالت الأرض: يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. وقالت الجبال: يا رب إئذن لي أنْ أخِرَّ على ابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى: دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، دعوهم فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وأنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".

أعالجهم بالترغيب مرة، وبالترهيب أخرى، أشوِّقهم إلى الجنة، وأخوِّفهم من النار، وأفتح باب التوبة، وفتْح باب التوبة ليس رحمة من الله للتائب فقط، ولكن رحمة لكل مَنْ يشقى بعصيان غير التائب.

ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى (فاقد) يشقى به المجتمع طوال حياته، إذن: ففتْح باب التوبة رحمة بالتائب، ورحمة بمجتمعه، بل وبالإنسانية كلها، رحمة بالعاصي وبمَنِ اكتوى بنار المعصية.

(/3245)

فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

لماذا استخدم هنا (عسى) الدالة على الرجاء بعد أنْ قال { مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً... } [القصص: 67] ولم يقل: يكون من المفلحين فيقطع لهم بالفلاح؟

قالوا: لأنه ربما تاب، لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلاح أو نقول أن (عسى) من الله تدل على التحقيق، وسبق أنْ قُلْنا: إن الرجاءات على درجات: فالرجاء في المتكلم أقوى من الرجاء في الغائب، فإنْ كان الرجاء في الله فهو أقوى الرجاءات كلها.

لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ عَسَىا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }[الإسراء: 79] فأيُّ رجاء أقوى من الرجاء في الله؟

إذن: (عسى) رجاء حين تصدر ممن لا يملك إنفاذ المرجو، وتحقيق حين تصدر ممَّنْ يملك إنفاذ المرجو، وهو الحق سبحانه وتعالى.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ... }.

(/3246)

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب، لكن تأتي الآية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ... } [القصص: 68] وكأن الحق سبحانه يقول: أنا الذي أعرف أين المصلحة، وأعرف كيف أُريحكم من شرِّهم، فدعوني أخلق ما أشاء، وأختار ما أشاء، فأنا الرب المتعهد للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه.

والمربِّي قسمان: إما مؤمن وإما كافر، ولا بُدَّ أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر، وأنْ يمتد هذا الشقاء إنْ بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة، وقَبِلْتُ منه الرجوع، وهذا أول ما يريح المؤمنين.

ومعنى: { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... } [القصص: 68] يعني: لا خيارَ لكم، فدعوني لأختار لكم، ثم نفِّذوا ما أختاره أنا.

أو: أن هذه الآية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ... } [القصص: 68] قيلت للردِّ على قولهم:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]. يقصدون الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي، فردَّ الله عليهم:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ... }[الزخرف: 32].

فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، فجعلنا هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها، فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجِّهونها حسب اختيارهم؟!!

{ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.. } [القصص: 68] أي: الاختيار في مثل هذه المسائل.

ويجوز { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... } [القصص: 68] أي: المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم، يقولون: لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟

والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء، ويفعل ما يريد، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده، ولكن يرحمكم أنتم أيضاً حين يُريحكم من شرِّه.

وقوله: { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ } [القصص: 68] أي: تعالى الله وتنزَّه عما يريدون من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر - وأهواؤهم مختلفة - لفسدتْ حياتهم جميعاً.

ألا ترى أن البشر مختلفون جميعاً في الرغبات والأهواء، بل وفي مسائل الحياة كلها، فترى الجماعة منهم في سنٍّ واحدة، وفي مركز اجتماعي واحد، فإذا توجَّهوا لشراء سلعة مثلاً اختار كل منهم نوعاً ولوناً مختلفاً عن الآخر.

(/3247)

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)

ما تُكنُّ صدورهم أي: السر{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه: 7] والسر: ما تركته في نفسك محبوساً، وأسررْتَه عن الخَلْق لا يعرفه إلا أنت، أو السر: ما أسررت به إلى الغير، وساعتها لن يبقى سِراً، وإذا ضاق صدرك بأمرك، فصدر غيرك أضيق.

وإذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر، فهو يعلم الجهر من باب أَوْلَى؛ لأن الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه. أما الأخفى من السر، فلأنه سبحانه يعلم ما تُسِره في نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد.

ولك أن تسأل: إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين (المنحلين) الذين يجارونهم.

وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوَّى في علمه تعالى بين السر والجهر، فقال سبحانه:{ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ... }[الرعد: 10].

وقال سبحانه:{ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ... }[الملك: 13].

والآية التي معنا: { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [القصص: 69] وفي هذه الآيات قدّم السر على الجهر، أما في قوله تعالى:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىا }[الأعلى: 6-7].

وقال سبحانه:{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110] فقدَّم العلم بالجهر على العلم بالسرِّ، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر، وهذه الملحظية غفل عنها السطحيون، فأخطأوا في فهم الآية.

فأنت مثلاً لو أسررتَ في نفسك شيئاً، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك، وربما خانك التعبير فدلَّ على ما أسررتْه، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى:{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ... }[محمد: 30].

إذن: هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهراً واحداً؛ لأنه مقابل بالجمع:{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110] فالمعنى: ويعلم ما تجهرون وما تكتمون.

ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس، يهتف كل منهم هتافاً، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات، وأنْ تُرجع كلاً منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبُّره، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فَرْز الأصوات وتمييزها.

لذلك يقولون: لا تستطيع أنْ تُحدِّد جريمة في جمهور من الناس؛ لأن الأصوات والأفعال مختلطة، يستتر كلٌّ منها في الآخر كما يقولون: الفرد بالجمع يُعْصَم.

ويقولون: الجماهير ببغائية، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا، لما انهزموا في يوم (أكتيوما) وأشاعوا أنهم انتصروا، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير:

اسْمع الشَّعْبَ دُيُونُ كَيْفَ يُوحُون إليْهِمَلأ الجوَّ هتافاً بِحيَاتيْ قَاتليْهِأثَّر البهتانُ فيه وَانْطلى الزُّور عليْهيَا لَهُ مِنْ ببغاء عقلُه في أُذُنَيْهإذن: فَعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنَّ الله بها، كما يمتنُّ سبحانه بعلم السر.

وقال سبحانه } وَرَبُّكَ يَعْلَمُ... { [القصص: 69] ليُطمئن رسول الله؛ لأنه سبحانه ربه، والمتولي لتربيته والعناية به، يقول له: لا تحزن مما يقولون، فأنا أعلم سِرَّهم وجهرهم، فإنْ كنتَ لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه، وسوف أخبرك به، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ... }[المجادلة: 8].

فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس، كأنه سبحانه يقول لرسوله: إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفتَ من أفعالهم فحسب، بل بما لا تعلم مما فعلوه، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يُحصي عليهم كل شيء.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... {.

(/3248)

وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

الله: هو المعبود بحقٍّ، وله صفات الكمال كلها، وهو سبحانه { لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... } [القصص: 70] وما دام هو وحده سبحانه، فلا أحد يفتن عليه، أو يستدرك عليه بشيء، وسبق أن قال لهم: هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علانية و (نفاصل) من صاحب هذه السلعة: أي يوم القيامة.

ومعنى: { الأُولَىا... } [القصص: 70] أي: الخَلْق الذي خلقه الله، والكون الذي أعدَّه لاستقبال خليفته في الأرض: الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والأرض، فقبل أنْ يأتي الإنسان أعدَّ الله الكونَ لاستقباله.

لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم لا يقول: إنه أول الخَلْق، إنما أول بني آدم، فقد سبقه في الخلق عوالم كثيرة؛ لذلك يقول تعالى:{ هَلْ أَتَىا عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }[الإنسان: 1] أي: لم يكن له وجود.

وإعداد الكون لاستقبال الإنسان جميل يستوجب الحمد والثناء، فقد خلق الله لك الكون كله، ثم جعلك تنتفع به مع عدم قدرتك عليه أو وصولك إليه، فالشمس تخدمك، وأنت لا تقدر عليها ولا تملكها، وهي تعمل لك دون صيانة منك، ودون أن تحتاج قطعة غيار، وكذلك الكون كله يسير في خدمتك وقضاء مصالحك، وهذا كله يستحق الحمد.

وبعد أنْ خلقك الله في كون أُعِدّ لخدمتك تركك ترتع فيه، ذرة في ظهر أبيك، ونطفة في بطن أمك إلى أنْ تخرج للوجود، فيضمك حضنها، ولا يكلفك إلا حين تبلغ مبلغ الرجال وسِنّ الرشد، ومنحك العقل والنضج لتصبح قادراً على إنجاب مثلك، وهذه علامة النضج النهائي في تكوينك كالثمرة لا تخرج مثلها إلا بعد نُضْجها واستوائها.

لذلك نجد في حكمة الله تعالى ألاَّ يعطي الثمرة حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها، بحيث حين تزرعها بعد أكْلها تنبت مثلها، ولو أُكلت قبل نُضْجها لما أنبتت بذرتها، ولا نُقرض هذا النوع؛ لذلك ترى الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الأرض لتقول لك: أنا جاهزة.

لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمس مثلاً يسقط الثمر الناضج على الأرض، ثم ينبت نباتاً جديداً، يحفظ النوع، ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت.

وكذلك الإنسان لا ينجب مثله إلا بعد نُضْجه، وعندها يُكلِّفه الله ويسأله ويحاسبه. إذن: على الإنسان أنْ يسترجع فضل الله عليه حتى قبل أنْ يستدعيه إلى الوجود، وأنْ يثق أن الذي يُكلِّفه الآن ويأمره وينهاه هو ربُّه وخالقه ومُربِّيه، ولن يكلِّفه إلا بما يُصلحه، فعليه أنْ يسمع، وأنْ يطيع.

وقوله تعالى: { وَالآخِرَةِ... } [القصص: 70] يعني: له الحمد في القيامة، كما قال سبحانه:{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس: 10] فيحمد الله في الآخرة؛ لأنه كان يمتعني في الدنيا إلى أمد، ويمتعني في الدنيا على قَدْر إمكاناتي، أما في الآخرة فيعطيني بلا أمد، وعلى قَدْر إمكاناته هو سبحانه، فحين نرى هذا النعيم لا نملك إلا أنْ نقول: الحمد لله، وهكذا اجتمع لله تعالى الحمد في الأولى، والحمد في الآخرة.

وقوله تعالى: } وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 70] لأن الآخرة ما كانت إلا للحكم وللفصل في الخصومات، حيث يعرف كلٌّ ما له وما عليه، فلا تظن أن الذين آذوْك وظلموك سيُفِلِتون من قبضتنا.

} وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 70] أي: للحساب، وفي قراءة (تَرْجعون) لأنهم سيرجعون إلينا ويأتوننا بأنفسهم، كأنهم مضبوطون على ذلك، كالمنبه تضبطه على الزمن، كذلك هم إذا جاء موعدهم جاءونا من تلقاء أنفسهم، دون أن يسوقهم أحد.

وعلى قراءة } تُرْجَعُونَ { [القصص: 70] إياكم أن تظنوا أنكم بإمكانكم أن تتأبَّوْا علينا، كما تأبِّيتُم على رسُلنا في الدنيا؛ لأن الداعي في الدنيا كان يأخذكم بالرفق واللين، أما داعي الآخرة فيجمعكم قَسْراً ورَغْماً عنكم، ولا تستطيعون منه فكاكا{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىا نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا }[الطور: 13].

ثم يقول الحق سبحانه: } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ... {.

(/3249)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)

يُعدِّد الحق - تبارك وتعالى - نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها، فالحركة تأتي بالخير للناس، والسكون يأتي بالراحة للمتعَب من الحركة، والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعطي ويتعب إلا بعد راحة، والذي يتحدَّى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار لا بُدَّ أنْ ينقطع، وأن تُنهَك قواه فلا يستمر.

لذلك يقول تعالى:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 1-4].

فكلٌّ من الليل والنهار له مهمة، وكذلك الرجل والمرأة، فإياكم أنْ تخلطوا هذه المهام، وإلا فسدت الحياة وأتعبتكم الأحداث، فقبل الكهرباء ودخول (التليفزيون والفيديو) المنازل كان يومنا يبدأ في نشاط مع صلاة الفجر، لأننا كنا ننام بعد صلاة العشاء، أما الآن فالحال كما ترى، كنا نستقبل يومنا بحركة سليمة نشطة؛ لأننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام.

والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول { أَرَأَيْتُمْ... } [القصص: 71] يعني: أخبروني ماذا تفعلون { إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ... } [القصص: 71] يعني: طوال حياتكم { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ... } [القصص: 71] والسرمد: الدائم المستمر.

وقال { بِضِيَآءٍ... } [القصص: 71] ولم يقل بنور؛ لأن النور قد يأتي من النجوم، وقد يأتي من القمر، أمّا الضياء وهو نور وأشعة وحرارة، فلا يأتي إلا من الشمس.

لذلك يقول سبحانه:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً... }[يونس: 5].

وقال: { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ... } [القصص: 71] ولم يقُلْ: مَنْ يأتيكم بضياء ليلفت نظرنا إلى أن هذه المسألة لا يقدر عليها إلا إله، ولا إله إلا الله، وفي الضياء تبصرون الأشياء، وتسيرون على هُدىً، فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب، وبالضياء أعايش الأشياء في سلامة لي ولها، وإلاَّ لو سرْنا في الظلام لتحطمنا أو حطّمنا ما حولنا؛ لأنك حين تسير في الظلام إمّا أنْ تحطم ما هو أقل منك، أو يحطمك ما هو أقوى منك.

وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات، وضياء المعنويات القيم التي تحكم حركة الحياة وتعدلها، وتحميك أنْ تُحطِّم مَنْ هو أضعف منك، أو أنْ يُحطمك الأوقى منك؛ لذلك كان منطقياً أن يقول تعالى:{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.... }[الأحزاب: 43].

والمراد: من ظلمات المعاني إلى نور القيم، لا ظلمات المادة لأنني لا أستغني عنه لراحتي، فله مهمة عندي لا تقلّ عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ... }[النور: 35].

نور مادي تُبصرون به الأشياء من حولكم، فلا تتخبطون بها، فتسلَم حركتكم، وهذا النور المادي يشترك فيه المؤمن والكافر، وينتفع به المطيع والعاصي، فلم يضِنّ به على أحد من خَلْقه، أما النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم، فهذا يرسله الله على يدَيْ رسُله، فإذا أخذ المؤمن النورين انتفع بهما في الدنيا، وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة؛ لذلك قال بعدها:

{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ... }[النور: 35].

ولأن الآية الكريمة بدأت بقُلْ، فمن المناسب أنْ تختم بقوله تعالى: } أَفَلاَ تَسْمَعُونَ... { [القصص: 71] يعني: اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه.

ثم يمتنُّ الله تعالى بالآية المقابلة لليل، وهي آية النهار: } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ... { [القصص: 72] يعني: دائم لا نهاية له } مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ { [القصص: 72].

تلحظ أن هاتين الآيتين على نَسَق واحد، لكن تذييلهما مختلف، مما يدلُّ على بلاغة وإعجاز القرآن، فلكلِّ معنىً ما يناسبه، ففي آية الليل قال } أَفَلاَ تَسْمَعُونَ { [القصص: 71] وفي آية النهار قال: } أَفلاَ تُبْصِرُونَ { [القصص: 72] ذلك لأن العين لا عملَ لها في الليل إنما للأذن، فأنت تسمع دون أنْ ترى، وبالأذن يتمُّ الاستدعاء.

أما في النهار وفي وجود الضوء، فالعمل للعين حيث تبصر، فهو إذن ختام حكيم للآيات يضع المعنى فيما يناسبه.

ثم يُجمل الله تعالى هاتين الآيتين في قوله سبحانه: } وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ... {.

(/3250)

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

بعد أنْ فصَّل الله تعالى القولَ في الليل والنهار كلّ على حدة جمعهما؛ لأنهما معاً مظهر من مظاهر رحمة الله، وفي الآية ملمح بلاغي يسمونه " اللف والنشر " ، فبعد أن جمع الله تعالى الليل والنهار أخبر عنهما بقوله: { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ.. } [القصص: 73] ثقة منه تعالى بفطْنة السامع، وأنه سيردُّ كلاً منهما إلى ما يناسبه، فالليل يقابل { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ... } [القصص: 73]، والنهار يقابل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ... } [القصص: 73].

فاللفُّ أي: جَمْع المحكوم عليه معاً في جانب والحكم في جانب آخر، والنشرْ: ردّ كلِّ حكم إلى صاحبه.

وضربنا لذلك مثلاً بقول التيمورية:قَلْبي وجَفْني واللسَانُ وخَالِقي رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِرٌ وغَفُورفجمعتْ المحكوم عليه في الشطر الأول والحكم في الشطر الثاني، وعليك أنْ تعيد كلَّ حكم إلى صاحبه.

والليل والنهار آيتان متكاملتان، وبهما تنتظم حركة الحياة؛ لأنك إنْ لم ترتح لا تقوى على العمل؛ لأن لك طاقة، وفي جسمك مُولِّدات للطاقة، فساعةَ تتعب تجد أن أعضاءك تراخَتْ وأُجهدَتْ، وهذا إنذار لك، تُنبِّهك جوارحك لم تَعُدْ صالحاً للحركة، ولا بُدَّ لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد.

والراحة تكون بقدر التعب، فربما ترتاح حين تقف مثلاً في حالة السير، فإنْ لم يُرِحْك الوقوف تجلس أو تضطجع، فإنْ زاد التعب غلبك النوم، وهو الرَّدْع الذاتي الذي يكبح جماح صاحبه إنْ تمرد على الطبيعة التي خلقها الله فيه.

ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة، فيأخذ مُنشِّطات حتى لا يغلبه النوم، ويأخذ مُهدِّئات لينام، ولو أسلم نفسه لطبيعتها، فنام حينما يحضره النوم، وعمل حينما يجد في نفسه نشاطاً للعمل لأراحَ نفسه من كثير من المتاعب.

لذلك يقولون: النوم ضيف إنْ طلبك أراحك، وإنْ طلبته أعْنتك، وحتى الآن، ومع تقدُّم العلوم لم يصلوا إلى سرِّ النوم، وكيف يأخذ الإنسان في هدوء ولُطْف دون أنْ يشعر ماهيتهَ، وأتحدى أن يعرف أحد منا كيف ينام.

لذلك جعل الله النوم آية من آياته تعالى، مثل الليل والنهار والشمس والقمر، فقال سبحانه:{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ... }[الروم: 23].

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ... }.

(/3251)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)

تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك لا يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لأن كلَّ نداء منها له مقصوده الخاص، فالنداء في الأولى خاص بمَنْ أشركوهم مع الله وما قالوه أمام الله تعالى:{ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... }[القصص: 63].

أما الثانية، فالنداء فيها للمشركين{ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }[القصص: 65].

أما هنا، فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم. إذن: فكلمة (أين) و (شركائي) و (الذين كنتم تزعمون) قَدْر مشترك بين الآيات الثلاثة، لكن المطلوب في كل قَدْر غير المطلوب في القَدْر الآخر، فليس في الأمر تكرار، إنما توكيد في الكل.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا... }.

(/3252)

وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

أي: أخرجنا من كل أمة نبيّها، وأحضرناه ليكون شاهداً عليها { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ.. } [القصص: 75] أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات، فقد اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات، فقد ضلَّوا عنهم، وهربوا منهم.

{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ }[القصص: 66].

إذن: غاب شركاؤكم، وغاب شهودكم، لكن شهودنا موجودون { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً... } [القصص: 75] يشهد أنه بلَّغهم منهج الله فإنْ قُلْتم: لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من الإنس، نردّ عليكم بأننا ما تركناكم لإغوائهم، فيكون لكم عذر، إنما أرسلنا إليكم رسلاً لهدايتكم، وقد بلّغكم الرسل.

وفي موضع آخر يقول تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ شَهِيداً }[النساء: 41].

فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلَّغت، وأعذرتَ في البلاغ، وأنك اضطهدت منهم، وأوذيت، وقد ضلَّ عنهم شركاؤهم، ولم يجدوا مَنْ يشهد لهم أو يدافع عنهم؟ عندها تسقط أعذارهم وتكون المحكمة قد (تنوَّرت).

ثم يقول تعالى: { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ... } [القصص: 75] أي: قولوا: إن رسلنا لم يُبلِّغوكم منهجنا، وهاتوا حجة تدفع عنكم، فلما تحيَّروا وأُسقط في أيديهم حيث غاب شهداهم وحضر الشهداء عليهم { فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ... } [القصص: 75].

وفوجئوا كما قال تعالى عنهم:{ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ... }[النور: 39].

وقال:{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً... }[الكهف: 49].

فوجئوا بما لم يُصدِّقوا به ولم يؤمنوا به، لكن ما وجه هذه المفاجأة، وقد أخبرناهم بها في الدنيا وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أنْ يأخذوا بها، وأنْ يستعدوا لهذا الموقف، فالعاقل حين تُحذره من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال حين يحتاط لنفسه أنْ يكون ناصحه كاذباً، على حَدِّ قول الشاعر:زَعَم المنجِّمُ والطبيبُ كلاهٌما لا تُبعَثُ الأجسَادُ قُلْتُ إليكُماإن صَحَّ قولكُمَا فلسْتُ بخاسِرِ أوْ صَحَّ قَوْلي فالخسَار عليكُماوما عليك إنْ حملتَ بندقية في هذا الطريق المخوف، ثم لم تجد شيئاً يخيفك؟ إذن: أنتم إنْ لم تخسروا فلن تكسبوا شيئاً، ونحن إنْ لم نكسب لن نخسر.

وقوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ... } [القصص: 75] أي: غاب { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [القصص: 75] من ادّعاه الشركاء.

بعد أن أعطانا الحق - تبارك وتعالى - لقطة من لقطات يوم القيامة، والقيامة لا تخيف إلا مَنْ يؤمن بها، أما مَنْ لا يؤمن بالآخرة والقيامة فلا بُدَّ له من رادع آخر؛ لأن الحق سبحانه يريد أنْ يحمي صلاح الكون وحركة الحياة.

ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم، ولَشقي الناس بهم، والله تعالى يريد أنْ يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالآخرة، فيجعل لهم عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة.

يقول تعالى:{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ... }[الطور: 47] يعني: قبل عذاب الآخرة.

فالذي يقع للكفار في الدنيا رَدْع لكل ظالم يحاول أنْ يعتدي، وأنْ يقف في وجه الحق؛ لذلك يعطينا ربنا - عز وجل - صورة لهذا العذاب الدنيوي للمفسدين في الأرض، فيقول سبحانه: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا فَبَغَىا عَلَيْهِمْ... }.

(/3253)

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الآخرة، إنما يجعله مثَلاً وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم يؤمن بيوم القيامة لعلَّه يرتدع.

والنبي صلى الله عليه وسلم اضطهده كفار قريش، ووقفوا في وجه دعوته، وآذوْا صحابته، حتى أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم، ومع ذلك ينزل القرآن على رسول الله يقول:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].

فيتعجب عمر رضي الله عنه: أيُّ جمع هذا؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا، فلما وقعتْ بدر وانهزم الكفار وقُتِلوا. قال عمر: نعم صدق الله{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].

لذلك يقولون: لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه، ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام الله منه تعجّبوا وقال أحدهم: لا بُدَّ أن الله انتقم منه دون أن نشعر، فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا، فوراء هذه الدار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وعَدْل الله - عز وجل - يقتضي هذه المحاسبة.

والحق - تبارك وتعالى - يجعل من قارون عبرةً لكل مَنْ لا يؤمن بالآخرة ليخاف من عذاب الله، ويحذر عقابه، والعبرة هنا بمَنْ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم، وأغنى أغنيائهم، والفتوة فيهم، فحين يأخذه الله يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه.

وحدَّثونا أن صديقاً لنا كان يعمل بجمرك الأسكندرية، فتجمّع عليه بعض زملائه من الفتوات الذين يريدون فَرْضَ سيطرتهم على الآخرين، فما كان منه إلا أنْ أخذ كبيرهم، فألقاه في الأرض، وعندها تفرَّق الآخرون وانصرفوا عنه.

ومن هذا المنطلق أخذ الله تعالى قارون، وهو الفتوة، ورمز الغِنى والجاه بين قومه، فقال تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا... } [القصص: 76] إذن: حينما نتأمل حياة موسى عليه السلام نجده قد مُنِي بصناديد الكفر، فقد واجه فرعون الذي ادَّعى الألوهية، وواجه هامان، ثم موسى السامري الذي خانه في قومه في غيبته، فدعاهم إلى عبادة العجل.

ومُني من قومه بقارون، ومعنى: من قومه، إما لأنه كان من رحمه من بني إسرائيل، أو من قومه يعني: الذين يعيشون معه. والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا، لكن المفسرين يقولون: إنه ابن عمه. فهو: قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.

وللمؤرخين كلام في العداوة بين موسى وقارون، قالوا: حينما سأل موسى عليه السلام ربه أنْ يشدَّ عضده بأخيه هارون، أجابه سبحانه{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَىا }[طه: 36] وليست هذه أول مرة بل{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىا }[طه: 37] وأرسل الله معه أخاه هارون؛ لأنه أفصح من موسى لساناً، وجعلهما شريكين في الرسالة، وخاطبهما معاً{ اذْهَبَآ... }[طه: 43] ليؤكد أنَّ الرسالة ليست من باطن موسى.

وإنْ رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده، فاعلم أن هارون مُلاحَظ فيه، ومن ذلك لما دعا موسى على قوم فرعون، فقال:{ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }[يونس: 88].

فالذي دعا موسى، ومع ذلك لما أجابه ربه قال:{ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا... }[يونس: 89] وهذا دليل على أن هارون لم يكن رسولاً من باطن موسى، إنما من الحق سبحانه، وأيضاً دليل على أن المؤمِّن على الدعاء كالداعي، فكان موسى يدعو وهارون يقول: آمين.

ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لأخيه{ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي... }[الأعراف: 142] وفي غيبة موسى حدثتْ مسألة العجل، وغضب موسى من أخيه هارون، فلما هدأتْ بينهما الأمور حدث تخصيص في رسالة كل منهما، فأعطى هارون (الحبورة) والحَبْر: هو العالم الذي يُعَد مرجعاً، كما أُعطِي (القربان) أي: التقرب إلى الله.

وعندها غضب قارون؛ لأنه خرج من هذه المسألة صَفْر اليدين، وامتاز عنه أولاد عمومته بالرسالة والمنزلة، رغم ما كان عنده من أموال كثيرة.

ثم إن موسى - عليه السلام - طلب من قارون زكاة ماله، دينار في كل ألف دينار، ودرهم في كل ألف درهم، فرفض قارون وامتنع، بل وألَّبَ الناس ضد موسى - عليه السلام.

ثم دبَّر له فضيحة؛ ليصرف الناس عنه، حيث أغرى امرأة بغياً فأعطاها طِسْتاً بالذهب، على أن تدَّعي على موسى وتتهمه، فجاء موسى عليه السلام ليخطب في الناس، ويُبيِّن لهم الأحكام فقال: مَنْ يسرق نقطع يده، ومَنْ يزني نجلده إن كان غير محصن، ونرجمه إنْ كان محصناً، فقام له قارون وقال: فإن كنتَ أنت يا موسى؟ فقال: وإنْ كنتُ أنا.

وهنا قامت المرأة البغيُّ وقالت: هو راودني عن نفسي، فقال لها: والذي فلق البحر لَتقُولِنّ الصدق فارتعدتْ المرأة، واعترفت بما دبَّره قارون، فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام.

وبدأ قارون في البَغْي والطغيان حتى أخذه الله، وقال في حقه هذه الآيات: } إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا فَبَغَىا عَلَيْهِمْ... { [القصص: 76].

والبغي: تجاوز الحدّ في الظلم، خاصة وقد كان عنده من المال ما يُعينه على الظلم، وما يُسخِّر به الناس لخدمة أهدافه، وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه، والبغي إما بالاستيلاء على حقوق الغير، أو باحتقارهم وازدرائهم، وإما بالبطر.

ثم يذكر حيثية هذا البغي: } وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ.. { [القصص: 76].

كلمة (مفاتح) كما في قوله تعالى:{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ... }[الأنعام: 59].

ولو قلنا: مفاتح جمع، فما مفردها؟ لا تقُلْ مفتاح؛ لأن مفتاح جمعها مفاتيح، أما مفاتح، فمفردها (مَفْتح) وهي آلة الفتح كالمفتاح، وهي على وزن (مبرد) فالمعنى: أن مفاتيح خزائنه لو حملتْها عصبة تنوء بها، وهذه كناية عن كثرة أمواله، نقول: ناء به الحِمْل، أو ناء بالحمل، إذا ثقُل عليه، ونحن لا نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما لا بُدَّ من حملة للإحساس بوزنه.

وقلنا: إن هذه الحاسة هي حاسة العَضَل، فالحملْ الثقيل يُجهد العضلة، فتشعر بالثقل، على خلاف على حملتَ شيئاً خفيفاً لا تكاد تشعر بوزنه لخفْته، ولو حاولتَ أنْ تجمع أوزاناً في حيز ضيق كحقيبة (هاندباج) فإن الثقل يفضحك؛ لأنك تنوء به.

والعُصْبة: هم القوم الذين يتعصَّبون لمبدأ من المبادئ بدون هَوىً بينهم، ومنه قول إخوة يوسف:{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ... }[يوسف: 8].

إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم؛ لأنهم فعلاً كانوا قوةً متعصبين بعضهم لبعض في مواجهة يوسف وأخيه، وكانا صغيرين لا قوةَ لهما ولا شوكة، وكانوا جميعاً من أم واحدة، ويوسف وأخوه من أم أخرى، فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلام مع الضعيف.

وقالوا: العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقد حددهم القرآن بقوله:{ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً.. }[يوسف: 4] وهم أخوته ومنهم بنيامين{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. }[يوسف: 4] أي: أباه وأمه. فمن هاتين الآيتين نستطيع تحديد العصبة.

وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم الآيات بعضها إلى بعض حَلَّ الإمام علي - رضي الله عنه - مسألة تُعدُّ معضلة عند البعض، حيث جاءه مَنْ يقول له: تزوجت امرأة وولدتْ بعد ستة أشهر، ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر، فلا بُدَّ أنها حملت قبل أنْ تتزوج.

فقال الإمام علي: أقل الحمل ستة أشهر، فقال السائل: ومن أين تأخذها يا أبا الحسن؟ قال: نأخذها من قوله تعالى:{ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً.... }[الأحقاف: 15] وفي آية أخرى قال سبحانه:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ... }[البقرة: 233].

يعني: أربعة وعشرين شهراً، وبطرح الأربعة والعشرين شهراً من الثلاثين يكون الناتج ستة أشهر، هي أقل مدة للحمل. وهكذا تتكاتف آيات القرآن، ويكمل بعضها بعضاً، ومن الخطأ أن نأخذ كل آية على حدة، ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع.

ثم يقول سبحانه: } إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ... { [القصص: 76] والنهي هنا عن الفرح المحظور، فالفرح: انبساط النفس لأمر يسرُّ الإنسان، وفَرْق بين أمر يسرُّك؛ لأنه يُمتعك، وأمر يسرُّك لأنه ينفعك، فالمتعة غير المنفعة.

فمثلاً، مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لأنها تُحدِث له متعة، مع أنها مضرة بالنسبة له، إذن: فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع، لأن الله تعالى لم يجعل المتعة إلا في النافع.

فحينما يقولون له } لاَ تَفْرَحْ.. { [القصص: 76] أي: فرح المتعة، وإنما الفرح بالشيء النافع، ولو لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء، لذلك يقول تعالى:

{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ... }[يونس: 58].

ويقول تعالى:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ... }[الروم: 4-5] فسماه الله فرحاً؛ لأنه فرح بشيء نافع؛ لأن انتصار الدعوة يعني أن مبدءك الذي آمنتَ به، وحاربت من أجله سيسيطر وسيعود عليك وعلى العالم بالنفع.

ومن فرح المتعة المحظور ما حكاه القرآن:{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ... }[التوبة: 81] هذا هو فرح المتعة؛ لأنهم كارهون لرسول الله، رافضون للخروج معه، ويسرُّهم قعودهم، وتركه يخرج للقتال وحده.

فقوله تعالى: } لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ { [القصص: 76] أي: فرح المتعة الذي لا ينظر إلى مَغبّة الأشياء وعواقبها، فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة، لكن يتبعها ضرر بالغ، ونسمع الآن مَنْ يقول عن الرقص مثلاً؛ إنه فن جميل وفن رَاقٍ؛ لأنه يجد فيه متعة ما، لكن شرط الفن الجميل الراقي أن يظل جميلاً، لكن أنْ ينقلب بعد ذلك إلى قُبْح ويُورِث قبحاً، كما يحدث في الرقص، فلا يُعَدُّ جميلاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ... {.

(/3254)

وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

معنى { وَابْتَغِ... } [القصص: 77] أي: اطلب { فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ... } [القصص: 77] بما أنعم عليك من الرزق { الدَّارَ الآخِرَةَ... } [القصص: 77] لأنك إن ابتغيت برزق الله لك الحياة الدنيا، فسوف يَفْنى معك في الدنيا، لكن إنْ نقلتَهُ للآخرة لأبقيتَ عليه نعيماً دائماً لا يزول.

وحين تحب نعيم الدنيا وتحتضنه وتتشبث به، فاعلم أن دنياك لن تمهلك، فإما أنْ تفوت هذا النعيمَ بالموت، أو يفوتك هو حين تفتقر. إذن: إن كنت عاشقاً ومُحباً للمال ولبقائه في حَوْزتك، فانقله إلى الدار الباقية، ليظل في حضنك دائماً نعيماً باقياً لا يفارقك، فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الآخرة.

" وفي الحديث الشريف لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي أُهديَتْ له قالت بعد أن تصدقت بها: ذهبتْ إلا كتفها، فقال صلى الله عليه وسلم: " بل بقيتْ إلا كتفها ".

ويقول صلى الله عليه وسلم: " ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فافنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقْتَ فأبقيْتَ ".

لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله، يقول له: مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.

والإمام علي - رضي الله عنه - جاءه رجل يسأله: أأنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ فقال: جواب هذا السؤال ليس عندي، بل عندك أنت، وأنت الحكم في هذه المسألة. فإنْ دخل عليك مَنْ تعودت أنه يعطيك، ودخل عليك مَنْ تعودت أنْ يأخذ منك، فإنْ كنتَ تبشُّ لمن يعطي، فأنت من أهل الدنيا، وإنْ كنتَ تبشُّ لمَنْ يسألك ويأخذ منك، فأنت من أهل الآخرة، لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب، فإنْ كنتَ محباً للدنيا فيسعدك مَنْ يعطيك، وإنْ كنتَ محباً للآخرة فيسعدك مَنْ يأخذ منك.

وإذا كان ربنا - عز وجل - يوصينا بأن نبتغي الآخرة، فهذا لا يعني أن نترك الدنيا: { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... } [القصص: 77] لكن هذه الآية يأخذها البعض دليلاً على الانغماس في الدنيا ومتعها.

وحين نتأمل { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... } [القصص: 77] نفهم أن العاقل كان يجب عليه أنْ ينظر إلى الدنيا على أنها لا تستحق الاهتمام، لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة حياته. فالمعنى: كان ينبغي علىَّ أنْ أنساها فذكِّرني الله بها.

ولأهل المعرفة في هذه المسألة مَلْمح دقيق: يقولون: نصيبك من الشيء ما ينالك منه، لا عن مفارقة إنما عن ملازمة ودوام، وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك، وتظل معك، وتصحبك بعد الدنيا إلى الآخرة، فكأن نصيبك من الدنيا يصُبُّ في نصيبك من الآخرة، فتخدم دنياك آخرتك.

أو: يكون المعنى موجهاً للبخيل الممسك على نفسه، فيُذكِّره ربه } وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... { [القصص: 77] يعني: خُذْ منها القَدْر الذي يعينك على أمر الآخرة، لذلك قالوا عن الدنيا: هي أهم من أن تُنْسى - لأنها الوسيلة إلى الآخرة - وأتفه من أن تكون غاية؛ لأن بعدها غاية أخرى وأبقى وأدوم.

ثم يقول سبحانه: } وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ.. { [القصص: 77] الحق سبحانه يريد أنْ يتخلَّق خَلْقه بخُلُقه، كما جاء في الأثر " تخلقوا بأخلاق الله ".

فكما أحسن الله إليك أحسِنْ إلى الناس، وكما تحب أنْ يغفر الله لك، اغفر لغيرك إساءته } أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ... { [النور: 22].

وما دام ربك يعطيك، فعليك أنْ تعطي دون مخالفة الفقر؛ لأن الله تعالى هو الذي استدعاك للوجود؛ لذلك تكفَّل بنفقتك وتربيتك ورعايتك. لذلك حين ترى العاجز عن الكسب - وقد جعله ربه على هذه الحال لحكمة - حين يمد يده إليك، فاعلم أنه يمدُّها لله، وأنك مناول عن الله تعالى.

ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. }[الحديد: 11].

فسمَّى الصدقة قرضاً لله، لماذا؟ لأن هذا العبد عبدي، مسئول مني أن أرزقه، وقد ابتليتُه لحكمة عندي - حتى لا يظنّ أحد أن المسألة ذاتية فيه، فيعتبر به غيره - فمَنْ إذن يقرضني لأسُدَّ حاجة أخيكم؟

وقال تعالى:{ يُقْرِضُ اللَّهَ... }[الحديد: 11] مع أنه سبحانه الواهب؛ لأنه أراد أن يحترم ملكيتك، وأن يحترم انتفاعك، وسَعْيك.. كما لو أراد والد أنْ يُجري لأحد أبنائه عملية جراحية مثلاً وهو فقير وإخوته أغنياء، فيقول لأولاده: اقرضوني من أموالكم لأجري الجراحة لأخيكم، وسوف أردُّ عليكم هذا القرض.

" وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة - رضوان الله عليها - فوجدها تجلو درهماً فسألها: ماذا تصنعين به "؟ قالت: أجلوه، قال: " لِمَ "؟ قالت: لأني نويت أن أتصدق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير ".

إذن: فالمال مال الله، وأنت مناول عن الله تعالى.

وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة؛ لأنهم يقرأون الآيات والأحاديث مجرد قراءة سطحية غير واعية، فيتوهمون أنها متضاربة. فقالوا هنا: الله تعالى يقول:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11].

وقال في موضع آخر:{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... }[الأنعام: 160] وفي الحديث الشريف: " مكتوب على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر ".

فظاهر الحديث يختلف مع الآية الكريمة - هذا في نظرهم - لأنهم لا يملكون المَلَكة العربية في استقبال البيان القرآني. وبتأمل الآيات والأحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر أمثالها، فالخلاف - ظاهراً - في قوله تعالى:

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " والقرض بثمانية عشر ".

وليس بينهما اختلاف، فساعة تصدَّق الإنسان بدرهم مثلاً أعطاه الله عشرة منها بدرهم الذي تصدَّق به، فكأنه أعطاه تسعة، فحين تُضَاعف التسعة، تصبح ثمانية عشرة.

ثم يقول سبحانه: } وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ { [القصص: 77] والفساد يأتي من الخروج عن منهج الله، فإنْ غيَّرت فيه فقد أفسدتَ، فالفساد كما يكون في المادة يكون في المنهج، وفي المعنويات، يقول سبحانه:{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا... }[الأعراف: 56].

فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلاح لإسعاد خلقه، فلا تعمد إليه أنت فتفسده، ومن هذا الصلاح المنهج، بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية - أَوْلَى من قِوام الحياة المادية.

إذن: فلتكُنْ مؤدباً مع الكون من حولك، فإذا لم تستطع أنْ تزيده حُسْناً فلا أقلَّ من أنْ تدعه كما هو دون أنْ تفسده، وضربنا لذلك مثلاً ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه، وقد تبني حوله سوراً يحميه.

هذه مسائل خمْس توجَّه بها قوم قارون لنصحه بها، منها الأمر، ومنها النهي، ولا بُدَّ أنهم وجدوا منه ما يناقضها، لا بُدَّ أنهم وجدوه بَطِراً أَشِراً مغروراً بماله، فقالوا له:{ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }[القصص: 76].

ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فَلم يتزود منها للآخرة، فقالوا له } وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... { [القصص: 77]، ووجدوه يضنُّ على نفسه فلا ينفق في الخير، فقالوا له: } وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ... { [القصص: 77] يعني: عَدِّ نعمتك إلى الغير، كما تعدَّت نعمة الله إليك.. وهكذا ما أمروه أمراً، ولا نهوْهُ نهياً إلا وهو مخالف له، وإلا لَمَا أمروه ولَمَا نهوْهُ.

ثم يقول قارون رداً على هذه المسائل الخمس التي توجَّه بها قومه إليه: } قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ... {.

(/3255)

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

لكن ما وجه هذا الردّ { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي... } [القصص: 78] على المطلوبات الخمسة التي طلبوها منه؟ كأنه يقول لهم: لا دخلَ لكم هذه الأمور؛ لأن الذي أعطاني المال علم أنني أهْلٌ له، وأنني استحقه؛ لذلك ائتمنني عليه، ولسْتُ في حاجة لنصيحتكم.

أو يكون المعنى { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي } [القصص: 78] يعني: بمجهودي ومزاولة الأعمال التي تُغِل علىَّ هذا المال، وكان قارون مشهوراً بحُسْن الصوت في قراءة التوراة، وكان حافظاً لها. وكان حسن الصورة، وعلى درجة عالية بمعرفة أحكام التوراة.

فعجيب أن يكون عنده كل هذا العلم ويقول { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي... } [القصص: 78] ولا يعلم أن الله قد أهلك من قبله قروناً كانوا أشدَّ منه قوة، وأكثر منه مالاً وعدداً.

{ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً... } [القصص: 78] فكيف فاتتْه هذه المسألة مع عِلْمه بالتوراة؟

ومعنى { أَوَلَمْ يَعْلَمْ... } [القصص: 78] أي: من ضمن ما علم { مِنَ الْقُرُونِ... } [القصص: 78] أناس كانوا أكثر منه مالاً، وقد أخذهم الله وهم أمم لا أفراد، وكلمة { جَمْعاً.. } [القصص: 78] يجوز أن تكون مصدراً يعني: جمع المال، أو: اسم للجماعة أي: له عُصْبة.

وبعد ذلك قال سبحانه: { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص: 78] وعلامة أنهم لا يُسألون أن الله تعالى يأخذهم دون إنذار يأخذهم على غِرَّة، فلن يقول لقارون: أنت فعلت كذا وكذا، وسأفعل بك كذا وكذا، وأخسف بك وبدارك الأرض، فأفعالك معلومة لك، والحيثيات السابقة كفيلة بأنْ يُفاجئك العذاب.

وهكذا يتوقع أنْ يأتيه الخَسْف والعذاب في أيِّ وقت، إذن: لن نسألهم، ولن نُجري معهم تحقيقاً كتحقيق النيابة أو (البوليس)، حيث لا فائدة من سؤالهم، وليس لهم عندنا إلا العقاب.

وبعد هذا كله وبعد أنْ نصحه قومه ما يزال قارون متغطرساً بَطِراً لم يَرْعَو ولم يرتدع، بل ظل فََرِِحاً باغياً مفسداً، ويحكي عنه القرآن: { فَخَرَجَ عَلَىا قَوْمِهِ... }.

(/3256)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

قلنا: إن قارون كان بطبيعة الحال غنياً وجيهاً، حَسَن الصوت والصورة، كثير العدد، كثير المال، فكيف لو أضفت إلى هذا كله أن يخرج في زينته وفي موكب عظيم، وفي أبهة { فَخَرَجَ عَلَىا قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ... } [القصص: 79].

وللعلماء كلام كثير في هذه الزينة التي خرج فيها قارون، فقد كان فيها ألف جارية من صفاتهن كذا وكذا، وألف فرس.. إلخ، حتى أن الناس انبهروا به وبزينته، بل وانقسموا بسببه قسمين: جماعة فُتِنوا به، وأخذهم بريق النعمة والزينة والزهو وترف الحياة، ومدُّوا أعينهم إلى ما هو فيه من متعة الدنيا.

وفي هؤلاء يقول تعالى: { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79] وقد خاطب الحق - تبارك وتعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله:{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىا مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[طه: 131].

والمعنى: لا تنظر إلى ما في يد غيرك، واحترم قدر الله في خَلْق الله، واعلم أنك إنْ فرحت بالنعمة عند غيرك أتاك خيرها يطرق بابك وخدمتْك كأنها عندك، وإنْ كرهتها وحسدته عليها تأبَّت عليك، وحُرمْت نفعها؛ لأن النعمة أعشق لصاحبها من عشقه لها، فكيف تأتيه وهو كاره لها عند غيره؟

لذلك من صفات المؤمن أن يحب الخير عند أخيه كما يحبه لنفسه، وحين لا تحب النعمة عند غيرك، فما أذنبه هو؟ فكأنك تعترض على قدر الله فيه، وما دُمْتَ قد تأبيت واعترضت على قدر المنعم، فلا بُدَّ أن يحرمك منها.

لذلك يقول سبحانه في موضع آخر:{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ... }[النساء: 32].

لأن لكل منكم مهمة ودوراً في الحياة، ولكل منكم مواهبه وميزاته التي يمتاز بها عن الآخرين، ولا بُدَّ أن يكون فيك خصال أحسن ممن تحسده، لكنك غافل عنها غير متنبه لها.

وسبق أن قلنا: إن الحق سبحانه قد وزَّع أسباب فَضْله على خَلْقه؛ لأننا جميعاً أمام الله سواء، وهو سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؛ لذلك قلنا: إن مجموع مواهب كل فرد تساوي مجموع مواهب الآخر، فقد تزيد أنت عني في خصلة، وأزيد عنك في أخرى، فهذا يمتاز بالذكاء، وهذا بالصحة، وهذا بالعلم، وهذا بالحِلْم.. إلخ.

لأن حركة الحياة تتطلب كل هذه الإمكانيات، فبها تتكامل الحياة، وليس من الممكن أن تتوفر كل هذه المزايا لشخص واحد يقوم بكل الأعمال، بل إنْ تميزْتَ في عملك، وأتقنتَ مهمتك فلك الشكر.

ومن العجيب ألاَّ تنتفع أنت بنبوغك، في حين ينتفع به غيرك، ومن ذلك قولهم مثلاً (باب النجار مخلع)، فلماذا لا يصنع باباً لنفسه، وهو نجار؟ قالوا: لأنه الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجراً.

إذن: حينما تجد غيرك مُتفوِّقاً في شيء فلا تحقد عليه؛ لأن تفوقه سيعود عليك، وضربنا لذلك مثلاً بشيء بسيط؛ حين تمسك المقصَّ بيدك اليمنى لتقصَّ أظافر اليد اليسرى تجد أن اليد اليمنى - لأنها مرنة سهلة الحركة - تقصُّ أظافر اليسرى بدقة، أما حين تقصُّ اليسرى أظافر اليمنى فإنها لا تعطيك نفس المهارة التي كانت لليمنى. إذن: فحُسْن اليمنى تعدَّى لليُسْرى ونفعها.

وهكذا إذا رأيتَ أخاك قد تفوَّق في شيء أو أحسن في صُنْعه فاحمد الله؛ لأن حُسْنه وتفوقه سيعود عليك، وقد لا يعود عليه هو، فلا تحسده، ولا تحقد عليه، بل ادْعُ له بالمزيد؛ لأنك ستنتفع به في يوم من الأيام.

لكن ماذا قال أهل الدنيا الذين بُهِروا بزينة قارون؟ قالوا: } يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.. { [القصص: 79] يعني: كما نقول نحن (حظه بمب)؛ لأن هؤلاء لا يعنيهم إلا أمر الدنيا ومُتعها وزُخْرفها، أما أهل العلم وأهل المعرفة فلهم رأْيٌ مخالف، ونظرة أبعد للأمور؛ لذلك رَدُّوا عليهم: } وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... {.

(/3257)

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

فما كان الحق - تبارك وتعالى - ليترك أهل الدنيا وأهل الباطل يُشكِّكون الناس في قَدَر الله، ويتمردون على قسمته حتى الكفر والزندقة، والله سبحانه لا يُخِلي الناس من أهل الحق الذين يُعدِّلون ميزان حركة الحياة:إنَّ الذي جَعَلَ الحقِيقةَ عَلْقماً لم يخلْ من أَهْل الحقيقة جيلاوما دام أن الله تعالى قال في الجماعة الأولى:{ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا... }[القصص: 79] فهم لا يروْنَ غيرها، ولا يطمحون لأبعد منها، وقال في الأخرى: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... } [القصص: 80] فهذا يعني: أن أهل الدنيا (سطحيون)، لم يكن عندهم علم ينفعهم، لذلك وقعوا في هذا المأزق الذي نجا منه أهل العلم، حينما أجروا مقارنة بين الطمع في الدنيا والطمع في الآخرة.

كما قلنا سابقاً: إن عمر الدنيا بالنسبة لك: لا تقُلْ من آدم إلى قيام الساعة؛ فعمرك أنت فيها عمر موقوت، لا بُدَّ أنْ يفنى. إذن: العاقل مَنْ يختار الباقية على الفانية، لذلك أهل الدنيا قالوا{ يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ... }[القصص: 79].

أما أهل العلم والمعرفة فردُّوا عليهم: { وَيْلَكُمْ... } [القصص: 80] أي: الويل لكم بسبب هذا التفكير السطحي، وتمنِّي ما عند قارون الويل والهلاك لكم بما حسدتُم الناس، وبما حقدتُم عليهم, وباعتراضكم على أقدار الله في خَلْقه.

فأنتم تستحقون الهلاك بهذا؛ لذلك قال الله عنهم في موضع آخر:{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[الروم: 6-7].

يعني: لا يعرفون حقيقة الأشياء، ولو عرفوا ما قالوا هذا الكلام، وما تمنَّوْا هذه الأمنية.

ثم يلفت أهل العلم والمعرفة أنظار أهل الدنيا، ويُوجِّهونهم الوجهة الصحيحة: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً... } [القصص: 80] أي: ثواب الله خير من الدنيا، ومما عند قارون، وكيف تتمنون ما عنده، وقد شجبتم تصرفاته، ونهيتموه عنها، ولم ترضوَهْا؟

ومعنى: { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ } [القصص: 80] أي: يُلقّي الإيمان والعمل الصالح والهداية، ليُقبِلَ على عمل الآخرة، ويُفضلها عن الدنيا، أي: يُلقّى قضية العلم بالحقائق، ولا تخدعه ظواهر الأشياء. هذه لا يجدها ولا يُوفّق إليها إلا الصابرون، كما قال سبحانه في آية أخرى:{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }[فصلت: 35].

والصبر: احتمال ما يؤذي في الظاهر، لكنه يُنعَم في الباطن. وله مراحل، فالله تعالى كلَّفنا بطاعات فيها أوامر، وكلَّفنا أنْ نبتعد عن معاصٍ، وفيها نواهٍ، وأنزل علينا أقداراً قد لا تستطيبها نفوسنا، فهذه مراحل ثلاث.

فالطاعات ثقيلة وشاقة على النفس؛ لذلك يقول تعالى عن الصلاة:{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة: 45] فهناك دَواع شتَّى تصرفك عن الصلاة، وتحاول أنْ تُقعدك عنها، فتجد عند قيامك للصلاة كسلاً وتثاقلاً.

واقرأ قوله تعالى عن الصلاة مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا... }[طه: 132] وهذا دليل على أنها صعبة وشاقَّة على النفس، لكن إذا تعودتْ عليها، وألفتها النفس صارتْ أحبَّ الأشياء إليك، وأخفّها على نفسك، بل وقرَّة عَيْن لك.

والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله لمؤذنه بلال: " أرحنا بها يا بلال " لا أرحنا منها تلك المقالة التي يقولها لسان حالنا الآن.

ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: " وجُعلَت قرة عيني في الصلاة " وخصَّ الصلاة بالذات من بين سائر العبادات؛ لأنها تتكرر في اليوم خمس مرات، فهي ملازمة للمؤمن يعايشها على مدى يومه وليلته بخلاف الأركان الأخرى، فمنها ما هو مرة واحدة في العام، أو مرة واحدة في العمر كله.

هذا هو النوع الأول من الصبر، وهو الصبر على مشقة الطاعة.

الثاني: الصبر عن شهوة المعصية، ولا تنْسَ أنه أول صبر تصادفه في حياتك أنْ تصبر على نفسك؛ لذلك يقول الشاعر:إذَا رُمْتَ أنْ تُسْتقِرضَ المال مُنفقاً عَلَى شَهَواتِ النفْسِ في زَمَن العُسْرِفَسَل نفسَكَ الإنفاقَ من كَنْز صَبْرها عليْكَ وإنْظَاراً إلى سَاعةِ اليُسْرفإنْ فعلتْ كنتَ الغنيَّ وإنْ أبتْ فكل مَنُوع بعدها واسِع العُذْرفبدل أن تقترض لقضاء شهوة نفس عاجلة، فأوْلَى بك أن تصبر إلى أن تجد سعة وتيسيراً، فصبرك على نفسك أهون من صبر الناس عليك، وإنْ تسعْكَ نفسك، فلا عُذْر لأحد بعد ذلك إنْ منعك.

الثالث: صَبر على الأقدار المؤلمة التي لا تفطن أنت إلى الحكمة منها، فالأقدار ما دامتْ من حكيم، ومُجريها عليك ربٌّ، إذن لا بُدَّ أن لها حكمة فيك، فخُذ القضية القدرية مُجريها عليك، فهو سبحانه ربك، وليس عدوك، وأنت عبده وصنعته، ألم تقرأ قول الرسول في الحديث الشريف: " الخلق كلهم عيال الله، فأحبُّهم إليه أرأفهم بعياله ".

إذن: حين تجري عليك الأقدار المؤلمة، فيكفيك للصبر عليها أنْ تعلم أنها حكمة الله، ويكفيك أن مُجريها عليك ربك، فإنْ جاءت الأقدار المؤلمة بسبب تقصيرك، فلا تلومنَّ إلا نفسك، كالطالب الذي يُهمل دروسه ويتكاسل، فيفشل في الامتحان، فالفشل نتيجة إهماله وتكاسله.

أما الذي يذاكر ويجدّ ويُبكِّر إلى الامتحان مُسْتبشراً فتصدمه سيارة مثلاً في الطريق، تمنعه من أداء امتحانه، فهذا هو القدر المؤلم الذي له حكمة، وربما داخله شيء من الغرور، وعوَّل على مذاكرته، ونسي توفيق الله له، فأراد الله أنْ يُلقّنه هذا الدرس ليعلمه أن الأمر في النهاية بيد الله وبمعونته، وأنه الخاسر إنْ لم تصادفه هذه المعونة، على حَدٍّ قول الشاعر:إذَا لم يكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله للفتَى فَأَوَّلُ مَا يَجْني عليْهِ اجتهادُهُفعليك إذن أنْ تنظر إنْ كانت المصيبة نتيجة لما قدمت، فلا تلومنَّ إلا نفسك، فإنْ كنتَ قد أخذت بالأسباب، واستوفيتَ ما طُلب منك، ثم أصابتْك المصيبة، فاعلم أن لله فيها حكمة، وعليك أنْ تحترم حكمة الله وقدره في خَلْقه.

وباعتبار آخر، يمكن أن نقسم المصائب إلى قسمين: قسم لك فيه غريم، كأن يعتدي عليك غيرك بضرب أو قتل أو نحوه، وقسم ليس لك فيه غريم كالموت والمرض مثلاً.

وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - حكماً في كل منهما، ففي النوع الأول حيث لا غريمَ لك، يقول تعالى على لسان لقمان وهو يوصي ولده:{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17].

ويقول فيما لك فيه غريم:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ... }[الشورى: 43] فما دام قد ذكر المغفرة ودعاك إليها، فلا بُدَّ أن أمامك غريماً، ينبغي أنْ تصبر عليه، وأن تغفر له، والغريم يهيجني إلى المعصية وإلى الانتقام، فكلما رأيته أتميَّز غيظاً، فالصبر في هذه الحالة أشد ويحتاج إلى عزيمة قوية.

لذلك قال سبحانه:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] ولم يقل كما في الأولى:{ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17] إنما بصيغة التأكيد باللام (لَمِنْ).

ويُعلِّمنا ربنا - تبارك وتعالى - كيف نعالج غَيْظ النفوس أمام الغريم، فيقول سبحانه:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].

هذه مراحل ثلاث، تتدرج بك حسب ما عندك من استعداد للخير وقدرة على التسامح، فأولها: أن تكظم غيظك، وهذا يعني أن الغيظ موجود، لكنك تكتمه في نفسك، فإن ارتقيتَ عفوتَ بأن تُخرج الغيظ والغِلَّ من نفسك، كأن شيئاً لم يحدث، فإن ارتقيتَ إلى المرتبة الأعلى أحسنتَ؛ لأن الله تعالى يحب المحسنين، والإحسان أن تقدم الخير وتبادر به مَنْ أساء إليك، فتجعله رداً على إساءته.

ولا شكَّ أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة، فهي قاسية على النفس، وقلما تجد مَنْ يعمل بها؛ لذلك ما جعلها الله على وجه الإلزام، إنما ندب إليها وحثّ عليها، فإنْ أخذتَ بأْولاَها فلا شيء عليك؛ لأن الله تعالى أباح لك أن ترد الإساءة بمثلها، فإنْ كظمتَ غيظك فأنت على خير، وإن اخترتَ لنفسك الرقي في طاعة ربك، فنِعمْ الرجل أنت، ويكفيك{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].

ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل الله في جانبك، فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك، كما قال أحد العارفين: ألا أُحسن لمن جعل الله في جانبي؟

وضربنا لذلك مثلاً بالوالد حين يجد أن أحد الأولاد اعتدى على الآخر، فيميل ناحية المُعْتَدى عليه ويتودَّد إليه، ويحاول إرضاءه، حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه، كذلك الحق - تبارك وتعالى - إن اعتدى بعض خَلْقه على بعض يحتضن المظلوم، وينصره على مَنْ ظَلمَه.

ثم يُفاجأ قارون بالعقاب الذي يستحقه: } فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ... {.

(/3258)

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

والخسف: أن تنشقَّ الأرض فتبتلع ما عليها، كالذي يقول (يا أرض انشقي وابلعيني)، والخسف كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ... } [القصص: 81]، فما نفعه مال، ولا دافع عنه أهل { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ } [القصص: 81] أي: بذاته. فلم تكُنْ له عُصْبة تحميه، ولا استطاع هو حماية نفسه، فمَنْ يدفع عذاب الله إن حلَّ، ومَنْ يمنعه ونقذه إنْ خُسِفت به الأرض؟!

وهنا ينبغي أن نتساءل: كيف الآن حال مَنْ اغتروا به، وفُتِنوا بماله وزينته؟

يقول الحق سبحانه: { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ... }.

(/3259)

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

لقد كانوا بالأمس يقولون{ يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ... }[القصص: 79]، لكن اليوم وبعد أن عاينوا ما حاق به من عذاب الله وبأسه الذي لا يُردُّ عن القوم الكافرين - اليوم يثوبون إلى رُشْدهم ويقولون: { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ... } [القصص: 82].

كلما (وَىْ) اسم فعل مثل: أُفٍّ وهيهات، وتدل على الندم والتحسُّر على ما حدث منك، فهي تنديد وتَخْطيءٌ للفعل، وقد تُقال (وَيْ) للتعجب. فقولهم (وي) ندماً ما كان منهم من تمني النعمة التي تنعَّم بها قارون وتخطيئاًَ لأنفسهم، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف التي تنعَّم بها قارون وتخطيئاً لأنفسهم، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف به وبداره، وهم يندمون الآن ويُخطِّئون أنفسهم؛ لأن الله تعالى في رزقه حكمة وقدراً.

{ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ... } [القصص: 82] أي: يقبض ويُضيق، وليس بسْط الرزق دليل كرامة، ولا تضييقه دليلَ إهانة، بدليل أن الله يبسط الرزق لقارون، ثم أخذه أخْذ عزيز مقتدر.

وقد تعرضتْ سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى:{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16].

فالأول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة، والآخر اعتبر التضييق دليلَ إهانة، فردَّ الحق سبحانه عليهما ليُصحح هذه النظرة فقال:{ كَلاَّ... }[الفجر: 17] يعني: أنتما خاطئان، فلا سعةَ الرزق دليلُ كرامة، ولا تضييقه دليلُ إهانة، وإلا فكيف يكون إيتاء المال دليلَ كرامة، وأنا أعطي بعض الناس المال، فلا يُؤدُّون حقَّ الله فيه؟{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً }[الفجر: 17-20].

إذن: فأيُّ كرامة في مال يكون وبالاً على صاحبه، وابتلاء لا يُوفَّق فيه، فلو سُلب هذا المال من صاحبه لكان خيراً له، فما أشبهَ هذا المال بالسلاح في يد الذي لا يُحسِن استعماله، فربما قتل نفسه به.

وقوله تعالى: { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص: 82] تعجُّب من أنه لا يفلح الكافرون عند الله تعالى.

وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه بقضية عامة ليفصل في هذه المسألة: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ... }.

(/3260)

تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

لأنه لا يصح أنْ يعلو الإنسان على بني جنسه، ولا على بيئته إلا بشيء ذاتي فيه، فلا يصح أنْ يعلوَ بقوته؛ لأنه قد يمرض، فيصير إلى الضعف، ولا بماله لأنه قد يُسلب منه.

إذن: إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك، إنْ أردتَ فبشيء ذاتي فيك، وليس فيك شيء ذاتي، فلست أفضلَ من أحد حتى تعلو عليه، كما أن الدنيا أغيار، وربما انتقل ما عندك إليهم، فهل يسرُّك إنْ صار غيرك غنياً أو قوياً أنْ يتعالى عليك؟

ثم أنت لا تستطيع العلو إلا بالاعتماد على قوة أعلى منك تسندك، وجرِّب بنفسك وحاول أن تقفز إلى أعلى كلاعب السيرك، ثم أمسك نفسك في هذا العلو، وطبعاً لن تستطيع، لماذا؟ لأنه لا ذاتية لك في العُلو.

وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تعلو؛ لأنك بعلوِّك تُحْفِظُ الآخرين؛ فإنْ حصل لك العكس شمتوا فيك، وأيضاً لأن الإنسان لا يعلو في بيئة ولا في مكان إلا إذا رأى كل مَنْ حوله دونه، وحين ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فَضلْ الله في خَلْقه.

ولو تأملت لوجدتَ في كل منهم خصلة ليست عندك، ولو قدَّرت أن الناس جميعاً عيالُ الله وخَلْقه، وليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة ونحن جميعاً عنده تعالى سواء، وقد وزّع المواهب بيننا جميعاً بالتساوي، وبالتالي لا يمتاز أحد على أحد، فلم التعالي إذن؟ ولِمَ الكبر؟

وأيضاً الذي يتعالى لا يتعالى إلا في غفلة منه عن ملاحظة كبرياء ربه، وإلا فالذي يستحضر عظمة ربه وكبرياءه لا بُدَّ له أنْ يتواضع، وأنْ يتضاءل أمام كبريائه تعالى، وأنْ يستحي أن يتكبر على خَلْقه.

والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا كيف نحترم الآخرين؟ وكيف نتواضع لهم؟ فلما دخل عليه الصحابي الجليل عدي بن حاتم قام عن كرامة مجلسه له، يعني: إن كانْ جالساً على (وسادة مثلاً) يقوم عنها، ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها.

وهكذا يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على المساواة في المجلس؛ لذلك قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك لا تريد عُلُواً في الأرض، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأسلم.

وعجيب ما نراه مثلاً في مساجدنا، وهي بيوت الله وأَوْلَى الأماكن بهذه المساواة، فتراهم إذا دخل أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مُصلّى ليصلي عليها، مع أن المسجد مفروش، وعلى أعلى مستوى من النظافة، فلماذا هذا التمييز؟

ومع ذلك نجد منهم مَنْ يزيح هذه المصلَّى جانباً، ويصلي كما يصلي بقية الناس، وأظن أن الذي يقبل أنْ تُوضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علواً في الأرض.

والحق سبحانه يريد للإنسان أن يعيش سوىَّ الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة، لا يداخلها ضغن، وإذا خلَتْ القلوب من الضِّغن وَسِع الناسَ جميعاً رغيفُ عيشٍ واحد.

ثم يقول سبحانه: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83] أي: العاقبة الخيِّرة، والعاقبة الحسنة في النعيم المقيم الدائم للمتقين.

ثم يقول الحق سبحانه: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ... }.

(/3261)

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

قلنا: إن كلمة (خيرٍ) تُطلق ويُراد بها ما يقابل الشر، كما في قوله تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8].

وتُطلق ويُراد بها الأحسن في الخير، تقول: هذا خير من هذا، فكلاهما فيه خير، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير " فهي بمعنى التفضيل، أي: أخير منها، ومن ذلك قول الشاعر:زَيْدٌ خِيارُ النَّاسِ وابْنُ الأَخْيرِفجاء بصيغة التفضيل على الأصل، وتقول: هذا حَسَن، وذلك أحسن.

فالمعنى هنا: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا... } [القصص: 84] أي: خير يجيئه من طريقها، أو إذا عمل خيراً أعطاه الله أخير منه وأحسَن، والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها.

والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة، فيقول سبحانه:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261].

فقوله تعالى: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ... } [القصص: 84] قضية عقدية، تثبت وتُقرِّر الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومعنى { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ... } [القصص: 84] أي: أتى بها حدثاً لم يكُنْ موجوداً، فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتَها بما خلق الله فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل الخير.

أو المعنى: جاء بالحسنة إلى الله أخيراً لينال ثوابها، ولا مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها ليُقبل بها على الله، فيجازيه بها في الآخرة.

لكن، هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الآخرة، أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة الآخرة؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضاً في الدنيا، لكن مجموعها يكون لك في الآخرة.

وهذه الآية جاءت بعد الحديث عن قارون، وبعد أن نصحه قومه، وجاء في نصحهم:{ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ... }[القصص: 77] إذن: فطلبهم أن يُحسن كما أحسن الله إليه جاء في مجال ذكر الحسنة، والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه الإنسان؟ لا، لأن الإنسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب عليه المضرة، وقد يكره الشيء ولا يستطيبه، ويأتي له بالنفع.

فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة، فلا يحددها إلا الله تعالى، الذي خلق الناس، ويعلم ما يُصلحهم، وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الأشياء، ويعلم ما يترتب عليها من آثار، أما الإنسان فقد خلقه الله صالحاً للخير، وصالحاً للشر، يعمل الحسن، ويعمل القبيح، وربما اختلطت عليه المسائل.

لذلك يقولون في تعريف الحسنة: هي ما حسَّنه الشرع، لا ما حسَّنْتها أنت، فنحن مثلاً نستسيغ بعض الأطعمة، ونجد فيها متعة ولذة، مع أنها مُضرة، في حين نأنف مثلاً من أكل الطعام المسلوق، مع أنه أفيد وأنفع؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام:

{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً... }[النساء: 4] لأن الطعام قد يكون هنيئاً تجد له متعة، لكنه غير مريء ويُسبِّب لك المتاعب بعد ذلك.

الحق سبحانه يقول هنا: } مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا... { [القصص: 84] فالحسنة خير، لكن، الثواب عليها خيرٌ منها أي: أخير؛ لأنه عطاء دائم باقٍ لا ينقطع، أو خير يأتيك بسببها. كما يقول أصحاب الألغاز واللعب بالكلمات: محمد خير من ربه، والمعنى: خير يصلنا من الله، ولا داعي لمثل هذه الألغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول.

ثم يقول سبحانه: } وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ... { [القصص: 84] لم يقُل الحق سبحانه: فله أشر منها، قياساً على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة، وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة الله بخَلْقه، هذه الرحمة التي تتعدَّى حتى إلى العُصَاة من خَلْقه.

لذلك قال } فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [القصص: 84] أي: على قَدْرها دون زيادة.

واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى في سورة (عم):{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }[النبأ: 31-36].

فحسباناً هنا لا تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل، إنما تعني كافيهم في كل ناحية من نواحي الخير، ومنه قولنا: حسبي الله يعني: كافيني.

وفي المقابل يقول سبحانه في السيئة:{ جَزَآءً وِفَاقاً }[النبأ: 26] أي: على قدرها موافقاً لها.

إذن: فربنا - عز وجل - يعاملنا بالفضل لا بالعدل؛ ليغري الناس بفعل الحسنة، وأنت حين تفعل الحسنة فأنت واحد تُقدِّم حسنتك إلى كل الناس، وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير كلها، فينالك من كل واحد منهم حسنة، وكأنه (أوكازيون) حسنات يعود عليك أنت.

ثم يقول الحق سبحانه لنبيه: } إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ... {.

(/3262)

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)

معنى فرض: ألزم وأوجب وحتَّم. وأصل الفَرْض الحزّ والقطع، كما تقطع شيئاً بالسكين مثلاً تُسمّى فرضاً؛ لأنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها، كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة مُشْتهاها، ويقطع عليها مشيئتها، ويردّها إلى مشيئة الله؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور:{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا... }[النور: 1].

يعني: حتَّمناها وألزمنا بها، والإلزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها، بصرْف النظر عما تشتهيه هي، فقد يأمرها بما تكره، وينهاها عما تحب. إذن: يقطع سيال النفس؛ لأنها عادة ما تكون أمَّارة بالسوء، تنظر إلى العاجل، ولا تهتم بالآجل ولا تعمل له حساباً.

فالقرآن منهج الله بافعل ولا تفعل، هو الذي يكبح جماح النفس، ويُحدِّد لها مجال مشيئتها؛ لأن الخالق - عز وجل - خلق النفس، وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير، ولعمل الشر.

وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا: إن الخَلْق جميعاً عبيد الله، المؤمن منهم والكافر، وإنْ تأبَّى الكافر على الله في الإيمان، فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى، كالمرض والموت وغيره، ثم أعطانا الله تعالى مجالاً للاختيار، ليثيب من يُثيب بحق، يُعذِّب بحق.

والعاقل حينما يرى أنه مقهور لله في قدريات لا يستطيع منها فكاكاً، وليس له فيها تصرف، فيتنازل عن مراده، وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه، ويرضى أنْ يكون مُسيَّراً في كل شيء، وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد.

فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من الله إلى مراد الله في الحكم، وبهذا المنطق يكون الجميع في الآخرة عباداً؛ لأنه لا اختيار لهم، ويستوي في ذلك المؤمن والكافر، يوم يقول سبحانه:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].

وسُمِّي إنزال القرآن فَرْضاً لما في القرآن من تكاليف، وهي عادةً ما تكون شاقة على النفس، أَلاَ ترى قوله تعالى عن الصلاة، وهي أم العبادات:{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة: 45].

فلا يعرف منزلتها ومكانتها إلا خاشع؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: " أرحنا بها يا بلال " ويقول: " وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة " ؛ لأنه أحبها وعشقها، حتى صارت قُرَّة عينه، ومُنْتهى راحته.

إذن: أول ما يفرض التكليف لا بُدَّ أن يكون شاقاً؛ لذلك يحتاج إلى صلاة إيمان وجَلَد يقين، بحيث تثق في أن العمل الشاق عليك الآن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الآخرة.

ويقول تعالى عن القتال:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ.... }[البقرة: 216] فلا شكَّ أنه مكروه للنفس، لكن إن استحضرت الجزاء، وعرفتَ أنه: إما النصر، وإما الشهادة، فإنه يحلو لك حتى تعشقه، وتبادر أنت إليه، كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الأجر وكان في فمه تمرة يمضغها فقال: " أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل فأُقتل "؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة القتال.

لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة. ومن هنا يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهوةَ نفْس عندهم: أخشى ألاَّ يُثيبني الله على الطاعة، لماذا؟ يقول: لأنني أصحبتُ أشتهيها، أي: كما يشتهي أهل المعصية المعصية.

وحين يصل الإيمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة، فقد أصبح ربانياً يثق فيما عند الله من الجزاء.

" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمَتْ قدماه، فلما سألتْه السيدة عائشة: ألم يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً "؟ "

ومعنى: } لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... { [القصص: 85] يعني: يجازيك أفضل الجزاء، ونزلتْ هذه الآية لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ الله وآذوْه، حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن نصير، لكنهم لم يكونوا أقلَّ قسوة من أهل مكة، فعزَّ على رسول الله النصير فيها، وعاد منكسراً حزيناً لم يجد مَنْ يدخل في جواره، إلى أن أجاره مطعم بن عدي.

وتأمل حين يكون رسول الله بجلالة قدره لا يجد مَنْ يناصره، أو يُدخله في جواره، أما الصحابة فلم تكُنْ لهم شوكة بعد، ولا قوة لحماية رسول الله، وفي هذه الفترة لاقوا المشاق في سبيل الدعوة، فحاصرهم الكفار في شِعْب أبي طالب، وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس، ومنعوا عنهم الطعام والشراب، والبيع والشراء، حتى الزواج، وحتى اضطروا إلى أكل المخلَّفات وأوراق الشجر.

لذلك أمرهم الله بالهجرة، والهجرة تكون إلى دار أمن، أو إلى دار الإيمان، إلى دار أمن كالهجرة إلى الحبشة حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبيِّناً حيثية الهجرة إليها: " إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد " يعني: النجاشي ملك الحبشة، وفعلاً صدق فيه قول رسول الله، فلما أرسلتْ قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة، رفض أن يسلمهم، وأن يُمكِّن قريشاً منهم، مع أن هدايا قريش كانت عظيمة، والإغراء كان كبيراً.

وهذا يدل على عظمة رسول الله، وعلى فكره الواسع، وعلى دراسة الخريطة من حوله، ومعرفة مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه، فاختياره ملك الحبشة لا يأتي إلا إما بإلهام من الله، أو بذكاء كبير، وهو رجل أمي في أمة أمية، ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على صدق مقولة رسول الله.

ونتيجة " لا يظلم عنده أحد " فقد شرَّفه الله بالإسلام فأسلم ووكَّله رسول الله في أن يُزوِّجه من السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت رضي الله عنها من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة مع زوجها الذي تنصَّر هناك، وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها.

وفي هذا دليل أولاً: على مدى ما كان يلاقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين، ثانياً: دليل على الطاعة الواعية للزوج، فقد آثرت الخروج مع زوجها لا عِشْقاً له، ولا هياماً به، إنما فراراً معه بدينها؛ لذلك لما تنصَّر لم تتردد في تركه؛ لذلك طلبها رسول الله لنفسه، ثم لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله وترحَّم عليه. هذه هي هجرة الإيمان إلى دار الأمن.

ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار الإيمان، إلى المدينة، بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وبعد أن وجد رسول الله أنصاراً يتحملون معه أعباء الدعوة، وقد ضرب الأنصار في المدينة أروع مَثَل في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.

ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته، فلا يضِنّ على غيره بما يملك، فتعطيني سيارتك أركبها، أو بيتك أسكن فيه، أو ثوبك ألبسه، وأتقمَّش به، أما الزوجة فتظل مصونة لا يجرؤ أحد على النظر إليها.

لكن كان للأنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حين أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء حتى في زوجاتهم، فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلادهم، وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة وحاجة النساء.

فكان الواحد منهم يقول لأخيه: انظر إلى زوجاتي، فأيتهنّ أعجبتك أُطلِّقها، وتتزوجها أنت، هذه تضحية لا نجد لها مثيلاً في تاريخ الناس حتى عند الكفرة.

ثم أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فخرج خُفْية في حين خرج عمر مثلاً جهراً وعلانية، حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه: مَنْ أراد أنْ تثكله أمه، أو ييُتم ولده، أو تُرمَّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي.

أما رسول الله فقد خرج خُفْية، وهذه المسألة يقف عندها البعض أو تَخْفي عليه الحكمة منها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً أُسْوة للضعيف، أما القوي فلا يحتاج إلى حماية أحد، ولا عليه إنْ خرج علانية؛ لذلك لا يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول الله.

ثم إنك حين تتأمل: نعم خرج رسول الله خُفْية لكنها خُفْية التحدي، فقد خرج من بين فتيانهم المتربصين به، وعفَّر وجوههم بالتراب، وهو يقول: " شاهت الوجوه ".

ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أنْ يأخذ بأسباب النجاة، فخالف الطريق؛ لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع الأنصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها، وأرسلوا العيون للبحث عنه، وجعلوا جُعْلاً لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم.

والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف، كأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نهمل الأسباب، وألاَّ نتصادم مع الواقع ما دُمْنا قادرين على ذلك.

فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي بلده، وأحب البلاد إلى قلبه قال: " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ، فأسكنِّي أحب البلاد إليك ".

لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول الله، فالمدينة محبوبة لله؛ لذلك بعد أن خرج رسول الله من مكة وقارب المدينة حَنَّ قلبه إلى مكة، فطمأنه ربه بهذه الآية: } إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... { [القصص: 85].

فالذي فرض عليك مشقة التكاليف، وحمَّلك مشاق الدعوة والإقناع بها، وتنفيذ أحكامها، هو الذي سيردُّك إلى بلدك ردَّ نصر، وردّ فتح، وما أشبهَ ردِّ رسول الله إلى بلده بردِّ موسى عليه السلام إلى أمه في قوله تعالى لأم موسى:{ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ... }[القصص: 7] ليس رَدَّاً عادياً، إنما{ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }[القصص: 7].

إذن: سيُردُّ إليك ولدك، لكن سيُرد رسولاً منتصراً. وكما صدق الله في ردِّ موسى يصدق في ردِّ محمد.

ومعنى } مَعَادٍ... { [القصص: 85] ليس هو الموعد كما يظن البعض، إنما يراد به المكان الذي تعود إليه بعد أن تفارقه، فالمعنى: سنردُّك إلى المكان الذي تحِنُّ إليه، ويتعلق به قلبك.

أو نردك إلى (معاد) أي: إلينا، كما قال تعالى:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77] ولا مانع من إرادة المعنيين معاً.

ثم يقول سبحانه: } قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىا وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [القصص: 85] الحق تبارك وتعالى يعلِّم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الجدل العفيف، لا الجدل العنيف، يُعلِّمه كيف يردُّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به (صبأ فلان) يعني: خرج عن دين آبائه وهم يعتقدون أنه الحق، فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل.

إذن: فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل، كما قال سبحانه:{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[النحل: 125]؛ لأن الجدل العنيف يزيد خصمك عناداً ولجاجة، أما الجدل العنيف فيستميل القلوب ويعطفها نحوك؛ لذلك يرد رسول الله بقوله: } قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىا وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [القصص: 85] أي: جاء بالهدى من عند الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم: } وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [القصص: 85].

ثم يعطي الحق - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم دليلاً من واقع حياته؛ ليطمئن على أنه مُؤيَّد من ربه، وأنه سبحانه سيفي له بما وعد، ولن يتخلى عنه، وكيف يختاره للرسالة، ثم يتخلى عنه؟

(/3263)

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)

يعني: إذا كنت تتعجب، أو تستبعد أنْ نردَّك إلى بلدك؛ لأن الكفار يقفون لك بالمرصاد، حتى أصبحت لا تُصدِّق أنْ تعود إليها، فانظر إلى أصل الرسالة معك: هل كنت تفكر أو يتسامى طموحك إلى أنْ تكون رسولاً؟ إنه أمر لم يكُنْ في بالك، ومع ذلك أعطاك الله إياه واختارك له، فالذي أعطاك الرسالة ولم تكُنْ في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه؟

إذن: تقوم هذه الآية مقامَ الدليل والبرهان على صِدْق{ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... }[القصص: 85] وفي موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى، فيقول سبحانه:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآء... }[الشورى: 52] فالذي أعطاك الرسالة لا يعجز أن يحقق لك ما تريد.

وقوله تعالى: { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ... } [القصص: 86] هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعاً.

والمعنى: ما كنت ترجو أن يُلْقى إليك الكتاب إنما ألقيناه، وما ألقيناه إليك إلا رحمة لك من ربك.

وما دام هؤلاء الكفار عاندوك وأخرجوك، فإياك أنْ تلين لهم { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } [القصص: 86] أي: معيناً لهم مسانداً، وكانوا قد اقترحوا على رسول الله أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فحذره الله أنْ يُعينهم على ضلالهم، أو يجاريه في باطلهم، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يناصر ظالماً أو مجرماً، حتى إن كان من أتباعه.

وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] قصة اليهودي زيد بن السمين لما جاءه المسلم طُعْمة بن أبيريق، وأودع عنده دِرْعاً له، وكان هذا الدرع مسروقاً من آخر اسمه قتادة بن النعمانَ، فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت اليهودي، وكان السارق قد وضعه في كيس للدقيق، فدلَّ أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة، ولما عرفوا حقيقة الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم، خاصة وهم حديثو عهد بالإسلام، حريصون على ألاّ تُشوه صورته.

لذلك شرحوا لرسول الله هذه المسألة، لعله يجد لها مخرجاً، فأدار رسول الله المسألة في رأسه قبل أنْ يأخذ فيها حُكْماً؛ وعندها نزل الوحي على رسول الله:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ... }[النساء: 105] أي: جميع الناس، المؤمن والكافر{ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] أي: تخاصم من أجلهم ولصالحهم{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }[النساء: 106] أي: مما خطر ببالك في هذه المسألة.

وفي بعض الآيات نجد في ظاهرها قسوة على رسول الله وشدة مثل:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }

[الحاقة: 44-46].

وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل لا يُقصد به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الحق سبحانه يريد أن يعطي للأمة نموذجاً يلفت أنظارهم، وكأنه تعالى يقول لنا: انتبهوا فإذا كان الخطاب لرسول الله بهذه الطريقة، فكيف يكون الخطاب لكم؟

كأن يكون عندك خادم يعبث بالأشياء حوله، فتُوجِّه الكلام أنت إلى ولدك: والله لو عبثتَ بشيء لأفعلنَّ بك كذا وكذا، فتوجِّه الزجر إلى الولد، وأنت تقصد الخادم، على حَدِّ المثل القائل (إياك أعني واسمعي يا جارة).

لذلك يقول بعض العارفين:مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ إلى النبيِّ صَاحبِ البشَارةِفكُنْ لَبيباً وافْهَم الإشَارةَ إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارةيعني: اسمعوا يا أمة محمد، كيف أخاطبه، وأُوجِّه إليه النذارة، مع أنه البشير.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ... {.

(/3264)

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

قوله تعالى: { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ... } [القصص: 87] أي: لا يصرفنك ولا يمنعنَّك المشركون { عَنْ آيَاتِ اللَّهِ... } [القصص: 87] أي: قراءتها وتبليغها للناس، وقوله: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [القصص: 87] هذا أيضاً داخل في (إياك أعني واسمعي يا جارة) لأن رسول الله أبعد ما يكون عن الشرك، وليس مظنة له.

(/3265)

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ... } [القصص: 88] كسابقتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مظنة أن يدعو مع الله إلهاً آخر { لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... } [القصص: 88] أي: لا معبودَ بحق إلا هو.

ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوه:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42] أي: سَعَوْا إليه لينازعوه الألوهية، أو ليتقرَّبوا إليه.

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... } [القصص: 88] الوجه في عُرْفنا ما به المواجهة في الإنسان، وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أنْ نصفه سبحانه به، بناءً على وصفه في إطار قوله سبحانه{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11].

فالحق سبحانه له وجه، لكن ليس ككل الوجوه، وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق سبحانه مع الخَلْق، وأنت آمنتَ بوجود الله، وأن وجوده ذاتي، ليس كوجودك أنت.

وقوله: { كُلُّ شَيْءٍ... } [القصص: 88] كلمة شيء يقولون: إنها جنس الأجناس يعني: أي موجود طرأ عليه الوجود يسمى (شيء) مهما كان تافهاً ضئيلاً. وقد تكلم العلماء في أيطلق على الله تعالى أنه شيء لأنه موجود؟

قالوا: ننظر في أصل الكلمة (شيء) من شاء شيئاً، فالشيء شاءه غيره، فأوجده؛ لذلك لا يقال لله تعالى شيء؛ لأنه سبحانه ما شاءه أحد، بل هو سبحانه موجود بذاته.

وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.... }[الإسراء: 44] يعني: كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم، إلا يسبح بحمد الله، البعض قال: هو تسبيح دلالة على موجدها، وليس تسبيح مقالة حقيقية، لكن قوله سبحانه{ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44] يدل على أنه تسبيح حقيقي، فكل شيء يُسبِّح بلغته وبما يناسبه.

وقد أثبت الله تعالى منطقاً للطير وتسبيحاً للجبال، ولو فهمتَ لغة هذه الأشياء لأمكنك أنْ تعرف تسبيحها، لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر، ونحن لا نفهم لغات بعضنا، فإذا لم تكن تعرف مثلاً الإنجليزية، أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبّح بها الله وهو بشر مثلك يتكلَّم بنفس طريقتك وبنفس الأصوات؟

لذلك يقولون في معجزاته صلى الله عليه وسلم: سبَّح الحصى في يده، والصواب أن نقول: سمع رسول الله تسبيح الحصى في يده، وإلاَّ فالحصى يُسبِّح في يد رسول الله، ويُسبِّح في يد أبي جهل. ومن ذلك أيضاً حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ألم يقل الحق سبحانه:{ وَأَوْحَىا رَبُّكَ إِلَىا النَّحْلِ... }[النحل: 68].

ألم يَقُلْ عن الأرض:{ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىا لَهَا }[الزلزلة: 5]؟ ألم يُثبت للنملة كلاماً؟ ألم يكلم الهدهد سليمان عليه السلام، وفهم منه سليمان؟

إذن: لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ... }[النور: 41] وإنْ شاء الله أطلع بعض خَلْقه على هذه اللغات، وأفهمه إياها.

ومعنى: } هَالِكٌ... { [القصص: 88] البعض يظن أن الهلاك خاصٌّ بما فيه روح كالإنسان والحيوان، لكن لو وقفنا عند قوله تعالى:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42].

إذن: فالهلاك يقابله الحياة، فكل شيء يهلك كانت له حياة تناسبه، وإنْ كنا لا نفهم إلا حياتنا نحن، والتي تذهب بخروج الروح.

ومعنى: } إِلاَّ وَجْهَهُ... { [القصص: 88] أي: إلا ذاته تعالى، ولم يقُلْ: إلا هو؛ لأنه تعالى ليس شيئاً، وللوجه هنا معنى آخر، كما نقول: فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجه الله يعني: فعلت والله في بالي، فالمعنى: كل شيء هالك، إلا ما كان لوجه الله، فلا يهلك أبداً؛ لأنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا وثوابه في الآخرة.

ثم يقول سبحانه: } لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 88] أي: له الحكم في الآخرة يوم يقول:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ... }[غافر: 16] لكن لماذا خصَّ الملك يوم القيامة، وهو سبحانه له الملْك الدائم في الدنيا وفي الآخرة؟ قالوا: لأن هناك مُلْكاً في الدنيا، يُملِّكه لخَلْقه، كما قال سبحانه في النمرود:{ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ... }[البقرة: 258] وقال سبحانه:{ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ... }[آل عمران: 26].

إذن: فالملْك مُلْك الله، وهو سبحانه الذي يُملِّك خَلْقه في الدنيا دنيا الأسباب، لكن في الآخرة تُنزع الملكية من أيِّ أحد إلا لله وحده. حتى إرادة الإنسان على جوارحه تُسلَب منه، فتشهد عليه بما كان منه في الدنيا.

وإنْ أردتَ أن تعرف الآن صِدْق هذه المسألة فانظر إلى الأمور القدرية التي تجري عليك، كالمرَض وكالموت وغيرها، هل تستطيع أن تتأبى عليها؟

ثم يقول سبحانه: } وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 88] أي: للحساب في الآخرة؛ لأن الله تعالى لم يخلقنا عَبثاً، ولن يتركنا هملاً، بل لا بد من الرجوع إليه ليحاسب كلاً منكم على ما قدَّم، وما دُمْتم قد عرفتم ذلك، فعليكم أن تحترموا المرجع إلى الله، وتنظروا ماذا طلب منكم.

والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنياً للمجهول (تُرجعون) وهو للكافر الذي تأبَّى على الله، فنقول له: ستُرجع إلى الله، وتٌقذف في النار غَصباً عنك، ورَغْماً عن أنفك، فإنْ تأبَّيْتَ على الله في الدنيا، فلن تتأبَّى عليه في الآخرة، ويأتي مبنياً للمعلوم (ترجعون) وهو للمؤمن الذي يشتاق لثواب الآخرة فيتهافت بنفسه ويُقبل عليه.

(/3266)

الم (1)

سبق أنْ تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن، كلما تكررت هذه الظاهرة نتكلم عن مجالات الأذهان في فهمها، وما دام الحق سبحانه يُكررها فعلينا أيضاً أن نُكرِّر الحديث عنها، ولماذا ينثر الله هذه الظاهرة في سور القرآن؟ لتظل دائماً على البال.

وقلنا: إن القرآن الكريم مبنيٌّ في كل آياته وسوره على الوَصْل، لا على الوقف، اقرأ:{ >مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 64-67].

فلم يقل{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 65] ويقف، إنما وصل:{ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }[الرحمن: 66] لأن القرآن موصول، لا فصلَ أبداً بين آياته؛ لذلك ليس في القرآن من وقف واجب، إنما لك أن تقف لضيق النفَس، لكن حينما تعيد تعيد بالوصل.

وكذلك القرآن مبنيٌّ على الوَصْل في السور، فحين تنتهي سورة لا تنتهي على سكون، فلم يَقُلْ - سبحانه وتعالى - وإليه ترجعونْ بسكون النون، إنما (تُرْجَعُونَ بسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم) ليبدأ سورة أخرى موصولة.

فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسُوره إلا في الحروف المقطَّعة في أوائل السور، فهي مبنية على الوقف ألفْ لامْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل: ألفٌ لامٌ ميمٌ على الوَصْل، لماذا؟ لأنها حروف مُقطَّعة، قد يظنها البعض كلمة واحدة، ففصَل بينها بالوقف.

لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " لا أقول الم حرف. ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف، كل حرف على حدة.

وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا: إنها خامات القرآن، فمن مثل هذه الحروف يُنسج كلام الله، وقلنا: إنك إنْ أردتَ أن تُميِّز مهارة النسْج عند بعض العمال مثلاً لا تعطي أحدهم قطناً، والآخر صوفاً، والآخر حريراً مثلاً؛ لأنك لا تستطيع التمييز بينهم، لأن الخامات مختلفة، فالحرير بطبيعته سيكون أنعم وأرقَّ. فإنْ أردتَ معرفة المهارة فوحِّد المادة الخام عند الجميع.

فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا: إن القرآن مُعْجز، بدليل أنكم تملكون نفس حروفه، ومع ذلك عجزتُمْ عن معارضته، فقد استخدم القرآن نفس حروفكم، ونفس كلماتكم وألفاظكم، وجاء بها في صورة بليغة، عَزَّ عليكم الإتيان بمثلها.

إذن: اختلف أسلوب القرآن، لأن الله تعالى هو الذي يتكلم. فمعنى (ألم) هذه نفس حروفكم فأتوا بمثلها.

أو: (ألم) تحمل معنى من المعاني؛ لأن ألف لام ميم أسماء حروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا المتعلم، فالأُميُّ يقول (كتب) لكن لا يعرف أسماء حروفها، وتقول للولد الصغير في المدرسة: تهجَّ كتب فيقول لك (كاف فتحة كَ) و (تاء فتحة تَ) و (باء فتحة بَ).

إذن: لا يعرف أسماء الحروف إلا المتعلم، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً، فمن أين نطق بأسماء الحروف الم، طه، يس، ق.

.. إلخ. إذن: لا بُدَّ أن ربه علّمه ولقّنه هذه الحروف، ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلقيّ في تعلُّم القرآن، وإلا فكيف يُفرِّق المتعلم بين (الم) هنا وبين{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }[الشرح: 1] فينطق الأولى على الوقْف، والأخرى على الوَصْل، ينطق الأولى بأسماء الحروف، والثانية بمُسمَّياتها؟

وتحمل (الم) أيضاً معنى التنبيه للسامع، فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم، فلا بُدَّ أن تتوفر له خصائص العربية والعربية الراقية، فلو قرأنا مثلاً في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم يقول:أَلاَ هُبِّي بصَحْنِك فَاصْبِحينَا ولاَ تُبقِي خمور الأندرينانسأل: ماذا أفادت (أَلاَ) هنا، والمعنى يصح بدونها؟ (ألا) لها معنى عند العربي؛ لأنها تنبهه إنْ كان غافلاً حتى لا يفوته شيء من كلام مُحدِّثه، حينما يُفَاجأ به، كما تنادي أنت الآن مَنْ لا تعرفه فتقول: (اسمع يا...) كأنك تقول له: تنبه لأنني سأكلمك.

والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلَّم برغبته في أي وقت، أما السامع فقد يكون غافلاً غير مُنتبه، أو ليس عند استعداد لأنْ يسمعَ، فيحتاج لمن يُنبِّهه ليفهم ما يُقال له، إنما لو فاجأتَه بالمراد، فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك.

وكذلك في (الم) حروف للتنبيه، على أنه سيأتي كلام نفيس اسمعه جيداً، إياك أنْ يضيع منك حرف واحد منه. كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى، يفهمها غيرنا ممَّنْ فتح الله عليهم. فهي - إذن - معين لا ينضب، يأخذ منه كُلٌّ على قَدْره.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَحَسِبَ النَّاسُ أَن... {.

(/3267)

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)

الفعل (حسِب) بالكسر في الماضي، وبالفتح في المضارع (يحسَب) يعني: ظن. أما (حسَب) والمضارع (يحسِب) بالكسر أي: عَدَّ.

فالمعنى: { أَحَسِبَ النَّاسُ... } [العنكبوت: 2] أي: ظنوا. والهمزة للاستفهام، وهي تفيد نفي هذه الظن وإنكاره، لأنهم حَسِبوا وظنوا أنْ يتركهم الله دون فتنة وتمحيص واختبار.

والحق سبحانه يريد أن يحمل أولوا العزم رسالة الإسلام؛ لأن الإسلام لا يتصدَّى لحمل دعوته إلا أقوياءُ الإيمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها.

والإيمان ليس كلمة تُقال، إنما مسئولية كبرى، هذه المسئولية هي التي منعتْ كفار مكة أنْ يؤمنوا؛ لأنهم يعلمون أن كلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة وإلا لَقَالوها، إنما هي منهج حياة له متطلبات. إنها تعني: لا مُطَاعَ إلا الله، ولا معبود بحقٍّ إلا الله، وهم لا يريدون هذه المسألة لتظل لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية.

لذلك يقول سبحانه هنا: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا... } [العنكبوت: 2] فالإيمان ليس قَوْلاً فحسب؛ لأن القول قد يكون صِدْقاً، وقد يكون كذباً، فلا بُدَّ بعد القول من الاختبار وتمحيص الإيمان { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2] فإنْ صبر على الابتلاءات وعلى المحن فهو صادق الإيمان.

ويؤكد سبحانه هذا المعنى في آية أخرى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ... }[الحج: 11].

وقد محَّص الله السابقين الأولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني، فكان المؤمن يُصدِّق بها، ويؤمن بصِدْق الرسول الذي جاء بها، أما المتردد المتحيِّر فيُكذِّب بها، ويراها غير معقولة.

" ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج، فلمَّا حدَّثوه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنْ كان قال فقد صدق " في حين ارتد البعض وكذَّبوا، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد من هذه الخوارق، التي يقف أمامها العقل - أنْ يُميِّز بين الناس ليحمل أمر الدعوة أشداءُ الإيمان والعقيدة، ومَنْ لديهم يقين بصِدْق الرسول في البلاغ عن ربه.

وسبق أنْ بيّنا غباء مَنْ كَذَّب بحادثة الإسراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول الله: أتدَّعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وأنهم غفلوا أو تغافلوا عن نص الآية:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1] فلم يقل محمد: إني سريت بنفسي إنما أُسْري بي.

وقلنا للرد عليهم: لو جاءك رجل يقول لك: لقد صعدتُ بولدي الرضيع قمة إفرست مثلاً، أتقول له: كيف يصعد الرضيع قمة إفرست؟

وسبق أنْ تكلَّمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعاً، وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من الزمن على قَدْر قوة فاعله، فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد واحدة.

فالزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً فكلما زادت القوة قلَّ الزمن، فالذي يذهب مثلاً إلى الأسكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على مَتْن طائرة. وهكذا.

إذن: قِسْ على قدر قوة الفاعل، فإنْ كان الإسراء بقوة الله تعالى، وهي قوة القوى فلا زمن، وهذه مسألة يقف عندها العقل، ولا يقبلها إلا بالإيمان.

إذن: فالحق سبحانه يُمحِّصكم ويبتليكم؛ لأنه يريدكم لمهمة عظيمة، لا يصلح لها إلا الصنديد القوي في إيمانه ويقينه.

لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }[البقرة: 155].

وقال:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىا نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }[محمد: 31].

وقال:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ... }[آل عمران: 142].

فهذه الابتلاءات كالامتحان الذي نُجريه للتلاميذ لنعرف مقدرة كل منهم، والمهمة التي يصلح للقيام بها، ومعلوم أن الابتلاءات لا تُذَمُّ لذاتها، إنما لنتائجها المترتبة عليها، فما جُعِلَتْ الابتلاءات إلا لمعرفة النتائج، وتمييز الأصلح للمهمة التي نُدِب إليها.

ومعنى } يُفْتَنُونَ { [العنكبوت: 2] يُخْتبرون. مأخوذة من فتنة الذهب، حين نصهره في النار؛ لنُخِرج ما فيه من خَبَث، ونُصفِّي معدنه الأصلح، فيما يناسب مهمته.

ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً للحق وللباطل في قوله تعالى:{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد: 17].

فالفتنة ما كانت إلا لنعرف الصادق من القَوْلة الإيمانية والكاذب فيها: الصادق سيصبر ويتحمل، والكاذب سينكر ويتردد.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... {.

(/3268)

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

الحق - سبحانه وتعالى - يُسلِّي السابقين من أمة محمد الذين عُذِّبوا وأوذوا، وضُرِبوا بالسياط تحت حَرِّ الشمس، ووُضِعت الحجارة الثقال على بطونهم، والذين جاعوا حتى أكلوا الميتة وأوراق الشجرة يُسلِّيهم: لَسْتم بدعاً في هذه الابتلاءات فاصمدوا لها كما صمد السابقون من المؤمنين.

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... } [العنكبوت: 3] فانظر مثلاً إلى ابتلاء بني إسرائيل مع فرعون، إذن فابتلاؤكم أهونِ وأخفّ، وفيه رحمة من الله بكم وأنتم أيسر منهم { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 3].

ولك أن تقول: ألم يكُن الله تعالى يعلم حقيقتهم قبل أنْ يبتليهم؟ بلى، يعلم سبحانه حقيقةَ عباده، وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم، إنما الهدف أنْ يُقر العبد بما عُلِم عنه.

ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - حينما نقول للمدرس مثلاً: اعْطنا نتيجة هؤلاء التلاميذ، فليس في الوقت سعة للامتحان فيقول من واقع خبرته بهم: هذا ناجح، وهذا راسب، وهذا الأول، وهذا كذا. عندها يقوم الراسب ويقول: لو اختبرتني لكنت ناجحاً، ولو اختبره معلِّمه لرسب فعلاً. إذن: فربنا - عز وجل - يختبر عباده ليُقر كل منهم بما عُلم عنه.

{ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 3] عِلْم ظهور وإقرار من صاحب الشأن نفسه، بحيث لا يستطيع إنكاراً، حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه.

(/3269)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

هنا أيضاً { حَسِبَ... } [العنكبوت: 4] أي: ظن الذين يعملون السيئات { أَن يَسْبِقُونَا... } [العنكبوت: 4] أي: يُفلتوا من عقابنا، تقول: سبق فلان فلاناً يعني: أفلت منه وهو يطارده، فالمعنى أنهم لن يستطيعوا الإفلات من العذاب أو الهرب منه، وإنْ كانوا يعتقدون ذلك أو يظنونه، فبئس هذا الظن.

{ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [العنكبوت: 4] أي: قَبُح حكمهم وبَطُل، وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم بالبطلان فإنما نثبت قضيتنا، وهي أنهم لن يُفْلِتوا من عقابنا.

ثم يقول الحق سبحانه: { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ... }.

(/3270)

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

معنى { يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ... } [العنكبوت: 5] يعني: يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله، يؤمن بأن الله الذي خلقه وأعدَّ له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة، وأنه سبحانه بعد ذلك سيُعيده ويحاسبه؛ لذلك إنْ لم يعبده ويطعْه شُكْراً له على ما وهب، فليعبده خوفاً منه أنْ يناله بسوء في الآخرة.

وأهل المعرفة يروْنَ فرقاً بين مَنْ يرجو الثواب ويرجو رحمة الله، ومن يرجو لقاء الله لذات اللقاء، لا خوفاً من نار، ولا طمعاً في جنة؛ لذلك تقول رابعة العدوية:كُلُّهم يَعْبدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ويروْنَ النجاةَ حَظَّاً جَزِيلاًأَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنانَ فيحظَوْا بقُصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيلالَيْسَ لي بالجنَانِ والنّارِ حَظٌّ أنَا لا أبتغي بحِبي بَديلاَأي: أحبك يا رب، لأنك تُحَبُّ لذاتك، لا خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وهي أيضاً القائلة: اللهم إنْ كنتَ تعلم أني أحبك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها.

ويقول تعالى في سورة الكهف:{ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }[الكهف: 110] ولو كانت الجنة لأن لقاء الله أعظم، وهو الذي يُرْجى لذاته.

والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد: { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ... } [العنكبوت: 5] فأكَّده بإن واللام وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقُّق الفعل، كما قال سبحانه:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ }[القصص: 88] ولم يقل: سيهلك، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }[الزمر: 30].

يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياءً؛ لأن الميِّت: مَنْ يؤول أمره وإن طال عمره إلى الموت، أما مَنْ مات فعلاً فيُسمَّى (مَيْت).

وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول: يأتي أو سيأتي، وتقول لمن تتوعده: سأفعل بك كذا وكذا، فأنت جازفتَ وتكلمتَ بشيء لا تملك عنصراً من عناصره، فلا تضمن مثلاً أنْ تعيش لغد، وإنْ عشتَ لا تضمن أن يعيش هو، وإنْ عاش ربما يتغير فكرك ناحيته، أو فقدتَ القدرة على تنفيذ ما تكلمت به كأنْ يصيبك مرض أو يِلُم بك حدث.

لكن حينما يتكلم مَنْ يملك ازمّة الأمور كلها، ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه، فحين يحكم، فليس للزمن اعتبار في فعله، لذلك لم يقل سبحانه: إن أجل الله سيأتي، بل { لآتٍ... } [العنكبوت: 5] على وجه التحقيق.

وسبق أنْ ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... }[النحل: 1] وقد وقف السطحيون أمام هذه الآية يقولون: وهل يستجعل الإنسان إلا ما لم يَأْتِ بَعْد؟ لأنهم لا يفهمون مراد الله، وليست لديهم مَلَكة العربية، فالله تعالى يحكم على المستقبل، وكأنه ماضٍ أي مُحقّق؛ لأنه تعالى لا يمنعه عن مراده مانع، ولا يحول دونه حائل.

ولفظ الأجل جاء في القرآن في مواضع كثيرة، منها:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف: 34] وفي الآية التي معنا: } فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ... { [العنكبوت: 5].

والأجلان مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للإنسان، فالأجل الأول يُنهي الحياة الدنيا، والأجل الآخر يُعيد الحياة في الآخرة للقاء الله عز وجل، إذن: فالأجلان مرتبطان.

والحق - سبحانه وتعالى - حينما يعرض لنا قضية غيبية يُؤنِسنا فيها بشيء حسيٍّ معلوم لنا، حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحَسيِّ إلى الغيبي غير المشاهد. وأنت ترى أن أعمار بني آدم من هذه الحياة تتفاوت: فواحد تغيض به الأرحام، فلا يخرج للحياة، وواحد يتنفس زفيراً واحداً ويموت.. إلخ.

وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت، مَنْ يموت بعد نفَس واحد، ومَنْ يموت بعد المائة عام. إذن: فلا رتابة في انقضاء الأجل، لا في سِنٍّ ولا في سبب: فهذا يموت بالمرض، وهذا بالغرق، وهذا يموت على فراشه.

لذلك يقول الشاعر:فَلا تحسَب السُّقْم كأسَ الممات وإنْ كانَ سُقْماً شَديد الأَثَرفَرُبَّ عليلٍ تراهُ اسْتفاقَ ورُبَّ سَليمٍ تَراَهُ احتُضرْوقال آخر:وَقَدْ ذَهَب الممتِلي صحةً وصَحَّ السَّقِيمُ فَلَمْ يذْهبوتجد السبب الجامع في الوباءات التي تعتري الناس، فيموت واحد ويعيش آخر، فليس في الموت رتابة، والحق - سبحانه وتعالى - حينما يقول:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف: 34] نجد واقع الحياة يؤكد هذا، فلا وحدةَ في عمر، ولا وحدةَ في سبب.

والصدق في الأجل الأول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الأجل الآخر، وأن أجل الله لآت، فالأجل الذي أنهى الحياة بالاختلاف هو الذي يأتي بالحياة بالاتفاق، فبنفخة واحدة سنقوم جميعاً أحياءً للحساب، فإن اختلفنا في الأولى فسوف نتفق في الآخرة؛ لأن الأرواح عند الله من لَدُنْ آدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة، وبنفخة واحدة يقوم الجميع.

وسبق أن قُلْنا: إن الأزمان ثلاثة: حاضر نشهده، وماضٍ غائب عنا لا نعرف ما كان فيه، ومستقبل لا نعرف ما يكون فيه. والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليلَ الصدق في غير المشاهد، فنحن مثلاً لا نعرف كيف خلقنا الخَلْق الأول إلا من خلال ما أخبرنا الله به أن أَصلْ الإنسان تراب اختلط بالماء حتى صار طيناً، ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً كالفخار.. إلخ.

ثم جعل نسل الإنسان من نطفة تتحول إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى عظام، ثم تُكْسى العظام لحماً. وإنْ كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة، وأرانا كيف يتكوَّن الجنين، فيبقى الخَلْق الأول من تراب غيباً لا يعلمه أحد.

ولا تُصدِّق من يقول: إني أعلمه؛ لأن الله تعالى حذرنا من هؤلاء المضلين في قوله:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }

[الكهف: 51].

فلا علمَ لهم بخَلْق الإنسان، ولا علمَ لهم بخَلْق ظواهر الكون، فلا تسمع لهم، وخُذْ معلوماتك من كتاب ربك الذي خلق سبحانه، ويقوم وجود المضلين الذين يقولون: إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها، أو أن الإنسان أصله قرد - يقوم وجودهم، وتقوم نظرياتهم دليلاً على صدق الحق سبحانه فيما أخبر.

وإلا، فكيف نُصدِّق نظرية ترقِّي القرد إلى الإنسان؟ ولماذا ترقّى قرد (دارون) ولم تترقَّ باقي القرود؟

وإذا كان المؤمن مُصدِّقاً بقوله تعالى:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }[الحجر: 29] لأنه آمن بالله، وآمن بما جاء به رسول الله، فكيف بمَنْ لا يؤمن ولا يُصدِّق؟ لذلك يُؤنِس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الأشياء يُؤنِسها بما تشاهد: فإنْ كنتَ لا تُصدِّق مسألة الخَلْق فأنت بلا شكٍّ تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم، والموت نَقْضٌ للحياة، ونَقْض الشيء يأتي عكْس بنائه.

والخالق - عز وجل - أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء الإنسان، لذلك هي أول شيء يُنقَض فيه عند الموت، إذن: مشهدك في كيف تموت، يؤكد لك صِدْق الله في كيف جئت؟

وأجل الآخرة أمر لا بُدَّ منه ليُثاب المطيع ويُعَاقب العاصي، أَلاَ ترى إلى النظم الاجتماعية حتى عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لاستقامة حركة الحياة؟ فما بالك بمنهج الله تعالى في خَلْقه، أيترك الظالم والمجرم يُفلِت من العقاب في الآخرة بعد أنْ أفلت من عقاب الدنيا؟

وكنا نردُّ بهذا المنطق على الشيوعيين: لقد عاقبتُم مَنْ طالته أيديكم من المجرمين، فكيف بمَنْ ماتوا ولم تعاقبوهم، أليستِ الآخرةُ تحلّ لكم هذا المأزق؟

ثم تُختمَ الآية بقوله تعالى: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 5] ألا ترى أنه تعالى لو قال: العليم فقط لشملَ المسموع أيضاً؛ لأن العلم يحيط بكل المدركات؟ فلماذا قال } السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 5]؟

قالوا: لأن اللغة العربية حينما تكلمتْ عن العمل والفعل والقول قسَّمت الجوارح أقساماً: فاللسان له القول، وبقية الجوارح لها الفعل، وهما جميعاً عمل، فالقول عمل اللسان، والفعل عمل بقية الجوارح، فكأن اللسان أخذ شطر العمل، وبقية الجوارح أخذت الشطر الآخر.

وباللسان معرفة إيمانك، حين تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهي أشرف ما يعمل الإنسان، وبه بلاغ الرسول عن الله لخَلْقه، إذن: فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن السماع؛ لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله.

ولأهمية القول قال تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2] فكل فعل ناشيء عن انصياع لقول أو سماع لقول؛ لذلك ختم سبحانه هذه الآية بقوله: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 5].

(/3271)

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)

وكلمة { جَاهَدَ... } [العنكبوت: 6] تناسب النجاح في الابتلاء، والجهاد: بذْل الجهد في إنفاذ المراد، ومنه اجتهد فلان في كذا يعني: عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدِّ والاجتهاد في أن يستنبط الحكم.

والجهاد له مجالان: مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه.

وجاهد: مفاعلة، كأن الشيء الذي تريده صعب، يحتاج إلى جهد منك ومحاولة، والمفاعلة تكون من الجانبين: منك ومن الشيء الذي يقابلك، وأول ميادين الجهاد النفس البشرية؛ لأن ربك خلق فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها، ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقِّيها، حتى لا تنطق معها إلى ما لا يُباح.

فحب الاستطلاع مثلاً غريزة محمودة في البحث العلمي والاكتشافات النافعة، أمّا إنْ تحوّل إلى تجسُّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام؛ الأكل والشرب غريزة لتقتات به، وتتولد عندك القدرة على العمل، فإنْ تحوَّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها.

وعجيب أمر الناس في تناول الطعام، فالسيارة مثلاً لا نعطيها خليطاً من الوقود، إنما هو نوع واحد، أما الإنسان فلا تكفيه عدة أصناف، كل منها لها تفاعل في الجسم، حينما تتجمع هذه التفاعلات تضر أكثر مما تنفع.

إذن: هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة؛ لتظل في حَدِّ الاعتدال، عملاً بالأثر: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، ولا نشرب حتى نظمأ، وإذا شربنا لا نقنع ".

ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للاقتصاد في بلادنا، وكم تحلو لك اللقمة بعد الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلِّفة؛ لذلك يقولون: نعم الإدام الجوع، ثم إذا أكلتَ لا تملأ المعدة، ودع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه ".

وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية لا يخالطها مرض.

فالغرائز خلقها الله فيك لمهمة، فعليك أنْ تقف بها عند مهمتك. ومثل الغرائز العواطف من حب وكُرْه وشفقه وحُزْن.. إلخ، وهذه ليس لها قانون إلا أنْ تقفَ بها عند حدود العاطفة لا تتعداها إلى النزوع، فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ، لكن لا تتعدَّ ولا تُرتِّب على العاطفة حكماً.

وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالاً بسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل، ثم أسلم قاتله، فكان عمر كلما رآه يقول له: ازْوِ عني وجهك - يعني: أنا لا أحبك - فيقول: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال: لا، قال: إنما يبكي على الحب النساء. يعني: الحب والكره مسائل يهتم بها النساء، والمهم العمل، وما يترتب على هذه العواطف.

ومن المجاهدة مجاهدة مَنْ سُلِّط عليك من جبار أو نحوه، تجاهده وتصبر على إيذائه، فحبُّك للحق يجعلك تصبر عليه، يقول تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىا نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }[محمد: 31].

كل هذه بلاءات تحتاج إلى مجاهدة، فإنْ كان لك غريم فإنْ قدرت أن تدفع أذاه بالتي هي أحسن فافعل، وإنْ أردت أنْ تعاقب فعاقب بالمثل، وهذه مسألة صعبة؛ لأنك لا تستطيع تقدير المثلية أو ضبطها، بحيث لا تتعدى، فمثلاً لو ضربك خصمك ضربة، أتستطيع أنْ تردَّ عليه بمثلها دون زيادة؟

إذن: فلا تُدخل نفسك في هذه المتاهة، وأَوْلَى بك أنْ تأخذ بقوله تعالى{ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ... }[آل عمران: 134] وتنتهي المسألة.

فإذا كانت المصيبة لا غريمَ لك فيها، كالمرض والموت وغيرهما من القدريات التي يُجريها الله عليك، فقُلْ إن ربي أراد بي خيراً، فبها تُكفّر الذنوب والسيئات وبها أنال أجر الصابرين، وربما أنني غفلت عن ربي أو غرَّتني النعمة، فابتلاني الله ليلفتني إليه ويُذكِّرني به.

ومن المجاهدة مجاهدة النفس في تلقِّي المنهج بافعل ولا تفعل، والتكليف عادةً ما يكون شاقاً على النفس يحتاج إلى مجاهدة، وإياك أنْ تنقلَ مدلول افعل في لا تفعل، أو تنقل مدلول لا تفعل في افعل. وحين تستقصي (افعل ولا تفعل) في منهج الله تجده يأخذ نسبة سبعة بالمائة من حركاتك في الحياة، والباقي مباحات، لك الحرية تفعلها أو تتركها.

وقد يتعرض الإنسان المستقيم للاستهزاء والسخرية حتى مِمَّن هو على دينه، لأن المنحرف دائماً يشعر بنقص فيتضاءل ويصغَر أمام نفسه، ويحاول أن يجر الآخرين إلى نفس مستواه حتى يتساوى الجميع، وإلا فكيف تكون أنت مهتدياً مستقيماً وهو عاصٍ ضالٌّ؛ لذلك تراه يسخر منك ويُهوِّن من شأنك، لماذا؟ ليُزهِّدك في الطاعة، فتصير مثله.

واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 29-36].

ولا شكَّ أن مثل هذا يحتاج منك إلى صبر على أذاه، ومجاهدة للنفس حتى لا تقع في الفخِّ الذي ينصبه لك.

وقد تأتيك الوسوسة من الشيطان فيُزيِّن لك الشر، ويُحبِّب إليك المعصية، وعندها تذكر قول الله تعالى:{ يَابَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ... }[الأعراف: 27].

فعليك - إذن - أن تتذكّر العداوة الأولى بين أبيك آدم وبين الشيطان لتكون منه على حذر، وسبق أن أوضحنا كيف نفرق بين المعصية التي تأتي من النفس، والتي تأتي من وسوسة الشيطان، فالنفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد غيرها، أما الشيطان فإنْ تأبيتَ عليه في ناحية نقلك إلى أخرى، المهم عنده أنْ يُوقِعك على أي حال.

إذن: أعداؤك كثيرون، يحتاجون منك إلى قوة إرادةَ وإلى مجاهدة.

ومجيء هذه الآية التي تذكر الجهاد بعد قوله تعالى{ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[العنكبوت: 5] يطلب من الإنسان الذي يعتقد أن أجلَ الله بلقاء الآخرة أتٍ، وذلك أمر لا شكَّ فيه - يطلب منه أنْ يستعدَّ لهذا اللقاء.

وقال تعالى: } فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ { [العنكبوت: 6] لأن الإنسان طرأ على كون مُهيأ لاستقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه، فكل ما في الكون خادم لك، ولن تزيد أنت في مُلْك الله شيئاً، وكل سَعْيك وفكرك لترف حياتك أنت، فحين تفعل الخير فلن يستفيدَ منه إلا أنت وربك غني عن عطائك.

فإنْ جاهدتَ فإنما تجاهد لنفسك، كما لو امتنَّ عليك خادمك بالخدمة فتقول له: بل خدمتَ نفسك وخدمتَ عيالك حينما خدمتَ لتوفر لك ولهم أسباب العيش، وأنا الذي تعبتُ وعرقتُ لأوفر لك المال الذي تأخذه.

وكذلك الحق سبحانه يقول لنا } وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ... { [العنكبوت: 6]أي: حينما يطبق المنهج ويسير على هُداه، والحق سبحانه يؤكد هذه القضية في آيات عديدة{ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46].

ويقول الحق سبحانه:{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا... }[الإسراء: 7].

ويقول سبحانه:{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... }[البقرة: 286].

إذن: المسألة منك وإليك، ولا دخلَ لنا فيها إلا حرْصنا على صلاح الخَلْق وسلامتهم، كصاحب الصَّنْعة الذي يريد لصنعته أن تكون على خير وجه وأكمله، لذلك أفيضُ عليه من قدراتي قدرة، ومن علمي علماً، ومن بَسْطي بَسْطاً، ومن جبروتي جبروتاً، وأعطيه من صفاتي.

لذلك قال بعض العارفين: " تخلقوا بأخلاق الله ".

لأن العون في وهب الصفات ومجال الصفات في الفعل ليس في أنْ أفعل لك، إنما في أنْ أُعينك لتفعل أنت، فالواحد منا حينما يرى عاجزاً لا يستطيع حَمْل متاعه، ماذا يفعل؟ يحمله عنه، أي: يُعدِّي إليه أثر قوته، إنما يظل العاجز عاجزاً والضعيف ضعيفاً كلما أراد شيئاً احتاج لمن يقوم له به.

أما الحق - سبحانه وتعالى - فيفيض عليك من قوته، ويهبُ لك من قدرته وغِنَاه لتفعل أنت بنفسك؛ لذلك مَنْ يتخلق بأخلاق الله يقول: لا تعْطَ الفقير سمكة، إنما علِّمه كيف يصطاد، حتى لا يحتاج لك في كل الأوقات، أفِضْ عليه ما يُديم له الانتفاع به.

إذن: الحق سبحانه يهَبُ القادرين القدرةَ، ويهَبُ الأغنياء الغِنَي، والعلماء العلمَ والحكماءَ الحكمةَ. وهذه من مظاهر عظمته تعالى ألاَّ يُعدِّي أثر الصفة إلى عباده، إنما يُعدِّي بعض الصفة إليهم، لتكون ذاتية فيهم.

بل ويعطي سبحانه ما هو أكثر من ذلك، يعطيك الإرادة التي تفعل بها لمجرد أن تفكر في الفعل، بالله ماذا تفعل لكي تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل حينما تريد أنْ تحمل شيئاً أو تحرك عضواً من أعضائك؟ هل أمرتك أمراً؟ هل قلت لها افعلي كذا وكذا؟

حين تنظر إلى (البلدوزر) مثلاً أو (الونش) كيف يتحرك، وكيف أن لكل حركة فيه زراً يحركها وعمليات آلية معقدة، تأمل في نفسك حين تريد أن تقوم مثلاً بمجرد أن تفكر في القيام، تجد نفسك قائماً، مرادك أنت في الأعضاء أن تفعل وتنفعل لك.

إذن، حينما يقول لك ربك:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فصدِّقه؛ لأنك شاهدتها في نفسك وفي أعضائك، فما بالك بربك - عز وجل - أيعجز أن يفعل ما تفعله أنت؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تنام أو تبطش بيدك؟

لا شيء غير الإرادة في داخلك؛ لأن ربك خلع عليك من قدرته، وأعطاك شيئاً من قوله (كُنْ) وقدرة من قدرته، لكن لم يشأ أنْ يجعلها ذاتية فيك حتى لا تغترّ بها.

لذلك إنْ أراد سبحانه سَلبَها منك لقوله تعالى:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7] فتأتي لتحرك ذراعك مثلاً فلا يطاوعك، لقد شُلَّ ويأبى عليك بعد أنْ كان طَوْع إرادتك، ذلك لتعلم أنه هِبَة من الله، إنْ شاء أخذها فهي ليست ذاتية فيك.

فالمجاهدة تشمل ميادين عديدة، مجاهدة الغرائز والعواطف، ومجاهدة مشقة المنهج في افعل ولا تفعل، ومجاهدة شياطين الإنس والجن، ومجاهدة خصوم الإسلام الذين يريدون أنْ يُطفئوا نور الله.

وروى البخاري " أن خباب بن الأرتّ دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إننا في شدة، ألاَ تستنصر لنا؟ أَلاَ تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه كان الرجل فيمن قبلكم تُحفر له الحفرة، فيُوضع فيها، ثم يُؤتَى بالمنشار فيُقَدُّ نصفين، ثم يُمشَطُ لحمه عن عظمه بأمشاط الحديد، فلا يصرفه ذلك عن دين الله ".

ثم يطمئنه رسول الله على أن هذه الفترة - فترة الابتلاء - لن تطول، فيقول: " والله لَيتِمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئبَ على غنمه ".

والنبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، " يدخل عليه سيدنا أبو سعيد الخدري فيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي حرارة الحمى، فوضع يده على اللحاف الذي يلتحف به سيدنا رسول الله، فيُحِسّ حرارته من تحت اللحاف، فقال له: يا رسول الله، إنها لشديدة عليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا سعيد، إنه يُضعَّف لنا البلاء كما يُضعَّف لنا الجزاء ".

ذلك ليثبت أن البلاء لا يكون فقط من الأعداء، إنما قد يكون من الله تعالى، لماذا؟ لأن الله يباهي ملائكته بخَلْقه الطائعين المخبتين الصابرين، فيقولون: كيف لا يحبونك ويقبلون على طاعتك، وقد أنعمتَ عليهم بكذا وكذا، ويذكرون حيثيات هذه الطاعة، فيقول تعالى: وأسلب كل ذلك منهم ويحبونني، أي: يحبونني لذاتي.

ثم تختم هذه الآية بقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ { [العنكبوت: 6] لأن ميادين الجهاد هذه لا يعود منها شيء إلى الله تعالى، ولا تزيد في مُلكه شيئاً، إنما يستفيد منها العبد؛ لأنه سبحانه الغني عن طاعة الطائعين وعبادة المتعبدين، ليس غنياً عنهم وفقط، إنما هو سبحانه الذي يُغنيهم ويُفيض عليهم من فَضلْه ومن غِناه.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... {.

(/3272)

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

يذكر لنا - سبحانه وتعالى - النتائج { وَالَّذِينَ آمَنُواْ... } [العنكبوت: 7] أي: بالله رباً، له كل صفات الكمال المطلق، وله طلاقة القدرة، وله طلاقة الإرادة، وهو المهيمن، وهو الحاكم.. إلخ.

ثم { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... } [العنكبوت: 7] لأن العمل الصالح نتيجة للإيمان، وثمرة من ثمراته، والصالح: هو الشيء يظلُّ على طريقة الحُسْن فيه فلا يتغير، فقد أقبلت على عالم خلقه الله لك على هيئة الصلاح فلا تفسده، وهذا أضعف الإيمان أنْ تُبقِي الصالح على صلاحه، فإن أردتَ الارتقاء، فزِدْه صلاحاً.

يقول تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }[البقرة: 11].

فقد أعدَّ الله لنا الأرض صالحة بكل نواميسها وقوانينها، أَلاَ ترى المناطق التي لا ينزل بها المطر يُعوِّضها الله عنه بالمياه الجوفية في باطن الأرض، فماء المطر الزائد يسلكه الله ينابيع في الأرض، ويجعله مخزوناً لوقت الحاجة إليه، وتخزين الماء العذب في باطن الأرض حتى لا تُبخِّره الشمس، يقول تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }[الملك: 30].

وضربنا مثلاً لترك الصالح على صلاحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء، فقد نرمي فيه القاذورات التي تُفسد ماءه، وقد نرى مَنْ يُهيل فيه التراب فيطمسه، وهذا كله من إفساد الصالح، وربما يأتي مَنْ يبني حوله سوراً يحميه، أو يجعل عليه آلة رَفْع ترفع الماء وتُريح الناس الذين يردونه، فإذا لم تكُنْ من هؤلاء فلا أقلَّ من أن تدعه على حاله.

فالصالح إذن: كل عمل وفكر يزيد صلاحَ المجتمع في حركات الحياة كلها، وإياك أن تقول إن هناك عملاً أشرف من عمل، فكل عمل مهما رأيته هيِّناً - ما دام يؤدي خدمة للمجتمع، ويُقدِّم الخير للناس فهو عمل شريف، فقيمة الأعمال هي قيمة العامل الذي يُحسنِها وينفع الناس بها، يعني: ليس هناك عمل أفضل من عمل، إنما هنَاك عامل أفضل من عامل؛ لذلك يقولون: قيمة كل امريء مَا يُحسِنه.

وسبق أن ضربتُ لذلك مثلاً، وما أزال أضربه، مع أنه من أُنَاس غير مسلمين: كان نقيب العمال في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويُوفِّر لهم المزايا، فلما تولى الوزارة قالوا له: أعطنا الآن الحقوق التي كنتَ تطالب بها لنا، وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات وميزانيات الوزارة، أما الآن فقد أصبح هو وزيراً، وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال وقال: لا تنْسَ أنك كنت في يوم من الأيام ماسحَ أحذية، فقال: نعم، لكنني كنت أتقنها.

ثم يذكر الحق سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح: { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... } [العنكبوت: 7] وهنا تتجلى العظمة الإلهية، حيث بدأ بتكفير السيئات وقدَّمها على إعطاء الحسنات.

لأن التخلية قبل التحلية، والقاعدة تقول: إن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، فهَبْ أن واحداً يريد أنْ يرميك مثلاً بحجر، وآخر يريد أنْ يرمي لك تفاحة، فأيهما تستقبل أولاً؟ لا شكَّ أنك ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولاً.

والخالق - عز وجل - يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يُوقِعهم في المعصية، وما دام أن الشرع يُعرِّف لنا الجرائم ويُقنِّن العقوبة عليها، فهذا إذنٌ منه بأنها ستحدث.

لذلك يقول تعالى لعباده: اطمئنوا، فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولاً قبل أنْ أعطيكم الحسنات، ذلك لأن الإنسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة، فيقول سبحانه: } لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... { [العنكبوت: 7].

بل وأكثر من ذلك، ففي آية أخرى يقول سبحانه:{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان: 70] فأيُّ كرم بعد أنْ يُبدِّل الله السيئة حسنةً، فلا يقف الأمر عند مجرد تكفيرها، فكأنه (أوكازيون) للمغفرة، ما عليك إلا أنْ تغتنمه.

وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ... }[هود: 114] وفي الحديث الشريف: ".. وأتبع السيئة الحسنةَ تمحها ".

ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك: } وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [العنكبوت: 7] قلنا: إن الحق سبحانه إذا أراد أنْ يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الأغنياء{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً... }[البقرة: 245].

مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده، ويحترم مجهوداتهم وعرقهم، فاحترم العمل واحترم ثمرة العمل، كما يعامل الوالد أولاده، فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أنْ يعيد إليه ماله حين مَيْسرة، فكما أنك لا ترجع في هبتك، كذلك ربُّك - عز وجل - لا يرجع في هبته.

وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول: هناك تعارض بين قول القرآن:{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... }[الأنعام: 160] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مكتوب على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ".

فشاء الله أن يلهم بكلمتين للردِّ عليه، حتى لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل. فقلت للمترجم: نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدَّق، لكن في القرض مثلاً لو تصدَّق بدولار فهو عند الله بعشرة دولارات، لكن يعود عليك دولارك مرة أخرى، فكأن لك تسعة دولارات، فحين تضاعف تصير ثمانية عشر.

وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى الدائرة الأولى في تكوين المجتمع، وهي دائرة الأسرة المكوَّنة من: الأب، والأم، والأولاد، فأراد سبحانه أن يُصلح اللبنة الأولى ليصلح المجتمع كله، فقال تبارك وتعالى: } وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً... {.

(/3273)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

الوالدان يخدمان الابن حتى يكبر، ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف، وإلى الحاجة لمن يخدمهما، وحين ننظر في حال الغربيين مثلاً وكيف أن الأبناء يتركون الآباء دون رعاية، وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برِّهم بهم، وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال عنهم؛ لذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وحكمة منهج الله في مجتمع المسلمين.

لذلك قال أحد الحكماء: الزواج المبكر خير طريقة - لا لإنجاب طفل - إنما الإنجاب أب لك يعولك في طفولة شيخوختك. لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني الأسرة على لبنات سليمة، تضمن سلامة المجتمع المؤمن، فقال سبحانه: { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً... } [العنكبوت: 8]، وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً... }[الأحقاف: 15].

وفَرْق بين المعنيين: { حُسْناً... } [العنكبوت: 8] أي: أوصيك بأنْ تعملَ لهم الحُسْن ذاته، كما تقول: فلان عادل، وفلان عَدْل، فوصَّى بالحسْن ذاته. أما في{ إِحْسَاناً... }[الأحقاف: 15] فوصية بالإحسان إليهما.

لكن، لماذا وصَّى هنا بالحُسْن ذاته، ووصَّى هناك بالإحسان؟

قالوا: وصَّى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني، حيث قال: { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ... } [العنكبوت: 8] والكفر يستوجب العداوة والقطيعة، ويدعو إلى الخصومة، فأكَّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ لا مجرد الإحسان؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف.

أما حين لا يكون منهما كفر، فيكفي في برِّهما الإحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانه:{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً... }[لقمان: 15].

والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين، وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة إيضاح لأصل الوجود، فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان، فكذلك ومن باب أَوْلى يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود.

فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية، ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب الوجود الأصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة؛ لأنه سبحانه الخالق الحقيقي، أما الوالدان فهما وجود سببي.

هذا إيناس بالإيمان، بيَّنه تعالى في قوله:{ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... }[النساء: 36] لأنهما سبب الوجود الجزئي، والله تعالى سبب الوجود الكلي.

وهذا أيضاً من المواضع التي وقف عندها المستشرقون، يبغُونَ فيها مَطْعناً، ويظنون بها تعارضاً بين آيات القرآن في قوله تعالى:{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً... }[لقمان: 15] وفي موضع آخر:{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ... }[المجادلة: 22].

وهذا التعارض لا يوجد إلا في عقول هؤلاء؛ لأنهم لا يفهمون لغة القرآن، ولا يفرقون بين الودِّ والمعروف: الودّ مَيْل القلب، وينشأ عن هذا الميل فِعْل الخير، فيمن تميل إليه، أمّا المعروف فتصنعه مع مَنْ تحب ومَنْ لا تحب، فهو استبقاء حياة.

وهنا يقول سبحانه: } وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [العنكبوت: 8] يعني: تذكَّر هذا الحكم، فسوف أسألك عنه يوم القيامة، ففي موضع آخر{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[لقمان: 15].

فكُفْر الوالدين لا يعني السماحَ لك بإهانتهما أو إهمالهما، فاحذر ذلك؛ لأنك ستُسأل عنه أمام الله: أصنعتَ معهما المعروف أم لا؟

وحيثيات الوصية بالوالدين: الأب والأم ذُكرت في الآية الأخرى:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] نلحظ أن الحيثيات كلها للأم، ولم يذكر حيثية واحدة للأب إلا في قوله تعالى:{ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً... }[الإسراء: 24] وهذه تكون في الآخرة.

قالوا: ذِكْر الحيثيات كلها للأم؛ لأن متاعب الأم كانت حال الصِّغَر، والطَفل ليس لديه الوعي الذي يعرف به فَضْل أمه وتحمُّلها المشاق من أجله، وحين يكبر وتتكوَّن لديه الإدراكات يجد أنَّ الأب هو الذي يقضي له كل ما يحتاج إليه.

إذن: فحيثيات الأب معلومة مشاهدة، أمّا حيثيات الأم فتحتاج إلى بيان.

يقول الحق سبحانه: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... {.

(/3274)

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

فقدّم الإيمان، لأنه الأصل، ثم العمل الصالح، وكأن الدخول في الصالحين مسألة كبيرة، وهي كذلك، ويكفي أنها مُتَمنى حتى الأنبياء أنفسهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ... }.

(/3275)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)

قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ... } [العنكبوت: 10] دليل على القول باللسان، وعدم الصبر على الابتلاء، فالقول هنا لا يؤيده العمل، ولمثل هؤلاء يقول تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2].

ويقول تعالى في صفات المنافقين:{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1] فالله تعالى لا يُكذِّبهم في أن محمداً رسول الله، إنما في شهادتهم أنه رسول الله؛ لأن الشهادة لا بُدَّ لها أنْ يواطئ القلب اللسان، وهذه لا تتوفر لهم.

ومعنى: { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ... } [العنكبوت: 10] أي: بسبب الإيمان بالله، فلم يفعل شيئاً يؤذى من أجله، إلا أنه آمن { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 10] فتنة الناس أي: تعذيبهم له علىإيمانه كعذاب الله.

إذن: خاف عذاب الناس وسَّواه بعذاب الله الذي يحيق به إنْ كفر، وهذا غباء في المساواة بين العذابين؛ لأن عذاب الناس سينتهي ولو بموت المؤذي المعذِّب، أما عذاب الله في الآخرة فباقٍ لا ينتهي، والناس تُعذَّب بمقدار طاقتها، والله سبحانه يُعذب بمقدار طاقته تعالى وقدرته، إذن: فالقياس هنا قياس خاطئ.

وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في عياش بن أبي ربيعة، فالقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكان عياش بن أبي ربيعة أخا عمرو بن هشام (أبو جهل) والحارث بن هشام من الأم التي هي أسماء.

فلما أنْ أسلم عياش ثم هاجر إلى المدينة فحزنت أمه أسماء، وقالت: لا يظلني سقف، ولا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، ولا أغتسل حتى يعود عياش إلى دين آبائه، وظلت على هذه الحال التي وصفتْ ثلاثة أيام حتى عضَّها الجوع، فرجعت.

وكان ولداها الحارث وأبو جهل قد انطلقا إلى المدينة ليُقنعا عياشاً بالعودة لاسترضاء أمه، وظلا يُغريانه ويُرقّقان قلبه عليها، فوافق عياش على الذهاب إلى أمه، لكن رفض الردة عن الإسلام، فلما خرج الثلاثة من المدينة قاصدين مكة أوثقوه في الطريق، وضربه أبو جهل مائة جلدة، والحارث مائة جلدة.

لكن كان أبو جهل أرأف به من الحارث؛ لذلك أقسم عياش بالله لئن أدركه يوماً ليقتلنه حتى إنْ كان خارجاً من الحرم، وبعد أن استرضى عياش أمه عاد إلى المدينة، فقابل أخاه الحارث عند قباء، ولم يكن يعلم أنه قد أسلم فعاجله، ونفّذ ما توعده به فقتله، ووصل خبره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً... }[النساء: 92].

ونزلت: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 10] أي: أراد أنْ يفرّ من عذاب الناس فكفر، ولم يُرد أن يفرّ من عذاب الله ويؤمن.

وقوله تعالى: { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ... } [العنكبوت: 10] أي: اجعلوا لنا سهماً في المغنم { أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 10] فالله سبحانه يعلم ما يدور في صدورهم وما يتمنونه لنا؛ ولذلك يقول سبحانه عنهم:{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً... }[التوبة: 47].

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ... }.

(/3276)

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)

نعم، الحق سبحانه يعلم حال عباده حتى قبل أنْ يخلقوا، ويعلم ماذا سيحدث لهم، إنما هناك فَرْق بين علم مُسْبق على الحدث، وعِلْم بعد أنْ يقع الحدث نفسه؛ لأنه سبحانه لو قال: سأفعل بهم كذا وكذا؛ لأني أعلم ما يحدث منهم لقالوا: لا والله ما كان سيحدث منا شيء؛ لذلك يتركهم حتى يحدث منهم الفعل.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ... }.

(/3277)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

وهذا لَوْن من ألوان الإيذاء أن يقول الذين كفروا للذين آمنوا { اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا... } [العنكبوت: 12] أي: ما نحن عليه من دين الآباء والأجداد، وما نحن عليه من عبادة الأصنام والأوثان، فنحن نعبد آلهة لا تكاليفَ لها ولا مطلوبات، وأنتم تعبدون إلهاً له منهج، وله مطلوبات بافعل كذا ولا تفعل كذا.

فالمعنى: { اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا.. } [العنكبوت: 12] خُذوا الحكم منا { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.. } [العنكبوت: 12] يعني: اعملوا على مسئوليتنا، وإنْ كانت عليكم خطايا سنحملها عنكم، وانظر هنا إلى غباء الكافر فقد آمن هو نفسه أن هذه خطيئة، ومع ذلك يتعرَّض لحملها، لكن كيف يحملها؟ وكيف يكون هو المسئول عنها أمام الله - عز وجل - حين يحاسبني ربي عليها ويعاتبني على اتباعي له؟ وهل للكافر شفاعة أو قوة يدافع عنها عني في الآخرة؟

لذلك يقول تعالى بعدها: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [العنكبوت: 12] ويؤكد لنا سبحانه كذبهم أيضاً في قوله تعالى:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ... }[البقرة: 166].

ويقول التابعون:{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ }[فصلت: 29].

فالمودة التي كانت بينهم في الدنيا تحولتْ إلى عداوة؛ لأنهم اجتمعوا في الدنيا على الضلال، فتفرقوا في الآخرة، كما قال سبحانه:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67] فالمتقي ساعة يرى المتقي في الآخرة يشكره، ويعترف له بالجميل؛ لأنه أخذ على يديه في الدنيا، ومنعه من أسباب الهلاك، فيحبه ويثني عليه، وربما اعتبره عدوه في الدنيا، أما أهل الضلال فيلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.

إذن: فغباء الكفار بيّن في قولهم: { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.. } [العنكبوت: 12]، كما هو بيِّن في قولهم{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].

وكما هو بيِّن في قولهم:{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ... }[المنافقون: 7] فهم يعرفون أنه رسول الله، ومع ذلك يمنعون الناس من الإنفاق على الفقراء الذين عنده، إنه غباء حتى في المواجهة.

(/3278)

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

وفي موضع آخر:{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل: 25]. فالأثقال هي الأوزار، فسيحملون أثقالاً على أثقالهم، وأوزاراً على أوزارهم، فالأثقال الأولى بسبب ضلالهم، والأثقال الأخرى بسبب إضلالهم للغير { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [العنكبوت: 13] والافتراء: تعمُّد الكذب.

وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن المقدمات في عمومها، أراد أن يتكلَّم عنها في خصوص الرسالات، فقال سبحانه:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً... }.

(/3279)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)

يقول العلماء: إن نوحاً - عليه السلام - هو أول رسل الله إلى البشر، أما مَنْ سبقه مثل آدم وإدريس عليهما السلام، فكانوا أنبياء أوحي الله إليهم بشرع يعملون به، فيكونون نموذجاً إيمانياً، وقدوة سلوك طيب، يُقلِّدهم مَنْ رآهم، لكن لا يُعَدُّ كافراً مَنْ لم يقتَدِ بهم، أما إن اقتدى بهم ثم نكث عن سبيلهم فهو كافر.

لذلك نُفرِّق بين النبي والرسول، بأن النبي أُوحي إليه بشرع يعمل به ولم يُؤْمر بتبليغه، أما الرسول فقد أُوحي إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلٌّ منهما مرسل، لذلك يقول تعالى:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ... }[الحج: 52].

إذن: فالنبي أيضاً مُرسَل، لكنه مُرسَل لذاته.

لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات؟ قالوا: لأن الرقعة الإنسانية كانت ضيقة قبل نوح، وكان الناس حديثي عهد، لم تنتشر بينهم الانحرافات، فلما اتسعت الرقعة، وتداخلت أمور الحياة احتاجت الخليقة لأنْ يرسل الله إليهم الرسل.

والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح - عليه السلام - مع أن له سورة مفردة، وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز، لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها برقية (تلغرافية) في مسألة نوح:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ... } [العنكبوت: 14].

إذن: الرسول جاء من القوم، وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولاً، ويُجرِّبون سلوكه وحركته في الحياة، ويعرفون خُلقه، ويعرفون كل تصرفاته، فليس الرسول بعيداً عنهم أو مجهولاً لهم.

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده، بل بمجرد أنْ قال أنا رسول الله آمنوا به وصدَّقوه واتبعوه.

فسيدنا أبو بكر، هل سمع من رسول الله قبل أن يؤمن به؟ لا، إنما بمجرد أن قالوا له: إن صاحبك تنبأ قال: آمنت به، لماذا؟ لأنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه، فما كان محمد ليكون صاحب خُلق عظيم مع الناس، ثم يكذب على الله.

إذن: ففي كَوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق؛ لذلك لما قالوا: لا نؤمن إلا إذا جاءنا الرسول ملكاً ردَّ عليهم: أأنتم ملائكة حتى ينزل عليكم مَلَك؟

{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95].

ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكاً أهم يروْن الملائكة؟ لا يروْنَها، فكيف إذن يُبلِّغ الملَك الناس؟ لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر، ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملَكاً.

وقوله عز وجل: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... } [العنكبوت: 14] هذا العدد من الممكن أن يؤدى لمعانٍ كثيرة، فلم يقُلْ: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً.

وفي الأعداد في القرآن أسرار كثيرة، واقرأ مثلاً:{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... }[الأعراف: 142].

وفي آية سورة البقرة قال الحق سبحانه:{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... }[البقرة: 51].

ففي سورة البقرة إجمال، وفي آية الأعراف تفصيل. والحكمة في هذا أن موسى عليه السلام ما إن ذهب لميقات ربه حتى عبد قومه العجل في مدة الثلاثين ليلة.

ولم يشأ الله أن يترك موسى ليعود لقومه بعد الثلاثين ليلة، بل أتمها بعشر آخر، حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه، فكأن العشْرَ زادتْ على الثلاثين ليلة، ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة.

فالمسألة في منتهى الدقة، ولو لم يأْتِ بالاستثناء في قوله: } إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... { [العنكبوت: 14] فربما يظن السامع أن المسألة تقريبية، لكن التقريب في عَدِّ البشر، أما في حساب الحق سبحانه فهو منتهى الدقة، كما لو سُئلت مثلاً عن الساعة، فتقول: الساعة العاشرة إلا دقيقة ونصفاً، يعني: منتهى ما في استطاعتك من حساب الوقت.

فإن قلت: فلماذا هذه اللقطة السريعة من قصة نوح عليه السلام؟ نقول: هي لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن قومه وقفوا منه موقف العداء والمكابرة والتكذيب، وآذوْا أصحابه، وضيَّقوا الخِنَاق على دعوته، وقد طالتْ هذه المسألة حتى أخذت ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة، فسلاَّه ربه: اصبر يا محمد، فقد صبر زميل لك في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، يعني مدة المشقة التي تحملتها مازالت بسيطة هيِّنة، وقد تحمَّل أولو العزم من الرسل أكثر من ذلك.

ونلحظ هنا } أَلْفَ سَنَةٍ... { [العنكبوت: 14] ثم استثنى منها } إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... { [العنكبوت: 14] ولم يقُلْ خمسين سنة، فاستثنى الأعوام من السنين، ليدلَّك على أن السنة تعني أيَّ عام، ويُرفَع الخلاف؛ لأن البعض يقول: إن السنة هي التي تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة، في حين أن السنة ليس من الضروري أنْ تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة، إنما تبدأ في أي وقت وتنتهي في مثله بعد عام كامل.

فحين نقول: فلان عمره مثلاً عشرون سنة، أي: من يوم مولده إلى مثله عشرين مرة، وكذلك العام. إذن: السنة والعام والحجة، كلها سواء أردتَ الحساب بالسنة الشمسية، أو القمرية، أو غيرها كما تحب.

ومعلوم أن التوقيتات عندنا توقيتات هلالية بالشهر العربي؛ لأن الشمس لا يُعرف من حركتها إلا اليوم، إنما لا نعرف منها الشهر، الشهر نعرفه بحركة القمر حين يُولَد الهلال، وبالشهر نحسب السنة التي هي أثنا عشر شهراً قمرياً وتزيد أحد عشر يوماً في السنة الشمسية.

وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يُعْلمنا أن السنة هي العام، لا فَرْق بينهما، ولا داعي للجاج في هذه المسألة.

ثم يذكر سبحانه نهاية هؤلاء القوم الذين كذّبوا: } فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ { [العنكبوت: 14] فالعلة في أخذهم، لا لأنهم أعداء، بل لأنهم ظالمون لأنفسهم بالكفر، وهكذا تنتهي القصة أو اللقطة في آية واحدة الغرض منها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، إنْ أبطأ نَصْره على الكفار.

وكلمة } فَأَخَذَهُمُ... { [العنكبوت: 14] الأخْذ فيه دليل على الشدة وقوة التناول، لكن بعنف أو بغير عنف؟ إنْ كان الأخذ لخصْم فهو أخْذ بعنف وشدة، وإنْ كان لغير خَصْم كان بلطف.

والطوفان: أن يزيد الماء عن الحاجة الرتيبة للناس، فبعد أنْ كان وسيلة حياة، ومنه كل شيء حتى يصبح وسيلة موت وهلاك، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يلفت أنظارنا إلى المتقابلات في الخَلْق حتى لا نظنَّ أن الخَلْق يسير برتابة.

فسيدنا موسى - عليه السلام - ضرب البحر بالعصا، فتجمَّد فيه الماء حتى صار كالجبل، وضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.

إنها طلاقة القدرة التي لا تعتمد على الأسباب، فالمسبِّب هو الله سبحانه يفعل ما يشاء، فليست الأشياء بأسبابها، إنما بمراد المسبِّب فيها؛ لذلك يقول أحمد شوقي في قصيدة النيل:مِنْ أيِّ عَهْدٍ في القُرَى تتدفقُ وبأيِّ كفٍّ فِي المدائن تُغْدِقُومِنَ السماءِ نزلْتَ أم على الجِنَان جداولاً تترقرقُإلى أنْ يقول:الماء تَسْكُبه فَيْصبح عَسْجَداً والأرضُ تُغرِقُها فيحيَا المغْرَقُوالمأخوذ هنا هم المكذِّبون لنوح - عليه السلام - الذين ظلموا أنفسهم لما كذَّبوا رسولهم، ولم يستمعوا للهدى، ثم يُنجِّي الله نوحاً - عليه السلام - بالسفينة التي قال الله عنها في سورة هود:{ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا... }[هود: 41].

وقد أمره الله بصناعة السفينة:{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }[هود: 37] فكان نوح - عليه السلام - على علم بعاقبة المكذِّبين الظالمين من قومه، واحتفظ بها في نفسه، وهو يصنع السفينة كما أمره ربه.

لكن، أكانت السفينة شيئاً معروفاً لهؤلاء القوم، ولها مثال سابق لديهم؟ لا، لم يكونوا يعرفون السفن، بدليل أنهم تعجَّبوا من فعْل نوح، وسخروا منه وهو يصنعها{ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ... }[هود: 38] فكان يردُّ عليهم في نفسه:{ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }[هود: 38] فهو يعلم عاقبتهم وما يُبيِّته الله لهم.

والحق سبحانه يعطينا هذه اللقطة من قصة نوح - عليه السلام - لكي نجول في كل اللقطات، ونستحضر مواطن العبرة فيها، وفي قصة نوح مسائل كثيرة نستفيدها، فقد كان القوم يعبدون الأصنام: وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، ومنها نعلم أن ودادة الأنبياء ودادة قيم ومنهج، وودادة أعمال واقتداء، وأن أنسابهم أنساب تقوى وورع.

فنبوّة نوح لم تمنع ولده الضالّ من الغرق، حتى بعد أنْ دعا الله:{ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ... }

[هود: 45] فيعطيه الله الحكم في هذه المسألة، ويُصحِّح له:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... }[هود: 46].

وليس معنى ذلك أن أمه أتتْ به من الحرام والعياذ بالله؛ لأن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على نبي من أنبيائه، إنما هي كانت من الخائنين، وخيانتها أنها كانت تفشي أسراره لخصومه، وتخبرهم خبره؛ لذلك يقول تعالى عنها في سورة التحريم:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ... }[التحريم: 10].

ويُبيِّن الحق سبحانه العلة في قوله: } إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ... { [هود: 46] بقوله: } إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... { [هود: 46] حتى لا تذهب بنا الظنون في زوجة نبي الله، فالعلة أنه عمل غير صالح، وبنوة الأنبياء بُنوَّة عمل، لا بُنوَّة نَسَب.

ثم يقول الحق سبحانه: } فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ.... {.

(/3280)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

أي: فأنجينا نوحاً عليه السلام { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] هم الذين يركبون معه فيها، فهم أصحابها، وقد صُنعت من أجلهم، لم يصنعها نوح لذاته، إنما صنعها لقومه الذين تعجَّبوا من صناعته لها وسَخروا منه واستهزأوا به، فهم أصحابها في الحقيقة، مَنْ آمن منهم ركب فيها، ومَنْ كفر أبى وأعرض، فكانت نهايته الغرق.

ونفهم من هذه القضية أن الحق سبحانه حينما يطلب من المؤمن شيئاً يعطيه لمَنْ لا يجد ذلك الشيء، سواء كان عِلْماً أو مالاً أو قدرة..إلخ افهم أنها حق له، وليستْ تفضلاً عليه، فلما صنع نوح السفينة جعلها الله من حق القوم فقال { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] فهي حقٌّ لهم، فليس المراد منها أن يصنعها مثلاً، ويُؤجرها لهم، لا بل هو يصنعها من أجلهم.

وكذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ }[المعارج: 24] وقد ورد هذا الحق في المال مرتين في القرآن الكريم، مرة{ حَقٌّ مَّعْلُومٌ }[المعارج: 24]، ومرة أخرى{ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19] دون أن يحدد مقداره، ودون أنْ يُوصف بالمعلومية.

وقد سمَّاهما الله حقاً، فالمعلوم هو الزكاة الواجبة في مقام الإيمان، وغير المعلوم هي الصدقة؛ لأنها لا تخضع لمقدار معين، بل هي حَسْب أريحية المؤمن وحُبه للطاعات، ودخوله في مقام الإحسان الذي قال الله فيه:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 15-19]وهذه الزيادة في العبادات دليل على عِشْق التكليف وحُبِّ الطاعة والثقة بأن الله تعالى ما كلَّفنا إلا بأقلّ مما يستحق سبحانه من العبادة؛ لذلك يقول العلماء: إياك أنْ تنتقل إلى هذا المقام وتُلزِم به نفسك، أو تجعله نَذْراً؛ لأنك إنْ فعلتَ صار في حقك فرضاً لا تستطيع أنْ تُنقِص منه.

إنما جعله لنشاطك ومقدرتك؛ لأنك إنْ تعوّدت على منهج وألزمت نفسك به ثم تراجعت، فكأنك تقول كلمة لا ينبغي أنْ تُقال، فكأنك - والعياذ بالله - جربت وُدّك لله فلم تجده - والعياذ بالله - أهلَ وُدٍّ فتركته.

إذن: فقوله سبحانه { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] يدلنا على أنها صُنِعَتْ بأمر الله من أجلهم، وبفراغ نوح من صناعتها كانت حقاً لهم، لا مِلْكاً له عليه السلام.

لكن كيف نفهم { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] وقد حمل فيها نوح - عليه السلام - من كُلٍّ زوجين اثنين؟ قالوا: الزوجان من غير البشر ليس لهما صُحْبة؛ لأنهما مملوكان لأصحاب الصُّحْبة.

وقوله سبحانه: { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [العنكبوت:15] أي: أمراً عجيباً لم يسبق له مثيل في حياة الناس، فقد صنعها نوح - عليه السلام - بوحي من ربه على غير مثال سابق، فوجه كَوْنها آية أن الله تعالى أعلمه وعلّمه صناعتها؛ لأن لها مهمة إيمانية عنده، فبها نجاة المؤمنين وغَرَق الكافرين، وهذه الآية { لِّلْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 15] جميعاً.

ثم يذكر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام، فيقول: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ... }.

(/3281)

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)

الواو هنا لعطف الجمل، فالآية - معطوفة على{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً... }[العنكبوت: 14] إذن: فنوح وإبراهيم واقعتان مفعولاً به للفعل أرسلنا، وللسائل أنْ يسأل: لماذا لم تُنوَّن إبراهيم كما نُوِّنت نوح؟ لم تُنوَّن كلمة إبراهيم؛ لأنها اسم ممنوع من الصرف - أي من التنوين - لأنه اسم أعجمي.

ونلحظ في هذه المسألة أن جميع أسماء الأنبياء أسماء أعجمية تُمنع من الصرف، ما عدا الأسماء التي تبدأ بهذه الحروف (صن شمله) وهي على الترتيب: صالح، نوح، شعيب، محمد، لوط، هود. فهذه الأسماء مصروفة مُنوَّنة، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

والمعنى: { وَإِبْرَاهِيمَ... } [العنكبوت: 16] يعني: واذكر إبراهيم { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ... } [العنكبوت: 16] وقلنا: العبادة أنْ يطيع العابدُ المعبودَ في أوامره ونواهيه، إذن: لو جاء مَنْ يدَّعي الألوهية، وليس له أمر نؤديه، أو نهي نمتنع عنه فلا يصلح إلهاً.

لذلك كذب الذين قالوا:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3] لأنهم ما عبدوا الأصنام إلا لأنها ليست لها أوامر ولا نواه، فألوهيتهم (منظرية) بلا تكليف، فأول الأدلة على بطلان عبادة هذه الآلهة المدَّعاة أنها آلهة بلا منهج.

ثم عطف الأمر { وَاتَّقُوهُ... } [العنكبوت: 16] على { اعْبُدُواْ... } [العنكبوت: 16] والتقوى من معانيها أنْ تطيع الأوامر، وتجتنب النواهي، فهي مرادفة للعبادة، لكن إنْ عطفت على العبادة فتعني: نفِّذوا الأمر لتتقوا غضب الله، اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية.

وسبق أنْ قلنا: إن لله تعالى صفات جلال: كالقهار، الجبار، المنتقم، المذلّ.. إلخ. وصفات جمال: كالغفار، الرحمن، الرحيم، التواب، وبالتقوى تنال متعلقات صفات الجمال، وتمنع نفسك وتحميها من متعلقات صفات الجلال.

وقوله تعالى: { ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 16] ذلكم، أي ما تقدَّم من الأمر بالعبادة والتقوى خير لكم، فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلا خيرَ في علمكم، كما قال تعالى:{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[الروم: 6-7].

فالعلم الحقيقي هو العلم بقضايا الآخرة، العلم بالأحكام وبالمنهج الذي يعطيك الخير الحقيقي طويل الأمد على خلاف علم الدنيا فإنْ نلتَ منه خيراً، فهو خير موقوت بعمرك فيها.

وسبق أنْ قُلْنا: إن العلم هو إدراك قضية كونية تستطيع أن تدلل عليها، وهذا يشمل كل معلومة في الحياة. أي: العلم المادي التجريبي وآثار هذا العلم في الدنيا، أما العلم السامي الأعلى فأنْ تعلم المراد من الله لك، وهذا للآخرة.

واقرأ في ذلك مثلاً قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

[فاطر: 27-28].

فذكر سبحانه علم النبات والجماد و{ وَمِنَ النَّاسِ.. }[فاطر: 28] أي: علم الإنسانيات{ وَالدَّوَآبِّ... }[فاطر: 28] علم الحيوان، وهكذا جمع كل الأنواع والأجناس، ثم قال سبحانه:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... }[فاطر: 28] مع أنه سبحانه لم يذكر هنا أيَّ حكم شرعي.

إذن: المراد هنا العلماء الذين يستنبطون قضية يقينية في الوجود، كهذه الاكتشافات التي تخدم حركة الحياة، وتدلُّ الناس على قدرة الله، وبديع صُنْعه تعالى، وتُذكِّرهم به سبحانه.

وتأمل في نفسك مثلاً وَضْع القصبة الهوائية بجوار البلعوم، وكيف أنك لو شرقت بنصف حبة أرز لا تستريح إلا بإخراجها، وتأمل، وَضْع اللهاة وكيف تعمل تلقائياً دون قَصْد منك أو تحكم فيها.

تأمل الأهداب في القصبة الهوائية، وكيف أنها تتحرك لأعلى تُخرج ما يدخل من الطعام لو اختلَّ توازن اللهاة، فلم تُحكِم سدَّ القصبة الهوائية أثناءَ البلع.

تأمل حين تكون جالساً مطمئناً لا يقلقك شيء، ثم في لحظة تجد نفسك محتاجاً لدورة المياه، ماذا حدث؟ ذلك لأن في مجرى الأمعاء ما يشبه (السقاطة) التي تُخرج الفضلات بقدر، فإذا زادتْ عما يمكن لك تحمله، فلا بُدَّ من قضاء الحاجة والتخلص من هذه الفضلات الزائدة.

تأمل الأنف وما فيه من شعيرات في مدخل الهواء ومُخَاط بالداخل، وأنها جُعلت هكذا لحكمة، فالشعيرات تحجز ما يعلَق بالهواء من الغبار، ثم يلتقط المخاط الغبارَ الدقيق الذي لا يعلق بالشعيرات ليدخل الهواء الرئتين نقياً صافياً، تأمل الأذن من الخارج وما فيها من تعاريج مختلفة الاتجاهات، لتصدَّ الهواء، وتمنعه من مواجهة فتحة الأذن.

والآيات في جسم الإنسان كثيرة وفوق الحَصْر، ولا سبيلَ إلى معرفتها إلا باستنباط العلماء لها، وكشفهم عنها، وهذا من نشاطات الذهن البشري، أما العلم الذي يخرج عن نطاق الذِّهْن البشري فهو نازل من أعلى، وهو قانون الصيانة الذي جعله الخالق سبحانه لحماية الخَلْق، فالذي يأخذ بالعلم الدنيوي التجريبي فقط يُحرَم من الخير الباقي؛ لأن قصارى ما يعطيك علم المادة في البشر أنْ يُرفه حياتك المادية، أمّا علم الآخرة فيُرفِّه حياتك الدنيا ويبقى لك في الآخرة.

إذن: فقوله تعالى: } ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ... { [العنكبوت: 16] أي: قانون الصيانة الرباني بافعل كذا ولا تفعل كذا، وإياك أنْ تنقل مدلول (افعل) في (لا تفعل) أو مدلول (لا تفعل) في (افعل)، وقد شبَّهنا هذا القانون (بالكتالوج) الذي يجعله الصانع لحماية الصنعة المادية لتؤدي مهمتها على أكمل وجه، كذلك منهج الله بالنسبة للخَلْق، فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلن ينفعكم علم بعد ذلك.

يقول سبحانه:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].

إذن: فالخير الباقي هو الخير في الآخرة.

ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً... {.

(/3282)

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

قوله تعالى: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ... } [العنكبوت: 17] أي: على حَدِّ زعمهم، وعلى حَدِّ قولهم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3]، وإلا فلا عبادة لهذه الآلهة، حيث لا أمر عندهم ولا نهي ولا منهج، فعبادتهم إذن باطلة.

وهم يعبدون الأوثان من دون الله فإنْ ضُيِّق عليهم الخِنَاق قالوا:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3] فهم بذلك مشركون، ومن لم يَقُلْ بهذا القول فهو كافر.

والوثن: ما نُصِب للتقديس من حجر، أياً كان نوعه: حجر جيري، أو جرانيت، أو مرمر. أو كان من معدن: ذهب أو فضة أو نحاس.. إلخ أو من خشب، وقد كان البعض منهم يصنعه من (العجوة)، فإنْ جاع أكله، وقد حَكَى هذا على سبيل التعجُّب سيدنا عمر رضي الله عنه.

وبأيِّ عقل أو منطق أنْ تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجراً فتنحته على صورة معينة، ثم تتخذه إلهاً تعبده من دون الله، وهو صَنْعة يدك، وإنْ أطاحتْ به الريح أقمتَه، وإنْ كسرته رُحْت تُصلح ما تكسَّر منه وتُرمِّمه، فأيُّ عقل يمكن أن يقبل هذا العمل؟

لذلك يخاطبهم القرآن:{ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ }[الصافات: 95] وكلما تقدَّم العالم تلاشتْ منه هذه الظاهرة؛ لأنها مسألة لم تَعُدْ تناسب العقل بأية حال.

ومعنى { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً... } [العنكبوت: 17] أي: توجدون، والإيجاد يكون من عدم، فهم يًُوجدون من عدم، لكن أيُوجدون صِدْقاً؟ أم يُوجدون كذباً؟ إنهم يُوجدون { إِفْكاً... } [العنكبوت: 17] والإِفك تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق، ومن ذلك قوله سبحانه:{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىا }[النجم: 53] أي: القرى التي كفأها الله على نفسها.

وسبق أن أوضحنا أن الحقيقة هي القضية الصادقة التي توافق الواقع، فلو قُلْت مثلاً: محمد كريم، فلا بُدَّ أن هناك شخصاً اسمه محمد وله صفة الكرم، فإنِ اختلف الواقع فلم يوجد محمد أو وُجِد ولم تتوفر له صفة الكرم، فالقضية كاذبة لأنها مخالفة للواقع، هذا هو الإفك.

فالحق سبحانه لا يعيب عليهم الخَلْق؛ لأنه أثبت للعباد خَلْقاً، فقال سبحانه:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14].

والفَرْق أنك تخلق من موجود، أما الحق سبحانه فيخلق من العدم، فأنت تُوجِد الثوب من القطن مثلاً، وكوبَ الزجاج من الرمل، والمحراث من الحديد.. إلخ فأوجدت معدوماً عن موجود سابق، أما الخالق سبحانه فأوجد معدوماً عن لا موجود.

وسبق أنْ أوضحنا أن صَنْعة البشر تجمد على حالها، فالسكين مثلاً يظل سكيناً فلا يكبر، حتى يصير ساطوراً مثلاً، والكوب لا يلد لنا أكواباً أخرى. لكن خِلْقة الله سبحانه لها صفة النمو والحياة والتكاثر.. إلخ؛ لذلك أنصفك الله فوصفك بأنك خالق، لكن هو سبحانه أحسن الخالقين.

إذن: الحق سبحانه لا يعيب على هؤلاء أنهم يخلقون، إنما يعيب عليهم أنْ يخلقوا إفْكاً وكذباً.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ... { [العنكبوت: 17] في موضع آخر بيَّن لهم الحق سبحانه أنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع، وهنا يذكر مسألة مهمة هي استبقاء الحياة للإنسان بالقُوت الذي نسميه الرزق، فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تملك لكم رزقاً، ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الأرض لمتُم من الجوع.

إذن: كان عليكم أنْ تتأملوا: من أين تأتي مقومات حياتكم، ومَنْ صاحب الفضل فيها، فتتوجَّهون إليه بالعبادة والطاعة، كما نقول في المثل (اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي) إنما أُطعمك وتسمع لغيري؟!!

والرزق هو الشُّغل الشاغل عند الناس، ففي أول الأمر كلنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش، فلما تتحسَّن الأمور نرغب للمستقبل، فالموظف مثلاً يدخر لشهر، والزارع يدخل للعام كله.

ومن أعاجيب هذه المسألة أنك تجد الإنسان والفأر والنمل هم الوحيدون بين مخلوقات الله التي تدخر للمستقبل، أما بقية الحيوانات فتأخذ حاجتها من الطعام فقط، وتترك الباقي دون أنْ تهتمَّ بهذه المسألة، أو تُشغَل برزق غد أبداً، لا يأكل أكثر من طاقته، ولا يدخر شيئاً لغده.

لذلك يُذكِّر الله عباده بمسألة الرزق لأهميتها في حياتهم، ومن عجيب أمر الرزق أنه أعرَفُ بمكانك وعنوانك، منك بمكانة وعنوانه، فإنْ قُسِم لك الرزق جاءك بطرق عليك الباب، وإنْ حُرمت منه أعياك طلبه.

ومن أوضح الأمثلة على أن الرزق مقسوم مقدَّر من الله لكل منا أن المرأة حين تحمل يمتنع عنها الحيض الذي كان يأتيها بشكل دوريٍّ قبل الحمل، فأين ذهب هذا الدم؟ هذا الدم هو رزق الجنين في بطن أمه لا يأخذه ولا يستفيد به غيره حتى الأم.

فإنْ قُدِّر الجنين تحول هذا الدم إلى غذاء له خاصة، فإنْ لم يُقدَّر للأم أنْ تحمل نزل منها هذا الدم على صورة كريهة، لا بُدّ من التخلص منه؛ لأنه ضار بالأم إنْ بقي لا بُدَّ من نزوله، لأنه ليس رزقها هي، بل رزق ولدها في أحشائها، ولو لم يكُنْ هذا الدم رِزْقاً للجنين لكانت الأم تضعف كلما تكرَّرت لها عملية نزول الدم بهذه الصورة الدورية. إذن: لكل منا رِزْق لا يأخذه غيره.

لذلك يقول أحد الصالحين: عجبتُ لابن آدم يسعى فيما ضُمِن له ويترك ما طُلِب منه.

فربك قد ضمن لك رزقك فانظر إلى ما طُلِب منك، واشغل نفسك بمراد الله فيك؛ لذلك نتعجب من هؤلاء المتسولين الذين كنا نراهم مثلاً في مواسم الحج، وشرُّهم مَنْ يعرضون عاهاتهم وعاهات أبنائهم على الناس يتسولون بها، وكأنهم يشتكون الخالق للخَلْق، ويتبرَّمون بقضاء الله، والله تعالى لا يحب أن يشكوه عبده لخلقه.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا بليتم فاستتروا "

ووالله لو ستر أصحاب البلاء بلاءهم، وقعدوا في بيوتهم لَساقَ الله إليهم أرزاقهم إلى أبوابهم.

إذن: الرزق مضمون من الله؛ لذلك يمتنُّ به على عباده وينفيه عن هذه الآلهة الباطلة } لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ... { [العنكبوت: 17] ثم يقول سبحانه: } وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [العنكبوت: 17] فإنْ لم تعبدوه لأنه يرزقكم ويطعمكم، فاعبدوه لأن مرجعكم إليه ووقوفكم بين يديه.

وكان يكفي أن نعمه عليكم مُقدَّمة على تكليفه لكم، لقد تركك تربع في نعمه دون أنْ يُكلِّفك شيئاً، إلى أنْ بلغتَ سِنَّ الرشد، وهي سِنُّ النُّضْج والبلوغ والقدرة على إنجاب مثلك، ثم بعد ذلك تقابل تكليفه لك بالجحود؟ إن عبادة الله وطاعته لو لم تكن إلا شُكْراً له سبحانه على ما قدَّمه لك لكانت واجبة عليك.

وقوله تعالى: } وَاشْكُرُواْ... { [العنكبوت: 17] لأن ربكم عز وجل يريد أن يزيدكم، فجعل الشكر على النعمة مفتاحاً لهذه الزيادة، فقال سبحانه:{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ... }[إبراهيم: 7] فربُّك ينتظر منك كلمة الشكر، مجرد أن تستقبل النعمة بقولك الحمد لله فقد وجبت لك الزيادة.

حتى أن بعض العارفين يرى أن الحمد لا يكون على نِعَم الله التي لا تُعَدَّ ولا تُحصى فحسب، إنما يكون الحمد لله على أنه لا إله إلا الله، وإلا لو كان هناك إله آخر لَحِرْنا بينهما أيهما نتبع، فالوحدانية من أعظم نعم الواحد سبحانه التي تستوجب الشكر.

وقد أعطانا الحق سبحانه مثلاً لهذه المسألة بقوله سبحانه:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ... }[الزمر: 29] يعني: مملوك لشركاء مختلفين، وليتهم متفقون{ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ... }[الزمر: 29] أي: مِلْك لسيد واحد{ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً... }[الزمر: 29] فكذلك الموحِّد لِلّه، والمشرك به.

ولذلك يقول بعض الصالحين في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... }[البقرة: 172] فاللص الذي يأكل من الحرام يأكل رزقه، فهو رزقه لكنه من الحرام، ولو صبر على السرقة لأكله من الحلال ولسَاقه الله إليه.

فالمعنى أن الله خلقكم ورزقكم، ولا يعني هذا أنْ تُفلِتوا منه، فإنْ لم تُراعوا الجميل السابق فخافوا مما هو آتٍ.

(/3283)

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)

قوله تعالى: { وَإِن تُكَذِّبُواْ... } [العنكبوت: 18] أي: ما قلنا لكم وما جاءكم به رسولنا؛ لأن تصديقه سيُدخلكم مدخل التكليف، ويحملكم مشقة المنهج، وسيُضيِّق عليكم منطقة الاختيار، والحق سبحانه قد شرَّفك حين أعطاك حرية الاختيار، في حين أن الكون كله لا اختيارَ له؛ لأنه تنازل عن اختياره لاختيار ربه.

كما قال سبحانه:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].

فالكون كله مسخر يؤدي مهمته، كما يقول سبحانه:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ... }[الإسراء: 44].

وقال سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ... }[الحج: 18] فالقاعدة عامة، لا استثناء فيها، إلا عند الإنسان، فمنهم الطائع ومنهم العاصي.

فالمعنى: { وَإِن تُكَذِّبُواْ... } [العنكبوت: 18] فلستم بدعاً في التكذيب { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ... } [العنكبوت: 18] لكن يجب عليكم أن تتنبهوا إلى ما صنع بالأمم المكذِّبة، وكيف كانت عاقبتهم، فاحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم، هذه هي المسألة التي ينبغي عليكم التنبُّه لها.

وهنا وقف بعض المتمحكين يقول: كيف يقول القرآن في خطاب قوم إبراهيم { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ... } [العنكبوت: 18] مع أنه لم يسبقهم إلا أمة واحدة هي أمة نوح عليه السلام؟ يظنون أنهم وجدوا مأخذاً على القرآن.

ونقول: نعم، كانت أمة نوح هي أمة الرسالة المقصودة بالإيمان، لكن جاء قبلها آدم وشيث وإدريس، وكانوا جميعاً في أمم سابقة على إبراهيم، أو نقول: لأن مدة بقاء نوح في قومه طالت حتى أخذت ألف سنة من عمر الزمان، وهذه الفترة تشمل قُرَابة العشرة أجيال، والجيل - كما قالوا - مائة سنة، كل منها أمة بذاتها.

ثم يقول تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [العنكبوت: 18] فمهمته مجرد البلاغ. يؤمن به مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، الرسول لن نعطيه مكافأة أو عمولة على كل مَنْ يؤمن به، فإياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم تُقلِّلون من مكافأة النبي - خاصة وقد كانوا كارهين له - فالمعنى: عليَّ البلاغ فحسب، وقد بلَّغت فسآخذ جزائي وأجري من ربي، فأنتم لا تكيدونني بكفركم، بل تكيدون أنفسكم.

لذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحزن أشد الحزن، ويألم إنْ تفلَّت من يده واحد من أمته فكفر، حتى خاطبه ربه:{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ... }[البقرة: 272].

وخاطبه بقوله:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3].

وحين نزل عليه صلى الله عليه وسلم:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىا * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىا * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا }[الضحى: 1-5] انتهز النبي هذه الفرصة ودعا ربه: إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مُحبٌّ لأمته، حريص عليهم، رؤوف رحيم بهم:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128].

ووصف الحق سبحانه البلاغ بأنه مبين، أي: واضح ظاهر؛ لأن من البلاغ ما يكون مجرد عرض للمسألة دون تأكيد وإظهار للحجة التي تؤيد البلاغ.

ثم يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ... }.

(/3284)

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)

الخطاب هنا مُوجَّه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين كذبوا من قبل، وأنتم الذين تكذبون الآن، فأين عقولكم؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه، والذي طرأتُم عليه، وقد أُعِدَّ لكم بكل مُقوِّمات حياتكم.

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ... } [العنكبوت: 19] ويرى هنا بمعنى يعلم، كما في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1] أي: ألم تعلم؛ لأن رسول الله لم يَرَ حادثة الفيل، وعدل عن (تعلم) إلى (ترى) ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه.

ومن ذلك قول الصِّدِّيق أبي بكر لما سمع بحادث الإسراء والمعراج قال: " إنْ كان قال فقد صدق ".

والهمزة في { أَوَلَمْ يَرَوْاْ... } [العنكبوت: 19] استفهام للتقرير، كما تقول لولدك: ألم تَرَ إلى فلان الذي أهمل دروسه، تريد أنْ تنكر عليه أنْ يُهمل هو أيضاً، فتقرره بعاقبة الإهمال، وتدعه ينطقه بلسانه، فيقول لك: الذي أهمل دروسه رَسَب.

وكما تقول لمَنْ أنكر جميلك: ألم أُحسِن إليك بكذا وكذا، فيُقِر بها هو بدل أنْ تعددها له أنت، فهذا أبلغ في الاعتراف.

فساعة يأتي بعده الهمزة نَفْي يسمونه استفهاماً إنكارياً، تنكر ما هم عليه، وتريد أن تقررهم بما يقابله. والنفي بعد الإنكار نفي للنفي، ونفي النفي إثبات.

فالمعنى: أيكذبون ولم يَرَوْا ما حدث للأمم المكذِّبة من قبل؟ أيكذبون ولم يَروْا آيات الله، وقدرته شائعة في الوجود كله؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا مَنْ خلق هذا الخَلْق، وإنك لو سألتهم: مَنْ خلق هذا الكون لا يجدون جواباً، ولا يملكون إلا أنْ يقولوا: الله، كما حكى القرآن:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[لقمان: 25].

لكن، كيف يُقِرُّون بهذه الحقيقة ويعترفون بها، مع أنهم كافرون بالله؟ قالوا: لأنها مسألة أظهر مَن أنْ ينكرها منكر، فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه، بل وينسب إلى نفسه ما لم يصنع، فما بالك بكَوْنِ أُعِدَّ بهذه الدقة وبهذه العظمة، ولم يدعه أحد لنفسه؟ والدعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُمْ لها معارض.

لذلك قلنا: إن الحق سبحانه قبل أن يقول لا إله إلا أنا، وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... }[آل عمران: 18]؛ لأن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول للشيء: كُنْ فيكون، ولو لم يكُنْ يؤمن بأنه إله ما قالها.

والحق سبحانه يقول: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... } [العنكبوت: 19] كيف ونحن لم نَر الإعادة، فضلاً عن رؤيتنا للبدء؟

قالوا: نرى البدء والإعادة في مظاهر الوجود من حولنا، فنراها في الزرع مثلاً، وكيف أن الله تعالى يُحيي الأرض بالنبات، ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه الحَبّ أو البذور التي تعيد الدورة من جديد.

والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألواناً بديعة ورائحة زكية، فإذا قُطِفَتْ تبخَّر منها الماء، فجفَّتْ وتفتتت، وذهبت رائحتها في الجو، ثم تخلفها وردة أخرى جديدة، وهكذا.

انظر مثلاً إلى دورة الماء في الكون: هل زادتْ كمية الماء التي خلقها الله في الكون حين أعدَّه لحياة الإنسان منذ خلق آدم وحواء؟ الماء هو هو حتى الآن، مع ما حدث من زيادة في عدد السكان؛ لأن عناصر الكون هي هي منذ خلقها الله، لكن لها دورة تسير فيها بين بَدْء وإعادة.

واقرأ إن شئت قوله تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 9-10].

فكأن قوت العالم من الزرع وغيره مُعَدٍّ من بَدْء الخليقة، وإلى أنْ تقوم الساعة لا يزيد، لكنه يدور في دورة طبيعية.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ { [العنكبوت: 19] أيهما: الخَلْق أم الإعادة؟ أما الخلق فقد أقرُّوا به، ولا جدالَ فيه، إذن: فالكلام عن الإعادة، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق؟ الخَلْق الأول من عدم، أما الإعادة فمن موجود، فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟

لذلك يقول سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... }[الروم: 27] مع أن الحق سبحانه لا يُقال في حَقِّه: هذا هيِّن، وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.

ثم يخاطب الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم: } قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ... {.

(/3285)

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟ الحقيقة أننا كما قال سبحانه { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [العنكبوت: 20] أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذن: حين تسير تسير في الأرض فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها.

والعلة في السير { فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ... } [العنكبوت: 20] وفي آية أخرى{ ثُمَّ انْظُرُواْ.. }[الأنعام: 11]؛ لأن السير من أرض لأخرى له دافعان: إما للسياحة والتأمل والاعتبار، وإما للتجارة والاستثمار، إنْ ضاق رزقك في بلادك. فقوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ... } [العنكبوت: 20] أي: نظر اعتبار وتأمل.

أما في{ ثُمَّ انْظُرُواْ.. }[الأنعام: 11] فثم تفيد العطف والتراخي، كأنه سبحانه يقول لنا: سيروا في الأرض للاستثمار، ثم انظروا نظرة التأمل والاعتبار، ولا مانع من الجمع بين الغرضين.

وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة (القصص):{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... }[القصص: 85] والمراد بذلك الهجرة، وفي هذه السورة تأتي:{ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }[العنكبوت: 56].

والمعنى: إن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، أو: إنْ لم تكُنْ الآيات الظاهرة لك كافية لتشبع عندك الرغبة في الاعتبار والتأمل فسِرْ في الأرض، فسوف تجد فيها كثيراً من الآيات والعِبَر في اختلاف الأجناس والبيئات والثمار والأجواء.. إلخ.

لذلك يقول سبحانه:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97].

فالأرض كلها لله لا حدودَ فيها، ولا فواصلَ بينها، فلما قسَّمها الناس وجعلوا لها حدوداً تمنع الحركة فيها حدثت كثير من الإشكالات، وصَعُبَ على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إنْ ضاق بأحد رزقه.

وها هي السودان بجوارنا بها مساحات شاسعة من الأراضي الخِصْبة التي إنْ زُرِعت سدَّتْ حاجة العالم العربي كله، أنستطيع الذهاب لزراعتها؟ ساعتها سيقولون: جاءوا ليستعمرونا.

لذلك لما أتيح لي التحدث في هيئة الأمم قلت: إنه لا يمكن أنْ تُحلَّ قضايا العالم الراهنة إلا إذا طبَّقنا مبدأ الخالق - عز وجل - وعُدْنا إلى منهجه الذي وضعه لتنظيم حياتنا، وكيف نضع بيننا هذه الحدود الحديدية والأسلاك الشائكة، وربنا يقول:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10].

فالأرض كلُّ الأرض للأنام كل الأنام، ويوم نحقق هذا المبدأ فلن يضيق الرزق بأحد، لأنه إنْ ضاقَ بك هنا طلبته هناك؛ لذلك أكثر الشكوى في عالم اليوم إمَّا من أرض بلا رجال، أو من رجال بلا أرض، فلماذا لا نُحِدث التكامل الذي أراده الله في كونه؟

إذن: فالسير هنا مترتب عليه الاعتبار { كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ... } [العنكبوت: 20] وما دُمْنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخَلْق أهون، كما قال سبحانه:{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ... }[ق: 15] فيشكُّوا في الخَلْق الآخر؟ لذلك يؤكد الخالق سبحانه هذه القدرة بقوله:

{ إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [العنكبوت: 20].

ثم يقول الحق سبحانه: { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ... }.

(/3286)

يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)

لماذا بدأ الحق سبحانه هنا بذكر العذاب؟ في حين قدَّم المغفرة في آية أخرى:{ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ... }[المائدة: 18].

قالوا: لأن الكلام هنا عن المكذّبين المعرضين وعن الكافرين، فناسب أنْ يبدأ معهم بذكر العذاب { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ... } [العنكبوت: 21] فإنْ قُلْت: فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين بعد أنْ هدَّدهم بالعذاب؟ نقول: لأنه رب يهدد عباده أولاً بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا، ثم يُلوِّح لهم برحمته سبحانه ليُرغِّبهم في طاعته ويلفتهم إلى الإيمان به.

وقد صَحَّ في الحديث القدسي: " رحمتي سبقت غضبي " ففي الوقت الذي يُهدِّد فيه بالعذاب يُلوِّح لعباده حتى الكافرين بأن رحمته تعالى سبقتْ غضبه.

وقوله سبحانه: { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } [العنكبوت: 21] أي: تُرجعون، وجاء بصيغة تقلبون الدالة على الغَصْب والانقياد عُنْوة ليقول لهم: مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم الله، فلا بُدَّ لكم من الرجوع إليه، والمثول بين يديْه، فتذكَّروا هذه المسألة جيداً، حيث لا مهربَ لكم منها؛ لذلك كان مناسباً أنْ يقول بعدها: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ... }.

(/3287)

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

(معجزين): جمع معجز، وهو الذي يُعجز غيره، تقول: أعجزتُ فلاناً يعني: جعلته عاجزاً، والمعنى أنكم لن تفلتوا من الله، ولن تتأبَّوْا عليه، حين يريدكم للوقوف بين يديه، بل تأتون صاغرين.

ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قال: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ... } [العنكبوت: 22] ولم يقل مثلاً: لن تعجزوني حين أطلبكم؛ لأن نفيَ الفعل غير نفي الوصف، فحين تقول مثلاً: أنت لا تخيط لي ثوباً، فهذا يعني أنه يستطيع أنْ يخيط لك ثوباً لكنه لا يريد، فالقدرة موجودة لكن ينقصها الرضا بمزاولة الفعل، إنما حين تقول: أنت لستَ بخائط فقد نفيتَ عنه أصل المسألة.

لذلك لم ينْفِ عنهم الفعل حتى لا نتوهم إمكانية حدوثه منهم، فالهرب والإفلات من لقاء الله في الآخرة أمر غير وارد على الذِّهْن أصلاً، إنما نفي عنهم بالوصف من أساسه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ... } [العنكبوت: 22].

ثم يقول سبحانه: { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [العنكبوت: 22] حتى لا يقول قائل: إنْ كانوا هم غير معجزين، فقد يكون وراءهم مَنْ يعجز الله، أو وراءهم مَنْ يشفع لهم، أو يدافع عنهم، فنفى هذه أيضاً لأنه سبحانه لا يُعجزه أحد، ولا يُعجزه شيء.

لذلك يخاطبهم بقوله:{ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ }[الصافات: 25] أين الفتوات الأقوياء ينصرونكم؟

فنفى عنهم الولي، ونفى عنهم النصير؛ لأن هناك فَرْقاً بينهما: الوليّ هو الذي يقرب منك بمودة وحُبٍّ، وهذا يستطيع أنْ ينصرك لكن بالحُسْنى وبالسياسة، ويشفع لك إن احتجتَ إلى شفاعته، أمّا النصير فهو الذي ينصرك بالقوة و (الفتونة).

وهكذا نفى عنهم القدرة على الإعجاز، ونفى عنهم الولي والنصير، لكن ذكر { مِّن دُونِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 22] يعني: من الممكن أن يكون لهم وليٌّ ونصير من الله تعالى، فإنْ أرادوا الولي الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي، فأنا وليُّهم وأنا نصيرهم.

وكأنه سبحانه يقول لهم: إنْ تُبْتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم، فأنا وليُّكم وأنا نصيركم.

وفي موضع آخر قال:{ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }[العنكبوت: 25] ولم يقل من دون الله؛ لأن الموقف في الآخرة، والآخرة لا توبةَ فيها ولا اعتذار ولا رجوع، فقوله { مِّن دُونِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 22] لا تكون إلا في الدنيا.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ... }.

(/3288)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

فإنْ أصرَّ الكافر على كُفْره وعبادته للأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولم تُجْدِ معه موعظة ولا تذكير فلا ملجأ له ولا منفذ له إلى رحمة الله؛ لأنه عبد أولياء لا ينفعونه بشيء وكفر بي، فليس له مَنْ يحميه مني، ولا مَنْ ينصره من الأصنام التي عبدها، فليس له إلا اليأس.

واليأس: قَطْع الرجاء من الأمر، وقد قطع رجاء الكافرين؛ لأنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضر، وكفروا بمَنْ بيده النفع، وبيده الضُّر.

وقلنا: إن المراد بآيات الله إما الآيات الكونية التي تُثبت قدرة الله، وتلفت إلى حكمة الخالق - عز وجل - كالليل والنهار والشمس والقمر، أو آيات المعجزات التي تصاحب الرسل؛ ليؤيدهم الله بها ويُظهِر صِدْقهم في البلاغ عن الله؛ فكفروا بآيات القرآن الحاملة للأحكام.

وقد كفر هؤلاء بكل هذه الآيات، فلم يُصدِّقوا منها شيئاً، وما داموا قد كفروا بهذه الآيات، وكفروا أيضاً بلقاء الله في الآخرة؛ فرحمة الله بعيدة عنهم، وهم يائسون منها.

لذلك كانت عاقبتهم { وَأُوْلَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [العنكبوت: 23] ثم يقول الحق سبحانه: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن... }.

(/3289)

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

كنا ننتظر منهم جواباً منطقياً، بعد أنْ دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وبيَّن لهم بطلان عبادة آلهتهم، وأنها لا تضر ولا تنفع، كان عليهم أن يجادلوه، وأن يدافعوا عن آلهتهم، وأن يُظهِروا حجتهم في عبادتهم.

إنما يأتي جوابهم دالاً على إفلاسهم { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ... } [العنكبوت: 24] أهذا جواب على ما قيل لكم؟ إنه مجرد هروب من المواجهة، وإفلاس في الحجة، إنه جواب مَنْ لم يجد جواباً، وليس لديه إلا التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش، فهذه لغة مَنْ لا حجة عنده.

لكن، لماذا سمَّاه القرآن جواباً؟ قالوا: لأنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلام لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى كلام نبيهم ولم يأبهوا به، وأن كلامه لا وزنَ له، ولا يُرَد عليه، فإنْ كان كلامهم لا يُعَد جواباً فهو في صورة الجواب، وإنْ كان جواباً فاسداً.

وقولهم: { اقْتُلُوهُ... } [العنكبوت: 24] نعلم أن القتل هو هدم البنية هدماً يتبعه خروج الروح لأنها لا تجد بنية سليمة تسكنها، أما الموت فتخرج الروح أولاً، ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب، إذن: فهما سواء في أنهما هلاك.

وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء، فالكهرباء لا توجد في اللمبة، إنما في شيء خارج عنها، لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إنْ كانت سليمة صالحة لإستقبال التيار، فإنْ كسرتها فلا تجد فيها أثراً للكهرباء ولا تضيء، وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة.

ثم قالوا { أَوْ حَرِّقُوهُ... } [العنكبوت: 24] وهل التحريق بعد القتل يُعَد ارتقاءً في العقوبة؟ لا شكَّ أن القتل أبلغ من التحريق، فقد يُحرق شخص، وتتم نجدته وإسعافه فلا يموت، فالقتل تأكيد للموت، أمّا التحريق فلا يعني بالضرورة الموت، فلماذا لم يقولوا فقد اقتلوه وتنتهي المسألة، أو يُصعدوا العقوبة فيقولوا: حرِّقوه أو اقتلوه؟

إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حَنَقهم عليه فقالوا { اقْتُلُوهُ... } [العنكبوت: 24] ثم تراءى لهم رأي آخر: ولماذا لا نحرقه بالنار، فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم التحريق، وهذا يُعَد كسباً لهم، وتُحسَب الجولة لصالحهم.

لكن مَن الذي قال { اقْتُلُوهُ... } [العنكبوت: 24]؟ من الآمر بالقتل، ومَنِ المأمور؟ لقد اتفقوا جميعاً على قتله، فالآمر والمأمور سواء، وهذا واضح من الآية: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ... } [العنكبوت: 24] فالقوم جميعاً تواطئوا على هذه المسألة. أو أن الآمر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر الناس بأمرهم، أما التنفيذ فمهمة الأتباع.

ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلاً، فالكل يغضب ويقول: اقتلوه، اسجنون، فكلهم قائل، وكلهم مقول له.

ثم يقول سبحانه { فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.

.. { [العنكبوت: 24] وهنا يعترض الفلاسفة: كيف والنار من طبيعتها الإحراق؟ كيف يتخلف هذا القانون؟ لكن كيف معجزة إنْ لم تأْتِ على هذه الصورة؟

إن الحق سبحانه خلق الخَلْق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائياً، فالأرض مثلاً حينما تحرثها، وتلقي فيها الحَبَّ، ثم ترويها، الناموس أن تنبت، وحتى لا يظن ظانٌّ أن الكون إنما يسير على وَفْق هذه النواميس، لا وَفْقَ قدرة الله نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا قيوميته على خَلْقه وطلاقة قدرته فيه.

لذلك إن لم يكُنْ لك رزق في حرثك هذا، فلا ينبت النبات، أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار فيُهلكه قبل استوائه. إذن: فالمسألة قيومية لله تعالى وليست (ميكانيكا).

وقد خرق الله نواميس الكون لموسى - عليه السلام - حينما ضرب البحر، فصار كل فِرْق كالطَّوْد العظيم، وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب. وخرق نواميس الكون لإبراهيم حينما قال للنار:{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الأنبياء: 69].

وخرق النواميس ليثبت الإعجاز، وليثبت أن يد الله تعالى لا تزال مسيطرة على مُلْكه سبحانه، لا أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخُّل منه سبحانه كما يقول الفلاسفة، فالحق سبحانه خلق النواميس لتفعل، ولكن قيوميته تعالى وقدرته تُعطِّل النواميس.

} فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [العنكبوت: 24] ونذكر في قصة السفينة أن الله تعالى قال عنها:{ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }[العنكبوت: 15] آية وهنا قال } لآيَاتٍ... { [العنكبوت: 24] وهناك قال{ لِّلْعَالَمِينَ }[العنكبوت: 15] وهنا قال: } لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [العنكبوت: 24] فالاختلاف إذن بين السياقين في أمرين:

قال في السفينة{ آيَةً... }[العنكبوت: 15] لأن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها، فمَنَ رآها يمكن أنْ يصنع مثلها، إنما الآية فيها أن الله تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها، ثم منع عنها الزوابع والأعاصير أن تلعب بها وتُغرق ركابها.

أمّا في مسألة الإحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى، فكان من الممكن ألاَّ يمكنهم الله منه، وكان من الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أنْ يُنزل الله مطراً يطفيء نارهم وينجو إبراهيم، أو يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من الإلقاء في النار.

لكن لم يحدث شيء من هذا، حيث أمكنهم الله منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة، وهو مُوثق بالحبال، ومع ذلك لم تُصِبه النار بسوء، وظهرتْ الآيات بينات واضحات أمام أعين الجميع.

الأمر الآخر: قال هناك{ لِّلْعَالَمِينَ }[العنكبوت: 15] لأن السفينة حينما رسَتْ ونجا ركابها ظلَّتْ باقية في مكانها يراها الناس جميعاً ويتأملونها، فقد كان لها أثر باقٍ قائم مُشَاهد.

أمّا في مسألة إبراهيم - عليه السلام - فقال } لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [العنكبوت: 24] لأن نجاة إبراهيم - عليه السلام - كانت عبرة لمن شاهدها فقط، ونحن نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها، ونحن مؤمنون بالله، فهي آيات للمؤمنين بالله لا للعالمين.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً... {.

(/3290)

وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

المعنى: إنْ كنتم لم تؤمنوا بالآيات الكونية الدالة على قدرة الله، ولم تؤمنوا بالمعجزة التي رأيتموها حين نجاني ربي من النار، وكان عليكم أنْ تؤمنوا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، فلماذا إصراركم على الكفر؟

فلا بُدَّ أنكم كفرتم بالله وعبدتم الأصنام، لا لأنكم مقتنعون بعبادتها، ولا لأنها تستحق العبادة، إنما عبدتموها { مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... } [العنكبوت: 25] يعني: نفاقاً ينافق به بعضكم بعضاً ومجاملة؛ لأنكم رأيتم رؤوس القوم فيكم يعبدونها فقلَّدتموهم دون اقتناع منكم بما تعبدون، أو مودةً لآبائكم الأولين، وسَيْراً على نهجهم، كما حكى القرآن:{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىا آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }[الزخرف: 23].

وفي آية أخرى{ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ... }[المائدة: 104].

لكن هذه المودة وهذه المجاملة وهذا النفاق عمرها (الحياة الدنيا) فحسب، وفي الآخرة ستتقطع بينكم هذه المودات:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ... }[الزخرف: 67] يعني: ستنقلب هذه المودة وهذه المجاملة إلى عداوة، بل وإلى معركة حكاها القرآن:{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا... }[فصلت: 29].

وقال:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ }[البقرة: 166].

ويقرر هنا أيضاً هذه الحقيقة: { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [العنكبوت: 25] ذلك لأن المقدمات التي سبقتْ كانت تقتضي أنْ يؤمنوا، فما كان منهم إلا الإصرار على الكفر.

وفي الوقت الذي تنقلب فيه مودة الكافرين عداوة تنقلب عداوة المؤمنين الذين تعاونوا على الطاعة إلى حُبٍّ ومودة، فيقول المؤمن لأخيه الذي جَرَّه إلى الطاعة وحمله عليها - على كُرْه منه وضيق - جزاك الله خيراً لقد أنقذتني.

ولا ينتهي الأمر عند هذه العقوبة التي يُوقعونها بأنفسهم من التبرؤ واللعن، بل ينصرفون إلى عقوبة أشدّ { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [العنكبوت: 25] ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم يقُلْ: وما لكم من دون الله؛ لأن الكلام في الآخرة حيث لا توبةَ لهم ولا رجوعَ، فقد انتفى أن يكون لهم ولي أو نصير من الله.

كذلك لا ناصرَ لهم من أوليائهم الذين عبدوهم من دون الله حيث يطلبون النُّصْرة من أحجار وأصنام، لا تنطق ولا تجيب.

وهكذا تنتهي هذه اللقطة السريعة من قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وله تاريخ طويل، وهو شيخ المرسلين وأبو الأنبياء، وإنْ أردتَ أن تحكي قصته لأخذتْ منك وقتاً طويلاً، ويكفي أن الله تعالى قال عنه:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً... }[النحل: 120].

ثم يقول الحق سبحانه: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ.... }.

(/3291)

فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

أي: أن قوم إبراهيم - عليه السلام - ظلوا على كفرهم، والذي آمن به لوط - عليه السلام - وكان ابن أخيه، وكانوا في العراق، ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام.

وكلمة { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... } [العنكبوت: 26] حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور حول الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء، لكنها تختلف في المدلولات حسب اختلاف موقعها الإعرابي، فهنا { فَآمَنَ لَهُ... } [العنكبوت: 26] وهل يؤمن لوط لإبراهيم؟ والإيمان كما نقول يؤمن بالله فما دام السياق { فَآمَنَ لَهُ... } [العنكبوت: 26] فلا بُد أن المعنى مختلف، ولا يقصد هنا الإيمان بالله.

ومعنى (آمن) هنا كما في قوله تعالى عن قريش:{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 4] فالفعل هنا مُتعدٍّ، فالذي آمن الله، آمن قريشاً من الخوف. وكذلك في قوله تعالى:{ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ... }[يوسف: 64] ومعنى { فَآمَنَ لَهُ... } [العنكبوت: 26] أي: صدقه.

ومنه قوله تعالى:{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }[يوسف: 17] أي: بمصدِّق، أما آمنت بالله: اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه.

ولوط لا يصدق بإبراهيم، إلا إذا كان مؤمناً بإله أرسله، فكأنه آمن بالله ثم صدَّقه فيما جاء به وقصة لوط عليه السلام لها موضع آخر فُصِّلَت فيه، إنما جاء ذكره هنا؛ لأنه حصيلة الصفقة الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه، فبعد أنْ دعاهم إلى الله ما آمن له إلا لوط ابن أخيه.

وأذكر أن الشيخ موسى - رحمه الله عليه - وكان يُدرس لنا التفسير، وجاءت قصة لوط عليه السلام فقلت له: لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول: لوطي. وما جاء لوط إلا ليحارب هذه الرذيلة ويقضي عليها؟

فقال الشيخ: فماذا نقول عنها إذن؟ قلت: إن اللغة العربية واسعة الاشتقاق، فمثلاً عند النسب إلى عبد الأشهل قالوا: أشهلي، ولعبد العزيز قالوا: عبدزي، ولبختنصر قالوا: بختي، والآن نقول في النسب إلى دار العلوم دَرْعمي... إلخ فلماذا لا نتبع هذه الطريقة؟ فنأخذ القاف المفتوحة، والواو الساكنة من قوم، ونأخذ الطاء من لوط، ثم ياء النسب فنقول (قوْطي) ونُجنِّب نبي الله لوطاً عليه السلام أن ننسب إليه ما لا يليق أن يُنسب إليه.

وقد حضرت احتفالاً لتكريم طه حسين، فكان مما قلته في تكريمه: (لك في العلم مبدأ طَحَسْني)؛ لأنه كثيراً ما نجد بين العلماء اسم طه، واسم حسين.

إذن: فقوله تعالى { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... } [العنكبوت: 26] جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم عليه السلام؛ لأنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه؛ لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى إبراهيم { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... } [العنكبوت: 26] أي: منصرف عن هذا المكان؛ لأنه غير صالح لاستتباب الدعوة.

ومادة هجر وما يُشتق منها تدلُّ على ترْك شيء إلى شيء آخر، لكن هَجَرَ تعني أن سبب الهَجْر منك وبرغبتك، إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، إنما هاجر منها إلى المدينة.

وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته، إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده، إذن: فلهم دَخْل في الهجرة، وهم طرف ثَانٍ فيها.

لذلك يقول المتنبي:إذَا ترحّلْتَ عَنْ قوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا أَلاَّ تُفارِقَهُم فالرَّاحِلُونَ هُمُوومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة أنْ يسمي نقلة رسول الله من مكة إلى المدينة هجرة من الثلاثي، ولا يقول مهاجرة؛ لأنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه، لكن هنا قال في الفعل: هاجر. وفي الاسم قال: هجرة ولم يقل مهاجرة.

وسبق أنْ ذكرنا أن هجرة المؤمنين الأولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب، لا دار الإيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وجَّههم إلى الحبشة بالذات قال: " لأن فيها ملكاً لا يُظْلم عنده أحد ".

وكأنه صلى الله عليه وسلم بُسِطت له خريطة الأرض كلها، فاختار منها هذه البقعة؛ لأنه قد تبيَّن له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته، أمّا الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان، بدليل ما رأيناه من مواقف الأنصار مع المهاجرين.

وهنا يقول إبراهيم عليه السلام: } إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... { [العنكبوت: 26] فالمكان إذن غير مقصود له، إنما وجهة ربي هي المقصودة، وإلا فَلَك أن تقول: كيف تهاجر إلى ربك، وربك في كل مكان هنا وهناك؟

فالمعنى: مهاجر امتثالاً لأمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها؛ لأنه من الممكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بأمر رئيسك مثلاً، وقد كانت لك رغبة في الانتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع؛ لأنه حقق رغبة في نفسك، فأنت - إذن - لا تذهب لأمر صدر لك، إنما لرغبة عندك.

لذلك جاء في الحديث: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

فالمعنى } إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... { [العنكبوت: 26] يعني: ليس الانتقال على رغبتي وحَسْب هواي، إنما حسب الوجهة التي يُوجِّهني إليها ربي. وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا، وكنا جماعة من سبعين رجلاً، وقد صدر منا أمر لا يناسب رئيسنا، فأصدر قراراً بنقلنا جميعاً وشتَّتنا من أماكننا، فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عَلَّه يرجع في قراره، لكنه صمم عليه، وقال: كيف أكون رئيساً ولا أستطيع إنفاذ أمري على المرؤوسين؟

فقال له أحدنا وكان جريئاً: سنذهب إلى حيث شئتَ، لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس فيه الله.

وكانت هذه كلمة الحق التي هزَّتْ الرجل، وأعادت إليه صوابه، فالحق له صَوْلة، وفعلاً سارت الأمور كما نريد، وتنازل الرئيس عن قراره.

فمعنى: } مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... { [العنكبوت: 26] أن ربي هو الذي يُوجِّهني، وهو سبحانه في كل مكان. يؤيد ذلك قوله سبحانه:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.. }[البقرة: 115] وكأن الحق سبحانه يقول لنا: اعلموا أنني ما وجَّهتكم في صلاتكم إلى الكعبة إلا لأؤكد هذا المعنى: لأنك تتجه إليها من أي مكان كنت، ومن أية جهة فحيثما توجهتَ فهي قبلتُك.

ثم يقول: } إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [العنكبوت: 26] اختار الخليل إبراهيم - عليه السلام - من صفات ربه } الْعَزِيزُ { [العنكبوت: 26] أي: الذي لا يُغلب وهو يَغْلب. وهذه الصفة تناسب ما كان من محاولة إحراقه، وكأنه يقول للقوم: أنا ذاهب إلى حضن مَنْ لا يُغْلب.

و } الْحَكِيمُ { [العنكبوت: 26] أي: في تصرفاته، فلا بُدَّ أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب دعوتي، وأناس يستحقون هذه الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق، وقلوب وأفئدة متشوقة إليه، وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... {.

(/3292)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم - عليه السلام - من ربه جزاء صبره على الابتلاء، وثباته على الإيمان، ألم يقُلْ لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أما إليك فلا. لذلك يجازيه ربه، ويخرق له النواميس، ويواليه بالنعم والآلاء، حتى مدحه سبحانه بقوله:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ... }[النحل: 120].

وكان عليه السلام رجلاً خاملاً في القوم، بدليل قولهم عنه لما حَطّم أصنامهم:{ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }[الأنبياء: 60] فهو غير مشهور بينهم، مُهْمَل الذكر، لا يعرفه أحد، فلما والى الله والاه قال: لأجعلنك خليل الله وشيخ المرسلين ولأُجرينَّ ذِكْرك، بعد أنْ كنت مغموراً على كل لسان، وها نحن نذكره عليه السلام في التشهد في كل صلاة.

واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه؛ ليؤكد هذا المعنى:{ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ }[الشعراء: 84] وكأنه يقول: يا رب إن قومي يستقلونني، فاجعل لي ذِكْراً عندك.

ومعلوم أن للتناسل والتكاثر نواميسَ، فلما أنْ أنجبت السيدة هاجر إسماعيل - عليه السلام - غضبت الحرة سارة: كيف تنجب هاجر وهي الأَمَة وتتميز عليها، لكن كيف السبيل إلى الإنجاب وسِنُّها تسعون سنة، وسِنّ إبراهيم حينئذٍ مائة؟

قانون الطبيعة ونواميس الخَلْق تقول لا إنجاب في هذه السن، لكن سأخرق لك القانون، وأجعلك تُنجب هبة من عندي { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ... } [العنكبوت: 27] ثم { وَيَعْقُوبَ... } [العنكبوت: 27].

وفي آية أخرى قال:{ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً... }[الأنبياء: 72].

أي: زيادة، لأنه صبر على ذَبْح إسماعيل، فقال له ربه: ارفع يدك فقد أديتَ ما عليك، ونجحت في الامتحان، فسوف أفديه لك، بل وأهبك أخاً له، وسأعطيك من ذريته يعقوب.

وسأجعلهم فَضْلاً عن ذلك رسلاً { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ... } [العنكبوت: 27] لذلك حين نستقريء موكب الأنبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلام كل من جاء بعده من ذريته.

والذرية المذكورة هنا يُرَاد بها إسحق ويعقوب، وهما المُوهبَان من سارة، أمّا إسماعيل فجاء بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره.

وكأن الحق - سبحانه وتعالى - في هذه المسألة يُدلِّل على طلاقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة المسبِّب، فيقول لإبراهيم: إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا، فسأهبُكَ ذرية ليست مؤمنة مهدية فحسب، إنما هادية للناس جميعاً.

وإذا كانت ذرية إسحق ويعقوب قد أخذتْ أربعة آلاف سنة من موكب النبوات، فقد جاء من ذرية إسماعيل خاتم الأنبياء وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم، وستظل رسالته باقية خالدة إلى يوم القيامة، فالرسل من ذرية إسحق كانوا متفرقين في الأمم، ولهم أزمنة محددة، أما رسالة محمد فعامة للزمان وللمكان، لا معقِّبَ له برسول بعده إلى يوم القيامة.

وقوله تعالى: } وَالْكِتَابَ... { [العنكبوت: 27] أي: الكتب التي نزلتْ على الأنبياء من ذريته، وهي: القرآن والإنجيل والتوراة والزبور.

ثم يقول سبحانه: } وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا... { [العنكبوت: 27] قالوا: إنه كان خامل الذّكْر فنبغ شأنه وعلا ذكْره، وكان فقيراً، فأغناه الله حتى حدَّث المحدِّثون عنه في السِّيَر أنه كان يملك من الماشية ما يسأم الإنسان أنْ يَعدَّها، وكان له من كلاب الحراسة اثنا عشر كلباً.. إلخ وهذا أجره في الدنيا فقط.

} وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ { [العنكبوت: 27] يعني: لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك الدنيا، بل هو في الآخرة من الصالحين، وهذا مُتمنَّى الأنبياء. إذن: فأجْره في الدنيا لم يُنقص من أجره في الآخرة.

لكن، لماذا وصف الله نبيه إبراهيم في الآخرة بأنه من الصالحين؟ قالوا: لأن إبراهيم أُثِر عنه ثلاث كلمات يسميها المتصيِّدون للأخطاء، ثلاث كذبات أو ذنوب: الأولى قوله لملك مصر لما سأله عن سارة قال: أختي، والثانية لما قال لقومه حينما دَعَوْه للخروج معهم لعيدهم: إني سقيم. والثالثة قوله:{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا... }[الأنبياء: 63] أي: عندما حطَّم الأصنام.

ويقول هؤلاء المتصيدون: إنها أقوال منافية لعصمة الأنبياء. لكن ما قولكم إنْ كان صاحب الأمر والحكم شهد له بالصلاح في الآخرة؟

ثم إن المتأمل في هذه الأقوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " فقوله عن سارة: إنها أختي، هي فعلاً أخته في الإيمان، وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو.

أما قوله{ إِنِّي سَقِيمٌ... }[الصافات: 89] فهو اعتذار عن مشهد كافر لا ينبغي للمؤمن حضوره، كما أن السِّقْم يكون للبدن، ويكون للقلب فيحتمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر القوم.

وقوله{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا... }[الأنبياء: 63] أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلان عبادة الأصنام، فأراد أنْ يُنطقهم هم بما يريد أن يقوله؛ ليقررهم بأنها أصنام لا تضر ولا تنفع ولا تتحرك.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ... {.

(/3293)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)

هنا ينتقل السياق من قصة إبراهيم لقصة ابن أخيه لوط، ونلحظ أن القرآن في الكلام عن نوح وإبراهيم ولوط بدأ الحديث بذكره أولاً، وعادة القرآن حينما يتكلم عن الرسل يذكر القوم أولاً، كما قال تعالى:{ وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً... }[الأعراف: 65]،{ وَإِلَىا ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً... }[الأعراف: 73]،{ وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً... }[الأعراف: 85].

قالوا: لأن قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط لم يكُنْ لهم اسم معروف، فذكر أنبياءهم أولاً، أمَّا عاد وثمود ومدين فأسماء لأناس معروفين، ولهم قرى معروفة، فالأصل أن القوم هم المقصودون بالرسالة والهداية؛ لذلك يُذكَرون أولاً فهم الأصل في الرسالة، أما الرسول فليستْ الرسالة وظيفة يجعلها الله لواحد من الناس.

{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 28] وسمى خسيسة قومه فاحشة؛ لذلك قال العلماء في عقوبتها: يصير عليها ما يصير على الفاحشة من الجزاء؛ لأن الحق سبحانه سمى الزنا فاحشة فقال{ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً... }[النساء: 22] والزنا شُرِع له الرجم، وكذلك يكون جزاء مَنْ يفعل فِعلْة قوم لوط الرجم.

وقوله: { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 28] لا يعني هذا أن أحداُ لم يفعلها قبلهم، لكنها إنْ فُعِلت فهي فردية، ليست وباءً منتشراً كما في هؤلاء.

(/3294)

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)

قوله: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ... } [العنكبوت: 29] دلالة على انحراف الغريزة الجنسية عندهم، والغريزة الجنسية جعلها الله في الإنسان لبقاء النوع، فالحكمة منها التناسل، والتناسل لا يكون إلا بين ذكر وأنثى، حيث تستقبل الأُنثى الحيوان المنوي الذكَري الذي تحتضنه البويضة الأنثوية، وتعلق في جدار الرحم وتكوّن الجنين؛ لذلك سمَّي الله تعالى المرأة حَرْثاً؛ لأنها مكان الاستنبات، وشَرْط في إتيان المرأة أن يكون في مكان الاستنبات.

لذلك، فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء، احتجوا بقوله تعالى:{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىا شِئْتُمْ... }[البقرة: 223].

ونقول لهؤلاء: لقد أخطأتم في فَهْم الآية، فالحَرْث هو الزرع المستنبت من الأرض، فمعنى{ أَنَّىا شِئْتُمْ... }[البقرة: 223] أي: أنهم حرث، إذن: فاحتجاجهم باطل، وبطلانه يأتي من عدم فهمهم لمعنى الحرث، وعليه يكون المعنى ائتوهن على أيِّ وجه من الوجوه شريطة أن يكون في مكان الحَرْث.

ولحكمة ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية، وجعل لها لذة ومتَعة تفوق أيَّ لذة أخرى في الحياة، فمثلاً أنت ترى المنظر الجميل فتُسَرُّ به عينك، وتسمع الصوت العَذْب فتسعد به أذنك... إلخ فكل منافذ الإدراك لديك لها أشياء تمتعها.

لكن بأيِّ هذه الحواس تُدْرَك اللذة الجنسية؟ وأيّ ملكة فيك تُسَرُّ منها؟ كلُّ الحواس وكُلُّ الملكات تستمتع بها؛ لذلك لا يستطيع الإنسان مقاومتها، حتى قالوا: إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للإنسان فيها أنْ يغفل عن ربه؛ لذلك أمرنا بعدها بالاغتسال.

ولولا أن الخالق - عز وجل - ربط مسألة بقاء النوع بهذه اللذة لَزهد فيها كثير من الناس، لما لها من تبعات ومسئوليات ومشاكل، لا بُدَّ منها في تربية الأولاد.

وسبق أن ذكرنا الحكمة القائلة: " جَدَع الحلال أنفَ الغيرة " فالرجل يغَار على ابنته مثلاً، ولا يقبل مجرد نظر الغرباء إليها، ويثور إذا تعرَّض لها أحد، فإذا جاءه الشاب يطرق بابه ليخطب ابنته رحَّب به، واستقبله أهل البيت بالزغاريد وعلى الرَّحْب والسعة، فسقوا (الشربات) وأقاموا الزينات، فما الفرق بين الحالين؟ في الأولى كان دمه يغلي، والآن تنزل كلمات الله في عقد القرآن على قلبه بَرْداً وسلاماً.

أما خسيسة قوم لوط { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ... } [العنكبوت: 29] فهي انحراف عن الطبيعة السَّوية لا بقاءَ فيها للنوع، ومثلها إتيان المرأة في غير مكان الحرث.

وقوله تعالى: { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ... } [العنكبوت: 29] أي: تقطعون الطريق على بقاء النوع؛ لأن الزنا وإنْ جاء بالولد فإنه لا يُوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع. فالحق سبحانه جعل لبقاء النوع طريقاً واحداً، فلا تسلك غير هذا الطريق، لا مع رجل ولا مع امرأة.

والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق، سواء كان الطريق المادي أي: الشارع الذي نمشي فيه أو: المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها، ومنها قوله تعالى:

{ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي... }[يوسف: 108] أي: طريقي ومنهجي؛ لذلك السبيل القيمي سبيل واحد، حتى لا نتصادم ولا نتخاصم في حركة الحياة المعنوية، أمّا السبيل المادي فمتعدد حتى لا نتزاحم في حركة الحياة المادية.

والسبيل المادي (الطريق) الذي نسير فيه يُعَدُّ سمة الحضارة في أي أُمة، ونذكر أن هتلر قبل أن يدخل الحرب سنة 1939 جعل كل همِّة في إنشاء شبكة من الطرق؛ لأن حركة الحرب غير العادية تحتاج إلى طرق إضافية أيام الحرب، ومن ذلك مثلاً الطريق الذي يُسمُّونه طريق المعاهدة، أي معاهدة سنة 1936.

إذن: كلما وُجدت حركة زائدة احتاجت إلى طرق إضافية، وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي تنشأ فيه، فالطرق في المدن نُسمِّيها شوارع وفي الخلاء نسميها طرقاً تناسب المساحة داخل المباني، ومنها تتفرع الحارات، وهي أقل منها، ومن الحارة تتفرع العَطْفة، وهي أقل من الحارة، وكلما ازدحمتْ البلاد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس.

كما نرى في القاهرة مثلاً من أنفاق وكَبَارٍ، حتى لا تُعاق الحركة، وحتى نوفر للناس انسيابية فيها.

والأنفاق أنسب للجمال في المدن، والكبارى أجمل في الفضاء، حيث ترى مع ارتفاع الكباري آفاقاً أوسع ومناظر أجمل، أما إنْ حدث عكس ذلك فأُنشئت الكبارى داخل الشوارع فإنها تُقلِّل من جمال المكان وتُحوِّل الشارع إلى أشبه ما يكون بعنابر الورش، كما أنها تؤذي سكان العمارات المجاورة لها.

وعلى الدولة أن تراعي هذه الأمور عند التخطيط، ألم نقرأ قوله تعالى:{ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ }[عبس: 20] لا بُدَّ أن نُيسِّر السبل للسالكين؛ لأن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه الطرق.

فقوله تعالى: } وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ... { [العنكبوت: 29] فكان من قوم لوط قُطَّاع طرق كالذين يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم، فيأخذون أموالهم وينهبون ما معهم، وإنْ تأبوا عليهم قتلوهم. وبعد أن قطعوا السبيل على الناس قطعوا السبيل على بقاء النوع.

يقول سبحانه في حقهم: } وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ... { [العنكبوت: 29] فكانوا لا يتورعون عن فِعْل القبيح وقوله فيجلسون في الطرقات يستهزئون بالمارة ويؤذونهم كالذين يجلسون الآن على المقاهي ويتسكعون في الطرق ويؤذون خَلْق الله، ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل، فلا يسْلَم من إيذائهم أحد.

لذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الطريق، " فيقول لمن سأله: " وما حَقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال:غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، وردُّ السلام ".

وقد انتشر بين قوم لوط سوء الأخلاق، بحيث لا ينهى بعضهم بعضاً، كما قال سبحانه عن اليهود أنهم:{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ... }[المائدة: 79].

والنادي: مكان تجمُّع القوم، ومنه قوله تعالى:{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ }[العلق: 17] أي: مكان تجمُّع رؤوس القوم وكبارهم، كما نرى الآن: نادي كذا، ونادي كذا.

والنادي وهو مكان عام يُعَدُّ المرحلة الأخيرة لانضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع، فأنت مثلاً لك حجرة في بيتك خاصة بك، ولك فيها انضباط خاص بنفسك، وكذلك في صالة البيت لك انضباط أوسع، وفي الشارع لك انضباط أوسع.

والانضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه، فحين تكون مثلاً بين أناس لا يعرفونك لا يكون انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين مَنْ تعرفهم كالموظف في مكتبه، والطالب في مدرسته.

إذن: فهؤلاء القوم قطعوا السبيل في بقاء النوع، حيث أتوا غير مَأْتيٍّ وانحرفوا عن الفطرة السَّوية، وقطعوا السبيل المادي، فأخافوا الناس وروَّعوهم ونهبوا أموالهم، وأخذوهم من الطرق بغرض هذه الفِعْلة النكراء، ثم كانوا يتبجحون بأفعالهم هذه، ويجاهرون بها في أنديتهم وأماكن تجمعاتهم.

فبماذا أجابه القوم؟

} فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ { [العنكبوت: 29] أي: من الصادقين في أنك مُبلِّغ عن الله، فنحن من العاصين، وأَرِنا العذاب الذي تتوعدنا به، وقولهم } ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ... { [العنكبوت: 29] مع أن العذاب شيء مؤلم، ولا يطلب أحد إيلام نفسه، فهذا دليل على عدم فهمهم لهذا الكلام، وأنهم غير متأكدين من صدقه، وإلا لو وَثِقوا بصدقه ما طلبوا العذاب.

وفي موضع آخر، حكى القرآن عنهم:{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }[النمل: 56].

إذن: حدث منهم موقفان وجوابان: الأول } ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ... { [العنكبوت: 29] فلما لم يُجبهم إلى هذا الطلب الأحمق، وظل يتابع دعوته لهم، فلم ييأس منهم لجأوا إلى حيلة أخرى، فقالوا{ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ... }[النمل: 56] والعلة{ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }[النمل: 56] لأن الطَهْر في نظر هؤلاء عيب، والاستقامة جريمة، وهذا دليل على فساد عقولهم، وفساد قياسهم في الحكم.

ثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ رَبِّ انصُرْنِي... {.

(/3295)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

وفَرْق بين الفاسد في ذاته والمفسد لغيره، فيا ليتهم كانوا فاسدين في أنفسهم، إنما كانوا فاسدين مفسدين، يتعدَّى فسادهم إلى غيرهم.

(/3296)

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)

جاء هنا إبراهيم - عليه السلام - في سياق قصة لوط، كما جاء لوط في سياق قصة إبراهيم. ومعنى { رُسُلُنَآ... } [العنكبوت: 31] أي: من الملائكة؛ لأن الله تعالى قال:{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ... }[الحج: 75].

وقد جاءت الملائكة لإبراهيم بالبشرى، ولم يذكر مضمون البُشْرى هنا، وهو البشارة بإسحق ويعقوب وذرية صالحة منهما، وجاءته بإنذار بأن الله سيُهلك أهل هذه القرية، وبالبشرى والإنذار يحدث التوازن؛ لأننا نُبشِّر إبراهيم بذرية صالحة مُصْلحة في الكون، ونهلك أهل القرية الذين انحرفوا عن منهج الله.

وتلحظ في الآية أنها لم تذكر العلة في البُشْرى فلم تقل لأنه كان مؤمناً ومجاهداً وعادلاً، إنما ذكرت العلة في إهلاك أهل القرية { أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } [العنكبوت: 31] لماذا؟ لأن المتفضّل لا يمنُّ بفضله على أنه عمل بمقابل، لكن المعذب يبين سبب العذاب.

فماذا كان الانفعال الأوليّ عند إبراهيم - عليه السلام - ساعةَ سمع البُشْرى والإنذار؟ لم يسأل عن البشرى، مع أنه كان متلهفاً عليها، إنما شغلته مسألة إهلاك القرية، وفيها ابن أخيه لوط. لذلك قال: { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ... }.

(/3297)

قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)

فلم يستشرف إبراهيم للبشرى، واهتم بمسألة إهلاك قرية قوم لوط؛ لأن فيها لوطاً مما يدلُّ على أن الإنسان لا يشغله الخير لنفسه عن الشر لغيره، وهنا ردَّ الملائكة { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا... } [العنكبوت: 32] فهذه مسألة لا تخفى علينا.

ثم يُطمئنونه على ابن أخيه { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ... } [العنكبوت: 32] وأهله: تشمل كل الأهل؛ لذلك استثنوا منهم { إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [العنكبوت: 32].

والغابرون: جمع غابر، ولها استعمالان في اللغة: نقول: الزمان الغابر أي الماضي، وغابر بمعنى باقٍ أيضاً، فهي إذن تحمل المعنى وضده؛ ذلك لأنهم جاءوا لإهلاك هذه القرية، وامرأة لوط باقية لتهلك معهم، وتذهب مع مَنْ سيذهبون بالإهلاك، فهي إذن باقية في العذاب. فجاءت الكلمة { مِنَ الْغَابِرِينَ } [العنكبوت: 32] لتؤدي هذين المعنيين.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً... }.

(/3298)

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)

شهد إبراهيم هذا الموقف مع لوط، وعلم سبب حضورهم إليه، لكن لماذا سيء بهم، مع أنهم رسل الله ملائكة جاءوه على أحسن صورة؟ قالوا: لأن الملَك يأتي على أجمل صورة، حتى إذا أردنا أن نمدح شخصاً بالجمال نقول: مثل الملاك، ومن ذلك قول النسوة لامرأة العزيز عن يوسف عليه السلام:{ مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }[يوسف: 31].

فلما رآهم لوط على هذه الصورة خاف عليهم، بدل أنْ يفرح بمرآهم الجميل؛ لأن قومه قوم سوء وأهل رذيلة، ولا بُدَّ أنْ ينالوا ضيوفه بسوء؛ لذلك { سِيءَ بِهِمْ... } [العنكبوت: 33] أي: أصابه السوء بسببهم { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً... } [العنكبوت: 33] الذرع هو طول الذراعين، فنقول: فلان باعُه طويل. يعني: يتناول الأشياء بسهولة؛ لأن يده طويلة، فالمعنى: ضاق بهم ذَرْعاً. يعني: لم يتسع جهده لحمايتهم من القوم.

ونلحظ هنا اختلاف السياق بين الآيتين:{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ... }[العنكبوت: 31] أما في لوط فقال: { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً... } [العنكبوت: 33] لأنهم تأخروا بعض الشيء عند إبراهيم عليه السلام.

فلما أن أصابه السوء بمرآهم، بدل أنْ يسعد بهم، وخاف عليهم طمأنوه { وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ } [العنكبوت: 33] لا تخَفْ علينا من هؤلاء الأراذل، فلسنا بشراً، إنما نحن ملائكة ما جئْنا إلا لنريحك منهم، ونقطع جذور هذه الفِعْلة الخبيثة، وسوف ننجيك وأهلك من العذاب النازل بهم.

ثم يستثنون من أهله { إِلاَّ امْرَأَتَكَ... } [العنكبوت: 33] فكثيراً ما ضايقته، وأفشتْ أسراره، ودلَّتْ القوم على ضيوفه { كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ } [العنكبوت: 33] الباقين في العذاب.

لكن، ما الطريقة التي ستقضون بها على هؤلاء القوم؟

(/3299)

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)

الرجز: العذاب ينزل عليهم من السماء، والحجارة التي يمطرهم الله بها { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [العنكبوت: 34] أي: بسبب فِسْقهم وخروجهم عن منهج الله.

(/3300)

وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

لأن هذا العذاب استأصلهم، وقضى عليهم، وجعلهم عبرة لكل عاقل متأمل وآية في الكون لكل عابر بها، كما قال سبحانه:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137] إذن: فالعبرة باقية بأهل سَدُوم كلما مر الناس بقُراهم.

لذلك قال الله عنها { آيَةً بَيِّنَةً } [العنكبوت: 35] الآية: الشيء العجيب الذي يدعو للتأمل { بَيِّنَةً... } [العنكبوت: 35] واضحة كدليل باقٍ، وظاهر لا يخفى على أحد { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [العنكبوت: 35] يعني: يبحثون ويتأملون بسبب ما حاق بهذه القرى، وما نزل بها من عذاب الله.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَاهُمْ... }.

(/3301)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)

مدين: اسم من أسماء أولاد إبراهيم عليه السلام، وسُمِّيت باسمه القبيلة؛ لأنهم كانوا عادة ما يُسمُّون القوم باسم أبرز أشخاصها، فانتقل الاسم من الشخص إلى القبيلة، ثم إلى المكان، بدليل قوله تعالى في موضع آخر:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ... }[القصص: 23] فصارت مدين عَلَماً على البقعة، وقالوا: إنها من الطور إلى الفرات.

هذه برقية موجزة لقصة مدين وأخيهم شعيب، وقد ذُكِرت أيضاً في قصة موسى عليه السلام. وقال { أَخَاهُمْ... } [العنكبوت: 36] ليدلّك أن الله تعالى حين يصطفي للرسالة يصطفي مَنْ له وُدٌّ بالقوم، ولهم معرفة به وبأخلاقه وسيرته، ولهم به تجربة سابقة، فهو عندهم مُصلْح غير مُفْسِد، حتى إذا ما بلَّغهم عن الله صدَّقوه، وكانت له مُقدِّمات تُيسِّر له سبيل الهداية.

وقوله: { فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ... } [العنكبوت:36] كلمة { ياقَوْمِ... } [العنكبوت: 36]: القوم لا تُقال إلا للرجال؛ لأنهم هم الذين يقومون لمهمات الأمور، ويتحملون المشاق؛ لذلك يقول تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... }[الحجرات: 11] فأطلق القوم، وهم الرجال في مقابل النساء.

والعبادة: قلنا: طاعة الأمر والنهي { اعْبُدُواْ اللَّهَ... } [العنكبوت: 36] أطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه ما دُمْتم قد آمنتم به إلهاً خالقاً، فلا بُدَّ أنْ تسمعوا كلامه فيما ينصحكم به من توجيه بافعل ولا تفعل.

وتعلم أنه سبحانه بصفات الكمال أوجدك وأوجد لك الأشياء، فأنت بعبادتك له لا تضيف إليه صفة جديدة، فهو إله قبل أن توجد أنت، وخالق بكامل القدرة قبل أنْ توجد، وخلق لك الكون قبل أنْ توجد.

ثم بعد ذلك تعصاه وتكفر به، فلا يحرمك خيره، ولا يمنع عنك نعمه. إذن: فهو سبحانه يستحق منك العبادة والطاعة؛ لأن طاعته تعود عليك أنت بالخير.

لذلك سبق أنْ قُلْنَا إن كلمة (العبودية) كلمة مذمومة تشمئز منها النفس، إنْ كانت عبودية للبشر؛ لأن عبودية البشر للبشر يأخذ فيها السيد خير عبده، لكن عبودية البشر لله تعالى يأخذ العبد خير سيده، فالعبودية لله عزٌّ وقوة ومنَعة وللبشر ذٌلٌّ وهوان؛ لذلك نرى كل المصلحين يحاربون العبودية للبشر، ويدعون العبيد إلى التحرر.

فأوَّل شيء أمر به شعيب قومه { اعْبُدُواْ اللَّهَ... } [العنكبوت: 36] كذلك قال إبراهيم لقومه{ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ... }[العنكبوت: 16]، لكن لوطاً عليه السلام لم يأمر قومه بعبادة الله، إنما اهتم بمسألة الفاحشة التي استشرتْ فيهم، مع أن كل الرسل جاءوا للأمر بعبادة الله.

ونقول في هذه المسألة: لم يأمر لوط قومه بعبادة الله؛ لأنه كان من شيعة إبراهيم عليه السلام ومؤمناً بديانته، بدليل قوله تعالى:{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... }[العنكبوت: 26] فهو تابع له؛ لذلك ينفذ التعاليم التي جاء بها إبراهيم، فلم يأمر بالعبادة لأن إبراهيم أمر القوم بها، لكنه تحمَّل مسألة أخرى، وخصَّه الله بمهمة جديدة، هي إخراج قومه من ممارسة الفاحشة التي انتشرت بينهم.

وقوله تعالى: } وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ... { [العنكبوت: 36] فلا بُدَّ أن اليوم الآخر لم يكُنْ في بالهم، ولم يحسبوا له حساباً، كأنهم سيفلتون من الله، ولن يرجعوا إليه؛ لذلك يُذكِّرهم بهذا اليوم، ويحثُّهم على العمل من أجله.

وكيف لا نعمل حساباً لليوم الآخر؟ ونحن في الدنيا نعامل أنفسنا بنفس منطق اليوم الآخر؟ فأنت مثلاً تتعب وتشقى في زراعة الأرض، وتتحمل مشاق الحرْث والبَذْر والسقي.. إلخ طوال العام، لكن حين تجمع زرعك يوم الحصاد، ويوم تملأ به مخازنك تنسى أيام التعب والمشقة، وساعتها يندم الكسول الذي قعد عن العمل والسعي، يوم الحصاد سترى أن أردب القمح الذي أخذتَه من المخزن وظننتَ أنه نقص من حسابك قد عاد إليك عشرة أرادبّ، فأخْذُك لم يقلل إنما زاد.

وكذلك اليوم الآخر نفهمه بهذا المنطق، فنتحمل مشاقّ العبادة والطاعات في الدنيا لننال النعيم الباقي في الآخرة؛ لأن نعيم الدنيا مهما كان، يُنغصه عليك أمران: إما أنْ تفوته أنت بالموت، أو يفوتك هو بالفقر.

أما في الآخرة فلا يفوتك نعيمها ولا تفوته. إذن: فالأَوْلى بك أنْ تزرع للآخرة، وأن تعمل لها ألف حساب، فإنْ كان في العبادة مشقة، وللإيمان تَبعات، فانظروا إلى عِظَم الجزاء، وإذا استحضرتَ الثواب على الطاعة هانتْ عليك مشقة الطاعة، وإذا استفظعت العقاب على المعصية، زهدتَ فيها ونأيْتَ عنها.

إذن: الذي يجعل الإنسانَ يتمادى في المعصية أنه لا يستحضر العقاب عليها، ويزهد في الطاعة؛ لأنه لا يستحضر ثوابها.

لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " والمعنى: لو استحضر الإيمان ما فعل، إنما غفل عن إيمانه فوقع في المعصية.

ومَن استحضر ثواب الطاعة وجد لها حلاوة في نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة: " أرحنا بها يا بلال ".

وقوله: } وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [العنكبوت: 36] العثو: الفساد المستور والفساد يقال للظاهر، فالمعنى: لا تعثَوا في الأرض عثواً، فالمفعول المطلق بمعنى الفعل، فقوله تعالى: } وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [العنكبوت: 36] كما نقول: اجلس قعوداً.

والفاء في قوله: } فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ... { [العنكبوت: 36] تدل على أنها تعطف هذا الكلام على كلام سابق، والتقدير: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً فقال: يا قوم إني رسول الله إليكم، ثم ذكر المطلوب منهم } ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ... { [العنكبوت: 36] والجمع بين عبادة الله ورجاء اليوم الآخر يعني: لا تفصلوا العبادة عن غايتها والثواب عليها، ولا تفصلوا المعصية عن عقابها.

وقوله: } وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [العنكبوت: 36] فلا أقول لكم: أصلحوا فلا أقلَّ من أن تتركوا الصالح على صلاحه لا تفسدوه؛ لأن الخالق - عز وجل - أعدَّ لنا الكون على هيئة الصلاح، وعلينا أنْ نُبقيه على صلاحه.

فالنيل مثلاً هبة من هِبَات الخالق، وشُريان للحياة يجري بالماء الزلال، وتذكرون يوم كان الفيضان يأتي بالطمي فترى الماء مثل الطحينة تماماً، وكذا نملأ منه (الزير)، وبعد قليل يترسب الطمي آخذاً معه كل الشوائب، ويبقى الماء صافياً زلالاً. أما الآن فقد أصابه التلوث وفسَد ماؤه بما يُلْقى فيه من مُخلَّفات، وأصبحنا نحن أول مَنْ يعاني آثار هذا التلوث.

لذلك أصبح ساكن المدن مهما توفرت له سُبُل الحضارة لا يرتاح إلا إذا خرج من المدينة إلى أحضان الطبيعة البكْر التي ظلتْ على طبيعتها كما خلقها الله، لا ضوضاء، ولا ملوثات، ولا كهرباء، ولا مدنية.

ثم يقول الحق سبحانه: } فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ... {.

(/3302)

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

فلماذا يُكذّب الناس دعوة الخير؟

قالوا: لا يُكذِّب دعوة الخير إلا المستفيدون من الشر؛ لأن الخير سيقطع عليهم الطريق، ويسحب منهم مكانتهم وسلطتهم وسيادتهم، فكل الذين عارضوا رسل الله كانوا أكابر القوم ورؤساءهم، وقد ألفوا السيادة والعظمة، واعتادوا أن يكون الناس عبيداً لهم، فكيف إذن يُفسِحون الطريق للرسل ليأخذوا منهم هذه المكانة؟

وإلا، فلماذا كان عبد الله بن أُبَيٍّ يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه يوم وصل رسول الله إلى المدينة كانوا يُعِدُّون التاج لعبد الله بن أبي، لينصبوه مَلِكاً على المدينة، فلما جاءها رسول الله شغلوا بهذا الحدث الكبير، وانصرفوا عن هذه المسألة.

لكن، ماذا قال شعيب لقومه حتى يُكذِّبوه؟ لقد قال لهم أمرين هما:{ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ }[العنكبوت: 36] ونهي واحد في{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] ومعلوم أن الأمر والنهي قوْل لا يحتمل الصِّدْق، ولا يحتمل الكذب؛ لأنه إنشاء وليس خبراً، لأنه ما معنى الكذب؟ الكذب أن تقول لشيء وقع أنه لم يقع، أو لشيء لم يقع أنه وقع، وهذا يسمونه خبراً.

فإنْ وافق كلامك الواقعَ فهو صِدْق، وإنْ خالف الواقع فهو كذب، إذن: كيف نحكم على ما لم تقع له نسبة أنه صِدْق أو كذب؟ حينما تقول مثلاً: قِفْ. هل نقول لك إنك كاذب؟ لا، لأن واقع الإنشاء لا يأتي إلا بعد أنْ تتكلم، لذلك قسَّموا الكلام العربي إلى خبر وإنشاء.

ولكي نبسط هذه المسألة على المتعلم نقول: المتكلم حين يتكلم يأتي بنسبة اسمها نسبة كلامية، قبل أن يتكلم بها جالتْ في ذهنه، فقبل أن أقول: زيد مجتهد دارتْ في ذهني هذه المسألة، وكان في الواقع يوجد شخص اسمه زيد وهو مجتهد فعلاً.

إذن: عندنا نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية، فإنْ وُجِدت النسبة الواقعية قبل الذهنية والكلامية، فالكلام هنا خبر يُوصَف بالصدق أو يُوصَف بالكذب.

إذن: النسبة الواقعية لا تأتي نتيجة النسبة الكلامية، إنما حين تقول: قف فتأتي النسبة الواقعية نتيجة النسبة الكلامية، وما دامت النسبة الواقعية تأخرتْ عن الكلامية، فلا يُوصَف القول إذن لا بصدْق ولا بكذب.

ونعود إلى قول نبي الله شعيب نجده عبارة عن أمرين:{ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ... }[العنكبوت: 36] ونهي واحد:{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] والأمر والنهي من الإنشاء الذي لا يُوصَف بالصِّدْق ولا بالكذب، فكيف إذن يُكذِّبونه؟

فأول إشكال: { فَكَذَّبُوهُ... } [العنكبوت: 37] ومنشأ هذا الإشكال عدم وجود الملَكَة العربية التي يفهمون بها كلام الله. فالحق سبحانه قال هنا { فَكَذَّبُوهُ... } [العنكبوت: 37] لأنه أمرهم بعبادة الله وهو رسول من عند الله فيأمرهم بعبادته؛ لأن عبادته تعالى واجبة عليهم، وما أمرهم إلا ليُؤدُّوا الواجب عليهم، واليوم الآخر كائن لا محالة فارجوه، والإفساد في الأرض مُحرم.

إذن: فالمعنى يحمل معنى الخبر، فالأمران هنا، والنهي أمر واجب فكذَّبوه لعلّة الأمرين، ولعلَّة النهي.

ومعنى{ اعْبُدُواْ اللَّهَ... }[العنكبوت: 36] خصُّوه سبحانه بالعبادة، وهي الطاعة في الأمر والانتهاء عن المنهي عنه، وهذه العبادة مطلوبة من الكل، وهي شريعة كل الأنبياء والرسل:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ... }[الشورى: 13].

إذن: فمسألة العبادة والإيمان باليوم الآخر من القضايا العامة التي لا تختلف فيها الرسالات، أما الشرائع: افعل كذا، ولا تفعل كذا فتختلف من نبي لآخر.

ومعنى:{ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ.. }[العنكبوت: 36] أي: اعملوا ما يناسب رجاءكم لليوم الآخر، وأنت لماذا تحب اليوم الآخر، ولماذا ترجوه؟ لا يحبه ولا يرجوه إلا مَنْ عمل عملاً صالحاً فينتظره لينال جزاء عمله وثواب سَعْيه، وإلا لو كانت الأخرى لقال: وخافوا اليوم الآخر.

إذن: الرجاء معناه: اعملوا ما يُؤهّلكم لأنْ ترجُوا اليوم الآخر، والإنسان لا يرجو إلا النافع له. وهنا لك أنْ تسأل: هل إذا آمن الإنسان ونفَّذ أحكام ربه أمراً ونهياً، فجزاؤهم في الآخرة رجاء يرجوه أم حَقٌّ له؟ المفروض أن يقول للطائعين: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، فهي واجبة له ومن حَقِّه، فكيف يسميه القرآن رجاءً وهو واقع؟

قالوا: لأن جزاءنا في الجنة فَضْلٌ من الله، لأنه سبحانه خلقنا وخلق لنا، وأمدَّنا بالطاقات والنعم قبل أنْ يُكلِّفنا شيئاً، فحين تعبد الله حقَّ العبادة فإنك لا تقضي ثمن جميله عليك، ولا توفيه سبحانه ما يستحق، فإذا أثابك في الآخرة فبمحْض فَضلْه وكرمه.

لذلك قال سبحانه:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].

كما لو أنكَ استخدمت أجيراً بمائة جنيه مثلاً في الشهر، وقبل أن يعمل لك شيئاً أعطيته أجره فهل يطلب منك أجراً آخر؟ فلو جئتَ في آخر الشهر وأعطيته عشرة جنيهات، فهي فَضْل منك وتكرُّم.

لذلك قال{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] لأن الجزاء في الآخرة عند التحقيق والتعقُّل محض فَضلْ من الله؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمته ".

والنهي في:{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] أي: لا تفسدوا فساداً ظاهراً، أو: لا تعملوا أعمالاً هي في ظنكم نافعة وهي ضارة، تذكرون زمان كان القطن هو المحصول الرئيسي في مصر ومصدر الدَّخلْ، وكانت تهدده دودة القطن فنقاومه مقاومة يدوية، إلى أنْ خرج علينا الأمريكان بالمبيدات، واستخدمنا مادة اسمها (دي دي تي) فقضتْ على الدودة في بادئ الأمر، وظنَّ الفلاح أن هذه المشكلة قد حُلّت.

لكن بعد سنوات تعودتْ الدودة على هذه المادة، وأصبح عندها حصانة، وكأن (الدي دي تي) أصبح (كيفاً) عندها، وبدأنا نحن نعاني الأمرَّين من آثار هذه المبيدات في الماء، وفي التربة، وفي الزراعة، وفي صحة الإنسان والحيوان. إذن: ينبغي النظر في العواقب قبل البدء في الشيء، وأنْ يُقاسَ الضرر والنفع.

كذلك الحال عندما اخترعوا السيارات، وقالوا: إنها ستريح الناس في أسفارهم وفي حمل أمتعتهم، وبعد ما توصل العالم إليه من ثورة في وسائل النقل لو قارنا نفعها بضررها لوجدنا أن ضررها أكبر لما تُسبِّبه من تلوث، ولو عُدْنا إلى الوسائل البدائية، واستخدمنا الدواب لكان أفضل.

وأذكر عندما جئنا إلى مصر سنة 1936 - 1938 وجدنا في الميادين العامة مواقفَ للحمير، مثل مواقف السيارات الآن، وكانت هي الوسيلة الوحيدة للانتقال، ويكفي أن رَوَثَ الحمار يُخصِّب الأرض، أمّا عوادم السيارات فتسبب أخطر الأمراض وتؤدي للموت.

فماذا بعد أنْ كذَّب قومُ شعيب نبيهم؟

كانت سنة الله في الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن يُبلِّغ الرسول رسالة ربه، لكن لا يُؤمر بحمل السيف ضد الكفار، إنما إنْ كذّبوا بالآيات عاقبهم رب العزة سبحانه، وتُحسم المسألة بهلاك المكذِّبين.

وكوْن الحق - تبارك وتعالى - لا يأمر الناسَ بقتال الكفار هذا أمر منطقي، والدليل رأيناه في بني إسرائيل لما طلبوا من الله أنْ يفرض عليهم القتال، فقال:{ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ.. }[البقرة: 246].

ولم يُؤْمر بالقتال لنشر الدعوة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ومَنْ آمن معه مأمونون على هذا، ولأنه صلى الله عليه وسلم آخر الرسل والأنبياء، فلا بُدَّ أن يستوفي كل الشروط.

ونتيجة التكذيب } فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ { [العنكبوت: 37] وهذا عقاب الله؛ لأنه كان سبحانه يتولّى المكذِّب. وفي (الحجر) وفي (هود) قال (الصيحة) وحتى لا تتهم الآيات بالتضارب نقول: الصيحة: صوت شديد مزعج، وهذا الصوت لا نسمعه إلا بتذبذب الهواء بشدة، ولو كان تذبذب الهواء بلطف ما سميت صيحة.

إذن: الصيحة تخلخل في الهواء بشدة؛ لا بد أنْ ينتج عنه رجفة أي: هزة شديدة كالتي تهدم بالبيوت والعمارات نتيجة قنبلة مثلاً، فالصيحة وُجدت أولاً، تبعتها الرجفة، لكن القرآن مرة يذكر الأصل فيقول (الصيحة) ومرة يذكر النتيجة فيقول (الرجفة).

} فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ { [العنكبوت: 37] قال (فَأصْبَحُوا) ولم يقُلْ مثلاً: فصاروا ليُحدِّد وَقْت أخذهم بالصباح، والعادة أن تكون الإغارة وقت الصباح قبل أن يستعد خَصْمك لملاقاتك، فما يزال في أعقاب النوم خاملاً، وإلى الآن يفضل رجال الحرب والقادة أن تبدأ الحرب في الصباح، حيث يُفَاجأ بها العدو.

وقد أصبح هذا الوقت قضية عامة، تُعَدُّ مخالفتها من قبيل المكْر والخدعة في الحرب، كما خالفها قادتنا في حرب أكتوبر 73، حيث فاجأوا عدوهم في وقت الظهيرة، وقد تمت لهم المفاجأة، وأخذوا عدوهم على غِرَّة؛ لأنهم غيَّروا الوقت المعتاد، وهو الصبح.

إذن: على الإنسان ألاَّ يتخذ في أموره قضية رتيبة، بل يُخضِع أموره لما يناسبها.

ومن الطرائف: حرص الرجل على أنْ يوقظ ولده مبكراً ليذهب إلى عمله، ويقضي مصالحه، فقال له الوالد: ابن فلان استيقظ مبكراً، فوجد محفظة بها مائة جنيه، فقال الولد - وكان كسولاً لا يريد أن يستقيظ مبكراً: هذه المحفظة وقعتْ من واحد استيقظ قبله.

ومعنى } جَاثِمِينَ { [العنكبوت: 37] يعني: هامدين بلا حراك.

ثم تنتقل بنا الآيات إلى لقطات أخرى موجزة من مواكب الرسالات، وكأنها برقيات: } وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ... {.

(/3303)

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

نلحظ في هذه البرقيات السريعة أنها تذكر المقدمة، ثم النهاية مباشرة { وَعَاداً وَثَمُودَاْ... } [العنكبوت: 38] هذه المقدمة { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ... } [العنكبوت: 38] هذا موجز لما نزل بهم، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لن أحكي لكم ما حاق بهم؛ لأنكم تشاهدون ديارهم، وتمرون عليها ليل نهار{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الصافات: 137-138].

والآن مع الثورة العلمية استطاعوا تصوير ما في باطن الأرض، وظهرت كثير من الآثار لهذه القرى عاد وثمود والأحقاف، واقرأ قوله سبحانه وتعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ }[الفجر: 6-7].

وطبيعي الآن أن نجد آثار السابقين تحت التراب، ولا بُدَّ أن نحفر لنصل إليها؛ لأن عوامل التعرية طمرتها بمرور الزمن، ولمَ لا والواحد منّا لو غاب عن بيته شهراً يعود فيجد التراب يغطي أسطح الأشياء، مع أنه أغلق الأبواب والنوافذ، ولك أن تحسب نسبة التراب هذه على مدى آلاف السنين في أماكن مكشوفة.

وحكَوْا أن الزوابع والعواصف الرملية في رمال الأحقاف مثلاً كانت تغطي قافلة بأكملها، إذن: كيف ننتظر أن تكون آثار هذه القرى باقية على سطح الأرض؟ والآن نشاهد في الطرق الصحراوية مثلاً إذا هبَّتْ عاصفة واحدة فإنها تغطي الطرق بحيث تعوق حركة المرور إلى أنْ تُزَاح عنها هذه الطبقة من الرمال.

إذن: علينا أن نقول: نعم يا رب رأينا مساكنهم ومررنا بها - ولو من خلال الصور الحديثة التي التقطت لهذه القرى { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ... } [العنكبوت: 38] يعني: أغواهم بالكفر، وأقنعهم أنه الأسلوب السليم والأمثل في حركة الحياة { فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ... } [العنكبوت: 38] فما دام قد زيَّن لهم سبيل الشيطان فلا بُدَّ أنْ يصدَّهم عن سبيل الإيمان { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [العنكبوت: 38] يعني: لم نأخذهم على غِرَّة.

لأن المبدأ الذي اختاره الله تعالى لخلقه{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15] رسولاً يُبيِّن لهم وينذرهم، ويحذرهم عاقبة الكفر؛ لذلك لم يأخذهم الله تعالى إلا بعد أنْ أرسل إليهم رسولاً فكذَّبوه.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ... }.

(/3304)

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)

مازالت الآيات تُحدِّثنا عن مواكب الرسالات، لكنها تتكلم عن المكذِّبين عاداً وثمود، وهنا { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ... } [العنكبوت: 39] والدليل على قوله سبحانه في الآية السابقة{ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }[العنكبوت: 38] قوله تعالى هنا { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىا بِالْبَيِّنَاتِ... } [العنكبوت: 39] أي: بالأمور الواضحة التي لا تدع مجالاً للشك في صدْق الحق سبحانه، وفي صِدْق الرسول في البلاغ عن الله.

{ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ... } [العنكبوت: 39] استكبر: يعني افتعل الكِبْر، فلم يقُلْ تكبَّر، إنما استكبر كأنه في ذاته ما كان ينبغي له أنْ يستكبر؛ لأن الذي يتكبّر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه، إنما بشيء موهوب؟ لأنه قد يسلب منه، فكيف يتكبَّر به؟

لذلك نقول للمتكبِّر أنه غفلت عينه عن مَرأْى ربه في آثار خَلْقه، فلو كان ربه في باله لاستحى أنْ يتكبّر.

فالإنسان لو أنه يلحظ كبرياء ربه لَصَغُر في نفسه، ولاستحى أن يتكبَّر، كما أن المتكبر بقوته وعافيته غبي؛ لأنه لم ينظر في حال الضعيف الذي يتعالى عليه، فلربما يفوقه في شيء آخر، أو عنده عبقرية في أمر أهم من الفتوة والقوة، ثم ألم ينظر هذا الفتوة أنها مسألة عرضية، انتقلتْ إليه من غيره، وسوف تنتقل منه إلى غيره.

إذن: فقارون وفرعون وهامان لما جاءهم موسى بآيات الله الواضحات استكبروا في الأرض، وأنفوا أن يتبعوا لا بطبيعتهم وطبيعة وجود ذلك فيهم، إنما افتعالاً لغير حق { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39] فنفى عنهم أن يكونوا سابقين، كما قال سبحانه:{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }[الواقعة: 60].

والسبق لا يُمدح ولا يُذم في ذاته، لكن بنتيجته: إلى أيِّ شيء سبق؟ كما نسمع الآن يقولون: فلان رجعي، والرجعية لا تُذَم في ذاتها، وربما كان الإنسان مُسْرفاً على نفسه، ثم رجع إلى منهج ربه، فنِعمْ هذه الرجعية، فالسبق لا يُذَم لذاته، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... }[آل عمران: 133] أي: سابقوا.

والمعنى هنا { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39] أن هناك مضمارَ سباق، فمن سبق قالوا: أحرز قَصَب السبق، فإنْ كان مضمار السباق هذا في الآخرة أيسبقنا أحد ليفلتَ من أخْذنا له؟ إنهم لن يسبقونا، ولن يُفلِتوا من قبضتنا، ولن يُعجِزوا قدرتنا على إدراكهم.

ويقول الحق سبحانه: { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا... }.

(/3305)

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

الكلام هنا عن المكذِّبين والكافرين الذين سبق ذكرهم: قوم عاد، وثمود، ومدين، وقوم لوط، وقارون، وفرعون، وهامان، فكان من المناسب أنْ يذكر الحق سبحانه تعليقاً يشمل كُلَّ هؤلاء لأنهم طائفة واحدة. فقال: { فَكُلاًّ... } [العنكبوت: 40] أي: كل مَنْ سبق ذكرهم من المكذِّبين فالتنوين في { فَكُلاًّ... } [العنكبوت: 40] عوض عن كل من تقدَّم ذكرهم، كالتنوين في:{ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة: 84] فهو عِوَض عن جملة{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ }[الواقعة: 83].

وقوله سبحانه: { أَخَذْنَا بِذَنبِهِ... } [العنكبوت: 40] والأخذ يناسب قوة الأخذ وقدرته؛ لذلك يقول سبحانه عن أخْذه للمكذِّبين{ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ }[القمر: 42] فالعزيز: الذي يغلب ولا يُغلب، والمقتدر أي: القادر على الأَخْذ، بحيث لا يمتنع منه أحد؛ فهو عزيز.

والأخذ هنا بسبب الذنوب { بِذَنبِهِ... } [العنكبوت: 40] ليس ظلماً ولا جبروتاً ولا جزافاً، إنما جزاءً بذنوبهم وعدلاً؛ ولذلك يأتي في تذييل الآية:

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت: 40].

ثم يُفصِّل الحق سبحانه وتعالى وسائل أَخْذه لهؤلاء المكذبين: { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً... } [العنكبوت: 40] الحاصب: هو الحصَى الصِّغار ترمي لا لتجرح، ولكن يُحْمي عليها لتكون وتلسع حين يرميهم بها الريح، ولم يقُلْ هنا: أرسلنا عليهم ناراً مثلاً؛ لأن النار ربما إنْ أحرقته يموت وينقطع ألمه، لكن رَمْيهم بالحجارة المحمية تلسعهم وتُديم آلامهم، كما نسمعهم يقولون: سأحرقه لكن على نار باردة؛ ذلك ليطيل أمد إيلامه.

ثم يقول سبحانه: { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ... } [العنكبوت: 40] وهو الصوت الشديد الذي تتزلزل منه الأرض، وهم ثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ... } [العنكبوت: 40] أي: قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا... } [العنكبوت: 40] وهم قوم نوح، وفرعون.

هذه وسائل أربعة لإهلاك المكذِّبين، النار في الحصباء، والهواء في الصيحة، والتراب في الخسف، ثم الماء في الإغراق، ورحم الله الفخر الرازي حين قال في هذه الآية أنها جمعت العناصر التي بها وجود الإنسان والعناصر الأساسية أربعة: الماء والنار والتراب والهواء. وكانوا يقولون عنها في الماضي العناصر الأربعة، لكن العلم فرَّق بعد ذلك بين العنصر والمادة.

فالمادة تتحلَّل إلى عناصر، أمّا العناصر فلا يتحلل لأقل منه، فهو عبارة عن ذرات متكررة لا يأتي منها شيء آخر، فالهواء مادة يمكن أنْ نُحلِّله إلى أكسجين و... إلخ وكذلك الماء مادة تتكوَّن من عدة عناصر وذرات إلى أن جاء (مندليف) ووضع جدولاً للعناصر، وجعل لكل منهما رقماً أسماها الأرقام الذرية، فهذا العنصر مثلاً رقم واحد يعني: يتكون من ذرة واحدة، وهذا رقم اثنين يعني يتكون من ذرتين.. إلخ إلى أنْ وصل إلى رقم 93، لكن وجد في وسط هذه الأرقام أرقاماً ناقصة اكتشفها العلماء فيما بعد.

فمثلاً، جاءت مدام كوري، واكتشفت عنصر الراديوم، فوجدوا فعلاً أن رقمه من الأرقام الناقصة في جدول (مندليف)، فوضعوه في موضعه، وهذا يدل على أن الكون مخلوق بعناصر مرتبة وصلت مع التقدم العلمي الآن إلى 105 عناصر.

ولما حلَّل العلماء عناصر التربة المخصبة التي نأكل منها المزروعات وجدوها 16 عنصراً، تبدأ بالأكجسين كأعلى نسبة، وتنتهي بالمنجنيز كأقل نسبة، لأنها لم تصل إلى الواحد من الألف. فلما حلَّلوا عناصر جسم الإنسان وجدوا نفس هذه العناصر الستة عشرة..

وكأن الحق - سبحانه وتعالى - أقام حتى الكفار ليثبتوا الدليل على صِدْقه تعالى في خَلْق الإنسان من طين، لنعلم أن الحق سبحانه حينما يريد أنْ يُظهِر سِرَّاً من أسرار كونه يأتي ربه ولو على أيدي الكفار.

وأول مَنْ قال بالعناصر الأربعة التي يتكون منها الكون فيلسوف اليونان أرسطو الذي توفي سنة 384 قبل الميلاد، وعلى أساس هذه العناصر الأربع كانوا يحسبون النجم، فمثلاً عن الزواج يحسبون نجم الزوج والزوجة حسب هذه العناصر، فوجدوا نجم الزوج هواءً، ونجم الزوجة ناراً، فقالوا (هيجعلوها حريقة)، وفي مرة أخرى وجدوا الزوجة مائية والزوج ترابياً فقالوا (هيعملوها معجنة).

ومعلوم أن الحق سبحانه لطلاقة قدرته وتعالى يجعل عناصر البقاء هي نفسها عناصر الفناء، وهو سبحانه القادر على أنْ يُنجي ويُهلك بالشيء الواحد، كما أهلك فرعون بالماء، وأنجى موسى - عليه السلام - بالماء.

كذلك حين نتأمل هذه العناصر الأربعة نجدها عناصر تكوين الإنسان، حيث خلقه الله من ماء وتراب فكان طيناً، ثم جفَّ بالحرارة حتى صار صلصالاً كالفخار، ثم هو بعد ذلك يتنفس الهواء، فبنفس هذه العناصر التي كان منها الخَلْق يكون بها الهلاك.

والحق - سبحانه وتعالى - يريد من خَلْقه أنْ يُقبلوا على الكون في كل مظاهره وآياته بيقظة ليستنبطوا ما فيه من مواطن العبر والأسرار؛ لذلك نجد أن كل الاكتشافات جاءت، نتيجة دِقَّة الملاحظة لظواهر الكون.

ويلفتنا ربنا إلى أهمية العلم التجريبي، فيقول:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105] فينبغي إذن أن نتأمل فيما نرى وما توصَّل الإنسان إلى عصر البخار وإلى قانون الطَّفْو عند أرشميدس، وما توصل إلى الكهرباء والجاذبية والبنسلين إلا بالتأمل الدقيق لظواهر الأشياء، لذلك فالملاحظة هي أساس كل علم تجريبي أولاً، ثم التجريب ثانياً، ثم إعادة التجريب لتخرج النتيجة العلمية.

والهواء سبب أساسي في حياة الإنسان، وبه يحدث التوازن في الكون، لكن إنْ أراد الحق سبحانه جعله زوبعة أو إعصاراً مدمراً. وسبق أن قلنا: إنك تصبر على الطعام شهراً، وعلى الماء عشرة أيام، لكن لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير، فالهواء إذن أهم سبب من أسباب بقاء الحياة؛ لذلك نسمعهم يقولون في شدة الكيد: (والله لأكتم أنفاسه) لأنها السبيل المباشر إلى الموت؛ لذلك فالهواء عامل أساسي في وسائل الإهلاك المذكورة.

وبالهواء تحفظ الأشياء توازنها، فالجبال العالية والعمارات الشاهقة ما قامت بقوة المسلحات والخرسانات، إنما بتوازن الهواء، بدليل أنك لو فرَّغْتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ في هذا الجانب فوراً.

وبهذه النظرية يحدث الدمار بالقنابل؛ لأنها تعتمد على نظرية تفريع الهواء وما يسمونه مفاعل القبض ومفاعل البسط، فما قامتْ الأشياء من حولك إلا لأن الهواء يحيط بها من كل جهاتها.

وقلنا: إن القرآن الكريم حينما يحدثنا عن الهواء يحدثنا عنه بدقة الخالق الخبير، فكل ريح مفردة جاءت للتدمير والإهلاك، وكل ريح بصيغة الجمع للنماء والخير والإعمار، واقرأ إن شئت قوله تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... }[الحجر: 22].

وقوله سبحانه:{ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6] لأنها ريح واحدة تهبُّ من جهة واحدة فتدمر.

ثم تُختم الآية بهذه الحقيقة: } وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [العنكبوت: 40] لأن الخالق - عز وجل - كرَّم الإنسان{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ... }[الإسراء: 70] كرَّمه من بين جميع المخلوقات بالعقل والاختيار، فإذا نظرتَ في الكون واستقرأتَ أجناس الوجود لوجدتَ الإنسان سيد هذا الكون كله.

فالأجناس في الكون مرتبة: الإنسان ودونه مرتبة الحيوان، ثم النبات، ثم الجماد، فالجماد إذا أخذ ظاهرة من ظواهر فَضْل الحق عليه من النمو يصير نباتاً، وإذا أخذ النبات ظاهرة من ظواهر فيض الحق على الخَلْق فأعطاه مثلاً الإحساس يصير حيواناً، فإذا تجلى عليه الحق سبحانه بفضله وأعطاه نعمة العقل يصير إنساناً.

لكن هل النبات حين يأخذ خاصية النمو فَفُضِّل عن الجماد يخرج عن الجمادية؟ لا إنما تظل فيه الجمادية بدليل أنه إذا امتنع عنه النمو يعود جماداً كالحجر، وكذلك الحيوان أخذ ظاهرة الحسِّ وتميَّز بها عن النبات، لكن تظل فيه النباتية حيث ينمو ويكبر.

والإنسان وهو سيد الكون الذي كرَّمه ربه بالعقل تظل فيه الجمادية بدليل أثر الجاذبية عليه، فإذا ألقى بنفسه من مكان عالٍ لا يستطيع أن يمسك نفسه في الهواء، وكذلك تظل فيه النباتية والحيوانية، ففيه إذن كل خصائص الأجناس الأخرى دونه، ويزيد عليهم العقل.

لذلك لا يكلّفه الله إلا بعد أنْ ينضج عقله ويبلغ، وبشرط أن يسلم من العطب في عقله كالجنون مثلاً، وأن يكون مختاراً فالمكره لا تكليفَ عليه؛ لأنه غير مختار.

والإنسان الذي كرَّمه ربه بالعقل والاختيار، وفضَّله على كل أجناس الوجود لا يليق به أن يخضع أو يعبد إلا أعلى منه درجة، أما أنْ يتدنى فيعبد ما هو أقل منه رتبة، فهذا شيء عجيب لا يليق به، فالعابد لا بُدَّ أنْ يكون أدنى درجةً من المعبود، وأنت بالحكم أعلى درجة مما تحتك من الحيوان والنبات والجماد، فكيف تجعله يتصرف فيك، مع أنه من تصرفاتك أنت حين تُوجِده نَحْتاً، وتقيمه في المكان الذي تريده وإن انكسر تصلحه؟!!

إذن: كرَّمك ربك، وأهنْتَ نفسك، ورضيت لها بالدونية، جعلك سيداً وجعلت نفسك عبداً لأحقر المخلوقات؛ لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي

" يا ابن آدم، خلقتُك من أجلي، وخلقتُ الكون كله من أجلك، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له ".

إذن: } وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ... { [العنكبوت: 40] أي: لا ينبغي لله تعالى أنْ يظلمهم، فساعةَ تسمع ما كان لك أنْ تفعل كذا، فالمعنى أنك تقدر على هذا، لكن لا يصح منك، فالحق سبحانه ينفي الظلم عن نفسه، لا لأنه لا يقدر عليه، إنما لا ينبغي له أنْ يظلم؛ لأن الظلم يعني أن تأخذ حقَّ الغير، والله سبحانه مالك كل شيء، فلماذا يظلم إذن.

ومثال ذلك نَفْي انبغاء قول الشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ.... }[يس: 69] فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يقول شعراً، فلديه كل أدواته، لكن لا ينبغي للرسول أن يكون شاعراً؛ لأنهم كذابون، وفي كل واد يهيمون، ففَرْق بين انبغاء الشيء ووجوده فعلاً.

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] بصيغة المبالغة ظلام، ولم يقل ظالم، لماذا؟ لأن الله تعالى إنْ أباح لنفسه سبحانه الظلم، فسيأتي على قَدْر قوته تعالى، فلا يقال له ظالم إنما ظلاَّم - وتعالى الله عن هذا عُلُواً كبيراً.

ولما تكلمنا عن المبالغة وصيغها قلنا: إن المبالغة قد تكون في الحدث ذاته، كأن تأكل في الوجبة الواحدة رغيفاً، ويأكل غيرك خمسة مثلاً، أو تكون في تكرار الحدث، فأنت تأكل ثلاث وجبات، وغيرك يأكل ستاً، فنقول: فلان آكل، وفلان أَكُول أو أكال، فالمبالغة نشأتْ إما من تضخيم الحدث ذاته، أو من تكراره.

ففي قوله تعالى:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] لم يقل للعبد، إذن: تعدُّد الناس يقتضي تعدُّد الظلم - إن تُصور - فجاء هنا بصيغة المبالغة (ظََلاَّم).

وهناك قضية لغوية في مسألة المبالغة تقول: إن نَفْي المبالغة لا ينفي الأصل، وإثبات الأصل لا يثبت المبالغة، فحين نقول مثلاً: فلان أكول، فهو آكل من باب أَوْلَى، وحين نقول: فلان آكل، فلا يعني هذا أنه أكول. فنَفْي المبالغة في{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] لا ينفي الأصل (ظالم)، وحاشا لله تعالى أن يكون ظالماً.

وقوله تعالى: } وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [العنكبوت: 40] وظلمهم لأنفسهم جاء من تدنّيهم وإهانتهم لأنفسهم بالكفر بعد أنْ كرّمهم الله، وكان عليهم أنْ يُصعِّدوا هذا التكريم، لا أن يُهينوا أنفسهم بعبادة الأدنى منهم.

وبعد أن حدثتنا الآيات عن الكافرين الذين اتخذوا الشركاء مع الله، وعن المكذِّبين للرسل وما كان من عقابهم، تعطينا مثلاً يُقرِّب لنا هذه الحقائق، فيقول سبحانه: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ... {.

(/3306)

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

كلمة (مَثَلُ) وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة، ومادة الميم والثاء واللام جاءت لتعبر عن معنى يجب أنْ نعرفه، فإذا قيل (مِثْل) بسكون الثاء، فمعناها التشبيه، لكن تشبيه مفرد بمفرد.

كما في قوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11] وقوله تعالى:{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40].

أما (مَثَل ) بالفتح، فتعني تشبيه قصة أو متعدّد بمتعدّد، كما في قوله تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ... }[الكهف: 45].

فالحق - سبحانه وتعالى - لا يُشبِّه شيئاً بشيء إنما يُشبه صورة متكاملة بصورة أخرى: فالحياة الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفها وخضرتها ومتاعها، ثم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الأرض، فينبت النبات المزهر الجميل، والذي سرعان ما يتحول إلى حطام.

لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىا عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ... }[آل عمران: 59].

ووجه اعتراضه أن (مَثَل) جاءت تُشبه مفرداً بمفرد، وهو عيسى بآدم عليهما السلام، ونحن نقول: إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول: هذا الاعتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من الآية، فالحق سبحانه لا يُشبِّه عيسى بآدم كأشخاص، إنما يُشبِّه قصة خَلْق آدم بقصة خلق عيسى، فآدم خُلِق من غير أب، وكذلك عيسى خُلِق من غير أب.

والمعنى: إنْ كنتم قد عجبتم من أن عيسى خُلِق بدون أب، فكان ينبغي عليكم أنْ تعجبُوا أكثر من خَلْق آدم؛ لأنه جاء بلا أب وبلا أم، وإذا كنتم اتخذتم عيسى إلهاً؛ لأنه جاء بلا أب، فالقياس إذنْ يقتضي أن تكون الفتنة في آدم لا في عيسى.

والمسألة أن الله تعالى شاء أن يعلن خلْقه عن طلاقة قدرته في أنه لا يخلق بشكل مخصوص، إنما يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم، أو من دون أب، ومن دون أم، ويخلق من أب فقط، أو من أم فقط.

إذن: هذه المسألة لا تخضع للأسباب، إنما لإرادة المسبِّب سبحانه، فإذا أراد قال للشيء: كُنْ فيكون. وقد يجتمع الزوجان، ويكتب عليهما العقم، فلا ينجبان، وقد يصلح الله العقيم فتلد، ويُصلح العجوز فتنجب - والأدلة على ذلك واضحة - إذن: فطلاقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل الصور، بحيث لا يحدها حَدٌّ.

والحق سبحانه حين يضرب لنا الأمثال يريد بذلك أنْ يُبيِّن لنا الشيء الغامض بشيء واضح، والمبهم بشيء بيِّن، والمجمل بشيء مُفصَّل، وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب، حيث استخدموا الأمثال في البيان والتوضيح.

ويُحكَي أن أحدهم، وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس، فحسده آخر، وأراد أنْ يلصق به تهمة تُشوِّه صورته، وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء، وقد رآه الناس فعلاً يذهب إلى بيتها، فتخرج له امرأة فيعطيها شيئاً معه.

ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزاً لها أولاد صغار وهم فقراء، وهذا الرجل يعطف عليهم ويفيض عليهم مما رزقه الله، فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظَّموه، ورفعوا من شأنه، وزاد في نظرهم مجداً وفضلاً.

وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبَّر عنه قائلاً مستخدماً المثل:وإذَا أرادَ الله نَشْر فَضِيلةٍ طُويَتْ أَتاحَ لَها لِسَانَ حَسُودلَوْلا اشْتِعالُ النارِ فيما جاورَتْ مَا كان يعرف طِيب عَرْفِ العٌودِوالعود نوع من البخور، طيب الرائحة، لا تنتشر رائحته إلا حين يُحرَق.

ومن مشتقاتها أيضاً (مَثُلَة) كما في قوله تعالى:{ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ... }[الرعد: 6] وهي العقوبات التي حاقتْ بالأمم المكذِّبة، حتى جعلتها عبرةً لغيرها.

فإذا اشتهر المثَل انتشر على الألسنة، وضربه الناس مثلاً كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود حتى صار مضرب المثل فيه، وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة، فتصير مثلاً يضرب في مناسبها كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام، ثم يجتهد ليلة الامتحان (قبل الرماء تملأ الكنائن) مع الاحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة، وإن لم يكُنْ هناك رمي ولا كنائن.

كما أن المثل يقال كما هو دون تغيير، سواء أكان للمفرد، أم المثنى، أم الجمع المذكر، أو للمؤنث. كذلك نقول (ماذا وراءك يا عصامِ) بالكسر؛ لأنها قيلت في أصل المثَل لامرأة.

يقول الحق سبحانه: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً... { [العنكبوت: 41].

فهذا مثل في قمة العقيدة، ضربه الله لنا للتوضيح وللبيان، ولتقريب المسائل إلى عقولنا، وإياك أن تقول للمثل الذي ضربه الله لك: ماذا أراد الله بهذا؟ لأن الله تعالى قال:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26].

فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه، فكيف يجعله الله مثلاً؟ والتحقيق أن البعوضة خَلْق من خَلْق الله، فيها من العجائب والأسرار ما يدعوك للتأمل والنظر، وليست شيئاً تافهاً كما تظن، بل يكفيك فَخْراً أنْ تصل إلى سِرِّ العظمة فيها.

ففي هذا المخلوق الضئيل كل مُقوِّمات الحياة والإدراك، فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع جهازها الدموي.. إلخ وفضلاً عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات ألا ترى الميكروبات التي لا تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوى بما يؤرقك وينغص عليك.

إذن: لا تقُلْ لماذا يضرب الله الأمثال بهذه الأشياء لأن الله{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] ما فوقها أي: في الصِّغَر والاستدلال. أي: ما دونها صِغَراً؛ لأن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الأكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء الأقلّ حجماً الأكثر دِقَّة.

لو نظرتَ مثلاً إلى ساعة (بج بن) وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم، وعليها يضبط العالم الوقت لوجدتَها شيئاً ضخماً من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد، ويستطيع قراءتها، فدلَّتْ على عظمة الصِّنْعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها، فعظمتها في ضخامتها وفخامتها، فإذا نظرتَ إلى نفس الساعة التي جعلوها في فصِّ الخاتم لوجدتَ فيها أيضاً عظمة ومهارة جاءت من دِقَّة الصنعة في صِغَر الحجم.

كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم (النورج)، والآن أصبح صغيراً في حجم الجيب.

ومن مخلوقات الله ما دق؛ لدرجة أنك لا تستطيع إدراكه بحواسك، والعجيب أن يطلب الإنسان أنْ يرى الله جهرة، وهو لا يستطيع أنْ يرى آثار خَلْقه وصَنْعته. فأنت لا ترى الجن، ولا ترى الميكروب والجراثيم، ولا ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتُك، لا يرى هذه الأشياء ولا يدركها بوسائل الإدراك الأخرى، فمن عظمته تعالى أنه يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار.

نعود إلى المثَل الذي ضربه الله لنا: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ... { [العنكبوت: 41] أي: شركاء وشفعاء } كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ... { [العنكبوت: 41] هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج خيوطه بهذه الدقة التي نراها، والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار.

} اتَّخَذَتْ بَيْتاً... { [العنكبوت: 41] أي: من هذه الخيوط الواهية } وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ... { [العنكبوت: 41] فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت، إنما في اتخاذ هذه الخيوط الواهية بيتاً له وهبّة ريح كافية للإطاحة بها، ويشترط في البيت أن يكون حصيناً يحمي صاحبه، وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط..إلخ. أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسه لكان أنسب، وكذلك الكفار اتخذوا من الأصنام آلهة، ولو اتخذوها دلالة على قدرة الحق في الخَلْق لكان أنسب وأَجدْى.

وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هَبَّة ريح وتُقطعه وأنت مثلاً تنظف بيتك، وربما تقتل العنكبوت نفسه، فكذلك طبْق الأصل يفعل الله بأعمال الكافرين:{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }[الفرقان: 23].

وكذلك يضرب لهم مثلاً آخر:{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ... }[إبراهيم: 18].

ومعنى: } لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ { [العنكبوت: 41] أي: حقيقة الأشياء، فشبكة العنكبوت لا تصلح بيتاً، ولكن تصلح مصيدةً للحشرات، وكذلك الأصنام والأحجار لا تنفع لأنْ تكون آلهة تُعبد، إنما لأنْ تكون دلالة على قدرة الخالق - عز وجل - فلو فكَّروا فيها وفي أسرار خَلْقها لاهتدوا من خلالها للإيمان.

فهي - إذن - دليلُ قدرة لو كانوا يعلمون، فالجبل هذا الصخر الذي تنحتون منه أصنامكم هو أول خادم لكم، ولمن هو أَدْنى منكم من الحيوان والنبات، وسبق أن قلنا: إن الجماد يخدم النبات، ويخدم الحيوان، وهم جميعاً في خدمة الإنسان.

إذن: فالجماد خادم الخدامين، ومع ذلك جعلتموه إلهاً، فانظروا إذن إلى هذه النقلة، وإلى خِسَّة فكركم، وسوء طباعكم حيث جعلتم أدنى الأشياء وأحقرها أعلى الأشياء وأشرفها - أي: في زعمكم.

فكيف وقد ميَّزك الله على كل الأجناس؟ لقد كان ينبغي منك أن تبحث عن شيء أعلى منك يناسب عبادتك له، وساعتها لن تجد إلا الله تتخذه إلهاً.

بل واقرأ إنْ شِئْتَ عن الجماد قوله تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا... }[فصلت: 9-10] أي: في الأرض{ رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }[فصلت: 10].

فكأن الجبال الصَّماء الراسية هي مخازن القوت للناس على مَرِّ الزمان، فمنها تتفتت الصخور، ويتكوَّن الطمي الذي يحمله إلينا الماء في أيام الفيضانات، ومنها تتكون الطبقة المخصبة في السهول والوديان، فتكون مصدر خصْب ونماء دائم ومتجدد لا ينقطع. وتذكرون أيام الفيضان وما كَان يحمله نيل مصر إلينا من خير متجدد كل عام، وكيف أن الماء كان يأتينا أشبه ما يكون بالطحينة من كثرة ما به من الطمي.

فياليت عُبَّاد الأصنام الذين نحتوا الصخور أصناماً تأملوا هذه الآيات الدالة على قدرة الخالق سبحانه بدل أن يعبدوها من دون الله.

وفي موضع آخر يضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في قمة العقيدة أيضاً فيقول سبحانه:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر: 29].

ففَرْق بين عبد مملوك لسيد واحد يتلقَّى منه وحده الأمر والنهي، وبين عبد مملوك لعدة شركاء، وليتهم متفقون، لكن{ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ... }[الزمر: 29] مختلفون لكلٍّ أوامر، ولكلٍّ منهم مطالب، فكيف إذن يُرضيهم؟ وكيف يقوم بحقوقهم وهم يتجاذبونه؟

فالذي يعبد الله وحده لا شريك له كالعبد لسيد واحد، والذين يعبدون الأصنام كالعبد فيه شركاء متشاكسون. إذن: فالحق سبحانه يضرب الأمثال للناس في الحقائق ليُبيِّنها لهم بياناً واضحاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا... {.

(/3307)

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)

يقول سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ... } [العنكبوت: 42] لأنهم حين ضُيِّق عليهم الخناق قالوا: نحن لا نعبد الأصنام، إنما نعبد الكواكب التي تُسيِّر هذه الأصنام أو الملائكة، فردَّ الله عليهم: { مِن شَيْءٍ... } [العنكبوت: 42] للتقليل، كأنَّ ما يدعونه من دونه لا يُعَد شيئاً، أو هو أتفه من أن يكون شيئاً، أو يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء.

أو أن يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء.

أو أن (شيء) من قولنا: شاء يشاء شيئاً، فالشيء ما يُراد من الغير أنْ يفعله، والذي شاء هو الله تعالى، وكأنهم يعبدون الشيء ويتركون خالقه، وهو الأحقُّ بالعبادة سبحانه، فماذا جرى لكم؟! تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، وبعد أن كرمكم الله تهينون أنفسكم، وترضون لها الدون، حيث تعبدون ما هو أقلّ منكم مرتبةَ في الخَلْق، والأصنام جمادات، وهي أدنى أجناس الوجود.

ثم يقول سبحانه: { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [العنكبوت: 42] العزيز الذي يَغْلب، ولا يُغلب، وهو الحكيم في كُلِّ ما قضى وأمر.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا... }.

(/3308)

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

فمَنْ يسمع المثل من الله تعالى ثم لا يعقله فليس بعالم؛ لذلك ليسوا علماء الذين اعترضوا على قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] حيث استقلُّوا البعوضة، ورأوها لا تستحق أنْ تُضرب مثلاً.

ونقول لهم: أنتم لستم عاقلين ولا عالمين بدقة المثل، واقرأوا:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ.... }[الحج: 73] بل وأكثر من ذلك:{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ... }[الحج: 73].

دَعْك من مسألة الخَلْق، وتعالَ إلى أبسط شيء في حركة حياتنا إذا وقع الذباب على طعامك، فأخذ منه شيئاً أتستطيع أن تسترده منه مهما أُوتيتَ من القوة والجبروت؟

إذن: فالذبابة ليست شيئاً تافهاً كما تظنون، بل واقلّ منها الناموس (والميكروب) وغيره مما لا يُرَى بالعين المجردة مخلوقات لله، فيها أسرار تدلُّ على قدرته تعالى.

كما قال سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] أي: ما فوقها في الصِّغَر، ولك أن تتأمل البعوضة، وهي أقلّ حجماً من الذباب، وكيف أن لها خرطوماً دقيقاً ينفذ من الجلد، ويمتصّ الدم الذي لا تستطيع أنت إخراجه إلا بصعوبة، (والميكروب) الذي لا تراه بعينك المجردة ومع ذلك يتسلل إلى الجسم فيمرضه، ويهدّ كيانه، وربما انتهى به إلى الموت.

إذن: ففي هذه المخلوقات الحقيرة في نظرك عبر وآيات، لكن لا يعقلها إلا العالمون، ومعظم هذه الآيات والأسرار اكتشفها غير مؤمنين بالله، فكان منهم مَنْ عقلها فآمن، ومَنْ لم يعقلها فظلَّ على كفره على أنه أَوْلَى الناس بالإيمان بالله؛ لأن لديه من العلم ما يكتشف به أسرار الخالق في الخَلْق. لذلك جاء في الأثر: " العالم الحق هو الذي يعلم مَنْ خلقه، ولِمَ خلقه ".

ثم يقول الحق سبحانه: { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ... }.

(/3309)

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)

أراد الحق سبحانه أن يبرهن لنا على طلاقة قدرته تعالى، فقال: { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ... } [العنكبوت: 44] والخَلْق: إيجاد المعدوم، لكن الغرض مخصوص، ولمهمة يؤديها، فإنْ خلقت شيئاً هكذا كما اتفق دون هدف منه فلا يُعَد خلقاً.

ومسألة الخَلْق هذه هي الوحيدة أقرَّ الكفار بها لله تعالى، فلما سألهم:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[لقمان: 25] فلماذا أقرُّوا بهذه بالذات؟ ولماذا ألجمتهم؟

هذا ليس عجيباً منهم؛ لأننا نشاهد كل مَنْ يأتي بجديد في الكون حريصاً على أنْ ينسبه لنفسه، وعلى أنْ يُبيِّن للناس مجهوداته وخبراته، وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا، كالذي اكتشف الكهرباء أو اخترع (التليفون أو التليفزيون).

ما زِلْنا حتى الآن نذكر أن قانون الطفو لأرشميدس، وقانون الجاذبية لنيوتن، والناس تسجل الآن براءات الاختراع حتى لا يسرق أحد مجهودات أحد، ولتحفظ لأصحاب التفوق العقلي والعبقري ثمرة عبقريتهم.

وكذلك كان العرب قديماً يذكرون لصاحب الفضل فَضلْه، حتى إنهم يقولون: فلان أول مَنْ قال مثلاً: أما بعد. وفلان أول من فعل كذا.

إذن: فنحن نعرف الأوائل في كل المجالات، وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى صاحبه، بل ونُخلِّد ذكراه، ونقيم له تمثالاً.. إلخ.

إذن: فما بالك بالخالق الأعظم سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما ومَنْ فيهما، أليس من حقه أن يعلن عن نفسه؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخَلْق؟ خاصة وأن خَلْق السماوات والأرض لم يدَّعه أحد لنفسه، ولم ينازع الحق فيه منازع، ثم جاءنا رسول من عند الله تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة، فلم يوجد معارض لها، والقضية تثبُت لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض.

وقد مثَّلنا لهذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس، فلما انفضَّ جمعهم وجد صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم، فسألهم: لمن هذه المحفظة؟ فقالوا جميعاً: ليست لي إلا واحد منهم قال: هي محفظتي، فهل يشكُّ صاحب البيت أنها لمن ادَّعاها؟

ولك أنْ تسأل: ما دام الحق سألهم{ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ... }[لقمان: 25] فقالوا (الله) فلماذا يذكر الله هذه القضية؟ قالوا: الحق - تبارك وتعالى - لا يريد بهذه الآية أن يخبرنا أنه خالق السماوات والأرض، إنما يريد أن يخبرنا أن خَلْق السماوات والأرض بالحق، والحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود، فإذا نظرنا إلى خَلْق السماوات والأرض لوجدناه ثابتاً لم يتغير شيء فيه.

لذلك يقول سبحانه:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. }[غافر: 57].

فالسماوات والأرض خَلْق هائل عظيم، بحيث لو قارنته بخَلْق الإنسان لكان خَلْق الإنسان أهون. وانظر مثلاً في عمر السماوات والأرض وفي عمر الإنسان: أطول أعمار البشر التي نعلمها حتى الآن عمر نوح عليه السلام، وبعد هذا العمر الذي نراه طويلاً انتهى إلى الموت، فعمر الإنسان معلوم يكون سنة واحدة، أو ألف سنة لكن لا بُدَّ أن يموت.

أما السماوات والأرض وما فيها من مخلوقات إنما خُلقت لخدمة الإنسان، فالخادم عمره أطول من المخدوم، فالشمس مثلاً خلقها الله تعالى من ملايين السنين، ومازالت كما هي لم تتغير، ولم تتخلف عن مهمتها، وكذلك القمر:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5].

أي: بحساب دقيق؛ لذلك يقولون: سيحدث كسوف مثلاً أو خسوف يوم كذا الساعة كذا، وفي نفس الوقت يحدث فعلاً كسوف للشمس أو خسوف للقمر مما يدلّ على أنهما خُلِقا بحساب بديع دقيق، ويكفي أننا نضبط على الشمس مثلاً ساعاتنا، ومع ما عُرِف عن الشمس والقمر، من كِبَر حجمهما، فإنهما يسيران في مسارات وأفلاك دون صدام، كما قال تعالى:{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[الأنبياء: 33].

هذا كله من معنى خَلْق السماوات والأرض بالحق. أي: بنظام ثابت دقيق منضبط لا يتغير ولا يتخلف في كُلِّ مظاهره، فأنت أيها الإنسان يمكن أنْ تتغير؛ لأن الله جعل لك اختياراً فتستطيع أن تطيع أو أن تعصي، تؤمن أو والعياذ بالله تكفر، لكن خَلْق السماوات والأرض جاء على هيئة القهر والتسخير، وإن كانت مختارة بالقانون العام والاختيار الأول، حيث قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].

إذن: خُيِّرت فاختارت ألاَّ تختار، وخرجت عن مرادها لمراد ربها.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ { [العنكبوت: 44] لماذا قال (للمؤمنين) مع أنها آية للناس جميعاً؟ وسبق أنْ خاطب الله الكافرين{ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ... }[لقمان: 25] فلماذا خصَّ هنا المؤمنين دون الكافرين؟

قالوا: هناك فَرْق بين خَلْق السماوات والأرض، وبين كَوْنها مخلوقة بالحق، فالجميع يؤمن بأنها مخلوقة، لكن المؤمنين فقط هم الذين يعرفون أنها مخلوقة بالحق.

يقول الحق سبحانه: } اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ... {.

(/3310)

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

بعد أن ذكر الله تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط وفي شعيب، ثم تكلَّم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلاء الرسل{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ... }[العنكبوت: 40] أراد سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يزعجه، ولا يرهقه، أو يتعب نفسه موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل الله، ويقفون من الدعوة موقف العداء.

فقال له مُسلِّياً: { اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ... } [العنكبوت: 45] يعني: لِمَ تحزن يا محمد ومعك الأُنْس كله، الأُنْس الذي لا ينقضي، وهو كتاب الله ومعجزته التي أنزلها إليك، فاشتغل به، فمع كل تلاوة له ستجد سكناً إلى ربك.

وإذا كان هؤلاء الذين عاصروك لم يؤمنوا به، ولم يلتفتوا إلى مواطن الإعجاز فيه فداوم أنت على تلاوته عَلَّ الله يأتي من هؤلاء بذرية تصفو قلوبهم لاستقبال إرسال السماء، فيؤمنون بما جحده هؤلاء، والأمر بالتلاوة لبقاء المعجزة.

{ اتْلُ... } [العنكبوت: 45] اقرأ ولا تعجز ولا تيأس، فالقرآن سلوة لنفسك؛ لأن الذي يرسل رسولاً من البشر بشيء أو في أمر من الأمور، ثم يكذب يرجع إلى مَنْ أرسله، فما دام قومك قد كذَّبوك، فارجع إليَّ بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلتُه معجزة لك تؤيدك، وانتظر قوماً يأتون يسمعون منك كلام الله، فيصادف منهم قلوباً صافية، فيؤمنون به.

وفَرْق بين الفاعل والقابل، والقرآن يُوضِّح هذه المسألة، فمن الناس مَنْ إذا سمعوا القرآن تخشع له قلوبهم، وتقشعر جلودهم، ومنهم مَنْ إذا سمعوه قالوا على سبيل الاستهزاء{ مَاذَا قَالَ آنِفاً... }[محمد: 16] تهويناً من شأن القرآن، ومن شأن رسول الله.

ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى... }[فصلت: 44].

إذن: فالقرآن واحد، لكن المستقبل للقرآن مختلف، فالعبرة في صفاء الاستقبال لأن الإرسال واحد، وهل تتهم الإذاعة إنْ كان جهار (الراديو) عندك معطلاً، لا يستقبل إرسالها؟

كذلك مَنْ أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أنْ يُعِد الأذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش بما يخالف إرسال السماء، عليك أنْ تُخرِج ما في نفسك أولاً من أضداد للقرآن، ثم تستقبل كلام الله وتنفعل به.

وسبق أنْ مثَّلْنا لاختلاف المنفعل للفعل بمَنْ ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة، وبمَنْ ينفخ بنفَسه في الشاي مثلاً ليبرده، فهذه للحرارة، وهذه للبرودة، الفعل واحد، لكن المنفعل مختلف.

فقوله تعالى: { اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ... } [العنكبوت: 45] هذه هي مَيْزة معجزتك يا محمد أنك تستطيع أنْ تكرِّرها في كل وقت، وأن تتلوها كما تشاء، وأن يتلوها بعدك مَنْ سمعها، وستظل تتردد إلى يوم القيامة.

أما معجزات الرسل السابقين فكانت خاصة بمَنْ شاهد المعجزة، فإذا مات مَنْ شهدها فلا يعرفها أحد بعدهم حتى لو كان معاصراً لها ولم يَرَهَا، فالذين عاصروا مثلاً انقلاب عصا موسى حية ولم يشاهدوا هذا الموقف، ماذا عندهم من هذه المعجزة؟ لا شيء إلا أننا نُصدِّقها ونؤمن بها؛ لأن القرآن أخبرنا بها.

إذن: فمعجزات السابقين تأتي كلقطة واحدة أشبه ما تكون بعود الكبريت الذي يشتعل مرة واحدة، رآها مَنْ رآها وتنتهي المسألة، ولكن القرآن حدثنا بكل معجزات الرسل السابقين فانظر إذن ما أصاب الرسل جميعاً من خيرات سيدنا رسول الله، وكيف خَلَّد القرآن ذكرهم، وامتدت معجزاتهم بامتداد معجزته.

فكأن القرآن أسدى الجميل إلى كل الرسل، وإلى كل المعجزات؛ لذلك قال تعالى عن القرآن:{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... }[المائدة: 48].

ثم يقول سبحانه: } وَأَقِمِ الصَّلاَةَ... { [العنكبوت: 45] وملعوم أن اتْلُ: التلاوة قَوْل من فعل اللسان و } وَأَقِمِ... { [العنكبوت: 45] من فعل الجوارح، والإنسان له جوارح متعددة اشتهر منها خمس هي: العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للتذوق، والأنامل للَّمس.

فقالوا على سبيل الاحتياط: الجوارح الخمسة الظاهرة وقد ظهر فعلاً مع تقدُّم العلوم اكتشفوا في الإنسان حواسَّ أخرى ووسائلَ إدراك لم تُعرف من قبل، كحاسة العضل التي تزن بها ثقل الأشياء، وإلا فبأيِّ حاسة من حواسِّك الخمسة تعرف الثقل قبل أن ترفع الشيء من على الأرض؟

وكحاسة البَيْن، والتي بها تستطيع أنْ تُميِّز بين سُمْك الأشياء بين أناملك، فحين تذهب مثلاً إلى تاجر الأقمشة، فتتناول القماش بين أناملك و (تفركه) برفق، فتستطيع أن تعرف أن هذا أَسْمَك من هذا.

ومن عجيب الأمر في مسألة الجوارح أن يأخذ اللسان شطر الجوارح كلها، ففعل الحواس الخمسة يسمى عملاً، والعمل ينقسم: إما قول، وإما فعل. فكل تحريك لجارحة لتؤدي مهمة يسمى عملاً، لكن عمل اللسان يسمى قولاً، أما من بقية الجوارح فيسمى فعلاً.

فأخذ اللسان هذه المكانة؛ لأن به الإنذار من الحق، وبه التبشير، وبه البلاغ من الرسول؛ لذلك يقول الحق سبحانه:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2].

ولم يقل: ما لا تعملون. لأن القول يقابله الفعل، وهُما معاً عمل، والعمل بنية القلب.

لكن، لماذا اختار الصلاة من بين أعمال الجوارح؟ قالوا: لأنها قمة العمل كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلاة عماد الدين " وبها نُفرِّق بين المؤمن والكافر. ويبقى السؤال: لماذا أخذتْ الصلاة هذه المكانة من بين أركان الإسلام؟

ونحب أنْ نشير هنا إلى أن خصوم الإسلام وبعض أهله الذين يخافون من بعثه أنْ يقضي على سلطتهم وطُغْيانهم وجبروتهم يريدون حَصْر الإسلام في أركانه الخمسة، فإنْ قُلْت بهذه المقولة لا يتعرضون لك، وأنت حر في إطار أركان الإسلام هذه، لكن إياك أن تقول: إن الإسلام جاء ليُنظِّم حركة الحياة؛ لأن حظهم في حَصْر الإسلام في أركانه فقط.

وما فَهم هؤلاء أن الأركان ليست هي كل الإسلام، إنما هي أسُسه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه، لكنهم يريدون أنْ يعزلوا الإسلام عن حركة الحياة. فنقول لهم: نعم، هذه أركان الإسلام، أمَّا الإسلام فيشمل كل شيء في حياتنا، بداية من قمة العقيدة في قولنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى إماطة الأذى عن الطريق؛ لأن الإسلام دين يستوعب كل أقضية الحياة، كيف لا وهو يُعلِّمنا أبسط الأشياء في حياتنا.

ألاَ تراه يهتم بأحكام قضاء الحاجة ودخول الخلاء، وما يتعلق به من آداب وأحكام؟ أَلاَ ترى أن صاحب الحِسْبة المكلَّف بمراقبة الأسواق، وتنفيذ أحكام منهج الله في الأرض إذا رأى جزاراً ينفخ ذبيحته بفمه يقوم بإعدام هذه الذبيحة؛ لأن الهواء المستخدم في نفخها هواء غير صحي، فهو زفير مُحمَّل بثاني أكسيد الكربون، وقد يحمل غازات أخرى ضارة لا بُدَّ أنْ تنتقل إلى لحم الذبيحة؟

كما أن من مهمته أن يمر بالحلاقين، ويتفقد مدى نظافتهم وسلامتهم من الأمراض، وإذا اشتم من أحدهم رائحة ثوم أو بصل مثلاً أمره بإغلاق محله، وعدم العمل في هذا اليوم حتى لا يتأذى الناس برائحته.

فأيُّ شرع هذا الذي يحافظ على سلامة الناس ومشاعرهم إلى هذا الحدِّ؟ إنه دين الله ومنهجه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة في حركة الحياة إلا ووضع لها أحكاماً وآداباً. أمِثْل هذا الشرع يُعزل عن حركة الحياة ويُقيّد وينحصر في مسائل العبادات وحدها؟

إنك حين تنظر إلى متاعب العالم المتخلف الآن - دَعْك من العالم المتقدم - ستجد أن متاعبه اقتصادية، ولو تقصيْتَ الأسباب لوجدتها تعود إلى التخلي عن منهج الله وتعطيل أحكامه، ووالله لو أنهم أخذوا في أزمتهم الاقتصادية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع ".

لو عملوا بهذا وتأدَّبوا بأدب رسولهم لخرجوا من هذه الأزمة، وتقلَّبوا في رَغَد من العيش، إنك لو تحليْتَ بهذا الأدب في مسألة الطعام والشراب لكفتْك اللقمة واللقمتان، وأشهى الطعام ما كان بعد جوع مهما كان بسيطاً.

أما الآن، فنرى الناس يلجئون إلى المشهِّيات قبل الطعام، وإلى المهضِمات بعده، لماذا؟ لأنهم خالفوا هَدْي رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهم يأكلون على شِبَع، ويأكلون بعد الشِّبَع.

والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ... }[الأعراف: 31] وأُثِر عن العرب الذين عاشوا في شظف من العيش: نِعمْ الإدام الجوع. نعم إنه (الغموس) الحقيقي، والمشهِّي الأول.

نعود إلى مكانة الصلاة بين العبادات، ولماذا كانت هي عماد الدين، ومعنى: " الصلاة عماد الدين " و " بُنِي الإسلام على خمس "

أن الدين أشياء أخرى، وهذه هي أُسُسه وقواعده، وحين نتتبع هذه القواعد نجد أن الركن الأول، وهو أشهد ألاّ إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله يمكن أن أقولها ولو مرة واحدة، أما الزكاة فلا تجب مثلاً على الفقير فلا يزكي، وكذلك المريض لا يصوم، والمسافر والحائض.. إلخ، وكذلك الحج غير واجب إلا على المستطيع.

إذن: ما هو الركن الثابت الذي يلازم كل مسلم، ولا يسقط عنه بحال؟ إنها الصلاة؛ لذلك أخذتْ مساحة كبيرة من الوقت على مدى اليوم والليلة، وبها يكون إعلان الولاء الدائم لله تعالى، وبها تفرق بين المؤمن وغير المؤمن، فإنْ رأيتَ شخصاً مثلاً لا يصوم أو لا يزكي أو لا يحج، فلك أنْ تقول ربما يكون من أصحاب الأعذار، ومن غير القادرين، لكن حين ترى شخصاً لا يُصلِّي، وقد تكرَّر منه ذلك فإنك لا بُدَّ شاكّ في إسلامه.

لذلك استحقت الصلاة هذه المكانة بين سائر العبادات منذ بدايات التشريع، ألا ترى أن كل فرائض الدين شُرعت بالوحي إلا الصلاة، فقد شُرعت بالخطاب المباشر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج.

وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى، برئيس العمل الذي يُصدر أوامره بوسائل مختلفة حَسْب أهمية المأمور به، فقد يكتفي بأن (يُؤشر) على ورقة، وقد يُوصي بها، أو يطلب الموظف المختص فيُحدِّثه (بالتليفون)، فإنْ كان الأمر هاماً استدعاه شرطياً إلى مكتبه وكلَّفه بما يريد.

وكان هذا الاستدعاء تشريفاً لسيدنا رسول الله بقرب المرسل من المرسل، فأراد الحق - سبحانه وتعالى - ألاَّ يحرم أمه محمد فضل أسبغه على محمد فكأنه قال: مَنْ أراد من عبادي أنْ يقرب من كما قرب محمد فكان قاب قوسين أو أدنى فليُصلِّ.

ومعنى } وَأَقِمِ الصَّلاَةَ... { [العنكبوت: 45] إقامة الشيء: أداؤه على الوجه الأكمل الذي يؤدي غايته، فالصلاة المطلوبة هي الصلاة المستوفاة الشروط والتي تقيمها كما يريدها مُشرِّعها } إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ... { [العنكبوت: 45].

والصلاة إذا استوفتْ شروطها نهتْ صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإذا رأيتَ صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فاعلم أنها ناقصة عما أراده الله لإقامتها، وعلى قَدْر النقص تكون ثمرة الصلاة في سلوك صاحبها، وكأن وقوعك في بعض الفحشاء وفي بعض المنكر يُعَدُّ مؤشراً دقيقاً لمدى إتقانك لصلاتك وحرصك على تمامها وإقامتها.

ومعنى } إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ... { [العنكبوت: 45] واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: " يا رسول الله، إن فلاناً يصلي، لكن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فقال: " دعوه، فإن صلاته تنهاه " ".

فالمعنى هنا أن الأمر ليس أمراً كونياً ثابتاً لا يتخلف، بل هو أمر تشريعي عُرْضة لأنْ يُطاع، وعُرْضة لأنْ يُعصى، فلو كان الأمر كونياً ما جرؤ صاحب صلاة عل الفحشاء والمنكر، ومثال ذلك أن أقول مثلاً لأولادي قبل أن أموت: يا أولادي، هذا بيت يكرم مَنْ يدخله.

كلام على سبيل الخبر ولم أقل: أكرموا مَنْ يدخله، فالذي يحترم وصيتي منهم يكرم مَنْ يدخل بيتي من بعدي، والذي لا يحترم الوصية لا يُكرم مَنْ يدخله. أما لو قلت: أكرموا مَنْ يدخل هذا البيت فقد ألزمتَ الجميع بالإكرام.

وأوضح من هذا قوله تعالى في شأن المسجد الحرام:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97] فلما حدث أن اقتحمه بعض أصحاب الأهواء، وأطلقوا النار في ساحاته، وقتلوا فيه الآمنين قامتْ ضجة كبيرة تُشكِّك في هذه الآية: كيف يحدث هذا والله يقول{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97] فأقاموا هذه الأحداث دليلاً على كذب الآية والعياذ بالله.

وهذا المسلك منهم يأتي عن عدم فهم لمعنى الأمر الكوني والأمر التشريعي، فقوله تعالى:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97]أمر تشريعي قابلٌ لأنْ يُطاع، ولأنْ يٌعصي، كأن الحق - سبحانه وتعالى - قال: أمِّنُوا مَنْ دخل البيت، فبعض الناس امتثل للأمر، فأمَّن مَنْ في البيت الحرام، وبعضهم عصى فروَّع الناس، وقتلهم في ساحته، ولو كان أمراً كونياً ما تخلَّف أبداً كما لو تتخلف الشمس مثلاً يوماً من الأيام.

وكذلك الأمر في } إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ... { [العنكبوت: 45] فالصلاة تشريع من الله، فإذا كان الله تعالى هو المشرِّع، وقال:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىا وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر... }[النحل: 90] يعني: لا يوجد معها فحشاء ولا منكر، وهذا أيضاً صحيح؛ لأنني حين أدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام فإن هذه التكبيرة تحرم عليَّ كل ما كان حلالاً لي قبل الصلاة، ففي الصلاة مثلاً لا آكل ولا أشرب ولا أتحرك، مع أن هذه المسائل كانت حلالاً قبل الصلاة، فما بالك بما كان حراماً عليك أصلاً قبل الصلاة؟ إذن: فهو حرام من باب أَوْلَى.

فالصلاة بهذا المعنى تمنعك من الفحشاء والمنكر في وقتها؛ لأن تكبيرة الإحرام (الله أكبر) تعني أن الله أكبر من كل شيء في الوجود حتى من شهوات النفس ونزواتها، وإلاَّ فكيف تقيم نفسك بين يدي ربك، ثم تخالف منهجه؟ فالصلاة بهذا المعنى تنهى على حقيقتها عن الفحشاء والمنكر.

ومعنى (الفَحْشَاء) كل ما يُسْتفحش من الأقوال والأفعال (والمنكَر) كل شيء يُنكره الطبع السليم } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ... { [العنكبوت: 45] ذكر: مصدر، والمصدر يُضاف للفاعل مثل: أعجبني ضَرْب الأمير لزيد، ويُضاف للمفعول مثل: أعجبني ضرَبْ زيد من الأمير، فحين تقول ذكر الله يصح أن يكون المعنى: ذِكْر صادر من الله، أو ذِكْر صادر من العبد لله.

فإنْ قلتَ: ذِكْر صادر من الله، أي للمصلِّي، فحين يصلي الإنسان، ويذكر الله بالكبرياء في قوله الله أكبر ويُنزِّهه بقول سبحان الله، ويسجد له سبحانه ويخضع، فقد فعلتَ إذن فِعْلاً ذكرتَ الله فيه ذِكْراً بالقول والفعل، والله تعالى يجازيك بذكرك له بأن يذكرك، فالذكر ذكر من الله لمن ذكره في صلاته.

ولا شكَّ أن ذكر الله لك أكبر، وأعظم من ذِكْرك له سبحانه؛ لأنك ذكرتَ الله منذ بلوغك إلى أن تموت، أما هو سبحانه فسيعطيك بذكرك له منازل عالية لا نهايةَ لها في يوم لا تموت فيه ولا تنقطع عنك نِعَمه وآلاؤه، فالمعنى: ولذِكر الله لك بالثواب والرحمة أكبر من ذِكْركَ له بالطاعة. هذا على معنى أن الذكر صادر من الله للعبد.

المعنى الآخر أن يكون الذكْر صادراً من العبد لله، يعني: ولذكْر الله خارج الصلاة أكبر من ذِكْر الله في الصلاة، كيف؟ قالوا: لأنك في الصلاة تُعِد نفسك لها بالوضوء، وتتهيأ لها لتكون في حضرة ربك بعد تكبيرة الإحرام، فإذا ما انتهتْ الصلاة وخرجتَ منها إلى حركة الحياة فذِكْرك لله وأنت بعيد عن حضرته وأنت مشغول بحركة حياتك أعظم وأكبر من ذِكْرك في الحضرة.

ومثال ذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - مَنْ يمدح الأمير ويُثني عليه في حضرته، ومَنْ يمدحه في غيبته، فأيُّهما أحلى، وأيُّهما أبلغ وأصدق في الذكْر؟

واقرأ في ذلك قوله تعالى عن صلاة الجمعة:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ... }[الجمعة: 9].

يعني: ذِكْر الله في الصلاة، ولا تظنوا أن الذكْر قاصر على الصلاة فقد إنما:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة: 10] فيجب ألاَّ يغيب ذِكْر الله عن بالك أبداً؛ لأن ذِكْرك لربك خارج الصلاة أكبر من ذِكْرك له سبحانه في الصلاة.

ورُوِي عن عطاء بن السائب أن ابن عباس سأل عبد الله بن ربيعة: ما تقول في قوله تعالى: } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ... { [العنكبوت: 45]؟ فقال: قراءة القرآن حَسَن، والصلاة حسن، وتسبيح الله حسن، وتحميده حسن، وتكبيره حسن, التهليل له حسن. لكن أحسن من ذلك أن يكون ذِكْر الله عند طروق المعصية على الإنسان، فيذكر ربه، فيمتنع عن معصيته.

فماذا قال ابن عباس - مع أن هذا القول مخالف لقوله في الآية -؟ قال: عجيب والله، فأعجب بقول ابن ربيعة، وبارك فهمه للآية، ولم ينكر عليه اجتهاده؛ لأن الإنسانَ طبيعي أن يذكر الله في حال الطاعة، فهو متهيئ للذكْر، أما أنْ يذكره حال المعصية فيرتدع عنها، فهذا أقْوى وأبلغ، وهذا أكبر كما قال سبحانه } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ... { [العنكبوت: 45].

لذلك جاء في الحديث الشريف: " سبعة يظلهم الله في ظِلِّه، يوم لا ظِلَّ إلا ظله - ومنهم: ورجل دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله "

هذا هو ذِكْر الله الأكبر؛ لأن الدواعي دواعي معصية، فيحتاج الأمر إلى مجاهدة تُحوِّل المعصية إلى طاعة.

أما قول ابن عباس في } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. { [العنكبوت: 45] أن ذِكْر ربكم لكم بالثواب والرحمة أكبر من ذِكْركم له بالطاعة. وحيثيات هذا القول أن ربك - عز وجل - لم يُكلِّفك إلا بعد سِنِّ البلوغ، وتركك تربَع في نعمه خمسة عشر عاماً دون أنْ يُكلفك، ثم يُوالي عليك نِعَمه، ولا يقطع عنك مدده حتى لو انصرفتَ عن منهجه، بل حتى لو كفرتَ به لا يقبض عنك يد عطائه ونعمه.

إذن: فذِكْر الله لك بالخَلْق من عدم، والإمداد من عُدم، وموالاة نِعَمه عليك أكبر من ذِكْرك له بالطاعة، وقد ذكرك سبحانه قبل أنْ يُكلِّفك أَن تذكره. كما أن ذكركم له سبحانه بالطاعة في الدنيا موقوت، أما ذِكْره لكم بالثواب والجزاء والرحمة في الآخرة فممتد لا ينقطع أبداً.

ثم تختم الآية بقوله سبحانه: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ { [العنكبوت: 45] هذه الكلمة نأخذها على أنها بشارة للمؤمن، ونذارة للكافر، كما تقول للتلاميذ يوم الامتحان: سينجح المجتهد منكم، فهي بشارة للمجتهد، وإنذار للمهِمل، فالجملة واحدة، والإنسان هو الذي يضع نفسه في أيهما يشاء.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ... {.

(/3311)

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

الحق - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا كيف نجادل أهل الكتاب، وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في القرآن الكريم نقول: ما معنى الجدل؟

الجدل: مأخوذ من الجَدْل، وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان ليناً كما نفتل حبالنا في الريف، فالقطن أو الصوف مثلاً يكون منتفشاً يأخذ حيزاً واسعاً، فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطاً جمعنا بعض الشعيرات ليُقوِّي بعضها بعضاً بلفِّها حول بعضها، وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى، وعلى قَدْر الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته.

ومن الجدل أُخِذ الجدال والجدَل والمجادلة، وفي معناها: الحوار والحجاج والمناظرة، ومعناه أن يوجد فريقان لكل منها مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الآخر أي: ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو.

فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو الحِجَاج أو المناظرة فهذا الاسم يكفي، لكن إنْ دخل الجدال إلى مِراءٍ أو لجاجة، فليس القصد هو الحق، إنما أنْ يتغلَّب أحد الفريقين على الآخر، والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة، منها قوله تعالى:{ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ.. }[المؤمنون: 75].

لكن إذا فَتَلْنا الشيء المنفوش حتى صار مُضْمراً، وأخذ من الضمر قوة، أأنت تجعل في الجدل خَصْمك قوياً؟ إنك تحاول أنْ تُقوِّي نفسك في مواجهته. قالوا: حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية الحق، فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه، وكأنه كان منتفشاً آخذاً حيِّزاً أكبر من حجمه بالباطل الذي كان عليه، فأنا قوّيته بالحق. وفي العامية نقول (فلان منفوخ على الفاضي) أو نقول (فلان نافش ريشه) كأنه أخذ حيزاً أكبر من حجمه.

لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل لا يكون لمجرد الجدل، إنما تغلُّبك لحق ينفع الغير ويُقويه ويردّه إلى حجمه الطبيعي.

أو: أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الأرض، كأن يطرح القوي الضعيف أرضاً في صراع مثلاً.

والجدال يكون بين شخصين، لكل منهما رأيه الذي يألفه ويحبه ويقتنع به، فحين تجادله تريد أنْ تُخرِجه عن رأيه الذي يألف إلى رأيك الذي لا يألفه ولم يعتده، فأنت تجمع عليه أمرين: أنْ تُخرجه عما أَلف واعتاد إلى ما لم يألف، فلا يكُنْ ذلك بأسلوب يكرهه حتى لا تجمع عليه شدتين.

فعليك إذن باللين والاستمالة برفق؛ لأن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه الله: فلا تجعله جبلاً، ولا ترسله جَدَلاً، وعادة ما يُظهِر الناصح أنه أفضل من المنصوح. ويقولون: الحقائق مرة، فاستعيروا لها خِفَّة البيان؛ لأنك تُخِرج خَصْمك عما أَلِف، فلا تخرجه عما ألف بما يكره، بل بما يحب.

والإنسان قج يُعبِّر عن الحقيقة الواحدة تعبيراً يُكره، ويُعبِّر عنها تعبيراً يُحب وترتاح إليه، كالملك الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطتْ، فطلب مَنْ يُعبِّر له ما رأى، فجاءه المعبِّر واستمع منه، ثم قال: معنى هذه الرؤيا يا مولاي أن أهلك جميعاً سيموتون، فتشاءم من هذا التعبير ولم يُعجبه، فأرسلوا إلى آخر فقال: هذا يعني أنك ستكون أطولَ أهل بيتك عُمراً، فَسُرَّ الملك بقوله.

فهنا المعنى واحد، لكن أسلوب العرض مختلف.

ودخل رجل على آخر، فوجده يبكي فقال: ما يُبكيك؟ قال: أخذْتُ ظلماً، فتعجب وقال: فكيف بك إذا أُخِذْتَ عدلاً؟ أكنت تضحك. والمعنى أن مَنْ أُخذ ظلماً لا ينبغي له أن يحزن؛ لأنه لم يفعل شيئاً يشينه، والأَوْلَى بالبكاء من أُخذ عدلاً وبحقٍّ.

ورجل قُتِل له عزيز فجلس يصرح ويولول، فدخل عليه صاحبه مُواسياً فقال له الرجل: إن ابني قُتِل ظلماً، فقال صاحبه: الحمد لله الذي جعل منك المقتول، ولم يجعل منك القاتل.

إذن: سلامة المنطق وخِفَّة البيان أمر مهم، وعلى المجادل أن يراعي بيانه، وأن يتحين الفرصة المناسبة، فلا تجادل خصمك وهو غضبان منك أو وأنت غضبان منه. قالوا: مَرَّ رجل فوجد صبياً يغرق في البحر، فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه، وألقى بنفسه وأنقذ الصبي، ثم أخذ يضربه ويلطمه، والولد يقول: شكراً لك بارك الله فيك، لماذا؟ لأنه قسا عليه بعد أنْ أنقذه، لكن ما الحال لو وقف على البَرِّ، وكال له الشتائم وعنَّفه، لماذا ينزل البحر وهو لا يعرف العوم؟ لذلك يقول الحكماء: آسِ ثم أنصح.

لذلك يُعلِّمنا ربنا - عز وجل - أصول الجدل وآدابه؛ لأنه يريد أن يُخرِج بهذا الجدل أناساً من الكفر إلى الإيمان، ومن الجحود إلى اليقين، وهذا لا يتأتّى إلا باللطف واللين، كما قال سبحانه:{ ادْعُ إِلَىا سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[النحل: 125].

ويُعلِّمنا سبحانه أن للجدل مراتبَ بحسب حالة الخَصم، فالذي ينكر وجود الله له جدل مخصوص، والذي يؤمن بوجود الله ويقول: إن معه شريكاً. له جدل آخر، ومَنْ يؤمن بالله ويقول سأتبع نبيِّ ولن أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص، والمختلفون معك من أهل مِلَّتك لهم جدل يليق بحالهم.

إذن: للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن، فبم جادل الذين لا يؤمنون بوجود إله؟ قال:{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ }[الطور: 35 - 36].

فأتى لهم بمسألة الخَلْق الظاهرة التي لم يدَّعها أحد، ولا يجرؤ أحد على إنكارها، حتى المشركون والملاحدة؛ لأن أتفه الأشياء في صناعاتهم يعرفون صانعها، ويُقرُّون له بصنعته، ولو كانت كوباً من زجاج أو حتى قلم رصاص، لا بُدَّ أن لكل صنعة صانعاً يناسبها.

أليس مَنْ خلق السماوات والأرض والشمس والقمر.. إلخ أَوْلَى بأن يعترفوا له سبحانه بالخَلْق؟ وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنَّا خلقنا أنفسنا، ولم يقولوا خلقنا غيرنا، فمَنْ خلقهم إذن؟

وقلنا: إن الدَّعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُم لها معارض، والحق - سبحانه وتعالى - قال علانية، وعلى لسان رسله، وفي قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة، وأسمع الجميع: أنا خالق هذا الكون.

فإنْ قال معاند: فَمَنْ خلق الله؟ نقول: الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه.

والحق سبحانه شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... }[آل عمران: 18] ولم يقُلْ أحد أنا الإله. إذن: الذين ينكرون الخالق لا حَقَّ لهم. هذا في جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الله.

أما الذين يؤمنون بوجود الله، لكن يتخذون معه سبحانه شركاء، فنجادلهم على النحو التالي: شركاؤكم مع الله غَيْب أم شهادة؟ إنْ قالوا: غَيْب فإن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية. وقال: أنا واحد لا شريك لي، فأين كان شركاؤكم؟

لماذا لم يدافعوا عن ألوهيتهم مع الله؟ إما لأنهم ما دروا بهذا الإعلان، وإما أنهم دَرَوا وعجزوا عن المواجهة، وفي كلتا الحالتين تنفي عنهم صفة الألوهية، فأيُّ إله هذا الذي لا يدري بما يدور حوله، أو يجبن عن مواجهة خَصْمه؟

فإنْ قالوا: شركاؤنا الأصنام والأشجار والكواكب وغيرها، فهذه من صُنْع أيديهم، فكيف يعبدونها، ثم هي آلهة لا منهجَ لها ولا تكاليفَ، وإلا فبماذا أمرتهم وعَمَّ نهتْهم؟ إذن: عبادتهم لها باطلة.

ثم نسأل الذين يتخذون مع الله شركاء: أهؤلاء الذين تشركونهم مع الله يتواردون على الأشياء بقدرة واحدة، أم يتناوبون عليها، كل منهم بقدر على شيء معين؟

إنْ كانوا يزاولون بقدرة واحدة، فواحد منهم يكفي والباقون لا فائدة منهم، وإنْ كانوا يتناوبون على الأشياء، فكلٌّ منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الآخر، والإله لا يكون عاجزاً.

وقد رَدَّ الحق سبحانه على هؤلاء بقوله تعالى:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42] أي: لَذهبوا إليه إما ليُعنِّفوه ويُصَفّوا حساباتهم معه، وكيف أخذ الأمر لنفسه، وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه.

وفي موضع آخر:{ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ... }[المؤمنون: 91].

وبعد أنْ بينَّا جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله وجدال أهل الشرك نجادل أهل الكتاب، وهم ألطفُ من سابقيهم؛ لأنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق، ومؤمنون بالبلاغ عن الله، ومؤمنون بالكتب التي نزلت، والخلاف بيننا وبينهم أنهم لا يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في حين نؤمن نحن برسلهم وكتبهم، وهذه أول مَيزة تميَّز بها الإسلام على الأديان الأخرى.

ونقول لهؤلاء: لقد آمنت برسولك، وقد سبقه رسل، فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده؟ ثم هل جاء الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الأشياء؟ إنهم جميعاً متفقون على أصول العقيدة والأخلاق، متفقون على أنهم عباد لله متحابون، فلماذا تختلفون أنتم؟

فربنا - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا } وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

.. { [العنكبوت: 46] لأنهم ليسوا ملاحدة ولا مشركين، فهُمْ مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب، غاية ما هنالك أنهم لا يؤمنون برسولكم.

لذلك يعترض بعض الناس: كيف يبيح الإسلام أنْ يتزوج المسلم من كتابية، ولا يبيح للمسلمة أن تتزوج كتابياً؟ نقول: لأن أصل القِوَامة في الزواج للرجل، والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية مؤمن برسولها، أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة، فالفَرْق بينهما كبير.

ومعنى: } إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... { [العنكبوت: 46] أن في الجدال حسناً وأحسن، وقد سبق الجدال الحسن في قوله تعالى:{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24] ونوح عليه السلام يتلطف في جدال قومه، فيقول:{ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ }[هود: 35].

فينسب الافتراء إلى نفسه، ويتهم نفسه بالإجرام إنِ افترى، فإنْ لم يكُنْ هو المفتر، وهو المجرم فَهُمْ.

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في جدال قومه:{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[سبأ: 25] فيذكر صلى الله عليه وسلم الجريمة في حقه هو ولا يذكرها في حَقِّ المعاندين المكذِّبين، فأيُّ أدب في الدعوة أرفع من هذا الأدب؟

إذن: جادل غير المؤمنين بالحسن، وجادل أهل التكاب بالتي هي أحسن، لما يمتازون به عن غيرهم من ميزة الإيمان بالله. فإنْ تعدَّوْا وظلموا أنفسهم في مسألة القمة الإيمانية، فادعوا أن لله ولداً أو غيره، فإِنهم بذلك يدخلون في صفوف سابقيهم من المشركين، فإنْ كنا مأمورين بأن نجادلهم بالتي هي أحسن وقالوا بهذا القول، فعلينا أن نجادلهم بما يقابل الأحسن، نجادلهم إما بالحسن، وإما بغير الحسن أي: بالسيف.

لكن، هل يفرض السيف عقائد؟ السيف لا يأخذ من الناس إلا قوالبهم.

أمّا القلوب فلا يخضعها إلا الإيمان، والله تعالى لا يريد قوالب، إنما يريد قلوباً.

واقرأ قوله تعالى في سورة الشعراء:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3-4] فإنِ أراد سبحانه قَهْر القوالب والقلوب على الخضوع، بحيث لا يستطيع أحد أنْ يتأبَّى على الإيمان ما وُجد كافر، وما كفر الكافر إلا لما أعطاه الله من منطقة الاختيار؛ فالحق سبحانه يريد منّا قلوباً تحبه سبحانه وتعبده؛ لأنه سبحانه يستحق أنْ يُعبد.

إذن: الذين يخرجون عن نطاق الكتابية بتجاوزهم الحدَّ، وقولهم أن عيسى ابن الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، إنما يدخلون في نطاق الشرك والكفر، ولن نقول لهؤلاء: اتبعوا رسولنا، وإنما اتبعوا رسولكم، والكتاب الذي جاءكم به من عند الله، وسوف تجدون فيه البشارة بمحمد{ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ... }[الأعراف: 157].

إذن: فحين تكفر فأنت لا تكفر بمحمد ولا بالقرآن، إنما تكفر أولاً بكتابك أنت؛ لذلك يعلمنا الحق سبحانه:

{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... }[المائدة: 17] وقال أيضاً:{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ... }[المائدة: 73].

أي: لا تعاملوهم على أنهم كتابيون، ولما سُئلْنا في الخارج من أبنائنا الذين يرغبون في الزواج من أجنبيات، فكنت أقول للواحد منهم: سَلْها أولاً: ماذا تقول في عيسى، فإنْ قالت هو رسول الله فتزوجها وأنت مطمئن؛ لأنها كتابية، وإن قالت: ابْن الله، فعاملها على أنها كافرة ومشركة.

هذا في معنى قوله تعالى: } إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ... { [العنكبوت: 46] ونحن لا نحمل السيف في وجه هؤلاء؛ لأن السيف ما جاء إلا ليحمي اختيار المختار، فلي أنْ أعرض ديني، وأنْ أُعلنه وأشرحه، فإنْ منعوني من هذه فلهم السيف، وإنْ تركوني أعلن عن ديني فهم أحرار، يؤمنون أو لا يؤمنون.

إنْ آمنوا فأهلاً وسهلاً، وإنْ لم يؤمنوا فهم أهل ذمة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويدفعون الجزية نظير ما يتمعون به في بلادنا، وعليهم ما علينا، وما نُقدِّمه لهم من خدمات، وإلا فكيف نفرض على المؤمنين الزكاة ونترك هؤلاء لا يقدمون شيئاً؟

لذلك نرى الكثيرين من أعداء الإسلام يعترضون على مسألة دَفْع الجزية، ويروْنَ أن الإسلام فُرِض بقوة السيف، وهذا قول يناقض بعضه بعضاً، فما فرضنا عليكم الجزية إلا لأننا تركناكم تعيشون معنا على دينكم، ولو أرغمناكم على الإسلام ما كان عليكم الجزية.

والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ... }[البقرة: 256] لأنني لا أُكرهك على شيء إلا إذا كنتَ ضعيف الحجة، وما دام أن الرشدْ بيِّن والغيّ بيِّن، فلا داعي للإكراه إذن.

لكن البعض يفهم هذه الآية فهماً خاطئاً فحين تقول له: صَلِّ يقول لك{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ... }[البقرة: 256] ونقول له: لم تفهم المراد، فلا إكراه في أصل الدين في أنْ تؤمن أو لا تؤمن، فأنت في هذه حُرٌّ، أما إذا آمنتَ وأعلنتَ أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فليس لك أن تكسر حَدّاً من حدود الإسلام، وفَرْق بين " لا إكراه في الدين " و " لا إكراه في التدين ".

ومن حكمة الإسلام أن يعلن حكم الردة لمن أراد أنْ يؤمن، نقول له قف قبل أن تدخل الإسلام، اعلم أنك إنْ تراجعت عنه وارتددتَ قتلناك، وهذا الحكْم يضع العقبة أمام الراغب في الإسلام حتى يفكر أولاً، ولا يقدم عليه إلا على بصيرة وبينة.

وإذا قيل } أَهْلَ الْكِتَابِ... { [العنكبوت: 46] أي: الكتاب المنزَّل من الله، وقد علَّم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل المشركين بقوله:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43] فعلم الرسول أن يرجع إلى أهل الكتاب، وأنْ يأخذ بشهادتهم، وفي موضع آخر علَّمه أن يقول لمن امتنع عن الإيمان.

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }[الرعد: 43].

إذن: فرسولنا يستشهد بكم، لما عندكم من البينات الواضحة والدلائل على صدقه. حتى قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، ولم لا يعرفونه وقد ذُكر في كتبهم باسمه ووصفه:{ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ... }[الأعراف: 157].

ثم ألم يحدث منكم أنكم كنتم تستفتحون به على المشركين في المدينة، وتقولون: لقد أطلَّ زمان نبي يُبعث في مكة، فنتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؟ فلما جاءكم النبي الذي تعرفوه أنكرتموه وكفرتم به:{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ... }[البقرة: 89].

كيف يستشهد الله على صدق رسوله بكم وبكتبكم ثم تكذبون؟ قالوا: كذَّبوا لما لهم من سلطة زمنية يخافون عليها، ورأوا أن الإسلام سيسلبهم إياها.

وكلمة } بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... { [العنكبوت: 46] وردت في القرآن، لكن في غير الجدل في الدين، وردت في كل شيء يُوجب جدلاً بين أُناس؛ وذلك في قوله سبحانه:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34].

وقد جاءني رجل يذكر هذه الآية، وما يترتب على الإحسان، يقول: عملتُ بالآية فلم أجد الولي الحميم؟ قلت له: كوْنك تحمل هذا الأمر في رٍأسك دليل على أنك لم تدفع بالتي هي أحسن؛ لأن الله تعالى لا يقرر قضية قرآنية، ويُكذِّبها واقع الحياة، فإنْ دفعتَ بالتي هي أحسن بحقٍّ لا بُدَّ وأنْ تجد خَصْمك كأنه وليٌّ حميم.

لذلك يقول أحد العارفين:يَا مَنْ تُضَايِقه الفِعَالُ مِنَ التِي وَمنَ الذِي ادْفَعْ فديْتُكَ بالتي حتَّى تَرى فإذَا الذيوالمعنى: من التي تسيء إليك، أو الذي يسيء إليك{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[فصلت: 34] حتى ترى{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34].

وأذكر أنه جاءني شاب يقول: إن عمي مُوسِر، وأنا فقير، وهو يتركني ويتمتع بماله غيري، فقلت له: بالله أتحب النعمة عند عمك؟ فسكت، قلت له: إذن أنت لا تحبها عنده، لكن اعلم أن النعمة تحب صاحبها أكثر من حُبِّ صاحبها لها؛ لذلك لا تذهب إلى كارهها عند صاحبها.

فما عليك إلا أنْ تثوب إلى الحق، وأنْ تتخلص مما تجد في قلبك لعمك، وثِقْ بأن الله هو الرزاق، وإنْ أردتَ نعمة رأيتها عند أحد فأحببها عنده، وسوف تأتيك إلى بابك، لأنك حين تكره النعمة عند غيرك تعترض على قدر الله.

بعد هذا الحوار مع الرجل - والله يشهد - دَقَّ جرس الباب، فإذا به يقول لي: أما دريتَ بما حدث؟ قلت: ماذا؟ قال: جاءني عمي قبل الفجر بساعة، فلما أنْ فتحت له الباب انهال عليَّ ضَرْباً وشَتْماً يقول: لماذا تتركني للأجانب يأكلون مالي وأنت موجود؟ ثم أعطاني المفاتيح وقال: من الصباح تباشر عملي بنفسك.

فقلت له: لقد أحببتها عند عمك، فجاءت تطرق بابك.

وقوله سبحانه } إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ... { [العنكبوت: 46] أي: ظلموا أنفسهم بالشرك؛ لأن الله تعالى قال:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13] تظلم نفسك لا تظلم الله؛ لأن الظالم يكون أقوى من المظلوم. وجعل الشرك ظلماً عظيماً لأنه ذنبٌ لا يغفر:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ... }[النساء: 116].

فالشرك ظلم عظيم عليك نفسك، أما الذنوب دون الشرك فلها مخرج، وقد تنفكّ عنها إما التوبة برحمة الله ومغفرته.

ثم يُعلِّمنا الحق - تبارك وتعالى - التي هي أحسن في الردِّ على الذين ظلموا منهم: } وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت: 46].

يعني: فعلامَ الاختلاف، ما دام أن الإله واحد، وما دام أن كتابكم يذكر الرسول الذي يأتي بعد رسولكم، وقد سبق رسولكم رسل، فكان يجب عليكم أن تؤمنوا به، وأنْ تُصدِّقوه.

جاءت امرأة تشتكي أن زوجها لم يُوف بما وعدها به، وقد اشترطتْ عليه قبل الزواج ألاَّ يذهب إلى زوجته الأولى، فقُلْت لها: يعني أنت الثانية وقد رضيت به وهو متزوج؟ قالت: نعم، قلت: فلماذا رضيتِ به؟ قالت: أعجبني وأعجبته، قلت: فلا مانع إذن أنْ تعجبه أخرى فيتزوجها، وتقول له: إياك أنْ تذهب إلى الثانية، فهل هذا يعجبك؟ إذن: فاحترمي حقَّ الأولى فيه، لتحترم الثالثة حقك فيه، فقامت وانصرفت.

وقال: } وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ... { [العنكبوت: 46] لأن الكلام هنا للذين ظلموا وقالوا بالتعدد.

وهنا قال تعالى } وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت: 46] ولم يقل مثلاً: ونحن به مؤمنون، ولماذا؟ لأن الإيمان عقيدة قلبية أنْ تؤمن بإله، أمّا الإيمان فليس كلاماً، الإيمان أن تثق به، وأنْ تأمنه على أنْ يُشرِّع لك، وأنْ يُسلم له الأمر " افعل كذا " " ولا تفعل كذا " ، وهناك أناس ليسوا بمؤمنين بقلوبهم، ومع ذلك يعملون عمل المسلمين، إنهم المنافقون.

لذلك يقول تعالى:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... }[الحجرات: 14].

إذن: فَرْق بين إيمان وإسلام، فقد يتوفر أحدهما دون الآخر؛ لذلك قال سبحانه{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[العصر: 1-3] فقال هنا: } وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت: 46] يعني: مُنفِّذين لتعاليم ديننا.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ... {.

(/3312)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)

قوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ... } [العنكبوت: 47] أي: كما أنزلنا كتباً على مَنْ سبقك أنزلنا إليك كتاباً يحمل منهجاً، والكتب السماوية قسمان: قسم يحمل منهج الرسول في (افعل كذا) و (لا تفعل كذا)، وذلك شركة في كل الكتب التي أُنزِلَتْ على الرسل، وكتاب واحد هو القرآن، هو الذي جاء بالمنهج والمعجزة معاً.

فكلُّ الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان للواحد منهم كتاب فيه منهج ومعجزة منفصلة عن المنهج، فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إحياء الموتى بإذن الله.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتابه القرآن ومعجزته القرآن، فانظر كيف التقت المعجزة بالمنهج لتظل لصيقة به؛ لأن زمن رسالة محمد ممتدٌّ إلى قيام الساعة، فلا بُدَّ أنْ تظل المعجزة موجودة ليقول الناس محمد رسول الله، وهذه معجزته.

في حين لا نستطيع مثلاً أن نقول: هذا عيسى رسول الله وهذه معجزته؛ لأنها ليست باقية، ولم نعرفها إلا من خلال إخبار القرآن بها، وهذا يُوضِّح لنا فَضْل القرآن على الرسل وعلى معجزاتهم حيث ثبتها عند كل مَنْ لم يَرهَا، فكل مَنْ آمن بالقرآن آمن بها.

لكن، أكُلُّ رسول يأتي بمعجزة؟ المعجزة لا تأتي إلا لمن تحدَّاه، واتهمه بالكذب، فتأتي المعجزة لتثبت صِدْقه في البلاغ عن ربه؛ لذلك نجد مثلاً أن سيدنا شيثاً وإدريس وشَعيباً ليست لهم معجزات.

وأبو بكر - رضي الله عنه - والسيدة خديجة أم المؤمنين هل كانا في حاجة إلى معجزة ليؤمنا برسول الله؟ أبداً، فبمجرد أنْ قال: أنا رسول الله آمنوا به، فما الداعي للمعجزة إذن؟

إذن: تميَّز صلى الله عليه وسلم على إخوانه الرسل بأن كتابه هو عَيْن معجزته وسبق أنْ قلنا: إن الحق - تبارك وتعالى - يجعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم، فلو تحداهم بشيء لا عِلْم لهم به لقالوا: نحن لا نعلم هذا، فكيف تتحدّانا به؟ والعرب كانوا أهل فصاحة وبيان، وكانوا يقيمون للقوْل أسواقاً ومناسبات، فتحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته أنْ يأتوا بمثله، ثم بعشر سُور، ثم بسورة واحدة، فما استطاعوا، والقرآن كلام من جنس كلامهم، وبنفس حروفهم وكلماتهم، إلا أن المتكلم بالقرآن هو الله تعالى؛ لذلك لا يأتي أحد بمثله.

والقرآن أيضاً كتاب يهيمن على كل الكتب السابقة عليه، يُبقي منها ما يشاء من الأحكام، ويُنهِي ما يشاء. أما العقائد فهي ثابتة لا نسخَ فيها، وأيضاً لا نسخَ في القصص والأخبار.

والنسْخ لا يتأتى إلا في التشريع بالأحكام افعل ولا تفعل، ذلك لأن التشريع يأتي مناسباً لأدواء البيئات المختلفة.

لذلك كان بعض الرسل يتعاصرون كإبراهيم ولوط، وموسى وشعيب، عليهم السلام، ولكل منهم رسالته؛ لأنه متوجه إلى مكان بعينه ليعالج فيه داءً من الداءات، في زمن انقطعت فيه سُبُل الالتقاء بين البيئات المختلفة، فالجماعة في مكان ربما لا يَدْرون بغيرهم في بيئة مجاورة.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء - كما يعلم ربه أَزَلاً - على موعد مع التقاء البيئات وتداخُل الحضارات، فالحدث يتم في آخر الدنيا، نعلم به، بل، ونشاهده في التوِّ واللحظة، وكأنه في بلادنا. إذن: فالداءات ستتحد أيضاً، وما دامت داءات الأمم المختلفة قد اتحدتْ فيكفي لها رسول واحد يعالجها، ويكون رسولاً لكل البشر.

ثم يقول سبحانه: } فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ... { [العنكبوت: 47] أي: من قبلك } يُؤْمِنُونَ بِهِ... { [العنكبوت: 47] لأنه لا سلطة زمنية تعزلهم عن الكتاب الجديد، فينظرون في أوصاف النبي الجديد التي وردتْ في كتبهم ثم يطابقونها على أوصاف رسول الله؛ لذلك لما بلغ سلمان الفارسي أن بمكة نبياً جديداً، ذهب إلى سيدنا رسول الله، وأخذ يتأمله وينظر إليه بإمعان، فوجد فيه علامتين مما ذكرتْ الكتب السابقة، وهما أنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، فراح ينظر هنا وهناك لعله يرى الثالثة، ففطن إليه رسول الله بما آتاه الله من فِطْنة النبوة التي أودعها الله فيه، وقال: لعلك تريد هذا، وكشف له عن خاتم النبوة، وهو العلامة الثالثة.

ومن لباقة سيدنا عبد الله بن سلام، وقد ذهب إلى سيدنا رسول الله وهو - ابن سلام - على يهوديته - فقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْت - يعني يُكثرون الجدال دون جدوى - وأخشى إنْ أعلنتُ إسلامي أن يسبوني، وأن يظلموني، ويقولوا فِيَّ فُحْشاً، فأريد يا رسول الله إنْ جاءوك أن تسألهم عني، فإذا قالوا ما قالوا أعلنت إسلامي، فلما جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله سألهم: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: شيخنا وحَبْرنا وسيدنا.. إلخ فقال عبد الله: أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا: يا رسول الله، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقالوا لتوِّهم: بل أنت شرنا وابن شرنا، ونالوا منه، فقال عبد الله: ألم أقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْت؟

وقوله سبحانه } وَمِنْ هَـاؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ... { [العنكبوت: 47] أي: من كفار مكة مَنْ سيأتي بعد هؤلاء، فيؤمن بالقرآن } وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ { [العنكبوت: 47] الجحد: إنكار متعمد؛ لأن من الإنكار ما يكون عن جهل مثلاً، والجحد يأتي من أن النِّسب إما نفي، وإما إثبات، فإنْ قال اللسان نسبة إيجاب، وفي القلب سَلْب أو قال سلب وفي القلب إيجاب، فهذا ما نُسمِّيه الجحود.

لذلك يُفرِّق القرآن بين صيغة اللفظ ووجدانيات اللفظ في النفس، واقرأ مثلاً قول الله تعالى:

{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.. }[المنافقون: 1] وهذا منهم كلام طيب وجميل{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ... }[المنافقون: 1] أي: أنه كلام وافق علم الله، لكن{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1] فكيف يحكم الحق عليهم بالكذب، وقد قالوا ما وافق علم الله؟

نقول: كلام الله يحتاج إلى تدبُّر لمعناه، فالحق يحكم عليهم بأنهم كاذبون، لا في قولهم: إنك لرسول الله، فهذه حق، بل في شهادتهم؛ لأنها شهادة باللسان لا يوافقها اعتقاد القلب، فالمشهود به حق، لكن الشهادة كذب.

لكن، لماذا خَصَّ الكافرين في مسألة الجحود؟ قالوا: لأن غيرالكافر عنده يقظة وجدان، فلا يجرؤ على هذه الكلمة؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لا يأخذ الناس بذنوبهم الآن، إنما يُؤجِّلها لهم ليوم الحساب، فهذه المسألة تحجزهم عن الجحود.

(/3313)

وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

قوله: { تَتْلُواْ... } [العنكبوت: 48] أي: تقرأ، واختار تتلو لأنك لا تقرأ إلا ما سمعت، فكأن قراءتك لما سمعت تجعل قولك تالياً لما سمعتَ، نقول: يتلوه يعني: يأتي بعده { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ... } [العنكبوت: 48] يعني: الكتابة.

وفَرْق بين أنْ تقرأ، وبين أنْ تكتب، فقد تقرأ لأنك تحفظ، وتحفظ نتيجة السماع، كإخواننا الذين ابتلاهم الله بكفِّ نظرهم ويقرأون، إنما يقرأون ما سمعوه؛ لأن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي مهمتها في الإنسان، فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت، أما أن تكتبه فهذا شيء آخر.

والكلام هنا لون من ألوان الجدل والإقناع لكفار قريش الذين يُكذِّبون رسول الله، ولوْن من ألوان التسلية لرسول الله، كأنه يقول سبحانه لرسوله: اطمئن. فتكذيب هؤلاء لك افتراء عليك؛ لأنك ما تلوْتَ قبله كتاباً ولا كتبته بيمينك، وهم يعرفون سيرتك فيهم.

كما قال سبحانه في موضع آخر:{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16].

أربعون سنة قضاها رسول الله بين قومه قبل البعثة، ما جرَّبوا عليه قراءة ولا كتابة ولا خطبة، ولا نمَّق قصيدة، فكيف تُكذِّبونه الآن؟

فإن قالوا: كانت عبقرية عند محمد أجَّلها حتى سِنَّ الأربعين. نقول: العبقرية عادة مَا تأتي في أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة، ومَنْ ضمن لمحمد البقاء حتى سِنِّ الأربعين، وهو يرى مصارع أهله، جده وأبيه وأمه؟

لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر، ولكان في الأمر شبهة تدعو إلى الارتياب في أمرك، كما قالوا:{ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفرقان: 5].

وقالوا:{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... }[النحل: 103] فردَّ القرآن عليهم{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103].

وقالوا: ساحر. وقالوا: شاعر. وقالوا: مجنون. وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الردُّ عليها: فإنْ كان ساحراً، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً وتنتهي المسألة؟ وإنْ كان شاعراً فهل جرَّبتم عليه أنْ قال شعراً قبل بعثته؟

وإنْ قُلْتم مجنون، فالجنون فَقْد العقل، بحيث لا يستطيع الإنسان أنْ يختار بين البدائل، فهل جرَّبتم على محمد شيئاً من ذلك؟ وكيف يكون المجنون على خُلُق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق الأمين، فعنده انضباط في الملَكات وفي التصرفات، فكيف تتهمونه بالجنون؟

وكلمة { مِن قَبْلِهِ... } [العنكبوت: 48] لها عجائب في كتاب الله منها هذه الآية: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ... } [العنكبوت: 48] فيقول بعض العارفين (من قبله): أي من قبل نزول القرآن عليك، وهذا القول { قَبْلِهِ.. } [العنكبوت: 48] يدل على أنه من الجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه، حتى لا يكون في أمته من هو أحسن حالاً منه في أي شيء، أو في خصلة من خصال الخير.

ثم تأمل قوله تعالى:{ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ... }[البقرة: 91] ألاَ يدخل في روع رسول الله أنهم ربما يجترئون عليه فيقتَلوه، فيتهيب منهم، أو يدخل في نفوسهم هم، فيجترئون عليه كما قتلوا الأنبياء من قبل؛ لذلك جاءتْ الآية لتقرر أن هذا كان في الماضي، أما الآن فلن يحدث شيء من هذا أبداً، ولن يُمكِّنكم الله من نبيه.

وكلمة } وَمَا كُنتَ... { [العنكبوت: 48] تكررت كثيراً في كتاب الله، ويُسمُّونها في الزمن الماضي، والحاضر، والمستقبل.

كما في قوله تعالى:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ... }[القصص: 44].

وقوله تعالى:{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا... }[القصص: 45].

وقوله تعالى:{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ... }[آل عمران: 44].

وهنا: } وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ... { [العنكبوت: 48].

لذلك وصفه ربه - عز وجل - بأنه{ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ... }[الأعراف: 157] وإياك أن تظن أن الأمية عَيْب في رسول الله، فإنْ كانت عيباً في غيره، فهي فيه شرف؛ لأن معنى أمي يعني على فطرته كما ولدتْه أمه، لم يتعلم شيئاً من أحد، وكذلك رسول الله لم يتعلَّم من الخَلْق، إنما تعلم من الخالق فعلَتْ مرتبةُ علمه عن الخَلْق.

ومن ذلك المكانة التي أخذها الإمام علي - رضي الله عنه - في العلم والإفتاء حتى قال عنه عمر رضي الله عنه - مع ما عُرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزلُ موافقاً لرأيه، ومُؤيّداً لقوله - يقول عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن. لماذا؟

لأنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلاغة، ألم يراجع الفاروقَ في مسألة المرأة التي ولدتْ لستة أشهر من زواجها، وعمر يريد أنْ يقيم عليها الحد؛ لأن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر فتسرَّع البعض وقالوا: إنها سُبق إليها، لكن يكون للإمام على رأي آخر، فيقول لعمر: لكن الله يقول غير هذا، فيقول عمر: وما ذاك؟ قال: ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ... }[البقرة: 233] قال: بلى.

قال: ألم يقل:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] وبطرح العامين من ثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، فإذا ولدتْ المرأة لستة أشهر، فهذا أمر طبيعي لا ارتيابَ فيه.

وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي الله عنهما - فسأله عمر: كيف أصبحتَ يا حذيفة؟ فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين، أصبحت أحب الفتنة، وأكره الحق، وأُصلِّي بغير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.

فغضب عمر، وهَمَّ أن يضربه بدرة في يده، وعندها دخل عليٌّ فوجد عمر مُغْضباً فقال: مالي أراك مغضباً يا أمير المؤمنين؟ فقصَّ عليه ما كان من أمر حذيفة، فقال علي:

نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة؛ لأن الله تعالى قال:

{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ... }[التغابن: 15].

ويكره الحق أي: الموت فهو حقّ لكنا نكرهه، ويُصلِّي على النبي بغير وضوء، وله في الأرض ولد وزوجة، وليس ذلك لله في السماء. فقال عمر قولته المشهورة: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

فلماذا تميَّز عليٌّ بهذه الميزة من العِلْم والفقه والحجة؟ لأنه تربَّى في حِجرْ النبوة فاستقى من نَبْعها، وترعرع في أحضان العلوم الإسلامية منذ نعومة أظافره، ولم يعرف شيئاً من معلومات الجاهلية، فلما تتفاعل عنده العلوم الإسلامية لا تَلِد إلا حقاً.

ثم يقول سبحانه } إِذاً... { [العنكبوت: 48] يعني: لو حصل منك قراءة أو كتابة } لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ { [العنكبوت: 48] أي: لَكَان لهم عُذْر ووجهة نظر في الارتياب، والارتياب لا يعني مجرد الشك، إنما شك باتهام أي: يتهمون رسول الله بأنه كان على عِلْم بالقراءة والكتابة؛ لذلك وصفهم بأنهم مبطلون في اتهامهم له صلى الله عليه وسلم.

(/3314)

بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

{ بَلْ... } [العنكبوت: 49] حرف يفيد الإضراب عما قبله، وتأكيد ما بعده { هُوَ } أي: القرآن { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... } [العنكبوت: 49] ولم يقل مثلاً: في ذاكرتهم؛ لأن الأذن تستقبل الكلام وتعرضه على العقل، فإنْ قبله يستقر في القلب وفي الصدر، وفيه يتحول إلى عقيدة وإلى يقين لا يقبل الشكَّ ولا يتزحزح.

لذلك يقول تعالى عن القرآن:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَىا قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }[الشعراء: 193-194] فقال:{ عَلَىا قَلْبِكَ... }[الشعراء: 194] أي: مباشرة استقر في قلبه، ولم يقُلْ على أذنك.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ... }.

(/3315)

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

أي: بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى، وسبق أنْ قلنا: إن الحق سبحانه كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا، فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز مقتدر.

واقرأ مثلاً قوله سبحانه:{ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا... }[الإسراء: 59] فلما كذَّبوا بالآية التي طلبوها أهلكهم الله؛ لأن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع، إنما هي الإصرار على الكفر،إذن: فطلب الإنزال لآية خاصة باقتراحهم ليس مانعاً لهم أنْ يكفروا أيضاً برسول الله.

لذلك يقول سبحانه:{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ... }[الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها{ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ... }[الإسراء: 59] وحين تنزل الآية ويُكذِّبون بها تنزل بهم عقوبة السماء، لكن الحق - سبحانه وتعالى - قطع العهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ألاَّ يُعذِّب أمته وهو فيهم، كما قال سبحانه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].

فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الآية المقترحة، ثم إن الآيات المقترحة آيات كونية تأتي وتذهب، كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة، ثم ينطفئ، رآه مَنْ رآه، وأصبح خبراً لمن لم يَرَه.

وكلمة { لَوْلاَ... } [العنكبوت: 50] تستخدم في لغة العرب استخدامين: إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية مثل: لولا زيد عندك لَزرتُك، وهي هنا حرف امتناع لوجود، فقد امتنعتْ الزيارة لوجود زيد. وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل: لولا تذاكر دروسك، فهي للحضِّ وللحثِّ على الفعل.

فقولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ... } [العنكبوت: 50] كان الآية التي جاءتهم من عند الله لا يعترفون بها، ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].

إذن: أنتم معترفون بالقرآن، مقتنعون به، لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين الناس جميعاً. ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضاً، ويعترفون من حيث لا يشعرون بأن محمداً رسول الله حينما قالوا:{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىا يَنفَضُّواْ... }[المنافقون: 7] فما دُمْتم تعرفون أنه رسول الله، فلماذا تُعادونه؟ إذن: فالبديهة الفطرية تكذِّبهم، ينطق الحق على ألسنتهم على حين غفلة منهم.

ويرد الحق - تبارك وتعالى - عليهم: { قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ... } [العنكبوت: 50] فهي عند الله، ليست عندي، وليست بالطلب حسب أهوائكم { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [العنكبوت: 50] أي: هذه مهمتي، واختار الإنذار مع أنه صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، لكن خَصَّهم هنا بالإنذار، لأنهم أهل لِجَاج، وأهل باطل وجحود، فيناسبهم كلمة الإنذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ... }.

(/3316)

أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

والاستفهام هنا للتعجُّب وللإنكار، يعني: كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن: هم يريدون أنْ يتمحّكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حَقٍّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به.

وقوله تعالى: { يُتْلَىا عَلَيْهِمْ... } [العنكبوت: 51] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أُنزِل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ.

ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يُعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا }[الأعلى: 6].

وإلا، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حِفْظاً أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى.

ثم يقول سبحانه: { إِنَّ فِي ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىا... } [العنكبوت: 51] لكن لمن { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه؛ لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته.

لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلام الله:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ... }[فصلت: 44].

أما الذين يجحدونه ولا يُحسنون استقباله، فيقول عنهم:{ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى... }[فصلت: 44].

وسبق أنْ قلنا: إن الفعل واحد، لكن المستقبل مختلف، ومثَّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في البرد، ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده، وأنت أيضاً تنفخ في الشمعة لتطفئها، وتنفخ في النار لتشعلها.

وفي موضع آخر يقول تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ... }[الإسراء: 82]، ففرْق بين الشفاء والرحمة، الشفاء يعني: أنه كانت هناك علة، فبرأت، لكن الرحمة ألاَّ تعاودك العلة، ولا يأتيك الداء مرة أخرى، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية، يعالجها بالقراءة ويُحصِّنك ضدها فلا تصيبك، وإنْ وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن فإنها تبرأ بإذن الله، إذن: الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس.

ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس؛ لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي، وكل مريض لا يجدون لمرضه سبباً عضوياً يُشخِّصونه على أنه مرض نفسي، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء، وهل هذا هو العلاج؟

ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجيْن: العضوي والنفسي، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحلّ لك أشياء، وحرَّم عليك أشياء، وما عليك إلا أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد، فإنْ كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حَدِّ التًّخمة، فاقرأ في القرآن:

{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأعراف: 31].

ثم تجد في السنة النبوية مُذكِّرة تفسيرية لهذه الآية: " بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه " ، فإنْ كان ولا بُدَّ: " فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ".

فالأصل أن يأكل الإنسان ليعيش، لا أن يعيش ليأكل. وبعض السطحيين يقولون: ما معنى " ثلث لنفَسه " ، وهل النفَس في المعدة؟ والآن، ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس.

أما الناحية النفسية، فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها، أو انبساطها عن طبيعة تكوينها، كالبيضة مثلاً لها حجم معين فإنْ ضيَّقْتَ هذا الحجم أو بسطته تنكسر.

وهذا أيضاً أساس الداء في النفس البشرية؛ لأن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن واستواء، وتجد هذا التوازن في منهج ربك - عز وجل - حيث يقول سبحانه:{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ... }[الحديد: 23].

فمعنى:{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ... }[الحديد: 23] الانقباض{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ... }[الحديد: 23] الانبساط. وكلاهما مذموم منهيٌّ عنه، لكن مَن ذا الذي لا يأسى على ما فات، ولا يفرح بما هو آتٍ؟

لذلك نجد البُلَداء الذين لا تَهزهم الأحداث بصحة قوية؛ لأنهم لا يهتمون للخطوب، حتى أن الشعراء لم يَفُتْهم هذا المعنى، حيث يقول أحدهم:وَفِي البَلادةِ مَا في العَزْمِ منْ جَلَد إنَّ البليد قويُّ النفْسِ عَاتيهافَاسْأل أُوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ عَنِ البَلادةِ هَلْ مَادتْ رَوَاسِيهَا؟فالذي تظنه بلادة هو عزم قويٌّ في استقبال الأحداث والصمود لها.

إذن: الرحمة في منهج الله إنِ التزمنا به نأمن من الأدواء، ماديةَ كانت أم معنوية.

(/3317)

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

(قُلْ) أي: للمنكرين لك { كَفَىا بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً.. } [العنكبوت: 52] أي: حسبي أن يشهد الله لي بأنِّي بلّغْتُ، فشهادتكم عندي لا تنفع، كما أنه لا ينفعني إيمانكم، ولا يضرني كفركم، فأجري آخذه من ربي على مجرد البلاغ وقد بلَّغْتُ، وشهد الله لي بذلك.

وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ... }[الرعد: 43] أي: أنكم لم تكتفوا بالآيات، ولم تؤمنوا بها، لكني أكتفي برب هذه الآيات شهيداً بيني وبينكم، إذن: هناك خصومة في البلاغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يُكذِّبونه في البلاغ عن ربه.

فلا بُدَّ إذن من فَصْل في هذه الخصومة، وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخَلْق في الخصومات وجدنا إمَّا أنْ يُقر المتهم، وإما أن يشهد شاهد حَقٍّ لا شاهد زور، ثم يعرض الأمر على القاضي ليحكم بالشهادة أو البينة.

ولا بُدَّ في القاضي ألاّ يكون صاحب هوى، ثم يأتي دور تنفيذ الحكم، وهي السلطة التنفيذية، وهذه أيضاً ينبغي ألاَّ يكون لها هوى، فتنفذ الحكم على حقيقته، فكأن الخصومات عند البشر تمرُّ بمراحل متعددة، وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللازمة لهذه الأطراف، فلو شهد الشاهد زوراً أو مال القاضي أو المنفِّذ للحكم ودلَّس في التنفيذ لانقلبت المسائل.

أما في حكومة الحق - سبحانه وتعالى - في الخصومة بين محمد وقومه، فكفى به سبحانه حاكماً وقاضياً ومُنفِّذاً، لماذا؟ لأنه سبحانه: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [العنكبوت: 52].

فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم السر وأَخْفى، فأيُّ شهادة إذن أعدل من شهادته؟ وهو سبحانه قاضٍ عادل يحكم بالحق؛ لأنه ليس له سبحانه هوىً يميل به إلى الباطل، وهو سبحانه لا يُبدل في تنفيذ الأحكام؛ لأنه يُنفّذ حكمه هو سبحانه.

إذن: مَنِ الفائز في حكومة قاضيها الحق - تبارك وتعالى - وأطراف الخصومة فيها محمد وقومه؟ فاز رسول الله في أن يكون الله هو الشهيد، وخسر الكافرين حين كفروا به، ولم تكْفِهم البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم.

وعِلْم الله للغيب ليس علاجاً ومذاكرة ليعلم، إنما تأتي الأمور بتوقيت منه قديم أزلاً، والعالم يظهر على وَفْق ما يراه أزلاً؛ لذلك يقول سبحانه:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].

أي: يقول للشيء، فكأنه موجود فعلاً ينتظر الأمر من الله بالظهور للناس، فقوله (كُنْ) للظهور فقط، أما مسألة الخَلْق فمنتهية أزلاً، و(الماكيت) موجود، فالحق سبحانه يعلم غَيْب السماوات والأرض، أما نحن فلا نعلم حتى غَيْب أنفسنا.

ويقول سبحانه:{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه: 7] فهل هناك أخفى من السر؟ قالوا: السر ما تُسِرُّه في نفسك، والأخفى منه أنْ يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك.

وقد وقف البعض عند قوله تعالى:{ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }[النور: 29] وقوله سبحانه:{ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110].

يقولون: ما وجه امتنان الله بعلم الجهر من القول، وبعِلْم ما نُبدي، فهذا شيء غير مستور يعرفه الجميع؟

ونقول: افهم عن الله مراده، فالمعنى لم يقُلْ سبحانه: أعلم ما تبدي أنت، ولا ما تجهر به أنت، إنما ما تبدون كلكم، وما تجهرون به كلكم، ولتوضيح هذه المسألة تصوَّر مظاهرة من عدة مئات أو عدة آلاف تختلط بينهم الهتافات والأصوات وتتداخل الكلمات، بحيث لا تستطيع أن تميز صوت هذا من صوت ذاك.

لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الأصوات، وإعادة كل منها إلى صاحبه؛ لذلك نرى في المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء، ويهتف بما لا يجرؤ أن يهتف به منفرداً؛ لأن صوته سيختلط مع الأصوات، ويستتر فيها فلا يعرف مصدره، وهكذا يكون علم الجَهْر أقوى من علم الغَيْب.

فإنْ قلت: إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في الكون، كالكهرباء والذرة وغيرها، فهُمْ بذلك يعلمون الغيب. نقول: نعم، علموا شيئاً كان مستوراً في الكون، لكن علموه بمقدمات خلقها الله ويسَّرها لهم، فأخذوا هذه المقدمات وتوصَّلوا بها إلى اكتشافاتهم، كما يحلّ ولدك مثلاً تمرين الهندسة، فيستعين بالمعطيات.

إذن؛ فهو في حقيقة الأمر ليس غيباً، بل هو شيء موجود، لكن له ميلاد ووقت يظهر فيه، فإنْ جاء وقته يسَّر الله لخَلْقه الوصول إليه، إما بالبحث واستخدام المقدمات، فإذا صادف ميلاد السر بحث الخلق يُقال: إنهم أحاطواعِلْماً ببعض غيب الله.

ويقول تعالى:{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ... }[البقرة: 255] أي: شاء أنْ يُولد، فإنْ جاء ميلاد السر، ولم يتوصَّلوا إليه ببحوثهم، ولم يقفوا على مقدماته كشفه الله لهم ولو مصادفة، وقد اكتشفوا كثيراً من أسرار الكون مصادفة.

فالغيب الحقيقي: هو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه، ولا يعلمه أحد إلا الله، والذي قال الله عنه:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ... }[الجن: 26-27] فالرسول - إذن - لا يعلم الغيب، إنما عُلِّم الغيب.

ثم يقول تعالى: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ... { [العنكبوت: 52] أي: بعبادة ما دون الله من الأصنام والأوثان } وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ... { [العنكبوت: 52] الخالق واجب الوجود } أُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ { [العنكبوت: 52] لأن كفر الخَلْق بالخالق لا يؤثر في ذاته سبحانه، ولا في صفات الكمال فيه، لأنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم، فله سبحانه صفات الكمال، آمنوا أم كفروا.

لكن فَرْق بين مَنْ يؤمن ومَنْ يكفر، فالإنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها، حتى إنه إنْ أصابه مرض طلب العلاج ليصون حياته وهو يخاف الموت، ويرى مصارع الناس من حوله، وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد، ويرى أن الموت يأتي بلا أسباب؛ حتى قيل: والموت من غير سبب هو السبب.

إذن: فالموت حقيقة، لكن يشكُّ الناس فيها ولا يتصورونها لأنفسهم لأنهم يكرهونها؛ لذلك يقال في الأثر: ما رأيتْ يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت.

وليقين الإنسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده، وفي ولد ولده ليبقى ذِكْره أطول فترة ممكنة، وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا تؤمن بالله فيورثك الإيمانُ حياةً خالدة باقية لا نهايةَ لها، لا تفارقها ولا تفارقك، وهي حياة الآخرة. إذن: فمَن الخاسرون؛ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا حياتهم على عمرهم في الدنيا.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ... {.

(/3318)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)

عجيب أنْ يطلب الإنسان لنفسه العذاب، وأن يستعجله إن أبطأ عليه، إذن: ما طلبه هؤلاء إلا لاعتقادهم أنه غير واقع بهم، وإلا لو ووَثِقُوا من وقوعه ما طلبوه.

{ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ... } [العنكبوت: 53] لأن كل شيء عند الله بميقات، وأجل، والأجل يختلف باختلاف أصحابه وهو أجل الناس وأعمارهم، وهي آجال متفرقة فيهم، لكن هناك أجل يجمعهم جميعاً، ويتفقون فيه، وهو أجل الساعة.

فقوله تعالى:{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف: 34] أي: بآجالهم المتفرقة. أما أجل القيامة فأجل واحد مُسمّى عنده تعالى، ومن عجيب الفَرْق بن الأجلين أن الآجال المتفرقة في الدنيا تنهي حياة، أمّا أجل الآخرة فتبدأ به الحياة.

والمعنى { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ... } [العنكبوت: 53] أن المسألة ليست على هواهم ورغباتهم؛ لذلك يقول تعالى:{ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ... }[الأنبياء: 37] ويقول:{ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }[الأنبياء: 37].

لذلك " لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين كفار مكة، ورضي أنْ يعود بأصحابه دون أداء فريضة العمرة غضب الصحابة وعلي وعمر، ولم يعجبهم هذا الصلح، وكادوا يخالفون رسول الله غيرةً منهم على دينهم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقال: " هلك المسلمون " قالت: ولم يا رسول الله؟ قال: " أمرتهم فلم يمتثلوا " فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فهم مكروبون، جاءوا على شَوْقٍ لبيت الله، وكانوا على مقربة منه هكذا، ثم يُمنعون ويُصدُّون، اعذرهم يا رسول الله، ولكن امْضِ فاصنع ما أمرك الله به ودَعْهم، فإنْ هم رأوْكَ فعلتَ فعلوا، وعلموا أن ذلك عزيمة.

وفعلاً ذهب رسول الله، وتحلّل من عمرته، ففعل القوم مثله " ، ونجحت مشورة السيدة أم سلمة، وأنقذت الموقف.

" ثم بيَّن الله لهم الحكمة في العودة هذا العام دون قتال، ففي مكة إخوان لكم آمنوا، ويكتمون إيمانهم، فإنْ دخلتم عليهم مكة فسوف تقتلونهم دون علم بإيمانهم.

وكان عمر - رضي الله عنه - كعادته شديداً في الحق، فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال: صلى الله عليه وسلم: " بلى " قال: أليسوا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم " بلى " قال: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غَرْزك يا عمر " . يعني قِف عند حدِّك وحجِّم نفسك، ثم قال بعدها ليبرر هذه المعاهدة: ما كان فتح في الإسلام أعظمَ من فتح الحديبية - لا فتح مكة.

لماذا؟ لأن الحديبية انتزعت من الكفار الاعترافَ بمحمد، وقد كانوا معارضين له غير معترفين بدعوته، والآن يكاتبونه معاهدة ويتفقون معه على رأي، ثم إنها أعطت رسول الله فرصة للتفرغ لأمرالدعوة ونشرها في ربوع الجزيرة العربية، لكن في وقتها لم يتسع ظنُّ الناس لما بين محمد وربه، والعباد عادةً ما يعجلون، والله - عز وجل - لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه.

ثم يقول تعالى: } وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ { [العنبكوت: 53] يعني: فجأة، وليس حسب رغبتهم } وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ { [العنكبوت: 53] لا يشعرون ساعتها أم لا يشعرون الآن أنها حق، وأنها واقعة لأجل مسمى؟

المراد لا يشعرون الآن أنها آتية، وأن لها أجلاً مُسمى، وسوف تباغتهم بأهوالها، فكان عليهم أن يعلموا هذه من الآن، وأن يؤمنوا بها. إذن: فليس المراد أنهم لا يشعرون بالبغتة؛ لأن شعورهم بالبغتة ساعتها لا ينفعهم بشيء.

ثم يقول الحق سبحانه: } يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ.... {.

(/3319)

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)

أي: قُلْ لهم إنْ كنتم تستعجلون العذاب فهو آتٍ لا محالة، وإنْ كنتم في شوق إليه فجهنم في انتظاركم، بل ستمتلئ منكم وتقول: هل من مزيد؟ والعذاب يتناسب وقدرة المعذِّب قوة وضعفاً، وإحاطة وشمولاً، فإذا كان المعذِّب هو الله - عز وجل - فعذابه لا يُعذِّبه أحد من العالمين.

ومعنى { لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 54] الإحاطة أن تشمل الشيء من جميع جهاته، فالجهات أربع: شمال وجنوب وشرق وغرب، وبين الجهات الأصلية جهات فرعية، وبين الجهات الفرعية أيضاً جهت فرعية، والإحاطة هي التي تشمل كل هذه الجهات.

ومن ذلك قوله تعالى:{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا... }[الكهف: 29] يعني: من كل جهاتهم.

ومن عجيب أمر النار في الآخرة أن النار في الدنيا يمكن أنْ تُعذِّب شخصاً بنار تحوطه لا يستطيع أنْ يُفلت منها، لكن النار بطبيعتها تعلو؛ لأن اللهب يتجه إلى أعلى، أما إنْ كانت تحت قدمك فيمكنك أنْ تدوسها بقدمك، كما تطفئ مثلاً (عُقْب) السيجارة، فحين تدوسه تمنع عنه الأكسوجين، فتنطفئ النار فيه، أما في نار الآخرة فتأتيهم من كل جهاتهم: { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ... }.

(/3320)

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ }[الزمر: 16].

وهاتان الجهتان لا تأتي منهما النار في الدنيا؛ لأن النار تطبيعتها تصعد إلى أعلى، وإنْ كانت تحت القدم تنطفيء. إذن: هذا ترقٍّ في العذاب، حيث لا يقتصر على الإحاطة من جميع جهاته، إنما يأتيهم أيضاً من فوقهم ومن تحتهم.

لكن قد يتجلَّد المعذَّب للعذاب، ويتماسك حتى لا تشمت فيه، وهذا يأتيه عذاب من نوع آخر، عذاب يُهينه ويُذلُّه، ويُقال له:{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }[الدخان: 49] لذلك وصف العذاب، بأنه: مهين، وأليم، وعظيم، وشديد.

وقوله تعالى: { وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 55] لم يقل: ذوقوا النار، إنما ذوقوا ما عملتم، كأن العمل نفسه سيكون هو النار التي تحرقهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { ياعِبَادِيَ الَّذِينَ... }.

(/3321)

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

بعد أنْ تحدَّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذَّبين أراد أنْ يُحدِث توازناً في السياق، فحدَّثنا هنا عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين، حين تردف الحديث عنهم، وعما يقع لهم من العذاب بما سينال المؤمنين من النعيم، فتكون لهم حسرة شديدة، فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكانَ الأمر أهونَ عليهم.

وقوله تعالى: { ياعِبَادِيَ... } [العنكبوت: 56] سبق أن قُلْنا: إن الخَلْق جميعاً عبيد الله، وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن تنازل عن اختياره لاختيار ربه، وفضَّل مراده سبحانه على مراد نفسه، فصار عبداً في كل شيء حتى في الاختيار، فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيداً وعباداً لله.

أما الكافر فتأبَّى على مراد ربه، واختار الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، ونسي أنه عبد الله مقهور في أشياء لا يستطيع أن يختار فيها، وكأن الله يقول له: أنت أيها الكافر تمردْتَ على ربك، وتأبَّيْتَ على منهجه في (افعل) و (لا تفعل)، واعتدْتَ التمرد على الله. فلماذا لا تتمرد عليه فيما يُجريه عليك من أقدار، لماذا لا تتأبَّى على المرض أو على الموت؟ إذن: فأنت في قبضة ربك لا تستطيع الانفلات منها.

وعليه، فالمؤمن والكافر سواء في العبودية لله، لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختاراً راضياً بمراد الله، وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرُّه في سلسلة، وعبد يخدمك وهو طليق حُرٌّ. وهكذا المؤمن جاء إلى الإيمان بالله مختاراً مع إمكانية أنْ يكفر، وهذه هي العبودية والعبادية معاً.

ومعنى { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ... } [العنكبوت: 56] يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الأرض وفي سعتها، ليلفت أنظارهم أنهم سيضطهدون ويُعذَّبون، وسيقع عليهم إيذاء وإيلام، فيقول لهم: إياكم أن تَصِرْفكم هذه القسوة، إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم، فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا إلى مكان آخر فأرضي واسعة فلا تُضيِّقوها على أنفسكم.

لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرض لله، والعباد كلهم لله، فإنْ أبصرتَ خيراً فاقِمْ حيث يكون ".

فالذي نعاني منه الآن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض الله، فضيَّقنا على أنفسنا ما وسَّعه الله لنا، فأرْضُ الله الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ولا جوازات سفر ولا (بلاك لست).

لذلك قلنا مرة في الأمم المتحدة: إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر في الأرض، ألا وهو قوله تعالى:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10].

والمعنى: الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، وإلا فالذي يُتعِب الناس الآن أن توجد أرض بلا رجال، أو رجال بلا أرض، وها هي السودان مثلاً بجوارنا، فيها أجود الأراضي لا تجد مَنْ يزرعها، لماذا؟ للقيود التي وضعناها وضيَّقنا بها على أنفسنا.

وصدق الشاعر حين قال:لَعْمرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلادٌ بأهِلْها ولكنَّ أخْلاق الرجَالِ تَضِيقُثم يقول سبحانه } فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت: 56] فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فلا بُدَّ أن نعلم أن للهجرة شروطاً أولها: أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ولا ينقصه، وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها الله عليك؟ فإنْ كان ذلك فلا مانع، وإلا فلا هجرةَ لمكان يُخرِجني من دائرة الإيمان، أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني.

وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الأموال في بلاد الكفر، وأنْ تدخل عليك ابنتك مثلاً وفي يدها شاب لا تعرف عنه شيئاً قد فُرِض عليك فَرْضاً، فقد عرفته على طريقة القوم، ساعتها لن ينفعك كل ما جمعت، ولن يصلح ما جُرِح من كرامتك.

وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار أَمْن فقط، حيث تأمن فيها على دينك، وتأمن ألاَّ يفتنك عنه أحد، ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول الله إلى الحبشة، وهي ليست أرْضَ إيمان، بل أرض أَمْن.

وقد عَّلل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله: " إن فيها مَلِكاً لا يُظْلَم عنده أحد " وقد تبيَّن بعد الهجرة إليها صِدْق رسول الله، وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال أهلها.

لذلك لم يأمرهم مثلاً بالهجرة أو أطراف الجزيرة العربية؛ لأنها كانت خاضعة لقريش بما لها من سيادة على الكعبة، فلا يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش، حتى الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة لم يَسْلَموا من قريش، فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم، وحملوا إليه الهدايا المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد، لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي راود الإيمانُ قلبه، فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال: إنه آمن بعد ذلك، ولما مات صلَّى عليه رسول الله.

أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار أَمْن وإيمان معاً، حيث تأمن فيها على دينك، وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه، وتجد بها إخواناً مؤمنين يُواسُونك بأموالهم، وبكل ما يملكون، وقد ضرب الأنصار في مدينة رسول الله أروع مثل في التاريخ في المواساة، فالأنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة، وله إرْبة وحاجة للنساء، فيُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، فانظر ماذا فعل الإيمان بالأنصار.

وفي قوله سبحانه } فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت: 56] أسلوب يُسمُّونه أسلوب قَصْر، مثل قوله تعالى:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5].

وفَرْق بين أنْ نقول: نعبدك. و(إياك نعبد): نعبدك لا تمنع أنْ نعبد غيرك، أمّا (إيَّاك نَعْبد) فتقصر العبادة على الله - عز وجل - ، ولا تتجاوزه إلى غيره.

فالمعنى - إذن: إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك لله، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: " فَمْن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

ثم يقول الحق سبحانه: } كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... {.

(/3322)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)

يعني: إنْ كنتم ستقولون - وقد قالوا بالفعل - ليس لنا في المدينة دار ولا عقار، وليس لنا فيها مصادر رزق، وكيف نترك أولادنا وبيئتنا التي نعيش فيها، فاعلموا أنكم ولا بُدَّ مفارقون هذا كله، فإنْ لم تُفارقوها وأنتم أحياء فسوف تفارقونها بالموت؛ لأن { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... } [العنكبوت: 57].

ومَنْ يدريكم لعلكم تعودون إلى بلدكم مرة أخرى، كما قال الله لرسوله:{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... }[القصص: 85].

وعلى فَرْض أنكم لن تعودوا إليها فلن يُضيركم شيء؛ لأنكم لا بُدَّ مفارقوها بالموت. وكأن الحق - تبارك وتعالى - يخفف عنهم ما يلاقونه من مفارقة الأهل والوطن والمال والأولاد.

كما أننا نلحظ في قوله سبحانه { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... } [العنكبوت: 57] بعد{ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ... }[العنكبوت: 56] أن الخواطر التي يمكن أن تطرأ على النفس البشرية حين يُشرِّع الله أمراً يهيج هذه الخواطر مثل{ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ... }[العنكبوت: 56] وما تثيره في النفس من حب الجمع والتملّك يجعل لك مع الأمر ما يهبِّط هذه الخواطر.

{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... } [العنكبوت: 57] حتى لا نطمعَ في حطام الدنيا، ويُلهينا إغراء المال والهجرة لجمعه، فالنهاية بعد ذلك كله الموت، وفقدان كل ما جمعت.

وهذه القضية واضحة في قوله سبحانه:{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا... }[التوبة: 28].

فلما أراد الله تعالى أن يُنهي وجود المشركين في البيت الحرام علم سبحانه أن المسلمين سيحسبون النتيجة المادية لمنع المشركين من دخول الحرم، وأنها ستؤثر على تجارتهم وأرزاقهم في مواسم التجارة والحج.

لذلك قال بعدها مباشرة:{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.... }[التوبة: 28] فساعةَ يقرأونها في التشريع يعلمون أن الله اطَّلع على ما في نفوسهم، وجاءهم بالردِّ عليه حتى لا يتكلموا به، وهذا يعني أن التشريع يأتي ليعالج كل خواطر النفس، فلا ينزعك من شيء تخافه إلا ومع التشريع ما يُذهِب هذه المخاوف.

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ... }.

(/3323)

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)

هذه في مقابل:{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... }[العنكبوت: 54-55] وذكر المقابل لزيادة النكاية بالكافرين، كما يقول سبحانه:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13-14].

فجَمْع المتقابلين يزيد من فَرْحة المؤمن، ويزيد من حَسْرة الكافر.

ومعنى { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً... } [العنكبوت: 58] أي: نُنزلهم ونُمكِّنهم منها، كما جاء في قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ... }[آل عمران: 121] يعني: تُنزِلهم أماكنهم.

والجنة تُطلق على الأرض ذات الخضرة والأشجار والأزهار في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه:{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ... }[البقرة: 266].

وقوله سبحانه:{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ... }[القلم: 17].

وقوله سبحانه:{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ... }[الكهف: 32].

فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من الخِصْب والنماء والجمال، وفيها أسباب القُوت والترف، إذا كان ذلك في دنيا الأسباب التي نراها، فما بالك بما أعدَّه الله لخَلْقه في الآخرة؟

ومن عجائب الجنة أنها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ... } [العنكبوت: 58] ونحن نعرف أن أنهار الدنيا تجري خلالها عبر الشُّطان التي تحجز الماء، أمّا في الجنة فتجري أنهارها بلا شُطآن.

لذلك لما كنا نسافر إلى بلاد المدنية والتقدّم، ونرى زخارف الحياة وترفها كنتُ أقول لمن معي: خذوا من هذا النعيم عِظَة، فهو ما أعدَّه البشر للبشر، فما بالكم بما أعدَّه ربُّ البشر للبشر؟

فإذا رأيتَ نعيماً عند أحد فلا تحقد عليه، بل ازْدَدْ به يقيناً في الله تعالى، وأن ما عنده أعظم من هذا. أَلاَ ترى أن الحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا عن الجنة يقول:{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ... }[محمد: 15] فيجعلها مثلاً؛ لأن ألفاظ اللغة لا تؤدي المعاني التي في الجنة ولا تَصِفها.

لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر " فكل ما جاء فيها ليس وصفاً لها إنما مجرد مثَل لها، ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة صَفّى المثل من شوائبه، فقال:{ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى... }[محمد: 15] ويكفي أن تعلم أن نعيم الجنة يأتي مناسباً لقدرة وإمكانيات المنِعم سبحانه.

وقوله سبحانه { خَالِدِينَ فِيهَا... } [العنكبوت: 58] لأن النعيم مهما كان واسعاً، ومهما تعددتْ ألوانه، فيُنغِّصه ويُؤرِّق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر، أما نعيم الجنة فدائم لا يزول ولا ينقطع، فلا يفوتك ولا تفوته، كما قال سبحانه:{ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }[الواقعة: 33] لا يُكدِّرها شيء.

إذن: فالرابح مَنْ آثر الآخرة على الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا مآله إلى زوال، ولا تقُلْ: إن عمر الدنيا كم مليون سنة، إنما عمرها مدة بقائك أنت فيها، وإلا فماذا تستفيد من عمر غيرك؟

ثم إنك تتمتع في الدنيا على قدر إمكاناتك ومجهوداتك، فنعيم الدنيا بالأسباب، لكن نعيم الآخرة بالمسبِّب سبحانه، لذلك ترى نعيماً صافياً لا يُنغِّصه شيء، فأنت ربما تأكل الأكْلة في الدنيا فتسبِّب لك المتاعب والمضايقات، كالمغص والانتفاخ، علاوة على ما تكرهه أثناء قضاء الحاجة للتخلُّص من فضلات هذه الأكلة.

أما في الآخرة فقد أعدَّ الله لك الطعام على قَدْر الحاجة، بحيث لا تكون له فضلات، لأنه طُهِي بكُنْ من الله تعالى.

لذلك سُئِل أحد علماء المسلمين: تقولون: إن الجنة تأكلون فيها، ولا تتغوطون، فكيف ذلك؟ فقال: ولم التعجب، أَلاَ تروْنَ الجنين في بطن أمه يتغذى وينمو ولا يتغوط؛ لأن الله تعالى يعطيه غذاءه على قدر حاجته للنمو، فلا يبقى منه فضلات، ولو تغوَّط في مشيمته لمات في بطن أمه.

وقوله تعالى: } نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ { [العنكبوت: 58] نعم، نعْم هذا الأجر؛ لأنك مكثْتَ إلى سِنَّ التكليف ترْبَع في نعم الله دون أنْ يُكلِّفك بشيء، ثم يعطيك على مدة التكليف أجراً لا ينقطع، ولا نهاية له، فأيُّ أجر أَسْخى من هذا؟ ويكفي أن الذي يقرِّر هذه الحقيقة هو الله، فهو سبحانه القائل: } نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ { [العنكبوت: 58].

ثم يقول الحق سبحانه: } الَّذِينَ صَبَرُواْ... {.

(/3324)

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

فهذه من صفات العاملين { الَّذِينَ صَبَرُواْ... } [العنكبوت: 59] فلا تظن أن العمل ما كان في بحبوحة العيش وترَف الحياة، فالعامل الحق هو الذي يصبر، وكلمة { الَّذِينَ صَبَرُواْ... } [العنكبوت: 59] تدل على أنه سيتعرَّض للابتلاء، كما قال سبحانه:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2].

فالذين اضطهدوا وعُذِّبوا حتى اضطروا للهجرة بدينهم صبروا، لكن هناك ما هو أكبر من الصبر؛ لأن خَصْمك من الجائز أنْ يصبر عليك، فيحتاج الأمر إلى المصابرة؛ لذلك قال سبحانه{ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ }[آل عمران: 200] ومعنى: صابره. يعني: تنافس معه في الصبر.

والصبر يكون على آفات الحياة لتتحملها، ويكون على مشقة التكاليف، وعلى إغراء المعصية، يقولون: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصدق الشاعر حين قال:وكُنْ رجلاً كالضِّرس يرسُو مكَانَهُ ليَمْضُغَ لاَ يَعْنيه حُلْو ولاَ مُرّفالمعنى { الَّذِينَ صَبَرُواْ... } [العنكبوت: 59] على الإيذاء { وَعَلَىا رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [العنكبوت: 59] أي: في الرزق، وكان المهاجرون عند هجرتهم يهتمون لأمر الرزق يقولون: ليس لنا هناك دار ولا عقار ولا.. إلخ. فأراد سبانه أنْ يُطمئِن قلوبهم على مسألة الرزق، فقال { وَعَلَىا رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [العنكبوت: 59].

فالذي خلقك لا بُدَّ أنْ يخلق لك رزقك، ومن عجيب أمر الرزق أن رزقك ليس هو ما تملك إنما ما تنتفع به حقيقة، فقد تملك شيئاً ويُسرق منك، وقد يُطهى لك الطعام، ولا تأكله، بل أدقّ من ذلك قد تأكله ولا يصل إلى معدتك، وربما يصل إلى المعدة وتقيئه، وأكثر من ذلك قد يتمثل الغذاء إلى دم ثم ينزف منك في جُرْح أو لدغة بعوضة أو غير ذلك؛ لأن هذا ليس من رزقك أنت، بل رزق لمخلوق آخر.

إنك تعجب حينما ترى التمساح مثلاًعلى ضخامته وخوف الناس منه، ومع ذلك تراه بعد أنْ يأكل يخرج إلى اليابسة، حيث يفتح فمه لصغار الطيور، فتتولى تنظيف ما بين أسنانه من فضلات الطعام، وترى بينهما انسجاماً تاماً وتعاوناً إيجابياً، فحين يتعرض التمساح مثلاً لهجمة الصياد يُحدِث صوتاً معيناً يفهمه التمساح فيسرع بالهرب.

فانظر من أين ينال هذا الطير قوته؟ وأين خبأ الله له رزقه؟ لذلك يقولون (اللي شَقُّه خلق لقُّه).

وسبق أن ضربنا مثلاً على خصوصية الرزق بالجنين في بطن أمه، فحينما تحمل الأم بالجنين يتحول الدم إلى غذاء للطفل، فإنْ لم تحمل نزل هذا الدم ليرمي به دون أنْ تستفيد منه الأم، لماذا؟ لأنه رِزْق الجنين، وليس رزقها هي.

لذلك نجد الآية بعدها تقول: { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ... }.

(/3325)

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

يريد سبحانه أن يُطمئن خَلْقه على أرزاقهم، فيقول { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ... } [العنكبوت: 60] كأيٍّ لها مَعَانٍ متعددة، مثل كم الخبرية حين تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنتُ إليك؟ يعني: كثيراً جداً، كذلك في { وَكَأَيِّن... } [العنكبوت: 60] أي: كثير كما في{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ... }[آل عمران: 146].

والدابة: هي التي تدبّ على الأرض، والمراد كل حيٍّ ذي حركة، وقد تقول: فالنمل - مثلاً - لا نسمع له دبَّة على الأرض أيُعَدُّ من الدابة؟ نعم فله دبَّة على الأرض، لكنك لا تسمعها، فالذي خلقها يسمع دبيبها؛ لأن الذي يقبل الصغر يقبل الكبر، لكن ليس عندك أنت آلة السماع.

بدليل أن الذي يعاني من ضعف السمع مثلاً ينصحه الطبيب بتركيب سماعة للأذن فيسمع، وكذلك في النظارة للبصر، إذن: فكل شيء له أثر مرئي أو مسموع، لكن المهم في الآلة التي تسمع أو ترى؛ لذلك يقولون إنْ أرادوا المبالغة؛ فلان يسمع دَبّة النملة.

ومعنى { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا... } [العنكبوت: 60] ليست كلّ الدواب تحمل رزقها، فكثير منها لا تحمل رزقاً، ومع ذلك تأكل وتعيش، ويحتمل أن يكون المعنى: لأنها لا تقدر على حمله، أو تقدر على حمله ولكنها لا تفعل، فمثلاً القمل والبراغيث التي تكثر مع الإهمال في النظافة الشخصية أتحمل رزقاً؟ والناموسة التي تتغذى مع ضَعْفها على دم الإنسان الفتوة المتجبر، الميكروب الذي يفتك بالإنسان.. إلخ هذه أشياء لا تحمل رزقها.

أما الحمار مثلاً مع قدرته على الحمل لا يحمل رزقه؛ لذلك تراه إنْ شبع لا يدخر شيئاً، وربما يدوس الأكل الباقي، أو يبول عليه، وكذلك كل الحيوانات حتى أنهم يقولون: لا يعرف الادخار من المخلوقات إلا الإنسان والفأر والنمل.

وقد جعل الله الادخار في هؤلاء لحكمة ولبيان طلاقة قدرته تعالى، وأن الادخار عند هذه المخلوقات ليس قُصوراً من الخالق سبحانه في أن يجعل بعض الدوابّ لا تحمل رزقها، بل يخلق لها وسائل تعجز أنت عنها.

ولك أن تتأمل قرى النمل وما فيها من عجائب، فقد لاحظ الباحثون في هذا المجال أنك لو تركت بقايا طعام مثلاً تأتي نملة وتحوم حوله ثم تنصرف وترسل إليه عدداً من النمل يستطيع حمل هذه القطعة، ولو ضاعفت وزن هذه القطعة لتضاعف عدد النمل.

إذن: فهي مملكة في غاية التنظيم والدقة والتخصص، والأعجب من ذلك أنهم لاحظوا على النمل أنها تُخرِج فُتاتاً أبيض صغيراً أمام الأعشاش، فلما فحصوه وجدوه الزريعة التي تُسبِّب الإنبات في الحبة حتى لا تنبت، فتهدم عليهم العُشَّ، فسبحان الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى.

وأعجب من ذلك، وجدوا النمل يفلق حبة الكسبرة إلى أربعة أقسام، لأن نصف حبة الكسبرة يمكنه أنْ يَنبت منفرداً، فقسموا النصف.

إذن: فكثير من الدواب لا تحمل رزقها } اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ... { [العنكبوت: 60] فذكر الدواب أولاً في مجال الرزق ثم عطف عليها } وَإِيَّاكُمْ... { [العنكبوت: 60] فنحن معطوفون في الرزق على الدواب، مع أن الإنسان هو الأصل، وهو المكرّم، والعالم كله خُلِق من أجله لخدمته، ومع ذلك لم يقُلْ سبحانه: نحن نرزقكم وإياهم، لماذا؟ قالوا: لأنك تظن أنها لا تستطيع أن تحمل أو تُدبِّر رزقها، ولا تتصرف فيه، فلفت نظرك إلى أننا سنرزقها قبلك.

وقد وقف المستشرقون الذين يأخذون القرآن بغير الملَكة العربية يعترضون على قوله تعالى:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... }[الإسراء: 31].

وقوله سبحانه:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... }[الأنعام: 151].

يقولون: أيّهما أبلغ من الأخرى، وإن كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة.

وهذا الاعتراض ناتج عن ظنهم أن الآيتين بمعنى واحد، وهما مختلفتان، فالأولى{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... }[الإسراء: 31] فالفقر هنا غير موجود وهم يخافونه، أما في:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... }[الأنعام: 151] فالفقر موجود فعلاً. فهما مختلفتان في الصَّدْر، وكذلك مختلفتان في العَجُز.

ففي الأولى قال:{ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... }[الإسراء: 31] لأن الفقر غير موجود، وأنت غير مشغول برزقك، فبدأ بالأولاد، أمّا في الثانية فقال:{ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... }[الأنعام: 151] وقدم الآباء؛ لأن الفقر موجود، والإنسان مشغول أولاً برزق نفسه قبل رزق أولاده.

إذن: فلكل آية معنى وانسجام بين صَدْرها وعَجُزها، المهم أن تتدبر لغة القرآن، وتفهم عن الله مراده.

وقوله سبحانه: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 60] واختار هنا السميع العليم؛ لأن الحق سبحانه له قيُّومية على خَلْقه، فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس، إنما خلق الخَلْق وهو سبحانه قائم عليه بقيوميته تعالى؛ لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ... }[البقرة: 255] يعني: يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم؛ لأن ربكم لا ينام.

ومناسبة السميع هنا؛ أن الجوع إذا هَزَّ إنساناً ربما يصيح صيحة، أو يُحِدث شيئاً يدل على أنه جائع، فكأنه يقول: لم أجعلكم كذلك.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ... {.

(/3326)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)

يقول تعالى للذين لا تكفيهم آية القرآن التي نزلت على رسول الله، ويطلبون منه آيات أخرى، يقول لهم: لقد جعل الله لكم الآيات في الكون قبل أنْ يرسل الرسل، آيات دالة على الإعجاز في السماوات وفي الأرض، فهل منكم مَنْ يستطيع أنْ يخلق شيئاً منها مهما صَغُر؟

إن خلق السماوات والأرض معجزة كونية لا تنتهي، فلماذا تطلبون المزيد من الآيات، وما جعلها الله إلا لبيان صِدْق الرسل في البلاغ عن الله ليؤمن الناس بهم.

لذلك يقول سبحانه في الرد عليهم:{ هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ... }[لقمان: 11] فخلْق السماوات والأرض والشمس والقمر إعجاز للدنيا كلها، وخصوصاً الكفرة فيها.

ومسألة الخَلْق هذه من الوضوح بحيث لا يستطيع أحد إنكارها - كما سبق أنْ أوضحنا - لذلك يقولون هنا في إجابة السؤال { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... } [العنكبوت: 61] وهذا الاعتراف منهم يستوجب من المؤمن أنْ يحمد الله عليه، فيقول: الحمد لله أن اعترفوا بهذه الحقيقة بأنفسهم، الحمد لله الذي أنطقهم بكلمة الحق، وأظهر الحجة التي تبطل كفرهم.

وقوله تعالى { فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ } [العنكبوت: 61] أي: كيف بعد هذا الاعتراف ينصرفون عن الله، وينصرفون عن الحق؟

{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ... }.

(/3327)

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)

{ يَبْسُطُ الرِّزْقَ... } [العنكبوت: 62]: يُوسِّعه، { وَيَقْدِرُ... } [العنكبوت: 62] يعني يضيق، وآفة الناس في هذه المسألة أنهم لا يفسرون الرزق إلا بالمال، والرزق في الواقع كل ما ينتفع به الإنسان، فالعلم رزق، والحلم رزق، والجبروت رزق، والاستكانة رزق، وإتقان الصَّنْعة رزق.. إلخ.

والله سبحانه يُوسِّع الرزق لمَنْ يشاء، ويُضيِّقه على مَنْ يشاء، فالذي ضُيِّق عيه يحتاج لمن بسط له، وكذلك يبسط الرزق في شيء ويُضيِّقه في شيء آخر، فهذا بسط له في العقل مثلاً، وضيق عليه في المال.

فكأن الحق - سبحانه وتعالى - نثر مواهب الملكات بين خَلْقه، لم يجمعها كلها في واحد، وسبق أن أوضحنا أن مجموع الملكات عند الجميع متساوية في النهاية، فَمنْ بُسِط له في شيء ضُيِّق عليه في آخر؛ ليظل المجتمع مربوطاً برباط الاحتياج، ولا يستغني الناس بعضهم عن بعض، وحتى تتكامل المواهب بين الناس، فتساند لا تتعاند.

إذن: فالحق - سبحانه وتعالى - حين يبسط الرزق لعبد، ويَقْدره على آخر، لا يعني هذا أنه يحب الأول ويكره الآخر، ولو نظرتَ إلى كل جوانب الرزق وزوايا العطاء لوجدتها متساوية.

وحين نتأمل قوله سبحانه:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ... }[الزخرف: 32] فأيُّ بعض مرفوع؟ وأيُّ بعض مرفوع عليه؟ الكل مرفوع في جهة اختصاصه، ومرفوع عليه في غير جهة اختصاصه، إذن: فالجميع سواء.

وسبق أنْ ضربنا مثلاً لهذه القضية. وقلنا: إن العظيم الذي يسكن القصر يحتاج إلى العامل البسيط الذي يصلح له دورة المياه، وينقذه من الرائحة الكريهة التي يتأفف منها، فيسعى هو إليه ويبحث عنه، وربما ذهب إليه في محل عمله وأحضره بسيارته الفارهة، بل ويرجوه إنْ كان مشغولاً.

ففي هذه الحالة، ترى العامل مرفوعاً على الباشا العظيم، فلا يظهر الرفع إلا في وقت الحاجة للمرفوع.

وأيضاً لو لم يكُنْ بين الناس غني وفقير، مَنْ سيقضي لنا المصالح في الحقل، وفي المصنع، وفي السوق.. إلخ لا بُدَّ أنْ تُبنى هذه المسائل على الاحتياج، لا على التفضُّل. إذن: إنْ أردت أن تقارن بين الخَلْق فلا تحقِرنَّ أحداً؛ لأنه قد يفضل عليك في موهبة ما، فتحتاج أنت إليه.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ... }.

(/3328)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

وهنا أيضاً قالوا { اللَّهُ } لأن إنزال المطر من السماء وإحياء الأرض به بعد موتها آية كونية واضحة لم يدَّعِها أحد، فهي ثابتة لله تعالى، لا يُنكرها أحد حتى الكافرون، فلئن سألتهم هذا السؤال { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... } [العنكبوت: 63] لذلك يأمرنا الحق سبحانه بأن نقول بعد هذا الإقرار { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ... } [العنكبوت: 63] الذي أنطقهم بالحق، وأقام عليهم الحجة { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [العنكبوت: 63] لأنهم أقرُّوا بآيات الله في خَلْق الكون، ومع ذلك كفروا به.

(/3329)

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)

الحياة: نعرفها بأنها ما يكون في الإنسان الأعلى في الوجود من حِسٍّ وحركة، فإذا انتهى حِسُّه وحركته لم تَعُدْ له حياة، وهذه الحياة موصوفة هنا بأوصاف ثلاثة: دنيا ولهو ولعب، كلمة دنيا تدل على أن مقابلها عُلْيا فساعة تسمع هذا الوصف " الحياة الدنيا " فاعلم أن هذا الوصف ما جاء إلا ليميزها عن حياة أخرى، تشترك معها في أنها حياة لله إلا أنها حياة عليا، هذه الحياة العُلْيا هي التي قال عنها ربنا - تبارك وتعالى - " الدار الآخرة ".

وإنْ كنا قد عرَّفنا الحياة الدنيا بأنها الحِسُّ والحركة في الإنسان، فالواقع عند التقنين أن لكل شيء في الوجود حياةً تُناسب مهمته، بدليل قوله تعالى حين يُنهي هذه الحياة:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88].

فما يُقال له شيء لا بُدَّ أنْ يطرأ عليه الهلاك، والهلاك تقابله الحياة، بدليل قوله سبحانه:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42].

فالحياة ضد الهلاك، إلا أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة، وكذلك الحياة في كل شيء بحسبه، حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة، ترتقي مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن، وما دامت يطرأ عليها هذا التغيير فلا بُدَّ أن فيها حياةً وتفاعلاً لا ندركه نحن.

إذن: فكل شيء له حياة، لكن الآفة أننا نريد حياة كالتي فينا نحن، وأذكر نحن في مراحل التعليم قالوا لنا: هناك شيء اسمه المغناطيس، وعملية اسمها الممغنطة، فحين تُمغنط قطعة من الحديد تُكسِبها قدرة على جَذْب قطعة أخرى وفي اتجاه معين، إذن: في الحديد حياة وحركة وتفاعل، لكن ليس عندك الآلة التي تدرك بها هذه الحركة، وفيها ذرات داخلية لا تُدرَك بالعين المجردة تم تعديلها بالمغنطة إلى جهة معينة.

واقرأ قوله تعالى:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... }[فصلت: 21] فللجوارح نفسها حياة، ولها كلام ومنطق، لكن لا ندركه نحن؛ لأن حياتها ليست كحياتنا. إنك لو تتبعتَ مثلاً طبقاً أو كوباً من البلاستيك لوجدته تغيَّر لونه مع مرور الزمن، وتغيُّر اللون فيه يدل على وجود حياة وحركة بين ذراته، ولو لم تكُنْ فيه حياة لكان جامداً مثل الزجاج، لا يطرأ عليه تغيُّر اللون.

والحق - تبارك وتعالى - يصف الدار الآخرة بأنها { الْحَيَوَانُ.. } [العنكبوت: 64] وفرْق بين الحياة والحيوان، الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الأفراد، ويحياها النبات، ثم تؤول إلى الموت والفناء، أمّا الحيوان فيعني الحياة الأرقى في الآخرة؛ لأنها حياة باقية حياة حقيقية.

والحق - سبحانه وتعالى - أعطانا صورة للحياة الدنيا، الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم

{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي... }[الحجر: 29] فمن الطين خَلق آدم، وسوَّاه ونفخ فيه من روحه تعالى، فدبَّتْ فيه الحياة المادية.

لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول الله عنها:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ... }[الأنفال: 24] فكيف يخاطبهم بذلك وهم أحياء؟ لا بُدَّ أن المراد حياة أخرى غير هذه الحياة المادية، المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول الله.

لذلك سمَّى المنهج روحاً{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا... }[الشورى: 52] وسمَّى الملَك الذي نزل به روحاً:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193].

إذن: } وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ... { [العنكبوت: 64] أي: الحياة الحقيقية التي لا تفوتها ولا تفوتك، ولا يفارقك نعيمها، ولا يُنغِّصه عليك شيء، كما أن التنعُّم في الدنيا على قَدْر إمكاناتك وأسبابك، أمّا في الآخرة فالنعيم على قَدْر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى.

ثم يأتي وَصْف الدنيا بأنها لَهْو، ولَعِب، وهما حركتان من حركات جوارح الإنسان، لكنها حركة لا مَقصدَ لها إلا الحركة في ذاتها دون هدف منها؛ لذلك نقول لمن يعمل عملاً لا فائدة منه " عبث ".

إذن: اللهو واللعب عبث، لكن يختلفان من ناحية أخرى، فاللعب حركة لا فائدة منها، لكنه لا يصرفك عن واجب يعطي فائدة، كالولد حين يلعب، فاللعب لا يصرفه عن شيء إذن: فاللعب لمن لم يبلغ، أمّا البالغ المكلف فاللعب في حقِّه يسمى لَهْواً، لأنه كُلِّف فترك ما كُلِّف به إلى ما لم يكلّف به، ولَهَا عن الواجب، ومنه: لَهْو الحديث.

فقوله تعالى } وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ... { [العنكبوت: 64] أي: إنْ جُرِّدت عن الحياة الأخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهاج.

وقوله: } لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ { [العنكبوت: 64] يُحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني: امتنع علمهم بها، أو تكون تمنياً يعني: يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة، حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة؛ لأنهم لو علموها لأقبلوا على منهج ربهم لينالوا كُلَّ هذا العطاء الممتدّ، ولَسلكوا طريق الإيمان بدل طريق الكفر، فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا.

ثم يقول الحق سبحانه: } فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ... {.

(/3330)

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

ينقلنا السياق هنا من الكلام عن حقيقة كل من الدنيا والآخرة إلى الحديث عن الفُلْك، فما العلاقة بينهما؟

المتكلم هنا هو الله تعالى، وواضع كل شيء في موضعه، ولا يغيب عنك أنه لا بُدَّ أنْ تتدبر كلام الله لتفهم مراده، فالله لا يريدنا مُقبلين على ظاهر القرآن فحسب، إنما أنْ نتعمق في فهمه وتأمله، وننظر في معطياته الحقيقية:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ... }[النساء: 82].

والعلاقة هنا أن الآية السابقة جاءتْ لتقرر أن الدنيا دار لهو ولعب لا فائدة منها إذا ما بَعُدت عن منهج الله، ولم تحسب حساباً لحياة أخرى هي الحياة الحقيقية وهي الحيوان، فكان على العاقل أنْ يحرص على الآخرة، وأنْ يعمل لها باتباع منهج الله في الدنيا.

إذن: فالدنيا ليست غاية، بل هي وسيلة، وأنت أيها الذي أعرضتَ عن منهج ربك جلعتَ الدنيا غايتك، والدنيا إنْ كانت هي الغاية فما أتفهها من غاية، إنما اجعلها وسيلة للآخرة ومزرعة لدار الحيوان. وكذلك الحال في الفُلْك، فهي وسيلة تُوصِّلك إلى هدف، وإلى غاية، وليست هي غاية في حَدٍّ ذاتها.

{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... } [العنبكوت: 65] والفلك: السفينة، وتُطلق على المفرد وعلى الجمع، فيقول تعالى:{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ... }[هود: 38] وقوله{ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... }[يونس: 22] واضح من السياق أنها ليستْ دعوة الحمد، كأن يقولوا مثلاً{ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ }[الزخرف: 13] بل هي دعوة الاضطرار بعد أنْ تعرَّضوا لشدة وعطب لا تنجيهم منها أسبابهم، بدليل قوله تعالى بعدها: { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت: 65].

فهذه تعطينا أنهم ركبوا في السفينة، فلما تعرَّضوا للعطب، وضاقتْ بهم أسبابهم دعوا الله مخلصين له الدين.

وفي لقطة أخرى يقول القرآن:{ حَتَّىا إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }[يونس: 22].

فمعنى{ أُحِيطَ بِهِمْ... }[يونس: 22] أي: لا يوجد لهم مفر ولا مهرب ولا مفزع يفزعون إليه إلا أنْ يتوجهوا إلى الله بدعاءخالص ويقين إيمان في أنهم لا ملجأ لهم إلا الله، وقد كانوا في أول الرحلة فرحين بمركبهم مسرورين به، وساعتها لم يكُن الله في بالهم، إنما لما ضاقت بهم الحيل عادوا إلى الحق، فالوقت لا يحتمل المراوغة.

لأن الإنسان عادةً لا يخدع نفسه، فحتى الكافر حين تضيق به أسباب النجاة يلجأ بالفطرة إلى الله الحق، وينسى آلهته ومعبوداته من دون الله؛ لأنه لا يسلم نفسه أبداً، ولا يتمادى حينئذ في كذبة الآلهة والأصنام.

لذلك: { دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

.. { [العنكبوت: 65] دعوة خالصة بيقين ثابت في الإله الحق، دعوة لا تشوبها شائبة شرك، لا ظاهر، ولا خفي، فلا ينفع في هذا الوقت إلا الله المعبود بحقٍّ.

وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثَل من حياتنا الواقعية، قلنا: إن حلاق الصحة كان يقوم بدور الطبيب في القرية، وله بين الناس نفس مكانة الطبيب في وقت لم يكُنْ هناك أطباء، فلما خرَّجَتْ كلية الطب أطباء وانتشروا في القرى كان الحلاق أول المهاجمين للطبيب؛ لأنه يزاحمه في رزقه، ويصرف الناس عنه؛ لذلك كان يذم في الطبيب ويُشكِّك في خبرته وقدراته.

لكن لما مرض ابنه، وارتفعت درجة حرارته، وخاف عليه قال لزوجته: انتظري إلى ظلام الليل لأذهب به إلى الطبيب - يعني: في غفلة الناس.

فالإنسان بطبعه لا يخدع نفسه، ولا يسلمها إذا جدَّ الجد، وفيه فطرة إيمانية إذا ما صفيتها في الذات البشرية لا تجد في النهاية إلا قوة واحدة هي قوة الله.

حتى الملاحدة حين تضيق بهم الأسباب يقولون: يا رب، يا الله. يقولونها من تلقاء أنفسهم، دون مرور بالعقل الذي أنكروا به وجود الله. وهذا يعني أن الفطرة الإيمانية قد تحجبها الأغيار البشرية وتلغيها، فإذا ما نامت الأغيار البشرية وتلاشتْ لحدثٍ من الأحداث ظهرتْ الفطرة الإيمانية على السطح تلهمك بلا شعور.

لذلك نلحظ في قوله سبحانه:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ... }[الأعراف: 172] شهدوا لأنهم ما يزالون في عالم الذر، لا تتحكم فيهم الأغيار البشرية{ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ... }[الأعراف: 172-173].

والله خلق الإنسان خليفة له في الأرض، وسخر له كل هذا الكون، فإنْ ظلَّ متمسكاً بهذا المنهج، ووقف عند حد الخلافة يفوز، أما إنْ ظن أنه أصيل في الكون يخيب ويخسر، لكن الله الذي خلقه يعلم الأغيار فيه وهو خَلْقه وصنعته؛ لذلك وجهه: أنت خليفتي في أرضي، وعليك أن تنظر إلى ما طُلِب منك فتؤديه، وإلا فسدت حياتك وتصادمت مع الآخرين؛ لأنك لست وحدك فيها، ولكي تنسجم مع غيرك لا بُدَّ أن تسير وَفْق منهجي، وفي دائرة قوانين من استخلفك.

ثم يُنبِّهه من ناحية أخرى: يقول أنت أيها الإنسان، اعلم أن الأسباب ستستجيب لك، فإياك أن تظن أن لك قدرةً عليها، أو أن لك جاهاً وعظمة، فتنسى أنك خليفة؛ لذلك يقول سبحانه:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6 - 7] احذر حين تتم لك الأمور وتطاوعك الأسباب{ إِنَّ إِلَىا رَبِّكَ الرُّجْعَىا }[العلق: 8] فسوف يقابلك من الأحداث ما لا تستطيع أسبابك أنْ تدفعَها، ولن تجد مرجعاً إلا إليَّ.

وكيف يطغى الإنسان وقد أعطاه الله فيضاً من فيض كماله، أعطاه قدرة من قدرته، وعلماً من علمه.

. إلخ فإذا نظرتَ نظرة بسيطة في فيوضات الله عليك لوجدتها كثيرة، بالله ماذا تفعل إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك، أو أن تُحرِّك يدك أو رِجْلك؟ لا شيء، بمجرد أن تريد تنفعل لك أعضاؤك، وتطاوعك من حيث لا تدري.

وسبق أنْ قارنّا بين حركة الإنسان وحركة الحفار مثلاً، وكيف أنه يحتاج إلى عمليات مُعقدة، فكل حركة منه لها زرّ خاص يؤديها، فماذا تفعل أنت إنْ أردتَ أنْ تؤدي مثل هذه الحركات؟

إنك بمجرد الإرادة ينفعل لك العضو، وكأن فيك فيضاً من قوله تعالى:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فإذا كنتَ أنت تفعل بمجرد أن تريد، فلماذا لا تصدق هذا في حقِّ الله تبارك وتعالى؟

لكن هذه الحركة وانفعال الأعضاء لك ليس ذاتياً فيك، ويستطيع خالقك أنْ يسلبها منك، فتريد أن ترفع يدك فلا تستطيع، فأنت تحت قيوميته تعالى، فلم يُعطِكَ من صفاته، ثم يتركك.. فربنا سبحانه يحذرنا: إذا استغنيتَ ستَطغى؛ فتنبَّه أن إلى ربك الرُّجْعى.

ثم يلفت نظرنا من الآن إلى قضية أخرى قبل أنْ نتعرض للمخاطر:{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ.... }[يونس: 107] فلا تتعب نفسك، وتذهب هنا أو هناك؛ لأنه{ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ... }[يونس: 107].

هذه نصيحتي لك؛ لأنك صنعتي، وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال، فإذا مسَّك ضر لا تقدر على دَفْعه بأسبابك، فعليك بباب ربك.

هذه ثلاث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أنْ تحلَّ بك الأحداث والمصائب: إن استغنيت ستطغى، وأن إلى ربك الرجعى، وإذا مسَّك ضر، ولا حيلةَ لك في دفعه بأسبابك، فليس لك إلا الله تفزع إليه، والإله الذي يُنبِّهنا إلى المخاطر لنتلافاها إله رحيم.

إذن: فأنتم تحبون الحياة، ولما نزلتْ بكم الأحداث والخطوب في السفينة خِفْتم الموت، ودعوتُم الله بالنجاة، فأنتم حريصون على الحياة الدنيا، فلماذا لا تؤمنون بالله فتنالون حياة أخرى أبْقى وأدوم؟ والطريق إليها بالإيمان واليقين، وبمنهج الله في (افعل) و (لا تفعل).

هذه قضية ذكرها القرآن، أمَّا واقع الحياة فقد أكدها، وجاءت الأحداث وَفْق ما قال. القضية:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ... }[يونس: 12] الإنسان يعني مُطْلق الإنسان: المؤمن والكافر{ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً... }[يونس: 12] يعني: في كل الأحوال، فلما جاءه الخطر وأصابه الضر دعا الله على أيِّ حال كان.

وهذه الأحوال تمثل مراحل راحات النفس، فمثلاً حين تسير وأنت تحمل شيئاً، فحين تتعب أولاً تضع عنك هذا الحِمْل، ثم تتوقف عن السير لتستريح، فإنْ كان التعب أشد تقعد، وإلا تَضطجع على جنبك.

فأنت في وضع الوقوف تحمل ثقل الجسم كله على القدمين فتكون الراحة أقل، أمّا في حالة القعود يُوزع ثقل الجسم على الوركين والمقعدة، وفي الاضطجاع يُوزع نصف الجسم على نصفه فتكون الراحة أكبر، وفي ضوء هذا نفهم أن الله يستجيب لك حين تدعوه قائماً، أو قاعداً، أو على جنبك.

وعجيب أمر الإنسان إذا نجَّاه الله مما يخاف وكشف عنه الضر عاد مرة أخرى ظالماً لنفسه:{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ... }[يونس: 12].

وفي لقطة أخرى يقول تعالى في هذه المسألة:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ... }[الزمر: 8] أيُّ ضر{ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ... }[الزمر: 8] ويا ليته نسي وسكت إنما{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً... }[الزمر: 8] فقال: الفضل لفلان، وقد استغثت بفلان، ولجأت إلى فلان.

نلحظ أن الكلام في هذه الآيات عن الإنسان المفرد، والإنسان حين يتضرع إلى الله لا يطلع عليه أحد، فالأمر بينه وبين ربه، لكن الحق سبحانه يريد أن يفضح الناس ببعض، فيقول في موضع آخر:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 67].

فذكر الجماعة ليفضحهم أمام بعض؛ لأن الإنسان يستر على نفسه، فالحكمة من الجمع هنا أن رؤية الناس قد تكون مانعة من الشر، فمثلاً في موسم الحج ترى أكابر القوم وأوسطهم وأدناهم سواسية في الطواف، ويقف الواحد منهم يبكي عند الملتزم، وحين يراك صاحب المنصب أو المركز وهو مَنْ هو في بلده ساعة يعرف أنك رأيته وهو يبكي في هذا الموقف تراه يتواضع لك، ولا يتعالى عليك بعدها.

فالحق سبحانه حين يُحذِّرنا من العودة إلى المعصية بعد أنْ يكشف عنا الضر إنما يعطينا المصل الواقي بصورة تحدث في الواقع، وكأنه تعالى يقول لنا: خذوا بالكم، واعلموا أنكم مفضوحون بكتاب الله فيما تُحدثون من أحداث في حياتكم، فكل منكم ينبغي أنْ يعلم أنه مراقب من الأزل ومكتوبة عليه خواطره؛ لأن معنى القرآن الحق أنه لا يتغير، وإذا قال الله فيه شيئاً فلا بُدَّ أنْ يحدث كما أخبر الله به.

(/3331)

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

واللام في { لِيَكْفُرُواْ... } [العنكبوت: 66] ليست لام التعليل؛ لأن الكفر لم يكُنْ مقصداً لهم، وحين عادوا بعد أن نجاهم الله إنما عادوا إلى أصلهم، فاللام هنا لام الأمر كما لو قلت: قم يا زيد وليقم عمرو، وعلامة لام الأمر أن تكون ساكنة، وهي هنا مكسورة لأنها في بداية الكلام، حيث لا يُبدأ بساكن، ولو وضعنا قبلها حرفاً لتبيَّن سكونها.

ومثالها في قوله تعالى:{ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }[الحج: 29].

وقوله سبحانه:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ... }[الطلاق: 7].

والدليل على أنها لام الأمر سكون اللام بعدها في قراءة من سكنها، وفي { وَلِيَتَمَتَّعُواْ... } [العنكبوت: 66] وقوله سبحانه: { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } [العنكبوت: 66] فرْق في الاستقبال بين السين وسوف، فلو قال: فسيعلمون لَدلَّتْ على التهديد في المستقبل القريب، وأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، أمّا " سوف " فتدلّ على المستقبل البعيد، فتشمل التهديد في الدنيا وفي الآخرة فهي تستغرق الزمن كله؛ لأن المسلمين في باديء الأمر كانوا مستضعفين، لا يستطيعون حماية أنفسهم، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر الله لهم فلو قال حينئذ في تهديد الكفار " فسيعلمون " لم تكن مناسبة، إنما أعطى الأمد الأوسع للتهديد، فقال: { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } [العنكبوت: 66].

لذلك تجد الدقة في أخْذ العهد من الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الرسول للأنصار، فلما قابلوا رسول الله قالوا: خُذْ لنفسك. قال: تحمونني مما تحمون منه أنفسكم وأعراضكم وأموالكم.

فقالوا: فما لنا إنْ فعلنا؟ كان من الممكن أن يقول لهم: ستملكون الأرض أو ستنشر دعوة الله بكم وتنتصرون على عدوكم، لكن هذه الوعود قد يراها بعضهم، ويموت بعضهم قبل أنْ تتحقق، فلا يرى منها شيئاً؛ لذلك ذكر لهم جزاءً يستوي فيه الجميع مَنْ يعيش منهم، ومَنْ يموت، فقال: " لكم الجنة ".

وأيضاً حين يصرفهم عن دنيا الناس إلى أمر يكون في الدنيا أيضاً، فهي صفقة خاسرة، إنما أراد أنْ يصرفهم عن دنيا الناس إلى شيء أعظم مما في دنيا الناس، وليس هناك أعظم من دنيا الناس إلا الجنة.

والصحابي الذي أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الجنة جزاء الشهيد، وكان يمضغ تمرة في فمه فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله؟ قال: بلى، فألقى التمرات وبادر إلى ساحة القتال يستعجل هذا الجزاء.

إذن: فسوف صالحة للزمن المستقبل كله، أمّا السين فللقريب؛ لذلك يستخدمها القرآن في مسائل الدنيا، كما في قوله تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ... }[فصلت: 53].

وهذه الرؤية ممتدة من زمن رسول الله، وإلى أنْ تقوم الساعة، فكل يوم يجدُّ في ظواهر الكون أمور تدل على قدرة الله تعالى، فمستقبل أسرار الله في كونه لا تنتهي أبداً إلا بالسر الأعظم في الآخرة، ففي زمن رسول الله قال

{ سَنُرِيهِمْ... }[فصلت: 53] وستظل كذلك{ سَنُرِيهِمْ... }[فصلت: 53] إلى أنْ تقوم الساعة.

ونلحظ أن المصاحف ما زال في رسمها كلام حتى الآن، فهنا } وَلِيَتَمَتَّعُواْ... { [العنكبوت: 66] تجد تحت اللام كسرة، مع أنها ساكنة، وهذا يعني أن كتاب الله غالب، وليس هناك محصٍ له.

وأذكر أن سيدنا الشيخ عبد الباقي رضي الله عنه وجزاه الله عَمَّا قدَّم للإسلام خير الجزاء - أعدَّ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وحاول أن يحصي ألفاظه لا سيما لفظ الجلالة (الله) الذي من أجله أعدَّ هذا الكتاب، ومع ذلك نسي لفظ الجلالة في البسملة، وبدأ من{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة: 2]؛ لذلك نقص العدد عنده واحداً. وما ذلك إلا لأن كتاب الله أعظم وأكبر من أنْ يُحاط به.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً... {.

(/3332)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

(رأى) قلنا: تأتي بصرية، وتأتي بمعنى عَلِم، ومنه قولنا في الجدال مثلاً أرى في الموضوع الفلاني كذا وكذا، ويقولون: (وَلِرَأىَ الرؤْيا انْمِ ما لِعَلِمَا)، وتجد في أساليب القرآن كلاماً عن الرؤيا المخاطب بها غير راء للموضوع، كما في قوله سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].

ومعلوم أن النبي لم يَرَ ما حدث من أمر الفيل؛ لأنه وُلِد في هذا العام فرأى هنا بمعنى علم، لكن لماذا عدل عن (ألم تعلم) إلى (ألم تر)؟ قالوا: لأن المتكلم هنا هو الله تعالى، فكأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتُك بشيء، فإن إخباري لك به أصدق من رؤيتك.

يقول سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ... } [العنكبوت: 67] فالحرم آمِن رغم ما حدث له من ترويع قبل الإسلام حين فزّعه أبرهة، وفي العصر الحديث لما فزَّعه (جهيمان)، وعلى مَرِّ العصور حدثتْ تجاوزات في الحرم تتناقض في ظاهرها مع هذا الأمن.

ونقول: كلمة { حَرَماً آمِناً.... } [العنكبوت: 67] في القرآن بالنسبة للكعبة فيها ثلاث إطلاقات: فالذين يعيشون فيه وقت نزول هذه الآيات يروْنَ أنه حرم آمن، وهذا الأمن موهوب لهم منذ دعوة سيدنا إبراهيم - عليه السلام -.

فحين دعا ربه:{ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.... }[إبراهيم: 37] كان مكاناً خالياً، لا حياة فيه وغير مسكون، ومعنى ذلك أنه لم تكُنْ به مُقوِّمات الحياة، فالإنسان لا يبني ولا يستقر إلا حيث يجد مكاناً يأمن فيه على نفسه، ويتوفر له فيه كل مُقوِّمات حياته.

لذلك دعا إبراهيم ربه أنْ يجعل هذا المكان بلداً آمناً يعني يصلح لأنْ يكون بلداً، فقال:{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً }[البقرة: 126].

وبلد هنا نكرة تعني: أيْ بلد لمؤمنين أو لكافرين، فلما استجاب الله له، وجعلها بلداً كأيِّ بلد تتوفر له مُقوِّمات الحياة دعا مرة أخرى:{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً... }[إبراهيم: 35] أي: هذه التي صارت بلداً أريد لها مَيْزة على كل البلاد، وأمناً أزيد من أمن أيّ بلد آخر، أمناً خاصاً بها، لا الأمن العام الذي تشترك فيه كل البلاد، لماذا؟ لأن فيها بيتك.

لذلك يرى فيها الإنسان قاتلَ أبيه، ولا يتعرَّض له حتى يخرج، فالجاني مؤمَّن إنْ دخل الحرم، لكن يُضيق عليه أسباب الحياة حتى يخرج، حتى لا يجترئ الناس على بيت الله ويفسدون أمنه، ومن هذا الأمن الخاص ألاَّ يصاد فيه، ولا يُعْضَد شجرة، ولا يُروَّع ساكنه.

وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول للمشركين: لماذا لا تؤمنون بهذا الدين الذي جعل لكم بلداً آمناً، في حين يُتخطف الناس من حولكم؟ لماذا لا تحترمون وجودكم في هذا الأمن الذي وهبه الله لكم.

وعجيب منهم أن يقولوا كما حكى القرآن عنهم:{ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... }[القصص: 57] كيف وقد حَمْيناكم أيام كنتم مشركين تعبدون الأصنام، أنترككم بعد أنْ تؤمنوا مع رسول الله.

وقصة هذا الأمن أولها في حادثة الفيل، لما جاء أبرهةُ ليهدم بيت الله ويُحوِّل الناس إلى بيت بناه باليمن، فردَّ الله كيدهم، وجعلهم كعصف مأكول، وحين نقرأ هذه السورة على الوَصْل بما بعدها تتبين لنا العِلَّة من هذا الأمن، ومن هذه الحماية، اقرأ:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 1-5] لماذا؟{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }[قريش: 1-2].

فالعلة في أن جعلهم الله كعصف مأكول{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }[قريش: 1] لأن اللام في (لإيلاَف) للتعليل، وهي في بداية كلام فالعلة في أن الله لم يُمكِّن الأعداء من هدم البيت لتظلّ لقريش مهابتها ومكانتها بين العرب، ومهابتها مرتبطة بالبيت الذي يقصده الناس من كل مكان.

وهذه المكانة تُؤمِّن تجارة قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، لا يتعرَّض لهم أحد بسوء، وكيف يجتريء أحد عليهم أو يتعرّض لتجارتهم وهم حُماة البيت؟

فمعنى{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }[قريش: 1] أن الله أهلك أبرهة وجنوده ولم يُمكِّنهم من البيت لتظل لقريش، وليُديم الله عليها أنْ يُؤْلَفوا وأنْ يُحبُّوا من الناس جميعاً، ويواصلوا رحلاتهم التجارية الآمنة.

لذلك يقول تعالى بعدها{ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 3-4] فكان من الواجب عليهم أن يعبدوا رب البيت الذي وهبهم هذه النعم، فما هم فيه من أمن وأمان وطعام وشراب ليس بقوتهم، إنما بجوارهم لبيت الله، ولبيت الله قداسته عند العرب، فلا يجرؤ أحد منهم على الاعتداء على تجارة قريش.

فقولهم لرسول الله:{ ۤإِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... }[القصص: 57] حجة لله عليهم، ففي الوقت الذي يُتخطّف الناس فيه من حولهم كانوا هم في أمان، فهي حجة عليهم.

ثم إن الشرط هنا{ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ... }[القصص: 57] غير مناسب للجواب{ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... }[القصص: 57] فما دمتم قلتم عن الدين الذي جاءكم به محمد أنه هدى - يعني هدى لله - فكان يجب عليكم أنْ تؤمنوا به لو تأكد لديكم أنه هدى، وإلا فأنتم كاذبون في هذا القول، ولِمَ لا وأنتم تُكذِّبون القرآن وتقولون عنه افتراءوكذب وسحر، والآن تقولون عنه هدى، وهذا تناقض عجيب.

ألم يقولوا{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31] ومعنى هذا أن القرآن لا غبارَ عليه، لكن آفته أنه نزل على هذا الرجل بالذات.

وقوله تعالى } أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ.

.. { [العنكبوت: 67] أي: بالأصنام } وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ { [العنكبوت: 67] قال } وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ { [العنكبوت: 67] ولم يقل مثلاً: وبعبادة الله، أو بالإيمان بالله يكفرون؛ لأن إيمانهم لو لم يكُنْ له سبب إلا نِعمَ الله عليهم أنْ يُطعِمهم من جوع، ويُؤمنهم من خوف لكان واجباً عليهم أنْ يؤمنوا به.

والباطل مقابل الحق، وهو زَهُوق لا دوامَ له، فسرعان ما يفسد وينتهي، فإنْ قلتَ ما دام أن الباطل زهوق وسينتهي، فما الداعي للمعركة بين حَقٍّ وباطل؟

نقول: لولا عضة الباطل للمجتمع لما استشرفَ الناس للحق ينقذهم، فالباطل نفسه جُنْد من جنود الحق، كما أن الكفر جُنْد من جنود الإيمان، فلولا الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق الناس للإيمان، الذي يُوفِّر لهم الأمن والطمأنينة والراحة والمساواة.

كما أن معنى كَفَرَ يعني ستر الإله الواجب الوجود، والسَّتْر يحتاج إلى مستور، فما هو المستور بالكفر؟ المستور بالكفر الإيمان، فكلمة كفر نفسها دليلُ وجود الإيمان.

وسبق أن قلنا: إن الإنسان قد يكره بعض الأشياء، وهي لمصلحته ولحكمة خلقها الله، ومثَّلْنا لذلك بالألم الذي يتوجّع منه الإنسان، وهو في الحقيقة تنبيه له واستنهاض ليعلم سبب هذ الألم ويتنبه، فيدفع المرض عن نفسه، ويطلب له الدواء.

فالألم بهذا المعنى جُنْد من جنود العافية، وإلاَّ فأفتَكُ الأمراض بالبشر ما ليس له ألم يُنبّه إليه، فيظل كامناً في الجسم حتى يستفحل أمره، وتعزّ مداواته؛ لذلك يصفونه بالمرض الخبيث؛ لأنه يتلصَّص في الجسم دون أنْ يظهر له أثر يدل عليه.

فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الألم لحكمة؛ ليُنبِّهك أن في موضع الالم عطباً، وأن الجارحة التي تألم غير صالحة لأداء مهمتها؛ لذلك يقولون في تعريف العافية: العافية ألاَّ تشعر باعضائك، لك أسنان تأكل بها، لكن لا تدري بها، وربما لا تتذكر هذه النعمة إلا إذا أصابها عَطَب فآلمتك.

إذن: حين تعلم جارحتك وتتألم، فاعلم أنها غير طبيعية، وأنها لا تؤدي مهمتها كما ينبغي، فعليك أنْ تبادر بعلاجها.

وأيضاً حين يزدهر الباطل، وتكون هل صَوْلة، فإنما ذلك ليُشعرك بحلاوة الحق، فتستشرف له وتتمناه. لذلك انتشر الإسلام في البلاد التي فيها أغلبية إسلامية، لا بالسيف كما يحلو للبعض أن يقول، إنما انتشر برؤية الناس لمبادئه وسماحته.

ففي بلاد فارس والروم ذاق الناسُ هناك كثيراً من المتاعب من دياناتهم ومن قوانينهم، فلما سمعوا عن الإسلام ومبادئه وسماحة تعاليمه أقبلوا عليه.

فلولا أن الباطل عضَّهم لما لجأوا للإيمان، فالإسلام انتشر انتشاراً عظيماً في نصف قرن من الزمان، ولم يكن هذا نتيجة الاندفاع الإيماني ليدخل الناس في الإسلام، إنما لجذْب الضلال للإيمان، فكأن الإسلام مدفوع بأمرين: أهله الحريصون على انتشاره، وباطل يجذب الناس إليه.

والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا مثلاً للحق وللباطل في قوله تعالى:

{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد: 17].

فالزبَد: هو القشّ والفُتات الذي يحمله الماء، فيكون طبقة على سطح الماء، ثم يزيحه الهواء إلى الجوانب، ويظل الماء بعده صافياً، فالزبَد مثلٌ للباطل؛ لأنه يعلو على سطح الماء، لكن إياك أن تظن أنه ذو شأن، أو أن عُلوه سيدوم؛ لأنه غثاء لا قيمة له، وسرعان ما يزول ويبقى الماء النافع، وكما يتكون الزبَد على سطح الماء كذلك يتكوَّن عند صَهْر المعادن، فحين يصهر الصائغ مثلاً الذهب أو الفضة يخرج المعدن الأصيل تاركاً على الوجه الخبَث الذي خالطه.

لذلك يقول بعض العارفين: إن الله تعالى لا يترك الحق، ولا يُسْلِمه أبداً للباطل، إنما يتركه لحين ليبلو غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا على الحق غار هو سبحانه عليه.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ... {.

(/3333)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)

هذا استفهام يريد منه الحق - سبحانه وتعالى - قضية يُقرها المقابل، فلم يوردها بصيغة الخبر: لا أظلم؛ لأن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب، فجاء بصيغة الاستفهام لتنطق أنت بالقضية، كما تقول لمن ينكر معروفك: مَنْ أعطاك هذا الثوب؟ فلا يملك إلا أنْ يعترف بفضلك، لكن إنْ قلت له إخباراً: أنا أعطيتُك هذا الثوب، فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وربما ينكر فيقول: لا لم تعطني شيئاً.

إذن: إيراد الكلام بأسلوب الاستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر؛ لأن الخبر يأتي من المتكلم، أمّا الإقرار فمن السامع، وأنت لا تُلِقي بالاستفهام إلا وأنت واثق أن الجواب سيأتي على وَفْق ما تريد.

فمعنى { وَمَنْ أَظْلَمُ... } [العنكبوت: 68] لا أحد أظلم، والظلم: نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره، والظلم قد يكون كبيراً وعظيماً، وهو الظلم في القمة في العقيدة، كما قال سبحانه:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].

وقد يكون الظلم بسيطاً هيِّناً، فالذي افترى على الله الكذب، لا أحدَ أظلم منه؛ لأنه لو افترى على مثله لكان أمره هيناً، لكنه افترى على مَنْ؟ على الله، فكان ظلمه عظيماً، ومن الحمق أن تفتري على الله؛ لأنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل، وأنْ يبرهن على كذبك، ويستطيع أن يدحرك، وأن يُوقفك عند حدِّك، فمَنِ اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه.

وقلنا: إن الافتراء كذب، لكنه متعمد؛ لأن الإنسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه، إنما الواقع خلاف ما يعلم، لذلك عرَّف العلماء الصدق والكذب فقالوا: الصدق أنْ يطابق الكلامُ الواقعَ، والكذب أن يخالف الكلامُ الواقعَ، فلو قلتُ خبراُ على مقتضى علمي، ولم أقصد مخالفة الواقع، فإن خالف كلامي الواقع فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس بكاذب.

وقوله سبحانه: { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ... } [العنكبوت: 68] فيا ليته افترى على الله كذباً ابتداءً، إنما صعَّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صِدْق وحقٍّ فكذَّبه، ثم يقرر جزاء هذا التكذيب بأسلوب الاستفهام أيضاً { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 68] يعني: أضاقتْ عنهم النار، فليس بها أمكنة لهؤلاء؟ بلى بها أمكنة لهم، بدليل أنها ستقول وهي تتشوق إليهم حين تسأل:{ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30].

وكأن الحق سبحانه يقول: لماذا يفتري هؤلاء على الله الكذب؟ ولماذا يُكذِّبون الحق؟ اعلموا أن جهنم ليس بها أماكن لهم؟ فالاستفهام في { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 68] استفهام إنكاري يُنكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه لا مكان لهم في جهنم.

فالحق سبحانه في إرادته أزلاً أن يخلق الخَلْق من لَدُن آدم - عليه السلام - وإلى أنْ تقوم الساعة، وأنْ يعطيهم الاختيار

{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ... }[الكهف: 29] وقدر أن يؤمنوا جميعاً فأعدَّ لهم أماكنهم في الجنة، وقدر أن يكفروا جميعاً فأعدَّ لهم أماكنهم في النار.

فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النارَ، يورث الله المؤمنين في الجنة أماكن الكافرين فهيا فيتقاسمونها بينهم، وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد، فمَنْ كان له في النار مكان واحد يصير له مكانان.

كما أن الاستفهام } أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ { [العنكبوت: 68] يجعل السامع يشاركك الكلام، وفيه معنى التقريع والتوبيخ، كما في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 29-36].

يلتفت الله إلى المؤمنين الذين اسْتُهزئ بهم في الدنيا: هل قدرنا أنْ نجازي هؤلاء الكافرين، ونردّ إليكم حقوقكم - وفي هذا إيناسٌ للمؤمنين وتقريعٌ للكافرين - فيقولون: نعم يا رب، نعم يا رب، نعم يا رب، فالحق سبحانه يريد أنْ يحرش المؤمنين بهم، فلا يلينون لهم، ولا يعطفون عليهم، لأنهم طَغَوْا وتكبَّروا، وعرضت عليهم الحجج والأدلة فكذَّبوها وأصرُّوا على عنادهم، فبالغوا في الظلم.

(/3334)

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

نقول: جَهدَ فلان يجهد أي أتعب نفسه واجتهد: ألح في الاجتهاد وجاهد غيره، فجاهد تدل على المفاعلة والمشاركة، وهي لا تتم إلا بين طرفيْن، وفي هذه الصيغة (المفاعلة) نغلب الفاعلية في أحدهما والمفعولية في الآخر، مع أنهما شركاء في الفعل، فكلٌّ منهما فاعل في مرة، ومفعول في الأخرى، كأنك تقول: شارك زيدٌ عمراً، وشارك عمرو زيداً. أو: أن الذي له ضِلع أقوى في اشركة يكون فاعلاً والآخر مفعولاً.

وبعد أن بيَّن الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذِّبين في جهنم وحرَّش المؤمنين بهم، وما داموا قد ظَلموا هذا الظلم العظيم لا بُدَّ أن يوجد تأديب لهم، هذا التأديب لا لإرغامهم على الإيمان،{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ... }[الكهف: 29] إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا، وأن نعلي كلمة الحق، فمن شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليظل على حاله، إذن: فالآية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلاء المكذبين: { فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... } [العنكبوت: 69].

معنى (جاهدوا فينا) أي: من أجلنا ولنصرة ديننا، والخصومات التي نجاهدها في الله كثيرة: خصمة في مسألة القمة الإيمانية ووجود الإله الواحد كالملاحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في الكون، وهؤلاء لهم جهاد، وأهل الشرك الذين يقرون بوجود الله لكن يدَّعُون أن له شريكاً، وهؤلاء لهم جهاد آخر.

فجهاد الملاحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد، ونقول لهم: هل وٌجِد مَن ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره؟ بل تأملوا في أتفه الأشياء التي تستخدمونها في حياتكم: هذا الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون: إنه وُجد هكذا دون صانع؟ إذن: كيف وُجِد؟ هل لدينا شجرة مثلاً تطرح لنا هذه الأكواب؟

إذن: هي صنعة لها صانع، استخدم العقل الذي منحه الله إياه، وأعمله في المواد التي جعلها الله في الكون، واستنبط منها هذه المادة (الزجاج).

مصباح الكهرباء الذي اخترعه (إديسون) كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة، ثم يحتاج في صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة، ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفيء، وقد أخذ (أديسون) كثيراً من الشهرة وخلِّدنا ذكراه، وما زالت البشرية تذكر له فضله.

أفلا ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها الله وإلى قيام الساعة دون أنْ تحتاج إلى صيانة، أو إلى قطعة غيار؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها؟ وهل تأبَّتْ الشمس عن الطلوع في يوم من الأيام، وما تزال تمدكم بالحرارة والأشعة والدفء والنور؟

أتعرف مَنْ صنع المصباح، ولا تعرف مَنْ صنع الشمس؟ لقد فكرتم في أتفه الأشياء وعرفتم مَنْ صنعها، وأرَّخْتُم لهم، وخلدتم ذكراهم، ألم يكن أَوْلَى بكم التفكُّر في عظمة خلق الله والإيمان به؟

ثم قُلْ لي أيها الملحد: إذا غشيك ظلام الليل، كيف تضيئه؟ قالوا: كل إنسان يضيء ظلام ليله على حَسْب قدرته، ففي الليل ترى الإضاءات مختلفة، هذا يجلس في ضوء شمعة، وهذا في ضوء لمبة جاز، وهذا في ضوء لمبة كهرباء، وآخر في ضوء لمبة نيون، فالأضواء في الليل متباينة تدل على إمكانات أصحابها، فإذا ما طلعتْ الشمس، وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه الأضواء، ولم يَعُدْ لها أثر مع مصباح الخالق الأعظم سبحانه.

أليس في هذا إشارة إلى أنه إذا جاءنا حكم من عند الله ينبغي أنْ نطرح أحكامنا جميعاً لنستضيء بحكم الله؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات؟

وأنت يا مَنْ تدّعي أن لله شريكاً في مُلكه: مَنِ الذي قال إن لله شريكاً؟ لقد قلتها أنت من عند نفسك؛ لأن الله تعالى حين قال: أنا إله واحد لا شريك لي لم يعارضه أحد، ولم يدَّعِ أحد أنه شريك لله.

فهذا دليل على أن الشريك غير موجود، أو أنه موجود ولم يَدْرِ، أو درى ولم يقدر على المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهاً.

ثم على فرض أنه موجود، ما منهجه؟ بماذا أمرك وعَمَّ نهاك؟ ماذا أعدَّ لك من النعيم إنْ عبدته؟ وماذا أعد لك من العذاب إنْ كفرتَ به؟ إذن: فهذا الإله المزعوم إله بلا منهج، فعبادته باطلة.

أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين سماوي ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم فنقول لهم: يكفي من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد الله أنه لا يتعصب لنفسه؛ لأن قلبه مع كل مَنْ يؤمن بالله حتى وإنْ كفر به، محمد يحب كل مَنْ آمن بربه، وإنْ كفر بمحمد، إنه يتعصب لربه حتى فيمن كذبه.

ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور الإسلام فأنكرتموه، مع أن دينكم جاء بعد دين، ورسولكم جاء بعد رسول سابق، فلماذا لما جاءكم محمد كذَّبتموه وكفرتم به؟ لماذا أبْحتم أنْ يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلام، وأنكرتُم أنْ يأتي بعد عيسى محمد؟

إذن: لكل خصومة في دين الله جدل خاص ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء: } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] وعليك أن تنظر أولاً ما موقع الجهاد الذي تقوم به، فجهاد الملاحدة بأسلوب، وجهاد المشركين بأسلوب، وجهاد أهل الكتاب بأسلوب، وجهاد المسلم للمسلم كذلك له منطق إنْ دبَّ بينهما الخلاف، مع أن الله تعالى قال:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ... }[الأنعام: 159].

فساعةَ ترى كلاً منهما في طرف، بحيث لا تستطيع أن تتبع أحدهما، فاعلم أنهما على باطل؛ لأن الإسلام شيء واحد سبق أنْ شبَّهناه بالماء الأبيض الصافي الذي لم يخالطه لون ولا رائحة ولا طعم، فإنْ لوَّنته الأهواء وتحزَّب الناس فيه كما يُلوِّنون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا الدين الصحيح.

لأن ما جاء فيه حكم صريح من عند الله اتفقنا عليه، وما تركه الله لاجتهادنا فينبغي على كُلٍّ منا أن يحترم اجتهاد الآخر، وأن يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب، وبهذا المنطق تتعايش الآراء.

والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل على ذلك، فما أراده سبحانه في المنهج مُحكماً يأتي محكماً في قول واحد لا خلاف فيه، وضربنا مثلاً لذلك بآية الوضوء:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... }[المائدة: 6].

فلم يحدد الوجه؛ لأنه لا خلاف في تحديده بين الناس، إنما حدد الأيدي لأنها محل خلاف. إذن: فالقضايا التي تُثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الإطار دون تعصُّب، فما جاءك مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي التزم به الجميع، وما تُرِك بلا تنصيص لا يحتمل الخلاف، فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص.

فالباء في لغتنا مثلاً تأتي للتبعيض، أو للاستعانة، أو للإلصاق، فإنْ أخذتَ بمعنىً فلا تحجر على غيرك أنْ يأخذ بمعنى آخر.

فإنِ استعر القتال بين طائفتين من المسلمين، فيجب أن تكون هناك طائفة معتدلة تتولى أمر الإصلاح، كما قال سبحانه:{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىا الأُخْرَىا فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىا تَفِيءَ إِلَىا أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الحجرات: 9].

نلحظ أن الله تعالى سماهم مؤمنين، ومعنى ذلك أن الإيمان لا يمنع أن نختلف، وهذا الإيمان الذي لا يمنع أن نختلف هو الذي يُوجب علينا أن يكون منا طائفة معتدلة على الحياد لا تميل هنا أو هناك، تقوم بدورْ الإصلاح وبدوْر الردع للباغي المعتدي حتى يفييء إلى الجادة وإلى أمر الله.

فإنْ فاءت فلا نترك الأمور تُخيّم عليها ظلال النصر لفريق، والهزيمة لفريق آخر، إنما نصلح بينهما، ونزيل ما في النفوس من غِلٍّ وشحناء، فقد تنازل القوي عن كبريائه لما ضربنا على يده، وَقوي الضعيف، بوقوفنا إلى جانبه، فحدث شيء من التوازن وتعادلتْ الكِفّتان، فليعُدْ الجميع إلى حظيرة الأمن والسلام.

بقي لنا أن نتحدث عن جهاد آخر أهم، هو جهاد النفس البشرية؛ " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من إحدى الغزوات قال: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " فوصف جهاد النفس بأنه الجهاد الأكبر، لماذا؟ لأنك في ساحة القتال تجاهد عدواً ظاهراً، يتضح لك عدده وأساليبه، أمّا إنْ كان عدوك من نفسك ومن داخلك، فإنه يعزّ عليك جهاده، فأنت تحب أنْ تحقق لنفسك شهواتها، وأنْ تطاوعها في أهوائها ونزواتها، وهي في هذا كله تُلِح عليك وتتسرَّب من خلالك.

فعليك أنْ تقف في جهاد النفس موقفاً تقارن فيه بين شهوات النفس العاجلة وما تُورِثك إياه من حسرة آجلة باقية، وما تضيعه عليك من ثواب ربك في جنة فيها من النعيم، ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ضع ربك ونفسك في هذه المقابلة وتبصّر، واعلم أن لربك سوابقَ معك، سوابق خير أعدّها لك قبل أن توجد، فالذي أعدَّ لك كل هذا الكون، وجعله لخدمتك لا شكَّ مأمون عليك، وأنت عبده وصنعته، وهل رأيت صانعاً يعمد إلى صنعته فيحطمها؟

أما إن رأيت النجار مثلاً يمسك (بالفارة) وينحت في قطعة الخشب، فاعلم أنه يُصلحها لأداء مهمتها، وأذكر قصة الطفل (أيمن) الذي جاء أمه يبكي؛ لأن الخادمة تضرب السجادة، فأخذتْه أمه وأرتْه التراب الذي يتساقط من السجادة في كل ضربة من ضربات الخادمة، ففهم الطفل على قدر عقله.

وكذلك الحق سبحانه حين يبتلي خَلْقه، فإنما يبتليهم لا كَيْداً فيهم، بل إصلاحاً لهم. ألم نسمع كثيراً أماً تقول لوحيدها (إلهي أشرب نارك)؟ بالله ما حالها لو استجاب الله لها؟ وهي في الحقيقة لا تكره وحيدها وفلذة كبدها، إنما تكره فيه الخصلة التي أغضبتها منه.

وكذلك الحق - سبحانه وتعالى - لا يكره عبده، إنما يكره فيه الخصال السيئة فيريد أنْ يُطهِّره منها بالبلاء حتى يعود نقياً كيوم ولدته أمه، فأحسن أيها الإنسان ظنك بربك.

إذن: نقول: إن من أعظم الجهاد جهادك لنفسك، لأنها تُلِح عليك أن تُشبع رغباتها، كما أنها عُرْضة لإغراء الهوى ووسوسة الشيطان الذين يُزيِّن لها كل سوء، ويُحبِّب إليها كل منكر.

وسبق أنْ بيَّنا: كيف نُفرِّق بين تزيين الشيطان وتزيين النفس؛ لأن النفس مدخلاً في المعصية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين ".

فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان، إنما هناك كثير من الذنوب تُرتكب في رمضان، وهذا يعني أنها من تزيين النفس، وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن آدم: ها أنا قد صفَّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون.

فإنْ أردتَ أنْ تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان، فإن النفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد سواها، ولا تنتقل بك إلى غيرها، وتظل تُلح عليك إلى أنْ تُوقِعك فيها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً بأية صورة وعلى أية حال، فإنْ تأبَّيْتَ عليه نقلك إلى معصية أخرى.

وعلى العاقل أن يتأمل، فالمعصية تعطيك لذة عاجلة ومتعة فانية، لا تليق أبداً بهذا الإنسان الذي كرَّمه الله، وجعله خليفة له في الأرض، وسيداً لهذا الكون، والكون كله بأرضه وسمائه خادم له، فهل يُعقل أنْ يكون الخادم أطول عمرا من المخدوم؟

إنك تموت بعد عام أو بعد مائة عام، في حين أن الشمس التي تخدمك تعمر ملايين السنين: إذن: لا بُدَّ أن لك حياة أخرى أبقى وأدوم من حياة خادمك، فإنْ كنتَ الآن في حياة تُوصَف بأنها دنيا، فهذا يعني أنها تقابلها حياة أخرى تُوصَف بأنها عليا، وهي حياتك في الآخرة، حيث لا موتَ فيها أبداً.

والقرآن الكريم حينما يُحدِّثنا عن الجهاد يقول مرة:{ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... }[التوبة: 41] ويقول: } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا... { [العنكبوت: 69].

الجهاد في سبيل الله أي في الطريق إلى الله لإثبات الإيمان بالإله الواحد، وصدق البلاغ من الرسول المؤيَّد بالمعجزة وبالمنهج، فإذا وضح لك السبيل فآمنت بالله الواحد الأحد قال لك: اجعل كل حركة حياتك في إطار } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا... { [العنكبوت: 69] يعني: من أجلنا مخلصين لله لا ينظرون إلى غيره.

والإنسان مهما تحرَّى الإخلاص في عمله، وقصد به وجه الله لا يأمن أن يخالطه شيء من رياء أو سمعة، حتى أن المعصوم محمداً صلى الله عليه وسلم ليقول: " اللهم إني استغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك، فخالطني فيه ما ليس لك ".

وهذا معنى (جاهدوا فينا) أن يكون العمل كله لله خالصاً، وإلاَّ فما الفَرْق بين المؤمن والكافر، وكلاهما يعمل ويسعى في الدنيا لكسب لقمة العيش له ولأولاده، فهما في السعي سواء، فما مزية المؤمن إذن؟

الميزة أن الكافر يعمل على قَدْر حاجته فحسب، أمّا المؤمن فيعمل على قدر طاقته، فيأخذ ما يكفيه ويعود بالفضل على مَنْ لا طاقةَ عنده للعمل، ففي نيته أن يعمل له وللمحتاج غير القادر.

ونمثل لذلك بالبقال الذي فتح الله عليه، فباع كثيراً في أول النهار وأخذ كفايته، ثم أغلق محله فلم ينظر إلى الذين يعاملونه على الشهر، ويأخذون حاجتهم لأجَل، ولم ينظر إلى ربة البيت التي تنتظر عودة زوجها لتشتري ما يلزمها، فقد نظر إلى حظ نفسه، ونسي حظ الآخرين.

واقرأ إنْ شئت قوله تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 1-4] ولم يقل مُؤدُّون إنما: فاعلون من أجل الزكاة أي: يعملون على قَدْر طاقتهم، لا على قدْر حاجتهم. فالذين يعملون في إطار } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا... { [العنكبوت: 69] لا يغيب الله أبداً عن بالهم.

ولكي نفقه هذه المسألة انظر إلى عمل أو جميل قدَّمته لغير وجه الله ترى أن صاحبه أنكره، بل ربما لا ينالك منه إلا الذمّ، وساعتها لا تلومنّ إلا نفسك، لأنك أخطأت التوجه، وقد عملت للناس فخُذْ أجرك منهم، إنما إنْ عملتَ لوجه الله فثِقْ أن جميلك محفوظ عند الله وعند الناس.

والحق - سبحانه وتعالى - حينما أعطى للإنسان الاختيار في أن يؤمن أو أنْ يكفر يلفت بهذا أنظارنا أنه إذا صنعتَ جميلاً في إنسان، ثم أنكر جميلك وكفر به، فلا تحزن؛ لأن الناس فعلوا ذلك مع الله - عز وجل - فقد خلقهم ورزقهم ثم كفروا به.

ثم يأتي جزاء الجهاد في ذات الله: } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] أي: ندلّهم على الطرق الموصِّلة إلينا، كأن الطريق إلى الله ليس واحداً، إنما سبل شتى؛ لذلك لا تحقرنَّ من الطاعة شيئاً مهما كان يسيراً، فإن الله تعالى غفر لرجل سقى كلباً يلهث من العطش، ولا تحقرن من المعصية شيئاً، فإن الله أدخل امرأة النار لأنها حبست قطة، ولا تحتقرن عبداً مهما كان، فإن الله تعالى أخفى أسراره في خَلْقه؛ فرُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه.

فإذا علمتَ من نفسك ميزة على الآخرين فانظر فيم يمتازون به عنك، ودَعْك من نظرة تُورثك كبراً، واستعلاء على الخَلْق، فإنْ كنت أفضل في شيء فأنت مفضول في أشياء كثيرة، وسبق أن قلنا: إن الله نثر المواهب بين الخَلْق ليظلوا ملتحمين بحاجة بعضهم إلى بعض.

فقوله تعالى } لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] أي: السبل الموصِّلة لنعيم الآخرة، سبل الارتقاء في اليقين الإيماني الذي قال الله عنه:{ يَسْعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم... }[الحديد: 12].

ويقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: ما قصَّر بنا في علم ما جهلناه، إلا تقصيرنا في العمل بما علمناه فالذي جعلنا لا نعرف أسرار الله أننا قصرنا في العمل بما أمرنا به، إذن: فلماذا يعطينا ونحن لا نعمل بما أخذنا من قبل، لكن حين تعمل بما علمتَ، فأنت مأمون على منهج الله، فلا يحرمك المزيد، كما قال سبحانه:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].

وقوله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... }[الأنفال: 29] والفرقان من أسماء القرآن، فحين تتقي الله على مقتضاه، وبمدلول منهجه في القرآن، يمنحك فرقاناً آخر ونوراً آخر تبصر به حقائق الأشياء، وتهتدي به إلى الحكم الصحيح، هذا النور الذي وهبه الله للإمام علي - رضي الله عنه - حينما دخل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فوجده يريد أنْ يقيم الحَدَّ على زوجة ولدتْ لستة أشهر، والشائع أن فترة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر: لكن الله قال غير ذلك يا أمير المؤمنين، قال عمر: وماذا قال يا علي؟

قال علي: قال الله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ... }[البقرة: 233] يعني: أربعة وعشرون شهراً.

وقال في موضع آخر:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] وبطرح العددين يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقل مدة للحمل.

هذا هو الفرقان الذي يمنحه الله للمؤمنين الذين عملوا بما عملوا؛ لذلك كان عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر؟ عمر الذي كان ينزل الوحي على وَفْق رأيه، كان يقول: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

ومعلوم أن علياً - رضي الله عنه - تربَّى في حجرْ رسول الله، وشرب من معينه، فكل معلوماته إسلامية، وله في الحق حجة ومنطق. فمثلاً في موقعه صِفِّين التي دارتْ بين علي ومعاوية كان عمار بن ياسر في صفوف علي، فقتله جنود معاوية، فتذكر الصحابة قول رسول الله لعمار " وَيْح عمار، تقتله الفئة الباغية " فعلموا أنها فئة معاوية.

فأخذ الصحابة يتركون صفوف معاوية إلى صفوف علي، فأسرع عمرو بن العاص وكان في جيش معاوية، فقال له: يا أمير المؤمنين فَشَتْ فاشيةٌ في الجيش، إنْ هي استمرت فلن يبقى معنا أحد، قال: وما هي؟ قال: تَذَكَّر الناس قول رسول الله " ويح عمار تقتله الفئة الباغية " قال معاوية: فأفْشِ فيهم، إنما قتله مَنْ أخرجه للقتال - أي علي - فلما بلغ علياً هذه المقالة قال بما عنده من الفرقان والحجة: إذن قولوا له مَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟

فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، ومثَّلْنا لذلك قلنا: هب أن لك ولداً متعثراً غير مُوفَّق في حياته العملية، فنصحك إخوانك بأنْ تعطيه فرصة، وتجربه ولو بمشروع صغير في حدود مائة جنيه، فلما فعلتَ بدَّد هذا المبلغ ولم ينتفع به، أتجرؤ على منحه مبلغاً آخر؟ وإنما لو ثمَّر هذا المبلغ ونماه لأعطيته أضعافاً.

ثم يقول سبحانه: } وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { [العنكبوت: 69] الإحسان من الإنسان أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه، والإحسان في الأداء أن تزيد عما فرض الله عليك، لكن من جنس من فرض، فإذا أنت أحسنتَ أحسن الله إليك بأنْ يزيدك إشراقاً، ويزيدك نورانية، ويُخفِّف عنك أعباء الطاعة، ويُقبِّح في نفسك المعاصي.

لذلك بلغت محبة أحد العارفين للطاعة حتى قال: اللهم إني أخاف ألاّ تثيبني على طاعتي؛ لأنني أصبحتُ أشتهيها. يعني: لو لم تكن هناك جنة ولا نار لفعلتُ الطاعة؛ لأنها أصبحتْ بالنسبة لي شهوة نفس، وقد أمرتنا يا ربّ أن نخالف شهوة النفس لذلك أخاف ألاَّ تثيبني عليها، ولمثل هذا نقول.

} وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { [العنكبوت: 69].

كملة (مع) تفيد المعية، والمعية في أعراف البشر أنْ يلتقي شيء بشيء، لكن إذا كانت المعية مع الله فافهم أنها معية أخرى غير التي تعرفها مع زميلك أو صديقك، خُذْها في إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11] فلك وجود ولله وجود، لكن أوجودك كوجود الله؟ الله يعلم أننا نسجل الآن في مسجد أبي بكر الصديق، لكن هل علْمنا كعِلْمه تعالى؟ الله يعلم هذا قبل أن ينشأ المسجد، وقبل أنْ نُولد نحن.

لذلك يضرب الله لنا مثلاً فيقول:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] هذا مَثَل للرد على الذين يطلبون رؤية الله عز وجل وهو غَيْب، مثل للذين قالوا لنبيهم{ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً... }[النساء: 153].

لكن كيف يرونه والعظمة في الإله ألاَّ يُرى، ولا تدركه الحواس، والحق سبحانه يعطينا الدليل في أنفسنا{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] فتأمل في أقرب شيء إليك في نفسك، لا في الآفاق من حولك، أليست فيك روح تُحرِّك جسمك، وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك، أليست فيك روح تُحرِّك جسمك، وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك، بدليل إذا خرجتْ منك هذه الروح تصير جثة هامدة؟ أرأيت هذه الروح وهي بين جنبيك؟ أأدركتها بأيِّ حاسة من حواسك؟

إذن: هي معك، لكن ليست تحت إدراكك، وهي خَلْق بسيط من خَلْق الله، فكيف تتطلع إلى أن ترى الخالق سبحانه وأنت لا تقدر على رؤية المخلوق؟ لكن إن قُلْت: فرؤية المؤمنين لله في الآخرة؟ ففي الآخرة يخلقني الله خَلْقاً آخر أستطيع أن أراه سبحانه، حيث سيكون للخَلْق معايير أخرى، ألستَ تأكل وتشرب في الآخرة، ومع ذلك لا تتغوَّط في الجنة؟

لذلك لما سأل حاكم الروم أحد علماء المسلمين: كيف تأكلون وتشربون في الجنة ولا تتغوطون؟ فقال له: وما العجيب في ذلك؟ ألم تر إلى الطفل في بطن أمه يتغذى وينمو وهو لا يتغوط، ولو تغوَّط في مشيمته لاحترق.

ثم سأله: وتقولون إن نعيم الجنة تأخذون منه ولا ينتهي ولا ينقص؟ فقال: هَبْ أن لك مصباحاً، وجاءت الدنيا كلها، وقبستْ من مصباحك ناراً، أينقص منه شيء؟

فسأله: فأين تذهب الأرواح التي كانت فينا بعد أن نموت؟ فقال: تذهب حيث كانت قبل أنْ تسكن فينا.

هذه مسائل ونماذج للتوفيق والهداية للحق في إطار: } جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] وهي فَيْض مما قال الله فيه:{ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... }[الأنفال: 29].

(/3335)

الم (1)

{ الـم } [الروم: 1] سبق أن تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطعة في بدايات السور، ولا أريد إعادة ما قُلْته، لكن أريد من العلماء أنْ يلتفتوا إلى هذه المسألة لفتة إشراقية تُرينا جميعاً، وتكشف لنا الحكمة والأسرار في هذه الحروف.

وقلنا: إن هذه الحروف (الم) بنيت على الوقف، كل حرف منها على حِدَة، مع أن القرآن في مجملة مبني على الوصل في آياته وفي سوره، فآخر حرف في السورة موصول بأول حرف في التي تليها - فهنا نقول: (وَإِنَّ اللهَ لَمعَ المحْسِنينَ بسْمِ اللهِ الرحْمنِ الرحيمِ...)

بل أعجب من هذا، نجد أن آخر سورة الناس مبنيٌّ على الوصل بأول الفاتحة، فنقول: (... مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ بسْم اللهِ الرحْمَنِ الرَّحيم الْحَمدُ لله رَبِّ العَالمين).

فالقرآن إذن موصول، لا انقطاعَ فيه. فلماذا بُنيت الحروف المقطعة في أوائل السور على الوقْف، لماذا لا نقول: ألفٌ لامٌ ميمٌ؟ قالوا: لأن الله تعالى لم يشأ أنْ يجعلها كلمة واحدة، فجاءت على القطع، ويؤنسنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " فنريد وننتظر من يدركه الله ليكون من المحسنين، ويدلُّنا على ما في هذه الحروف من سِرٍّ يُوقف عنده، ولا يُوصل بغيره.

قال الحق سبحانه: { غُلِبَتِ... }.

(/3336)

غُلِبَتِ الرُّومُ (2)

كلمة { غُلِبَتِ... } [الروم: ] تدل على وجود معركة غلب فريقٌ، وغُلب فريق، فالذي غُلب هنا الروم، وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب، فالعراق منها قسم ناحية العرب، وقسم ناحية فارس، والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.

(/3337)

فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

قوله { أَدْنَى... } [الروم: 3] يعني: أقرب لأرض العرب، كما في{ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىا }[الأنفال: 42] فالعُدْوة الدنيا أي: القريبة من المدينة، والقُصْوى البعيدة عنها. فالمعنى { فِي أَدْنَى الأَرْضِ... } [الروم: 3] أقرب أرض للجزيرة العربية.

وفي قوله سبحانه: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [الروم: 3] بشرى للمسلمين، فالفرس قوم كانوا يعبدون النار، أما الروم فأهل كتاب، إذن: فالخلاف بيننا وبين الفرس في القمة الإلهية، أمَّا الخلاف بيننا وبين الروم ففي القمة الرسالية، فَهُم أقرب إلينا؛ لأنهم يؤمنون بإلهنا، وإنْ كانوا لا يؤمنون برسولنا.

وهذا من عظمة الإسلام، فالذي يؤمن بالإله أقرب إلى نفوسنا من الذي لا يؤمن بالإله؛ لأنه على الأقل موصول بالسماء؛ لذلك لما غُلِبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون، وفرح كفار قريش لأن في هزيمة الروم دليلاً على أن محمداً وأصحابه سينهزمون كأصحابهم.

وكلمة { غَلَبِهِمْ... } [الروم: 3] مصدر يُضاف للفاعل مرة، ويُضاف للمفعول مرة أخرى، تقول أعجبني ضَرْبُ الأمير مذنباً، فأضفت المصدر للفاعل. وتقول: أعجبني ضَرْب المذنب فأضفتَ المصدر للمفعول، وكذلك هنا { غَلَبِهِمْ... } [الروم: 3] مصدر أضيف إلى المفعول.

لكن لماذا قال سبحانه: { سَيَغْلِبُونَ } [الروم: 3] وجاء بالسين الدالة على الاستقبال، ثم قال بعدها{ فِي بِضْعِ سِنِينَ }[الروم: 4] وهي أيضاً دالة على الاستقبال؟ قالوا: لأن الغلبة لا تأتي فجأة، إنما لا بُدَّ لها من إعداد طويل وأَخْذ بأسباب النصر، وتجهيز القوة اللازمة له، فكأنهم في مدة البضع سنين يُعدون للنصر، فكلما أعدوا عُدَّة أخذوا جزءاًَ من النصر، فالنصر إذن لا يأتي في بضع سنين، إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين.

فهتلر مثلاً لما انهزم في الحرب العالمية، وتألَّبتْ عليه كل الدول، جاء في عام 1939 وهدد العالم كله بالحرب، فهل سقطت عليه القوة التي يهدد بها فجأة؟ لا، بل ظل عدة سنوات يُعد العدة ويُجهِّز الجيش والأسلحة والطرق إلى أنْ توفرتْ له القوة التي يهدد بها.

(/3338)

فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين، إلى أنْ نزلت { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ... } [الروم: 3-4] ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر: والله لا يسرُّ الله هؤلاء، وسينصر الروم على فارس بعد ثلاث سنين.

لأن كلمة بضع تعني من الثلاثة إلى العشرة، فأخذها الصِّدِّيق على أدنى مدلولاتها، لماذا؟ لأنه الصِّديق، والحق - سبحانه وتعالى - لا يُحمِّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين، وهذه من الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي الله عنه.

" لذلك قال أبو بكر لأُبيِّ بن خلف: والله لا يقرّ الله عيونكم - يعني: بما فرحتم به من انتصار الكفار - وقد أخبرنا الله بذلك في مدة بضع سنين، فقال أُبيٌّ: أتراهنني؟ قال: أراهنك على كذا من القلائص - والقلوص هي الناقة التي تركب - في ثلاث سنين عشر قلائص إن انتصرت الروم، وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس.

فلما ذهب أبو بكر إلى رسول الله، وأخبره بما كان قال: " يا أبا بكر زِدْه في الخطر ومادِّه " ، يعني زِدْ في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلاث سنين إلى تسع، وفعلاً ذهب الصِّديق لأبيٍّ وعرض عليه الأمر، فوافق في الرهان على مائة ناقة.

فلما اشتدّ الأذى من المشركين، وخرج الصَّدِّيق مهاجراً رآه أُبيُّ بن خلف فقال: إلى أين أبا فصيل؟ وكانوا يغمزون الصِّدِّيق بهذه الكلمة، فبدل أن يقولوا: يا أبا بكر. والبَكْر هو الجمل القوي يقولون: يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير - فقال الصِّديق: مهاجر، فقال: وأين الرهان الذي بيننا؟ فقال: إن كان لك يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن، فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد الرحمن أُبياً فقال له: إلى أين؟ فقال: إلى بدر، فقال: وأين الرهان إنْ قتلْتَ؟ فقال: يعطيك ولدي.

وفي بدر أصيب أُبيٌّ بجرح من رسول الله مات فيه، وقدَّم ولده الجُعْل لعبد الرحمن، فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تصدقوا به " ".

وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية: سبق أنْ تكلمنا عن الغيب وعن المشهد. وقلنا: إن الغيب أنواع: غيب له مقدمات تُوصِّل إليه، كما تعطي التلميذ تمريناً هندسياً، وكالأسرار الكونية التي يتوصَّل إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون، كالذي اكتشف الآلة البخارية، وأرشميدس لما اكتشف قانون الأجسام الطافية.. إلخ ولا يقال لهؤلاء: إنهم علموا غيباً، إنما أخذوا مقدمات موجودة واستنبطوا منها معدوماً.

أمّا الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه، فهو غيب عن كل الناس، وفيه يقول تعالى:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ... }

[الجن: 26-27].

ومن الغيب ما يغيب عنك، لكن لا يغيب عن غيرك، كالشيء الذي يُسرق منك، فهو غيب عنك لأنك لا تعرف مكانه، وليس غيباً عَمَّنْ سرقه منك.

وآفة الإنسان أنه لا يستغل المقدمات للبحث في أسرار الكون ليرتقي في الكونيات، إنما يستغلها لمعرفة غيب الآخرين، ونقول له: إن كنت تريد أن تعلم غيب الآخرين، فاسمح لهم أنْ يعلموا غيبك وأعتقد أن أحداً لا يرضى ذلك.

إذن: سَتْر الغيب عن الخَلْق نعمة كبرى لله تعالى؛ لأنه سبحانه رب الناس جميعاً، ويريد سبحانه أن ينتفع خَلْقه بخَلْقه، ألا ترى أنك إنْ علمتَ في إنسان سيئة واحدة تزهدك في كل حسناته، وتجعلك تكرهه، وتكره كل حسنة من حسناته، فستر الله عنك غَيْب الآخرين لتنتفع بحسناتهم.

والغيب حجزه الله عنا، إما بحجاب الزمن الماضي، أو الزمن المستقبل، أو بحجاب المكان، فأنت لا تعرف أحداث الماضي قبل أنْ تُولد إلى أنْ يأتي مَنْ تثق به، فيخبرك بما حدث في الماضي، وكذلك لا تعرف ما سيحدث في المستقبل، أما حاجز المكان فأنت لا تعرف ما يوجد في مكان آخر غير مكانك، وقد يكون الشيء في مكانك، لكن له مكين فلا تطلع عليه.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ... }[المجادلة: 8].

فمَنِ الذي أخبر رسول الله بما في نفوسهم؟ لقد خرق الله له حجاب المكان، وأخبره بما يدور في نفوس القوم، وأخبرهم رسول الله به، أَمَا كان هذا كافياً لأن يؤمنوا بالله الذي أخرج مكنون صدورهم؟ إذن: المسألة عندهم عناد ولجاجة وإنكار.

وكذلك ما كان من رسول الله في غزوة مؤتة التي دارتْ على أرض الأردن ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة - ونعلم أن أهل السيرة لا يطلقون اسم الغزوة إلا على التي حضرها رسول الله، وكل حدث حربي لم يحضره رسول الله نسميه سرية إلا مؤتة هي التي انفردتْ بهذه التسمية، فلماذا مع أن رسول الله لم يشهدها؟

قالوا: بل شهدها رسول الله وهو بالمدينة، بما كشف الله له من حجاب المكان وأطلعه على ما يدور هناك حتى كان يخبر صحابته بما يدور في الحرب كأنه يراها، فيقول: أخذ الراية فلأن فقُتِل، فأخذها فلان فقُتِل، فلما جاءهم الخبر وجدوا الأمر كما أخبر به سيدنا رسول الله.

كما خَرق له حجاب الماضي، فأخبره بحوادث في الأمم السابقة كما في قوله سبحانه:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ... }[القصص: 44]{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا... }[القصص: 45].

كما خرق له صلى الله عليه وسلم حجاب المستقبل، كما في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها: } وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ.

.. { [الروم: 3-4] فأروني أيّ قوة (كمبيوتر) في الدنيا تُنبئنا بنتيجة معركة ستحدث بعد ثلاث إلى تسع سنين.

فمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي المقيم في جزيرة العرب ولا يعرف شيئاً عن قوة الروم أو قوة الفرس - يخبرنا بهذه النتيجة؛ لأن الذي يعلم الأشياء على وَفْق ما تكون هو الذي أخبره، وكون محمد صلى الله عليه وسلم يعلنها ويتحدَّى بها في قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة دليل على تصديقه بمنطق الله له، وأنه واثق من حدوث ما أخبر به.

ولهذه الثقة سُمِّي الصِّديق صدِّيقاً، فحين أخبروه بمقالة رسول الله عن الإسراء ما كان منه إلا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بهذه النتيجة، ويراهن المشركين عليها، ويتمسك بها، وما ذاك إلا لثقته في صدق هذا البلاغ، وأنه لا يمكن أبداً أنْ يتخلف.

وقوله تعالى } لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ... { [الروم: 4] يعني: إياكم أنْ تفهموا أن انتصار الفرس على الروم أو انتصار الروم على الفرس خارج عن مرادات الله، فلله الأمر من قبل الغلب، ولله الأمر من بعد الغلب.

فحين غَلبت الروم لله الأمر، وحين انتصرت الفرس لله الأمر؛ لأن الحق سبحانه يهيج أصحاب الخير بأن يُغلِّب أصحاب الشر، ويُحرِّك حميتهم ويُوقظ بأعدائهم مشاعرهم، ويُنبّههم إلى أن الأعداء لا ينبغي أن يكونوا أحسن منهم.

إذن: فنصر المكروه لله على المحبوب لله جاء بتوقيت من الله؛ لذلك إياك أن تحزن حين تجد لك عدواً، فالأحمق هو الذي يحزن لذلك، والعاقل هو الذي يرى لعدوه فَضْلاً عليه، فالعدو يُذكِّرني دائماً بأن أكون قوياً مستعداً، يُذكِّرني بأن أكون مستقيماً حتى لا يجد مني فرصة أو نقيصة. العدو يجعلك تُجنِّد كل ملكاتك للخير لتكون أفضل منه؛ لذلك يقول الشاعر:عدايَ لَهٌمْ فَضْلٌ عليَّ ومِنَّةٌ فَعِنْدي لهُم شُكْرٌ على نَفْعهم ليَافَهُمْ كدَواءٍ والشِّفاء بمُرِّهِ فَلا أَبْعَد الرحمنُ عنِّي الأعَادِيَاوهْم بحثُوا عَنْ زَلَّتي فَاجْتنبتُها وهُمْ نافسُوني فاكتسبْتُ المعَاليَاإذن: لله الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكمة في أنْ ينتصر الباطل، أَلاَ ترى غزوة أحد، وكيف هُزِم المسلمون لما خالفوا أمر رسول الله وتركوا مواقعهم طمعاً في مغنم، انهزموا في أول الأمر، مع أن رسول الله معهم؛ لأن سنة الله في كونه تقضي بالهزيمة حين نخالف أمر رسول الله، وكيف يكون الحال لو انتصر المسلمون مع مخالفتهم لأمر رسولهم؟ لو انتصروا الفقد أمر الرسول مصداقيته، ولما أطاعوا له أمراً بعد ذلك.

وفي يوم حنين:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ... }[التوبة: 25] حتى إن أبا بكر نفسه ليقول: لن نٌغلب اليوم عن قِلّة، فلما نظروا إلى قوتهم ونسُوا تأييد الله هُزِموا في بداية الأمر، ثم يحنّ الله عليهم، وتتداركهم رحمته تعالى، فينصرهم في النهاية.

إذن: فلله الأمر من قبل ومن بعد، فإياك أن تظن أن انتصار الباطل جاء غصْباً عن إرادة الله، أو خارجاً عن مراده، إنما أراده الله وقصده لحكمة.

ثم يقول سبحانه:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ... }[الروم: 4-5] أيّ نصر الذي يفرح به الؤمنون؟ أيفرحون لانتصار الروم على الفرس؟ قالوا: بل الفرح هنا دوائر متشابكة ومتعالية، فهم أولاً يفرحون لانتصار أهل دين وأهل كتاب على كفار وملاحدة، ويفرحون أن بشرى رسول الله تحققتْ، ويفرحون لأنهم آمنوا برسول الله، وصدَّقوه قبل أن ينطق بهذه البشرى.

إنهم يفرحون لأنهم أصابوا الحق، فكلما جاءت آية فرح كل منهم بنفسه؛ لأنه كان محقاً حينما آمن بالإله الواحد الذي يعلم الأمور على وفق ما ستكون واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم. إذن: لا تقصر هذه الفرحة على شيء واحد، إنما عَدِّها إلى أمور كثيرة متداخلة.

كما أن اليوم الذي انتصر فيه الروم صادف اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في بدر.

وقوله تعالى } يَنصُرُ مَن يَشَآءُ... { [الروم: 5] الفرس أو الروم، ما دام أن له الأمر من قبل ومن بعد } وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ { [الروم: 5] الحق سبحانه وصف نفسه بهاتين الصفتين: العزيز الرحيم، مع أن العزيز هو الذي يغلب ولا يٌغْلب، فقاهريته سبحانه عالية في هذه الصفة - ومع ذلك أتبعها بصفة الرحمة ليُحِدث في نفس المؤمن هذا التوازن بين صفتي القهر والغلبة وبين صفة الرحمة.

كما أننا نفهم من صفة العزة هنا أنه لا يحدث شيء إلا بمراده تعالى، فحين ينتصر طرف وينهزم طرف آخر حتى لو انتصر الباطل لا يتم ذلك إلا لمراده تعالى؛ لأن الله تعالى لا يُبقي الباطل ولا يُعلي الكفر إلا ليظهر الحق، فحين يُعَضُّ الناس بالباطل، ويشقَوْن بالكفر يفزعون إلى الإيمان ويتمسكون به.

واقرأ قوله تعالى:{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا... }[التوبة: 40] ولم يقل: وجعل كلمة الله هي العليا؛ لأنها ليستْ جَعْلاً لأن الجَعْل تحويل شيء إلى شيء، أما كلمة الله فهي العليا بداية ودائماً، وإنْ علت كلمة الباطل إلى حين.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ... {.

(/3339)

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)

الوعد: هو الإخبار بما يسرُّ قبل أنْ يكون { لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ... } [الروم: 6] وفرْقٌ بين وعد الله ووعد الناس؛ لأنك قد تعد إنساناً بخير، وتحول الأسباب بينك وبين إنفاذ ما وعدتَ به، كأن يتغير رأيك أو تضعف إمكاناتك، أو يتغير السبب الذي كنت ستفعل من أجله.

إذن: أنت لا تملك عناصر الوفاء وأسبابه، أمّا وعد الحق سبحانه وتعالى فوعد محقق، حيث لا توجد قوة تُخرجه عما وعد، وهو سبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما دام الوعد وعدَ الله فثِقْ أنه محقق.

لذلك يُعلِّمنا الحق سبحانه:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ... }[الكهف: 23-24] والمعنى: اجعل لنفسك مَخرجَاً من الكذب إنْ حالت الأسباب بينك وبين ما وعدتَ به، بأن تجعل أمرك تحت مشيئة ربك، لا مشيئتك، لأنك لا تملك من عناصر إتمام الفعل شيئاً.

إذن: أدرِكْ نفسك، وقُلْ إنْ شاء الله، حتى إذا حالتْ الأسباب بينك وبين ما أردتَ قلت: شِئْت، ولكن الله تعالى لم يشَأ.

والله تعالى لا يُخِلف وعده؛ لأنه سبحانه يعلم الأشياء على وَفْق ما تكون، ولا توجد قوة تُحوِّله عن مراده، وليس له شريك يراجعه، أو يُخرِجه عن مراده.

وإنْ شئت فاقرأ:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }[المسد: 1-5].

ألم يكُنْ من الممكن وقتها أنْ يُسلِم أبو لهب كما أسلم حمزة وعمر وخالد وعكرمة وغيرهم؟ أليست له حرية الاختيار كهؤلاء؟ بل ألم يسمع هذه السورة؟ ومع هذا كله كفر وأصرَّ على كفره، ولم ينطق بكلمة الإيمان، ولو حتى للكيد لرسول الله فيقول في نادي قريش ولو نفاقاً: قال محمد كذا وأنا أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. أليس هذا دليلاً على غبائه؟

إذن: ما دام أن القرآن أخبر فلا بُدَّ أن يتم الأمر على وَفْق ما أخبر به.

ونلحظ هنا أن كلمة الوعد تعني البشارة بالخير القادم في المستقبل والكلام هنا عن فريقين: فريق منتصر يفرح بالنصر، وفريق منهزم يحزن للهزيمة، فكيف يستقيم الوعد في حَقِّه؟ فالفرح للمؤمن غَمٍّ لغير المؤمن.

ولتوضيح هذه المسألة نذكر أن المستشرقين وقفوا عند قوله تعالى من سورة الرحمن:{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 14-16]

وقالوا: هذا الكلام معقول بالخلق من نعم الله، لكن ماذا عن قوله:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 35-36] فأيُّ نعمة في النار وفي الشواظ؟

وفات هؤلاء أنه من النعمة أن ننبهك إلى الخطر قبل أنْ تقع فيه، ونحذرك من عاقبة الكفر لتنتهي عنه كالوالد الذي يقول لولده: إنْ أهملتَ دروسك ستفشل، وساعتها سأفعل بك كذا وكذا.

إذن: فذِكْر النار والعذاب نعمة لكل من خالف منهج الحق، فلعله حين يسمع الإنذار يعود ويرعوي.

وقوله تعالى: { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الروم:6] نفى عنهم العلم أي: ببواطن الأمور وحقيقتها.

ثم أخبر عنهم: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ... }.

(/3340)

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

إذا رأيت فعلاً نُفِي مرة، وأُثبت مرة أخرى، فاعلم أن الجهة منفكة، فهم لا يعلمون بواطن الأمور، إنما يعلمون ظواهرها، وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء، إنما ظواهر الدنيا فحسب، ولا يعلمون بواطنها، فما بالك بالآخرة؟

حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر، ثم رجعوا عنها بعد حين، تجد أننا لا نعلم من الدنيا إلا الظاهر، فمثلاً قانون الإصلاح الزراعي الذي نعمل به منذ عام 1952، وكنا مُتحمِّسين له نُمجِّده ولا نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم، ويطلبون إعادة النظر فيه، بل إلغاءه؛ لأنه لم يَعُدْ صالحاً للتطبيق في هذا العصر، روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته.

ما أسقطته أمريكا مثلاً، ولو أسقطته أمريكا لانتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها؛ لذلك يقولون: ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها. ومن الممكن أن ينتحر هؤلاء كما انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أنْ يستقيموا لله، وأن يُخِلصوا للناس.

إذن: لا نعرف من الدنيا إلا ظواهر الأشياء، ولا نعرف حقيقتها، كما نشقى الآن بسبب المبيدات الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية؟

كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلاً من تلوث في البيئة وقتْل للأرواح كل يوم، ولك أن تقارن بين وسائل المواصلات في الماضي ووسائل المواصلات اليوم، فإن كان للوسائل الحديثة نفع عاجل، فلها ضرر آجل، ويكفي أن عادم المخلوق لله يصلح الأرض، وعادم المخلوق للبشر يفسدها، لماذا؟ لأننا نعلم ظواهر الأشياء. ولو علم الذي اكتشف السولار مثلاً حقيقته لما استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الآن.

هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا، أمّا الآخرة فنحن في غفلة عنها؛ لذلك يقول سيدنا الحسن: أعجب للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه، و (يرنه) فيعرف زيوفه من جيده، ولا يحسن الصلاة.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا... }[الأنفال: 17] فنفى الرمي، وأثبته في آية واحدة؛ لأن الجهة منفكة، فالإثبات لشيء، والنفي لشيء آخر. وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلِّب صفحاته ويهزّ رأسه، كأنه يقرأ، فإذا ما أخبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئاً، فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لأنه فعل فِعْل المذاكرة، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لأنه لم يُحصِّل شَيئاً مما ذاكره.

كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار، لكن{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ... }[الأنفال: 17] هذه الحفنة؛ لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش، فهذه إذن قدرة الله.

ونلحظ في قوله تعالى:

{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[الروم: 6] أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نُغيِّر الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا: لأنه حين وُضِعت هذه القوانين وشًُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.

والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملاذ وشهوات، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة، وينسي عاقبة ذلك في الآخرة، لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حساباً للعواقب: (الديب بلع منجل، فيقول الآخر: ساعة خراه تسمع عواه).

واقرأ قوله تعالى:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }[آل عمران: 14].

فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الآخرة، والعاقل هو الذي يستطيع أنْ يُوازن بينهما، وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك:هي مدة بلقائك فيها، هي عمرك أنت لا عمر الدنيا كلها، كما أن عمرك فيها محدود مظنون لا بُدَّ أن ينتهي بالموت.

أما الآخرة فدار باقية دائمة، دار نعيم لا ينتهي، ولا يفوتك بحال، فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية؟ لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة؟

لذلك لما سُئِل الإمام علي: أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ فقال: لم يدع الله الجواب لي، إنما الجواب عندك أنت، فإنْ دخل عليك اثنان: واحد جاء بهدية، والآخر جاء يسألك عطية، فإنْ كنت تهشُّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، وإنْ كنت تهشُّ لمن يطلب العطية فأنت من أهل الآخرة.

لماذا؟ لأن الإنسان يحب مَنْ يٌعمِّر ما يحب، فإنْ كنتَ تحب الآخرة فإنك تحب الدنيا فإنك تحب مَنْ يعمرها لك؛ لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشُّ في وجهه، ويبَشُّ ويقول: مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.

لكن، لماذا أعاد الضمير في } وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ { [الروم: 7] لماذا لم يقل: وهم عن الآخرة غافلون؟

لو قال الحق سبحانه وهم عن الآخرة غافلون لَفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم، وليست هناك أدلة تُوقِظهم، إنما } وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ { [الروم: 7] يعني: الغفلة واقعة منهم أنفسهم، وإلاَّ فالأدلة واضحة، لكن ما جدوى الأدلة مع قوم هم غافلون.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ... {.

(/3341)

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)

المعنى: أن يكون ذلك منهم: لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ولم يتفكروا في أنفسهم، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم، ومرة في السماوات والأرض.

الدليل في الأنفس يقول لك: فكِّر في نفسك. أي: اجعلها موضوع تفكيرك، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل، فإلى الآن ومع ما توصَّل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تُكشف بعد.

تأمل في مقومات حياتك: الأكل والشرب والتنفس، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر، تتغذى من المخزون في جسمك، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير.

لذلك من حكمته تعالى حين أمَّن للبشر هذه المقوِّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول، لأن طعامك قد يحتكره غيرك، فتحتاج إلى طلبه والسَّعْي إليه، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلاً.

أما الهواء الذي لا تصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير، فمن حكمة الله تعالى ألاَّ يُملَّك لأحد أبداً، وإلا لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك.

تأمل في نفسك حين تأكل الطعام، وفيك مدخلان متجاوران: القصبة الهوائية، وهي مجرى الهواء للرئتين، والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة، تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في القصبة الهوائية، فبلا شعور تشرَق بها، وتظل تقاومها حتى تخرج، وتأمل حركة لسان المزمار حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع، هذه الحركة التلقائية التي لا دخلَ لك فيها، ولا قدرة لك عليها بذاتك.

تأمل وضع المعدة، وكيف أن الله جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد، هي التي تُغلق المعدة بإحكام بعد الطعام، حتى لا تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك، فمن أصابه خلل في إغلاق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه (أبخر).

كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعياً مستريحاً؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى قضاء الحاجة، ماذا حدث؟ والأمر كذلك في شربة الماء، ذلك لأن لجسمك طاقة تحمُّل في الأمعاء وفي المثانة، ففي لحظة يريد الحمل عن الطاقة، فتشعر بالحاجة إلى الإخراج.

وهذا مجال لا حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم، ومهما بحثنا في أنفسنا، ويكفي أن نقرأ:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض؛ لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والأرض من آيات، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.

} أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ... { [الروم: 8] أي: فكِّروا في أنفسكم بعيداً عن ضجيج الناس وجدالهم ومِرائهم، فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصاً على الظهور، ولو بالباطل، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها، فلا مُهيج ولا مُعاند، لا تخجل أنْ ينتصر عليك خَصْمك، ولا تطمع في مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.

لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ... }[سبأ: 46] يعني: يا مَنْ تفكِّرون في صدق هذا الرسول، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر.. الخ أريد منكم شيئاً واحداً{ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىا وَفُرَادَىا... }[سبأ: 46] أي: مثنى مثنى، أو منفردين، كلٌّ على حدة{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }[سبأ: 46].

إذن: الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه، أو مع مثله، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والانتصار؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك (حسيبك تراجع نفسك) يعني: تفكَّر وحدك بحيث لا تُحرج من أحد، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق.

وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والأرض } مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى... { [الروم: 8].

وهناك آية أخرى تقدم التفكُّر في السماء والأرض على التفكّر في النفس، هي قوله تعالى:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ... }[غافر: 57].

لماذا؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أنْ يُولد، ويموت بعد عدة سنوات، أو حتى بعد مئات السنين، أما السماوات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر.. إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير، وهي تؤدي مهمتها دون تخلُّف، ودون صيانة، ودون أعطال، فهي بحقٍّ أعظم من خَلْق الناس وأكبر.

إذن: الآية والأدلة في أنفسكم وفي السماوات والأرض، لكن أيهما الآية الأقوى؟ قالوا: ما دامت السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس فهي الأقوى، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد، المفيد هو الله - عز وجل - فحينما يضرب لي مثلاً يضرب لي بالأقوى، فإنْ لم أُطِقْه يأتي لي بالأقل، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر.

ومعنى } وَمَا بَيْنَهُمَآ... { [الروم: 8] أي: من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جَوِّ السماء، وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرِّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون: الكواكب السبعة هي السماوات السبع، ووقع فيها علماء كبار، لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها دون السماء الدنيا، واقرأ قول الله تعالى:{ وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ... }[فصلت: 12].

فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها؟! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس، أو بينك وبين القمر؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية، وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية.

ولك أن تضرب مليون سنة في 365يوماً، وتضرب الناتج في 24 ساعة، وتضرب الناتج في ستين دقيقة، ثم في ستين ثانية، ثم تضرب الناتج من ذلك في 300 ألف كيلو، ثم تأمل الرقم الذي وصلتَ إليه.

وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إلا أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكباً جديداً حول الشمس، وبعد سنوات اكتشفوا آخر. كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر أسرع هؤلاء (الفاحشة) يقولون: لقد سبق القرآن، وأخبر بهذا في قوله تعالى:{ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }[الرحمن: 33].

وقالوا: إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلاء سطح القمر، وعجيب أن يقول هذا الكلام علماء كبار، فأين القمر من السماء؟ القمر ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض كمصر الجديدة بالنسبة للقاهرة، ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم، فماذا تقولون في قوله تعالى بعدها:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }[الرحمن: 35]

لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة، وبين علوم الكونيات، وهذه آفة علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما لا علمَ لهم به، فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع وقدرته سبحانه، إنما لا يُؤخذ منها حكم شرعي.

ورأينا من هؤلاء مَنْ ينكر كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، ومنهم مَنْ ظن أن علماء الكونيات - مع أنهم كفرة - يعلمون الغيب لأنهم توصَّلوا بحسابات دقيقة لحركة الأرض إلى موعد الخسوف والكسوف، وجاء الواقع وَفْق ما أخبروا به بالضبط.

وهذه المسألة - كما سبق أنْ قُلْنا - ليست من الغيب المطلق، بل من الغيب الذي أعطانا الله المقدمات التي توصل إليه، وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون، ونفهم هذا في ضوء قوله تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. }[فصلت: 53].

وهذه أيضاً من الآيات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والأرض على أدلة النفس. إذن: فالكونيات تُبنَى على علوم ودراسات، لا دخلَ للدين بها، الدين جاء ليقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا، ثم ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها.

وقوله سبحانه: } إِلاَّ بِالْحَقِّ.. { [الروم: 8] لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وَفْق نظام دقيق منضبط تماماً.

فالشمس لم تتخلف يوماً فتقول مثلاً: لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس؛ لأنهم ظالمون، لأن لها قانوناً تسير به، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير، وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.

لذلك يقول سبحانه:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5] أي: مخلوقة بحساب؛ ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب، فقال:{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىا عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 39-40].

ويقول سبحانه:{ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ }[يونس: 5] وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب، إلا إذا كان هو مخلوقاً بحساب؟

ومع ذلك، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باقٍ؛ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل } إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى... { [الروم: 8] فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجَّلَه الله تُكوّر الشمس وتنكدر النجوم، وتُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات، فالأمر ليس مجرد أنْ يتغير الشيء الثابت، إنما يزول وينتهي.

ثم يقول سبحانه } وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ { [الروم: 8] كنا نجادل الشيوعيين نقول لهم: لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من الإقطاعيين والرأسماليين، وتعديتم في عقابكم، قالوا: لأنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع، فقلنا لهم: فما بال الذين ظلموا قبل هؤلاء وماتوا ولم ينالوا ما يستحقون من العقاب؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يُعاقبون فيها على ما اقترفوه؟

ألا يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة، ووجوب الإيمان بها؟ فمن أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه الله تعالى في الآخرة، ثم أنتم تروْنَ مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء، فالذي أطلق لنفسه العَنان في الدنيا، وسار فيها على هواه، وعَاثَ في الأرض فساداً، ولم تنلْه يد العدالة فهو الفائز إنْ لم تكُنْ له دار أخرى يُحاسَب فيها.

إذن: فالإيمان بالآخرة وبلقاء الله ضرورة يقتضيها المنطق السليم، ومع ذلك يكفر بها كثير من الناس } وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ { [الروم: 8].

فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء؛ لأن قوانين الأرض إنما تَحْمي من ظاهر المنكر، وأما باطن المنكر فلا يعلمه إلا الله، فلا بُدَّ من فترة يُعاقب فيها أصحاب باطن المنكر.

(/3342)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

المعنى: أيكفرون بلقاء ربهم ولم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - خُذْ فقط أمور الدنيا، فهي كافية لمن اعتبر بها - فهؤلاء لم يسيروا في الدنيا، ولم ينظروا فيها بعين الاعتبار بمَنْ سبقهم من الأمم المكذِّبة، ولم يتعظوا بما وقع في الدنيا فضلاً عما سيقع في الآخرة.

فإنْ كُنَّا صدَّقنا ما وقع للمكذِّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا، فينبغي أن نُصدِّق ما أخبر به الله عن الآخرة؛ لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل فخُذْ له وسيلة مما تعلم. إذن: سيروا في الأرض، وانظروا بعين الاعتبار لمصير الذين كذَّبوا، وماذا فعل الله بهم؟

والسَّيْر: قَطْع المسافات من مكان إلى مكان { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [الروم: 9] لكن أنسير في الأرض أم على الأرض؟ هذا من دقة الأداء القرآني، ومظهر من مظاهر إعجازه، فالظاهر أننا نسير على الأرض، لكن التحقيق أننا نسير في الأرض؛ لأن الذي خلقنا وخلق الأرض قال:{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }[سبأ: 18].

ذلك لأن الأرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء، والتي نعيش عليها، إنما الأرض تشمل كل ما يحيط بها من الغلاف الجوي؛ لأنها بدونه لا تصلح للعيش عليها، إذن: فغلاف الأرض من الأرض، فحين نسير لا نسير على الأرض إنما في الأرض.

والسير في الأرض نظر له الدين من ناحيتين: سير يُعَدُّ سياحة للاعتبار، وسيْر يُعَدُّ سياحة للاستثمار، فالسير للاعتبار أن تتأمل الآيات في الأرض التي تمر بها، فالجزيرة العربية مثلاً صحراء وجبال يندر فيها الزرع، فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلاً تجدها بلاداً خضراء لا تكاد ترى سطح الأرض من كثرة النباتات بها.

وفي كل منها خيرات؛ لأن الخالق سبحانه وزَّع أسباب الفضل على الكون كله، وترى أن هذه الأرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقُّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم الله خيرها من باطن الأرض، فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي لا يُسْتغنى عنه يوماً واحداً في هذه البلاد، وحينما قطعناه عنهم في عام 1973ضجُّوا وكاد البرد يقتلهم.

حين تسير في الأرض وتنظر بعين الاعتبار تجد أنها مثل (البطيخة)، لو أخذتَ منها قطاعاً طولياً فإنه يتساوى مع باقي القطاعات، كذلك الأرض وزَّع الله بها الخيرات على اختلاف ألوانها، فمجموع الخير في كل قطاع من الأرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الأخرى.

الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر لا حياةَ فيها، هي الآن مخازن للثروات وللخيرات قد اتجهت إليها الأنظار لإعمارها والاستفادة منها، وانظر مثلاً إلى ما يحدث من نهضة عمرانية في سيناء.

إذن: فالخالق سبحانه وزَّع الخيرات على الأرض، كما وزَّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع مرتبطاً بعضه ببعض برباط الحاجة لا يستغني الناس بعضهم عن بعض، ولا البلاد بعضها عن بعض، وهنا لفتة إيمانية: أن الخلق كلهم عباد الله وصنعته، والبلاد كلها أرض الله وملكه، وليس لله ولد، وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة، فالجميع عنده سواء، لذلك سبق أن قلنا: لا ينبغي لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده؛ لأن خيره سيعود عليك حتماً.

ومعنى } الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... { [الروم: 9] أي: الأمم التي كذَّبَتْ الرسل، وفي آية أخرى يوضح سبحانه عاقبة هؤلاء المكذبين:{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[العنكبوت: 40].

ويخاطب سبحانه كفار قريش:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الصافات: 137-138].

أي: في أسفاركم ورحلات تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب مازالت شاخصة لكل ذي عينين.

ويقول سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 6-8] وكانوا في رمال الأحقاف{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ }[الفجر: 9-13].

لقد كان لكل هؤلاء حضارات ما زالت حتى الآن تبهر أرقى حضارات اليوم، فيأتون إليها ليتأملوا ما فيها من أسرار وعجائب، ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار والزوال، وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب الله حين حَلَّ بها، إذن: لكم في هؤلاء عِبْرة.

وكأن الحق سبحانه في قوله: } أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... { [الروم: 9] يقول لكفار قريش: أنتم يا مشركي قريش أقلّ الأمم، لا قوةَ لكم، ولا مال ولا حضارة ولا عمارة، فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم، إنما سبق أنْ أخذتم العهد في قوله سبحانه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].

لذلك يقول بعدها: } كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا... { [الروم: 9] فالأمم المكذِّبة التي أخذها الله وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم، وأخصب أرضاً، لذلك أثاروا الأرض. أي: حرثوها للزراعة وللإعمار، وأنتم بواد ذي ذرع، والحرث يُطلَق على الزرع كما في قوله سبحانه:{ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ... }[البقرة: 205].

ذلك لأن الأرض لا تنبت النبات الجيد إلا إذا أثارها الفلاح، وقلَّبها ليتخلل الهواء تربتها، فتجود عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي، أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات، فإنها تمسك النبات ولا تعطي فرصة للجذور البسيطة لأنْ تمتد في التربة، خاصة في بداية الإنبات.

وفي موضع آخر يقول - سبحانه وتعالى - عن النبات:{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }[الواقعة: 63-64].

وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها، قال لهم الحق سبحانه:{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ... }[البقرة: 71].

يعني: بقرة مُرفهة غير سهلة الانقياد، فلا تُستخدم، لا في حَرْث الأرض وإثارتها، ولا في سَقْيها بعد أنْ تُحرَث؛ لذلك تجد أن الفلاح الواعي لا بُدَّ أن يثير الأرض ويُقلِّب تربتها قبل الزراعة، ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس، ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها، كما يقولون أيضاً: قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما لا تحتاج إليه.

إذن: فهؤلاء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها.

ومعنى } عَمَرُوهَا... { [الروم: 9] أي: بما يسَّر الله لهم من الطاقات والإمكانات، وأعملوا فيها الموهبة التي جعلها الله فيهم، فاستخرجوا من الأرض خيراتها، كما قال سبحانه:{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا... }[هود: 61].

وإعمار الأرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة، إما بالزرع أو الغًرْس، وإما بالبناء، وإما بشقِّ الأنهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس، ونُفرِّق هنا بين الزرع والغَرْس: فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلاً، أما الغرس فما تغرسُه، ويظل فترة طويلة يُدر عليك، فمحصوله مُتجدِّد كحدائق الفاكهة، والزرع يكون ببذْر الحبِّ، أما الغرس فنبتة سبق إعدادها تُغرس.

ثم يقول سبحانه: } وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ... { [الروم: 9] فبعد أنْ أعطاهم مقوِّمات الحياة وإمكانات المادة وطاقاتها، وبعد أنْ جَنَوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم والدين، فأرسل لهم الرسل } بِالْبَيِّنَاتِ... { [الروم: 9] أي: الآيات الواضحات الدالة على صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات.

وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة الآيات تُطلَق على معانٍ ثلاثة: آيات كونية دالة على قدرة الصانع سبحانه كالشمس والقمر، وآيات تُؤيِّد الرسل وتُثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله وهي المعجزات، وآيات القرآن التي تحمل الأحكام والمنهج، وكلها أمور واضحة بينة.

وقوله تعالى: } فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [الروم: 9] نعم، ما ظلمهم الله؛ لأنه سبحانه أمدهم بمقوِّمات الحياة وإمكانات المادة، ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم، فإنْ حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إلا أنفسهم.

ثم نقول: كيف يتأتَّى الظلم من الله تعالى؟ الظلم يقع نعم من الإنسان لأخيه الإنسان؛ لأنه يحقد عليه، ويريد أنْ يتمتع بما في يده، فالظالم يأخذ حقَّ المظلوم الذي لا قدرةَ له على حماية حقه. فكيف إذن نتصور الظلم من الله - عز وجل - وهو سبحانه مالك كل شيء، وغني عن كل شيء؟ إذن: ما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق الله ومنهجه.

(/3343)

ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

الإساءة ضدها الإحسان، وسبق أن قلنا: إن الإحسان: أن تترك الصالح على صلاحه، أو أن تزيده صلاحاً، ومثَّلْنا لذلك ببئر الماء الذي يشرب منه الناس، فواحد يأتي إليه فيردمه أو يُلوث ماءه، وآخر يبني حوله سياجاً يحميه أو يجعل له آلة تُخرج الماء وتُريح الناس، فهذا أحسن وذاك أساء، فإذا لم تكُنْ محسناً فلا أقلَّ من أنْ تكفَّ إساءتك، وتدع الحال على ما هو عليه.

والحق - سبحانه وتعالى - خلق الكون على هيئة الصلاح، ولو تركناه كما خلقه ربه لَظلَّ على صلاحه، إِذاً لا يأتي الفساد إلا من تدخُّل الإنسان؛ لذلك يقول سبحانه{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }[البقرة: 11-12].

وينبغي على الإنسان أنْ يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده، أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة 1950 كنا ننتظر السَّقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء، ويأخذ أجرة حملها، وكنا نضعها في (البزان) وهو مثل (الزير) عندنا، فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزاً واحداً ويقول: نويت نية الاغتراف، ولا يزيد في وضوئه عن هذا الكوز؛ لأننا نشتري الماء، أما الآن فالواحد منا لا تكفيه (صفيحة) لكي يتوضأ من حنفية الماء. وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضاً للصرف الصحي وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية.

لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراف في استعمال الماء حتى لو كنَّا على نهر جارٍ.

فمعنى الذين أساءوا: أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفساداً جديداً، وطبيعي أن تكون عاقبته من جنس فِعْله { عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَىا } [الروم: 10] والسُّوأى: مؤنث سيء مثل: حسن للمذكر، وحُسْنى للمؤنث. وأصغر وصُغْرى، فهي أفعل تفضيل من السُّوء.

ثم يقول سبحانه: { أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } [الروم: 10] فالأمر لم يقف عند حَدٍّ التكذيب بالآيات، إنما تعدّى التكذيب إلى الاستهزاء، فما فلسفة أهل الاستهزاء حينما يستهزئون بالآخرين؟ كثيراً ما نلاحظ أن التلميذ الفاشل يستهزيء بالمجتهد، والمنحرف يستهزيء بالمستقيم، لماذا؟

لأن حظ الفاشل أنْ يزهد المجتهد في اجتهاده، وحظ المنحرف أن يصير المستقيم منحرفاً مثله، ومن هنا نسمع عبارات السخرية من الآخرين كما حكاها القرآن:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ }[المطففين: 29-32].

لكن لا تتعجل، وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلاء المؤمنون أماكنهم في الجنة، ويجلسون على سُرُرها وأرائكها:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 34-36].

والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والاستهزاء في الدنيا: أقدرنا أنْ نجازيهم على ما فعلوه بكم؟

إذن: فلسفة الاستهزاء أن الإنسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل، فيغيظه كل صاحب فضيلة، ويؤلمه أنْ يرى مستقيماً ينعم بعزِّ الطاعة، وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله ينصرف عما هو فيه من الطاعة والاستقامة.

ثم يقول الحق سبحانه: { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ... }.

(/3344)

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)

هل بدأ الله الخلق بالفعل، أم مازال يبدأ الخلق؟ الأسلوب هنا أسلوب ربٍّ يتكلم، فهو سبحانه بدأ الخَلْق أصوله أولاً، وما يزال خالقاً سبحانه، وما دام هو الذي خلق بَدْءاً، فهو الذي يعيد { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.... } [الروم: 11].

وفي أعراف البشر أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ لأن الابتداء يكون من عدم، أما الإعادة فمن موجود، لذلك يقول الحق سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... }[الروم: 27] أي: بمقاييسكم وعلى قَدْر فَهْمكم، لكن في الحقيقة ليس هناك هَيِّن وأهون في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه لا يفعل بمزاولة الأشياء وعلاجها، إنما بكُنْ فيكون، لكن يخاطبنا سبحانه على قَدْر عقولنا.

فالحق سبحانه بدأ الخلق وما يزال سبحانه يخلق، وانظر مثلاً إلى الزرع تحصده وتأخذ منه التقاوي للعام القادم، وهكذا في دورة مستمرة بين بَدْء وإعادة { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... } [الروم: 11].

وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالوردة الغضَّة الطرية بما فيه من جمال في المنظر والرائحة، فإذا ما قُطِفتْ جفَّتْ، لأن المائية التي بها تبخرتْ، وكذلك رائحتها ولونها انتشر في الأثير، ثم يتفتت الباقي ويصير تراباً، فإذا ما زرعت وردة جديدة أخذت من المائية التي تبخرت ومن اللون ومن الرائحة التي في الجو.

وهكذا تبدأ دورة وتنتهي أخرى؛ لأن مُقوِّمات الحياة التي خلقها الله هي هي في الكون، لا تزيد ولا تنقص، فالماء في الكون كما هو منذ خلقه الله: هَبْ أنك شربت طوال حياتك عشرين طناً من الماء، هل تحمل معك هذا الماء الآن؟ لا إنما تَمَّ إخراجه على هيئة عرق وبول ومخاط وصماخ أذن.. إلخ، وهذا كله تبخَّر ليبدأ دورة جديدة.

ثم يقول سبحانه: { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم: 11] نلحظ أن الكلام هنا عن الخَلْق { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ... } [الروم: 11] لكن انتقل السياق من المفرد إلى الجمع { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم: 11] ولم يقل يرجع أي: الخلْق، فلماذا؟

قالوا: لأن الناس جميعاً لا يختلفون في بَدْء الخلق ولا في إعادته، لكن يختلفون في الرجوع إلى الله، فهذا مؤمن، وهذا كافر، هذا طائع، وهذا عاصٍ، وهذا بين بين، ففي حال الرجوع إلى الله ستفترق هذه الوحدة إلى طريقين: طريق للسعداء، وطريق للأشقياء، لذلك لزم صيغة الإفراد في البَدْء وفي الإعادة، وانتقل إلى الجمع في الرجوع إلى الله لاختلافهم في الرجوع

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... }.

(/3345)

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)

معنى { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } [الروم: 12] أي: يسكتون سُكوتَ اليائس الذي لا يجد حجة، فينقطع لا يدري ما يقول ولا يجد مَنْ يدافع عنه، حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب، فلم يعُدْ لهم أمل في النجاة، كما قال تعالى:{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... }[هود: 98]، ومن ذلك سُمِّي (إبليس)؛ لأنه يئس من رحمة الله.

وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44].

أي: لما نسوا منهج الله أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا، وحين يعاقبهم الله في الدنيا لا يأخذهم على حالهم إنما يُرخي لهم العَنان، ويُزيد لهم في الخيرات، ويُوسِّع عليهم مٌتَع الدنيا وزخارفها، حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أَخْذه أليماً، وكانت سقطتهم من أعلى.

كما أنك مثلاً لا تُوقع عدوك من على الحصيرة، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون الانتقام أبلغَ، أمّا إنْ أخذهم على حال الضِّيق والفقر، فالمسألة إذن هيِّنة، وما أقرب الفقر من العذاب!

ولنا ملحظ في قوله تعالى{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ.... }[الأنعام: 44] فمادة فتح إنْ أراد الحق سبحانه الفتح لصالح المفتوح عليه يقول{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح: 1] وإن أراد الفتح لغير صالحه يقول{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ... }[الأنعام: 44] والفرق بيِّن بين المعنيين، لأن اللام هنا للملك{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح: 1] إنما على{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ... }[الأنعام: 44] فتعني ضدهم وفي غير صالحهم، كما نقول في المحاسبة: له وعليه، له في المكسب وعليه في الخسارة.

(/3346)

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)

نعم، لم يجدوا من شركائهم مَنْ يشفع لهم؛ لأن الشركاء قد تبرأوا منهم، كما قال سبحانه:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ }[البقرة: 166].

وكذلك يقول التابعون:{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ }[فصلت: 29].

وما أشبه هذين: التابع والمتبوع بتلميذين فاشلين تعوَّدا على اللعب وتضييع الوقت، وشغَل كل منهما صاحبه عن دروسه، وأغواه بالتسكّع في الطرقات، إلى أنْ داهمهما الامتحان وفاجأتهما الحقيقة المرّة، فراح كل منهما يلعن الآخر ويسبُّه، ويلقي عليه بالمسئولية.

إذن: ساعة الجد تنهار كل هذه الصلات الواهية، وتتقطع كل الحبال التي تربط أهل الباطل في الدنيا { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } [الروم: 13] ولِمَ لا وقد تكشفتْ الحقائق، وظهر زيفهم وبان ضلالهم؟

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... }.

(/3347)

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)

أي: الذين اجتمعوا في الدنيا على الشر وعلى الضلال يتفرقون يوم القيامة، ويصيرون أعداءً وخصوماً بعد أنْ كانوا أخلاء، فيمتاز المؤمنون في ناحية والكافرون في ناحية، حتى العصاة من المؤمنين الذين لهم رائحة من الطاعة لا يتركهم المؤمنون، إنما يشفعون لهم ويأخذونهم في صفوفهم.

والتنوين في { يَوْمَئِذٍ.. } [الروم: 14] بدل من جملة { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... } [الروم: 14] أي: يوم تقوم الساعة يتفرقون.

(/3348)

فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

ما دام الخلق سيمتازون يوم القيامة ويتفرقون، فلا بُدَّ أن نرى هذه القسمة: الذين آمنوا والذين كفروا، وها هي الآيات تُرينا هذا التفصيل: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... } [الروم: 15] فما جزاؤهم { فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم: 15] الروضة: هي المكان المليء بالخضرة والأنهار والأشجار والنضارة، وكانت هذه عادة نادرة عند العرب؛ لأنهم أهل صحراء تقلُّ في بلادهم الحدائق والرياض.

لذلك، فالرياض والبساتين عندهم شيء عظيم ونعمة كبيرة، ومعنى { يُحْبَرُونَ } [الروم: 15] من الحبور، وهو الفرحة حينما يظهر عليك أثر النعمة، هذا عن المؤمنين، فماذا عن الكافرين؟

ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ... }.

(/3349)

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

المحضر بالفتح: الذي يحضره غيره، ولا تُقَال إلا في الشر، وفيها ما يدلُّ على الإدانة، وإلا لحضر هو بنفسه، ونحن نفزع لسماع هذه الكلمة؛ لأن المحضر لا يأتيك إلا لشر، كذلك حال الكفار والمكذِّبين يوم القيامة تجرُّهم الملائكة، وتجبرهم، وتسوقهم للحضور رَغْماً عنهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ... }.

(/3350)

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)

هنا تتجلى عظمة الإيمان، وتتجلى محبة الله تعالى لخَلْقه، حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم والليلة، في الصباح وفي المساء، في العشية والظهيرة.

والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به، إنما لحبه لهم، وحرصه عليهم ليعطيهم، ويفيض عليهم من آلائه، وإلا فهو سبحانه بصفات الكمال والجلال غنيٌّ عنهم، فإيمان المؤمنين لا يزيد في مُلكه سبحانه شيئاً، كذلك كُفْر الكافرين لا ينقص من مُلكه سبحانه شيئاً.

إذن: المسألة أنه سبحانه يريد أنْ يبرَّ صنعته، ويُكرم خَلْقه وعباده؛ لذلك يستدعيهم إلى حضرته، وقرَّبنا هذه المسألة بمثل - ولله تعالى المثل الأعلى -، قلنا: إذا أردتَ أنْ تقابل أحد العظماء، أو أصحاب المراكز العليا، فدون هذا اللقاء مشاقّ لا بُدَّ أن تتجشمها.

لا بُدَّ أن يُؤْذَن لك أولاً في اللقاء، ثم يُحدَّد لك الزمان والمكان، بل ومدة اللقاء وموضوعه، وربما الكلمات التي ستقولها، ثم هو الذي يُنهي اللقاء، لا أنت.

هذا إنْ أردتَ لقاء الخَلْق، فما بالك بلقاء الخالق عز وجل؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى حضرته، ويجعل ذلك فرضاً وحتماً عليك، ويطلبك قبل أنْ تطلبه، ويذكرك قبل أن تذكره، لا مرة واحدة، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فإذا لبَّيْتَ طلبه أفاض عليك من رحمته، ومن نعمه، ومن تجلياته، وما بالك بصنعة تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم، أيصيبها عطب؟

ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة، فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع، فإنْ أردتَ أنْ تطيل أمد المقابلة، فإن ربك لا يملّ حتى تمل؛ لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا لله تعالى قَدْره، وعرفوا عطاءه، وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولون:حَسْبُ نفسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يَحْتَفِي بي بلاَ مَواعيدَ رَبّهُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ ولكن أنا ألقي كيفما وأين أحبوالعبودية كلمة مكروهة عند البشر؛ لأن العبودية للبشر ذُلٌّ ومهانة، حيث يأخذ السيد خير عبده، أمّا العبودية لله فهي قمة العزِّ كله، وفيها يأخذ العبد غير سيده؛ لذلك امتنّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية في قوله سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1].

وكلمة { فَسُبْحَانَ اللَّهِ... } [الروم: 17] هي في ذاتها عبادة وتسبيح لله تعني: أُنزِّه الله عن أنْ يكون مثله شيء؛ لذلك يقول أهل المعرفة: كل ما يخطر ببالك فالله غير ذلك؛ لأنه سبحانه{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11].

فالله سبحانه مُنزَّه في ذاته، مُنزَّه في صفاته، مُنزَّه في أفعاله، فإنْ وجدنا صفة مشتركة بين الخَلْق والخالق سبحانه نفهمها في إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11].

وقلنا: إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب الله تجد في أول الإسراء:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }

[الإسراء: 1] وفي أول سورة الحديد:{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }[الحديد: 1] ثم{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... }[الجمعة: 1].

فكأن الله تعالى مُسبَّح أزلاً قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه، فالتسبيح ثابت لله أولاً، وبعد ذلك سبَّحَتْ له السماوات والأرض، ولم ينقطع تسبيحها، إنما ما زالت مُسبِّحة لله.

فإذا كان التسبيح ثابتاً لله تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه، وحين خلق السماوات والأرض سبَّحتْ له السماوات والأرض وما زالت، فعليك أنت أيها الإنسان ألاَّ تشذَّ عن هذه القاعدة، وألاَّ تتخلف عن هذه المنظومة الكونية، وأن تكون أنت كذلك مُسبِّحاً؛ لذلك جاء في القرآن:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىا }[الأعلى: 1].

فاستح أنت أيها الإنسان، فكل شيء في الوجود مُسبِّح{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44].

لكن أراد بعض العلماء أنْ يُقرِّب تسبيح الجمادات التي لا يسمع لها صوتاً ولا حِسّاً، فقال: إن تسبيحها تسبيح دلالة على الله. ونقول: إنْ كان تسبيحَ دلالة كما تقول فقد فهمته، والله يقول{ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44].

إذن: ففهْمُك له غير حقيقي، وما دام أن الله أخبر أنها تُسبِّح فهي تسبِّح على الحقيقة بلغة لا نعرفها نحن، ولِمَ لا والله قد أعطانا أمثلة لأشياء غير ناطقة سبَّحتْ؟ ألم يقُلْ عن الجبال أنها تُسبِّح مع داود عليه السلام:{ ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ... }[سبأ: 10] ألم يُثبت للنملة وللهدهد كلاماً ومنطقاً؟ وقال في عموم الكائنات:{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ... }[النور: 41].

إذن: فالتسبيح لله تعالى من كل الكائنات، والحق سبحانه يعطينا المثل في ذواتنا: فأنت إذا لم تكُنْ تعرف الإنجليزية مثلاً، أتفهم مَنْ يتكلم بها؟ وهي لغة لها أصوات وحروف تُنطق، وتسمعها بنفس الطريقة التي تتكلم أنت بها.

لذلك تأتي كلمة (سبحان الله) في الأشياء التي يجب أنْ تُنزه الله فيها، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى في الإسراء:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1] كأنه سبحانه يقول لنا: نزِّهوا الله عن مشابهة البشر، وعن قوانين البشر في هذه المسألة، إياك أنْ تقول: كيف ذهب محمد من مكة إلى بيت المقدس، ثم يصعد إلى السماء، ويعود في ليلة واحدة.

فبقانون البشر يصعُب عليك فَهْم هذه المسألة، وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم هم، فاستبعدوا ذلك وكذَّبوه.

ولو تأملوا الآية{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1] وهم أهل اللغة لَعرفوا أن الإسراء لم يكُنْ بقوة محمد، فلم يقُلْ أسريتُ، ولكن قال: " أُسرِي بي " ، فلا دخلَ له في هذه المسألة وقانونه فيها مُلْغى، إنما أسرى بقانون مَنْ أسرى به.

إذن: عليك أن تُنزه الله عن قوانينك في الزمان وفي المسافة، وإنْ أردتَ أن تُقرب هذه المسألة للعقل، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة هذه المسألة للعقل، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة، فالذي يسير غير الذي يركب دابةً، غير الذي يركب سيارة أو طائرة أو صاروخاً وهكذا.

فإذا كان في قوانين البشر: إذا زادت القوة قَلَّ الزمن، فكيف لو نسَبْتَ القوة إلى الله عز وجل؟ عندها نقول: لا زمن فإنْ قُلْتَ: إن ألغينا الزمن مع قوة الله وقدرته تعالى، فلماذا ذكر الزمن هنا وقُدِّر بليلة؟

قالوا: لأن الرحلة لم تقتصر على الذهاب والعودة، إنما تعرَّض فيها النبي صلى الله عليه وسلم لَمَراء كثيرة، وقابل هناك بعض الأنبياء، وتحدَّث معهم، فهذه الأحداث لرسول الله هي التي استغرقتْ الزمن، أمّا الرحلة فلم تستغرق وقتاً.

كذلك جاءت كلمة (سبحان) في قوله تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] لماذا؟ لأن مسألة الخَلْق من المسائل التي يقف عندها العقل، وينبغي أنْ تُنزِّه الله عن أنْ يشاركه فيها أحد.

ولما نزلت هذه الآية كان الناس يعرفون الزوجية في النبات لأنهم كانوا يُلقِّحون النخل، ويعرفونها في الإنسان؛ لأنهم يتزوجون وينجبون، وكذلك يعرفونها في الحيوان، هذه حدود العقل في مسألة الزوجية.

لكن الآية لم تقتصر على ذلك، إنما قال سبحانه{ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] لأن المستقبل سيكتشف لهم عن أشياء أخرى تقوم على نظرية الزوجية، وقد عرفنا نحن هذه النظرية في الكهرباء مثلاً حيث (السالب) و (الموجب)، وفي الذرات حيث (الإلكترونات)، و (البروتونات).. إلخ.

إذن: ساعةَ تسمع كلمة التسبيح فاعلم أنك ستستقبل حدثاً فريداً، ليس كأحداث البشر، ولا يخضع لقوانينهم.

ثم يقول سبحانه: } وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ... {.

(/3351)

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

نحلظ أن قوله تعالى { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [الروم: 18] فصلَتْ بين الأزمنة المذكورة، فجعلت{ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }[الروم: 17] في ناحية، و { وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم: 18] في ناحية، مع أنها جميعاً أوقات وأزمنة في اليوم والليلة، لماذا؟

قالوا: لأنه سبحانه يريد أنْ يُشعرنا أن له الحمد، ويجب أنْ تحمده على أنه مُنزَّه عن التمثيل؛ لأنها في مصلحتك أنت، وأنت الجاني لثمار ها التنزيه، فإنْ أرادك بخير فلا مثيلَ له سبحانه يمنعه عنك، وله وحده الكبرياء الذي يحميك أن يتكبر أحد عليك، وله وحده تخضع وتسجد، لا تسجد لغيره، فسجودك لوجه ربك يكفيك كل الأوجه، كما قال الشاعر:فَالسُّجُودُ الذي تَجْتويهِ فيه مِنْ أُلُوف السُّجُودِ نَجَاةُإذن: من مصلحتك أن يكون الله تعالى هو الواحد الذي لا مثيلَ له، والقوى الذي لا يوجد أقوى منه، والمتكبِّر بحقٍّ؛ لأن كبرياءه يحمي الضعيف أنْ يتكبّر عليه القوي، يجب أنْ تحمد الله الذي تعبَّدنا بالسجود له وحده، وبالخضوع له وحده؛ لأنه أنجاك بالسجود له أنْ تسجد لكل قوي عنك، وهذا من عظمته تعالى ورحمته بخَلْقه؛ لذلك تستوجب الحمد.

لذلك نقول في العامية (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لماذا؟ لأنه لا يعيش عزيزاً مُكرّماً إلا إذا كان له كبير يحميه، ويدافع عنه، كذلك أنت لا تكون عزيزاً إلا في عبوديتك لله.

والخَلْق جميعاً بالنسبة لله تعالى سواء، فليس له سبحانه من عباده ولد ولا قريب، فلا مؤثرات تؤثر عليه، فيحابي أحداً على أحد، فنحن جميعاً شركة في الله؛ لذلك يقول سبحانه{ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3] أي: لا شيء يؤثر عليه سبحانه.

وقال بعد التسبيح { وَلَهُ الْحَمْدُ... } [الروم: 18] لأن التسبيح ينبغي أنْ يُتبَع بالحمد فتقول: سبحان الله والحمد لله، أي: الحمد لله على أنني سبَّحت مسبَّحاً.

وحين نتأمل هذه الأوقات التي أمرنا الله فيها بالتسبيح، وهي المساء والصباح والعشي، وهي من العصر إلى المغرب، ثم الظهيرة نجد أنها أوقات عامة سارية في كَوْن الله لا تنقطع أبداً، فأيّ صباح وأيّ مساء؟ صباحي أنا؟ أم صباح الآخرين؟ مسائي أم مساء غيري في أقصى أطراف المعمورة؟

إن المتأمل في دورة الوقت يجد أن كل لحظة فيه لا تخلو من صباح ومساء، وعشية وظهيرة، وهذا يعني أن الله تعالى مُسبِّح معبود في كل لحظة من لحظات الزمن.

وفي ضوء هذا نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " فالكون لا يخلو في لحظة واحدة من ليل أو نهار، وهذا يعني أن يد الله سبحانه مبسوطة دائماً لا تُقبَض:{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ... }[المائدة: 64].

ثم يقول الحق سبحانه: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... }.

(/3352)

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

أولاً: ما مناسبة الحديث عن البعث، وإخراج الحيِّ من الميت، وإخراج الميت من الحيِّ بعد الحديث عن تسبيح الله وتحميده؟ قالوا: لأنه تكلَّم عن المساء والصباح، وفيهما شبه بالحياة والموت، ففي المساء يحلُّ الظلام، ويسكُن الخَلْق وينامون، فهو وقت للهدوء والاستقرار، والنوم الذي هو صورة من صور الموت؛ لذلك نسميه الموت الأصغر، وفي الصباح وقت الحركة والعمل والسعي على المعاش، ففيه إذن حياة، كما يقول سبحانه:{ وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً }[النبأ: 10-11].

ويُُمثَّل الموت والبعث بالنوم والاستيقاظ منه، كما جاء في بعض المواعظ: " لتموتُن كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون ".

وما دُمْنا قد شاهدنا الحاليْنِ، وعايّنا النوم واليقظة، فلنأخذ منهما دليلاً على البعث بعد الموت، وإنْ أخبرنا القرآن بذلك، فعلينا أنْ نُصدِّق، وأنْ نأخذ من المشاهد دليلاً على الغَيْب، وهذا ما جاءتْ به الآية:

{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ... } [الروم: 19].

وقوله تعالى هنا (الحي والميت) أي: في نظرنا نحن وعلى حَدِّ عِلْمنا وفَهمنا للأمور، وإلا فكُلُّ شيء في الوجود له حياة تناسبه، ولا يوجد موت حقيقي إلا في الآخرة التي قال الله فيها:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88].

فضدُّ الحياة الهلاك بدليل قوله تعالى:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42]

وما دام كلُّ شيء هالكاً إلا وجهه تعالى، فكل شيء بالتالي حَيٌّ، لكنه حي بحياة تناسبه. وأذكر أنهم كانوا يُعلِّموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة مُمغنطة إلى قطعة أخرى بالدَّلْك في اتجاه واحد، وفعلاً شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية.

وتستطيع أنْ تجذب إليها قطعة أخرى، أليس هذا مظهراً من مظاهر الحياة؟ أليست هذه حركة في الجماد الذي نراه نحن جماداً لا حياةَ فيه، وهو يؤثر ويتأثر بغيره، وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت ولها قانون.

إذن: نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به، وإنْ كُنَّا لا ندركها؛ لأننا نفهم أن الحياة في الأحياء فحسب، إنما هي في كل شيء وكَوْنك لا تفقه حياة هذه الأشياء، فهذه مسألة أخرى.

لذلك سيدنا سليمان - عليه السلام - لما سمع كلام النملة، وكيف أنها تفهم وتقف ديدباناً لقبيلتها، وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه، فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم، وكيف كانت واعية، وعادلة في قولها.{ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[النمل: 18] فهي تعلم أن الجيش لو حطَّم النمل، فهذا عن غير مقصد منهم، وعندها أحسَّ سليمان بنعمة الله عليه بأنْ يعلم ما لا يعلمه غيره من الناس، فقال: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىا وَالِدَيَّ... } [النمل: 19].

فمعنى { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.

... { [الروم: 19] أي: في عُرْفنا نحن، وعلى قَدْر فَهْمنا للحياة وللموت، والبعض يقول: يعني يُخرج البيضة من الدجاجة، ويُخرج الدجاجة من البيضة، وهذا الكلام لا يستقيم مع منطق العقل، وهل كل بيضة بالضرورة تُخرج دجاجة؟ لا بل لا بُدَّ أنْ تكون بيضة مُخصَّبة. إذن: لا تقُلْ البيضة والدجاجة، ولكن قُلْ يُخرج الحي من الميت من كل شيء موجود.

ثم يقول سبحانه: } وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ... { [الروم: 19] وفي موضع آخر يقول تعالى:{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ... }[الأنعام: 95] فأتى باسم الفاعل (مُخْرِج) بدلاً من الفعل المضارع.

لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن، يقولون: إنْ كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة، وهذا منهم نتيجة طبيعية لعدم فَهْمهم للغة القرآن، وليستْ لديهم الملَكة العربية التي تستقبل كلام الله.

وهنا نقول: إن الذي يتكلم ربٌّ يعطي لكل لفظة وزنها، ويضع كل كلمة في موضعها الذي لا تُؤدِّيه كلمة أخرى.

فقوله تعالى } يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... { [الروم: 19] هذه في مصلحة مَنْ؟ في مصلحتنا نحن؛ لأن الإنسان بطَبْعه يحب الحياة، وربما استعلى بها، واغترَّ بهذا الاستعلاء، كما قال ربنا:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].

لذلك يُذكِّره ربه تعالى بالمقابل: فأنا كما أُخرج الحيَّ من الميت أُخرِج الميت من الحيِّ فانتبه، وإياك أنْ تَتعالى أو تتكبَّر، وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أنْ يسلبها منك في أيِّ لحظة.

وعبَّر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع (يُخرِج) الدالّ على الاستمرار والتجدُّد، ومرة باسم الفاعل (مُخرِج) الدال على ثبوت الصفة وملازمتها للموصوف، لا مجرد حدث عارض.

لذلك تأمل قول الله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً... }[الملك: 1-2] وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت، لكن الحق سبحانه يريد أن يقتل في الإنسان صفة الاغترار بالحياة، فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها، فقال{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ... }[الملك: 2].

فقدَّم الموت على الحياة، فقبل أنْ تفكر في الحياة تذكّر الموت حتى لا تغترّ بها ولا تَطْغى.

ويتجلى هذا المعنى أيضاً في سورة الواقعة:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }[الواقعة: 58-60].

يعني: خذوا بالكم، وافهموا أنني واهب الحياة، وأستطيع أنْ أسلبها فلا تغترَّ بها ولا (تتفرعن)، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يَدُكَّ في الإنسان صفة الكبرياء والتعالي، فيُحدث هذه المقابلة دائماً بين ذِكْر الحياة في آيات القرآن الكريم.

ثم أَلاَ ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سبباً من أسباب العمر والسنين، فواحد يموت قبل أنْ يُولَد، وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر، وآخر يموت بعد عدة أعوام، وآخر بعد مائة عام.

إذن: مسألة لا ضابط لها إلا أقدار الله وأجله الذي أجلَّه سبحانه، وفي هذا إشارة للإنسان: احذر فقد تُسلْبَ منك الحياة التي تنشأ منها غرورك في أيِّ لحظة، ودون أنْ تدري ودن سابق إنذار أو مقدمات، فاستقِمْ إذن على منهج ربك، ولا تجتريء على المعصية؛ لأنك قد تموت قبل أنْ تتدارك نفسَك بالتوبة.

لذلك يقولون: إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بيَّنه بالإبهام غايةَ البيان، كيف؟ قالوا: لأنه سبحانه لو حدَّد لك موعد الموت لكنتَ تستعد له قبل أوانه، إنما حين أبهمه جعلك تستعدّ له كل لحظة من لحظات حياتك.

ثم يقول سبحانه: } وَيُحْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... { [الروم: 19] وفي موضع آخر:{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }[الحج: 5].

فالأرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء، لا أثرَ فيها لحياة، فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر تحركت وأنبتتْ من كل زوج بهيج، فهي نموذج حيٌّ مُشَاهد للخَلْق وللحياة.

وفي آية أخرى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً... }[الحج: 63] فهل أخضرتْ الأرضُ ساعةَ نزل عليها المطر؟ لا، إنما بعد فترة، كأنه سبحانه يقول لك: لاحظ الحدث ساعة يوجد، واستحضر صورته، فبعد نزول الماء ترى الأرض تخضرّ تدريجياً، وإنْ لم تبذر فيها شيئاً، ففيها بذور شتَّى حملتْها الرياح، ثم استقرتْ في التربة ولو لسنوات طوال تظل صالحة للإنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها.

والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة، وقد رأيناها في عرفة بعد أنْ نزل عليها المطر، وعُدْنا بعد عدة أيام، فإذا الأرض تكتسي باللون الأخضر. لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه الإنسان، وإلاَّ فمنْ أين جاءت أول بذرة زرعها الإنسان. إذن: هناك زراعات لا دخلَ للإنسان بها.

ولنقرأ قصة مريم عليها السلام:{ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }[آل عمران: 42] فالاصطفاء الأول لم يقُلْ على مَنْ. فالمعنى: اصطفاكِ على الخَلْق جميعاً، بأن طَهَّركِ وجعلك صالحة تقية قوَّامة... إلخ.

أما الاصطفاء الآخر فليس على الخَلْق جميعاً، إنما على النساء؛ لأنها تفردتْ عن نساء العالمين بأنْ تلِدَ بغير ذكورة.

والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لاحظ على مريم علامات الحمل وهو يعلم مَنْ هي مريم، وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها، فلم يرِدْ على ذِهْنه المعنى الثاني، ويريد أن يستفهم عَمَّا يراه، فسألها بأدب: يا مريم، أتوجد شجرة بدون بذرة؟ فقالت وقد لقَّنها الحق سبحانه: نعم، الشجرة التي أنبتت أول بذرة.

إذن: الحق سبحانه يمتنُّ علينا بالشيء، ثم يُذكِّرنا بقدرته تعالى على سَلْبه، وعلى نقيضه حتى لا نغترَّ به، ليس في مسألة الموت والحياة فحسب، إنما في الزرع وفي الماء وفي النار، واقرأ قوله تعالى:

{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَىا فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ }[الواقعة: 58-72].

ونلحظ في الأداء القرآني في هذه الآيات الدقة في استخدام لام التوكيد في{ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً... }[الواقعة: 65] في الحديث عن الزرع؛ لأن للإنسان دوراً فيه، حيث يحرث ويغرس ويسقي، وربما ظَنَّ لنفسه قدرة عليه.

لكن لما تحدَّث عن الماء ذكر في نقضه{ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً... }[الواقعة: 70] بدون توكيد، لماذا؟ لأن الماء لا دخلَ لأحد فيه، ولا يدعيه أحد، فلا أنت بخرتَ الماء، ولا أنت أنزلتَ المطر، لذلك قال:{ جَعَلْنَاهُ... }[الواقعة: 70] بدون توكيد.

أما عند ذكْر النار كنعمة من نِعَم الله لم يذكر ما ينقضها، فقال:{ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ }[الواقعة: 72] ولم يقُلْ مثلاً: لو نشاء لأطفأناها، تُرى لماذا؟ قالوا: لتظل النارُ ماثلة أمامنا على حال اشتعالها لا تخمد أبداً، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُلوِّح بها لكل عَاصٍ علَّه يعود إلى الجادّة.

ثم يقول سبحانه: } وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ { [الروم: 19] كذلك: إشارة إلى ما سبق ذِكْره من إحياء الأرض بعد موتها، كمثْل ذلك تُخرجون وتُبعثون، فمَنْ أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الأرض الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها.

(/3353)

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)

الكلام هنا عن بَدْء الخلق، قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ... } [الروم: 20] بصيغة الجمع، والمراد آدم ثم حواء، ثم بثَّ الله منهما رجالاً كثيراً ونساء، فالعالم اليوم الذي يُعَدُّ بالمليارات حين تعود به إلى الماضي لا بُدَّ أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء، فلما التقيا نشأ منهما النسل، لكن هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم، أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟

لو أن الحيوان المنويَّ كان ميتاً لما حدث الإنجاب. إذن: جاء أولاد آدم من ميكروب أبيهم آدم، وانتشروا في الأرض وأنجبوا، وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الأول آدم عليه السلام. وبالتالي فكُلٌّ مِنّا فيه ذرة حية من عهد آدم، وحتى الآن لم يطرأ عليها فناء أبداً، وهذا هو عَالَم الذَّرِّ الذي شهد خَلْق الله لآدم، إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الأول بين الخَلْق والخالق سبحانه:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[الأعراف: 172].

إذن: في كل مِنّا الآن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيَّة من أبيه آدم، هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ هذا العهد، وهي التي تمثل الفطرة الإيمانية في كل نفس بشرية، لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو تُغلَّف بالغفلة والمعاصي... إلخ.

والحق - سبحانه وتعالى - أخبرنا أنه يخلق الأشياء ويُوجِدها بكُنْ{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] إلا الإنسان، فقد بلغ من تكريمه أنْ سوَّاه ربه بيده، وجعله خليفة له في الأرض، وتجلَّى عليه بصفات من صِفاته، فأعطاه من قدرته قدرةً، ومن عِلْمه عِلْماً، ومن حكمته حكمة، ومن غِنَاه غِنىً.

وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد مِنَّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا، كما يستعملها هو سبحانه، فالله تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا، فعليك أنت بما وهبك الله من القدرة أنْ تعمل ما ينفع، والله بحكمته رتَّبَ الأشياء، فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتَّب الأِشياء.. وهكذا.

ونشير إلى أن القدرة تختلف، فقدرة تفعل لك، وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسك، هَبْ أنك قابلتَ رجلاً ضعيفاً لا يَقْوَى على حَمْل متاعه مثلاً، فتحمله أنت له، فأنت إذن عدَّيْتَ إليه أثرَ قوتك، إنما ظلَّ هو ضعيفاً.

أما الحق - تبارك وتعالى - فلا يُعدِّي أثر قوته إلى عبده فحسب، إنما يُعدِّي له القدرة ذاتها، فيُقوِّي الضعيف؛ فيحمل متاعه بنفسه.

إذن: أعظم تكريم للإنسان أنْ يقول الخالق سبحانه: إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لإبليس:{ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... }

[ص: 75].

ثم لك أيها الإنسان بعد هذا التكريم أنْ تكون كريماً على نفسك كما كرَّمك الله، ولك أنْ تنزل بها إلى الحضيض، فنفسك حيث تجعلها أنت.

يقول تعالى:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[التين: 4-5] فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين.

وكلمة } مِّن تُرَابٍ... { [الروم: 20] أي: الأصل الذي خُلِق منه آدم، والتراب مع الماء يصير طيناً، فإنْ تعطَّن وتغيَّرَتْ رائحته فهو حمأ مسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، إذن: هذه هي العناصر التي وردت ومراحل خَلْقِ الإنسان، وكلها مُسمَّيات للتراب، وحالات طرأتْ عليه.

فإنْ جاء مَنْ يقول في مسألة الخَلْق بغير هذا فلا نُصدّقه؛ لأن الذي خلق الإنسان أخبرنا كيف خلقه، أما هؤلاء فلم يشهدوا من خَلْق الإنسان شيئاً، وهم في نظر الدين مُضللون، يجب الحذر من أفكارهم؛ لأن الله تعالى يقول في شأنهم:

{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].

والله لو لم يَخُضْ العلماء في مسألة الخلق خلق الإنسان وخلق الشمس والقمر والأرض... الخ. لو لم نسمع بنظرية داروين أكانت تصدُق هذه الآية؟ وإلا لقالوا: أين المضللون الذين تكلَّم القرآن عنهم؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم، يريدون أنْ يُكذِّبوا دين الله، وأنْ يُشكِّكوا فيه، وإذا بهم يقومون جميعاً دليلاً على صِدْقه من حيث لا يشعرون.

وعلى شاكلة هؤلاء الذين نسمعهم الآن ينكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويُشككون في صحتها، هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذه المسألة، إنما أخبر عنها ونبهنا إليها، وأعطانا المناعة اللازمة - الثلاثي الذي نسمع عنه من رجال الصحة.

يقول صلى الله عليه وسلم: " يوشك رجل من أمتي يتكيء على أريكته يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أَلاَ وإنَّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ".

لماذا؟ لأن الله تعالى أعطاه تفويضاً في أنْ يُشرِّع لأمته، فقال تعالى:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ... }[الحشر: 7] فللرسول إيتاء، وللرسول أمر ونهي يجب أنْ يُطاع بطاعتنا لله.

وتعالَ لمن ينكر السنة ويقول: علينا بالقرآن - عندما يصلي المغرب مثلاً واسأله: كم ركعة صليتَ المغرب؟ سيقول: ثلاث ركعات، فمن أين علم أن المغرب ثلاث ركعات؟ أمن القرآن الذي يتعصَّب له، أم من السنة التي يُنكرها. إذن: كيف يتعبد على قول رسول الله ثم ينكره؟

إذن: فالحق - سبحانه وتعالى - بيَّن مراحل خَلْق الإنسان من تراب، صار طيناً، ثم صار حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً كالفخار، ثم نفخ فيه الله من روحه، ونحن لم نشاهد هذه المسألة، إنما أخبرنا بها، ومن رحمته تعالى بخَلْقه، ولكي لا تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون المشَاهد لنا شواهد تُوضِّح لنا الغيب الذي لم نشاهده.

ففي أعرافنا أن هَدْم الشيء أو نَقْص البناء يأتي على عكس البناء، فما بُني أولاً يُهْدَم آخراً، وما بُني آخراً يُهدَم أولاً، وأنت لم تشاهد عملية الخَلْق، لكن شاهدتَ عملية الموت، والموت نَقْض للحياة.

ولك أنْ تتأملَ الإنسان حينما يموت، فأول نَقْض لبنيته أنْ تخرج منه الروح، وكانت آخر شيء في بنائه، ثم يتصلّب الجسد ويتجمد، كما كان في مرحلة الصلصالية، ثم يتعفَّن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم تمتص الأرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه خالقه من تراب، إذن: صدق الله تعالى في المشهد حين بيَّن لنا الموت، فصدَّقنا ما قاله في الحياة.

وكما أن التراب والطين هما أصل الإنسان فهما أيضاً مصدر الخِصْب والنماء، ومخازن للقوت وهما مُقوِّم من مُقوِّمات حياتنا: لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانه:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا... }[فصلت: 9-10] يعني: في الجبال لأنها أقرب مذكور أو في الأرض عموماً؛ لأن الرواسي في الأرض{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 10].

فالقوت يأتينا من طينة الأرض، ومن التراب الذي يتفتت من الجبال مُكوِّناً الطمي أو الغرْيَن الذي يحمله إلينا ماء المطر، فالأرض هي أمنا الحقيقية، منها خُلِقْنا، ومنها مُقوِّمات حياتنا.

وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين مَنْ يثبت صدْق القرآن في مسألة خَلْق الإنسان من طين حين حلَّلوا عناصر الأرض فوجدوها ستة عشر عنصراً هي نفسها التي وجدوها في جسم الإنسان، وكأن الحق سبحانه يُجنِّد مَنْ يثبت صِدْق آياته ولو من الكفار.

وصدق الله العظيم حين قال:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... }[فصلت: 53]. وفي القرآن آيات تدلّ على معادلات لو بحثها (الكمبيوتر) الآن لا بُدَّ أن نؤمن بأن هذا الكلام من عند الله وأنه صِدْق.

تأمل ظاهرة اللغة، وكيف نتكلم ونتفاهم، فأنت إذا لم تتعلم الإنجليزية مثلاً لا تفهمها؛ وكذلك هو لا يفهم العربية. لماذا؟ لأ ن اللغة وليدة المحاكاة، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، وهي ظاهرة اجتماعية، فلو عاش الإنسان وحده لما احتاج للغة؛ لأنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط.

أمّا حين يعيش في جماعة فلا بُدَّ له أن يتفاهم معهم، يأخذ منهم ويأخذون منه، يسمع منهم ويسمعون منه، حتى الأخرس لا بُدَّ له من لغة يتفاهم بها مع مَنْ حوله، ويستخدم فعلاً لغة الإشارة، وقد أقدره الله على فهمها.

والله سبحانه يُبقي للإنسان المتكلم دلالات الإشارة في النفس الناطقة، فمثلاً لو اضطررت للكلام وفي فمك طعام، فإنك تشير لولدك أو لخادمك مثلاً ويفهم عنك ويفعل ما تريد.

إذن: فينا نحن الأسوياء بقايا خَرس نستعمله، حينما لا يسعفنا النطق إذن: التفاهم أمر ضروري، واللغة وليدة المحاكاة؛ لذلك نقول للولد الصغير: لا تخرج إلى الشارع، لماذا؟ حتى لا تسمع أذنه كلاماً قبيحاً فيحكيه هو.

إذن: كيف تعلمتُ اللغة؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي، وتعلمها أبي من أبيه، ومن المحيطين به، وهكذا. ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في الإنسان، وسوف نعود بالتالي إلى أبينا آدم عليه السلام، وعندها نقول: ومَنْ علَّم آدم اللغة؟ يردُّ علينا القرآن:{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا... }[البقرة: 31] هذا كلام منطقي استقرائي يدلُّ دلالة قاطعة على صِدْق آيات القرآن.

وقوله سبحانه: } ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ { [الروم: 20] ثم: أي بعد أنْ خلقنا الله من تراب تكاثر الخَلْق وتزايدوا بسرعة؛ لأن السياق استعمل هنا (إذا) الفجائية الدالة على الفجأة، والتي يُمثِّلون لها بقولهم: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب، يعني: فاجأني، فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الأرض بسرعة، ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ... {.

(/3354)

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قلنا: إن الآية هي الشيء العجيب الذي يقف عنده العقل مندهشاً دهشةً تُورِث إعجاباً، وإعجاباً يُورث يقيناً بحكمة الخالق. من هذه الآيات العجيبة الباهرة { أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً... } [الروم: 21] يعني: من جنسكم ونوعكم.

فلم يشأ سبحانه أنْ يحدث التكاثر مثلاً بين الإنسان وبقرة، لا إنما إنسان مع إنسان، يختلف معه فقط في النوع، هذا ذكر وهذه أنثى، والاختلاف في النوع اختلاف تكامل، لا اختلاف تعاند وتصادم، فالمرأة للرقة والليونة والحنان، والرجل للقوة والخشونة، فهي تفرح بقوته ورجولته، وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها، فيحدث التكامل الذي أراده الله وقصده للتكاثر في بني الإنسان.

وعجيب أنْ يرى البعض أن الذكورة نقيض الأنوثة، ويثيرون بينهما الخلاف المفتعل الذي لا معنى له، فالذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار.. أيهما أفضل؟ لذلك تأمل دقة الأداء القرآني حينما جمع بين الليل والنهار، وبين الذكر والأنثى، وتدبّر هذا المعنى الدقيق:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 1-4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.

فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.

فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى:{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 4].

وعجيب أن نسمع من يقول - من الرجال - ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل، وأنْ تؤدي ما يؤديه، ونقول: لا نستطيع أن تُحمِّل المرأة مهمة الرجل إلا إذا حمَّلْتَ الرجل مهمة المرأة، فيحمل كما تحمل، ويلد كما تلد، ويُرضِع كما تُرضِع، فدعونا من شعارات (البلطجية) الذين يهرفون بما لا يعرفون.

ومثل هذا قوله تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] أي: من جنسكم وبشريتكم، فهو نفس لها كل طاقات البشر، ليكون لكم أسوة، ولو جاء الرسول مَلَكاً لما تحققتْ فيه الأسوة، ولَقُلْتم هذا ملَك، ونحن لا نقدر على ما يقدر هو عليه. أو{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] يعني: من العرب ومن قريش.

والبعض يرى أن{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] يعني: خَلْق حواء من ضلع آدم، فهي من أنفسنا يعني: قطعة منا، لكن الكلام هنا

{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] مخاطب به الذكر والأنثى معاً، كما أن الأزواج تُطلق عليهما أيضاً، على الرجل وعلى المرأة، والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين، لكن الزوج مفرد معه مثله؛ لذلك يقول تعالى:{ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ... }[الرعد: 3].

وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة، لكن القرآن يقول غير ذلك:{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىا }[القيامة: 37] فماء المرأة لا دخلَ له في نوع الجنين، ذكراً كان أم أنثى، الذكورة والأنوثة يحددها ماء الرجل.

وهذا ما أثبته العلم الحديث، وعلى هذا نقول } خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً... { [الروم: 21] يعني: من ذكور الأزواج، خلق منك ميكروباً هو (الإكس أو الإكس واي) كما اصطلح عليه العلم الحديث، وهو يعني الذكورة والأنوثة.

وسبق أنْ ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته؛ لأنها لا تنجب البنين، وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية، وقَوْلُها دليل على علم العرب قديماً بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخراً، قالت:مَا لأبي حَمْزةَ لا يأْتينَا غَضْبان أَلاَّ نَلدَ البَنينَاتَالله مَا ذَلكَ في أَيْدينَا ونحن كالأرْضِ لِزَارِعينانُعطي لَهُمْ مثْل الذي أُعْطينَا والحق سبحانه بهذا يريد أن يقول: إنني أريد خليفة متكاثراً ليعمر هذه الأرض الواسعة، فإذا رأيتَ مكاناً قد ضاق بأهله فاعلم أن هناك مكاناً آخر خالياً، فالمسألة سوء توزيع لخَلْق الله على أرض الله.

لذلك يقولون: إن سبب الأزمات أن يوجد رجال بلا أرض، وأرض بلا رجال، وضربنا مثلاً لذلك بأرض السودان الخصبة التي لا تجد مَنْ يزرعها، ولو زُرِعَتْ لكفَت العالم العربي كله، في حين نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقتْ بنا، فإنْ فكرت في الهجرة إلى هذه الأماكن الخالية واجهتْك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها، وما أنزل الله بها من سلطان.

ذلك لما أُتيح لنا الحديث في الأمم المتحدة قلت لهم: آية واحدة في كتاب الله لو عملتم بها لَحَلَّتْ لكم المشاكل الاقتصادية في العالم كله، يقول تعالى:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10] فالأرض كل الأرض للأنام، كل الأنام على الإطلاق.

واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97] إذن: لا تعارض منهج الله وقدره في أحكامه، ثم تشكو الفساد والضيق والأزمات، إنك لو استقرأتَ ظواهر الكون لما وجدتَ فساداً أبداً إلا فيما تتناوله يد الإنسان على غير القانون والمنهج الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه، أما ما لا تتناوله يد الإنسان فتراه منضبطاً لا يختل ولا يتخلف.

إذن: المشاكل والأزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون الله على غير هدى الله وبغير منهجه؛ لذلك تسمع مَنْ يقول: العيشة ضَنْك، فلا يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إلا مشكلة الفقر، لكن الضنك أوسع من ذلك بكثير، فقد يوجد الغِنَى والترف ورَغَد العيش، وترى الناس مع ذلك في ضنك شديد.

فانظر مثلاً إلى السويد، وهي من أغنى دول العالم، ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد النفسية، ويكثر بها الانتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه، مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل الفرد.

فالمسألة - إذن - ليست حالة اقتصادية، إنما مسألة منهج لله تعالى غير مُطلَّق وغير معمول به، وصدق الله:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[طه: 124].

لذلك لو عِشْنا بمنهج الله لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر.

وقوله تعالى: } لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا... { [الروم: 21] هذه هي العلة الأصيلة في الزواج، أي: يسكن الزوجان أحدهما للآخر، والسكن لا يكون إلا عن حركة، كذلك فالرجل طوال يومه في حركة العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب، فيريد آخر النهار أن يسكن إلى مَنْ يريحه ويواسيه، فلا يجد غير زوجته عندها السَّكَن والحنان والعطف والرقة، وفي هذا السكَن يرتاح ويستعيد نشاطه للعمل في غد.

لكن تصور إنْ عاد الرجل مُتْعباً فلم يجد هذا السكن، بل وجد زوجته ومحلّ سكنه وراحته تزيده تعباً، وتكدِّر عليه صَفْوه. إذن: ينبغي للمرأة أنْ تعلم معنى السَّكَن هنا، وأن تؤدي مهمتها لتستقيم أمور الحياة.

ثم إن الأمر لا يقتصر على السَّكَن إنما } وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً... { [الروم: 21] المودة هي الحب المتبادل في (مشوار) الحياة وشراكتها، فهو يكدح ويُوفر لوازم العيش، وهي تكدح لتدبر أمور البيت وتربية الأولاد؛ لأن الله يقول{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 4] هذا في إطار من الحب والحنان المتبادل.

أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات: سكن ومودة ورحمة، ذلك لأن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض... إلخ.

لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتُم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر.. إلخ.

وكثير من كبار السن من الذين يتقون الله ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا المبدأ مبدأ الرحمة، لذلك حينما يًلمِّحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول: (أنا آكله لحم وأرميه عظم؟)

هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول الله في اختيار الزوجة: " تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها - وهذه كلها أغيار - ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " فأنت وهي أبناء أغيار، لا يثبت أحد منكما على حاله، فيجب أنْ تردا إلى شيء ثابت ومنهج محايد لا هوى له، يميل به إلى أحدكما، منهج أنتما فيه سواء، ولن تجدوا ذلك إلا في دين الله.

لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، ألا تفعلوا تكُنْ فتنة في الأرض وفساد كبير ".

وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنها لم تعد تملأ نظري، أو كذا وكذا، لأن الزوجة ما جعلها الله إلا سكناً لك وأنثى ووعاءً، فإذا هاجتْ غرائزك بطبيعتها تجد مصرفاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته - أي: تعجبه وتحرّك في نفسه نوازع - فليأْتِ أهله، فإنْ البُضْع واحد ".

وكلما طبَّق الزوجان المقاييس الدينية، وتحلَّيا بآداب الدين وجد كل منهما في الآخر ما يعجبه، فإنْ ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها، سيبقى في المرأة جمال الطبع والسلوك، وكلما تذكرتَ إخلاصها لك وتفانيها في خدمتك وحِرْصها على معاشك ورعايتها لحرمة بيتك كلّما تمسكْت بها، وازددتَ حباً لها.

وكذلك الحال بالنسبة للزوجة، فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يُعوِّضنا ما فات.

ولما كان من طبيعة المرأة أنْ يظهر عليها علامات الكِبَر أكثر من الرجل؛ لذلك كان على الرجل أنْ يراعي هذه المسألة، فلما سأل أحدهم الحسن: لقد تقدم رجل يخطب ابنتي وصِفَته كيت وكيت، قال: لا تنكِحها إلا رجلاً مؤمناً، إنْ أحبها أكرمها، وإنْ كرهها لم يظلمها.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [الروم: 21] يتفكرون في هذه المسائل وفي هذه المراحل التي تمرُّ بالحياة الزوجية، وكيف أن الله تعالى جعل لنا الأزواج من أنفسنا، وليستْ من جنس آخر، وكيف بنى هذه العلاقة على السَّكَن والحب والمودة، ثم في مرحلة الكِبَر على الرحمة التي يجب أنْ يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ... {.

(/3355)

وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

في خلق السماوات والأرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... }[لقمان: 10].

فالسماء التي تروْنها على امتداد الأفق تقوم بغير أعمدة، ولكم أنْ تسيروا في الأرض، وأنْ تبحثوا عن هذه العُمد فلن تروْا شيئاً. أو{ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... }[لقمان: 10] يعني: هي موجودة لكن لا ترونها.

والمنطق يقتضي أن الشيء العالي لا بُدَّ له إما من عُمُد تحمله من أسفل، أو قوة تمسكه من أعلى؛ لذلك ينبغي أنْ نجمع بين الآيات لتكتمل لدينا هذه الصورة، فالحق سبحانه يقول في موضع آخر:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ... }[فاطر: 41].

إذن: ليست للسماء أعمدة، إنما يمسكها خالقها - عز وجل - من أعلى، فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، ولا تتعجب من هذه المسألة، فقد أعطانا الله تعالى مثالاً مُشاهداً في قوله سبحانه:{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ... }[النحل: 79].

فإنْ قُلْت: يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء، فترتفع به، وتمسك نفسها في الجو، نقول: وتُمسك أيضاً في جو السماء بدون حركة الجناحين، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ... }[الملك: 19].

فترى الطير في السماء مادّاً جناحيه ثابتاً بدون حركة، ومع ذلك لا يقع على الأرض ولا يُمسكه في جَوِّ السماء إذن إلا قدرة الله.

إذن: خُذْ مما تشاهد دليلاً على صدْق ما لا تشاهد؛ لذلك يقول سبحانه:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ... }[غافر: 57] مع أنها خُلِقت لخدمة الإنسان.

فمع أنك أيها الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله، وفيك انطوى العالم الأكبر، إلا أن عمرك محدود لا يُعَدُّ شيئاً إذا قِيسَ بعمر الأرض والسماء والشمس والقمر.. الخ.

ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات الله في الإنسان: { وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ... } [الروم: 22] اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }[الشعراء: 195] وقال:{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103].

ويًُطلَق أيضاً على هذه الجارحة المعروفة، وإنما أُطِلق اللسان على اللغة؛ لأن أغلبها يعتمد على اللسان وعلى النطق، مع أن اللسان يُمثِّل جزءاً بسيطاً في عملية النطق، حيث يشترك معه في النطق الفم والأسنان والشفتان والأحبال الصوتية.. إلخ، لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية. إذن: فاختلاف الألسنة يعني اختلاف اللغات.

وسبق أنْ قُلْنا: إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به، وحين نسلسلها لا بُدَّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلام، وقلنا: إن الله تعالى هو الذي علَّمه اللغة حين علَّمه الأسماء كلها، ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه الأسماء ليتفاهموا بها، وليضيفوا إليها أسماء جديدة.

لذلك نرى أولادنا مثلاً حينما نريد أنْ نُعلِّمهم ونُرقِّيهم نُعلِّمهم أولاً أسماء الأشياء قبل أنْ يتعلموا الأفعال؛ لأن الاسم أظهر، أَلاَ ترى أن الفِعْل والحدث يدل عليه باسم، فكلمة (فِعْل) هي ذاتها اسم.

لكن، كيف ينشأ اختلاف اللغات؟ لو تأملنا مثلاً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً، لكن بيئاتها متعددة: هذا مصري، وهذا سوداني، وهذا سوري، مغربي، عراقي.. الخ نشترك جميعاً في لغة واحدة، لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد لا تُفهَم في البيئة الأخرى، أما إذا تحدَّثنا جميعاً باللغة العربية لغة القرآن تفاهم الجميع بها.

أما اختلاف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض، هذا الانعزال يؤدي إلى وجود لغة جديدة، فمثلاً الإنجليزية والفرنسية والألمانية و.. إلخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة اللاتينية، فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقلالية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة بألفاظها وقواعدها.

أو } وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ... { [الروم: 22] يعني: اختلاف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلات الكلام من أصوات مختلفة، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أنْ يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر كبصمة الأصابع، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد.

ورأينا لذلك خزائن تُضْبط على بصمة صوت صاحبها، فساعة يُصدر لها صوتاً تفتح له.

ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوِّتات كثيرة منها: الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء، ومنها: الحيوان، نقول: نقيق الضفادع وصهيل الخيل، ونهيق الحمار، وثُغَاء الشاة، ورُغَاء الإبل.. الخ لكن بالله أسألك: لو سمعت صوت حمار ينهق، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان؟ لا، لأن كل الأصوات من كُلِّ الأجناس خلا الإنسان صوتها واحد لا يميزه شيء.

أما في الإنسان، فلكُلٍّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلائه أو استفاله، أو في رقته أو في تضخيمه.. الخ. فلماذا إذن تميَّز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات؟

قالوا: لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدَّد كما للإنسان، وإلا كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف شيئاً من أوصافه؟ وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها لا تدلُّنا عليه دلالة قاطعة تُحدِّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء.

وقال سبحانه بعدها } وَأَلْوَانِكُمْ... { [الروم: 22] فاختلاف الألسنة والألوان ليحدث هذا التميُّز بين الناس، ولأن الإنسان هو المسئول خلق الله فيه اختلافَ الألسنة والألوان؛ لنستدل عليه بشكله: بطوله أو قِصَره أو ملابسة... إلخ.

وفي ذلك ما يضبط سلوك الإنسان ويُقوِّمه حين يعلم أنه لن يفلت بفِعْلته، ولا بُدَّ أنْ يدل عليه شيء من هذه المميزات.

لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول، لماذا؟ لأنهم يريدون أنْ يُضيِّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ لا تنطبق عليه مواصفاتهم، وما يزالون يُضيِّقون الدائرة حتى يصلوا للجاني.

والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ.... }[الحجرات: 13].

فالتميُّز والتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة، ألاَ ترى الرجل يضع لكل ولد من أولاده اسماً يُميِّزه، فإن عشق اسم محمد مثلاً، وأحب أن يسمى كل أولاده محمداً لا بد أن يميزه، فهذا محمد الكبير، وهذا محمد الصغير، وهذا الأوسط.. إلخ.

إذن: لا بُدَّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات.

ثم يقول سبحانه: } لِّلْعَالَمِينَ... { [الروم: 22] أي: الذين يبحثون في الأشياء، ولا يقفون عند ظواهرها، إنما يتغلغلون في بطونها، ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها.

لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105] فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمتْ البشرية، كالذي اخترع عصر البخار، والذي اخترع العجلة، والذي اكتشف الكهرباء والجاذبية والبنسلين.. الخ، إذن: نمر على آيات الله في الكون بيقظة، وكل العلوم التجريبية نتيجة لهذه اليقظة.

والعَالمون: جمع عالم، وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلال والحرام، لكن هي أوسع من ذلك، فالعالم: كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية، ويُسمَّى هذا " عالم بالكونيات " وهذا عالم بالشرع، وإنْ شئتَ فاقرأ:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ... }[فاطر: 27-28].

فذكر سبحانه النبات، ثم الجماد، ثم الناس، ثم الحيوان.

ثم يقول سبحانه:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... }[فاطر: 28] على إطلاقها فلم يُحدِّد أي علماء: علماء النبات، أو الحيوان، أو الجمادات، أو علماء الشرع، إذن: العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة في الكون وجودية أو شرعية من عند الله.

لكن، لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة؟ قالوا: لأنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها؛ لذلك رأينا من آداب العلم في الإسلام ألاَّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات، وألاَّ يُدخل علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع.

والذي أحدث الاضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلاً علماء الكونيات بأن الأرض تدور حول الشمس، فيقوم من علماء الدين مَنْ يقول: هذا مخالف للدين - هكذا عن غير دراسة، سبحان الله، لماذا تُقحِم نفسك فيما لا تعلم؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الأرض كرة تدور أو لا تدور؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الأرض وما الحلال الذي انتقص؟ كذلك الحال لما صعد الإنسان إلى القمر، اعترض على ذلك بعض رجال الدين.

كذلك نسمع مَنْ لا عِلْم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول: هذه لا يقبلها العقل. إذن: آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما لا يعلم، ولو التزم كلٌّ بما يعلم لارتاح الجميع، وتركت كل ساحة لأهلها.

وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الأرض بقوله تعالى:{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا... }[الحجر: 19] ولو تأملوا معنى{ مَدَدْنَاهَا... }[الحجر: 19] لما اعترضوا؛ لأن معنى مددناها يعني: كلما سِرْتُ في الأرض وجدتها ممتدة لا تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهذا يعني أنها كرة لا نهاية لها، ولو كانت مُسطحة أو مُثلثة مثلاً لكان لها نهاية.

إذن: نقول للعلماء عموماً: لا تُدخلوا أنوفكم فيما لا علْم لكم به، ودَعُوا المجال لأصحابه، عملاً بقوله تعالى:{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ... }[البقرة: 60].

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ... {.

(/3356)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...