ج1وج2وج3. كتاب إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع الإمام الشاطبي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(1)
بَدَأْتُ بِبِسْمِ اْللهُ فيِ النَّظْمِ أوَّلاَ تَبَارَكَ رَحْمَاناً رَحِيماً وَمَوْئِلاَ
أي قدمت لفظ بسم الله الرحمن الرحيم في أول نظمي هذا يقال بدأت بكذا إذا قدمته فالباء الأولى لتعدية الفعل والثانية هي التي في أول البسملة أي بدأت بهذا اللفظ. والنظم الجمع ثم غلب على جمع الكلمات التي انتظمت شعرا فهو بمعنى منظوم أو مصدر بحاله واللام في النظم للعهد المعلوم من جهة القرينة وهي قائمة مقام الإضافة كقوله تعالى (في أدنى الأرض) ، أي أدنى أرض العرب أي في نظمي نزله منزلة المعروف المشهور تفاؤلا له بذلك أو أراد في هذا النظم نزله منزلة الموجود الحاضر فأشار إليه كقوله تعالى (هذا من شيعته وهذا من عدوه) ، أو يكون المصدر في موضع الحال أي منظوما وأولا نعت مصدر محذوف أي في أن نظمت نظما أول أي أنه مبتكر لم يسبق إليه وهو نظم قصيدة على روي واحد في مذاهب القراء السبعة موجزة بسبب ما اشتملت عليه من الرموز وقد تشبه به قوم في زماننا ، فمنهم من سلك مسلكه مختصرا لها ومنهم من غير الرموز بغيرها ومنهم من نظم في مذاهب القراء العشرة ، زاد رواية أبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وخلف البزار فيما اختار والفضل للمتقدم الذي هو أتقى وأعلم فالألف في قوله أولا على هذا الوجه للإطلاق لأنه غير منصرف ، ويجوز أن تكون الألف بدلا من التنوين على أن يكون أولا ظرف زمان عامله بدأت أو النظم أي بدأت في أول نظمي بسم الله أو بدأت بسم الله في نظمي الواقع أولا فهو كقول الشاعر ، (فساغ لي الشراب وكنت قبلا ) ، والبركة كثرة الخير وزيادته واتساعه وشيء مبارك أي زائد نام وما لا يتحقق فيه ذلك يقدر في لازمه وما يتعلق به كقوله تعالى (وهذا ذكر مبارك أنزلناه)-(إنا أنزلناه في ليلة مباركة) ، أي كثير خير ذلك وما يتعلق به من الأجر وتبارك تفاعل منه كتعاظم من العظمة وتعالى من العلو ، وقيل إنه فعل لم يتصرف أصلا لا يقال يتبارك وغيره ، ثم كمل لفظ البسملة بقوله رحمانا رحيما وزاد قوله وموئلا وهذا المعنى زاد دخول الواو فيها حسنا والموئل ،
المرجع والملجأ وهو وإن لم يكن لفظه ثابت الإطلاق على الله تعالى من حيث النقل فمعناه ثابت نحو (إليه مرجعكم)-(وإلى الله المصير) وانتصاب الثلاثة على التمييز أو الحال أي تبارك من رحمن رحيم أو في حال كونه كذلك أو يكن منصوبات على المدح وتم الكلام على تبارك وهذا نحو قولهم الحمد لله الحميد ويتعلق بهذا البيت أبحاث كثيرة ذكرناها في الكبير واستوفينا ما يتعلق بشرح البسملة في كتاب مفرد وغيره والله أعلم
(2)
وَثَنَّيْتُ صَلَّى اللهُ رَبِّي عَلَى الِرَّضَا مُحَمَّدٍ الْمُهْدى إلَى النَّاسِ مُرْسَلاَ
أي ثنيت بصلى الله أي بهذا اللفظ كما قال بدأت ببسم الله أو على إضمار القول أي بقولي صلى الله أو ثنيت بالصلاة فقلت صلى الله فموضع صلى الله نصب على إسقاط الخافض في الوجه الأول وعلى أنه مفعول مطلق أو مفعول به إن قلنا إنه على إضمار القول وصلى الله لفظه خبر معناه دعاء والرضى بمعنى ذي الرضى أي الراضي من قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ، أو المرضى أي الذي ارتضاه الله تعالى أو الذي يرضيه يوم القيامة أي يعطيه ما يرضيه من الشفاعة وغيرها فيرضى ، وقرئ قوله تعالى في آخر طه (لعلك ترضى) ، بفتح التاء وضمها جمعا بين المعنيين وقوله محمد بدل أو عطف بيان والمهدي اسم مفعول من أهديت الشيء فهو مهدي لأن الله تعالى أهداه إلى خلقه تحفة لهم فأنقذ به من أسعده من النار وأدخله الجنة مع الأبرار ، وعن الأعمش عن أبي صالح قال كان النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديهم (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) ، أخرجه أبو محمد الدارمي في مسنده هكذا منقطعا وروي موصولا بذكر أبي هريرة فيه وفي معناه قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، ومرسلا حال من الضمير في المهدي ، ويجوز أن يكون تمييزا كما سبق في تبارك رحمانا أي المهدي إرساله والله أعلم
(3)
وَعِتْرَتِهِ ثُمَ الصَّحَابَةِ ثُمّ مَنْ تَلاَهُمْ عَلَى اْلأِحْسَانِ بِالخَيْرِ وُبَّلاَ
سئل مالك بن أنس رحمه الله عن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هم أهله الأدنون وعشيرته الأقربون ، وقال الجوهري عترة الإنسان نسله ورهطه الأدنون ، قلت وهو معنى قول الليث عترة الرجل أولياؤه يعني الذين ينصرونه ويهتمون لأمره ويعنون بشأنه وليس مراد الناظم بالعترة جمع من يقع عليه هذا الاسم من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما مراده المؤمنون منهم وهم الذين جاء فيهم الحديث (وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله وعترتي) وفي رواية موضع عترتي (وأهل بيتي) ، وكأن ذلك تفسير للعترة وأهل بيته هم آله من أزواجه وأقاربه ، وقد صح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن كيفية الصلاة عليه فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وفي رواية على محمد وعلى أزواجه وذريته ، فكأنه فسر الآل بما في الحديث الآخر فلهذا لما صلى على النبي صلى على عترته ثم على الصحابة وإن كان بعضهم داخلا في العترة ليعم الجميع ثم على التابعين لهم بإحسان ، ومعنى تلاهم تبعهم وقوله على الإحسان أي على طلب الإحسان أو على طريقة الإحسان أو على ما فيهم من الإحسان أو يكون على بمعنى الباء كما يأتي في قوله وليس على قرآنه متأكلا وفي تلا ضمير مفرد مرفوع مستتر عائد على لفظ من ووبلا جمع وابل وهو المطر الغزير وأصله الصفة ولذلك جمع على فعل كشاهد وشهد وهو منصوب على الحال من أحد الضميرين ني تلاهم إما المرفوع العائد على التابعين وإما المنصوب العائد على الصحابة أي مشبهين الوبل في كثرة خيرهم أو يكون حالا منهما معا كقوله لقيته راكبين فإن كان حالا من المرفوع المفرد فوجه جمعه حمله على معنى من وبالخير متعلق بوبلا من حيث معناه أي جائدين بالخير ، ويجوز أن يتعلق بتلا أي تبعوهم بالخير على ما فيهم من الإحسان وإن جعلنا على بمعنى الباء كان قوله بالخير على هذا التقدير
كالتأكيد له والتفسير والله أعلم
(4)
وَثَلَّثْتُ أنَّ اْلَحَمْدَ لِلهِ دائِماً وَمَا لَيْسَ مَبْدُوءًا بِهِ أجْذَمُ الْعَلاَ
وثلثت مثل ثنيت في أنه فعل يتعدى بحرف الجر فيجوز في أن بعدها الفتح والكسر فالفتح على تقدير بأن الحمد والكسر على معنى فقلت إن الحمد لله ودائما بمعنى ثابتا وهو حال من الحمد أو من اسم الله أو نعت مصدر محذوف أي حمدا مستمرا وما مبتدأ وهي موصولة وليس مبدوءا به صلتها واسم ليس ضمير مستتر يعود على ما ومبدوءا خبرها والهاء في به عائدة على الحمد أو على اسم الله تعالى على تقدير بذكره أو باسمه وبه منصوب المحل بمبدوء أو مرفوع مبدوء ضمير عائد على ما أي وكل كلام ليس ذلك الكلام مبدوءا بالحمد أجذم العلا أي مقطوع الأعلى أي ناقص الفضل فأجذم خبر المبتدأ الذي هو ما والجزم أصله القطع والعلاء بفتح العين يلزمه المد وهو الرفعة والشرف وأتى به في قافية البيت على لفظ المقصور وليس هو من باب قصر الممدود الذي لا يجوز إلا في ضرورة الشعر بل يمكن حمله على وجه آخر سائغ في كل كلام نثرا كان أو نظما وذلك أنه لما وقف أسكن الهمزة ثم إنه قلبها ألفا فاجتمع ألفان فحذف أحدهما كما يأتي في باب وقف حمزة وهشام على نحو السماء والدعاء وهكذا نقول في كل ما ورد في هذه القصيدة من هذا الباب في قوافيها كقوله فتى العلا أحاط به الولا فتنجو من البلا وإن افتحوا الجلا بعد على الولا عن جلا أماما يأتي في حشو الأبيات كقوله وحق لوى باعد ومالي سما لوى ويا خمس أجرى فلا وجه لذلك إلا أنه من باب قصر الممدود ثم يجوز في موضع العلا أن يكون مرفوعا ومنصوبا ومجرورا لأن أجذم العلا من باب حسن الوجه فهو كما في بيت النابغة ، (أجب الظهر ليس له سنام ) ، يروى الظهر بالحركات الثلاث وأشار بما في عجز هذا البيت إلى حديث خرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ، قال
الخطابي معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له ، قلت وروي هذا الحديث مرسلا وروي أقطع موضع أجذم وروي (لم يبدأ فيه بذكر الله) ، فتكون البسملة على هذا إذا اقتصر عليها مخرجة من عهدة العمل بهذا الحديث ولو أن الناظم رحمه الله قال وثنيت أن الحمد وثلثت صلى الله لكان أولى تقديما لذكر الله تعالى على ذكر رسوله الله صلى الله عليه وسلم ، ووجه ما ذكر أنه أراد أن يختم خطبته بالحمدلة فإن ذكر الله تعالى قد سبق بالبسملة فهو كقوله سبحانه في آخر سورة والصافات (والحمد لله رب العالمين) والله أعلم
(5)
وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ فِينَا كِتَابُهُ فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا مُتَحَبِّلاَ
أي وبعد هذه الخطبة أذكر بعض ما جاء في فضائل القرآن العزيز وفضل قرائه وحبل الله مبتدأ وفينا متعلق به من حيث المعنى على ما نفسر به الحبل أو يكون صلة لموصول محذوف أي الذي فينا وكتابه خبر فحبل ، ويجوز أن يكون فينا هو الخبر وكتابه خبر مبتدإ محذوف أي هو كتابه والفاء في فحبل رابطة للكلام بما قبله ومانعة من توهم إضافة بعد إلى حبل والعرب تستعير لفظ الحبل في العهد والوصلة والمودة وانقطاعه في نقيض ذلك فلذلك استعير للقرآن العزيز لأنه وصلة بين الله تعالى وبين خلقه من تمسك به وصل إلى دار كرامته ، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره في تفسير قوله عز وجل (واعتصموا بحبل الله جميعا) ، أنه القرآن ، وفي كتاب الترمذي من حديث الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه في حديث طويل في وصف القرآن قال (هو حبل الله المتين) ، وفي كتاب أبي بكر بن أبي شيبة في ثواب القرآن عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وفيه عن ابن شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به ، وقوله فجاهد به أي بالقرآن العزيز كما قال تعالى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) ، أي بحججه وأدلته وبراهينه والحبل بكسر الحاء الداهية ومتحبلا حال من فاعل فجاهد يقال تحبل الصيد إذا أخذه بالحبالة وهي الشبكة واستعمل التجانس في هذا البيت والذي بعده وهو مما يعد من الفصاحة في الشعر وغيره
(6)
وَأَخْلِقْ بهِ إذْ لَيْسَ يَخْلُقُ جِدَّةً جَدِيداً مُوَاليهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلاَ
أخلق به تعجب أي ما أخلقه بالمجاهدة به أي ما أحقه بذلك يقال هو خليق بكذا أي حقيق به وإذ هنا تعليل مثلها في قوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) ، ويقال أخلق الثوب خلق إذا بلى وجدّة تمييز وهي ضد البلى يستعار ذلك للقرآن العزيز لما جاء في الحديث عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا إن هذا القرآن حبل الله لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، أخرجه الحافظ البيهقي في كتاب المدخل أي لا يحدث له البلى ناشئا عن كثرة ترداده وتكراره ومرور الزمان عليه وجديدا فعيل من الجد بفتح الجيم وهو العظمة والعزة والشرف وانتصابه على الحال من ضمير يخلق العائد على القرآن العزيز أو على المدح ومواليه بمعنى مصافيه وملازمه العامل بما فيه وهو مبتدأ وعلى الجد خبره فهي جملة مستأنفة أي حصل على الجد واستقر عليه والجد بكسر الجيم ضد الهزل ومقبلا حال من الضمير المقدر في الخبر الراجع على مواليه أي استقر على الجد في حال إقباله عليه واحتفاله به عملا وعلما يشير إلى ما كان الأولون عليه من الاهتمام به ، ويجوز أن يكون مواليه فاعل جديدا فيكون بمعنى جديدا له وإن كان حالا من القرآن العزيز لفظا نحو رأيت زيدا كريما غلامه وعلى هذا يكون في على الجد ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون حالا ومقبلا حال بعد حال ، والثاني أن يكون معمول مقبلا قدم عليه ، والثالث أن يكون معمول مواليه أي للذي والاه على الجد حصل له العز والشرف وعند هذا يجوز أن يكون الجد هاهنا من الجد في الأمر وهو الاجتهاد فيه وهو يئول إلى ضد الهزل والله أعلم
(7)
وَقَارِئُهُ الْمَرْضِيُّ قَرَّ مِثَالُهُ كاَلاتْرُجّ حَالَيْهِ مُرِيحًا وَمُوكَلاَ
نظم في هذا البيت ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب الحديث ، فقوله وقارئه مبتدأ والمرضي صفته وأراد به تفسير المؤمن المذكور في هذا الحديث لأنه ليس المراد به أصل الإيمان بل أصله ووصفه ، وفي كتاب الترمذي من حديث صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ، والجملة من قوله قر مثاله هي خبر المبتدإ وقر بمعنى استقر أي استقر مثاله مشابها للأترج ويجوز أن يكون المرضي خبر المبتدإ أي لا يعد قارئا للقرآن إلا من كان مرضي الطريقة ثم استأنف جملة فعلية فقال قر مثاله كالأترج ويجوز أن يكون قر وحده هو خبر المبتدإ وفيه ضمير عائد على القارئ أي قرت عينه أو استقر أمره بنيل درجات الأبرار ثم استأنف جملة اسمية بقوله مثاله كالأترج فقوله كالأترج خبر مثاله وعلى هذا يجوز أن يكون قر دعاء كما تقول زيد العاقل أقر الله عينه ، والأترج بتشديد الجيم والأترنج بالنون لغتان وكلاهما مستقيم في وزن البيت وإنما اختار لغة التشديد للفظ الحديث وحاليه بدل اشتمال من الأترج ومريحا وموكلا حالان من الأترج يقال أراح الطيب إذا أعطى الرائحة وآكل الزرع وغيره إذا أطعم والله أعلم
(8)
هُوَ الْمُرْتَضَى أَمًّا إِذَا كَانَ أُمَّهً وَيَمَّمَهُ ظِلُّ الرَّزَانَةِ قَنْقَلاَ
فسر بهذا البيت ما عناه بقوله المرضي فقوله هو ضمير القارئ المرضي أو ضمير القارئ مع الإعراض عن وصفه بالمرضي لأنه أغنى عنه قوله المرتضي أما إلى آخر البيت ، ويجوز أن يكون هو المرتضى خبر قوله وقارئه المرضي وما بينهما من قوله قر مثاله آخر البيت اعتراض وإما تمييز ومعناه القصد أي هو المرتضى قصده تيمنابه وانتفاعا بعلمه وكان بمعنى صار ويقال للرجل الجامع للخير أمة كأنه قام مقام جماعات لأنه اجتمع فيه ما تفرق فيهم من المصالح ومنه قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة) ، وقوله ويممه أي قصده والرزانة الوقار وقد رزن الرجل بالضم فهو رزين أي وقور ثابت واستعار للرزانة ظلا إشارة إلى شمول الوقار له واستراحته في ظله وأمنه من تخليط الناقص من عقله وجعل الرزانة هي التي تقصده كأنها تفتخر به وتتزين بأن تظله لكثرة خلال الخير فيه مبالغة في مدحه وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ، وعن عبد الملك بن عمير قال كان يقال إن أبقى الناس عقولا قراء القرآن وقنقلا حال من ظل الرزانة أي مشبها قنقلا وكذا يقدر في ما جاء مثله مما هو منصوب على الحال وليس بمشتق كقوله وانقاد معناه يعملا والقنقل المكيال الضخم وكان لكسرى تاج يسمى القنقل والقنقل أيضا الكثيب من الرمل يشير إلى عظم الرزانة وتوفرها إن قصد الكثيب أو المكيال وإن قصد التاج قدرت الحال بمتوجا ومن كلامهم جلس فلان وعليه السكينة والوقار فإن قلت علام عطف قوله ويممه قلت يحتمل وجهين أحدهما أن يكون عطفا على معنى المرتضى أي هو الذي ارتضى أمة ويممه الوقار فهو من باب قوله تعالى (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا) ، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا ويكون مضمون البيت ثناء عليه بأنه مرتضى كامل العقل ، والوجه الثاني أن يكون معطوفا على كان أمة أي إذا اتصف بهاتين الصفتين أي أن قارئ القرآن إنما يرتضى للاقتداء به ويقصد
للانتفاع به بشرطين وهما أن يكون جامعا للخير وافر العقل والله أعلم
(9)
هُوَ الْحُرُّ إِنْ كانَ الْحَرِيّ حَوَارِياً لَهُ بِتَحَرّيهِ إلَى أَنْ تَنَبَّلاَ
هو ضمير القارئ المرتضى قصده الذي هو أمة وافر العقل ، أو يكون ضمير القارئ مع الإعراض عن تلك الأوصاف لأنه يغني عنها اشتراطها بقوله إن كان الحري أي إن كان الحري بها ولهذا قال بعضهم إن إن بمعنى إذ ولو أراد الناظم ذلك لقال إذ وكان تعليلا والوزن موافق له فلا حاجة إلى ارتكاب ما لم يثبت لغة وإن ثبت فهو لغة بعيدة ضعيفة ، فإن قلنا هو ضمير القارئ بصفاته فكل بيت كأنه تأكيد لما قبله وإن قلنا هو ضمير القارئ مطلقا كان كل بيت مستقلا بالغرض من وصفه بما يستحق به الإمامة والحرية ، على أني أقول قوله بتحريه صلة الحري وليس المراد الحري بها بل الحري بالتحري وقوله حواريا له معترض بينهما والحر الخالص من الرق أي لم تسترقه دنياه ولم يستعبده هواه لأنه لما تحقق بتدبر القرآن وفهم معانيه صغرت في عينه الدنيا وأهلها كقوله تعالى (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو)-(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) ، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)-(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) ، إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى وما أحسن ما قاله الشاطبي رحمه الله من قصيدة له ، (لمن يترك القراء ورد فراته ورودا من الدنيا أجاج المشارب) ، (ولو سمع القراء حين اقترائهم لفي آل عمران كنوز المطالب) ، (بها ينظر الدنيا بعين احتقارها فقيه المعاني غير عاني الذوائب) ، يعني قوله تعالى (زين للناس حب الشهوات) إلى قوله (ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) ، وما أحلى قوله فقيه المعاني يعني من أعطاه الله فهما وفقها في معاني القرآن العزيز فهذا هو الذي يحتقر الدنيا عند تلاوته لهذه الآية ونظائرها لا الفقيه الذي هو أسير الذوائب المتقيد
بلباسه وخدمة أهل الدنيا ففقيه المعاني محرر عن رق الأشياء ، ويحتمل قوله هو الحر معاني أخر ذكرناها في الكبير والحري بمعنى الحقيق ، والحواري الناصر الخالص في ولائه والياء مشددة خففها ضرورة والتحري القصد مع فكر وتدبر واجتهاد أي يطلب هو الأحرى والهاء في له للقرآن العزيز وفي تحريه للقارئ أو للقرآن وحواريا خبر لكان بعد خبر أو حال من ضمير الحري العائد على القارئ ، ويجوز أن يكون بتحريه متعلقا بحواريا أي ناصرا له بالتحري أو تكون الباء للمصاحبة أي مصاحبا للتحري فيه هذا كله على أن يكون التقدير إن كان الحري بالأوصاف السابقة والأولى ألا يتعلق قوله بتحريه بالحري كما سبق وقوله إلى أن تنبلا متعلق بالتحري أو بحواريا ومعنى تنبل مات أو أخذ الأنبل فالأنبل أي انتفى ذلك من المعاني التي تحتملها ألفاظ القرآن
(10)
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ وَأَغْنى غَنَاءً وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ
هذا حث على التمسك بالقرآن العزيز وتحريه والعمل بما فيه ليكون القرآن العزيز شافعا له كافيه كل ما يحذر واهبا له متفضلا عليه بما يلقاه من ثواب قراءته والعمل به وفي الصحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم ، اقرءوا القرآن فإنه يجيء يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراون تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما ، وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك، قال هذا حديث حسن وأوثق من قولهم شيء وثيق أي محكم متين وقد وثق بالضم وثاقة وإنما وصفه بذلك لأن شفاعته مانعة له من وقوعه في العذاب وشفاعة غيره مخرجة له منه بعد وقوعه فيه والغناء بالفتح والمد الكفاية وفعله أفعل كقوله تعالى (ما أغنى عني ماليه) ، فقوله وأغنى غنا أي وأكفى كفاية أي كفاية القرآن العزيز أتم من كفاية غيره فأغنى في هذا البيت ليس فعلا ماضيا ولكنه أفعل التفضيل وبناؤه من غير الثلاثي المجرد شاذ والقياس أن يقال أشد غناء أو أتم غناء أو نحو ذلك ، ويجوز أن يقال هو من غنى ، إذا استغنى أو من غنى بالمكان إذا أقام به فمعناه على الأول أنه غنى من كفاية ما يحذر حامله مليء بها واسع جوده ، وعلى الثاني أنه دائم الكفاية مقيم عليها لا يسأم منها ولا يمل ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل غناء على الوجهين أي وأغنى ذي غناء لأن المراد أن القرآن أثرى ذوي الكفايات وأدومهم عليها ، ولك أن تقدر مثل ذلك في الوجه الذي بدأنا به أي والقرآن أكفى ذوي الكفايات وتلخيص اللفظ على الأوجه الثلاثة أن نقول التقدير وأغنى مغن والمغني الكافي ولا يتغير معناه عن ذلك في الوجوه كلها وإنما المعاني الثلاثة في لفظ أغنى ولولا تقدير المضاف المحذوف للزم نصب غناء لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما أفعل بعضه والقرآن ليس بعض
الكفاية فيجب النصب كقولك هو أفره عبدا بالنصب إذا كانت الفراهية في العبد وهو ليس بعبد وواهيا ومتفضلا حالان من الضمير في أغنى العائد على كتاب الله تعالى ، وقيل النصب على التمييز كقولك هو أغناهم أبا وقيل إن قلنا إن أغنى بمعنى أثرى فالنصب على التمييز وإن قلنا بالوجهين الآخرين فالنصب على الحال وقد بينا فساد هذين القولين في الكتاب الكبير والله أعلم
(11)
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً
وخير مثل قوله وأغنى كلاهما معطوف على أوثق ولا يمل حديثه صفة خير أو جليس أو هو خبر بعد خبر لأن كل قول مكرر مملول إلا القرآن العزيز فإنه كلما كرر حلا واقتبس من فوائده ما لا يدخل تحت الحصر وأجر على تلاوته بكل حرف عشر حسنات فهو خير جليس وكيف يمل حديثه وهو أحسن الحديث كما قال سبحانه (الله نزل أحسن الحديث) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل صاحب القرآن مثل جراب مملوء مسكا يفوح به كل مكان ، فأي جليس أفضل منه والترداد بفتح التاء مصدر ردده ترديدا وتردادا والهاء المتصلة به تعود على القارئ أو على القرآن العزيز لأن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول فهو كما سبق في قوله بتحريه والضمير المستكن في يزداد يحتمل الأمرين والهاء في فيه عائدة على الترداد وفيه بمعنى به أي يزداد القرآن بالترداد تجملا لما يظهر من تلاوته ونوره وحلاوته وفصاحته أو يزداد القارئ بالترداد تجملا لما يقتبس من فوائده وآدابه وجزيل ثوابه ، ويجوز أن يكون الضمير في يزداد للترداد وفي فيه للقارئ وتكون فيه على ظاهرها لا بمعنى به وتجمل الترداد يئول إلى جمال حاصل في القارئ وزينة له والله أعلم
(12)
وَحَيْثُ الْفَتى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً
كنى عن القارئ بالفتى وصفا له بالفتوة وهي خلق جميل يجمع أنواعا من مكارم الأخلاق ويرتاع أي يفزع والهاء في ظلماته للفتى أي في ظلماته الناشئة من القبر ووحشته وإنما أضافها إليه لملابستها له وكونه فيها ، فقوله من القبر على هذا في موضع الحال من الظلمات أي صادرة من القبر ، ويجوز أن يكون كنى بالظلمات عن أعماله السيئة فيكون من القبر على هذا متصلا بيلقاه أي يلقاه القرآن من القبر أي يأتيه من تلك الجهة ، ويجوز أن يكون التقدير يرتاع من القبر كائنا في ظلماته ، ويجوز أن يكون قوله في ظلماته من القبر واردا على طريقة القلب لأمن الإلباس أي يرتاع في القبر من ظلماته والهاء في يلقاه للفتى أو للقرآن العزيز لأن كل واحد منهما يلقى الآخر ، والسنا بالقصر الضوء ، والسناء بالمد الرفعة والمتهلل الباش المسرور وكلاهما حال من القرآن أي يلقى القرآن الفتى في حال إضاءته وبشاشته أي ذا سنا أي مستنيرا ، ويجوز أن يكون متهللا صفة لسنا ، وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ، وفي كتاب ابن أبي شيبة وأول كتاب الوقف والابتدا لابن الأنباري آثار في فضل قارئ القرآن العامل به ذكرنا بعضها في الكتاب الكبير والله أعلم
(13)
هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزّ يجتُلَى
هنالك من تتمة قوله يلقاه أي يلقاه في ذلك المكان ثم استأنف قوله يهنيه أو يكون يهنيه حالا ، ويجوز أن يكون هنالك ظرفا ليهينه وهنالك يستعمل ظرف زمان وظرف مكان وكلاهما محتمل هنا والظرف هو هنا والكاف خطاب واللام زائدة للدلالة على البعد والعرب تنزل الميت أبعد منزلة وذلك لبعد الملتقى كقول الشاعر ، (من كان بينك في التراب وبينه شبران فهو بغاية البعد) والهاء في يهنيه للقارئ وضمير الفاعل مستتر عائد على القرآن أو على القبر فإن عاد على القرآن كان مقيلا مفعولا ثانيا ليهنيه من قولهم هنأت الرجل أهنؤه وأهنئه إذا أعطيته ثم ترك الهمز ضرورة على لغة كسر النون ولو استعمل لغة الفتح لقال يهناه وإن عاد الضمير على القبر كان مقيلا تمييزا من قولهم هنأ لي الطعام أي لذ لي طعمه وطاب وروضة عطف على مقيلا بالاعتبارين ، والمقيل موضع القائلة وهي الاستراحة في وسط النهار ولا يشترط فيها نوم أي يصير له القبر كالمقيل وكالروضة بثواب قراءة القرآن والعمل به عبر بذلك عن الراحة الحاصلة له حينئذ وفي الحديث القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، والهاء في ومن أجله للقرآن ومرفوع يجتلى للقارئ ويتعلق بيجتلى ما قبله من المجرورات وذروة كل شيء أعلاه تضم ذاله وتكسر ويجتلى معناه ينظر إليه بارزا من قولهم اجتليت العروس وعبر بذلك عن عظم أمره فهو سالم من كل آفة والله أعلم
(14)
يُنَاشِدُه في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ
يناشد أي يسأل ربه وقيل معناه يكثر المسألة ملجأ فيها وعدى بفي لأن في المناشدة معنى الرغبة وفاعل يناشد ضمير عائد على القرآن العزيز وهو جملة واقعة خبرا لقوله وإن كتاب الله أوثق شافع بعد أخبار سلفت أي هو أوثق شافع وخير جليس ويلقى قارئه حيث يرتاع ويناشد في إرضائه والهاء في لحبيبه تعود على القرآن العزيز وحبيبه قارئه العامل بما فيه والهاء في إرضائه يعود إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله وإن كتاب الله كقولك غلام زيد يطلب منه كذا أي من زيد أي يناشد الله تعالى في أن يرضي حبيبه أي يعطيه من الأجر والثواب ما تقر به عينه فالإرضاء مضاف إلى الفاعل وعدى الإرضاء بلام الجر لأنه مصدر نحو عجبت من ضرب لزيد ، ويجوز أن يكون التقدير يناشد لحبيبه في إرضائه أي يسأل الله تعالى في أن يرضى حبيبه ففي الكلام تقديم وتأخير فتكون الهاء في إرضائه للحبيب والإرضاء حينئذ مضاف للمفعول وقيل الهاء في إرضائه للقرآن العزيز أي يسأل ربه أن يعطي القارئ ما يرضى به القرآن وتكون اللام في لحبيبه بمعنى لأجل حبيبه ، وفي كتاب الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، ( يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تاج الكرامة فيقول يا رب زده حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة ، قال هذا حديث حسن ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه غير مرفوع ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة ذكرناها في الشرح الكبير ، وقوله وأجدر به تعجب كأخلق به أي ما أجدره بذلك وأحقه به والسؤل المسئول وهو المطلوب ونصبه على التمييز وموصلا نعته وإليه متعلق بموصلا والهاء عائدة على القرآن العزيز أو على القارئ والضمير في له للإرضاء أي ما أحق سؤله أن يوصل إليه وقيل يجوز أن يكون الهاء في إليه للرضى الدال عليه الإرضاء أو للإلحاح الدال عليه يناشد وموصلا حال من القرآن العزيز وقيل غير ذلك على ما بينا
وجه فساده في الشرح الكبير والله أعلم
(15)
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِى بِهِ مُتَمَسِّكاً مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
نادى قارئ القرآن المتصف بالصفات المذكورة في هذا البيت وبشره بما ذكره في البيت الآتي وبعده والقارئ مهموز وإنما أبدل الهمزة ياء ضرورة والهاء في به للقرآن وهو متعلق بمتمسكا مقدم عليه أي متمسكا به يعني عاملا بما فيه ملتجئا إليه في نوازله كما قال تعالى (والذين يمسكون بالكتاب) ، وفي الحديث الصحيح كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسكوا بكتاب الله وخذوا به وفي رواية من استمسك وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل ، وفي به وجوه أخر بعيدة ذكرناها في الكبير وإجلال القرآن العزيز تعظيمه وتبجيله توقيره وهما متقاربان في المعنى ونصب متمسكا وما بعده على الحال من ضمير القارئ لأن المعنى يا أيها الذي قرأ القرآن ومن إجلال القرآن حسن الاستماع له والإنصات لتلاوته وتوقير حملته وصيانة القارئ نفسه مما يشين دينه جعلنا الله كذلك والله أعلم
(16)
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما مَلاَبِسُ أَنْوَأرٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ
الهنيء الذي لا آفة فيه الطيب المستلذ الخالي من المنغصات الحاصل من غير تعب ، والمريء المأمون الغائلة المحمود العاقبة المستساغ في الحلق وهما من أوصاف الطعام والشراب في الأصل ثم تجوز بهما في التهنئة بكل أمر سار وهما هنا منصوبان على الحال أي ثبت لك ثواب تمسكك بالقرآن العزيز وإجلالك له هنيئا مريئا ، ويجوز أن ينصبا بفعل مضمر أي صادفت أمرا هنيئا مريئا وأن يكونا نعتي مصدر محذوف أي كاللبس وجمعه لاختلاف الملبوس أو تكون جمع ملبس بكسر الميم وفتح الباء وهو الشيء الذي يلبس ويسمى أيضا لباسا ومثله ميزر وإزار وملحف ولحاف وملابس فاعل عليهما وعليهما خبر والداك أو يكون ملابس مبتدأ ثانيا خبره عليهما المقدم عليه والجملة خبر والداك وأنوار جمع نور والنور الضياء وأضاف الملابس إلى الأنوار لملابستها إياها والتاج الإكليل والحلي جمع حلية وهي الهيئة من التحلي الذي هو لبس الحلي ، ويجوز أن تكون الحلي جمع حلة وأراد الحلل لكنه أبدل من ثاني حرفي التضعيف حرف علة نحو أمليت وهذا وإن لم يكن مسموعا فهو جائز في الضرورة نص عليه الرماني في آخر شرح الأصول والمنظوم في هذا البيت حديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا ، فقوله من قرأ القرآن وعمل بما فيه نظمه في البيت السابق وقوله فما ظنكم بالذي عمل بهذا منظوم في البيت الآتي والباقي منظوم في هذا البيت ، وفي مسند بقي بن مخلد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يكسى والداه حلة لا تقوم لها الدنيا وما فيها ، ففي هذا ذكر الحلة وفي الذي قبله ذكر التاج فصح تفسيرنا لقوله الحلي بالحلل ويكون نظم ما تفرق في الحديثين وقوله في الحديث تاجا وحلة أي كل واحد منها والله أعلم
(17)
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ
هذا استفهام تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه كقوله تعالى (فما ظنكم برب العالمين) ، وقوله فما ظنكم مبتدأ وخبر وفيه معنى الأمر أي ظنوا ما شئتم من الجزاء لهذا الولد الذي يكرم والداه من أجله والخطاب للسامعين مطلقا فيكون التفاتا من خطاب القارئ إليهم ، ويجوز أن يكون خطابا إليهم مع القراء لأن قوله فيا أيها القارئ للجنس أي فما ظنكم بأنفسكم والنجل النسل كالولد يقع على المفرد والجمع فحمل على اللفظ قوله عند جزائه ثم حمل على المعنى قوله أولئك ومفعولا الظن محذوفان أي ما تظنونه واقعا بالنجل وقوله عند جزائه ظرف للمحذوف ولا يجوز أن يكون ظرفا للظن وقوله أولئك أهل الله إشارة إلى حديث آخر أخرجه أبو عبيد والبزار وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله أهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ، والإشارة بالأهلية إلى قرب المنزلة من رحمته وكرامته والأهل اسم جمع كالرهط والركب وقد جمع في الحديث جمع السلامة ومثله في القرآن العزيز ، (شغلتنا أموالنا وأهلونا) إلى (أهليهم أبدا) ، فيجوز أن يكون في بيت الشاطبي رحمه الله تعالى أيضا مجموعا وسقطت النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين واللفظ بالمفرد والجمع في مثل هذا واحد وإنما يفترقان في الخط ، فتزاد واو في الجمع والمصنف لم يكتب ما نظمه لأنه كان ضريرا وإنما أملاه ولا يظهر في اللفظ جمع فكتبه السامع مفردا ويطرد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها هذا الحديث أهل الله وخاصته يجوز أن يكون جمعا وهو الأظهر اعتبارا بما في أول الحديث ، ويجوز أن يكون استعمله جمعا ومفردا في حديث واحد كما قال سبحانه (أهل البيت)-(وكانوا أحق بها وأهلها)-(إذا انقلبوا إلى أهلهم) ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر هؤلاء أهل بيتي ،
والصفوة الخالص من كل شيء بكسر الصاد وفتحها وروي ضمها ، وأشار بالصفوة إلى الخاصة المذكورة في الحديث وأدخل واو العطف في قوله والصفوة ليأتي على صورة لفظ الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم أهل الله وخاصته ، والملأ الأشراف والرؤساء وهو موافق لما روي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل وفي رواية قراء القرآن وقوام الليل ، ومن حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم رفعوه حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ، أخرجهما الحافظ أبو العلا الهمذاني والملأ مهموز أبدل من همزة ألفا للوقف والله أعلم
(18)
أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى حُلاَهُمُ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلاَ
أولو مثل ذوو بمعنى أصحاب وهو خبر بعد أخبار لقوله أولئك أي هم المتصفون بهذه الصفات الجليلة من البر وما بعده وحلاهم مبتدأ ومعناه صفاتهم جمع حلية وهي الصفة وخبره الجملة التي بعده وبها متعلق بحاء ، ويجوز أن تكون حلاهم صفة البر والإحسان والصبر والتقى فيكون مجرور المحل ، ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هذه حلاهم ثم قال بها جاء القرآن و القرآن بلا همز وبالهمز لغتان وهما للقراء قراءتان ومفصلا حال من القرآن ومعناه مبينا ومنه قوله تعالى (كتاب فصلت آياته) ، ويجوز أن يكون مفصلا من باب تفصيل القلائد بالفرائد كقول امرئ القيس ، (فأدبرن كالجزع المفصل بينه ) ، وقوله ، (تعرض أثناء الوشاح المفصل ) ، وقيل هذا المعنى أيضا في تفسير قوله تعالى (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) ، أي فصلت بدلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص فكذا أراد الناظم أن القرآن مشتمل على ذكر الأبرار وأخبار الكفار فصفات الأبرار فيه كالفرائد التي تفصل بها العقود وهي الجواهر التي تزينها وتعظم وقعها وهذا بالنسبة إلى المذكور وأما النسبة إلى الذاكر فكلتاهما سواء لأن كلا كلام الله عز وجل والله وأعلم
(19)
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِساً وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ
عليك بها إغراء وحث أي الزم هذه الصفات والصق بها وبادر إليها مدة حياتك منافسا فيها غيرك والمنافسة المزاحمة في الشيء رغبة فيه ومنافسا حال من الضمير في الإغراء وقيل من التاء في عشت وهو وهم ولك أن تجعل فيها من صلة عشت والضمير للدنيا وإن لم يجر لها ذكر لأن لفظ عشت يدل عليها والدنيا التي وصف بها النفس تأنيث الأدنى الذي هو الحقير الخسيس وإنما وصفها بذلك لاتضاعها مبدأ ومآلا كما قال ، (ما بال من أوله نطفة وجيفة آخره يفخر) ، (لا فخر إلا فخر أهل التقى غدا إذا ضمهم المحشر) ، والأنفاس جمع نفس بفتح الفاء أي بأرواح طيبها التي هي علا في المبدإ والمآل والهاء في أنفاسها تعود إلى حلاهم ، والعلا بضم العين والقصر له معنيان ، أحدهما أن يكون جمع عليا تأنيث أعلى فيطابق موصوفه لفظا ومعنى ، والثاني أن يكون مفردا بمعنى العلاء بالفتح والمد فيكون وصف الأنفاس بالعلاء على هذا من باب رجل عدل والتقدير ذوات العلا فالوجه الأول أولى وهذا البيت بديع اللفظ جليل المعنى يشم من رائحته أن ناظمه كان من أولياء الله رحمه الله تعالى ، ثم أثنى على علماء القراءة فقال
(20)
جَزَى اللهُ بِالْخَيْرَاتِ عَنَّا أَئِمَّةً لَنَا نَقَلُوا القُرْآنَ عَذْباً وَسَلْسَلاَ
هذا دعاء بلفظ الخبر كما تقدم في صلى الله ، وجزى بمعنى قضى ويتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) ، وأدخل الشاطبي رحمه الله تعالى على المفعول الثاني وهو قوله بالخيرات باء الجر زيادة ، والمعنى جزى الله أئمة القراءة خيرا والخيرات جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شيء قال الله تعالى (وأولئك لهم الخيرات) ، ولنا يجوز أن يكون صفة لأئمة ويجوز أن يكون معمول نقلوا ونقلوا صفة الأئمة على الوجهين وعذبا نعت مصدر محذوف أي نقلا عذبا لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه ولا حرفوا ولا بدلوا ، ويجوز أن يكون حالا أي نقلوه وهو كذلك على هذه الحال لم يتغير عنها ويجوز أن يريد بالقرآن القراءة لأنه مصدر مثلها من قوله تعالى (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) ، وعذوبتها أنهم نقلوها غير مختلطة بشيء من الرأي بل مستندهم فيها النقل الصحيح مع موافقته خط المصحف الكريم واتضاح ذلك على الوجه الفصيح في لغة العرب وسلسلا عطف على عذبا والعذب الماء الطيب والسلسل السهل الدخول في الحلق والله أعلم
(21)
فَمِنْهُمْ بُدُورٌ سَبْعَةٌ قَدْ تَوَسَّطَتْ سَمَاءَ الْعُلَى واَلْعَدْلِ زُهْراً وَكُمَّلاَ
أي فمن تلك الأئمة الناقلين للقرآن على الوجه المرضي سبعة من صفتهم كيت وكيت جعلهم كالبدو في علو منزلتهم عند الناس واتساع علمهم وكثرة الانتفاع بهم وشهرتهم ، وقد تقدم ذكرهم وذكر طائفة من الأئمة في خطبة هذا الكتاب وستأتي أبيات في نظم البدور السبعة وأصحابهم وفي السبعة يقول أبو مزاحم الخاقاني ، (وإن لنا أخذ القراءة سنة عن الأولين المقرنين ذوي الستر) ، (فللسبعة القراء حق على الورى لإقرائهم قرآن ربهم الوتر) ، (فبالحرمين ابن الكثير ونافع وبالبصرة ابن للعلاء أبو عمرو) ، (وبالشام عبد الله وهو ابن عامر وعاصم الكوفي وهو أبو بكر) ، (وحمزة أيضا والكسائي بعده أخو الحذق بالقرآن والنحو والشعر) ، والعلا بمعنى العلاء الممدود وهو الرفعة والشرف أو يكون جمع عليا فتكون على حذف الموصوف أي سماء المناقب العلا استعار للعلى والعدل سماء وجعل هذه البدور متوسطة لتلك السماء في حال كونها زاهرة أي مضيئة كاملة من غير نقص مبالغة في وصفهم لأن القمر إذا توسط السماء في حال كماله وتمامه وقوة نوره سالما مما يستر ضوءه كان ذلك اشرف أحواله وأعظم لانتفاع الخلق به فهم أتم نورا وأعم ضوءا وزهرا جمع أزهر أو زاهر كأحمر وحمر وبازل وبزل يقال زهر إذا أضاء فهو زاهر وأزهر على المبالغة ولذلك قيل للقمر أزهر وللرجل المشرق الوجه أيضا وهو منصوب على الحال من فاعل توسطت وكملا عطف وهو جمع كامل ، فإن قلت لفظ الدبر يشعر بالكمال فما معنى هذه الحال ، قلت أراد كمال أمره من سلامته مما يشينه من خسوف وغيره لا كمال جرمه وقال فيهم أبو عمر والداني ، (فهؤلاء السبعة الأئمة هم الذين نصحوا للأمّه) ، (ونقلوا إليهم الحروفا ودونوا الصحيح والمعروفا) ، (وميزوا الخطأ والتصحيفاً واطَّرحوا الواهي والضعيفا) ، (ونبذوا القياس والآراء وسلكوا المحجة البيضاء) ، (بالاقتداء بالسادة الأخيار والبحث والتفتيش للآثار اهـ والله أعلم
(22)
لَهَا شُهُبٌ عَنْهَا اُسْتَنَارَتْ فَنَوَّرَتْ سَوَادَ الدُّجَى حَتَّى تَفَرَّق وَانْجَلاَ
كنى بالشهب عن الأصحاب الذين أخذوا العلم عن البدور السبعة ولما كانوا دونهم في العلم والشهرة كنى عنهم بما إنارته دون إنارة البدر ويقال نار واستنار إذا أضاء وضمن استنارت معنى أخذت فلذلك عداه بعن ، والدجى الظلم جمع دجية وهي هنا كناية عن الجهل ، وانجلا أي انكشف ، والشهب جمع شهاب والشهاب في أصل اللغة اسم للشعلة الساطعة من النار ثم سمي به الكوكب المضيء المرصد لرجم من استرق السمع من الجن ويتعلق به كلام طويل ومعان حسنة ذكرتها في شرح قصيدة الشقراطسي رحمه الله والله أعلم
(23)
وَسَوْفَ تَرَاهُمْ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ مَعَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَمَثِّلاَ
أي ترى البدور المذكورين في هذه القصيدة على هذه الصفة أي مرتبين واحد بعد واحد فنصب واحداً على الحال وبعد واحد صفته وهو كقولهم بينت حسابه بابا بابا وبابا بعد باب هذا إن كان تراهم من رؤية البصر فكأنه نزل ظهورهم في النظم سماعا أو كتابة منزلة المتشخص من الأجسام وإن كان تراهم من رؤية القلب فواحدا مفعول ثان أي تعلمهم كذلك ، ويجوز أن يكون واحدا بعد واحد بدلا من هم في تراهم ومتمثلا صفة لواحدا بعد صفة ومع اثنين متعلق بمتمثلا أي متمثلا مع اثنين من أصحابه يقال مثل قائما أي انتصب وتمثل قائما ، والمعنى متمثلا في النظم أي متشخصا فيه ، ويجوز أن يكون مع اثنين خبر مبتدإ محذوف أي كل مع اثنين أو يكون التقدير كلا مع اثنين بالنصب على البدل من واحد بعد واحد أي ترى كل واحد منهم مع اثنين من أصحابه ، ويجوز أن يكون التقدير واحدا مع اثنين من أصحابه بعد واحد مع اثنين من أصحابه ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه ولو قال وسوف تراهم هاهنا كل واحد مع اثنين من أصحابه لكان أسهل معنى وأحسن لفظا ، وأصحاب الإنسان أتباعه ومن أخذ بقوله كقولك أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة فقوله من أصحابه أي من الناقلين عنه ، ثم إن الذين ذكرهم على ثلاثة أقسام منهم من أخذ عن البدر نفسه وهم ثلاثة ، أصحاب نافع وعاصم والكسائي ، ومنهم من بينه وبين البدر واحد وهم أصحاب أبي عمرو وحمزة ، ومنهم من بينه وبين البدر أكثر من واحد وهم أصحاب ابن كثير وابن عامر على ما سيأتي بيان ذلك ، وبين المتوسط بين أبي عمرو وصاحبيه وهو اليزيدي وبين المتوسط بين حمزة وصاحبيه وهو سليم لتيسر ذلك عليه في النظم وترك بيان المتوسط بين ابن كثير وصاحبيه وبين ابن عامر وصاحبيه لتعذر ذلك وتعسره نظما والله أعلم
(24)
تَخَيَّرَهُمْ نُقَّادُهُمْ كُلَّ بَارِعٍ وَلَيْسَ عَلَى قُرْآنِهِ مُتَأَكِّلاَ
تخير بمعنى اختار والنقاد جمع ناقد والبازغ الذي فاق أضرابه في صفات الخير والضمير في تخيرهم ونقادهم للبدور السبعة أو للشهب أولهما وكل بارع بالنصب بدل من مفعول تخيرهم أو هو نصب على المدح أثنى عليهم بالبراعة في العلم ثم أثنى عليهم بالتواضع فيه والزهد بقوله وليس على قرآنه متأكلا فهو صفة بعد صفة أي كل بارع غير متأكل بقرآنه وإنما دخلت الواو في ليس على تقدير كل من برع وليس على قرآنه أي بقرآنه متأكلا أي لم يجعله سببا للأكل ، وقد تورع جماعة من أهل العلم عن الأكل بالقرآن العزيز مع جوازه لهم ، كان حمزة رحمه الله تعالى من أشدهم في ذلك وقيل هو من قولهم تأكل البرق والسيف إذا هاج لمعانه أي لم ينتصب ظاهر الشعاع لأهل الدنيا بالقرآن العزيز فيجعله وصلة إلى دنياهم ويقال تأكلت النار إذا هاجت أي لم يكثر الحرص على الدنيا فتكون على بمعنى مع كقوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه) أي من حبه (وآتى المال على حبه)-(وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم)-(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر) وفيه وجوه أخر ذكرناها في الشرح الكبير والله أعلم
(25)
فَأَمَّا الْكَرِيمُ السِّرِّ في الطيِّبِ نَافِعٌ فَذَاكَ الَّذِي اخْتَارَ الْمَدينَةَ مَنْزِلاَ
شرع في ذكر البدور السبعة واحدا بعد واحد وجرت عادة المصنفين في القراءات بذكرهم في أول مصنفاتهم وذكر طرف من أخبارهم والتعريف بهم فمنهم من اختصر ومنهم من أكثر وقد استقصينا ذلك في الشرح الكبير وتقدم في خطبة هذا الكتاب ما يجزئ من ذلك سوى ذكره وفياتهم فنأتي بها وبشرح ما نظمه الشاطبي من أحوالهم ، وقد نظم لنافع في هذا البيت سرا كريما وهو ما ذكره أبو عمرو الداني رحمه الله في كتاب الإيجاز وذكره أيضا شيخه أبو الحسن بن غلبون وأبو معشر الطبري وغيرهم ، قالوا كان نافع رحمه الله إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك فقيل له يا أبا عبد الرحمن أو يا أبا رويم أتطيب كلما قعدت تقرئ الناس فقال ما أمس طيبا ولا أقرب طيبا ولكني رأيت فيما يرى النائم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرا في فيّ فمن ذلك الوقت يشم من فيّ هذه الرائحة فهذا هو السر الكريم لنافع في الطيب ، والمراد بالكرم هنا الشرف والنباهة والجلالة ومنه قوله تعالى (وزرق كريم) ، والكريم في نظم الشاطبي مبتدأ والسر مضاف إليه ويجوز رفعه ونصبه لأنه من باب الحسن الوجه كما سبق ذكره في أجذم العلا وفي الطيب متعلق بالسر أو بالكريم ونافع بدل من الكريم أو عطف بيان والفاء في فذاك جواب أما لما في أما من معنى الشرط وما بعد الفاء جملة اسمية هي خبر المبتدإ ، أثنى عليه في ضمن التعريف به بأنه اختار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم منزلا له أقام بها في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات بها في سنة تسع وستين ومائة وقيل غير ذلك ومنزلا تمييز أو مفعول ثان على تضمين اختار معنى اتخذ أو على حذف حرف الجر من الأول من باب قوله تعالى (واختار موسى قومه) ، وقيل غير ذلك والله أعلم
(26)
وَقَالُونُ عِيسى ثُمَّ عُثْمانُ وَرْشُهُمْ بِصُحْبَتِهِ المَجْدَ الرَّفِيعَ تَأَثَّلاَ
ذكر اثنين من أصحابه وفاء بوعده وكلاهما أدركه ، أحدهما أبو موسى عيسى بن ميناء المدني ويلقب بقالون وهي كلمة رومية يقولون للجيد من الأشياء هو قالون قيل لقبه نافع بذلك لجودة قراءته وقيل لقبه بذلك مالك بن أنس ومات سنة خمس ومائتين بالمدينة وقيل غير ذلك ، والثاني عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش لقبه بذلك نافع أيضا لبياضه وقيل فيه وجوه كثيرة ذكرناها في الشرح الكبير ومات بمصر سنة سبع وتسعين ومائة وقالون في البيت مبتدأ ولم يصرفه وإن كان قبل اللقب اسم جنس وعلى رأي الكوفيين وإما أن يكون قد سمي به في الأعجمية كما في العربية التسمية بحسن وسهل ولا بعد في ذلك لأنه على وزان قارون وهارون وعيسى بدل من قالون ولا يقال عطف بيان فإن اللقب هنا أشهر من الاسم ولهذا أيضا لم يقل إنه مضاف إلى عيسى لأن المعروف إضافة الاسم إلى اللقب لا عكس ذلك ، ويجوز أن يكون امتناع صرفه لما يأتي ذكره في اسم غلبون في باب المد والقصر وعثمان عطف على قالون وورشهم عطف بيان والضمير للقراء وكذا قوله فيما يأتي وصالحهم وأبو عمرهم وكوفيهم وحرميهم لابن كثيرهم والهاء في بصحبته لنافع والمجد مفعول تأثلا ضمير تثنية يعود إلى قالون وورش وهو خبر المبتدإ ، ومعنى تأثلا جمعا أي سادا بصحبة نافع والقراءة عليه والله أعلم
(27)
وَمَكَّةُ عَبْدُ اللهِ فِيهَا مُقَامُهُ هُوَ اُبْنُ كَثِيرٍ كاثِرُ الْقَوْمِ مُعْتَلاَ
وهذا البدر الثاني عبد الله بن كثير المكي وصفة الشاطبي بأنه كاثر القوم معتلا أي اعتلاء وكاثر اسم فاعل من كثر بفتح الثاء وهو بناء الغلبة يقال كاثرني فكثرته أي غلبته بالكثرة وكذلك فاخرني ففخرته وخاصمني فخصمته وعنى بالقوم القراء السبعة ومعتلا تمييز أي هو أكثر اعتلاء ووجهه لزومه مكة وهي أفضل البقاع عند أكثر العلماء وقراءته على صحابي وهو عبد الله بن السائب المخزومي وهو الذي بعث عثمان رضي الله عنه معه بمصحف إلى أهل مكة لما كتب المصاحف وسيرها إلى الأمصار وأمره أن يقرئ الناس بمصحفه فكان ممن قرأ عليه عبد الله بن كئير على ما حكاه غير واحد من المصنفين ، فإن قلت ابن عامر قرأ على جماعة من الصحابة ونافع لزم المدينة وهي أفضل البقاع عند مالك وغيره وهو مذهب ناظم القصيدة ، قلت كذلك الذي نقول إلا أن المجموع لم يحصل إلا لابن كئير ولعل الناظم كان يرى مذهب الجمهور في تفضيل مكة وهو الأصح ، وقوله ومكة مبتدأ وعبد الله مبتدأ ثان ومقامه مبتدأ ثالث وفيها خبر الثالث مقدم عليه والثالث وخبره خبر الثاني والجملة التي هي خبره خبر الأول ، ويجوز أن يكون مقامه فاعل ، والمقام بضم الميم الإقامة وموضعها أي فيها إقامته أو موضع إقامته أي اختارها مقاما كما اختار نافع المدينة منزلا ومات بمكة سنة عشرين ومائة ثم ذكر اثنين من أصحابه وبينهما وبينه أكثر من واحد فقال
(28)
رَوى أَحْمَدُ الْبَزِّي لَهُ وَمُحَمَّدٌ عَلَى سَنَدٍ وَهْوَ المُلَقَّبُ قُنْبُلاَ
له بمعنى عنه كقوله تعالى (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) ، أي عنهم وقوله على سند أي بسند أي ملتبسين بسند أو يكون التقدير معتمدين على سند في نقل القراءة عنه لأنهما لم يرياه ، أحدهما أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع ابن أبي بزة مولى لبني مخزوم مؤذن المسجد الحرام أربعين سنة وإنما قيل له البزي لأنه منسوب إلى جده أبي بزة وخفف الشاطبي ياء النسب ضرورة وهو جائز ومثله يأتي في البصرى والمكي والدوري وغيرها ، قرأ البزي على جماعة منهم عكرمة بن سليمان ، وقرأ عكرمة على شبل والقسط ، وقرأ على ابن كثير ومات البزي سنة خمس وخمسين ومائتين وقيل غير ذلك ، والثاني أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن خالد بن سعيد بن جرجة ويلقب بقنبل يقال رجل قنبل وقنابل أي غليظ شديد ذكره صاحب المحكم وغيره وقيل في سبب تلقيبه بقنبل غير ذلك ذكرناه في الشرح الكبير ، وقرأ قنبل على أبي الحسن القواس وابن فليح وقرأ على أصحاب القسط وقرأ على ابن كثير ، وروي أن قنبلا قرأ أيضا على البزي وهو في طبقة شيخيه المذكورين ومات قنبل سنة إحدى وتسعين ومائتين
(29)
وَأَمَّا الإْمَامُ المَازِنِيُّ صَرِيحُهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِي فَوَالِدُهُ الْعَلاَ
وهذا البدر الثالث أبو عمرو بن العلا البصري المازني من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر ، والصريح هو الخالص النسب وليس في السبعة من أجمع على صراحة نسبه غيره إلا ما لا يعرج عليه فلهذا قال صريحهم وسيأتي الكلام في ابن عامر ، ودخل الفرزدق الشاعر على أبي عمرو وهو مختف بالبصرة يعوده فقال فيه ، (ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار) ، (حتى أتيت امرأ محضا ضرائبه ) ، ويروي ، (ضخما وسيعته مر المريرة حرا وابن أحرار) ، (ينميه من مازن في فرع نبعتها أصل كريم وفرع غير حوار) ، ويروي ناقص ويروي ، (جد كريم وعود غير حوار ) نسبة إلى جده في قوله أبا عمرو بن عمار وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار لأن عمارا كان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان لوالده العلا قدر وشرف وكان على طراز الحجاج بن يوسف فاشتهر بسبب الولاية وتقدم أبيه فلهذا صار أبو عمرو يعرف بابن العلا فهذا معنى قول الشاطبي فوالده العلا أي الرجل المشهور المتقدم في زمانه مات أبو عمرو رحمه الله سنة ثمان وأربعين ومائة وقيل سنة أربع أو خمس أو سبع وخمسين ومائة ونقل قراءته خلق كثير أضبطهم لها اليزيدي الذي يذكره الآن
(30)
أَفَاضَ عَلَى يَحْيَى الْيَزيدِيِّ سَيْبَهُ فَأَصْبَحَ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ مُعَلَّلاَ
هو أبو محمد يحيى بن المبارك العدوي التميمي وعرف باليزيدي لأنه كان منقطعا إلى يزيد بن منصور خال المهدي يؤدب ولده فنسب إليه ثم اتصل بالرشيد فجعل المأمون في حجره يؤدبه ومات في أيامه سنة اثنتين ومائتين ، ومعنى أفاض أفرغ والسيب العطاء والعذب الماء الطيب والفرات هو العذب ووجه الجمع بينهما التأكيد أراد به صدق العذوية وكمالها ، وقيل الفرات الصادق العذوبة وسمي الشرب الأول النهل وما بعده العلل الذي سقى مرة بعد مرة وهو أبلغ في الري ، ومعنى البيت أن أبا عمرو أفاض عطاءه على اليزيدي وكنى بالسيب عن العلم الذي علمه إياه فأصبح اليزيدي ريان من العلم الحسن النافع والله أعلم
(31)
أَبُو عُمَرَ الدُّورِي وَصَالِحُهُمْ أَبُو شُعَيْبٍ هُوَ السُّوسِيُّ عَنْهُ تَقَبَّلاَ
ذكر اثنين ممن قرأ على اليزيدي ، أحدهما أبو عمر حفص بن عمر الأزدي الدوري الضرير نسبة إلى الدور موضع ببغداد بالجانب الشرقي مات سنة ست وأربعين ومائتين ، والثاني أبو شعيب صالح بن زياد السوسي نسب إلى السوس موضع بالأهواز ومات بالرقة سنة إحدى وستين ومائتين في المحرم ، وصالحهم مثل ورشهم أي هو الذي من بينهم اسمه صالح فلم يرد وصفه بالصلاح دونهم والهاء في عنه لليزيدي أي تقبلا عنه القراءة التي أفاضها أبو عمر وعليه يقال تقبلت الشيء وقبلته قبولا أي رضيته وضمن تقبلا معنى أخذا فلذلك عداه بعن والله أعلم
(32)
وَأَمَّا دِمَشْقُ الشَّامِ دَارُ ابْنُ عَامِرٍ فَتْلِكَ بِعَبْدِ اللهِ طَابَتْ مُحَلَّلاَ
وهذا البدر الرابع عبد الله بن عامر الدمشقي أحد الأئمة من التابعين ، وصفه الناظم بأن دمشق طابت به محللا أي طاب الحلول فيها من أجله أي قصدها طلاب العلم للرواية عنه والقراءة عليه وإضافة دمشق إلى الشام كإضافة ورش إلى القراء في قوله ورشهم وما أشبهه ، وفي ذلك أيضا تبين لمحلها وتنويه بذكرها لا سيما لمن بعدت بلاده من أهل المشرق والمغرب ألا يرى أن أهل الشام وما يدانيه يسمعون بالمدن الكبار شرقا وغربا ، ويتوهمون قرب مدينة منها من أخرى ولعل بينهما مسافة أشهر وإذا كان عبد المحسن الصوري ، وهو شاعر فصيح من أهل الشام قد أضاف دمشق إلى الشام في نظمه فكيف لا يفعل ذلك ناظم أندلسي من أقصى المغرب قال عبد المحسن ، (كان ذم الشآم مذ كنت شاني فنهتني عنه دمشق الشآم) ، ودار ابن عامر بدل من دمشق أو صفة وأوقع الظاهر موقع المضمر في قوله فتلك بعبد الله بيانا لاسمه وبعبد الله متعلق بطابت ومحللا تمييز يقال مكان محلل إذا أكثر الناس به الحلول ، ومات ابن عامر رحمه الله بدمشق في سنة ثمانية عشر ومائة
(33)
هِشَامٌ وَعَبْدُ اللهِ وَهْوَ انْتِسَابُهُ لِذَكْوَانَ بِالإِسْنَادِ عَنْهُ تَنَقَّلاَ
هذان راويات أخذت عنهما قراءة ابن عامر اشتهر بذلك وكل واحد منهما بينه وبين ابن عامر اثنان فهذا معنى قوله بالإسناد عنه تنقلا أي نقلا القراءة عنه بالإسناد شيئا بعد شيء فتنقل من باب تفهم وتبصر ، أما هشام فهو أبو الوليد هشام بن عمار بن نصير السلمي خطيب دمشق أحد المكثرين الثقات ، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائتين ، قرأ على أيوب بن تميم التميمي وعراك بن خالد المري ، وقرأ على يحيى بن الحارث الذماري ، وقرأ يحيى على بن عامر ، وأما ابن ذكوان فهو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الفهري ، قرأ على أيوب بن تميم أيضا وكان يصلي إماما بجامع دمشق سوى الجمعة ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين أي هشام وعبد الله تنقلا عن ابن عامر القراءة بالإسناد ، وقوله وهو انتسابه لذكوان جملة معترضة يعني لا تظن أن ذكوان والد عبد الله وإنما هو منتسب إليه كما ذكرنا والله أعلم
(34)
وَبِالْكُوفَةِ الْغَرَّاءِ مِنْهُمْ ثَلاَتَةٌ أَذَاعُوا فَقَدْ ضَاعَتْ شَذاً وَقَرَ نْفُلاَ
الغراء يعني المشهورة البيضاء المنيرة بكثرة العلماء بها ، منهم يعني من السبعة ثلاثة هم عاصم وحمزة والكسائي أذاعوا أي أفشوا العلم بها وشهروه ونشروه والضمير في ضاعت للكوفة أو للقراءة أي فاحت رائحة العلم بها والشذا كسر العود والقرنفل معروف وهما منصوبان على حذف مضاف هو مفعول مطلق أي ضوع شذا وقرنفل أو هما نصب على التمييز أي ضاع شذاها وقرنفلها أو لأن ضاع يستعمل في الرائحة الكريهة أيضا فميزه بما نفى ذلك والله أعلم
(35)
فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ اسْمُهُ فَشُعْبَةُ رَاوِيهِ المُبَرِّزُ أَفْضَلاَ
وهذا هو البدر الخامس أبو بكر عاصم بن أبي النجود أحد السادة من أئمة القراءة والحديث ، مات سنة عشرين أو سبع أو ثمان أو تسع وعشرين أو سنة ثلاثين ومائة بالسماوة ، وهو موضع بالبادية بين الشام والعراق من ناحية الفرات وقيل مات بالكوفة أثنى الشيخ الشاطبي على عاصم بأن من جملة الرواة عنه شعبة الذي برز في الفضل وهو باب من أبواب المدح معروف فكم من تابع قد زان متبوعه وكم من فرع قد شرف أصله فقوله فشعبة مبتدأ وراويه خبره والمبرز صفة راويه أو نعت شعبة أو يكون راويه نعت شعبة والمبرز خبره وأفضلا نصب على الحال بمعنى فاضلا وفيه زيادة مبالغة ، ويقال برز الرجل أي فاق أضرابه ويجوز أن يكون تمييزا من باب قولهم لله دره فارسا لأن الإسناد في المعنى إلى مصدر هذا الاسم أي المبرز فضله أي فاق فضله فضل أقرانه ، ولما كن شعبة اسما مشتركا والمشهور بهذا الاسم بين العلماء هو أبو بسطام شعبة بن الحجاج البصري ميز الذي عناه بما يعرف به فقال
(36)
وَذَاكَ ابْنُ عَيَّاشٍ أَبُو بَكْرٍ الرِّضَا وَحَفْصٌ وَبِاْلإتْقَانِ كانَ مُفصَّلاَ
ذاك إشارة إلى شعبة لأنه مشهور بكنيته واسم أبيه ومختلف في اسمه على ثلاثة عشر قولا ذكرناها في الكبير والرضا صفة له أي المرضي ذكره محمد بن سعيد في الطبقة السابعة من أهل الكوفة قال وكان من العباد ، وتوفي بالكوفة في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة في الشهر الذي توفى فيه هارون الرشيد بطوس ، والراوي الثاني لعاصم هو حفص بن سليم البزاز بزايين ، مات سنة ثمانين ومائة ، قال أبو بكر الخطيب كان المتقدمون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش ويصفونه بضبط الحرف الذي قرأ به على عاصم ، وقال يحيى بن معين بن عمرو بن أيوب زعم أيوب بن المتوكل قال أبو عمر حفص البزاز أصح قراءة من أبي بكر ابن عياش وأبو بكر أوثق من أبي عمر فهذا معنى قول الشاطبي وبالإتقان كان مفضلا يعني بإتقان حرف عاصم لا في رواية الحديث والله أعلم
(37)
وَحَمْزَةُ مَا أَزْكاهُ مِنْ مُتَوَرِّعٍ إِمَاماً صَبُوراً لِلقُرانِ مُرَتِّلاَ
وهذا البدر السادس أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات شيخ القراء بالكوفة بعد عاصم فقوله وحمزة مبتدأ وخبره ما بعده من الجملة التعجبية ، كقوله زيد ما أكرمه ومن متورع في موضع نصب على التمييز كقولك ما أكرمه رجلا وما أكرمه من رجل وكذلك المنصوبات بعده أي ما أزكى ورعه وإمامته وصبره وترتيله للقرآن ، ويجوز نصب إماما وما بعده على المدح أي اذكر إماما صبورا ويجوز نصبهن على الحال ويجوز أن يكون ما أزكاه إلى آخر البيت كلاما معترضا لمجرد الثناء وخبر المبتدإ أول البيت الآتي ، وهو روى خلف عنه وأزكاه من زكا إذا طهر ونما صلاحه أي ما أجمعه لخصال الخير ، ومات رحمه الله سنة ست وخمسين وقيل سنة أربع أو ثمان وخمسين ومائة والله أعلم
(38)
رَوَى خَلَفٌ عَنْهُ وَخَلاَّدٌ الَّذِي رَوَاهُ سُلَيْمٌ مُتْقِناً وَمُحَصِّلاَ
اعتمد في هذا الإطلاق على معرفة ذلك واشتهاره بين أهله وهو أن سليما قرأ على حمزة وأن خلفا وخلادا أخذا قراءة حمزة عن سليم عنه وظاهر نظمه لا يفهم منه هذا فإنه لا يلزم من كونهما رويا الذي رواه سليم أن يكون أخذهما عن سليم لاحتمال أن يكون سليم رفيقا لهما ومتقنا ومحصلا حالان من الهاء في رواه أو من الذي وكلاهما واحد ، وسليم هذا هو سليم بن عيسى مولى بني حنيفة ، مات سنة ثمان أو تسع وثمانين ومائة وقيل سنة مائتين ، وأما خلف فهو صاحب الاختيار وهو أبو محمد خلف بن هشام البزار آخره راء ، مات ببغداد سنة إحدى أو ثمان أو تسع وعشرين ومائتين ، وأما خلاد فهو أبو عيسى ويقال أبو عبد الله خلاد بن خالد الأحول الصيرفي الكوفي ويقال خلاد ابن خليد ويقال ابن عيسى ، توفي سنة عشرين أو ثلاثين ومائتين
(39)
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَالْكِسَائِيُّ نَعْتُهُ لِمَا كانَ في الْإِحْرَامِ فِيهِ تَسَرْبَلاَ
وهذا البدر السابع أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بميم ونون آخره النحوي المعروف بالكسائي ، مات سنة تسع وثمانين ومائة ، وقيل قبل ذلك ، ذكر الشاطبي في هذا البيت سبب كونه نعت بالكسائي وهو أحد الأقوال في ذلك ولم يذكر صاحب التيسير غيره وقيل له الكسائي من أجل أنه أحرم في كساء والنعت الصفة والسربال القميص وقيل كل ما يلبس كالدرع وغيره يقال سربلته فتسربل أي ألبسته السربال فلبسه ولما تنزل الكساء من الكسائي منزلة القميص أطلق عليه لفظ تسربل واللام في لما للتعليل وما مصدرية أي لكونه تسربل الكساء في وقت إحرامه بنسك الحج أو العمرة وقوله فيه يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون متعلقا بالإحرام أي لكونه أحرم فيه والضمير للكساء الذي دل عليه لفظ الكسائي ومفعول تسربل محذوف أي تسربل الكساء ، الوجه الثاني أن يكون فيه مفعول تسربل أي لكونه في وقت الإحرام تسربل فيه فتكون في زائدة أو عداه بفي لكونه ضمنه معنى حل أو تكون في بمعنى الباء أي به تسربل وقيل سمي الكسائي لأنه كان في حداثته يبيع الأكسية وقيل لكونه كان من قرية من قرى السواد يقال لها باكسايا وقيل كان يتشح بكساء ويجلس مجلس حمزة فكان حمزة يقول اعرضوا على صاحب الكساء ، قال الأهوازي وهذا القول أشبه بالصواب عندي
(40)
رَوَى لَيْثُهُمْ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ الرِّضاَ وَحَفْصٌ هُوَ الدُّورِيُّ وَفيِ الذِّكْرِ قَدْ خَلاَ
ليثهم مثل ورشهم هو أبو الحارث الليث بن خالد ، مات سنة أربعين ومائتين ، والرضى أي المرضى أو على تقدير ذي الرضى وحفص هو الدوري الراوي عن اليزيدي ولهذا قال في الذكر قد خلا أي سبق ذكره فيما ذكرناه من النظم
(41)
أَبُو عَمْرِهِمْ والْيحْصَبِيُّ ابْنُ عَامِرٍ صَرِيحٌ وَبَاقِيهِمْ أَحَاطَ بِهِ الْولاَ
أضاف أبا عمرو إلى ضمير القراء كما سبق في ورشهم وليثهم وصالحهم وأبو عمرو وإن كان لفظه مركبا فمدلوله مفرد فلوحظ المدلول فأضيف على حد قولهم حب رماني في إضافة ما يسمى في العرف حب رمان واليحصبي منسوب إلى يحصب حي من اليمن وفي الصاد الحركات الثلاث قبل النسب وبعده وابن عامر عطف بيان لليحصبي وصريح خبر المبتدإ وما عطف عليه ولم يقل صريحان لأن الصريح كالصديق والرفيق يقع على الواحد والمتعدد أو يكون صريح خبر الأول أو الثاني وحذف خبر الآخر لدلالة المذكور عليه وقد تقدم أن معنى الصريح الخالص النسب ، فمعنى البيت أن أبا عمرو وابن عامر خالصا النسب من ولادة العجم فهما من صميم العرب وهذا على قول الأكثر ، ومنهم من زعم أن ابن عامر ليس كذلك ، ومنهم من زعم أن ابن كثير وحمزة من العرب أيضا ولم يختلف في نافع وعاصم والكسائي أنهم ليسوا من العرب ، وغلب على ذرية العجم لفظ الموالي يقال فلان من العرب وفلان من الموالي فهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه ما أشار إليه بقوله أحاط به الولا يعني ولادة العجم ولا يستقيم أن يراد به ولاء العتاقة فإن ذلك لم يتحقق فيهم أنفسهم ولا في أصول جميعهم ولا يستقيم أن يراد به ولاء الحلف فإن العربية لا تنافي ذلك وقد كان جماعة من العرب يحالفون غيرهم ، وقد قيل في نسب أبي عمرو إنه كان حليفا في بني حنيفة وقيل كان ولاؤه للعنبر وقد بينا جميع ذلك وحققناه في الشرح الكبير والهاء في به عائدة على باقيهم فهو لفظ مفرد وإن كان مدلوله هنا جماعة وأحاط أي أحدق وشمل والله أعلم
(42)
لَهُمْ طُرُقٌ يُهْدَى بِهَا كُلُّ طَارِقٍ وَلاَ طَارِقٌ يُخْشى بِهاَ مُتَمَحِّلاً
أي لهؤلاء القراء مذاهب منسوبة إيهم يهدي بها أي يهتدي بنفسه أو يرشد المستهدين بتلك الطرق كل طارق أي كل من يقصدها ويسلك سبيلها ، جعل تلك الطرق كالنجوم التي يهتدى بها كأنه قال كل سالك ومار في هذا العلم فإنه يهتدي بهذه الطرق ويهدي بها ، وقيل المراد بكل طارق أي كل نجم وكنى بالنجم عن العالم لاشتراكهما في الاهتداء بهما ثم قال ولا طارق يخشى بها أي ولا مدلس من قولهم طرق يطرق طروقا إذا جاء بليل والليل محل الآفات ، والمعنى أن تلك الطرق قد اتضحت واستنارت فلا يخشى عليها مضلل ولا مدلس ولا بمعنى ليس وطارق اسمها ويخشى خبرها أو صفة لطارق وبها الخبر ، ويجوز أن يكون بها متعلقا بمتمحلا ومتمحلا خبر لا أو حال من الضمير في يخشى العائد على طارق يقال تمحل إذا احتال ومكر فهو متمحل
(43)
وَهُنَّ الَّلوَاتِي لِلْمُوَاتِي نَصَبْتُهاَ مَنَاصِبَ فَانْصَبْ فِي نِصَابِكَ مُفْضِلاَ
وهن ضمير الطرق واللواتي من الأسماء الموصولة وهو جمع اللاتي جمع التي والمواتي الموافق وأصله الهمز ونصبتها أي رفعتها وأبرزتها وأصلتها مناصب أي أصولا جمع منصب وهو الأصل وكذلك النصاب أي وتلك الطرق والمذاهب هي التي نظمت في هذه القصيدة لمن وافقني على ما اصطلحت فيها ونصبتها أصولا لمن يقرؤها أو أعلاماً لعز من علمها وشرفه ومناصب مفعول ثان لنصبت على تضمين نصبت معنى جعلت وقيل هو حال وقيل تمييز ثم قال فانصب أي اتعب وتجرد وشمر لتحصيلها ونصاب الشيء أصله أي اتعب في تحصيل بضاعة العلم الذي يصير أصلا لك تنسب إليه إذا انتسب الناس إلى آبائهم وقبائلهم وقيل المراد به النية أي اتعب في تخليص نيتك مما يفسدها في قراءة هذا العلم ومفضلا حال من الضمير في انصب يقال أفضل الرجل إذا أتى بفاضل الأعمال كأحسن وأجمل إذا أتى بحسنها وجميلها أي مفضلا بإخلاص النية والله أعلم
(44)
وَمَا أَنَا ذَا أَسْعى لَعَلَّ حُرُوفَهُمْ يَطُوعُ بِهَا نَظْمُ الْقَوَافِي مُسَهِّلاَ
ها حرف تنبيه وأنا ضمير المتكلم وذا اسم إشارة ونظير هذه العبارة قوله تعالى (ها أنتم أولاء تحبونهم) ، فإعرابه كإعرابه وأسعى بمعنى أحرص وأجتهد أي إني مجتهد في نظم تلك الطرق راجيا حصول ذلك وتسهيله والضمير في حروفهم للقراء والمراد بالحروف قراءاتهم المختلفة ، وقال صاحب العين كل كلمة تقرأ على وجوه من القرآن تسمى حرفا ، ويجوز أن يكون المراد بالحروف الرموز لأنها حروفهم الدالة عليهم ويدل عليه قوله بعد ذلك جعلت أبا جاد كأن قائلا قال له وما تلك الحروف التي ترجو طوع القوافي بها فقال ذلك ويطوع بمعنى ينقاد فكأنه ضمنه معنى يسمح فعداه بالباء والقوافي جمع قافية وهي كلمات أواخر الأبيات بضابط معروف في علمها وقد نظمت فيها الأرجوزة الوافية بعلمي العروض والقافية ومسهلا حال من النظم ثم قال
(45)
جَعَلْتِ أَبَا جَادٍ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ دَلِيلاً عَلَى المَنْظُومِ أَوَّلَ أَوَّلاَ
أي صيرت حروف أبي جاد فحذف المضاف للعلم به أي جعلته دليلا على كل قارئ ذكرته في هذا النظم فقوله على المنظوم بدل من قوله على كل قارئ بإعادة العامل أو يكون معمول عامل مقدر أي مرتبا على ما نظمته وتقدير أول أولا أولا فأولا أو أولا لأول ثم حذف الحرف وركبت الكلمتان معا وبنيتا على الفتح أي الأول من حروف أبي جاد للأول من القراء والثاني للثاني وهكذا إلى أن ينتهي عدد القراء السبعة والرواة الأربعة عشر وحروف أبي جاد هي حروف المعجم المعروفة جمعت في كلمات أولها أبجد وكان أصله أبو جاد فحذفت منه الواو والألف لئلا تتكرر الصور لأن أول أبجد ألف وفي هوز واو وقد بسطنا الكلام في ذلك في الشرح الكبير وصفا لنا من الحروف سبع كلمات كل كلمة لواحد من السبعة وراوييه على ترتيب نظمه الأول للشيخ والثاني لأول الروايين والثالث لثانيهما ولا يعد في القراء اليزيدي ولا سليم لأنه إنما ذكرهما لبيان السند لمن قرأ عليهما لا لتنسب القراءة إليهما والكلمات هي أبج دهز حطي كلم نصع فضق رست وهي تجيء نصف بيت بتسكين الحرف الوسط من دهز كلم نصع وتحريكه من البواقي وتمام البيت دليل على المنظوم أول أولا فالألف لنافع والباء لقالون والجيم لورش والدال لابن كثير وهكذا إلى آخرهم فتكون الراء للكسائي والسين لأبي الحارث والتاء للدوري عنه وله عن عن أبي عمرو الطاء من حطي هذا عقد هذا الاصطلاح ، وننبه بعد ذلك على فوائد تتعلق باستعماله لهذه الحروف لم يتعرض لها وإنما فهمتها من تصرفه في نظمه ، منها أن هذه الحروف لا يأتي بها مفردة بل في أوائل كلمات قد ضمن تلك الكلمات معاني صحيحة مفيدة فيما هو بصدده من ثناء على قراءة أو على قارئ أو تعليل أو نحو ذلك على ما سيأتي بيانه كقوله وبسمل بين السورتين بسنة البيت ومالك يوم الدين راويه ناصر سلاسل نون إذ رووا صرفه لنا وقد يأتي بها بعد الواو الفاصلة كقوله ألا وعلا الحرمي إن لنا هنا وكم صحبة يا كاف ودون عنا دعم
وحكم صحاب قصر همزة جاءنا فالحاء من حكم رمز لأبي عمرو فكأنه قال وأبو عمرو وفلان وفلان يقرءون كذا وكذلك الدال من ودون لابن كثير والكاف من وكم لابن عامر والعين من وعلى لحفص ولا يأتي ذلك إلا حيث يكون الواو زائدة على الكلمة فالعين من قوله وعى نفر ليست برمز وكذا قوله في سورة النحل معا يتوفاهم لحمزة وصلا سما كاملا يهدي الواو في وصلا فصل وهي أصلية فالصاد ليست برمز داخل مع سما كاملا وكذا لا يفعل ذلك إلا في ابتداء المسألة لا في أثناء الرمز ، فقوله حق وذو جلا حق وذو ملا ليس الذال برمز وكذا ما أشبه ذلك ولو كان تجنب الرمز في الحشو مطلقا لكان أولى ، ومنها أن رمز نافع أول حروف أبجد لأن نافعا أول القراء في نظمه وأول حروف أبجد همزة لفظا وألف خطا فاستعمل المجموع في رمز نافع فالهمزة يستعملها كثيرا نحو ورابرق افتح آمنا وقد يستعمل ألف الوصل نحو معي نفر العلا ، له الرحب له الحلا وإن افتحوا الجلا كما انجلا وهو كثير ولو تجنبه لكان أحسن فإن ألف الوصل ساقطة لفظا منه فكلما كان الرمز بلفظ بين كان أولى منه بلفظ خفي ولزم منه إلباس في قوله سورة الكهف وأقبلا على حق السدين أن يكون الألف من واقبلا رمز نافع فيكون مع على حق في فتح السدين كما فعل ذلك في وعلا وكم ودون وحكم على ما تقدم ، ومنها أنه مهما اجتمع الراويان على قراءة فالرمز لإمامهما دونهما في غالب الأمر لأنه الأخص إذ لا يحتاج إلا إلى كلمة واحدة ، وقد جاء في بعض المواضع الرمز لهما بكلمتين لاحتياجه إلى ذلك في إقامة الوزن وتتمة البيت كقوله ضوء سنا تلا ، وفي الفرقان زاكيه هللا وفي الوصل لكنا فمد له ملا ، ومنها أنه إذا اتصل شيء من هذه الحروف بضمير قراء تقدم ذكرهم لم يكن ذلك رمزا وكان الضمير كالمصرح به من أسمائهم ، ومن حكمه أن المصرح به لا رمز معه وذلك نحو قوله وصية ارفع صفو حرميه رضى ثم قال ويبصط عنهم أي أن من تقدم ذكرهم يقرءون يبصط بالصاد ولا نقول إن
العين في عنهم رمز حفص ومثله وضم الراء حق ولاغية لهم أي ضم نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من (لا تسمع فيها) ورفع لاغية لهم أيضا ولا نقول إن اللام في لهم رمز هشام وهذا بخلاف ما إذا كان الضمير غير راجع إلى أحد من القراء الذين سبق ذكرهم فإن الحرف حينئذ يكون رمزا مثل له الرحب له الحلا ، ومنها أنه قد جاء في مواضع ألفاظ تصلح أن تكون رمزا وليست برمز في مراده وذلك كما سنبينه في باب المد والإمالة والزوائد وفرش الحروف ، وهو مشكل وفي باب البسملة موضع ذكر أنه رمز وعندي أنه ليس برمز كما سنذكره ، ومنها أنه إذا اجتمعت قراءتان لقارئ واحد فتارة يسمى لكل قراءة منهما كقوله وفيه لم ينون لحفص كيد بالخفض عولا وتارة يسمى بعد الثانية فتكون التسمية لهما كقوله وأنث أن تكون مع الأسرى الأسارى حلا حلا وفي قوله سنكتب ياء ضم البيت رمز بعد ثلاث قراءات لحمزة بقوله فيكملا وتارة يسمى مع الأولى ويعطف الثانية عليها كقوله ويغشى سما خفا البيت فقوله والنعاس ارفعوا يعني لحق المقدم ذكره لأنه قد أتى بالواو الفاصلة في قوله ولا فلو كان رفع النعاس لغير من تقدم ذكره لسماه قبل الواو فيعلم بمحئ الواو أن لا رمز لها سوى ما تقدم والله أعلم
(46)
وَمِنْ بَعْدِ ذِكْرِى الْحَرْفَ أُسْمِى رِجَالَهُ مَتَى تَنْقَضِي آتِيكَ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ
الحرف مفعول ذكرى المضاف إلى ياء المتكلم والمراد بالحرف ما وقع الاختلاف فيه بين القراء من الكلمات وأسمى وأسمى لغتان بمعنى واحد ويتعديان إلى مفعول واحد لأنه واحد لأنه بمعنى ذكرى الاسم ، والهاء في رجاله تعود إلى الحرف والمراد برجاله قراؤه أي أذكرهم برموزهم التي أشرت إليها لا بصريح أسمائهم فإن ذلك يتقدم على الحرف ويتأخر كما سيأتي ، بين بهذا البيت كيفية استعماله الرمز بحروف أبجد فذكر أنه يذكر حرف القراءة أولا ثم يرمز له سواء كان المختلف فيه كلمة أو أكثر فالكلمة نحو وتقبل الأولى أنثوا دون حاجز والكلمتان نحو وكسر بيوت والبيوت يضم عن حماجلة والثلاث نحو وقيل وغيض ثم جيء يشمها البيت والربع نحو وسكن يؤده مع نوله ونصله ونؤته منها البيت وقد تكون قاعدة كلية يدخل تحتها كلم متعددة نحو وضمك أولى الساكنين البيت والأغلب أن الرمز المذكور لا يأتي إلا بعد كمال تقييد القراءة إن احتاجت إلى تقييد كالأمثلة التي ذكرناها وقد وقع قليلاً رمز قبل تمام التقييد كقوله والعين في الكل ثقلا كما دار واقصر مع مضعفة فقوله كما دار رمز متوسط بين كلمتي التقييد وهما ثقلا واقصر ومثله ومع مد كائن كسر همزته دلا ولا ياء مكسورا وأما قوله في سورة غافر أو أن زد الهمز ثملا وسكن لهم فإن قوله لهم قام مقام تكرار الرمز وقد يرمز قبل جملة التقييد كقوله وإثم كبير شاع بالثا مثلثا ومثله مع تسمية القارئ قوله وفي فأزل اللام خفف لحمزة وزد ألفا من قبله فتكملا والضمير في تنقضي للرجال ، ويجوز أن يعود على المسألة برمتها من ذكر الحرف وقرائه لدلالة سياق الكلام على ذلك ، يريد أنه إذا انقضى ذكر الحرف ورمز من قرأه أتى بكلمة أولها واو تؤذن بانقضاء تلك المسألة واستئناف أخرى لأن الواو لم يجعلها رمز القارئ بخلاف سائر الحروف ولو لم يفعل ذلك لاختلطت المسائل وظن ما ليس برمز رمزا لا سيما إذا أتى بكلام بين المسألتين للحاجة إليه في تتميم وزن البيت كقوله
وجها على الأصل أقبلا وجها ليس إلا مبجلا حق وذو جلا فإن ما بعد الواو ليس رمزا في كل ذلك وقد يأتي بكلمة أولها واو في أثناء تقييد المسألة لضرورة القافية فلا تكون الواو فيها فصلا كقوله من رجز أليم معا ولا على رفع خفض الميم دل عليه وكقوله والياسين بالكسر وصلا مع القصر مع إسكان كسر دنا غنى فالواو في ولا ووصلا في هذين الموضعين ليسا بفصل كما أن ألفاظ التقييد لا تكون أوائلها إلا رمزا وإنما الرمز ما يأتي بعد كمال التقييد غالبا كذلك الواو الفاصلة هي ما يأتي بعد كمال المسألة من التقييد والرمز والله أعلم ، وإثبات الياء في تنقضي وآتيك وهما فعلا شرط وجزاء على لغة من قال ، (ألم يأتيك والأنباء تنمي ) وحقها حذف الياء منها للجزم ولم يستقم له حذف الياء من تنقضي أما من آتيك فكان حذفها جائزا له على ارتكاب زحاف جائز والناظم لم يفعله لنفور الطبع السليم منه وفيصلا حال وهو من الصفات التي جاءت على وزن فيعل كضيغم وبيئس وفيه معنى المبالغة والله أعلم
(47)
سِوَى أَحْرُفٍ لاَ رِيبَةٌ فِي اتِّصَالِهَا وَبالَّلفْظِ أَسْتَغْنِي عَنِ الْقَيْدِ إِنْ جَلاَ
نبه بهذا البيت على أنه إنما جعل الواو فاصلة لترتفع الريبة واللبس من اختلاط الحروف وإنما خص الواو بالفصل لتأتيها له في النظم وتيسرها عليه من حيث هي في الأغلب عاطفة والقراءات تراجم ومسائل يعطف بعضها على بعض وربما فصل بغير العاطفة كقوله دار وجها شاع وصلاه في عمد وعوا وهو قليل وليس كل كلمة أولها واو يكون الواو فيها فصلا فإن ذلك قد يقع في كلمات القرآن وفي ألفاظ التقييد كقوله وراؤه بكسر بعد قوله وصحبة يصرف فتح ضم ومنه قوله وبالضم واقصروا كسر التاء قاتلوا وقد تقدم أنها تقع في أثناء كلمات التقييد وإن لم تكن تلك الكلمة تقييدا بل احتيج إليها لتتميم القافية كقوله وفك ارفعن ولا فإن قوله ولا وقع حشوا لأجل القافية وقوله بعد ذلك وبعد اخفضن واكسر ومد الواو في الكلمات الثلاث داخلة على ما هو تقييد لا فصل في واحدة منها إلى قوله ومؤصدة فإنما الواو الفاصلة هي الآتية بعد كمال الرمز ، ثم إن الكلمة التي أولها واو للفصل تارة ليس المراد منها إلا ذلك نحو وضم حليهم بكسر شفا واف فكلمة واف لم يأت بها إلا للفصل وإن تضمنت معنى صحيحا فيما يرجع إلى الثناء على القراءة وتارة تأتي الكلمة ويكون ما بعد الواو مقصودا لغير الفصل إما هو من الحروف المختلف فيها نحو وموصدة فاهمز وحمالة المرفوع وإما اسم لقارئ نحو وحمزة أسرى وورش لئلا وبصر وأتبعنا أو تقييد للحرف المختلف فيه نحو وخاطب حرفا تحسبن وبالضم صر أشاع وميم ابن أم اكسر وذكر لم يكن شاع وقد يكون ما بعد الواو رمزا وهو قليل وقد تقدم الكلام فيه نحو وعلى الحرمي ثم ذكر في هذا البيت أنه قد لا يأتي بالواو الفاصلة وذلك في أحرف من القراءات إذا اتصلت لم يلبس أمرها ولا يرتاب الناظر فيها لأنها من كلم القرآن وذلك كقوله وينبت نون صح يدعون عاصم ويدعون خاطب إذ لوى ورابرق افتح آمنا البيتين ففي كل بيت منهما ثلاثة أحرف ولا واو بينها وقد يقع الاتصال من تقييد قراءة ورمز أخرى كقوله
يظلمون غيب شهددنا ثم قال إدغام بيت في حلا وقوله واكسر الضم اثقلا نعم عم في الشورى ، فالحاصل أنه يلتزم الواو في مواضع الريبة وفيما عداها قد يأتي بالواو طردا للباب وقد لا يأتي بها للاستغناء عنها وأكثر المواضع التي أتى فيها بالواو لا لبس فيها كقوله وعند سراط والسراط ورضوان اضمم زكا وقواريرا وقد ترك الواو سهوا في موضع واحد ملبس في سورة القصص وقل قال موسى واحذف الواو دخللا نما نفر بالضم ثم ذكر حكما آخر فيما يتعلق بتقييد الحرف المختلف فيه فقال وباللفظ استغنى عن القيد ولم يكن هنا موضع ذكره ولو أخره إلى ما بعد انقضاء الرموز لكان أولى وذلك عند قوله وما كان ذا ضد إلى قوله وفي الرفع والتذكير والغيب فهاتيك الأبيات كلها فيما يتعلق بتقييد القراءات وهذه الأبيات من قوله جعلت أبا جاد إلى قوله وما كان ذا ضد كلها في الرمز وما يتعلق به ويتفرع عنه فاعترض بهذا الحكم في أثناء ذلك فذكر أنه قد لا يحتاج إلى تقييد الحرف بهيئة قراءته إذا كان التلفظ به كاشفا عن ذلك القيد ولهذا قال إن جلا أي إن كشف اللفظ عن المقصود وبينه يقال جلوت الأمر إذا كشفته وهذا قد أتى في القصيدة على ثلاثة أقسام إما أن يلفظ بالقراءتين معا كقوله وحمزة أسرى في أسارى وفي طائر طيرا سكارى معا سكرى وعالم قل علام ، وإما أن يلفظ بإحداهما ويقيد الأخرى كقوله وبالتاء آتينا ، والثالث أن يلفظ بإحداهما ولا يقيد الأخرى كقوله و(مالك يوم الدين) ، كأنه قال بالمد ففهم من ذلك القراءة الأخرى من جهة الضد ، وقد يلفظ بالقراءتين معا ويذكر بعد بعض قيود إحداهما كقوله تمارونه تمرونه وافتحوا شذا وطأ وطاء فاكسروه وكل موضع لفظ بحرف مختلف فيه ولم يستغن باللفظ به عن القيد ثم قيده بما فهم منه الخلاف باعتبار الأضداد على ما سيأتي ذكرها فإن لم يكن أن يلفظ بذلك اللفظ إلا على إحدى القراءتين تعين ، وهو في القصيدة على نوعين ، أحدهما أن يكون القيد لما لفظ به كقوله وما
يخدعون الفتح من قبل ساكن وبعد ذكا وخفف كوف يكذبون وعدنا جميعا دون ما ألف وكفلها الكوفي ثقيلا البيت وحامية بالمد صحبته كلا وفي حاذرون المد ، والثاني أن يكون القيد لما لم يلفظ به وهذا أحسن لأخذ كل من القراءتين حظا إما لفظا وإما تقييدا كقوله وفي تكملوا قل شعبة الميم ثقلا وقصر قياما عم مع القصر شدد ياء قاسية شفا ووحد للمكي آيات الولا فإن أمكن أن يلفظ بذلك اللفظ على كل واحدة من القراءتين فالأولى أن يلفظ بما لم يقيده كقوله عليهم إليهم حمزة بكسر الهاء وصحبة يصرف بضم الياء وذكر لم تكن بالتاء الدالة على التأنيث وقد جاء في سورة طه موضع استغنى فيه باللفظ عن القيد ولم يحصل الاستغناء به لأنه لم يجل القراءة الأخرى ولم يكشفها وهو قوله وأنجيتكم واعدتكم ما رزقتكم شفا وسيأتي ما يمكن الاعتذار به في موضعه إن شاء الله تعالى
(48)
وَرُبَّ مَكاَنٍ كَرَّرَ الْحَرْفَ قَبْلَهَا لِمَا عَارِضٍ وَالْأَمْرُ لَيْسَ مُهَوِّلاَ
الحرف مفعول كرر وفاعله ضمير راجع إلى مكان على طريقة المجاز جعل المكان مكرر لما كان التكرار واقعا فيه كقولهم ليل نائم أو يرجع إلى الناظم على طريقة الالتفات من استغنى إلى كرر كقوله تعالى (لنريه من آياتنا إنه هو) ، أي كرر فيه الناظم الحرف قبلها أي قبل الواو الفاصلة ومراده بالحرف هنا حرف الرمز الدال على القارئ لا الكلمة المختلف فيها المعبر عنها بقوله ومن بعد ذكرى الحرف ولو قال ورب مكان كرر الرمز لكان أظهر لغرضه وأبين ورب حرف تقليل وعامله محذوف مقدر بعده أي وجد أو عثر عليه أشار إلى أن ذلك يوجد قليلا وهو تكرار الرمز تأكيدا وزيادة بيان ، وهو في ذلك على نوعين ، أحدهما أن يكون الرمز لمفرد فيكرره بعينه كقوله اعتاد فضلا ، وحلا حلاء ، وعلا علا ، والثاني أن يكون الرمز لجماعة لم يرمز لواحد من تلك الجماعة كقوله سما العلا ، ذا أسوة تلا ، وقد يتقدم المفرد كقوله إذ سما كيف عولا ، وقوله قبلها يعني قبل الواو الفاصلة المنطوق بها أو قبل موضعها وإن لم توجد فإن حلا حلا وعلا علا ليس بعدهما واو فاصلة ، وقوله لما عارض تعليل للتكرير وما نكرة موصوفة أي لأمر عارض أو زائدة كزيادتها في قوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم) ، أي لأجل عارض اقتضى ذلك من تحسين لفظ أو تتميم قافية ثم سهل هذا الأمر على الطالب وهونه بقوله والأمر ليس مهولا أي ليس مفزعا أي لا يجر لبسا ولا يؤدي إلى إشكال ، واعلم أنه كما يكرر الرمز لعارض فقد تكرر الواو الفاصلة أيضا لذلك كقوله قاصداً ولا ومع جزمه ، ولم يخشوا هناك مضللا وأن يقبلا التذكير ، ولم ينبه على ذلك وهو واضح والله أعلم
(49)
وَمِنْهُنَّ لِلْكُوفِيِّ ثَاءٌ مُثَلَّتٌ وَسِتَّتُهُمْ بِالْخَاءِ لَيْسَ بِأَغْفَلاَ
الضمير في منهن للحروف للعلم بها ووصف الثاء بأنه مثلث بالنقط ليميزه من الباء والتاء وكذلك قوله في الخاء ليس بأغفلا أي أنه منقوط ليميزه من الحاء ، لما اصطلح الناظم رحمه الله على رموز للقراء منفردين اصطلح أيضا على رموز لهم مجتمعين إلا أنه ليس لكل اجتماع بل لما يكثر دوره ووقوعه ، واعلم أن لكل واحد من القراء شيئا ينفرد به وقد جمعت ذلك في مصنف بترتيب حسن ولكل واحد منهم اجتماع مع كل واحد منهم هذا مطرد ويتفق اجتماع ثلاثة على قراءة ولا يطرد في الجميع وكذا يتفق اجتماع أربعة وخمسة وستة وكان قد بقي ستة أحرف فجعل كل حرف منها رمزا لما يذكره فذكر في هذا البيت حرفين الثاء والخاء فالثاء رمز للقراء الكوفيين وهم ثلاثة كما سبق وقوله للكوفي أي للقارئ الكوفي من السبعة أي لهذا الجنس منهم والحروف كلها تذكر وتؤنث واختار التذكير في وصف هذه الحروف هنا لما كانت عبارة عن ذكور فقال مثلث وليس بأغفلا وكذا الأربعة البواقي على ما يأتي فالضمير في وستتهم للقراء أي يعبر عنهم بالخاء ثم بين الستة منهم فقال
(50)
عَنَيْتُ الْأُلَى أَثْبَتُّهُمْ بَعْدَ نَافِعٍ وَكُوفٍ وَشَامٍ ذَا لُهُمْ لَيْسَ مُغْفَلاَ
الألى بمعنى الذين أي عنيت بالستة الذين ذكرتهم بعد ذكر نافع وهم باقي السبعة ، وعبر عن الكوفيين وابن عامر وهو الشامي بالذال وقال ليس مغفلا ليميزه عن الدال ووجه قوله وكوف وشام وكذا ما يأتي بعده مثل وبصر ومك أنه حذف إحدى ياءي النسب تخفيفا كما يخفف المشدد لضرورة الشعر وكأن المحذوف المتحركة فبقيت الساكنة مع التنوين فحذفت لالتقاء الساكنين فصار كقاض والألف واللام مقدرة أو الإضافة ولهذا صح الابتداء به أي والكوفي والشامي أو وكوفيهم وشاميهم ذالهم التي هي عبارة عنهم منقوطة ثم قال
(51)
وَكُوفٍ مَعَ المَكِّيِّ بِالظَّاءِ مُعْجَماً وَكُوفٍ وَبَصْرٍ غَيْنُهُمْ لَيْسَ مُهْمَلاَ
المعجم من الحروف ما نقط من قولهم أعجمت الكتاب أي أزلت عجمته والمهمل ما لم ينقط ولسنا بخائضين في بيان مناسبة كل حرف لمن جعله له من جهة مخارج الحروف وصفاتها فإنه لو عكس ما ذكره لأمكن توجيهه أيضا والله أعلم
(52)
وَذُو النَّقْطِ شِينٌ لِلْكِسَائِي وَحَمْزَةٍ وَقُلْ فِيهِمَا مَعْ شُعْبَةٍ صُحْبَةٌ تَلاَ
شين بدل من وذو النقط وتمت حروف أبجد واحتاج إلى الاصطلاح في التعبير عن جماعات يكثر اتفاقهم على القراءة فوضع ثماني كلمات لمن يأتي ذكرهم وهي صحبة صحاب عم سما حق نفر حرمي حصن منها ما هو دال على اثنين وهو عم حق حرمي والبواقي مدلولها جماعة فجعل لحمزة والكسائي إذا اتفق معهما أبو بكر عن عاصم لفظ صحبة كقوله رمى صحبة وصحبة يصرف ، وتارة رمز لهم بالحروف كقوله وموص ثقله صح شلشلا وتلا بمعنى تبع أي تبع ما قبله في أنه رمز وليس بصفة لصحبة وإلا تقيدت وأشعر اللفظ بأنه المجموع هو الرمز وكذا ما يأتي في قوله نفر حلا
(53)
صِحَابٌ هَمَا مَعْ حَفْصِهِمْ عَمَّ نَافِعٌ وَشَامٍ سَمَا فِي نَافِعٍ وَفَتَى الْعَلاَ
هما يعني حمزة والكسائي مع حفص عن عاصم يعبر عنهم بصحاب ولفظ عم دليل نافع وشام وسما مستقر في التعبير به عن نافع ، وفتى العلا وهو أبو عمرو بن العلا وفي ابن كثير وهو المراد بقوله ومك في البيت الآتي
(54)
وَمَكٍّ وَحَقٌّ فِيهِ وَابْنِ الْعَلاَءِ قُلْ وَقُلْ فِيهِمَا وَالْيَحْصُبِي نَفَرٌ حَلاَ
فيه أي في المكي وهو ابن كثير أي استقر لفظ حق فيه وفي ابن العلاء فحذف حرف الجر من المعطوف على الضمير المجرور وهو جائز في الشعر مختلف فيه في غيره ولفظ نفر قل فيهما أي في ابن كثير وأبي عمرو وفي اليحصبي وهو ابن عامر فحذف حرف الجر أيضا
(55)
وَحِرْمِيٌّ الْمَكِّيُّ فِيهِ وَنَافِعٍ وَحِصْنٌ عَنِ الْكُوفِي وَنَافِعِهِمْ عَلاَ
أي ولفظ حرمي اشترك فيه ابن كثير ونافع وهو نسبة إلى الحرم والحرم والحرم واحد ، فإن قلت هذه نسبة صحيحة فتكون كالعبارة الصريحة فقوله حرمي كقوله مكي وبصري وشامي وكوفي لأن كل واحد من ابن كثير ونافع منسوب إلى الحرم هذا من حرم مكة وذا من حرم المدينة ، قلت موضع الرمز كون اللفظ مفردا أراد به مثنى ولم يستعمل المفرد لإلباسه إذ لا يعلم أي الحرميين أراد والتصريح بنسبتهما أن يقول الحرميان كما يقوله صاحب العنوان وغيره ولكونه جعل هذا اللفظ رمزا لم يتصرف فيه بحذف ياء النسبة ولا تخفيفها بخلاف قوله ومن تحتها المكي سوى الشام ضموا إشعارا بأنه رمز لا نسبة ، ثم قال وحصن جعلته عبارة عن الكوفيين ونافع وقوله علا أي الحصن أو المذكور أي ظهر المراد وانكشف وهذه الألفاظ الثمانية تارة يأتي بها بصورتها وتارة يضيف بعضها إلى ضمير القراء كقوله ونذر أصحابهم حموه كما قال وكوفيهم تساءلون شاميهم تلا وتارة يضيفه إلى الهاء والكاف نحو وحامية بالمد صحبته كلا وقل مرفقا فتح مع الكسر عمه حقه بتنبت وحقك يوم لا ثم قال
(56)
وَمَهْماَ أَتَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ كِلْمَةٌ فَكُنْ عِنْدَ شَرْطِى وَاقْضِ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ
أي هذه الكلمات الثماني التي وضعتها رمزا تارة أستعملها مجردة عن الرمز الحرفي الذي تقدم ذكره وتارة يجتمعان ، فإذا اجتمعا لم ألتزم ترتيبا بينهما فتارة يتقدم الحرف على الكلمة وتارة تتقدم الكلمة على الحرف كقوله وعم فتى نعم عم صحبة كهف كفء صحبة وتارة تتوسط الكلمة بين حرفين كقوله صفو حرميه رضى يبشركم سما نعم ، ومدلول كل واحد من الحرف والكلمة بحاله لا يتغير بالاجتماع فهذا معنى قوله فكن عند شرطي أي على ما شرطته واصطلحت عليه من موضوع كل واحد منهما أي أنه باق بحاله واقض بالواو فيصلا عند انتهاء كل مسألة سواء كان رمزها بالحرف أو بالكلمات أو بهما إلا حيث لا ريبة في الاتصال كقوله وخفف حق سجرت البيت ، فالمعنى مهما أتت من قبل الرمز الحرفي أو من بعده كلمة من هذه الكلمات الثماني أو مهما أتت من قبل هذه الكلمات الثماني أو بعدها كلمة من الكلمات التي تدخل حروف أوائلها على القارئ سواء كان مفردا كالألف والدال أو مجتمعا كالشين والذال ، وفي مهما بحوث حسنة ذكرناها في الشرح الكبير ، وحاصله أنها في استعمال الناظم هنا وفي قوله ومهما تصلها أو بدأت براءة بمعنى شيء ما ووجه صحة هذا الاستعمال أن مهما مركبة من ما التي للشرط ومن ما المزيدة للتأكيد ثم أبدلت ألف ما الجزائية هاء فصار مهما ، وقد استقر أن ما الجزائية تتضمن معنى الزمان ولهذا يقال لها الظرفية كقوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، فمتى أبدلت ألف الظرفية هاء لدخول المزيدة عليها صار مهما متى ما ومتى كانت المبدلة غير ظرفية لم تكن بهذا المعنى والله أعلم
(57)
وَمَا كانَ ذَا ضِدٍّ فَإِنِّي بَضِدِّهِ غَنّيٌّ فَزَاحِمْ بِالذَّكاءِ لِتَفْضُلاَ
أي وما كان من وجوه القراءات له ضد فإنه يستغني بذكر أحدهما عن ذكر الآخر فيكون من سمى يقرأ بما ذكر ومن لم يسم يقرأ بضد ما ذكر كقوله ، وخف لووا إلفا فيعلم أن غير نافع يشدده وليس هذا الاستغناء بلازم فإنه قد يذكر القراءة الأخرى المعلومة من الضد كقوله ولكن خفيف والشياطين رفعه البيت وإن لم تكن القراءة الأخرى تعلم بالضد ذكرهما نحو أوصى بوصي كما اعتلا أنجيت للكوفي أنجا تحولا ، ومتى لفظ بالقراءتين فلا حاجة إلى تقييد واحدة منهما فإن قيده كان زيادة بيان كما فعل في وما يخدعون وإنما قال بضده ولم يقل به ولا بذكره لأنه قصد المعنى المذكور في قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ، ولم يقل فتذكرها أي أيتهما ضلت ذكرتها الأخرى فهذا اللفظ أوغل في الإبهام من ذكر الضمير وكذا قوله بضده أي استغنى بأحد الضدين عن الآخر ، واعلم أنه لم يبن كلامه في الأضداد هنا على ما يعلم بالعقل أنه ضده بل بعضه كذلك وبعضه اصطلح هو عليه وبيان ذلك فيما ذكر من الأمثلة كما سيأتي وقد لف بعضها ببعض والذكي يميز ذلك ولهذا قال فزاحم بالذكاء لتفضلا
(58)
كَمَدٍّ وَإِثْبَاتٍ وَفَتْحٍ وَمُدْغَمٍ وَهَمْزٍ وَنَقْلٍ وَاخْتِلاَسٍ تَحَصَّلاَ
شرع يمثل الألفاظ التي يستغنى بها عن أضدادها أو بأضدادها عنها أي هي كمد وما بعده ، وقوله ومدغم اسم مفعول ويجوز أن يكون مصدرا وهو أولى ليناسب ما قبله وما بعده من الكلمات المذكورات ، وهي منقسمة إلى ماله ضد معين وإلى ما ليس كذلك فالأول يفهم بالعقل والثاني بالاصطلاح وإنما أشرح ما ذكره واحدا واحدا وأبين ما فيه وأزيد على ما ذكره أمثلة أخر ، أما المد فضده القصر وهو متعين وكلاهما مستعمل مستغنى به عن الآخر في هذه القصيدة كقوله وفي حاذرون المد وفي لابثين القصر ومد وخفف ياء زاكية وآتاكم فاقصر ، وأما الإثبات فضده الحذف وكلاهما مستعمل وما في معناهما كقوله وتثبت في الحالين واحذف الواو ودخللا والواو زد بعد مفسدين وما الواو دع كفى وزد ألفا من قبله فتكملا وعدنا جميعا دون ما ألف حلا وقبل يقول الواو غصن وأسقط الأولى في اتفاقهما معا ، وأما الفتح فلم يكن له حاجة إلى ذكره لأنه سيذكر فيما بعد أنه آخا بين الفتح والكسر فصارا ضدين بالاصطلاح وإن كان أراد به أنه ضد للإمالة كما ذكره الشيخ في شرحه فهو قليل الفائدة لم يستعمله إلا في قوله في سورة يوسف والفتح عنه تفضلا وفي باب الإمالة ولكن رءوس الآي قد قل فتحها وإنما الذي يستعمله كثيرا الإمالة وضدها ترك الإمالة ويعبر عنه بعض القراء بالفتح كما يعبر بعض النحويين عن الإمالة بالكسر ويعبر الناظم عنها أيضا بالإضجاع نحو وإضجاعك التوراة ما رد حسنه ، وأما المدغم فضده المظهر وكلاهما مستعمل نحو وأدغم باقيهم تمدونني الإدغام وأظهر لدى واع ومن حيى اكسر مظهرا ، وأما الهمز فضده ترك الهمز وكلاهما مستعمل وترك الهمز قد يكون بحذفه وهو حيث لا صورة له في الرسم كقوله وفي الصابئين الهمز والصابئون خذ وننسها مثله من غير همز وقد يكون بإبداله بالحرف الذي صور به الهمز كقوله وحيث ضياء وافق الهمز قنبلا وبادئ بعد الدال بالهمز حللا ويأجوج مأجوج اهمز الكل ناصرا ويهمز ضيزى وفي ضد ذلك وورش
لئلا والنسيء بيائه ويجوز أن يقال الهمز وتركه من باب الإثبات والحذف فكان مغنيا عنه ، وأما النقل فعبارة عن تحويل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها مع حذف الهمزة فضد ذلك إبقاء الهمز على حاله والساكن على حاله ولم يقع التقييد في القصيدة إلا بالعقل لا بضده نحو ونقل ردا عن نافع ونقل قران والقران وفي معنى النقل لفظا التسهيل والإبدال كقوله لأعنتكم بالخلف أحمد سهلا وسهل أخا حمدوكم مبدل جلا وتسهيل أخرى همزتين وحمزة عند الوقف سهل همزه وضد ذلك كله تحقيق الهمز وقد استعمله في قوله وحققها في فصلت صحبة أآلهه كوف يحقق ثانيا ، وأما الاختلاس فضده إكمال الحركة لأن معناه خطف الحركة والإسراع بها وضده ترك ذلك وهو التؤدة في النطق بها تامة كاملة والاختلاس كالنقل في أنه لم يقع التقييد إلا به دون ضده مع أن استعماله قليل كقوله وكم جليل عن الدوري مختلسا جلا وقد عبر عنه بالإخفاء كثيرا كقوله وإخفاء كسر العين وأخفى العين قالون وأخفى بنو حمد وأخف حلوبر وقوله تحصلا أي تحصل في الرواية وئبت والله أعلم
(59)
وَجَزْمٍ وَتَذْكِيرٍ وَغَيْبٍ وَخِفَّةٍ وَجَمْعٍ وَتَنْوِينٍ وَتَحْرِيكٍ اْعَمِلاَ
ضد الجزم عنده الرفع ولا ينعكس الأمر فهذا مما اصطلح عليه فإذا كانت القراءة دائرة بين الجزم والرفع فإن ذكر قراءة الجزم ذكر الجزم مطلقا بلا قيد فتكون القراءة الأخرى بالرفع لأنه ضده عنده كقوله وحرفا يرث بالجزم وإن ذكر قراءة الرفع لم يطلق ذلك لأن ضد الرفع النصب على ما يأتي من اصطلاحه بل يقيد ذلك كقوله وتلقف ارفع الجزم يضاعف ويخلد رفع جزم يصدقني ارفع جزمه فكان الواجب أن يذكر الجزم مع الرفع والضم في قوله وحيث أقول الضم والرفع لأن كل واحد منهما لا ينعكس ضده به ، وأما التذكير فضده التأنيث وكلاهما مستعمل كقوله وذكر تسقي عاصم وأنث يكن عن دارم وليس بلازم أن يكونا عبارتين عن الياء والتاء في أفعال المضارعة فقد يأتي غير ذلك كقوله وذكر فناداه وذكر مضجعا توفاه ، وأما الغيبة فضدها الخطاب عنده وكلاهما مستعمل كقوله ولا يعبدون الغيب وبالغيب عما يعملون وخاطب تروا شرعا وفي أم تقولون الخطاب وللتحقيق أن ضد الغيبة الحضور ، والحضور ينقسم إلى خطاب وتكلم وتردد القراءة بين الغيبة والخطاب كثير فجعلهما ضدين والتردد بين الغيب والتكلم قليل كقوله تعالى في الأعراف (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) ، يقرؤه ابن عامر على الغيبة وإذ أنجاكم فعبر الناظم عن هذا بالحذف والإثبات فقال وانجا بحذف الياء والنون كفلا ، والخفة ضدها الثقل وكلاهما قد جاء كقوله وخف قدرنا دار وثقل غساقا معا ومثله وشدد حفص منزل ، والجمع ضده التوحيد ومثله الإفراد والكل مستعمل كقوله وجمع رسالاتي رسالات فرد ووحد حق مسجد الله خطيئته التوحيد لكنه إذا ذكر لفظ الجمع كان ضده معلوما وهو الإفراد والتوحيد وإذا ذكر التوحيد فضده الجمع إلا أن الجمع على قسمين جمع سلامة وجمع تكسير فإن لفظ به اتضح كقوله رسالات فرد وإن لفظ بالإفراد فتارة يكون ضده جمع السلامة كقوله خطيئته التوحيد وتارة جمع التكسير كقوله ووحد حق مسجد الله وهنا يمكن التلفظ بالجمع فيقرأ البيت خطيآته
التوحيد ولكل واحد من الجمع والإفراد ضد آخر وهو التثنية ولكن لم يجيء إلا ضميرها ولقلته أدرجه في باب الحذف والإثبات تارة كقوله ودع ميم خيرا منهما وتارة أدرجه في باب المد والقصر كقوله وحكم صحاب قصر همزة جاءنا والتنوين ضده ترك التنوين إما لعدم الصرف وإما للإضافة وكلاهما قد استعمله بهذا اللفظ وبما يؤدي معناه كقوله ونونوا عزيز رضا نص ثمود مع الفرقان والعنكبوت لم ينون وقلب نونوا من حميد خالصة أضف أكل أضف حلا ، وقد يعبر عن التنوين بالنون نفيا وإثباتا كقوله شهاب بنون ثق معا سبأ افتح دون نون وفي درجات النون ولا نون شركا ولو تجنب ذلك لكان أحسن لأنه قد آخى بين النون والياء كما يأتي فيتحد اللفظ والضد يختلف فيقول تارة نغفر بنونه فيكون ضده الياء وضابطه أن يكون الحرف المختلف فيه فعلا مضارعا ، وحيث يكون الحرف المختلف فيه اسما تكون النون فيه عبارة عن التنوين ، وأما التحريك فضده الإسكان سواء كان التحريك مقيدا أو مطلقا وكلاهما مستعمل كقوله معا قدر حرك وحرك عين الرعب ضما وسكن معا شنآن وأرنا وأرني ساكنا الكسر وقوله اعملا أي اجعل عاملا في الحرف ما يتصف به الحرف من ارتفاع وانفتاح وانخفاض فمتى ذكر التحريك فضده السكون ومتى ذكر اسم الحركة دونها فالضد له مثاله إذا قال ارفع فضده انصب وإذا قال انصب فضده اخفض وإذا قال اخفض فضده انصب ولا مدخل للسكون في القراءة المسكوت عنها ، وإن ذكر التحريك مع واحد من هذه الثلاثة فالضد له وهو السكون ولا التفات إلى كونه قد قيد التحريك بضم أو فتح أو كسر مثاله قوله وتسأل ضموا التاء واللام حركوا برفع فلأجل قوله حركوا أخذنا السكون للقراءة الأخرى ولم نأخذ ضد الرفع ولو قال موضع حركوا برفع رفعوا لأخذنا ضد الرفع وهو النصب وكذا قوله وحمزة وليحكم بكسر ونصبه يحركه لولا قوله يحركه لكانت قراءة الباقين بفتح اللام وخفض الميم فلما قال يحركه سكن الحرفان فاعرف ذلك فإنه قل من أتقنه فهذا شرح
ما ذكر من أمثلة الأضداد في هذين البيتين وقد استعمل ألفاظا أخر كثيرة لم يذكرها هنا منها التقديم والتأخير كقوله هنا قاتلوا أخر وختامه بفتح وقدم مده ومنها القطع والوصل كقوله وشام قطع اشدد وشدد وصل وامدد ، ويجيء صل بمعنى آخر وهو وصل ميم الجمع وهاء الكناية بواو أو ياء وضده ترك ذلك ، ومنها الإهمال الدال على النقط في القراءة الأخرى كقوله في سورة الأنعام في يقض الحق شدد وأهملا ومنها الاستفهام والخبر كقوله واستفهام إنا صفا ولا وأخبروا بخلف إذا ما مت وغير ذلك مما يأتي في مكانه إن شاء الله تعالى
(60)
وَحَيْثُ جَرَى التَّحْرِيكُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ هُوَ الْفَتْحُ وَالْإِسْكانُ آخَاهُ مَنْزِلاَ
يعني إذا أطلق التحريك فمراده به الفتح دون الضم والكسر مثاله معا قدر حرك من صحاب أي افتح الدال وقال في الضم والكسر وحرك عين الرعب ضما وضيقا مع الفرقان حرك مثقلا بكسر فقيدهما ولم يطلق لفظ التحريك ، وقوله والإسكان آخاه فيه وجهان أحدهما أن السكون آخا التحريك غير المقيد في أنه متى ذكر غير مقيد فضده التحريك المطلق وهو الفتح أي كأنه قال سكن حركة الفتح كقوله ويطهرون في الطاء السكون فضد السكون هنا الفتح ، أما إذا كان ضد السكون حركة غير الفتح فإنه يقيدها كقوله وأرنا وأرني ساكنا الكسر وفي سبلنا في الضم الإسكان ، وقد استعمل الأمرين معا في نصف بيت في حرف دار ست حق في سورة الأنعام فقال وحرك وسكن كافيا فأطلق التحريك والإسكان فكان المراد بما نطق به من الحركة وبضد السكون الفتح فابن عامر افتح السين وسكن التاء والباقون سكنوا السين وفتحوا التاء ، الوجه الثاني أن تكون الهاء في آخاه عائدة على التحريك كله المطلق والمقيد والمراد بالإخوة الضدية كما قال في البيت بعده وآخيت بين النون والياء ويفهم من الإسكان المطلق أن ضده الفتح لأن ضده الحركة المطلقة ، وقد قال وحيث جرى التحريك غير مقيد هو الفتح يعني سواء جرى ذكره نصا صريحا أو أخذ ضدا لما نص على إسكانه مطلقا ولهذا قلت أنا بدل هذا البيت ما أظنه وفيا إن شاء الله تعالى بالمقصود ، (وإن أطلق التحريك نصا ولازما من الضد فهو الفتح حيث تنزلا) ، ولم يخرج عن الأصل الذي ذكره إلا قوله وفي الصعقة اقصر مسكن العين وكان حقه أن يقول مسكن الكسر وأما قوله وإسكان بارئكم فيأتي الكلام عليه في موضعه ومنزلا تمييز وهو مصدر أي آخاه نزولا أو اسم مكان أي آخا منزل كل واحد منهما الآخر وقيل هو ظرف والله تعالى أعلم
(61)
وَآخَيْتُ بَيْنَ النُّونِ وَالْيَأ وَفَتْحِهِمْ وَكَسْرٍ وَبَيْنَ النَّصْبِ وَالخَفْضِ مُنْزِلاَ
أي وبين فتحهم وكسر فحذف بين لدلالة ما قبله وبعده عليه والمعنى بالمؤاخاة أنه جعل كل اثنين مقترنين من هذه الستة يغني ذكر أحدهما عن الآخر كقوله ويدخله نون مع طلاق ويؤتيه باليا في حماه أن الدين بالفتح رفلا إن الله يكسر في كلا وانصب بينكم عم وقوم بخفض الميم وأراد بالفتح والكسر حركتي البناء وبالنصب والخفض حركتي الإعراب وفائدة محافظته على ذلك الاختصار فإن الكلمة تشتمل على حركات البناء والإعراب فإذا اتفق الخلاف في كلمة فيها حركتا إعراب وبناء من جنس واحد كضمة ورفع وفتحة ونصب وكسرة وجر أولا من جنس واحد فإذا كان الخلاف في حركة البناء قال اكسر وإذا كان في حركة الإعراب قال اخفض أو جر ولو لم يكن ملتزما لهذه التفرقة لما علم عند إطلاقه أنه قصد الحرف الذي فيه حركة البناء أو حرف الإعراب مثاله قوله والوتر بالكسر شائع فلفظ الوتر مشتمل على الكسر والفتح في الواو والجر في الراء فتعلم من قوله بالكسر أنه أراد كسر الواو وقوله وفك ارفعن تعلم أنه أراد حركة الكاف لا الفاء ثم قال وبعد اخفضن يعني آخر رقبة واكسر يعني همزة إطعام مع الرفع يعني في ميم إطعام وقد اختل عليه هذا الالتزام في موضع واحد سهوا وهو قوله في الزخرف وفي قيله اكسر واكسر الضم وصوابه اخفض في الأول لأنه للام وهو حرف إعراب وأما قوله في تضارر وضم الراء حق وهي حركة إعراب فلأجل القراءة الأخرى بالفتح لأنها حركة بناء فلم يكن له بد من الإخلال بأحدهما وأما قوله في الأنعام رسالات فرد وافتحوا وإنما هو نصب وكذا قوله في الأعراف ويقصر ذريات مع فتح تائه فسيأتي عذر حسن عنهما في موضعهما إن شاء تعالى ومنزلا حال من التاء في وآخيت
(62)
وَحَيْثُ أَقُولُ الضَّمُّ وَالرَّفْعُ سَاكِتاً فَغَيْرُهُمُ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ أَقْبَلاَ
في حيث معنى الشرط فلهذا دخلت الفاء في الجواب في قوله فغيرهم كقوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك) ، وسقطت في البيت المتقدم وحيث جرى التحريك غير مقيد هو الفتح أي فهو الفتح وقوله الضم مبتدأ محكي والرفع عطف عليه والخبر محذوف أي الضم لفلان والرفع لفلان وأقبل خبر فغيرهم لأنه مفرد لفظا وإن أضيف إلى جماعة من القراء والضم حركة بناء والرفع حركة إعراب وقوله ساكتا أي مقتصرا على ذلك غير منبه على قراءة الباقين أي أقول هذا ساكتا عن غيره مثال ذلك وفي إذ يرون الياء بالضم كللا وحتى يقول الرفع في اللام أولا فقراءة الباقين بالفتح في ياء يرون وبالنصب في لام يقول فإذا كانت قراءة الباقين ليست بفتح ولا نصب فإنه لا يسكت حينئذ بل يبين ذلك بالتقييد كقوله وجزء أو جزؤ ضم الإسكان صف ورضوان اضمم كسره يضاعف ويخلد رفع جزم وخضر برفع الخفض ويرفع بعد الجر ، واعلم أنه لم يواخ بين ما ذكر في هذا البيت بخلاف ما في البيت المتقدم فإن الفتح ليس ضده الضم وإنما ضده الكسر وكذلك النصب ضده الخفض لا الرفع وقد سبق أنه كان ينبغي له أن يذكر الجزم هنا لأنه إذا ذكر الجزم فالقراءة الأخرى بالرفع وإذا ذكر الرفع فالأخرى بالنصب وإذا ذكر النصب فالأخرى بالخفض ولا ينعكس إلا هذا الأخير لأنه آخا بين النصب والخفض فجعلهما ضدين باصطلاحه ثم سواء في ذلك المثبت والمنفي من هذه التقييدات كلها فالأضداد لا تختلف بذلك فقوله في البقرة نغفر بنونه ولا ضم معناه افتح ، واعلم أنه كما يطلق حركات البناء والإعراب فقد يقيدهما بذكر الحرف الذي هما فيه كقوله وبا عبد اضمم وفتحك سين السلم يضركم بكسر الضاد الرفع في اللام أولا وبا ربنا بالنصب وقوم بخفض الميم ومن المواضع المطلقة في حركة البناء ما يلبس نحو وضمهم في يزلقونك خالد وكان يمكنه أن يقول وضمهم يا يزلقونك والله أعلم
(63)
وَفي الرَّفْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْغَيْبِ جُمْلَةٌ عَلَى لَفْظِهَا أَطْلَقْتُ مَنْ قَيَّدَ الْعُلاَ
جملة مبتدأ خبره ما قبله وما بعد جملة صفة لها ومن موصولة أو موصوفة أي وفي هذه الثلاثة جملة مواضع في هذه القصيدة أطلقت أي أرسلت على لفظها من غير تقييد من قيد العلا أي حصله وحازه أو حصلها أو حازها لأن العلا يحتمل الإفراد والجمع أو يكون التقدير من حاز الرتب العلا في الفهم والذكاء لأنه لا يكاد يفهم مثل هذه الدقائق إلا من كان كذلك ، ومعنى البيت أن هذه الثلاثة وهي الرفع والتذكير والغيب يذكر الكلمات التي هي فيها مطلقة فيعلم من إطلاقه أنها هي المرادة أضدادها مثاله وأربع أولا صحاب ويجبي خليط وبل يؤثرون حز ، فيعلم من هذا الإطلاق أن مقصوده الرفع في أربع والياء في يجبي وهي الدالة على التذكير والياء في يؤثرون وهي الدالة على الغيب ، وكل قراءة دائرة بين الياء والتاء فهي إما تذكير أو تأنيث أو غيب أو خطاب فلا يقيدها إذا أراد تقييدها إلا بهذه العبارة نحو وذكر يكن شاف ولا يعبدون الغيب وأنث تكن عن دارم وخاطب تروا شرعا وإنما يقيد بالياء ما كان ضده النون كما سبق فقوله في سورة الأحزاب ويعمل يؤت بالياء قوله بالياء تقييد ليؤت ليكون قراءة الباقين بالنون ولا يكون تقييدا ليعمل لأن القراءة الأخرى بالتاء للتأنيث فقوله ويعمل لفظ مطلق تعلم من إطلاقه أنه أراد به التذكير ثم هذا الإطلاق في هذه الثلاثة ليس بلازم بل أخبر أنه وقع منها مواضع مطلقة ووقعت أيضا مواضع مقيدة كما سبق تمثيله في الغيب والخطاب والتذكير والتأنيث ومثله في الرفع وقل مثل ما بالرفع وقد اجتمع إطلاق الثلاثة في بيت واحد في سورة الأعراف وخالصة أصل البيت ، ويجوز أن يكون وخالصة مقيدا بما قبله من قوله ولباس الرفع كما استغنى بذكر الخفة في الأول عن الخفة في الثاني نحو ورب خفيف إذ نما سكرت دنا ما نزل الخفيف إذ عز والصادان والله أعلم
(64)
وَقبْلَ وبَعْدَ الْحَرْفِ آتِي بِكُلِّ مَا رَمَزْتُ بِهِ فِي الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ مُشْكِلاَ
أراد وقبل الحرف وبعده والمراد بالحرف كلمة القراءة والرمز في اللغة الإشارة والإيماء ، ولما كانت هذه الكلمات والحروف التي جعلها دلالة على القراء كالإشارة إليهم سماها رمزا وأراد بما رمز به في الجمع الكلمات الثماني فإنها هي التي لا يشكل أمرها في أنها رمز سواء تقدمت على الحرف أو تأخرت أما الحروف الدالة على الجمع كالثاء والخاء وما بعدهما فلها حكم الحروف الدالة على القراء منفردين وقد التزم ذكرها بعد الحرف بقوله ومن بعد ذكرى الحرف أسمى رجاله لينحصر موضعها فلا يتعدد المحال على الناظر المفكر فيها نعم إذا اجتمعت الحروف المرموزة للإفراد وللاجتماع مع شيء من كلمات الرمز تبعت الحروف الكلمات تتقدم معها وتتأخر إذ لفظ الكلمات دل على محل الرمز كقوله وحق نصير كسر واو مسومين على حق السدين ثقل نشرت شريعة حق ومنزلها التخفيف حق شفاؤه وقد نبه على ذلك قوله ومهما أتت من قبل أو بعد كلمة كما سبق ، ويحتمل أن يكون هذا المعنى مستفادا من هذا البيت وأراد بكل ما رمزت به الحروف كلها وقوله في الجمع أي آتى بها مع كلمات رمز الجمع فهو من باب قوله تعالى (فادخلي في عبادي) ، ويقوي هذا المعنى أنه لو أراد المعنى الأول لقال للجمع باللام فلما عدل إلى لفظ في من غير ضرورة دلنا على أنه لمح هذا المعنى فإذا ثبت جواز هذا قلنا يحتمل أيضا أن يكون معنى قوله ومهما أتت من قبل أو بعد كلمة هو المعنى الذي جعلناه أولا لهذا البيت أي من قبل الحرف المختلف فيه أو من بعده كلمة أي الكلمات الثماني لا التزام لها قبلية ولا بعدية بل آتى بها كذا وكذا والله أعلم ، فهذه ثلاثة أبيات فرقها وكان الأولى اتصالها وجميع كلمات الرمز اتفق له تقديمها وتأخيرها على حرف القراءة وفاء بعموم قوله بل ما رمزت به كقوله رمى صحبة وصحبة يصرف من يرتدد عم وعم بلا واو الذين فتذكر
حقا وحقا بضم الحاء فلا يحسبنهم وما موصولة أو موصوفة وإذ تعليل واسم ليس ضمير الأبيات الدال عليه آتى
(65)
وَسَوْفَ أُسَمِّي حَيْثُ يَسْمَحُ نَظْمُهُ بِهِ مُوضِحاً جِيداً مُعَمًّا وَمُخْوَلاَ
أي أذكر اسم القارئ صريحا حيث يسهل علي نظمه قبل الحرف وبعده يقال سمح به أي جاد به فالهاء في نظمه وبه عائدة على الاسم الدال عليه أسمى ، ويجوز أن تكون في نظمه عائدة على الشعر للعلم به من سياق الكلام ، وقد استقريت المواضع التي سمى فيها فوجدته قد استوعب جميع السبعة ورواتها الأربعة عشر ، ومن عادته أن لا يأتي في ترجمة واحدة برمز مع اسم صريح استمر له هذا ولم ينبه عليه وإنما علم بالاستقراء ولولا ذلك للزم الإشكال في نحو قوله في سورة النساء يصلون ضم كم صفا نافع بالرفع واحدة جلا فلم يأت بواو فاصلة بين حرف يصلون وواحدة فكان ذكره لنافع محتملا أن يكون من جملة رجال ضم يصلون ويكون جلا رمز قراءة واحدة بالرفع ولكن لما كان محافظا على تلك القاعدة بان أن قوله نافع ابتداء مسألة وجلا ليس برمز وليس لك أن تقول هو مثل قوله شاع تنزلا أي أنه رمز مكرر لما تقدم من أنه لا يرمز مع مصرح به كما أنه لا يصرح مع مرموز به وهذا كله مخصوص بالقراءة الواحدة وإلا فيجوز له في الحرف الواحد المختلف فيه أن يرمز لقراءة ويسمى للقراءة الأخرى في ذلك الحرف كما قال وقالون ذو خلف بعد قوله له دار جهلا وقوله سوى أو وقل لابن العلا وبكسره لتنوينه ، قال ابن ذكوان بعد قوله كسره في ندخلا وقوله ووجهان فيه لابن ذكوان بعد قوله لاح وجملا وكذا يصرح إذا استثنى من رمز كقوله وأن لعنة التخفيف والرفع نصه سما ما خلا البزي وإضجاع راكل الفواتح ذكره حمى غير حفص ليقضوا سوى بزيهم نفرجلا غلبوا سوى شعبة ، ثم التصريح يكون باسم القارئ أو كنيته أو نسبته أو ضميره كقوله ونقل ردا عن نافع وقطبه أبو عمرو وكوفيهم تساءلون وما قبله التسكين لابن كثيرهم يمد هشام واقفا معهم ولا
وبصروهم أدرى ، وأما حرمى فإنه وإن كان نسبة إلا أنه جعله رمزا فيجئ بالرمز معه كقوله وإستبرق حرمي نصر ، ثم تمم الناظم رحمه الله هذا البيت بألفاظ يصعب على الطالب المبتدى فهمها مع أنه مستغن عنها والبيت مفتقر إلى أن ينبه فيه على أنه إذا صرح باسم القارئ لا يأتي معه برمز فلو أنه بين ذلك في موضع تلك الألفاظ لكان أولى نحو أن يقول ، (وسوف أسمى حيث يسمح نظمه به خاليا من كل رمز ليقبلا) وموضحا حال من فاعل أسمى وقيل لفظ به الذي قبله يتعلق به ، والجيد العنق ، والمعم والمخول الكريم الأعمام والأخوال لأن كلا من الفريقين يزين ذلك الجيد ، فمعناه أوضح شيئا يشبه جيدا هذه صفته أو أوضحه إيضاح جيد بهذه الصفة ، وقال امرؤا القيس ، (بجيد معم في العشيرة مخول ) ، فأضاف الجيد إلى الموصوف بذلك وكذا وجدته في استعمالهم يصفون به الجملة لا يخصون به الجيد كقوله ، (معم لعمري في الجياد ومخول ) ، وقال يحيى بن عروة بن الزبير ، (أنا والله المعم المخول تفرقت العرب عن عمي وخالي) ، يريد عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم
(66)
وَمَنْ كانَ ذَا بَابٍ لَهُ فِيهِ مَذْهَبٌ فَلاَ بُدَّ أَنْ يُسْمَى فَيُدْرَى وَيُعْقَلاَ
أي ومن كان من القراء منفردا بمذهب مطرد قد بوب له باب في الأصول فلابد من أن يسمى ذلك الباب كقوله باب الإدغام الكبير باب هاء الكناية ونحو ذلك ، أو يكون المعنى فإني ألتزم التصريح باسمه ولا أرمزه زيادة في البيان كقوله وحمزة عند الوقف ورقق ورش فإن وافقه غيره في شيء منه أو عرض له فيه مذهب يناسبه فربما سمى ذلك الغير وربما ذكره رمزا كما في باب هاء الكناية ونقل الحركة والإمالة وقولهم لابد من كذا أي لا فرار منه والتقدير من أن يسمى وهذا آخر ما أعلمنا به مما يستعمله في نظمه رمزا وتقييدا وقد نبهت على فوائد فاتته فيها من قوله جعلت أبا جاد إلى هنا في الترتيب والنظم والاصطلاح وكنت أود به ذكر أبيات الرموز يتلو بعضها بعضا ثم ذكر كيفية استعمالها ثم اصطلاحه في الأضداد والتقييد ، وقد نظمت عشرة أبيات في موضع ثلاثة عشر بيتا وفيها من الزيادات والاحترازات كثير مما تقدم شرحه فلو أنه قال ، (حروف أبي جاد جعلت دلالة على القارئ المنظوم أول أولا) ، ثم قال ومنهن للكوفي ثاء مثلث إلى آخر الرمز في قوله ونافعهم علا ثم بين كيفية استعماله للرموز فقال ، (ومن بعد ذكرى الحرف رمز رجاله بأحرفهم والواو من بعد فيصلا) ، هذه العبارة أظهر من قوله أسمى رجاله وفيصلا حال ، (سوى أحرف لا ريب في وصلها وقد تكرر حرف الفصل والرمز مسجلا) ، أي حرف الرمز وحرف الفصل وهو الواو ، (وقبل وبعد الحرف ألفاظ رمزهم وإن صحبت حرفا من الرمز أولا) ، هذا بيت يتضمن بيتين ومعناهما فيه أظهر منه فيهما ، (وطورا أسميهم فلا رمز معهم وباللفظ أستغني عن القيد إن جلا) ، (وما كان ذا ضد غنيت بضده كصل زد ودع حرك وسهل وأبدلا) ، (ومد وتنوين وحذف ومدغم وهمز ونقل واختلاس وميلا) ، (وجمع وتذكير واغيب وخفة ورقق وغلظ أخر اقطع وأهملا) ، (وإن أطلق التحريك نصا ولازما من الضد فهو الفتح حيث تنزلا) ، (وحيث أقول الضم والجزم ساكتا فغيرهم بالفتح والرفع أقبلا) ، (وفي الرفع
والتذكير والغيب لفظها وبالفتح واليا الكسر والنون قوبلا) ، أي لفظها مغن عن تقييدها وقوبل الكسر بالفتح وقوبل النون بالياء ولم أعدد ألقاب الحركات باعتبار البناء والإعراب إذ ألقاب كل نوع تطلق على الآخر وهو مجرد اصطلاح ، والمعنى الذي ذكرناه في فائدة ذكره للمغايرة بينهما قد أعرض عنه حيث يبين حرف الإعراب والبناء كما سبق ، وقد يطلق حيث لا يتعين ذلك الحرف كما في يزلقونك فهو قليل الجدوى فالإعراض عنه أولى تخفيفا عن خاطر الطالب ، ثم شرع يثني على قصيدته ويصفها بالجزالة وصحة المعاني ويذكر ما اشتملت عليه من العلم فقال
(67)
أَهَلَّتْ فَلَبَّتْهَا المَعَانِي لُبَابُهاَ وَصُغْتُ بِهَا مَا سَاغَ عَذْباً مُسَلْسَلاَ
أي لكثرة ما أودعت من جيد المعاني كأنها كانت صرخت بها ، أي نادتها فأجابتها بالتلبية ولبابها بدل من المعاني بدل البعض من الكل وقيل بدل اشتمال وهو وهم أي لم يلبها إلا خيار المعاني وشرافها وصغت من الصياغة ويعبر بها عن إتقان الشيء وإحكامه ما ساغ أي الذي ساغ استعماله من الكلمات يقال ساغ الشراب أي سهل مدخله في الحلق وتسلسل الماء جرى في حدور وعذبا مسلسلا حالان من فاعل ساغ العائد على ما أو يكون مسلسلا صفة عذبا أي مشبها ذلك أو يكون عذبا نعت مصدر محذوف أي صوغا عذبا يستلذه السمع ويقبله الطبع
(68)
وَفي يُسْرِهَا التَّيْسِيرُ رُمْتُ اخْتَصَارَهُ فَأَجْنَتْ بِعَوْنِ اللهِ مِنْهُ مُؤَمَّلاَ
أي وفيما يسره الله سبحانه منها جميع مسائل كتاب التيسير في القراءات السبع من الطرق التي تقدم ذكرها فالتيسير مبتدأ وما قبله خبره وقيل في يسرها من صلة رمت أو اختصاره وجاز تقديمه على المصدر لأنه ظرف ورمت الشيء طلبت حصوله فأجنت أي كثر جناها منه أي من التيسير أو من الله تعالى ومؤملا حال من الهاء على التقديرين وقيل إن عادت على التيسير فهو تمييز ، ويجوز أن تكون الهاء في منه للاختصار ومؤملا حال منه ، ويجوز أن تكون من أجنيته الثمرة فيكون مؤملا مفعولا به ثانيا أي فأجنتني مؤملي ومنه على هذا يجوز تعلقه بأجنت وبمؤملا ولو قال على هذا المعنى المؤملا بالألف واللام لظهر المعنى وكان أحسن ، ومصنف التيسير هو الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني وأصله من قرطبة مقرئ محدث ، مات بدانية سنة أربع وأربعين وأربعمائة
(69)
وَأَلْفَافُهَاً زَادَتْ بِنَشْرِ فَوَائِدٍ فَلَفَّتْ حَيَاءً وَجْهَهَا أَنْ تُفَضَّلاَ
الألفاف الأشجار الملتف بعضها ببعض وفي الكتاب العزيز (وجنات ألفافا) ، أي ذوات ألفاف وحسن استعارة الألفاف هنا بعد قوله فأجنت لالتفاف المعاني فيها والأبيات كأن كل بيت ملتف بما قبله وبعده لتعلق بعضها ببعض وانضمامه إليه فتلك الألفاف نشرت فوائد زيادة على ما في كتاب التيسير من زيادة وجوه أو إشارة إلى تعليل وزيادة أحكام وغير ذلك مما يذكره في مواضعه ومن جملة ذلك جميع ، باب مخارج الحروف ثم بعد هذا استحيت أن تفضل على كتاب التيسير استحياء الصغير من الكبير والمتأخر من المتقدم وإن كان الصغير فائقا والمتأخر زائدا ، والذي لفت به وجهها أي سترته هو الرمز لأنها به كأنها في ستر وحياء مفعول له أو مصدر مؤكد مبين لمعنى لفت لأن لف الوجه يشعر بالحياء وأن تفضلا معمول حياء على حذف من أي من أن تفضلا أو هو معمول لفت على تقدير خشية أن تفضل
(70)
وَسَمَّيْتُهاَ "حِرْزَ الْأَمَانِي" تَيَمُّناً وَوَجْهَ التَّهانِي فَاهْنِهِ مُتَقبِّلاَ
الحرز ما يعتمد عليه في حفظ ما يجعل فيه ، والأماني جمع أمنية ، والتهاني جمع تهنئة وخفف ياء الأماني وأبدل همز التهاني ياء ساكنة لأنه لما استعملهما سجعتين سكنتا فخفف هذه وأبدل هذه لتتفقا ، ومعنى هذه التسمية أنه أودع في هذه القصيدة أماني طالبي هذا العلم وأنها تقابلهم بوجه مهنئ بمقصودهم وهو من قولهم فلان وجه القوم أي شريفهم ومعنى تيمنا تبركا وهو مفعول من أجله ، يريد أن هذه التسمية سبقت النظم ليكون كذلك وقوله فاهنه أي تهنأ بهذا الوجه أو بهذا الحرز من قولهم هنأت الرجل بفتح النون أهنئه بكسرها إذا أعطيته حكاه الجوهري أي أعطه القبول منك والإقبال عليه لتنال الغرض منه وكن له هنيئا كما تقول هنأني الطعام ، والمعنى ترفق به لتنال الغرض بسهولة ولا تنفر من الشيء قبل وقوفك على حقيقته وأصله فأهنئه بالهمز ثم أبدله لكونه ياء ثم حذفها للأمر فصار اهنه كارمه وفي جواز مثل هذا نظر من حيث النقل والقياس وقد بسطنا القول فيه في الشرح الكبير ومثله قول زهير ، (وإن لا يبد بالظلم يظلم ) ، وحكى ابن مجاهد في القراءات الشواذ (قال يا آدم أنبئهم) ، مثل أعطهم ومتقبلا حال أي في حال تقبلك إياه ولشيخنا أبي الحسن علي بن محمد رحمه الله من جملة أبيات ، (هذى القصيدة بالمراد وفية من أجل ذلك لقبت حرز المنى)
(71)
وَنَادَيْتُ أللَّهُمَّ يَا خَيْرَ سَامِعٍ أَعِذْنِي مِنَ التَّسْمِيعِ قَوْلاً وَمِفْعَلاَ
معنى اللهم يا الله الميم عوض عن حذف حرف النداء وقطع همزته ضرورة ثم كرر النداء بقوله يا خير سامع أعذني أي اعصمني ، والتسميع مصدر سمع بعلمه إذا عمله يريد به السمعة في الناس والشهرة ومثله راءى بعمله إذا عمله ليراه الناس فيثنوا عليه يقال فعل ذلك رثاء وسمعة وكلاهما خلق مذموم محبط للعمل كأن الناظم رحمه الله لما مدح نظمه بما مدحه به خاف أن يكون في ذلك تسميع فاستعاذ بالله سبحانه منه وقولا ومفعلا مصدران في موضع الحال من الياء في أعذني أي قائلا وفاعلا أو منصوبان على إسقاط الحافض أي فيهما وبهما ويكون العامل فيهما التسميع على هذا التقدير أو هما بدلان من ياء أعذني بدل اشتمال أي أعذ قولي وفعلي من التسميع وقيل هما تمييزان
(72)
إِلَيكَ يَدِي مِنْكَ الْأَيَادِي تَمُدُّهَا أَجِرْنِي فَلاَ أَجْرِي بِجَوْرٍ قَأَخْطَلاَ
يدي مفعول فعل مضمر أي إليك مددت يدي سائلا الإعاذة من التسميع والإجارة من الجور ثم قال الأيادي منك تمدها أي هي الحاملة لي على مدها والمسهلة لذلك أي هي التي أطمعتني في ذلك وجرأتني عليه وإلا فمن حقي أن لا أمدها حياء من تقصيري في القيام بما يجب من طاعتك ، والأيادي النعم جمع أيد وأيد جمع يد ، واليد النعمة ويجوز أن تكون يدي مبتدأ والأيادي مبتدأ ثان أي يدي الأيادي منك تمدها إليك والفاء في فلا أجري جواب الأمر وفي فأخطلا جواب النفي وهي ناصبة بإضمار أن في الموضعين وإنما سكن أجري ضرورة أو على تقدير فأنا لا أجري ، ومعنى فلا أجري بجوز أي فلا أفعله والجور ، الميل أي يميل عن طريق الاستقامة ، والخطل المنطق الفاسد وقد خطل بالكسر خطلا
(73)
أَمِينَ وَأَمْناً لِلأَمِينِ بِسِرِّهَا وَإنْ عَثَرَتْ فَهُوَ الْأَمُونُ تَحَمُّلاَ
أمين صوت أو اسم فعل بني آخره على الفتح ومعناه اللهم استجب وأمتا مفعول فعل مضمر معطوف على معنى أمين كأنه قال اللهم استجب وهب أمنا للأمين بسرها أي بخالصها وما فيها من الفوائد وهي لباب المعاني الذي تقدم ذكره ، وسر النسب محضه وأفضله ، وسر الوادي أفضل موضع فيه والباء في بسرها بمعنى على يقال هو أمين بكذا وعلى كذا والأمين الموثوق به دعاء له بالأمن وهو ضد الخوف ومن أمانته اعترافه بما فيها من الصواب وإذاعته وتعليمه ، والعثرة ، الزلة وأضافها إلى القصيدة مجازا أو إنما يريد عثرة ناظمها فيها ، والأمون الناقة الموثقة الخلق التي أمن ضعفها ، كأنه أمن منها العثور لقوتها أي إن كان فيها اختلال فاحتمله كما تتحمل هذه الناقة الأعباء الثقيلة وتصبر عليها أي يكون بمنزلة هذه الناقة في تحمل ما يراه من زلل أو خطأ فلا يوجد عنده قلق ولا نفرة بل يقيم المعاذير بجهده ويعترف بتقصير البشر عن إدراك الكمال في أمر ما ، ومن زل في موضع وأصاب في مواضع عديدة فهو على ما أجرى الله تعالى به العادة في حق الأكابر إلا من ثبتت عصمته وقوله تحملا تمييز وهو من باب قولهم هو حاتم جوادا وزهير شعرا ، وقيل هو مفعول من أجله وهو وهم
(74)
أَقُولُ لِحُرٍ وَالْمُرُوءةُ مَرْؤُهَا لِإخْوَتِهِ الْمِرْآةُ ذُو النُّورِ مِكْحَلاَ
شرع في ذكر وصايا وآداب ومواعظ والحر أراد به من تقدم شرحه في قوله هو الحر والمقول يأتي في البيت الثاني ، واعترض بباقي البيت بين القول والمقول إرادة أن ينبه على سبب النصيحة فنظم ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤمن مرآة المؤمن ، أخرجه أبو داود ، أي أنه له بمنزلة المرآة تريه عيوبه فيصلحها ، والمروءة كمال الرجولية وهي مشتقة من لفظ المرء كالإنسانية من لفظ الإنسان والمرء والإنسان مترادفان فهي عبارة عن صفات الإنسان الشريفة التي يتميز بها عن غيره من الحيوانات ، وقوله والمروءة مبتدأ أول ومرؤها مبتدأ ثان ، ومعناه رجلها الذي قامت به المروءة والمرآة خبر مرؤها والجملة خبر المروءة ولإخوته متعلق بمضاف محذوف تقديره نفع مرئها لإخوته كنفع المرآة لهم وذو النور صفة مرؤها أو خبر بعد خبر أو صفة للمرآة على تقدير التذكير فيها كما قالوا ، ليلة غم لأن معناها الشيء المنور ومكحلا تمييز كما تقول زيد ذو الحسن وجها أي مكحله ذو نور أي هو منور يشفي الداء بنوره كما تشفي العين المريضة بما يفعله المكحل فيها وهو الميل المعروف ، وقيل مكحلا حال من مرؤها أو من المرآة على حذف المضاف فيهما كما ذكرناه وهو العامل وقيل حال من ذو النور لأن معناه صاحب النور نحو زيد ذو مال مقيما
(75)
أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلاَ
هذا هو المقول للحر نادى أخاه في الإسلام والدين الذي جاز هذا النظم ببابه أي مر به كنى بذلك عن السماع به أو الوقوف عليه إنشادا أو في كتاب وكساد السلعة ضد نفاقها أي إذا رأيت هذا النظم غير ملتفت إليه فأجمل أنت أي ائت بالقول الجميل فيه والألف في آخر أجملا بدل من نون التأكيد الخفيفة أراد أجملن مثل (لنسفعا بالناصية) ، وقد استعمل ذلك كثيرا نحو فاعلمه واعملا ومسئولا اسئلا واثنان فاعقلا ويبلو واقبلا ونظمي فاعل المجتاز وكاسد السوق حال من هاء عليه وعليه مفعول ينادي القائم مقام الفاعل ، رقق الشاطبي رحمه الله خطابه بقوله أخي أجمل وتواضع بجعله نظمه كاسد السوق ولم يكسد سوقه والحمد لله بل نفقت قصيدته نفاقا واشتهرت شهرة لم تحصل لغيرها من مصنفات هذا الفن ، وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله قد أخبرنا عنه أنه قال لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله بها لأني نظمتها لله سبحانه
(76)
وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ بِالأِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلاَ
النسيج المنسوج واستعاره في بيوت الشعر تشبيها ببيوت الشعر والإغضاء التغافل عن الشيء والحسنى تأنيث الأحسن أي وبالطريقة الحسنى أو بالكلمة الحسنى والهلهل السخيف النسج ، لما عبر عن النظم بالنسيج عبر عن عيبه بما يعد عيبا في النسيج من الثياب وهو كونه سخيفا أي أحسن القول فيه وتجاوز عنه
(77)
وَسَلِّمْ لِإِحْدَىا الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ وَالأُخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلاَ
أي وسلم لإحدى الحسنيين اللتين لا ينفك عن إحداهما أي عبر عنه بأنه متصف بإدراك إحدى الحسنيين فهذا من جملة الطريقة الحسنى التي يسامح بها نسيجه أو سلمه من الطعن والاعتراض لأجل أنه لا ينفك من إحداهما أو لحصول إحدى الحسنيين له ثم بينهما يقول إصابة واجتهاد ممحل وفي رام ضمير عائد على الاجتهاد جعله طالبا للصواب كما جعله وإنما المتصف بذلك حقيقة من قام به الاجتهاد وكنى بالصوب وهو نزول المطر عن الإصابة وبالمحل عن الخطأ يقال أمحل الرجل صادف محلا والمحل انقطاع المطر ويبس الأرض فللناظم على تقدير الإصابة أجران وله على التقدير الآخر أجر واحد وذلك مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم من طلب علما فأدركه كان له كفلان من الأجر وإن لم يدركه كان له كفل من الأجر ، أخرجه الدارمي في مسنده من حديث واثلة بن الأسقع وفي الصحيحين في اجتهاد الحاكم نحو ذلك ، وفي إصابة وجهان الجر على البدل من إحدى والرفع على معنى هي إصابة ثم استأنف بيان الحسنى الأخرى فقال والأخرى اجتهاد وكأن هذا كله اعتذار عن الرموز التي اصطلح عليها وعن هذه الطريقة الغريبة التي سلكها رحمه الله سبحانه
(78)
وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَأدرِكْهُ بِفَضْلَةٍ مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ
كان هنا تامة أي وإن وجد خرق في نسيجه وحسن ذكر الخرق هنا ما تقدم من لفظ النسيج وكنى بالخرق عن الخطإ وقوله فأدركه أي فتداركه أي تلافه ملتبسا بفضلة من الرفق والأناة وليصلح الخرق من جاد مقوله وهو لسانه ونصب مقولا على التمييز ، وجودة اللسان كناية عن جودة القول به ، وقد امتثل شيخنا أبو الحسن رحمه الله أدبه في ذلك فنبه على مواضع سنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى وحذوت حذوه في ذلك في مواضع ستراها وذلك مساعدة له فيما فعله لله وإعانة له على تقريب هذا العلم على الناس ولله الحمد
(79)
وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ لَطاَحَ الْأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلاَ
صادقا حال أو أراد قولا صادقا نظم في هذا البيت مثلا مشهورا وهو لولا الوئام لهلك الأنام أي لولا موافقة الناس بعضهم بعضا في الصحبة والمعاشرة لكانت الهلكة ، وزاد الشاطبي قوله وروحه أي روح الوئام تنبيها على ما في الوئام من مصلحة الدين والدنيا ، وفي الحديث الصحيح لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، وروح الوئام حياته أراد الحياة التي تحصل بسببه لأنه سبب لبقاء الناس وتوادهم والروح يعبر به عما تحصل به الحياة ومنه قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره) ، أي بالوحي سماه روحا لحصول حياة القلوب به فكأنه قال لولا الوئام وثمرته ولكنه جاء بالمثل على طريقة قولهم يعجبني زيد وحسنه المقصود الحسن لكن جئ به معطوفا على من اتصف به مبالغة وطاح بمعنى هلك والأنام الإنس وقيل الإنس والجن وقيل كل ذي روح والقلا البغض أي لهلك الناس في الاختلاف والتباغض جعلهما ظرفين مجاز أو يكون في بمعنى الباء أي لهلكوا بهما كأنه وقع في نفسه أن من الناس من يخالفه فيما قصد من الاصطلاح ويعيبه وربما اغتيب لأجله فحذر من ذلك كله والله اعلم
(80)
وَعِشْ سَالماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ
سالما حال وصدرا تمييز أي سالما صدرك من كل خلق ردئ ، والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره سماعه لا لمصلحة دينية وقوله فغب أي لا تحضر مع المغتابين ولا توافقهم ولا تصغ إليهم فتكون في حكمهم فإن لم يستطع أن يغيب بجسمه فليغب بقلبه وسمعه ولسانه فيكون حاضرا صورة غائبا معنى ، وإنما اعتنى بذكر الغيبة من بين الأخلاق المذمومة لغلبتها على أهل العلم ومنه قيل الغيبة فاكهة القراء ، وقال بشر بن الحارث هلك القراء في هاتين الخصلتين ، الغيبة والعجب وقوله تحضر من الحضور الذي هو ضد الغيبة وحظار القدس مفعول ثان لتحضر أو على حذف حرف الجر أي في حظار القدس والحظار الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والريح ، وحظيرةالقدس الجنة وأنقى مغسلا حالان أي نقيا من الذنوب مغسلا منها ، والقدس الطهارة وقيل هو موطن في السماء فيه أرواح المؤمنين والله أعلم
(81)
وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبلاَ
يريد أن الناس قد تغيروا وفسدوا وساءت مقاصدهم وكثر نفاقهم فقل من يوثق به منهم أو يسلم من أذاهم ، وقد أدركنا الزمان الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ثعلبة الخشني عنه قال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ، أخرجهما الترمذي وقال حديث حسن غريب ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من بعدي أيام الصبر المتمسك فيهن بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين عاملا ، وقوله من لك بكذا جملة استفهامية تستعمل فيما يستبعد وقوعه وتقديره من يسمح لك به ، فمعنى البيت من يسمح لك بحصول الحالة التي هي كقبض على جمر وحصولها هو القيام فيها بحقوق الله تعالى ، وقد ذكر الشيخ الشاطبي رحمه الله زمان الصبر في قصيدة أخرى له فقال ، (إلى الله أشكو وحدتي في مصائبي وهذا زمان الصبر لو كنت حازما) ، (عليك بالاسترجاع إنك فاقد حياة العلى وابغ السلو منادما) ، أي عليك بقولك (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، على فقدك لحياة العلى ونادم السلو عنها فقد أيست منها
(82)
وَلَوْ أَنَّ عَيْناً سَاعَدتْ لتَوَكَّغَتْ سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيماً وَهُطّلاَ
أي ولو ساعدت عين صاحبها لكثر بكاؤها دائما على التقصير في الطاعة وقلة البضاعة ، ومعنى توكفت قطرت وتصببت وسالت ، قال الأزهري وكف البيت وتوكف أي هطل وقوله سحائبها أي مدامعها على وجه الاستعارة والديم جمع ديمة كجيز ولين في جمع جيزة ولينة وهما الناحية والنخلة ، والأكثر في جمع ديمة ديم بفتح الياء ، والديمة المطر الدائم ليس بشديد الوقع وهطلا جمع هاطلة والهطل تتابع المطر والدمع وسيلانه وديما وهطلا حالان من السحائب المتوكفة أي دائمة هاطلة فهي حقيقة بذلك ومن فسر توكفت هنا بمعنى توقعت فقد جهل معنى البيت وأخطأ اللغة وقد بينا ذلك في الشرح الكبير والله أعلم
(83)
وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ
الهاء في لكنها للعين أو هو ضمير القصة والهاء في قحطها للعين والقحط الجدب أي لم ينقطع الدمع إلا بسبب أن القلب قاس وذلك من علامات الشقاء ، ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى ، هذا حديث حسن صحيح ، وفي مسند البزار عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ، وضيعة الأعمار مفعول فعل مضمر والمنادى محذوف أي يا قوم احذوا ضيعة الأعمار أو يكون ناداها على معنى التلهف والتأسف نحو (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) ، وقوله تمشي حال من الأعمار أو جملة مستأنفة مفسرة مؤكدة لقوله يا ضيعة الأعمار ، أي تمر وتذهب باطلة ضائعة يقال لكل فارغ سبهلل وجاء فلان سبهلل أي غير محمود المجيء أي جاء وذهب في غير شيء والله أعلم
(84)
بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسَلاَ
أي أفدي بنفسي ومن موصولة أو موصوفة ، ومعنى استهدى طلب الهداية ، أي سلك الطريق المستقيم الموصل إلى الله تعالى والهاء في وحده لله عز وجل أو تعود على المستهدى ، فمعناه على الأول أنه مخلص لله في استهدائه لا يريد إلا الله ، وعن الثاني هو منفرد في ذلك لأنه في زمان خمول الحق وعلو الباطل والشرب النصيب ، أي إذا اقتسم الناس حظوظهم كان القرآن العزيز حظه فيكون القرآن العزيز له شربا يتروى به ومغسلا يتطهر به من الذنوب بدوام تلاوته والعمل بما فيه والتلذذ بمناجاة منزله به في ظلام الليل فمغسلا اسم مكان على التجوز أو مصدر على معنى ذا غسل
(85)
وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ
طابت معطوف على استهدى والهاء في عليه وأرضه للمستهدي وقيل هي في أرضه لله والمراد بالأرض المعروفة وعليه بمعنى له أي طابت له الأرض التي تحمله لما عنده من الانشراح بسبب صلاح حاله مع الله تعالى وكنى بقوله فتفتقت بكل عبير عن ثناء أهلها عليه واغتباطهم به ، والعبير الزعفران وقيل أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران ، ومعنى تفتقت تشققت أو يكون المعنى أن الأرض زكت وكثر خيرها بسبب هذا المستهدي لقيامه بالحق وعمله بطاعة الله من قولك طابت نفسي على كذا أي وافقتها وطابت الأرض إذا أخصبت وقيل الهاء في أرضه للقرآن العزيز استعار للقرآن العزيز أرضا كأن القارئ له حالة تفكره فيه وتدبره لمعانيه كالسالك في أرض تفتقت بكل عبير ، يشير إلى كثرة الفوائد الحاصلة له بذلك علما وعملا ، ومعنى مخضلا أي مبتلا كنى بذلك عما أفاض الله تعالى عليه من نعمه بالمحافظة على حدوده
(86)
فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ
طوبى له خبر أو دعاء والواو في والشوق للحال أي العيش الطيب له في هذه الحالة أي ما أطيب عيشه حين يبعث الشوق همه والهم هنا الإرادة أي الشوق إلى ثواب الله العظيم والنظر إلى وجهه الكريم يثير إرادته ويوقظها ويحركها مهما آنس منها فتورا أو غفلة ، ويجوز أن يكون طوبى له دعاء معترضا والشوق وما بعده معطوف على ما تقدم من الجمل أي بنفسي من استهدى وطابت عليه أرضه ومن الشوق يبعث همه والأسى الحزن والزند الذي يقدح به النار استعارة له ويهتاج أي يثور وينبعث ومشعلا حال من فاعل يهتاج أي موقدا ، وسبب هذا الحزن المشتعل التأسف على ما ضاع من العمر والخوف من التغير ، وفي طوبى بحوث أخر حسنة ذكرناها في الشرح الكبير
(87)
هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ
المجتبى المختار وفي يغدو وجهان أحدهما أنها جملة مستأنفة ، والثاني أنها حال من ضمير المجتبى ، وفي معناها أيضا وجهان أحدهما أنها من غدا يغدو إذا مر أي أنه يمر بالناس متصفا بهذه الصفات الجليلة المذكورة وهو باين منهم أي يمر بهم مرورا غير مزاحم لهم على الدنيا ولا مكاثر لهم ، والثاني أنه من غدا بمعنى صار التي من أخوات كان وعلى الناس خبرها أي رفع الله تعالى منزلته على الناس وقريبا وما بعده أخبار لها أيضا أو أحوال والمراد بقربه تواضعه أو هو قريب من الله تعالى قرب الرحمة والطاعة وهو غريب في طريقته ومذهبه لقلة أشكاله في التمسك بالحق لأنه كالقابض على الجمر مستمالا أي يطلب منه من يعرف حاله الميل إليه والإقبال عليه ويؤمل عند نزول الشدائد كشفها بدعائه وبركته أي من جملة صفاته أن يكون مطلوبا للناس لا طالبا لهم بل ينفر منهم بجهده
(88)
يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَوْلى لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعَلاَ
يعد هنا بمعنى يعتقد ويحسب فلهذا عداها إلى مفعولين وأفرد مولى لأن جميع لفظ مفرد كقوله (نحن جمع منتصر) ، وفي معناه وجهان ، أحدهما أنه أراد يعد كل واحد منهم عند الله تعالى مأمورا مقهورا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فلا يرجوهم ولا يخافهم بل يكون اعتماده واتكاله على خالقه أو لا يرى لهم نفعا ولا ضرا لأن أفعالهم تجري على سابق القضاء والقدر ، والثاني أنه أراد سيدا فلا يحتقر أحدا منهم بل يتواضع لكبيرهم وصغيرهم لجواز أن يكون خيرا منه فإن النظر إلى الخاتمة ، فعلى الأول وصفه بالتوكل وقطع طمعه عن الخلق ، وعلى الثاني وصفه بالتواضع وصيانة نفسه عن الكبر والعجب ونحوهما ، ثم علل ذلك بقوله لأنهم على ما قضاه الله أي تجري أفعالهم على ما سبق به القضاء من السعادة والشقاء وأفعلا تمييز ، ووجه جمعه اختلاف أنواع أفعال الخلق فهو كقوله تعالى (بالأخسرين أعمالا) والله أعلم
(89)
يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا عَلَى المَجْدِ لَمْ تَلْعقْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْأَلاَ
أي لا يشغل نفسه بعيب الناس وذمهم ويرى ذمه لنفسه أولى لأنه يعلم منها ما لا يعلمه من غيرها أو يرى نفسه مقصرة بالنسبة إلى غيره ممن سبقه من المجتهدين فيذمها لذلك وقوله على المجد أي على تحصيل الشرف يصفها بالتقصير عن مجاهدات الصديقين وعبر عن تحمله في ذلك المكاره والمشاق بتناوله ما هو مر المذاق ، والصبر بكسر الصاد وفتحها مع سكون الباء وبفتح الصاد مع كسر الباء ثلاث لغات كما في كبد وكتف ذكر ذلك الناظم فيما أملاه من الحواشي على قصيدته ، ومنهم من أنكر فتح الصاد مع سكون الباء وهو الشي المر الذي يضرب بمرارته المثل والألا بالمد ، شجر حسن المنظر مر الطعم وقيل إنه الدفلى وقيل إنه يؤكل ما دام رطبا فإذا يبس لسع ودبغ به واحده ألاة ، قال الشيخ في شرحه ، ولو قال لم تصبر على الصبر والألا لكان أحسن لأن الألا لا يلعق وهو نبت يشبه الشيح رائحة وطعما ولا يستعظم لعقه وإنما يستعظم الصبر عليه مع العدم وقوله ، من الصبر أي من مثل الصبر ، قلت هو من باب قولهم ، (متقلدا سيفا ورمحا ) و (علفتها تبنا وماء ) ، أي لم تلعق من الصبر ولم تأكل من الألا أي لم يتناول الأشياء المرة لعقا مما يلعق وأكلا مما يؤكل ولو قال لم تطعم لجمع الأمرين والله أعلم
(90)
وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ وَمَا يَأْتَلِى فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلاَ
أي لا يحملك ما ترى من تقصير الناس في حقك على ترك نصحهم أو لا يحملك الفقر والبؤس على ترك طاعة الرب سبحانه وتعالى وحث المخاطبين بالصفة المحمودة في أخس الحيوانات وأنجسها من المحافظة على خدمة أهله وإن قصروا في حقه ، وقد صنف أبو بكر محمد بن خلف المرزبان جزءا ذكر فيه أشياء مما وصفت الكلاب ومدحت به سماه تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ونظم الشيخ الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا البيت من ذلك أثرا ، روي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال ، أوصى راهب رجلا فقال انصح لله حتى تكون كنصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحيط بهم نصحا ، ويقصيه أي يبعده ويأتلي أي يقصر وهو يفتعل من الائتلاء وقوله تعالى (ولا يأتل أولو الفضل منكم) ، هو أيضا يفتعل ولكن من الألية وهي الحلف ومتبذلا حال من فاعل يأتلي أو خبر كن أي كن مبتذلا كالكلب والتبذل في الأمر الاسترسال فيه لا يرفع نفسه عن القيام بشيء من جليله وحقيره
(91)
لَعَلَّ إِلهَ الْعَرْشِ يَا إِخْوَتِي يَقِى جَمَاعَتَنَا كُلَّ المَكاَرِهِ هُوّلاَ
أي لعل الله تعالى يقينا إن قبلنا هذه الوصايا وعملنا بها جميع مكاره الدنيا والآخرة وهو لا حال من المكاره وهو جمع هائل يقال هالني الأمر يهولني هولا أي أفزعني فهو هائل أي مفرغ
(92)
وَيَجْعَلُنَا مِمَّنْ يَكُونُ كِتاَبُهُ شَفِيعاً لَهُمْ إِذْ مَا نَسُوْهُ فَيمْحَلاَ
يجعلنا معطوف على يقي ومن موصولة أو موصوفة وإذ ظرف شفيعا كقوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) ، فقيل هي تعليل في الموضعين كما في قوله تعالى (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا) ، قلت التقدير وإذ اعتزلتموهم أفلحتم وخلصتم فأووا الآن إلى الكهف ، وأما إذ ظلمتم فنزل المسبب عن الشيء كأنه وقع زمن سببه فكأنه انتفى نفع الاشتراك في العذاب زمن ظلمهم ، وفي بيت الشاطبي رضي الله عنه كأن الشفاعة حصلت زمن عدم النسيان لما كانت مسببة عنه ، وقال أبو علي الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه حتى كأنها واقعة وكأن اليوم ماض وقيل التقدير بعد إذ ظلمتم فهكذا يقدر بعد إذ ما نسوه وقيل العامل في إذ ويجعلنا ولا خفاء بفساد هذا ، ويقال محل به إذا سعى به إلى سلطان ونحوه وبلغ أفعاله القبيحة مثل وشى به ومكر به وانتصاب فيمحلا على جواب النفي بالفاء ، قال أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن ثنا حجاج عن ابن جريج قال حدثت عن أنس بن مالك أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن شافع مشفع وماحل مصدق من شفع له القرآن يوم القيامة نجا ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله في النار على وجهه ، وفي كتاب الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها ، وروي في ذم نسيان القرآن آثار كثيرة والمراد بها ترك العمل به فإن النسيان الترك ومنه قوله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) ، وقد فسر ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه ، القرآن شافع مشفع وماحل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار ، أخرجه مع غيره أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب ثواب القرآن ، فالحاصل أن للقرآن يوم القيامة حالتين ، إحداهما الشفاعة لمن قرأه ولم ينس العمل به ، والثانية الشكاية لمن نسيه أي تركه متهاونا به
ولم يعمل بما فيه ، ولا يبعد أن يكون من تهاون به حتى نسي تلاوته كذلك والله أعلم ، قال الشيخ وفي الدعاء ولا تجعل القرآن بنا ماحلا أي ذاكرا لما أسلفناه من المساوي في صحبته
(93)
وَبِاللهِ حَوْلِى وَاعْتِصَامِي وَقُوَّتِى وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ
حولي أي تحولي من أمر إلى أمر والاعتصام الامتناع من كل ما يشين أي ذلك كله بيد الله لا يحصل إلا بمعونته ومشيئته ، وفي الحديث الصحيح لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة ، قال ابن مسعود في تفسيرها لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله ، قال الخطابي هذا أحسن ما جاء فيه ومتجملا حال من الياء في لي أي ومالي ما أعتمد عليه إلا ما قد جللني به من ستره في الدنيا فأنا أرجو مثل ذلك في الآخرة أي ومالي إلا ستره في حال كوني متجللا به أي متغطيا به وقيل هو حال من الستر وفيه نظر
(94)
فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّنِي عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعاً مُتَوَكِّلاَ
حسبي أي كافي والعدة ما يعد لدفع الحوادث والضارع الذليل والمتوكل المظهر للعجز معتمدا على من يتوكل عليه وهما حالان من الياء في اعتمادي وهذا أخر شرح الخطبة
باب الاستعاذة
(95)
إِذَا مَا أَرَدْتَ الدَّهْرَ تَقْرَأُ فَاسْتَعِذْ جِهَاراً مِنَ الشَّيْطَانِ بِاللهِ مُسْجَلاَ
الدهر منصوب على الظرف وجهارا مصدر في موضع الحال أي مجاهرا أو جاهرا أو يكون نعت مصدر محذوف أي تعوذا جهارا أي ذا جهار ، وهذا في استعاذة القارئ على المقرئ أو بحضرة من يسمع قراءته أما من قرأ خاليا أو في الصلاة فالإخفاء له أولى ومسجلا بمعنى مطلقا لجميع القراء في جميع القرآن لا يختص ذلك بقارئ دون غيره ولا بسورة ولا بحزب ولا بآية دون باقي السور والأحزاب والآيات وهذا بخلاف البسملة على ما سيأتي ، ووقت الاستعاذة ، ابتداء القراءة على ذلك العمل في نقل الخلف عن السلف إلا ما شذ عن بعضهم أن موضعها بعد الفراغ من القراءة وقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) ، معناه إذا أردت القراءة كقوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أحدكم فليستنثر ومن أتى الجمعة فليغتسل ، كل ذلك على حذف الإرادة للعلم بها وأظهر الشاطبي رحمه الله في نظمه ذلك المقدر المحتاج إليه في الآية وهو الإرادة فقال إذا ما أردت الدهر تقرأ ولم يقل إذا ما قرأت الدهر للكل فاستعذ إشارة إلى تفسير الآية وشرحها وهو كقولك إذا أكلت فسم الله إذا أردت الأكل استغنى بالفعل عن ذكر الإرادة لشدة اتصاله بها ولكونه موجودا فيها
(96)
عَلَى مَا أَتَى في النَّحْلِ يُسْراً وَإِنْ تَزِدْ لِرَبِّكَ تَنْزِيهاً فَلَسْتَ مُجَهَّلاَ
أي استعذ معتمدا على ما أتى في سورة النحل دليلا ولفظا وهو قوله سبحانه وتعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فهذا اللفظ هو أدنى الكمال في الخروج عن عهدة الأمر بذلك ولو نقص منه بأن قال أعوذ بالله من الشيطان ولم يقل الرجيم كان مستعيذا ولم يكن آتيا باللفظ الكامل في ذلك ويسرا مصدر في موضع الحال من فاعل أتى أي أتى ذا يسر ، أي سهلا ميسرا وتيسره قلة كلماته فهو أيسر لفظا من غيره على ما سنذكره وزاد يتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى (وزدناهم هدى) ، والمفعول الأول هنا محذوف أي وإن تزد لفظ الاستعاذة تنزيها أي لفظ تنزيه يريد بذلك أن تذكر صفة من صفات الله تعالى تثني عليه بها سواء كانت صفة سلب أو ثبوت نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم أو أعوذ بالله السميع العليم فكل صفة أثبتها له فقد نزهته عن الاتصاف بضدها وقوله لربك متعلق بتنزيها ولا يمتنع ذلك من جهة كونه مصدرا فلا يتقدم معموله عليه فإن هذه القاعدة مخالفة في الظروف لاتساع العرب فيها وتجويزها من الأحكام فيها ما لم تجوزه في غيرها ، وقد ذكرت ذلك في نظم المفصل وقررناه في الشرح الكبير ، ومن منع هذا قدر لأجل تعظيم ربك وقيل لربك هو المفعول الأول دخلت اللام زائدة أي وإن تزد ربك تنزيها وقوله فلست مجهلا أي منسوبا إلى الجهل لأن ذلك كله صواب مروي وليس في الكتاب ولا في السنة الثابتة ما يرد ذلك
(97)
وَقَدْ ذَكَرُوا لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَمْ يَزِدْ وَلَوْ صَحَّ هذَا النَّقْلُ لَمْ يُبْقِ مُجْمَلاَ
أي وقد ذكر جماعة من المصنفين في علم القراءات أخبارا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره لم يزد لفظها على ما أتى في النحل ، منها أن ابن مسعود قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أعوذ بالله السميع العليم فقال قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وعن جبير بن مطعم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وكلا الحديثين ضعيف والأول لا أصل له في كتب أهل الحديث ، والثاني أخرجه أبو داود بغير هذه العبارة وهو أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه ، ثم يعارض كل واحد منهما بما هو أصح منهما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ، قال الترمذي هو أشهر حديث في هذا الباب ، وفي صحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ونفخه وهمزه ونفثه ، وأشار بقوله ولو صح هذا النقل إلى عدم صحته كما ذكرناه وقوله لم يبق مجملا أي إجمالا في الآية وذلك أن آية النحل لا تقتضي إلا طلب أن يستعيذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم فبأي لفظ فعل المخاطب فقد حصل المقصود كقوله تعالى (واسئلوا الله من فضله) ، ولا يتعين للسؤال هذا اللفظ فبأي لفظ سأل كان ممتثلا ، ففي الآية إطلاق عبر عنه بالإجمال وكلاهما قريب وإن كان بينهما فرق في علم أصول الفقه ، وأما زوال إجمال الآية لصحة ما رواه من الحديث فوجهه أنه كان يتعين ختما أو أولوية وأياما كان فهو معنى غير المفهوم من الإطلاق والإجمال إذ الألفاظ كلها في الاستعاذة بالنسبة إلى الأمر المطلق سواء يتخير فيها المكلف وإذا ثبتت الأولوية لأحدها أو تعين فقد زال التخيير والله أعلم
(98)
وَفِيهِ مَقَالٌ في الْأُصُولِ فُرُوعُهُ فَلاَ تَعْدُ مِنْهَا بَاسِقاً وَمُظَلِّلاَ
أي في التعوذ قول كثير وكلام طويل تظهر لك فروعه في الكتب التي هي أصول وأمهات ، يشير إلى الكتب المطولة في هذا العلم كالإيضاح لأبي علي الأهوازي والكامل لأبي القاسم الهذلي وغيرهما ففيها يبسط الكلام في ذلك ونحوه فطالعها وانظر فيها ولا تتجاوز منها القول الصحيح الظاهر البين المتضح الحجج وأشار إلى ذلك بقوله ، باسقا أي عاليا والمظلل ماله ظل لكثرة فروعه وورقه أي قولا باسقا وقيل مراده بالأصول علم أصول الفقه لأجل الكلام المتعلق بالنصوص فالهاء في فيه تعود إلى لفظ الرسول أو إلى النقل أو إلى المذكور بجملته ، وقد أوضحنا ذلك كله في الشرح الكبير وبالله التوفيق
(99)
وَإِخْفَاؤُهُ (فَـ) ـصلْ (أَ) بَاهُ وَعُاَتُنَا وَكَمْ مِنْ فَتىً كالْمَهْدَوِي فِيهِ أَعْمَلاَ
أي روى إخفاء التعوذ عن حمزة ونافع لأن الفاء رمز حمزة والألف رمز نافع وهذا أول رمز وقع في نظمه والواو في وعاتنا للفصل وتكررت بقوله وكم هذا هو المقصود بهذا النظم في الباطن ، وأما ظاهره فقوله فصل يحتمل وجهين ، أحدهما أنه فصل من فصول القراءة وباب من أبوابها كرهه مشايخنا وحفاظنا أي ردوه ولم يأخذوا به والوعاة جمع واع كقاض وقضاة يقال وعاه أي حفظه ، والثاني أن يكون أشار بقوله فصل إلى بيان حكمة إخفاء التعوذ وهو الفصل بين ما هو من القرآن وغيره فقوله وإخفاؤه فصل جملة ابتدائية وأباه وعاتنا جملة فعلية وهي صفة لفصل على الوجه الأول مستأنفة على الوجه الثاني لان الوعاة ما أبوا كونه فاصلا بين القرآن وغيره وإنما أبا الإخفاء الوعاة لأن الجهر به إظهار لشعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد ، ومن فوائده أن السامع له ينصت للقراءة من أولها لا يفوته منها شيء وإذا أخفى التعوذ لم يعلم السامع بالقراءة إلا بعد أن فاته من المقروء شيء وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصلاة وفي الصلاة فإن المختار في الصلاة الإخفاء لأن المأموم منصت من أول الإحرام بالصلاة ثم أشار بقوله وكم من فتى إلى أن جماعة من المصنفين الأقوياء في هذا العلم اختاروا الإخفاء وقرروه واحتجوا له وذكر منهم المهدوي وهو أبو العباس أحمد بن عمار المقرئ المفسر مؤلف الكتب المشهورة التفصيل والتحصيل والهداية وشرحها منسوب إلى المهدية من بلاد أفريقية بأوائل المغرب والهاء في فيه للإخفاء وأعملا فعل ماض خبر وكم من فتى أي أعمل فكره في تصحيحه وتقريره وفيه وجوه أخر ذكرناها في الشرح الكبير والله أعلم
باب البسملة
(100)
وَبَسْمَلَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (بِـ)سُنَّةٍ (رِ) جَالٌ (نَـ)ـمَوْهاَ (دِ)رْيَةً وَتَحَمُّلاَ
البسملة تقع في قراءة القراء في ثلاثة مواضع ، إذا ابتدءوا سورة أو جزءا وسيأتي الكلام فيهما والثالث بين كل سورتين فابتدأ ببيانه لأن الاختلاف فيه أكثر والحاجة إلى معرفته أمس وفاعل بسمل قوله رجال وبسنة حال مقدمة أي آخذين أو متمسكين بسنة وهي كتابة الصحابة رضي الله عنهم لها في المصحف وما روي من الآثار في ذلك أو تكون نعت مصدر محذوف أي بسملة ملتبسة بسنة منقولة ونموها أي نقلوها ورفعوها وأسندوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين والضمير للبسملة أو للسنة والجملة صفة لرجال أو للسنة ودرية وتحملا مصدران في موضع الحال من فاعل نموها أي ذوي درية وتحمل أي دارين متحملين لها أي جامعين بين الدراية والرواية والمبسملون من القراء هم الذين رمز لهم في هذا البيت من قوله بسنة رجال نموها درية وعلم من ذلك أن الباقين لا يبسملون لأن هذا من قبيل الإثبات والحذف ، قال أبو طاهر بن أبي هاشم صاحب ابن مجاهد أولى القولين بالصواب عندي الفصل بين السورتين بالبسملة لاتباع المصحف وللحديث الذي يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت اقرءوا ما في المصحف ثم ذكر قول ابن عمر فلم كتبت في المصحف إن لم تقرأ قال أبو طاهر ألا ترى أن ترك قراءتها كان عند ابن عمر كترك قراءة غيرها مما هو مرسوم في المصحف من سائر آي القرآن إذ كان رسمها في الخط كرسم ما بعدها لا فرق بينهما ، قال وقد أجمع مع ذلك من أئمة القراءة بالأمصار على الجهر بها بين السورتين أهل الحرمين وعاصم والكسائي وأهل الشام
(101)
وَوَصْلُكَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (فَـ)ـصَاحَةٌ وَصِلْ وَاسْكُتَنْ (كُـ)ـلٌّ (جَـ)ـلاَيَاهُ (حَـ)ـصَّلاَ
بين في صدر هذا البيت قراءة حمزة رضي الله عنه ورمز له بقوله فصاحة وبين في عجز البيت قراءة ابن عامر وورش وأبي عمرو ورمز لهم بقوله كل جلاياه حصلا وبين السورتين ظرف للوصل أو مفعول به وفصاحة خبره وإنما كان فصاحة لأنه يستلزم بيان إعراب أواخر السور ومعرفة أحكام ما يكسر منها وما يحذف لالتقاء الساكنين كآخر المائدة والنجم وبيان همزة القطع والوصل كأول القارعة و(ألهاكم التكاثر) وما يسكت عليه في مذهب خلف كآخر والضحى فكل ذلك لا يحكمه ويتقنه إلا من عرف كيف يصله وسكوت خلف لا يخرجه عن كونه وصلا فإنه لا يفعل ذلك إلا في الوصل كما سيأتي شرحه في قوله روى خلف في الوصل ، وقد نقل أبو علي الأهوازي عن حمزة أنه قال ، إنما فعلت ذلك ليعرف القارئ كيف إعراب أواخر السور أي ووصلك بين السورتين بعد إسقاط البسملة يستلزم فصاحة ثم بين قراءة غير حمزة ممن لم يبسمل فقال وصل واستكن وهذا على التخيير وإلا فالجمع بينهما محال إلا في حالتين أي صل إن شئت كما سبق لحمزة واسكت على آخر السورة إن شئت وبهذا التقدير دخل الكلام معنى التخيير وإلا فالواو ليست بموضوعة له وقد قيل إنها قد تأتي للتخيير مجازا والنون في واسكتن للتوكيد ولعله قصد بذلك أن السكوت لهم أرجح من الوصل ، وقال صاحب التيسير على اختيار ذلك لهم وقال الشيخ رحمة الله عليه أكثر أهل الأداء لما فيه من الفصل وقد روى السكت أيضا عن حمزة وجلاياه جمع جلية وهو مفعول حصل والهاء في جلاياه تعود على التخيير أي كل من أهل الأداء استوضح التخيير ورآه صوابا أو تعود على كل أي كل من القراء حصل جلايا ما ذهب إليه وصوبه والله أعلم
(102)
وَلاَ نَصَّ كَلاَّ حُبَّ وجْهٍ ذَكَرْتُهُ وَفِيهاَ خِلاَفٌ جِيدُهُ وَاضِحُ الطُّلاَ
أي لم يرد بذلك نص عن هؤلاء بوصل ولا سكوت وإنما التخيير بينهما لهم اختيار من المشايخ واستحباب منهم وهذا معنى قوله حب وجه ذكرته وكلا حرف ردع وزجر كأنه منع من اعتقاد النصوصية عن أحد منهم على ذلك ثم قال وفيها أي في البسلمة خلاف عنهم جيد ذلك الخلاف واضح الطلا أي أنه مشهور معروف عند العلماء والجيد العنق والطلا جمع طلاة أو طلية والطلية صفحة العنق وله طليتان فجاء بالجمع في موضع التثنية لعدم الإلباس كقولهم عريض الحواجب وطويل الشوارب وقيل الطلا الأعناق أنفسها فكأنه قال عنق هذا الخلاف واضح الأعناق أي هو الواضح من بينها وإنما تتضح الأعناق إذا كانت مرتفعة وارتفاع الأعناق والرءوس يكنى به عن ارتفاع المنزلة وعلو المرتبة ومنه الحديث الصحيح ، المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة ، فحاصل ما في هذا البيت أن الخلاف في البسملة مروي عن ابن عامر وورش وأبي عمرو بل أكثر المصنفين لم يذكروا عن ابن عامر إلا البسملة وقد ذكرنا عبارة المصنفين عنهم في ذلك في الشرح الكبير فإذا قلنا لا يبسملون فهل يصلون كحمزة أو يسكتون لم يأت عنهم في ذلك نص وذكر الشيوخ الوجهين لهم استحبابا وقد بسطنا الكلام في ذلك بسطا شافيا ولم نجعل في هذا البيت رمزا لأحد كما ذكر غيرنا فإنا إذا قلنا إن كلا حب رمز ابن عامر وأبي عمرو لزم من مفهوم ذلك أن يكون ورش عنه نص في التخيير وليس كذلك بل لم يرد عنه نص في ذلك ، وإن قلنا إن جيده رمز ورش لزم أن يكون ابن عامر وأبو عمرو لم يرد عنهما خلاف في البسملة وهو خلاف المنقول فلهذا قلنا لا رمز في البيت أصلا والله أعلم
(103)
وسَكْتُهُمُ الْمُخْتَارُ دُونَ تَنَفُّسٍ وَبَعْضُهُمُ فِي الْأَرْبِعِ الرُّهْرِ بَسْمَلاَ
السكت والسكوت واحد كلاهما مصدر سكت والضمير في سكتهم يعود على الثلاثة المخير لهم بين الوصل والسكت أي السكت المنسوب إليهم المختار فيه أن يكون دون تنفس فالمختار على هذا يكون مبتدأ ثانيا ويجوز أن يكون صفة السكت ويجوز أن يكون خبره كأنه لما خير أولا بين الوصل والسكت أردفه بأن السكت هو المختار على ما أشرنا إليه في قوله واسكتن وقوله بعد ذلك دون تنفس خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف أو حال من ضمير المختار والإشارة بقولهم دون تنفس إلى عدم الإطالة المؤذنة بالإعراض عن القراءة وإلا فلأواخر السور حكم الوقف على أواخر الآيات وفي أثنائها من الوقوف التامة والكافية فما ساغ ثم من السكوت فهو سائغ هنا وأكثر والله أعلم ، ثم قال وبعضهم أي وبعض المشايخ من المقرئين الذين استحبوا التخيير بين الوصل والسكوت واختاروا في السكوت أن يكون دون تنفس اختاروا أيضا البسملة لهؤلاء الثلاثة في أوائل أربع سور هي القيامة والمطففين والبلد والهمزة دون سائر السور قالوا لأنهم استقبحوا وصلها بآخر السور قبلها من غير تسمية وقوله الزهر جمع زهراء تأنيث أزهر أي المضيئة المنيرة كنى بذلك عن شهرتها ووضوحها بين أهل هذا الشأن فلم يحتج إلى تعيينها
(104)
لَهُمْ دُونَ نَصٍّ وَهْوَ فِيهِنَّ سَاكِتٌ لِحَمْزَةَ فَافْهَمْهُ وَلَيْسَ مُخَذَّلاَ
لهم أي لابن عامر وورش وأبي عمرو دون نص أي من غير نص وقد استعمل رحمه الله لفظ دون بمعنى غير كثيرا كقوله ومن دون وصل ضمها (وسلطانية) من دون هاء ولفظ غير مؤات له في المواضع كلها ، قال صاحب التيسير وليس في ذلك أثر عنهم وإنما هو استحباب من الشيوخ ثم قال وهو فيهن أي وذلك البعض يسكت في هذه المواضع الأربعة لحمزة لأن حمزة مذهبه الوصل فاكتفى له هنا بالسكت ثم قال فافهمه أي افهم هذا المذهب المذكور وليس مخذلا يقال خذله إذا ترك عونه ونصرته خذلانا وخذل عنه أصحابه تخذيلا أي حملهم على خذلانه فالتقدير وليس مخذلا عنه أصحابه ويجوز أن يكون اسم ليس عائدا على البعض في قوله وبعضهم كأن التقدير ، وليس ذلك القائل مخذلا عن نصرة هذا المذهب بل قد انتصب له من ساعده ونصره وأعانه ، وإني أقول لا حاجة إلى تكلف التسمية لأجل المعنى المذكور بل السكوت كاف للجميع كما يكتفي به لحمزة وكما يكتفي به بين الآيات الموهم اتصالها أكثر مما في هذه الأربعة أو مثلها مثل (الذين يحملون العرش) بعد قوله (إنهم أصحاب النار) وقوله (لا خير في كثير) بعد قوله (وكان فضل الله عليك عظيما) ، ويمكن حمل قول الشاطبي رحمه الله وليس مخذلا على السكوت المفهوم من قوله وهو فيهن ساكت أي ليس هذا السكوت مخذلا بل هو مختار لحمزة وغيره ولقد أعجبني قول أبي الحسن الحصري ، (ولم أقر بين السورتين مبسملا لورش سوى ماجا في الأربع الغر) ، (وحجتهم فيهن عندي ضعيفة ولكن يقرون الرواية بالنصر) قال من شرح هذا لو قلا يقرون المقالة موضع قوله الرواية لكان أجود إذ لا رواية عنهم بذلك قد أشبعت الكلام في هذا في الشرح الكبير
(105)
وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً لِتَنْزِيلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلاَ
قد سبق الكلام في مهما وأن فيها معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابها كقوله فيما مضى فكن عند شرطي وفيما يأتي فلا تقفن الدهر وهي محذوفة في هذا البيت لضرورة الشعر ، والتقدير فلست مبسلا وقيل إنما تدخل الفاء لأنه خبر بمعنى النهي وهو فاسد فإن الفاء لازمة في النهي فكيف الخبر الذي بمعناه وقوله تصلها الضمير فيه لبراءة أضمر قبل الذكر على شريطة التفسير وبراءة مفعول بدأت والقاعدة تقتضي حذف المفعول من الأول فلا حاجة إلى إضماره كقوله تعالى (آتوني أفرغ عليه قطرا) ، وقيل براءة بدل من الضمير في تصلها بمعنى أن سورة براءة لا بسملة في أولها سواء ابتدأ بها القارئ أو وصلها بالأنفال لأن البسملة لم ترسم في أولها بخلاف غيرها من السور ، ثم بين الحكمة التي لأجلها لم تشرع في أولها البسملة فقال لتنزيلها بالسيف أي ملتبسة بالسيف كنى بذلك عما اشتملت عليه السورة من الأمر بالقتل والأخذ والحصر ونبذ العهد وفيها الآية التي يسميها المفسرون آية السيف وهذا التعليل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره ، قال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وعليه الجمهور من أهل العلم ، وقد زدت في الشرح الكبير هذا المعنى بسطا وتقريرا وذكرت وجوها أخر في التعليل ونقل الأهوازي أن بعضهم بسمل في أول براءة
(106)
وَلاَ بُدَّ مِنْهاَ في ابْتِدَائِكَ سُورَةً سِوَاهاَ وَفي الْأَجْزَاءِ خُيِّرَ مَنْ تَلاَ
الضمير في منها للبسملة وفي سواها لبراءة وسورة منصوب على إسقاط الخافض أي بسورة وكذا قوله أبو بدأت براءة أي براءة يقال بدأت بالشيء أي ابتدأت به وأما بدأت الشيء من غير باء فمعناه فعلته ابتداء ومنه ، (بدأ الله الخلق) ، وسورة نكرة في كلام موجب فلا عموم لها إلا من جهة المعنى فكأنه قال مهما ابتدأت سورة سوى براءة فبسمل ولو قال ولا بد منها في ابتدا كل سورة سواها لزال هذا الإشكال ، ومعنى البيت أن القراء كلهم اتفقوا في إبتداء السور على البسملة سواء في ذلك من بسمل منهم بين السورتين ومن لم يبسمل ، ووجهه أنهم حملوا كتابة ما في المصحف على ذلك كما تكتب همزات الوصل وهي ساقطة في الدرج ، قال بعض العلماء ولا خلاف بين القراء في البسملة أول فاتحة الكتاب سواء وصلها القارئ بسورة أخرى قبلها أو ابتدأ بها ولم يذكر ذلك في القصيدة اعتمادا على أن الفاتحة في غالب الأحوال لا يكون القارئ لها إلا مبتدئا ثم قال وفي الأجزاء أي وفي ابتداء الأجزاء والأحزاب والأعشار وغير ذلك ويجمع ذلك أن تقول كل آية يبتدأ بها غير أوائل السور خير المشايخ فيه فسوغوا البسملة فيه لأنه موضع ابتداء في الجملة كما يسمى في ابتداء الوضوء والأكل والشرب ومن تلا فاعل خير وتلا بمعنى قرأ كنى بذلك عن أهل الأداء ولو كان خير بضم الخاء وكسر الياء لكان حسنا أي خير التالي وهو القارئ في ذلك والله أعلم
(107)
وَمَهْمَا تَصِلْهَا مَعْ أَوَاخِرِ سُورَةٍ فَلاَ تَقِفَنَّ الدَّهْرَ فِيهاَ فَتَثْقُلاَ
الضمير في تصلها وفيها للبسملة وأواخر جمع في موضع مفرد أي بآخر سورة أي بالكلمات الأواخر أو نقول سورة لفظ مفرد في موضع جمع لأنه ليس المراد سورة واحدة بل جميع السور فكأنه قال مع أواخر السور والدهر نصب على الظرفية وفيها بمعنى عليها كما قيل ذلك في قوله تعالى (في جذوع النخل) ، أي عليها ولا تقفن نهي نصب في جوابه فتثقلا بإضمار أن بعد الفاء ، ومعنى فتثقل أي يستثقل ويتبرم بك لأن البسملة لأوائل السور لا لأواخرها فإن ابتليت بوصلها بالآخر فتمم الوصل بأول السورة الأخرى فتتصل بهما كما تتصل سائر الآيات بما قبلها وما بعدها ، ولك أن تقطعها من الآخر والأول وتلفظ بها وحدها والأولى قطعها من الآخر ووصلها بالأول فهذه أربعة أوجه الأول مكروه والآخر مستحب وما بينهما وجهان متوسطان وهما وصل البسملة بهما وقطعها عنهما ويتعلق بالوصل والقطع أحكام ذكرناها في الكبير قال صاحب التيسير والقطع عليها إذا وصلت بأواخر السور غير جائز والله أعلم
سورة أم القرآن
(108)
وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (رَ)اوِيهِ (نَـ)ـاَصِرٌ وَعَنْدَ سِرَاطِ وَالسِّرَاطَ لِ قُنْبُلاَ
هذا من جملة المواضع التي استغنى فيها باللفظ عن القيد فلم يحتج إلى أن يقول ومالك بالمد أو مد أو نحو ذلك لأن الشعر لا يتزن على القراءة الأخرى فصار اللفظ كأنه مقيد فكأنه قال بالمد كما قال في موضع آخر وفي حاذرون المد أي قرأ مالك بالمد الكسائي وعاصم وقراءة الباقين بالقصر لأنه ضد المد والمد هنا هو إثبات الألف والقصر حذفها ، وكان التقييد ممكنا له لو قال ومالك ممدودا نصير رواته والقراءتان صحيحتان ثابتتان وكلا اللفظين من مالك وملك صفة لله تعالى ، وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الكلام في الترجيح بين هاتين القراءتين حتى إن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين وصحة اتصاف الرب سبحانه وتعالى بهما فهما صفتان لله تعالى يتبين وجه الكمال له فيهما فقط ولا ينبغي أن يتجاوز ذلك ، وممن اختار قراءة مالك بالألف عيسى بن عمر وأبو حاتم وأبو بكر بن مجاهد وصاحبه أبو طاهر بن أبي هاشم وهي قراءة قتادة والأعمش وأبي المنذر وخلف ويعقوب ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبي هريرة ومعاوية ثم عن الحسن وابن سيرين وعلقمة والأسود وسعيد بن جبير وأبي رجاء والنخعي وأبي عبد الرحمن السلمي ويحيى بن يعمر وغيرهم ، واختلف فيه عن علي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين ، وأما قراءة ملك بغير ألف فرويت أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ بها جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم منهم أبو الدرداء وابن عمر وابن عباس ومروان بن الحكم ومجاهد ويحيى بن وثاب والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جريج والجحدري وابن جندب وابن محيصن وخمسة من الأئمة السبعة وهي اختيار أبي عبيد وأبي بكر بن السراج النحوي ومكي المقري وقد بينت كلامهم في ذلك في الشرح الكبير وأنا أستحب القراءة بهما هذه تارة وهذه تارة
حتى إني في الصلاة أقرأ بهذه في ركعة وهذه في ركعة ونسأل الله تعالى اتباع كل ما صح نقله والعمل به ، ثم قال وعند سراط والسراط أي مجردا عن لام التعريف ومتصلا بها ، ثم المجرد عن اللام قد يكون نكرة نحو (إلى صراط مستقيم)-(هذا صراط مستقيم)-(أهدك صراطا سويا) ، وقد تكون معرفة بالإضافة نحو (صراط الذين أنعمت عليهم)-(صراط الله الذي)-(صراطك المستقيم)-(صراطي مستقيما) ، فلهذا لم أقل إرادة المنكر والمعرف ومثله وكسر بيوت والبيوت ونقل قران والقران بخلاف قوله في لؤلؤ في العرف والنكر شعبة فإنه لم يأت مجردا عن اللام إلا وهو نكرة ولو اقتصر على لفظ النكرة في الكل لحصل الغرض فإن لام التعريف زائدة على الكلمة كما قال ووالاه في بئر وفي بئس ورشهم والحكم عام في كل ما في القرآن من لفظ بئس مجردا من الراء والفاء واللام وفي وبئس بالواو وفي فبئس بالفاء وفي لبئس باللام وإنما نبه على ما فيه لام التعريف دون المضاف لاتحاد لفظ اللام وتعدد المضاف إليه ولو أنه قال سراط بسين قنبل كيف أقبلا وبالصاد باقيهم وزايا أشمها البيت لتم له المقصود والله أعلم ، ثم هذا أيضا مما استغنى فيه باللفظ عن القيد فكأنه قال بالسين واعتمد على صورة الكتابة فلم يخف التباسا إذ يقرأ بالصاد وقنبلا منصوب لأنه مفعول به لقوله (ل) وهذه اللام المنفردة هي فعل أمر من قوله ولى هذا هذا يليه إذا جاء بعده أي اتبع قنبلا عند هاتين اللفظتين فاقرأ قراءته فيهما بالسين في جميع القرآن وقد بين ذلك بقوله رحمه الله
(109)
بِحَيْثُ أَتَى وَالصَّادُ زَاياً اشِمَّهَا لَدَى خَلَفٍ وَاشْمِمْ لِخَلاَّدِ الاَوَّلاَ
أي بحيث أتى المذكور وهذا لفظ يفيد العموم كقوله تعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) ، والباء في بحيث زائدة ولو لم يقل بحيث أتى لاقتصر الحكم على ما في الفاتحة وهكذا كل موضع يطلق فيه اللفظ يكون مخصوصا بتلك السورةكقوله ، وخفف كوف يكذبون سبيل برفع خذ وفي شركاي الخلف فإن كان الخلاف مطردا في موضعين قال معا وإن كان في أكثر قال جميعا أو كلا أو حيث جاء ونحو ذلك ولم يخرج عن هذا إلا حروف يسيرة كالتوراة وكأين في آل عمران وقراءة الباقين بالصاد وهي أقوى القراءات لاتفاق الرسم عليها وأفصحها لغة وعلم أن قراءة الباقين بالصاد من قوله والصاد زايا أشمها كأنه قال والباقون بالصاد وأشمها زايا خلف ، ويجوز في قوله الصاد النصب والرفع والنصب هو المختار لأجل الأمر وغلط من قال هنا الرفع أجود وأصل كلمة السراط السين والصاد بدل منها لأجل قوة الطاء ومن أشمها زايا بالغ في المناسبة بينهما وبين الطاء ، وروي عن بعضهم إبدالها زايا خالصة والمعنى بهذا الإشمام خلط صوت الصاد بصوت الزاي فيمتزجان فيتولد منهما حرف ليس بصاد ولا زاي ، والإشمام في عرف القراء يطلق باعتبارات أربعة ، أحدها خلط حرف بحرف كما في الصراط وما يأتي في أصدق ومصيطر ، والثاني خلط حركة بأخرى كما يأتي في قيل وغيض وأشباههما ، والثالث إخفاء الحركة فيكون بين الإسكان والتحريك كما يأتي في (تأمنا على يوسف) ، على ظاهر عبارة صاحب التيسير ، والرابع ضم الشفتين بعد سكون الحرف ، وهو الذي يأتي في باب الوقف وفي باب وقف حمزة وهشام وآخر باب الإدغام على ما سنبين ذلك ونوضح ما فيه من الإشكالات إن شاء الله وقوله لدى خلف أي عنده ومعنى عنده أي في مذهبه وقراءته ووصل همزة القطع من قوله وأشمم لخلاد ضرورة كما صرف براءة فيما تقدم وأصله من قولهم أشممته الطيب أي أوصلت إليه شيئا يسيرا مما يتعلق به وهو الرائحة والأولا مفعول واشمم ونقل الحركة من همزة أول إلى لام التعريف فتحركت فإن لم يعتد
بالحركة كان حذف التنوين من قوله لخلاد لالتقاء الساكنين تقديرا وإن اعتد بها فحذف التنوين ضرورة وسيأتي تحقيق هذين الوجهين في مسألة عادا الأولى والمراد بالأول ، (اهدنا الصراط المستقيم) ، أي أشمه وحده خلاد دون ما بقي في الفاتحة وفي جميع القرآن وهذه إحدى الروايات عنه وقل من ذكرها ، وروي أنه يوافق خلفا في حرفي الفاتحة معا دون سائر القرآن ، وروي أنه يشم ما كان بالألف واللام فقط في الفاتحة وغيرها ، والرواية الرابعة أنه يقرأ بالصاد خالصة كسائر القراء في الفاتحة وغيرها ، قال أبو الطيب بن غلبون المشهور عن خلاد بالصاد في جميع القرآن قال وهذه الرواية هي المعول عليها وبها آخذ في فاتحة الكتاب وغيرها ، وفي الشرح الكبير تعليل هذه الروايات وبسط القول في ذلك والله أعلم
(110)
عَلَيْهِمْ إِلَيْهِمْ حَمْزَةٌ وَلَدَيْهِموُ جَمِيعاً بِضَمِّ الْهاءِ وَقْفاً وَمَوْصِلاَ
أي قرأ حمزة هذه الألفاظ الثلاثة بضم الهاء وحذف واو العطف من إليهم ضرورة وسيأتي له نظائر فموضع عليهم وإليهم ولديهم نصب على المفعولية ويجوز الرفع على الابتداء وخبره حمزة أي يقرؤهن بالضم أو قراءة حمزة والأولى أن يلفظ بالثلاثة في البيت مكسورات الهاء ليتبين قراءة الباقين لأن الكسر ليس ضدا للضم فلا تتبين قراءتهم من قوله بضم الهاء ولو قال بضم الكسر لبان ذلك ولعله أراده وسبق لسانه حالة الإملاء إلى قوله بضم الهاء وسيأتي في قوله كسر الهاء بالضم شمللا وقف للكل بالكسر مكملا ما يوضح أن الخلاف في هذا الباب دائر بين كسر الهاء وضمها ومن عادته المحافظة على قيوده وإن كان موضع الخلاف مشهورا أو لا يحتمل غيره كقوله وهاهو وهاهي أسكن ثم قال والضم غيرهم وكسر مع كونه صرح بلفظي هو وهي وهذه الكلمات الثلاث ليس منها في الفاتحة إلا عليهم وأدرج معها إليهم ولديهم لاشتراكهن في الحكم وهذا يفعله كثيرا حيث يسمح النظم به كقوله وقيل وغيض وجئ وحيل وسيق وسيء وسيت ويتركه حيث يتعذر عليه فيذكر كل واحد في سورته كقوله في الأحزاب بما يعلمون اثنان عن ولد العلا ، ثم قال في سورة الفتح بما يعملون حج وقال في البقرة وفتحك سين السلم ثم ذكر في الأنفال الذي في سورة القتال فكل واحد من الجمع والتفريق يقع مع اتحاد القارئ واختلافه وقوله جميعا أي حيث وقعت هذه الثلاث في جميع القرآن ووقفا وموصلا حالان من حمزة أي ذا وقف ووصل أي في حالتي وقفه ووصله فالموصل والوصل مثل المرجع والرجع ، واعلم أن الضم في الهاء هو الأصل مطلقا للمفرد والمثنى والمجموع نحو منه وعنه ومنهما وعنهما ومنهم وعنهم ومنهن وعنهن ، وفتحت في منها وعنها لأجل الألف وكسرت إذا وقع قبلها كسر أو ياء ساكنة نحو بهم وفيهم فمن قرأ بالضم فهو الأصل ، وإن كان الكسر أحسن في اللغة كما قلنا في الصراط وإنما اختص حمزة هذه الألفاظ الثلاثة بالضم لأن الياء فيها بدل عن الألف ولو نطق بالألف لم
يكن إلا الضم في الهاء فلحظ الأصل في ذلك وإنما اختص جمع المذكر دون المؤنث والمفرد والمثنى فلم يضم عليهن ولا عليه ولا عليهما لأن الميم في عليهم يضم عند ساكن في قراءته ومطلقا في قراءة من يصلها بواو فكان الضم في الهاء إتباعا وتقديرا وليس في عليه وعليهما وعليهن ذلك ولم يلحظ يعقوب الحضرمي هذا الفرق فضم هاء التثنية وجمع المؤنث ونحو فيهم وسيؤتيهم وقد ضم حمزة فيما يأتي (لأهله امكثوا) ، وضم حفص (عليه الله)في الفتح (وما أنسانيه إلا الشيطان) ، والضم الأصل في الكل والله أعلم
(111)
وَصِلْ ضَمَّ مِيمِ الْجَمْعِ قَبْلَ مُحَرَّكٍ (دِ)رَاكاً وَقاَلُونٌ بِتَخْيِيرِهِ جَلاَ
نبه على أن أصل ميم الجمع أن تكون مضمومة والمراد بوصل ضمها إشباعه فيتولد منه واو وذلك كقولهم في أنتم ومنهم أنتمو ومنهمو فيكون زيادة الجمع على حد زيادة التثنية هذه بواو وهذه بألف فأنتمو وأنتما كالزيدون والزيدان وقاما وقاموا وكلاهما لغة فصيحة وقد كثر مجيئها في الشعر وغيره ، قال لبيد (وهموا فوارسها وهم حكامها ) ، فجمع بين اللغتين وكذا فعل الكميت في قوله ، (هززتكمو لو أن فيكم مهزة ) ، وقال الفرزدق ، (من معشر حبهم دين وبغضهموا ) كفر ، وقوله قبل محرك احتراز مما بعده ساكن وسيأتي حكمه لأن الزيادة قبل الساكن مفضية إلى حذفها لالتقاء الساكنين ، وبقي عليه شرط آخر وهو أن لا يتصل بميم الجمع ضمير فإنه إن اتصل بها ضمير وصلت لجميع القراء وهي اللغة الفصيحة حينئذ وعليها جاء الرسم نحو (فإذا دخلتموه - فاتخذتموهم سخريا - فأسقيناكموه - أنلزمكموها - حيث وجدتموهم - حيث ثقفتموهم - وإذ يريكموهم) ، وقوله دراكا أي متابعة وهو مصدر في موضع الحال أي صلة تابعا لما نقل يقال دارك الرجل صوبه أي تابعه والدال رمز ابن كثير وصرف اسم قالون هنا وترك صرفه فيما تقدم فيكون صرفه أو ترك صرفه للضرورة وجلا أي كشف وذلك لأنه نبه بتخييره بين مثل قراءة ابن كثير وقراءة الجماعة على صحة القراءتين وثبوتهما أي يروى عن قالون الوجهان الوصل وتركه وهذا التخيير منقول أيضا عن نافع نفسه ويروى عن قالون مثل ورش وعن ابن كثير مثل الجماعة
(112)
وَمِنْ قَبْلِ هَمْزِ الْقَطْعِ صِلْهَا لِوَرْشِهِمْ وَأَسْكَنَهاَ الْبَاقُونَ بَعْدُ لِتَكْمُلاَ
كان يلزمه أن يذكر مع ورش ابن كثير وقالون لئلا يظن أن هذا الموضع مختص بورش كما قال في باب الإمالة رمى صحبة ولو قال ومن قبل همز القطع وافق ورشهم لحصل الغرض ، ومعنى البيت أن ورشا يقرأ مثل قراءة ابن كثير إذا كان بعد الميم همزة قطع وهي التي تثبت في الوصل نحو (عليهم - أأنذرتهم أم لم - ومنهم أميون - إنا معكم إنما) ، لكن ورشا يكون أطول مدا من ابن كثير على أصله وإنما خص ورش الصلة بما كان قبل همزة لحبه المد وإيثاره له ولهذا مد ما بعد الهمزة في وجه كما سيأتي وأراد أيضا الجمع بين اللغتين كما قال امرؤ القيس ، (أمرخ خيامهمو أم عشر أم القلب في إثرهم منحدر) ، وخص ذلك ليستعين بالمد على النطق بالهمز ، قال أبو علي كأنه أحب الأخذ باللغتين وكان المد قبل الهمزة مستحبا ، واعتل له المهدوي وغيره بما يلزمه من نقل الحركة على أصله ولو نقل إليها لتحركت بالضم والفتح والكسر فآثر أن يحركها بحركتها الأصلية ولا تعتورها الحركات العارضة والهاء في صلها وأسكنها تعود على ميم الجمع وإنما بين قراءة الباقين أنها بالإسكان لئلا يظن أنها بترك الصلة ولا يلزم من ترك الصلة الإسكان إذ ربما تبقى الميم مضمومة من غير صلة كما يفعل في هاء الكناية وهو المعبر عنه ثم بالقصر وسيأتي ولم يقرأ بذلك في الميم لقوتها واستغنائها عن الحركة ولما كانت الهاء خفية ضعيفة قويت بالحركة تارة وبها وبالصلة أخرى وقوله بعد متعلق بالباقون أي الذين بقوا في ذكرى بعد ذكر من وصل ولا يجوز تعلقه بأسكنها لأن من المسكنين من سبق الواصلين في الزمان كابن عامر إلا على تأويل ترتيب الذكر فيرجع إلى المعنى الأول ويجوز أن يتعلق بمحذوف ولتكملا أيضا متعلق به أي أعلمتك بقراءة الباقين بعد ما ذكرت قراءة الواصلين لتكمل وجوه القراءة في ميم الجمع وإن علقنا بعد بالباقون كان لتكملا متعلقا بأسكنها واللام للعاقبة لأنهم لم يسكنوها لهذه العلة وإنما كانت العاقبة ذلك ، ويجوز على هذا
أن يتعلق اللام بصلها والواو في وأسكنها للحال أي صلها لورش في الحال التي أسكنها فيها الباقون لتكمل وجوهها وإسكان ميم الجمع هو اللغة الفصيحة الفاشية ، وقد وافق من وصلها على ترك الصلة في الوقت وكذا في هاء الكناية ولم ينبه الناظم على ذلك في البابين والله أعلم
(113)
وَمِنْ دُونِ وَصْلٍ وضُمَّهَا قَبْلَ سَاكِنٍ لِكُلٍ وَبَعْدَ الْهَاءِ كَسْرُ فَتَى الْعَلاَ
ذكر في هذا البيت حكم ميم الجمع إذا لقيها ساكن ولا يقع ذلك الساكن في القرآن إلا بعد همزة الوصل فقال ضمها من غير صلة لكل القراء ووجه الضم تحريكها لالتقاء الساكنين واختير ذلك لأنه حركتها الأصلية فهي أولى من حركة عارضة ولم تمكن الصلة لأن إثباتها يؤدي إلى حذفها لأجل ما بعدها من الساكن وضمها فعل أمر ، وفي نسخة ضمها على أنه مبتدأ خبره ما قبله أو ما بعده ومثله (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) -(وأنتم الأعلون) ، وكان يمكن إثبات الصلة في (ومنهم الذين) ، لأن الساكن بعدها مدغم فيبقى من باب إدغام أبي عمرو (قال رب) ، وقد فعل ذلك البزي في عنهو تلهى فظلتمو تفكهون إلا أن الفرق أن إدغام أبي عمرو والبزي طارئ على حرف المد فلم يحذف له ، وكذا إدغام دابة والصاخة وخاصة فلم يحذف حرف المد خوفا من الإجحاف باجتماع إدغام طارئ وحذف ، وأما إدغام اللام في الذين ونحوه فلأصل لازم وليس بطارئ على حرف المد فإنه كذلك أبدا كان قبله حرف مد أو لم يكن فحذف حرف المد للساكنين طردا للقاعدة فلم يقرأ منهمو الذين كما لم يثبت حرف المد في مثل (قالوا اطيرنا)-(وادخلا النار)-(وفي النار) ، ثم قال وبعد الهاء كسر فتى العلا أي إن وقع قبل الميم التي قبل الساكن هاء كسر أبو عمرو الميم إتباعا للهاء لأن الهاء مكسورة وبقي الباقون على ضم الميم ثم ذكر شرط كسر الهاء فقال
(114)
مَعَ الْكَسْرِ قَبْلَ الْهَا أَوِ الْيَاءِ سَاكِناً وَفي الْوَصْلِ كَسْرُ الْهَاءِ بالضَّمَّ (شَـ)ـمْلَلاَ
أي إذا كان قبل الهاء كسر أو ياء ساكنة وقصر لفظ الهاء ضرورة وساكنا حال من الياء والياء كغيرها من الحروف يجوز تأنيثها وتذكيرها ، ومعنى شملل أسرع وفاعله ضمير عائد على كسر الهاء أي أتى بالضم في عجل جعل الكسر آتيا بالضم تجوزا واتساعا وإن كانا لا يجتمعان ، ووجهه توافق معنى القراءتين وصحتهما وحلول كل واحد منهما في محل الآخر والشين رمز حمزة والكسائي قرءا بضم الهاء والميم على الأصل في الميم والإتباع في الهاء وأبو عمرو وكسر الهاء لما قبلها والميم للإتباع والباقون ضموا الميم على الأصل لما احتاجوا إلى تحريكها لأجل الساكن بعدها وكسروا الهاء لمجاورة ما أوجب ذلك من الكسر أو الياء الساكنة كما أجمعوا على بهم وفيهم إذا لم يكن بعدها ساكن ولم يبالوا بالخروج من كسر إلى ضم لأن الكسر عارض قاله أبو علي ، وقوله في الوصل لم يكن إليه حاجة فإن الكلام فيه فكان ينبغي أن ينبه على أنه شرط في ضم الميم كما أنه شرط في ضم الهاء وإلا فإتيانه به هاهنا يوهم أنه شرط في ضم الهاء فقط وليس كذلك وكان يغني عنه أيضا قوله بعد ذلك وقف للكل بالكسر ثم مثل ما ذكره فقال
(115)
كَمَا بِهِمُ الْأَسْبَابُ ثُمَّ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ وَقِفْ لِلْكُلِّ بِالْكَسْرِ مُكْمِلاَ
ما في كما زائدة مثل ما قبل الهاء فيه كسر بقوله تعالى (وتقطعت بهم الأسباب) ومثله في (قلوبهم العجل)-(من دونهم امرأتين) ، ومثل ما قبله ياء ساكنة بقوله سبحانه (فلما كتب عليهم القتال) ومثله (يريهم الله أعمالهم)-(إذ أرسلنا إليهم اثنين) ، ثم قال وقف للكل بالكسر يعني في الهاء لأن ضمها في قراءة حمزة والكسائي كان إتباعا لضم الميم لا لمجرد كون الضم هو الأصل فإنهما لم يضما الهاء في نحو (في قلوبهم مرض) ولا ضم الكسائي نحو (أنعمت عليهم) ، وإذا كان ضم الهاء إتباعا للميم ففي الوقف سكنت الميم فلم يبق إتباع فعاودا كسر الهاء ولا يستثني من هذا إلا الكلمات الثلاث المقدم ذكرها وهي عليم وإليهم ولديهم فإن حمزة يضم الهاء فيها وقفا ووصلا فلا يؤثر الوقف في مذهبه شيئا في نحو (عليهم القتال) ، إلا سكون الميم فقط وكان ينبغي للناظم أنه ينبه على سكون الميم وقفا كما نبه على كسر الهاء ولكنه أهمله لوضوحه ومكملا حال أي قف مكملا وجوه القراءة في ميم الجمع والله أعلم
باب الإدغام الكبير
(116)
وَدُونَكَ الاُِدْغَامَ الْكَبِيرَ وَقُطْبُهُ أَبُو عَمْرٍ والْبَصْرِيُّ فِيهِ تَحَفَّلاَ
دونك هنا من ألفاظ الإغراء يقال دونك كذا أي خذه والإدغام مفعول به وقطب كل شيء ملاكه وهو ما يقوم به وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم والواو في وقطبه للحال أو للاستئناف وقطبه مبتدأ وأبو عمرو خبره ثم استأنف جملة أخرى فقال فيه تحفلا أي في أبي عمرو اجتمع الإدغام يقال تحفل المجلس وتحفل اللبن في الضرع وتحفل الوادي إذا امتلأ بالماء ويجوز أن يكون أبو عمرو عطف بيان والخبر فيه تحفلا على أن تكون الهاء في فيه للإدغام وفاعل تحفل ضمير عائد على أبي عمرو أي تحفل أبو عمرو في أمر الإدغام من جميع حروفه ونقله والاحتجاج له والقراءة به يقال احتفلت لكذا أو بكذا أو في كذا وتحفل بمعناه مثل اكتسب وتكسب أراد بذلك أن مدار الإدغام على أبي عمرو فمنه أخذ وإليه أسند وعنه اشتهر من بين القراء السبعة والإظهار والإدغام كلامهما مروي عن اليزيدي عن أبي عمرو من طريق الدوري والسوسي وغيرهما ولم أر بعد في كتاب تخصيص رواية السوسي بذلك عن الدوري وقد كان الشيخ الشاطبي رحمه الله يقرئ به من طريق السوسي ولم يوافق أبا عمرو في المشهور على شيء من الإدغام الكبير سوى حمزة في إدغام (بيت طائفة) (والصافات صفا) ، وما ذكر معها في سورتها ، واختلاف أبو طاهر بن أبي هاشم الإظهار كما هو مذهب سائر القراء قال لأن فيه إيتاء كل حرف حقه من إعرابه أو حركة بنيته التي استحقها والإدغام يلبس على كثير من الناس وجه الإعراب ، ويوهم غير المقصود من المعنى نحو قوله تعالى (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه)-(والمصور له) ، ولم يذكر أبو عبيد الإدغام في كتابه وقال في (بيت طائفة) ، القراءة عندنا هي الأولى يعني الإظهار لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا
(117)
فَفِي كِلْمَةٍ عَنْهُ مَنَاسِكَكُمْ وَمَا سَلَككُّمْ وَبَاقِي الْبَابِ لَيْسَ مُعَوَّلاَ
الأولى أن يقرأ مناسككم في هذا البيت من غير إدغام لأنه إن قرىء مدغما لزم ضم الميم وصانتها بواو وليست قراءة أبي عمرو ولا غيره هكذا نعم يجوز من حيث اللغة فلهذا نقول إن اضطررنا إليه جاز ارتكابه كقوله فيما بعد (وطبع على قلوبهم) ، لأن البيت لا يتزن إلا بالصلة وأما سلككم فلا يستقيم التلفظ به في البيت إلا مدغما ساكن الميم وأراد قوله (فإذا قضيتم مناسككم) في البقرة (وما سلككم في سقر) ، في سورة المدثر أي لم يأت الإدغام من أبي عمرو في حرفين في كلمة واحدة إلا في هذين الموضعين ، ويرد عليه نحو (يرزقكم) ، كما سيأتي في أول الباب الآتي فإنه أدغم ذلك وشبهه وجميعه من باب الإدغام الكبير في كلمة واحدة وإنما خصص هذين من باب التقاء المثلين في كلمة واحدة وما أوردناه هو من باب المتقاربين وإنما ورد عليه من جهة أنه لم يقيد بالمثلين بل قال ففي كلمة عنه ولم يتقدم قبل هذا البيت سوى أنه حضنا على الإدغام الكبير ولم يعرفنا ما هو ووقع لي أنه لو قال عوض البيت السابق ، (أبو عمرو البصري يدغم أن تحرركا والتقى المثلان في الثاني الأولا) ، لكان شرحا للإدغام الكبير الواقع في المثلين ويأتي قوله ففي كلمة عنه بعد تمهيد قاعدته وقولنا تحركا والتقى من باب قاما وقعد الزيدان وهو الوجه المختار للبصريين في باب توجه الفعلين إلى فاعل واحد فاعلم أن الإدغام الكبير ضربان ، أحدهما إدغام حرف في مثله وهو الذي ذكره في جميع هذا الباب ، والآخر إدغام حرف في مقاربه وسيأتي في الباب الآخر وشرطهما معا أن يكونا متحركين فإن سكن أول المثلين وجب له إدغام لكل بشرط أن لا يكون حرف مد ولين ثم الحرف الذي يدغم في مثله لا يخلو هو والذي يدغم فيه إما أن يلتقيا في كلمة أو في كلمتين فإن التقيا في كلمة لم يدغم إلا في هاتين الكلمتين المذكورتين في هذا البيت ، ثم قال وباقي الباب ليس معولا أي على إدغامه أو لا معول عليه بإدغام أو التقدير وإدغام باقي الباب ليس
معولا عليه فحذف المضاف كما أن التقدير ففي كلمة عنه إدغام مناسككم وباقي الباب مثل قوله تعالى بأعيننا وأتعدانني وجباههم ووجوههم وبشرككم وقد روى إدغام ذلك وهو في بأعيننا أقوى لتحرك ما قبل المثلين وفي بشرككم ضعيف لسكونه وهو حرف صحيح ، وقد أدغم أبو عمرو وغيره مواضع تأتي في سورها مثل ما مكنني وتأمروني أعبد وأتحاجوني في الله وروى إدغام (إن ولي الله) ، في آخر الأعراف وعو ضعيف لأن الحرف المدغم مشدد وسيأتي لأنه لا يدغم مثل ذلك نحو (مس سقر) والله أعلم
(118)
وَمَا كَانَ مِنْ مِثْلَيْنِ في كِلْمَتَيْهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنْ إدْغَامِ مَا كانَ أَوَّلاَ
أي وما وجد من هذا القبيل وهو التقاء مثلين في كلمتين ويلزم من ذلك أن يكون أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة بعدها فلابد من إدغام الأول في الثاني إلا ما يأتي استثناؤه مما أجمع عليه أو اختلف فيه وشرطهما أن يتحركا فإن سكن الأول أدغم للجميع وإن سكن الثاني فلا إدغام للجميع ، مثال الأول (إذ ذهب)-(وقد دخلوا) ومثال الثاني (إلى الصلاة اتخذوها)-(كمثل العنكبوت اتخذت) ، ثم هذا الإدغام في المثلين من كلمتين يأتي في القرآن في سبعة عشر حرفا لأن عشرة من باقي الحروف لم يلتق منها مثلان متحركان في القرآن وهي الجيم والخاء المعجمة والدال والذال والزاي والشين المعجمة والصاد والضاد والطاء الظاء ، وأما الألف فلا يتأتى إدغامها لأنها لا تزال ساكنة ، وأما الهمزتان إذا التقتا فأبو عمرو يسقط الأولى إن اتفقتا ويسهل الثانية إن اختلفتا على ما سيأتي بيانه فلا إدغام فيها ، وأما الحروف التي تدغم في مقاربها فستة عشر حرفا ستأتي في الباب الآتي وأما نحو قوله (أنا نذير) ، فإن المثلين التقيا لفظا ولا إدغام محافظة على حركة النون ولهذا تعمد بألف في الوقف ومما يدغم آخر سورة الرعد وإبراهيم إذا وصلا بالنسبة عند من يرى ذلك لأبي عمرو وقد ذكر فيه خلاف والله أعلم
(119)
كَيَعْلَمُ مَا فِيهِ هُدًى وَطُبِعْ عَلَى قُلُوبِهِمُ وَالْعَفْوَ وَأْمُرْ تَمَثَّلاَ
مثلى التقاء المثلين في كلمتين ، وقد تقدم أن ذلك واقع في سبعة عشر حرفا وهي الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة الأحرف بعدها مثال ذلك (لذهب بسمعهم)-(الشوكة تكون)-(ثالث ثلاثة)-(لا أبرح حتى)-(فاستغفر ربه)-(وترى الناس سكارى)-(وطبع على قلوبهم)-(ومن يبتغ غير الإسلام) ، وليس في القرآن للغين غيره (تعرف في وجوههم)-(الغرق قال آمنت)-(إنك كنت بنا)-(جعل لكم)-(تعلم ما)-(أحسن نديا)-(إلا هو والملائكة)-(إنه هو) ولا تمنع صلة الهاء ، (نودي يا موسى) ، وقوله تمثلا أي تمثل المذكور وهو إدغام أول المثلين إذا التقيا في كلمتين ، ومعنى تمثلا أي تشخص وتشكل وتصور وتبين وقد تضمن ما مثل به في هذا البيت ثلاثة أنواع عليها مدار الباب ، وذلك أن الحرف المدغم إما أن يكون قبله متحرك أولا فإن كان فمثاله (يعلم ما)-(وطبع على) ، وإن لم يكن متحركا فإما أن يكون حرف مد أو لا فإن كان فمثاله (فيه هدى) ، وإن لم يكن حرف مد فهو حرف صحيح ومثاله (خذ العفو وأمر) ، وهذا القسم إطلاق الإدغام عليه فيه مسامحة بخلاف النوعين المتقدمين وسيأتي تحقيق ذلك في آخر باب إدغام المتقاربين ، ثم ذكر ما استثنى إدغامه من المثلين فقال
(120)
إِذَا لَمْ يَكُنْ تَا مُخْبِرٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أوِ الْمُكْتَسِي تنْوِينُهُ أَوْ مُثَقَّلاَ
الضمير في يكن عائد إلى قوله ما كان أولا أي إذا لم يكن ذلك الأول من المثلين تاء مخبر أي ضميرا هو تاء دالة على المتكلم أو يكن تاء مخاطب أو يكن الذي اكتسى تنوينه أي منونا ، وأشار بذلك إلى أن نون التنوين كالحلية والزينة فلا ينبغي أن يعدم وقصر لفظ تا وأسكن ياء المكتسي ضرورة وهما منصوبان خبرين لقوله يكن ولهذا نصب أو مثقلا وعلة استثناء المنون والمثقل ظاهرة ، أما المنون فلأن التنوين حاجز بين المثلين وهو حرف صحيح معتد به في زنة الشعر ، وتنقل إليه حركة الهمزة ويكسر لالتقاء الساكنين ، وأما المثقل فيستحيل إدغامه بدون حذف أحد الحرفين من المشدد وقد حكى بعضهم إدغامه على لغة تخفيف المشدد وحكى بعضهم إدغام (من أنصار ربنا) ، ولم يعتد بالتنوين لذهابه في الوقف وحكى بعضهم إدغام (لقد كدت تركن) ، وفيه المانعان الخطاب والتشديد والعلة في استثناء تاء المخبر والمخاطب كونهما كناية عن الفاعل أو شبهه والإدغام تقريب من الحذف والفاعل لا يحذف نحو (كنت ترابا)-(وما كنت تتلو) ، وألحق بذلك التاء من أنت تكره وشبهه ليكون الباب واحدا وذكر لذلك علل أخر هي في الشرح الكبير
(121)
كَكُنْتُ تُرَاباً أَنْتَ تُكْرِهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَأَيْضاً تَمَّ مِيقاَتُ مُثِّلاَ
هذه أمثلة ما تقدم استثناؤه في البيت السابق على ترتيبه وقوله وأيضا أي أمثل النوع الرابع ولا أقتصر على تمثيل الأنواع الثلاثة وهو مصدر آض إذا رجع والضمير في مثلا عائد على المذكورات أي مثل جميع المستثنى أو يكون عائدا على لفظ (تم ميقات) ، أي وأيضا ثم ميقات مثل به كما مثل بالثلاثة الأول ومثله (مس سقر)-(وخر راكعا)-(وأحل لكم) ، وقد أورد على استثناء المنون الهاء الموصولة بواو أو ياء نحو (سبحانه هو الله)-(من فضله)-(هو خيرا لهم) ، وقيل يلزم استثناؤه أيضا فإن الواو والياء حرف حاجز بين المثلين ، زعم أبو حاتم وغيره أن الإدغام فيها غير جائز ، والفرق بينهما أن التنوين حرف مستقل مقصود في نفسه دال على تمكن الاسم وصرفه والصلة عبارة عن إشباع حركة الهاء فلم يكن لها استقلال ولهذا تحذف للساكن والتنوين يحرك ، وإذا اجتمع التنوين وحرف العلة حذف حرف العلة وبقي التنوين نحو قاض وغاز فهو أولى بالاعتداد فضلا عن الصلة والله أعلم
(122)
وَقَدْ أَظْهَرُوا فِي الْكَافِ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِذِ النُّونُ تُخْفَى قَبْلَهَا لِتُجَمَّلاَ
أراد قوله تعالى في سورة لقمان (ومن كفر فلا يحزنك كفره) ، استثناه بعضهم للعلة التي ذكرها وبعضهم أدغمه جريا على الأصل والضمير في أظهروا يعود إلى بعض المصنفين والرواة وأهل الاختيار لا إلى جميعهم لأنهم مختلفون في ذلك على ما نقلناه في الشرح الكبير وهذه العلة ذكرها أبو طاهر بن أبي هاشم وغيره وهي أن الإخفاء تقريب من الإدغام والنون تخفى قبل الكاف على ما سيأتي تقريره في باب أحكام النون الساكنة والتنوين وإذا كان الإخفاء كالإدغام فكأن الكاف ، الأولى مدغم فيها فتكون كالحرف المشدد في (مس سقر) ونحوه وذلك ممتنع الإدغام فكذا هذا وهذه العلة تقوي استثناء تاء المخبر والمخاطب في نحو كنت وأنت لأن النون أيضا مخفاة قبل التاء فكأن الناظم أراد بهذه العبارة الاستدلال على صحة استثناء تاء المخبر والمخاطب فقال إنهم أظهروا الكاف من (يحزنك) لهذه العلة وهي موجودة في تاءى المخبر والمخاطب وإذ ظرف فيه معنى التعليل وقوله لتجملا تعليل لإخفاء النون أو للإظهار والضمير فيه للكلمة أي لتجمل الكلمة ببقائها على صورتها والله أعلم
(123)
وَعِنْدَهُمُ الْوَجْهَانِ في كُلِّ مَوْضِعٍ تَسَمَّى لِأَجْلِ الْحَذْفِ فِيهِ مُعَلَّلاَ
أي وعند المصنفين من المشايخ الوجهان من الإظهار والإدغام في كل موضع التقى فيه مثلان بسبب حذف وقع في آخر الكلمة الأولى لأمر اقتضى ذلك وقد يكون المحذوف حرفا أو حرفين ، فمن نظر إلى أصل الكلمة فيظهر إذ لم يلتق في الأصل مثلان ومن نظر إلى الحالة الموجودة فيدغم وقوله تسمى فعل ماض وقع صفة لموضع وأضاف التسمية إليه تجوزا لأجل أنه وجد فيه ما اقتضى تلقينه بذلك ولو قال يسمى بضم الياء المثناة من تحت لكان حسنا وهو حقيقة الكلام ومعللا مفعول به على الوجهين وكل كلمة فيها حرف العلة وهي الألف والياء والواو موضع أحد حروفها الأصول تسمى معلة فإن طرأ عليها ما يغير حرف العلة فيها من حذف أو قلب يقال هذه كلمة معتلة وقد أعلت كأنه حصل بها إعلال ومرض فقوله معللا لا يجيء من أعله إنما هو اسم مفعول من علله ولا يبعد استعماله بمعناه مثل نزل وأنزل ثم مثل ذلك فقال
(124)
كَيَبْتَغِ مَجْزُوماً وَإِنْ يَكُ كاذِباً وَيَخْلُ لَكُمْ عَنْ عَالِمٍ طَيِّبِ الْخَلاَ
أراد (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) ، كان الأصل يبتغي بالياء فحذف للجزم وقوله مجزوما حال نبه بها على أن هذا اللفظ فرع عن غيره وإن يك أصله يكون فسكنت النون للجزم فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ثم حذفت النون تخفيفا فهذه الكلمة حذف منها حرفان ، (يخل لكم وجه أبيكم) ، أصله يخلو بالواو وإنما حذفت جوابا للأمر وقوله عن عالم متعلق بقوله في البيت السابق وعندهم الوجهان أي عند أهل الأداء الوجهان مرويان عن عالم طيب الخلا وأراد به أبا عمرو بن العلاء نفسه لأنه قطب ذلك كما سبق أو أراد به أبا محمد اليزيدي لأنه هو الذي شهر ذلك عنه ، والخلا بالقصر الرطب من الحشيش وكنى به عن العلم لأن الناس يقتبسونه كما يختلون الخلا ويقال هو طيب الخلا أي حسن الحديث ، وقال الشيخ أبو الحسن رحمه الله أراد بالعالم الطيب نفسه أو صاحب التيسير أي خذه أو أخذته أنا عنه والله أعلم
(125)
وَيَا قَوْمِ مَالِي ثُمَّ يَا قَوْمِ مَنْ بِلاَ خِلاَفٍ عَلَى الْإِدْغَامِ لاَ شَكَّ أُرْسِلاَ
أراد (يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة)-(ويا قوم من ينصرني من الله) ، أرسلا أطلقا على الإدغام بلا خلاف لا شك في ذلك إذ ليس فيهما ما يمنع الإدغام وإن توهم متوهم أنه من باب المعتل لأن أصله يا قومي بالياء ثم حذفت رد عليه وهمه فإن اللغة الفصيحة يا قوم بحذف الياء وصاحبها لا يثبت الياء بحال فصارت الياء كالعدم من حيث التزم حذفها ولأن الياء المحذوفة من يا قوم ليست من أصل الكلمة بل هي ضمير المضاف إليه بخلاف المحذوف من يبتغ ونحوه وكأن الناظم أورد هذا البيت في صورة الاحتجاج على ترجيح الإدغام في المعتل فقال قد أجمعوا على إدغام هذا فكذا ما سبق ونص صاحب التيسير على أنه من المعتل مع الإجماع على الإدغام
(126)
وَإِظْهَارُ قَوْمٍ آلَ لُوطٍ لِكَوْنِهِ قَلِيلَ حُرُوفٍ رَدَّه مَنُْ تَنَبَّلاَ
عنى بالقوم أبا بكر بن مجاهد وغيره من البغداديين منعوا إدغام (آل لوط) حيث وقع لقلة حروفه وهو في الحجر والنمل والقمر ولا أعلم ما معنى قولهم إنه قليل الحروف فإنهم إن عنوا به أنه في الخط حرفان فلا اعتبار بالخط وإنما الاعتبار باللفظ وهو باللفظ ثلاثة أحرف فهو مثل قال لهم فكما يدغم قال يدغم آل لأنه مثله وعلى وزنه فيمنع هذا التعليل من أصله ويرد على قائله فقوله وإظهار قوم مبتدأ خبره قوله رده من تنبلا يعني به صاحب التيسير وغيره أي من صار نبيلا في العلم أي من رسخت فيه قدمه أو من مات من المشايخ يعني أن هذا رد قديم ، ثم بين الذي رده به فقال
(127)
بِإِدْغاَمِ لَكَ كَيْدًا وَلَوْ حَجَّ مُظْهِرٌ بِإِعْلاَلِ ثَانِيهِ إِذَا صَحَّ لاَعْتَلاَ
قال صاحب التيسير رحمه الله قد أجمعوا على إدغام لك كيدا في يوسف وهو أقل حروفا من آل لأنه على حرفين وقيل لا يستقيم هذا الرد لأن ذلك كلمتان اللام حرف والكاف مجرورة المحل بها فهي قائمة مقام اسم مظهر وهو يوسف فكما يدغم (ليوسف في الأرض) فكذا الكاف التي هي كناية عنه ، ثم قال ولو حج مظهر أي ولو احتج من اختار الإظهار استعمل حج بمعنى احتج مثل قرأ واقترأ وكسب واكتسب والمعروف أن حج بمعنى غلب في الحجة في كقوله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى ، وإن حمل ما في البيت على هذا المعنى لم يبق لقوله لاعتلا فائدة فإن من غلب في حجته معتل أي مرتفع وأراد أن يذكر حجة سائغة غير منقوضة عليه لمن اختار الإظهار في آل لوط وهي حجة قد سبق بها جماعة من المتقدمين مثل ابن أبي هاشم وابن مهران وصاحب التيسير وهي أن ثاني حروف آل قد تغير مرة بعد مرة والإدغام تغيير آخر فعدل عنه خوفا من أن يجتمع على كلمة قليلة الحروف في نظرهم تغييرات كثيرة فيصير مثل (وإن يك كاذبا) ، وقوله إذا صح بعد قوله بإعلال ثانيه من محاسن الكلام حيث قابل الإعلال بالصحة يعني إذا صح له الإظهار من جهة النقل فإن أبا عمرو الداني قال في غير التيسير لا أعلم الإظهار فيه من طريق اليزيدي ، ثم بين إعلال ثانيه فقال
(128)
فَإِبْدَالُهُ مِنْ هَمْزَةٍ هَاءٌ أصْلُهَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ وَاوٍ ابْدِلاَ
أي إبدال ثاني إبدال حروف آل وهو الألف من حمزة أصل تلك الهمزة هاء يعني هذا القائل أن أصل الكلمة أهل فأبدلت الهاء همزة كما قيل أرقت في هرقت فاجتمعت همزة ساكنة بعد همزة مفتوحة فوجب قلبها ألفا على القياس المطرد المعروف الذي بينه في آخر باب الهمز المفرد وهذا القول وإن اعتمد عليه جماعة فهو مجرد دعوى وحكمة لغة العرب تأبى ذلك إذ كيف يبدل من الحرف السهل وهو الهاء حرف مستثقل وهو الهمزة التي من عادتهم الفرار منها حذفا وإبدالا وتسهيلا على ما عرف في بابه مع أنهم إذا أبدلوا الهاء همزة في هذا المكان فهي في موضع لا يمكن إثباتها بل يجب قلبها ألفا فأي حاجة إلى اعتبار هذا التكثير من التغيير بلا دليل وفي لفظ ماء قام دليل إبدالها همزة لتقوى على الإعراب وأما أرقت فالهاء فيه بدل من الهمزة وليست الهمزة بدلا من الهاء كذا يقول أهل النحو وهو الموافق للقياس ، ثم قال وقد قال بعض الناس يعني أبا الحسن بن شنبوذ وغيره إن ثاني آل أبدل من واو وهذا هو الصحيح الجاري على القياس ، وأهل التصانيف من اللغويين وأصحاب الأعزية لا يفسرون هذه الكلمة إلا في فصل الواو بعد الهمزة فيكون أصل الكلمة أول كما أن أصل قال قول فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا في اللفظين على قياس معروف في علم التصريف فهو مشتق من آل يئول إذا رجع أي أن آل الرجل إليه يرجعون في النسب أو الدين والمذهب ، وإذا كان من باب قال فله حكم قال فيدغم ، ولم يذكر الشاطبي رحمه الله هذا القول الثاني حجة للإظهار فإنه غير مناسب له وإنما بين أن العلماء مختلفون في أصل الكلمة فيعطى كل أصل حكمه
(129)
وَوَاوَ هُوَ الْمَضْمومُ هَاءً َكَهُووَ مَنْ فَأَدْغِمْ وَمَنْ يُظْهِرْ فَبِالْمَدِّ عَلَّلاَ
المضموم بالخفض صفة لهو وهاء منصوب على التمييز أي الذي ضمت هاؤه نحو (هو ومن يأمر بالعدل) ، احترز بذلك عما سكنت هاؤه في قراءة أبي عمرو وهو ثلاثة مواضع ، (فهو وليهم بما)-(وهو وليهم اليوم)-(وهو واقع بهم) ، والجمهور على منع الإدغام في هذه المواضع الثلاثة ، وبعضهم قال هي مظهرة بلا خلاف ووجهه أن الكلمة قد خففت بسكون هائها فلم تحتج إلى تخفيف الإدغام ، وقال صاحب التيسير لا خلاف في الإدغام ، قلت يريد في طرقه التي قرأ بها وإلا فقد ذكر الخلاف فيها أبو علي الأهوازي والحافظ أبو العلا وغيرهما قدس سرهم ، وأما المواضع المضمومة الهاء وهي ثلاثة عشر موضعا فإدغامها ظاهر ولهذا جزم بقوله فأدغم ومنهم من أظهرها لأن الواو زيدت تقوية لهاء الضمير ففي إدغامها كالإخلال بما زيدت لأجله ولأن الواو تشدد في لغة قوم من العرب والتخفيف هو اللغة الفصيحة التي نزل بها القرآن ففي إدغامها ما يؤدي إلى أن الواو تشتبه بتلك اللغة ، وقيل أيضا إن تشديد الواو هو الأصل ثم خففت فاستغني بذلك التخفيف عن تخفيف الإدغام وكل هذه علل حسنة للإظهار لا بأس بها وقول الشاطبي ومن يظهر فبالمد عللا يوهم أنه لم يعلله بغير ذلك ، ثم تقديره أن يقال إذا كان قبل الواو ضمة وقصد إلى إدغامها وجب إسكانها للإدغام فتصير حرف مد ولين وحروف المد واللين لا تدغم لأداء الإدغام إلى ذهاب المد مثل قالوا وأقبلوا وهذا خطأ من المعلل فإن هذا مد تقديري لا ثبوت له فلا يلزم من منع الإدغام حيث كان المد محققا أن يمتنع أيضا إذا كان المد مقدرا
(130)
وَيَأْتِيَ يَوْمٌ أَدْغَمُوهُ وَنَحْوَهُ وَلاَ فَرْقَ يُنْجِي مَنْ عَلَى الْمَدِّ عَوَّلاَ
نقض على من علل بالمد في إظهار الواو بأنه يلزمه مثل ذلك في الياء في يأتي يوم ونودي يا موسى وهذا مدغم عند من يرى الإظهار في هو ومن ونحوه ولا فرق بينهما فيما يرجع إلى المد فإن ما قرره في الواو موجود مثله في الياء فهذا معنى قوله ولا فرق ينجي من على المد عولا ، وأما قوله (فهي يومئذ واهية) ، فينبغي أن يكون حكمه حكم قوله تعالى وهو واقع بهم فإن الكلمة خففت بإسكان الهاء فيهما والضمير في أدغموه عائد على معنى من في قوله ومن يظهر فبالمد عللا
(131)
وَقَبْلَ يَئِسْنَ الْيَاءُ في الَّلاءِ عَارِضٌ سُكُونًا أَوَ اصْلاً فَهُوَ يُظْهِرُ مُسْهِلاَ
أي فأبو عمرو يظهره راكبا للطريق الأسهل يقال أسهل إذا ركب السهل يعني أنه أظهر الياء من قوله تعالى (واللائي يئسن من المحيض) ، بلا خلاف وعلل ذلك بأن الياء عارض سكونها أو أصلها فقوله سكونا أو أصلا منصوبان على التمييز ونقل حركة همزة أصلا إلى واو أو فكأنه أراد تعليلين ولو أراد أن يجعل المجموع علة واحدة لقال سكونا وأصلا أي سكونها عارض وأصلها عارض وكلا التعليلين غير مستقيم ، أما السكون العارض فغير صالح لأن يمنع الإدغام كما لم يمنع في نحو (فاصبر لحكم)-(ومن لم يتب فأولئك) ، وأما إن كانت في نفسها عارضة وأصلها همزة فكان ينبغي أن يجري فيها الوجهان المتقدمان في يبتغ ونحوه نظرا إلى الأصل وإلى ما عليه اللفظ الآن وفي قوله عارض أصلا نظر فإن الأصل هو الهمز وليس بعارض ولو قال لفظا موضع أصلا لكان أبين وشيخنا أبو الحسن زاد في شرحه بآخره أن أصلا منصوب على المصدر كقولك ما فعلته أصلا ، قال وأو بمعنى بل أو بمعنى الواو فكأنه جعل المجموع علة واحدة والظاهر خلافه ، ثم الصواب أن يقال لا مدخل لهذه الكلمة في هذا الباب بنفي ولا إثبات فإن الياء كما زعم الناظم ساكنة وباب الإدغام الكبير مختص بإدغام المتحرك وإنما موضع ذكر هذه قوله وما أول المثلين فيه مسكن فلا بد من إدغامه وعند ذلك يجب إدغامه لسكون الأول وقبله حرف مد فالتقاء الساكنين فيه على حدهما ، على أني أقول سبب الإظهار عدم التقاء المثلين بسبب أن أبا عمرو رحمه الله كان يقرأ هذه الكلمة بتليين الهمزة بين بين وعبروا عنه بياء مختلسة الكسرة والهمزة المسهلة كالمحققة ، قال أبو بكر بن مهران ولا تدغم واللائي يئسن لأنها ليست بياء خالصة فيدغمها في مثلها إنما هي همزة ملينة ولو كانت ياء خالصة لأدغم ، قلت ومن عبر من الرواة عن قراءة أبي عمرو بإسكان الياء خفي عنه أمر التسهيل فلم يضبطه والله أعلم ، وقد نظمت هذا التعليل الصحيح فقلت ، (وقبل يئسن الياء في اللاء همزة ملينة حقا
فأظهر مسهلا).
باب إدغام الحرفين المتقاربين في كلمة و في كلمتين
(132)
وَإِنْ كِلْمَةٌ حَرْفَانِ فِيهَا تَقَارَبَا فإِدْغَامُهُ لِلْقَافِ في الْكافِ مُجْتَلاَ
كلمة فاعل فعل مضمر أي وإن وجدت كلمة وكان ينبغي أن يكون بعدها ما يفسر هذا المضمر كقوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك) ، فالوجه أن يقول وإن كلمة وجد فيها حرفان تقاربا فيكون حرفان فاعل فعل مضمر ، أو نقول حرفان مبتدأ وتقاربا خبره ولك أن تجعل حرفان بدلا من كلمة بدل بعض من كل فيكون تقاربا نعت حرفان وهو تفسير للمضمر المقدر أي وإن تقارب حرفان في كلمة والهاء في فإدغامه تعود على أبي عمرو وهو مبتدأ ومجتلى خبره أي إدغام أبي عمرو للقاف في الكاف مكشوف منظور إليه أي أنه مشهور ظاهر ويجوز أن يكون الخبر قوله للقاف في الكاف كما تقول إكرامي لزيد أي أخصه بذلك دون غيره فكذا هاهنا أي إدغام أبي عمرو في الحرفين المتقاربين في كلمة كائن للقاف في الكاف لا غير ومجتلى على هذا في موضع نصب على الحال ، ومعنى البيت أنه لم يدغم من كل حرفين متقاربين التقيا في كلمة واحدة سوى القاف في الكاف بشطرين يأتي ذكرهما في البيت الآتي فنحو متجاورات ويتدبرون والمتطهرين ويتذكرون والمتصدقين لا يدغمه وإن كانت التاء تدغم في الجيم والدال والطاء والذال والصاد على ما سيأتي في هذا الباب وغيره ، ثم ذكر الشرطين فقال
(133)
وَهذَا إِذَا مَا قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ مُبِينٌ وَبَعْدَ الْكافِ مِيمٌ تَخَلَّلاَ
ما زائدة مثلها في قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة) ، أي وهذا الإدغام كائن إذا استقر قبل القاف حرف متحرك ووقع بعد الكاف ميم وإنما اشترطا ليكونا على منهاج ما أدغم من المثلين في كلمة وهو (مناسككم - وما سلككم) وقوله (مبين) أي بين ولم يحترز به من شيء وإنما هو صفة مؤكدة ، ومعنى تخلل من قولهم تخلل المطر إذا خص ولم يكن عاما أي تخلل أبو عمرو بإدغامه ذلك ولم يعم جميع ما التقت فيه القاف بالكاف ، وقيل الضمير في تخلل للميم من تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم أي تخلل الميم الحروف التي قبله وبعده والله أعلم
(134)
كَيَرْزُقْكُّمُ وَاثقَكُّمُوا وَخَلَقكُّمُو وَمِيثَاقَكُمْ أظْهِرْ وَنَرْزُقُكَ انْجلاَ
مثل في النصف الأول من البيت ما وجد فيه الشرطان من التحريك والميم فأتى بثلاثة أمثلة فالكلمة الأولى يمكن أن تقرأ في البيت مدغمة وغير مدغمة وما بعدها لا يتزن الشعر إلا بقراءتهما مدغمتين ويلزم الإدغام في الثلاثة صلة الميم بواو ثم قال وميثاقكم أظهر لأجل فقد أحد الشرطين وهو تحريك ما قبل القاف ونرزقك أيضا أظهره لفقد الشرط الثاني وهو عدم وجود الميم في آخره ومعنى انجلى انكشف أي ظهر الأمر بتمثيل المدغم وغير المدغم وميثاقكم في البيت بفتح القاف لأنه مفعول أظهر وقد جاء في القرآن منصوبا في البقرة ومرفوعا في الحديد على قراءة أبي عمرو فلم يمكن أن تجعله حكاية إذ يعم المحكي في الموضعين وقد روى إدغام ما قبله ساكن وروى ترك الإدغام في المتحرك أيضا وأما قوله في سورة المرسلات (ألم نخلقكم) فمجمع على إدغامه
(135)
وَاِدْغَامُ ذِي التَّحْرِيمِ طَلَّقَكُنَّ قُلْ أَحَقُّ وَبِالتَّأْنِيثِ وَالْجَمْعِ أُثْقِلاَ
أي وقل إدغام طلقكن أحق مما تقدم ذكره من يرزقكم ونحوه أي أولى بالإدغام منه لأن الإدغام أريد به التخفيف وكلما كانت الكلمة أثقل كان أشد مناسبة للإدغام مما هو دونها في الثقل وقد وجد فيه أحد الشرطين وهو تحريك ما قبل القاف وفقد الشرط الثاني وهو الميم ولكن قام مقامها ما هو أثقل منها وهو النون لأنها متحركة ومشددة ودالة على التأنيث والميم ساكنة خفيفة دالة على التذكير فهذا وجه الأحقية بذلك والناظم جعله قد ثقل بالتأنيث والجمع ، أما التأنيث فهو ما أشرنا إليه وهو أحد أسباب الترجيح الثلاثة وأما الجمع فمشترك فإن الميم أيضا دالة على الجمع فإن أردت نظم المرجحات الثلاثة فقل ، (وطلقكن ادغم أحق فنونه محركة جمع المؤنث ثقلا) ، أي هو أحق يعني الإدغام ومحركة وما بعدها أخبار لقوله فنونه والنون تؤنث وتذكر فلهذا أنث محركة وذكر ثقلا ، وكان ابن مجاهد وعامة أصحابه يظهرونه لما يلزم في الإدغام من توالي ثلاثة أحرف مشددة اللام والكاف والنون ، واختلف الرواة عن أبي عمرو في إدغامه ، واختلف المشايخ في الاختيار من ذلك فمنهم من أظهره للاستثقال المذكور ومنهم من أدغمه وقال هو أحق لما تقدم ذكره وقول الناظم ذي التحريم أي صاحب التحريم أي الحرف الذي في سورة التحريم وقوله (طلقكن) بيان له
(136)
وَمَهْماَ يَكُونَا كِلْمَتَيْنِ فَمُدْغِمٌ أَوَائِلِ كِلْمِ الْبَيْتِ بَعْدُ عَلَى الْوِلاَ
أي ومهما يكن المتقاربان ذوي كلمتين أي إذا التقيا في كلمتين على حد التقاء المثلين فيما تقدم فأبو عمرو مدغم من ذلك الحروف التي هي أوائل كلم البيت الآتي عقيب هذا البيت فهذا معنى قوله بعد على الولا أي بعد هذا البيت وهو الذي يليه والولاء المتابعة وهو ممدود وقف عليه وأبدل همزه فانقصر وأراد خذ كلم هذا البيت الآتي على الولاء أي استوعبها يتلو بعضها بعضا والكلم جمع كلمة كلاهما بفتح الكاف فكسر اللام ويجوز فيهما إسكان اللام ونقل حركتها إلى الكاف فتكسر فعلى هذا استعملهما في هذا البيت وغيره والكلمة في عرف القراء الحروف المتصلة ما لم يحسن قطع شيء منها مما قبلها فنحو (خلقكم-وطلقكن) كلمة وهي كلمات عند أهل النحو وبما ومنه كل واحدة عندهم كلمتان وهي في العرف كلمة ، والغرض من هذا أن تعلم أن كلمات البيت الآتي التي تأخذ حروفها الأوائل ست عشرة كلمة فخذ منها ستة عشر حرفا ثم ذكرها فقال
(137)
(شِ)فَا (لَـ)ـمْ (تُـ)ـضِقْ (نَـ)ـفْسًا (بِـ)ـهَا (رُ)مْ(دَ) وَا(ضَ)نٍ (ثَـ)ـوَى (كَ)ـانَ (ذَ)ا (حُـ)سْنٍ (سَـ)ـأى (مِـ)ـنْهُ (قَـ)ـدْ (جَـ)ـلاَ
اعلم أنه أتى في مثل هذا البيت الذي يذكر فيه كلما لأجل حروف أوائلها تضمنها معاني قصدها من غزل ومواعظ لئلا يبقى كلاما منتظما صورة لا معنى تحته وقد ضمن هذا البيت التغزل بامرأة من نساء الآخرة وسماها شفا وقد سمت العرب بذلك النساء وكثر في أمهات القرشيين وهو ممدود وقصره ضرورة ولم ينونه لأنه جعله علما على مؤنث وقوله لم تضق نفسا أي أنها حسنة الخلق ونصب نفسا على التمييز ورم أي اطلب بها أي بوصلها وقربها دواء ضن وقصر دواء ضرورة أي دواء رجل ضن على أنه اسم منقوص ولو قال ضنا بالفتح على أنه مقصور لكان معناه أيضا حسنا والضنا بالقصر المرض يقال منه ضنى بالكسر ضنا شديدا فهو رجل ضنا وضن مثل حرا وحر قاله الجوهري ومعنى ثوى أقام وسأى على وزن رأى مقلوب ساء على وزن جاء وهو بمعناه ومثله له نأى وناء أي ساءت حاله من أجل الضنا أو كانت مساءته ناشئة من الضنا وقوله قد جلا أي كشف الضنا أمره فالضمير في ثوى ومنه وجلا للضنا الدال عليه لفظ ضن وفي كان وسآى لضن وهذه جمل أتى بها من غير حرف عطف استئنافا لا أخبارا بعد أخبار كقوله تعالى (يدبر الأمر يفصل الآيات)-(الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) ، وقيل المعنى سأى من يرى ذلك منه أو ساءه الضنا على أن من زائدة وسيذكر كل حرف من هذه الستة عشر فيما ذا يدغم ولكن لم يلتزم ترتيب ما في هذا البيت بل أتى به على ترتيب صاحب التيسير ولم يمكنه جمع الحروف على ذلك الترتيب في بيت له معنى مستقيم فخالف الترتيب في جميع حروفها ثم شرط في إدغام هذه الحروف الستة عشر أن تكون سالمة من أربعة أوصاف فقال
(138)
إِذَا لَمْ يُنَوَّنْ أَوْ يَكُنْ تَا مُخَاطَبٍ وَمَا لَيْسَ مَجْزُومًا وَلاَ مُتَثَقِّلاَ
أ ي إذا لم يكن الحرف المدغم موصوفا بإحدى هذه الصفات الأربع فالمنون وتاء المخاطب والمثقل مضى الكلام عليها في باب المثلين وإذا امتنع إدغام ذلك هناك فهنا أولى ، فمثال المنون (في ظلمات ثلاث)-(شديد تحسبهم)-(رجل رشيد)-(نذير لكم) ومثال الخطاب (كنت ثاويا)-(فلبثت سنين)-(دخلت جنتك)-(خلقت طينا) ومثال المثقل (أو أشد ذكرا)-(للحق كارهون)-(لا يضل ربي)-(لنؤمنن لك) ، ولم يقع في القرآن تاء متكلم عند مقارب لها فلهذا لم يذكرها في المستثنى ، وأما المجزوم فنحو (لم يؤت سعة) ، لم يدغم بلا خلاف وإن كان المجزوم في باب المثلين فيه وجهان لأن اجتماع المثلين أثقل من اجتماع المتقاربين وسيأتي خلاف في قوله تعالى (ولتأت طائفة)-(وآت ذا القربى) ، لأن الطاء والدال أقرب إلى التاء من السين ويأتي خلاف في (جئت شيئا فريا) ، ولم يذكر الناظم تمثيلا لما استثنى من المتقاربين كما ذكر في المثلين وكان ذكر المتقاربين أولى لعسر أمثلته وقد نظمت فيه بيتا فقلت ، (نذير لكم مثل به كنت ثاويا ولم يؤت قبل السين هم بها انجلا) ، أراد يؤت سعة من المال ولم يمكن نظمه لكثرة حركاته فقال قبل السين
(139)
فَزُحْزِحَ عَنِ النَّارِ الَّذِي حَاهُ مُدْغَمٌ وَفي الْكاَفِ قَافٌ وَهْوَ في الْقَافِ أُدْجِلاَ
شرع من هنا يبين المواضع التي أدغمت فيها تلك الحروف الستة عشر فبدأ بالحاء أي أدغمت في العين في قوله تعالى (فمن زحزح عن النار) ، فقط لطول الكلمة وتكرر الحاء فيها وهذا هو المشهور ورواية الجمهور وروى ترك إدغامه وروى إدغامها في العين حيث التقيا مطلقا نحو (ذبح على النصب)-(والمسيح عيسى)-(فلا جناح عليهما) ، وقوله فزحزح عن النار بالفاء أراد فمنها أي من الكلمات المدغمات زحزح الذي أدغم حاؤه وقصر الحاء ضرورة ثم ذكر أن القاف والكاف يدغم كل واحد منهما في الآخر بشرط أن يتحرك ما قبل كل واحد منهما ، وقد بين ذلك في البيت الآتي ولم يذكر في الكلمة الواحدة إلا إدغام القاف في الكاف فقط لأن عكسه لم يوجد في القرآن ثم مثل ذلك فقال
(140)
خَلَقْ كُلَّ شَيْءٍ لَكْ قُصُوراً وأَظْهِرَا إِذَا سَكَنَ الْحَرْفُ الَّذِي قَبْلُ أُقْبِلاَ
نطق بالحرفين مدغمين في هذين المثالين ثم قال وأظهرا يعني القاف والكاف إذا سكن الحرف الذي قبلهما نحو (وفوق كل)-(وتركوك قائما) ، ويقال أقبلته الشيء إذا جعلته يلى قبالته يقال أقبلنا الرماح نحو القوم وأقبلنا الإبل أفواه الوادي فهذه ثلاثة أحرف من الستة عشر الحاء والقاف والكاف ثم ذكر الجيم فقال
(141)
وَفي ذِي المَعَارِجِ تَعْرُجُ الْجِيمُ مُدْغَمٌ وَمِنْ قَبْلُ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قَدْ تَثَقَّلاَ
أي أدغم حرف الجيم في حرفين التاء في (ذي المعارج تعرج) والشين في (أخرج شطأه) ، وهو قبل ذي المعارج في تأليف القرآن وليس لهما نظير وحكى الإظهار فيهما وقوله قد تثقلا أي أدغم ثم ذكر الشين والضاد فقال
(142)
وَعِنْدَ سَبِيلاً شِينُ ذِي الْعَرْشِ مُدْغَمٌ وَضَادُ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ مُدْغَمًا تَلاَ
أراد قوله تعالى في سبحان (إلى ذي العرش سبيلا) ، ولا يجوز عند النحويين إدغام الشين والضاد إلا في مثلهما ولم يلتق منهما مثلان في القرآن ويجوز في قوله وضاد الرفع على الابتداء وتلا خبره أي تبع ما قبله في حال كونه مدغما ويجوز نصبه على أنه مفعول تلا وفاعله ضمير يعود على أبي عمرو أي تلاه أبو عمرو أي قرأه مدغما
(143)
وَفي زُوِّجَتْ سِينُ النُّفُوسِ وَمُدْغَمٌ لَهُ الرَّأْسُ شَيْبًا بِاخْتِلاَفٍ تَوَصَّلاَ
أي وأدغمت سين النفوس في زاي زوجت من قوله تعالى (وإذا النفوس زوجت) وموضع قوله (الرأس شيبا) ، رفع بالابتداء وقوله ومدغم له خبر مقدم عليه والضمير في له لأبي عمرو ويقال توصل إليه أي تلطف في الوصول إليه أي وصل الخلاف إلى هذا الحرف ففي هذا البيت إدغام السين في حرفين ثم قال
(144)
وَلِلدَّالِ كَلْمٌ (تُـ)رْبُ (سَـ)ـهْلٍ (ذَ)كَا (شَـ)ـذاً (ضَـ)ـفَا (ثُـ)ـمَّ (زُ)هْدٌ (صِـ)ـدْقُهُ (ظَ)ـاهِرٌ (جَ)ـلاَ
أي وللدال كلم تدغم عندها وهي ما وافق أوائلها أوائل هذه الكلمات العشر في هذا البيت من قوله ترب سهل إلى قوله جلا ، وضمن في هذا البيت الثناء على أبي محمد سهل بن عبد الله التستري أحد أولياء الله المشهورين ، قال القشيري في رسالته هو أحد أئمة القوم ولم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع وكان صاحب كرامات ، لقي ذا النون المصري بمكة سنة حج توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وقيل ثلاث وسبعين والترب والتراب وذكا من قولهم ذكت النار تذكو ذكا مقصور أي اشتعلت والشذا حدة الرائحة أي فاحت رائحة ترابه يشير بذلك إلى الثناء عليه وما ظهر من كرامته وأعماله الصالحة وشذا منصوب على التمييز أي ذكا شذاه وصفا طال يشير إلى كثرة ذلك وثم بفتح الثاء بمعنى هناك أي دفن في ذلك التراب زهد ظاهر الصدق لم يكن عن رياء ولا تصنع وجلا بمعنى كشف أي أو صح الزهد أمر سهل رحمة الله عليه وأبان أنه من خيار عباد الله ، وقال الشيخ أراد جلاء بالمد وهو منصوب على التمييز أي صدق ذلك الزهد ظاهر أي بين مكشوف جلاء مثال إدغام الدال في الحروف العشرة ، (في المساجد تلك)-(عدد سنين)-(والقلائد ذلك)-(وشهد شاهد)-(من بعد ضراء)-(يريد ثواب)-(تريد زينة)-(نفقد صواع)-(من بعد ظلمه)-(داود جالوت) وفي (دار الخلد جزاء) خلاف ، ثم ذكر حكم الدال بعد الساكن فقال
(145)
وَلَمْ تُدَّغَمْ مَفْتُوحَةً بَعْدَ سَاكِنٍ بِحَرْفٍ بِغَيْرِ التَّاءِ فَاعْلَمْهُ وَاعْمَلاَ
تدغم وتدغم لغتان بفتح الدال المشددة وإسكانها أي إذا انفتحت الدال وقبلها ساكن لم تدغم في غير التاء فالباء في بحرف وفي بغير التاء بمعنى في وبغير التاء بدل من قوله بحرف على إعادة العامل والألف في واعملا بدل من نون التأكيد ، فمثال الدال المفتوحة مع غير التاء (لداود سليمان)-(بعد ذلك زنيم)-(آل داود شكرا)-(وآتينا داود زبورا)-(بعد ضراء مسته)-(بعد ظلمه)-(بعد ثبوتها) ، فهذا كله لا يدغم ، ومثالها مع التاء (كاد تزيغ)-(بعد توكيدها) ، ولا ثالث لهما فهذان يدغمان لأن التاء من مخرج الدال فكأنهما مثلان فإن كسرت الدال أو ضمت بعد ساكن أدغمت نحو (من بعد ذلك)-(وقتل داود جالوت)
(146)
وفِى عَشْرِهَا وَالطَّاءِ تُدْغَمُ تَاؤُهَا وَفي أَحْرُفٍ وَجْهَانِ عَنْهُ تَهَلَّلاَ
أي والتاء تدغم في حروف الدال العشرة وفي الطاء إلا أن من جملة حروف الدال العشرة التاء فيكون إدغام التاء فيها من باب المثلين وإنما لم يستننها لحصول الغرض مع الاختصار من غير إلباس فإذا أسقطت التاء من العدد عددت الطاء عوضها فيكمل للتاء أيضا عشرة أحرف ولم يلق الدال طاء في القرآن فلهذا لم يذكر الطاء في حروفها وكذا لم يلق التاء دالا في القرآن إلا والتاء ساكنة نحو (أجيبت دعوتكما) ، وذلك واجب الإدغام كما سيأتي فلهذا أيضا لم يذكر الدال في حروف التاء والهاء في عشرها للدال وفي تائها يجوز أن يكون للدال ويجوز أن يكون للعشر وأن يكون للحروف السابقة الستة عشر ، وفي شرح الشيخ لك أن تعيد الضمير في عشرها على الأحرف السابقة التي للدال وهو مشكل فإنه من إضافة الشيء إلى نفسه وذلك غير جائز فمثال إدغام التاء في الطاء (الملائكة طيبين) ومع السين (بالساعة سعيرا) ومع الذال (والذاريات ذروا) ومع الشين (بأربعة شهداء) ومع الضاد (والعاديات ضبحا) ولا ثاني له ومع الثاء (والنبوة ثم يقول) ومع الزاي (إلى الجنة زمرا) ومع الصاد (والملائكة صفا) ومع الظاء (والملائكة ظالمي) ، في النساء والنحل ليس غيره ومع الجيم (وعملوا الصالحات جناح) ، ولم يذكر في التاء ما ذكره للدال من كونها لم تدغم مفتوحة بعد ساكن لأن التاء لم تقع كذلك إلا وهي حرف خطاب وهو قد علم استثناؤه نحو (دخلت جنتك)-(وأوتيت سؤلك) ، إلا في مواضع وقعت فيها مفتوحة بعد ألف فهي على قسمين منها ما نقل فيها الخلاف وهي الأربعة المذكورة في البيت الآتي وهي المشار إليها بقوله وفي أحرف وجهان عنه تهللا والألف في تهللا ضمير الوجهين أي استنارا وظهرا ونقلا عن أبي عمرو ومنها موضع واحد لا خلاف في إدغامه وهو قوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) ، لأن الطاء من مخرج التاء فهو كاستثناء التاء مع الدال لأن الثلاثة من مخرج واحد ولو اتفق أن وقعت الطاء بعد الدال المفتوحة بعد ساكن لكان هذا
حكمها ، وأما (بيت طائفة) ، فأكثر المصنفين في الإدغام لا يذكرونه في الإدغام الكبير بل يذكرونه في سورته ، وسببه أن أبا عمرو كان يدغمه وإن لم يقرأ بالإدغام الكبير وهو معنى قولهم إنه كان يدغمه في الأحوال كلها وبعضهم يقول في الحالين أي سواء قرأ بالإدغام أو بالإظهار فهذا الموضع لابد من إدغامه عنده ، ثم اختلفوا هل هو من قبيل الإدغام الكبير أو الصغير وهو مبني على أن التاء في قراءته مفتوحة أو ساكنة والظاهر أنها مفتوحة كقراءة الجماعة فيكون من باب الإدغام الكبير وقد بينا وجه الخلاف في ذلك في الشرح الكبير
(147)
فَمَعَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ الزَّكَاةَ قُلْ وَقُلْ آتِ ذَا الْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ عَلاَ
أي قل هي الزكاة مع حملوا التوراة ولو قال الزكاة ثم قل آت لكان أولى لأنه أبين لموضع الإدغام وتخلص من تكرار قل أراد قوله تعالى في البقرة (وآتوا الزكاة ثم توليتم) ، وفي سورة الجمعة (حملوا التوراة ثم لم يحملوها) ، وأراد بقوله آت ذل قوله تعالى (وآت ذا القربى) ، في سورة سبحان وفي سورة الروم (فآت ذا القربى) ، وبين الذال ولام التعريف من القربي ألفان أحدهما ألف ذا والأخرى همزة الوصل في القربى وهي تسقط في الدرج وسقطت ألف ذا لأجل لام التعريف بعدها لكونها ساكنة فلهذا كتبتها أناذل بإسقاط الألفين على صورة اللفظ ويقع في النسخ بالألفين على الأصل وقطع لام التعريف مما دخلت عليه جائز في الشعر كقوله دع ذا وقدم ذا وألحقنا بذل وقصد الناظم بذلك زيادة البيان وإلا فكان يمكنه أن يقول وقل آت ذا والهمزة في (ولتأت طائفة) تبدل ألفا في قراءة المدغم فجاءت التاء في هذه المواضع الأربعة بعد ألف فوجه الخلاف في التوراة والزكاة كونها مفتوحة بعد ساكن فخفت فلم تدغم ووجه الخلاف في آت ولتأت ما تقدم في (ومن يبتغ غير الإسلام) ، لأنها كلها من المجزوم ولا خلاف في إظهار (ولم يؤت سعة) ، وهو مثلهما وليس قوله علا رمزا لأن الباب كله لأبي عمرو وقد تقدم قوله وفي أحرف وجهان عنه
(148)
وَفي جِئْتِ شَيْئًا أَظْهَرُوا لِخِطَابِهِ وَنُقْصَانِهِ وَالْكَسْرُ الإِدْغَامَ سَهَّلاَ
يريد قوله في سورة مريم عليها السلام ، (لقد جئت شيئا فريا) ، بكسر التاء فهذا الذي اختلف فيه فأما مفتوح التاء فلا خلاف في إظهاره وهو موضعان في الكهف (لقد جئت شيئا إمرا)-(فقد جئت شيئا نكرا) ، لأن تاء الخطاب لم تدغم في المثلين ففي المتقاربين أولى أن لا تدغم فعلل وجه الإظهار بالخطاب يعني بالخطاب الموجود فيه تاء الخطاب وأما مجرد الخطاب فغير مانع من الإدغام بدليل إدغام (لك كيدا) و(إنك كنت) ، ونحوه وعلل أيضا بالنقصان وهو حذف عين الفعل لسكون ما قبل تاء الخطاب وهذا مطرد في كل فعل معتل الوسط نحو قمت وبعت وسرت ووجه الإدغام ثقل الكسرة في التاء وهي ضمير تأنيث فهو الذي سهل الإدغام بخلاف ما في الكهف وبخلاف ثقل الضم في (كنت ترابا)
(149)
وَفي خَمْسَةٍ وَهْيَ الأَوائِلُ ثَاؤُهَا وَفي الصَّادِ ثُمَّ السِّينِ ذَالٌ تَدَخَّلاَ
الهاء في ثاؤها كما تقدم في تاؤها تعود على الحروف السابقة أو على الدال أو على عشرها أي أدغمت الثاء المثلثة في خمسة أحرف وهي الخمسة الأوائل من حروف الدال يريد أوائل كلمات ترب سهل ذكا شذا ضفا مثال ذلك ، (حيث تؤمرون)-(وورث سليمان)-(والحرث ذلك) و(حيث شئتم)-(وحديث ضيف) وليس غيره ، ثم ذكر أن الذال المعجمة أدغمت في السين والصاد المهملتين وذلك في (فاتخذ سبيله) ، في الكهف في موضعين وفي الجن موضع (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) ، والتدخل بمعنى الدخول يقال تدخل الشيء إذا دخل قليلا قليلا ومثله تحصل من حصل وتعلم من علم
(150)
وَفي الَّلامِ رَاءٌ وَهْيَ في الرَّا وَاُظْهِرَا إِذا انْفَتَحَا بَعدَ المُسَكَّنِ مُنْرَلاَ
أي إذا أدغمت اللام في الراء والراء في اللام ونحو (كمثل ريح)-(هن أطهر لكم) ، وفي إدغام الراء ضعف عند نحاة البصرة وإذا انفتحا بعد مسكن أظهرا نحو (فعصوا رسول ربهم)-(إن الأبرار لفي) ، ومنزلا حال من ضمير المسكن المقدر فيه وأنت ضمير اللام في قوله وهي ، ثم ذكر ضمير اللام والراء معا في قوله وأظهرا إذا انفتحا جمعا بين اللغتين وقصر الراء ضرورة
(151)
سِوَى قالَ ثُمَّ النُّونُ تُدْغَمُ فِيهِمَا عَلَى إِثْرِ تَحْرِيكٍ سِوَى نَحْنُ مُسْجَلاَ
يعني سوى كلمة قال فإنها أدغمت في كل راء بعدها وإن كانت اللام مفتوحة وقبلها حرف ساكن وهو الألف نحو (قال ربي)-(قل رجلان)-(وقال ربكم) ، لأن ذلك كثير الدور في القرآن فخفف بالإدغام بخلاف (فيقول رب)-(رسول ربهم) ونحوه ، ثم ذكر أن النون تدغم فيهما أي في الراء واللام بشرط أن يتحرك ما قبلهما وهو معنى قوله على إثر تحريك أي تكون النون بعد محرك مثل (وإذ تأذن ربك)-(خزائن رحمة ربي)-(لن نؤمن لك)-(من بعد ما تبين لهم) ، فإن وقع قبل النون ساكن لم تدغم مطلقا سواء كان ذلك الساكن ألفا أو غيرها وسواء كانت النون مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة نحو (يخافون ربهم)-(بإذن ربهم)-(أنى يكون له الملك) ، ولهذا قال مسجلا أي يشترط التحريك قبلها مطلقا في جميع أحوال النون وليس الأمر فيها كما سبق في اللام والراء من أنه لم يستثن من ذلك إلا المفتوح بعد ساكن ، ثم قال الشيخ الشاطبي رحمه الله سوى نحن أي استثنى مما قبل النون فيه ساكن كلمة نحن فأدغمت في اللام بعدها حيث أتت نحو (ونحن له)-(وما نحن لك) ، وهو عشرة مواضع ومسجلا حال من فاعل تدغم العائد على النون أو هو نعت مصدر محذوف أي إدغاما مطلقا ويجوز أن يكون حالا من نحن أي في جميع القرآن والأول أولى والله أعلم
(152)
وَتُسْكُنُ عَنْهُ الْمِيمُ مِنْ قَبْلِ بَائِهَا عَلَى إِثْرِ تَحْرِيكٍ فَتَخْفَى تَنَزُّلاَ
عنه يعني عن أبي عمرو والهاء في بائها تعود على الحروف السابقة أو على الميم وتخفي عطف على تسكن غير أن تاء تخفي مفتوحة وتاء تسكن مضمومة وتنزلا تمييز وقوله على إثر تحريك أي تكون الميم بعد محرك نحو (آدم بالحق)-(أعلم بالشاكرين)-(علم بالقلم)-(حكم بين العباد) والمصنفون في التعبير عن هذا مختلفون فمنهم من يعبر عنه بالإدغام كما يطلق على ما يفعل بالنون الساكنة والتنوين عند الواو والياء أنه إدغام وإن بقي لكل واحد منهم غنه كما يبقى الإطباق في الحرف المطبق إذا أدغم ومنهم من يعبر عنه بالإخفاء لوجود الغنة وهي صفة لازمة للميم الساكنة فلم يكن إدغاما محضا فإن سكن ما قبل الميم أظهرت نحو (إبراهيم بنيه)-(اليوم بجالوت)-(وأولوا الأرحام بعضهم) وقيل في ذلك خلاف
(153)
وَفي مَنْ يَشَاءُ با يُعَذِّبُ حَيْثُمَا أَتَى مُدْغَمٌ فَادْرِ الأُصُولَ لِتَأْصُلاَ
أي وإدغام الباء من كلمة (يعذب) في (من يشاء) حيث أتى في القرآن (يعذب من يشاء) ، بضم الباء وهو خمسة مواضع سوى الذي في البقرة فإنه ساكن الباء في قراءة أبي عمرو فهو واجب الإدغام عنده من جهة الإدغام الصغير لا الإدغام الكبير ولهذا وافقه عليه جماعة على ما سنذكره فقوله با مبتدأ وقصره ضرورة ومدغم خبره وما عدا كلمة يعذب لا يدغم باؤها في الميم نحو (ضرب مثل)-(سنكتب ما قالوا) ، لأنه اقتون بكلمة بعذب ما يجب إدغامه في أصله وهو (يرحم من)-(ويغفر لمن) ، إما قبلها أو بعدها فطرد الإدغام فيه موافقة لما جاورها فهذا آخر ذكر إدغام الحروف الستة عشر ولهذا ختم ذلك بقوله فادر الأصول أي قف على أصول الإدغام وحصلها لتأصلا أي لتشرف يقال رجل أصيل الرأي أي محكم الرأي وقد أصل أصالة ، ثم لما فرغ من تفصيل الحروف المدغمة في باب المتقاربين ذكر بعد ذلك ثلاث قواعد تتعلق بجميع باب الإدغام الكبير مثليا كان أو متقاربيا كل قاعدة في بيت فقال في القاعدة الأولى
(154)
وَلاَ يَمْنَعُ الإِدْغامُ إِذْ هُوَ عَارِضٌ إِمَالَةَ كَالأَبْرَارِ وَالنَّارِ أُثْقِلاَ
أثقلا أي ثقيلا وهو حال من الإدغام يريد بالثقل التشديد الحاصل بالإدغام ولم يرد أنه أثقل لفظا من الإظهار لأنه ما أدغم إلا طلبا للخفة وإذ هو عارض ظرف خرج مخرج التعليل ، وقد سبق تحقيق القول فيه في شرح قوله إذ ما نسوه فيمحلا وإمالة مفعول يمنع وسقط التنوين منه لإضافته إلى كالأبرار وهو مشكل فإنه ليس في القرآن كالأبرار بالكاف فالوجه أن يقال هو مضاف إلى الكاف وحدها وهي هنا اسم بمعنى مثل كقول الراجز ، (يضحكن عن كالبرد المثهم ) ، أي إمالة مثل الأبرار ويجوز أن تكون الكاف ضمير المخاطب والأبرار مفعول إمالة أي إمالتك الأبرار فهو مثل قوله وإضجاعك التوراة والناظم رحمه الله كان ضريرا فأملى هذا اللفظ فسبق إلى ذهن الكاتب السامع منه أنها كاف التشبيه فكتبها متصلة بالأبرار والله أعلم أي لا يمنع الإدغام في حال ثقله إمالة الألف في نحو (وتوفنا مع الأبرار ربنا)-(إن كتاب الأبرار لفي علين) ، لزوال الكسر الموجب للإمالة بالإدغام وعلة ذلك أن الإدغام عارض فكأن الكسرة موجودة وهو كالوقف الذي تحذف الحركة فيه أيضا فهي وإن حذفت مرادة منوية وهذه مسألة من مسائل الإمالة فبابها أليق من باب الإدغام ، وقد ذكر في باب الإمالة أن عروض الوقف لا يمنع الإمالة فالإدغام معه كذلك ، وكان يغنيه عن البيتين هنا وثم أن يقول ، (ولا يمنع الإدغام والوقف ساكنا إمالة ما للكسر في الوصل ميلا) ، فيستغني عن بيتين مفرقين في بابين بهذا البيت الواحد في باب الإمالة ، ثم ذكر القاعدة الثانية فقال
(155)
وَأَشْمِمْ وَرُمْ فِي غَيْرِ بَاءٍ وَمِيمِهَا مَعَ الْبَاءِ أَوْ مِيمٍ وَكُنْ مُتَأَمِّلاَ
يعني بالإشمام والروم ما يأتي تحقيقه في باب الوقف على أواخر الكلم أي لك أن تشم وتروم في جميع الحروف المدغمة في المثلين والمتقاربين سوى أربع صور ، وهي أن يلتقي الباء مع مثلها نحو (نصيب برحمتنا) أو مع الميم نحو (يعذب من يشاء) ، أو يلتقي الميم مع مثلها نحو (يعلم ما) أو مع الباء نحو (أعلم بما كانوا) ، فهذا معنى قوله مع الباء أو ميم أي كل واحد من الباء والميم مع الباء أو ميم والهاء في ميمها تعود إلى الباء لأنها مصاحبتها ومن مخرجها أو تعود على الحروف السابقة ، والإشمام يقع في الحروف المضمومة والروم يدخل في المضمومة والمكسورة ولا يقعان في المفتوحة ، ويمتنع الإدغام الصحيح مع الروم دون الإشمام فالروم هنا عبارة عن الإخفاء والنطق ببعض الحركة فيكون مذهبا آخر غير الإدغام وغير الإظهار ، وهذان المذهبان المحكيان عن أبي عمرو من الإشمام والروم في الحروف المدغمة سيأتيان لجميع القراء في مسألة (لا تأمنا على يوسف) ، ووجه دخولهما في الحروف المدغمة وهما من أحكام الوقف أن الحرف المدغم يسكن للإدغام فشابه إسكانه إسكانه للوقف فجرت أحكام الوقف فيه ، واستثناء هذه الصور الأربع ، إنما يتجه بعض الاتجاه على مذهب الإشمام للعلة التي ذكرها صاحب التيسير وهو قوله لأن الإشارة تتعذر في ذلك من أجل انطباق الشفتين أي تتعسر لأن الإشارة بالشفة والباء والميم من حروف الشفة والإشارة غير النطق بالحرف فيتعذر فعلهما معا في الإدغام لأنه وصل ولا يتعذران في الوقف لأن الإشمام فيه هو ضم الشفتين بعد سكون الحرف فلا يقعان معا ، ومنهم من استثنى الفاء أيضا ومنهم من لم يستثن شيئا من ذلك ، أما الروم فلا يتعذر لأنه نطق ببعض حركة الحرف فهي تابعة لمخرجه فكما ينطق بالباء والميم بكل حركتهما كذلك ينطق بهما بعض حركتهما ، وأظن الناظم رحمه الله أشار إلى هذه الأشياء ونحوها بقوله وكن متأملا أي تأمل ما قد أطلقه المصنفون في التعبير عن ذلك بفهمك
وتدبره بعقلك وعلمك ونزل كل شيء في منزلته ولا تزله عن مرتبته ، وقد نقلت في الشرح الكبير ، من كلام المصنفين في ذلك عبارات كثيرة مختلفة ولله الحمد ، ثم ذلك القاعدة الثالثة فقال
(156)
وَإِدْغَامُ حَرْفٍ قَبْلَهُ صَحَّ سَاكِنٌ عَسِيرٌ وَبِالإِخْفَاءِ طَبَّقَ مَفْصِلاَ
أي إدغام الحرف الذي قبله حرف صحيح ساكن عسير أي يعسر النطق به وتعسر الدلالة على صحته لأنه يؤدي إلى الجمع بين الساكنين لأن الحرف المدغم لا بد من تسكينه وقوله عسير خبر المبتدإ الذي هو إدغام حرف وقوله قبله صح ساكن جملة في موضع الصفة لحرف ، واحترز بقوله صح ساكن عما قبله ساكن ليس بحرف صحيح بل هو حرف مد فإن الإدغام يصح معه نحو(فيه هدى)-(وقال لهم) ، ويقول ربنا وكذا إذا انفتح ما قبل الواو والياء (قوم موسى) ، كيف فعل فإن في ذلك من المد ما يفصل بين الساكنين ، وأما ما قبله ساكن صحيح فلا يتأتى إدغامه إلا بتحريك ما قبله وإن خفيت الحركة فإن لم يحرك انحذف الحرف الذي تسكنه للإدغام وأنت تظن أنه مدغم ودليل ذلك أن العرب إذا أدغمت نحو ذلك في الكلمة الواحدة حركت الساكن نحو استعد واستعف ولذلك لما أجمع على إدغام الميم في مثلها في ، (فنعما هي) ، كسرت العين وهي ساكنة في غير هذا الموضع نحو (نعم العبد) ، فإذا ثبت أن ذلك ممتنع الإدغام لم يبق فيه إلا الإظهار أو الروم السابق ذكره وهو النطق ببعض الحركة ويعبر عنه بالاختلاس وبالإخفاء فهذه العبارات كلها صحيحة والتعبير عنه بالإدغام تجوز ، قال الجوهري في (شهر رمضان) ، إنما هو بحركة مختلسة ولا يجوز أن تكون الراء الأولى ساكنة لأن الهاء قبلها ساكنة فيؤدي إلى الجمع بين الساكنين في الوصل من غير أن يكون قبلها حرف لين وهذا غير موجود في شيء من لغات العرب وكذا (إنا نحن نزلنا الذكر) و(أمن لا يهدي) و( يخصمون) وأشباه ذلك قال ولا معتبر بقول القراء إن هذا ونحوه مدغم لأنهم لا يحصلون هذا الباب والضمير في طبق للقارئ
أي إذا أخفاه القارئ أصاب وإن رام إدغامه امتنع عليه ، ويجوز أن يكون الضمير للتعبير وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من سياق الكلام أي العبارة عنه بالإخفاء هي العبارة الصحيحة أو طبق من عبر عنه بالإخفاء مفصلا ، وقيل الضمير في طبق للحرف وليس بشيء ، ومعنى مفصلا أصاب وهو من قولهم طبق السيف إذا أصاب المفصل وكذا طبق الجزار المفصل ويقال للرجل إذا أصاب الحجة أنه يطبق المفصل ثم مثل ما قبله ساكن فقال
(157)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَفي المَهْدِ ثُمَّ الخُلْدِ وَالْعِلْمِ فَاشْمُلاَ
ذكر أمثلة من المثلين والمتقاربين فذكر من المثلين (خذ العفو وأمر بالعرف)-(من العلم مالك) ومن المتقاربين (من بعد ظلمه) و(في المهد صبيا)-(ودار الخلد جزاء) ، وقوله فاشملا أراد فاشملن ثم أبدل من النون الخفيفة المؤكدة ألفا يقال شملهم الأمر إذا عمهم بكسر الميم في الماضي وفتحها في المضارع ، وفيه لغة أخرى وهي فتحها في الماضي وضمها في المضارع أي فاشمل الجميع من البابين بالحفظ والفهم أي اجمعه فالأمر من ذلك بفتح الميم على اللغة الفصيحة وبضمها على اللغة الأخرى ، وقال ابن دريد شمل الرجل وانشمل أسرع أي أسرع في حفظ ذلك وفهمه وتعليمه ولا تتبطأ في ذلك ولا تتخلف عنه والله أعلم
باب هاء الكناية
(158)
وَلَمْ يَصِلُوا هَا مُضْمَرٍ قَبْلَ سَاكِنٍ وَمَا قَبْلَهُ التَّحْرِيكُ لِلْكُلِّ وُصِّلاَ
قصر لفظ ها ضرورة أي هاء الضمير إذا لقيها ساكن لم توصل لجميع القراء لأن الصلة تؤدي إلى الجمع بين ساكنين بل تبقى الهاء على حركتها ضمة كانت أو كسرة ومثاله (لعلمه الذين)-(وجه ربه الأعلى) ، وكذا إذا كانت الصلة ألفا وذلك في ضمير المؤنث المجمع على صلته بها مطلقا فإن صلتها تحذف للساكن بعدها نحو (من تحتها الأنهار)-(فأجاءها المخاض) ، فقوله ولم يصلوا ها مضمر عام يشمل ضمير المذكر والمؤنث وإن كان خلاف القراء واقعا في المذكر فحسب فأمكن حمل اللفظ فيه على عمومه ، ولا يرد على هذا الإطلاق إلا موضع واحد في قراءة البزي فإنه يقرأ في سورة عبس عنهو تلهى بالصلة وتشديد التاء بعدها فقد وصل قبل ساكن في قراءته وأما قنبل فوصل قبل متحرك وهذا كما أنه يصل ميم الجميع في قوله تعالى (ولقد كنتمو تمنون)-(فظلتمو تفكهون) ، على رواية تشديد التاء بعدها ، ووجهه أن الجمع بين الساكنين في مثل هذا جائز فصيح من حيث اللغة لأن الأول حرف مد والثاني مدغم فهو من باب (دابة-والضالين) ، فإن قلت فلم لا يوصل نحو (لعلمه الذين) فهو كذلك ، قلت لأن الإدغام في الذين متأصل لازم بخلاف تلك المواضع وقد سبق هذا الفرق في ترك صلة ميم الجمع قبل الساكن ، ثم قال وما قبله التحريك أي والذي تحرك ما قبله من هاءات المضمر المذكر التي ليس بعدها ساكن فكل القراء يصلها بواو إن كانت مضمومة وبياء إن كانت مكسورة والضمير في وصل يرجع إلى ما لأنها بمعنى الذي وشدد وصل للتكثير لكثرة المواضع نحو كسر وقطع ومثال ذلك (أماته فأقبره)-(وختم على سمعه وقلبه) ، ووجه أصل الصلة أن الهاء حرف خفي فقوي بالصلة بحرف من جنس حركته إلا أن هذه الصلة تفعل في الهاء التي تكون من نفس الكلمة نحو (ما نفقه كثيرا)-(فواكه كثيرة)-(ولما أن توجه) ، لأن صلة مثل ذلك قد توهم تثنية وجمعا بخلاف هاء الضمير ولأن هاء الضمير اسم على حرف واحد فناسب أن تقوى وما أجروه مجرى هاء الضمير الهاء في اسم الإشارة
إلى المؤنث نحو (هذه ناقة الله) ، فهي موصولة للكل لتحرك ما قبلها وتحذف عند الساكن نحو (هذه النار) ، ثم إن الصلة تسقط في الوقف كما ذكرنا في صلة ميم الجمع إلا الألف في ضمير المؤنث ، وذلك لأن الصلة زيادة في الآخر لتتميم وتكميل فشابهت التنوين فحذفت كما تحذف مع الضم والكسر وتثبت مع الفتح كما تبدل من التنوين ألفا في الوصل
(159)
وَمَا قَبْلَهُ التَّسْكِينُ لاِبُنِ كَثِيرِهِمْ وَفِيهِ مُهَاناً مَعْهُ حَفْصٌ أَخُو وِلاَ
أي وصل ما قبله ساكن لابن كثيرهم وحده نحو (فيه-وعليه-وإليه-ومنه-واجتباه-وعقلوه) فإن لقي الهاء ساكنا لم يصل على ما سبق تقريره نحو (إليه المصير)-(فأراه الآية)-(يعلمه الله) ، وقراءة الباقين بترك الصلة في كل ما قبله ساكن وعلم ذلك من الضد لأن ضد الصلة تركها ، ووافق ابن كثير هشام على صلة (أرجئه) بواو على ما سنذكره ووافقه حفص على صلة (فيه مهانا) ، في سورة الفرقان بياء فهذا معنى قوله وفيه مهانا معه حفص أي مع ابن كثير والولاء بكسر الواو والمد بمعنى المتابعة مصدر والاه ولاء مثل راماه رماء وهذه اللفظة قد كثر ورودها في قافية هذه القصيدة وهذا معناها حيث جاءت ولوقوفه عليها سقط همزها ومدها على ما سبق تقريره في أجذم العلا فقوله وفيه مهانا مبتدأ وما بعده الخبر والعائد إلى المتبدإ محذوف للعلم به أي وهذه الكلمة حفص أخو متابعة لابن كثير فيها فقوله حفص مبتدأ ثان وخبره أخو ولا أي ذو متابعة لابن كثير في مذهبه لأن الموافقة كالمتابعة أو هو صاحب متابعة السنة في قراءته وكل من أكثر من شيء ولازمه جاز أن يدعى أخاه كقوله ، (قل لابن قيس أخي الرقيات ) ، فإن قلت هل يجوز أن تعود الهاء في معه إلى لفظ (فيه مهانا) كما يقال زيد معه المال ، قلت هو جائز من حيث اللفظ ولكنه ممتنع من جهة أنه يوهم أن حفصا وحده يصله دون ابن كثير وإن رجع الضمير في معه إلى ابن كثير زال هذا الوهم ، فمن قرأ بالصلة فعلى الأصل والأكثر على ترك الصلة تخفيفا وهشام وحفص جمعا بين اللغتين وقيل قصدا بالصلة تطويل اللفظ تشنيعا على (ملإ فرعون-ما أمروا به) وإسماعا للخلق ما أوعد به العاصي
(160)
وَسَكِّنْ يُؤَدِّهْ مَعْ نُوَلِّهْ وَنُصْلِهْ وَنُؤْتِهِ مِنْهَا فَاعَتَبِرْ صَافِياً حَلاَ
شرع يذكر ما وقع فيه الخلاف بين القراء في إسكان هاء الكناية منه وهو عشرة ألفاظ جاءت في خمسة عشر موضعا وهي (نوله-ونصله-ويأته-ويرضه-وألقه-ويتقه) فهذه ستة لم يكرر شيء منها (ويؤده-وأرجه-ويره) كل واحد جاء مرتين فهي ستة أيضا (ونؤته) في ثلاثة مواضع وعدها أبو بكر بن مجاهد ستة عشر موضعا فزاد (لم يره) ، في سورة البلد وكلها هاءات كناية اتصلن بأفعال حذفت أواخرها للجزم بالشرط أو جوابه أو للأمر ولم يذكرها صاحب التيسير إلا مفرقة في أماكنها في القرآن وكلها غير أرجئه كان واجب الصلة للكل لتحرك ما قبل الهاء ولكن عرض فيه أمر آخر اقتضى جواز الإسكان فيه وجواز القصر على ما سيأتي فصار فيها ثلاثة أوجه ولقد لفظ الناظم رحمه الله بالكلمات المذكورة في هذا البيت على الوجوه الثلاثة فسكن يؤده ونوله ووصل نصله وقصر (نؤته منها) ، وهذا من عجيب ما اتفق أي أن حمزة وأبا بكر عن عاصم وأبا عمرو سكنوا هاء الكناية في هذه الكلمات الأربع من بين العشر المذكورة وهي في سبعة مواضع (يؤده إليك) موضعان في آل عمران (نوله ما تولى ونصله) في سورة النساء (نؤته منها) موضع في (حم عسق) وموضعان في آل عمران ، فإن قلت من أين يعلم أنه أراد تكرير يؤده ونؤته وعادته في مثل ذلك أن يقول معا أو جميعا أو حيث أتى أو نحو ذلك قلت إطلاقه وعدم تقييده دل على ذلك لأنه ليس بعضه أولى به من بعض فإن ما يذكره في أبواب الأصول لنسبته إلى المواضع كلها سواء ولهذا قال (أرجئه) ولم يبين أنه في سورتين وإنما يحتاج إلى قوله معا وجميعا في فرش الحروف لئلا يظن أن ذلك مختص بما في تلك السورة دون غيرها هذا هو الغالب من أمره ، وقد جاء في بعض المواضع مقيدا في الأصول كقوله (تسؤ-ونشأ) ست وعشر (يشأ-ونبى) بأربع (وأرجى) معا (وأقرأ) ثلاثا ولم يستوعب التقييد في هذه المواضع المستثناة فقال بعد ذلك (ومؤصدة) ولم يقل معا فأطلق على الأصل وجاء الإطلاق في الفرش في مواضع مع عموم الحكم
كالتوراة وكائن على ما يأتي ، وإسكان هاء الكناية لغة محكية سواء اتصلت بمجزوم أو غيره كقوله وأنشده ابن مجاهد ، (وأشرب الماء مائي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها) ، ولم يسكنها القراء إلا في المجزوم كالكلمات المذكورة ووجه الإسكان تشبيه هاء الضمير بألف وواوه ويائه فأسكنت أو اسنثقلت صلتها فأسكنت كما فعل في ميم الجميع أو وصلت بنية الوقف وهذه الوجوه الثلاثة تعم المجزوم وغيره ، وفي المجزوم وجهان آخران ، أحدهما أنها سكنت تنبيها على الحرف المحذوف قبلها للجزم ، والثاني أنها سكنت لحلولها محله ونبه بقوله صافيا حلا على صحة هذه القراءة وحسن وجهها في العربية وإن كانت قد جاءت على خلاف المعهود في هاءات الكناية من التحريك والصلة وصافيا نعت المفعول المحذوف أي لفظا صافيا حلوا أو يكون حالا من فاعل فاعتبر أي اعتبر المذكور في حال صفاء ذهنك وباطنك من النفرة منه وحلاوة عبارتك في ذكر دليله أو يكون حالا من مفعول فاعتبر المحذوف إن قدرته معرفة أي فاعتبر المذكور في حا صفائه وحلاوته فيعود المعنى إلى ما ذكرناه في الوجه الأول أو أراد فاعتبر نظما صافيا حلوا ، ووجهه ما ذكرناه من أنه لفظ في هذا البيت بوجوه الاختلاف الثلاثة في هذه الكلمات ونحوه والله أعلم وأحكم
(161)
وَعَنْهُمْ وَعَنْ حَفْصٍ فَأَلْقِهْ وَيَتَّقِهْ حَمى صَفْوَهُ قَوْمٌ بِخُلْفٍ وَأَنْهَلاَ
أي وعن من تقدم ذكرهم وعن حفص إسكان قوله تعالى (فألقه إليهم) ، في سورة النمل ، والتقدير وسكن فألقه عنهم وعن حفص فيكون عطفا على قوله وسكن يؤده وقد تقدم في شرح الخطبة أن ضمير من تقدم رمزه نازل منزلة المسمى بصريح لفظه لا منزلة الرمز فلهذا جمع بين الضمير في وعنهم وبين قوله وعن حفص فصار على إسكان فألقه عاصم بكماله وأبو عمرو وحمزة وقوله ويتقه مبتدأ وليس عطفا على فألقه والواو من نفس التلاوة أراد قوله تعالى في سورة النور (ويخش الله ويتقه) ، وخبر المبتدإ حمى صفوه إلى آخر البيت ، وتقدير الكلام فيه وإسكان ويتقه على حذف مضاف أي أسكن هاءه أبو بكر وأبو عمرو وخلاد عن حمزة بخلاف عنه فنقص من الرمز المذكور في البيت السابق راو وهو خلف وزاد في فألقه راو وهو حفص ، ومعنى حمى صفوه ، أي صفو إسكانه قوم بخلف أي حماه جماعة بحجج مختلفة وهي خمسة أوجه سبق ذكرها ومعنى أنهل سقاه النهل وهو الشرب الأول وحسن استعارة النهل بعد ذكر الصفو أشار بذلك إلى أنهم قاموا في نصرة الإسكان بما انشرحت له الصدور فهذا معنى ظاهر هذا الكلام والمراد بباطنه رمز القراء وقوله بخلف ليس رمزا وكذلك كل ما جاء منه نحو بخلفه بخلفهما بخلفهم لأن المراد منه أن القارئ المذكور قبلها اختلفت الرواية عنه فكأنه من تتمة ذكره وأفرد الضمير في أنهل ردا على لفظ قوم ، ويجوز أن يكون الضمير فيه ليتقه أي روى هذا الحرف القوم الذين حموه لما استنبطوا من المعاني والفوائد أو يعود على الصفو وهو أليق أي حموه مما يكدره حفظا له بحاجتهم إليه فأنهلهم ورواهم ثم بين قراءة حفص لهذه الكلمة فقال
(162)
وَقُلْ بسُكُونِ الْقَافِ وَالْقَصْرِ حَفْصُهُمْ وَيَأْتِهْ لَدَى طه بِالْإِسْكَانِ (يُـ)ـجْتَلاَ
أي قراءة حفصهم فحذف المضاف يعني أن حفصا يسكن القاف ويحرك الهاء بالكسر من غير صلة وهذا معنى القصر وهو ترك الصلة لأنها مد وأسكن القاف لأنها صارت آخر الفعل بعد حذف الياء للجزم ، وقيل أجرى يتقه مجرى كتف فأسكن الوسط تخفيفا وأنشد ، (فبات منتصبا وما تكردسا ) ، فلما سكنت القاف ذهبت صلة الهاء لأن أصل حفص أن لا يصل الهاء التي قبلها ساكن إلا في قوله تعالى (فيه مهانا) وبقيت كسرة الهاء أمارة على عروض الإسكان في القاف والأصل كسرها ولولا هذا المعنى لوجب ضم الهاء لأن الساكن قبلها غير ياء فهو مثل منه وعنه ، وقيل كانت الهاء ساكنة في قراءة حفص كما أسكنها في فألقه فلما أسكن القاف كسر الهاء لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف إذ لا مقتضى لإسكان القاف على تقدير سكون الهاء ولأن كسر القاف وسكون الهاء أخف من العكس فلا معنى للعدول عنه وأما قوله (ومن يأته مؤمنا) ، في سورة طه فلم يذكر الإسكان فيه إلا عن السوسي تبعا لصاحب التيسير وذكره الأهوازي عن ابن عامر وعاصم وأبي عمرو وحمزة رحمهم الله تعالى ، ومعنى يجتلا ينظر إليه بارزا غير مستتر من قولهم اجتليت العروس يشير إلى أن الإسكان محكي مسطور في الكتب فلا ينفى لعدم ذكر بعض المصنفين له كابن الفحام في تجريده وغيره ، وقوله لدى طه أي عندها وفي أثناء آياتها وسمى سورة هذا الحرف زيادة في البيان لا للتمييز إذ ليس غيره
(163)
وَفي الْكُلِّ قَصْرُ الْهَاءِ (كـ)ـانَ (لِـ)سَانَهُ بخُلْفٍ وَفي طه بِوَجْهَيْنِ (بُـ)ـجِّلاَ
يعني بالكل جميع الألفاظ المجزومة من قوله وسكن يؤده إلى يتقه وقصر الهاء عبارة عن ترك الصلة ويسمى أيضا الاختلاس ، وقوله بان لسانه رمز لقالون وهشام ومعناه في الظاهر اتضحت لغته وظهر نقله لأن قصر الهاء لغة فصيحة سواء اتصلت بمجزوم أو غيره أنشد الداني للأعشى جمعا بين اللغتين القصر والصلة قوله ، (وماله من مجد تليد وماله من الريح حظ لا الجنوب ولا الصباء) ، ووجه لغة القصر في المجزوم النظر إلى الحرف المحذوف قبل الهاء للجزم لأن حذفه عارض ولو كان موجودا لم توصل الهاء لوجود الساكن قبلها على ما تقرر فهذا توجيه حسن لما جاءت القراءة به من القصر في المجزوم ولم تأت في غيره لفقد هذه العلة فيه وقوله بخلف يعني عن هشام لأنه الذي يليه ولو كان الخلاف عنه وعن قالون لقال بخلفهما ولو كان عن ثلاثة لقال بخلفهم وكل هذا قد استعمله في نظمه كما سيأتي ، والخلف الذي عن هشام وجهان ، أحدهما القصر وقد ذكره ، والثاني الصلة كسائر القراء ولا يجوز أن يكون الإسكان لأنه قد ذكر الإسكان عن الذين قرءوا به ولم يذكر هشاما معهم ، وأما حرف طه فوصله هشام كسائر القراء غير السوسي ، ولقالون وجهان القصر والصلة ولا يكون الإسكان لما ذكرنا ، ووجه الصلة تحرك الحرف الذي قبل الهاء ولا نظر إلى الحرف المحذوف ، وقوله بوجهين متعلق بمحذوف أي يقرأ حرفه بوجهين بجلا أي وقرأ كلاهما يشير إلى أن القصر أفشا من الإسكان في لغة العرب كما تقدم بيانه ولأنه ضمير على حرف واحد صحيح فكان محركا كالتاء والكاف ، ووجه أسكانها تشبيهها بالألف والواو ، وفي ياء الإضافة وجهان الفتح والإسكان وسيأتيان ، ويجوز أن يكون التقدير والحرف الذي في طه بجل بوجهين
(164)
وَإِسْكَانُ يَرْضَهُ (يُـ)ـمْنُهُ (لُـ)ـبْسُ (طَ)ـيِّبٍ بِخُلْفِهِمِاَ وَالْقَصُرُ (فَـ)ـاذْكُرْهُ (نَـ)ـوْفَلاَ
أراد قوله تعالى في سورة الزمر (وإن تشكروا يرضه لكم) ، أسكنه السوسي بلا خلاف وهشام والدوري عن أبي عمرو وبخلفهما وأخبر بظاهر لفظه عن الإسكان بأن يمنه لبس طيب تقريرا له وإزالة للنفرة عنه ، ويجوز في قوله والقصر وجهان الرفع على الابتداء وخبره ما بعده أو محذوف أي والقصر كذلك يمنه ليس طيب ، أو والقصر مقروء به فهو قريب من قوله تعالى ، (الزانية والزاني فاجلدوا)-(والسارق والسارقة فاقطعوا) ، والنصب بفعل مضمر فسره ما بعده والفاء في فاذكره زائدة كقوله ، (وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ) ، والخلف الذي للدوري هو الإسكان والصلة والذي لهشام الإسكان والقصر وعلم ذلك من جهة أنه ذكر هشاما مع أصحاب القصر في أول البيت الآتي ولم يذكر الدوري معهم فكان مع المسكوت عنهم وهم أصحاب الصلة ونوفلا حال والنوفل الكثير العطاء
(165)
(لَـ)ـهُ (ا)لرُّحّبُ وَلزِّلْزَالُ خَيْراً يَرَهْ بِهَا وَشَرًّا يَرَهْ حَرْفَيْهِ سَكِّنْ (لِـ)ـيَسْهُلاَ
الرحب السعة أشار إلى شهرته وصحته أي يجد المتصدي لنصرة القصر رحبا وسعة ومجالا من نقل ذلك لغة وقوة تعليلية فالذين قصروا يرضه حمزة وعاصم وهشام ، بخلاف عنه ونافع ، ثم قال والزلزال أي وسورة الزلزال يعني (إذا زلزلت الأرض زلزالها) ، وهو مبتدأ وسكن خبره والعائد إلى المبتدإ الضمير في بها وأنثه لأنه ضمير السورة ، (خيرا يره) و (شرا يره) ، مفعول سكن وحرفيه صفة لهما يفيد التأكيد ، وإنما أكثر من هذا البيان ولم يكتف بقوله يره كما نص على ألقه ويتقه ويؤده وغير ذلك حذرا من التي في سورة البلد قوله (لم يره أحد) ، فتلك لم يذكر في التيسير فيها خلافا وذكره في غيره والهاء في حرفيه تعود على لفظ الزلزال ويجوز أن يكون بدلا من خيرا يره وشرا يره بدل البعض من الكل ويعني بحرفيه هاءى الكناية في هذا اللفظ وكأن الوجه على هذا أن يقول حرفيهما وإنما وحد ردا على يره لأنه لفظ واحد تكرر والألف في ليسهلا للتثنية أي ليسهل الحرفان بالإسكان ويجوز أن يكون خبر الزلزال قوله خيرا يره بها وشرا يره ، ثم قال سكن حرفي هذا اللفظ كما تقول الدار بها زيد وعمرو أكرمهما ، وقيل أشار بقوله ليسهلا إلى ثقل الصلة هنا من جهة أن بعد كل هاء منهما واو فيلتقي واوان في قوله يرهو ومن يعمل يرهو والعاديات لأن هذه الصلة إنما اعتبارها في الوصل وأما الوقف فبالإسكان لا صلة فيه لجميع القراء في جميع الهاءات وقد تقدم ذكره ، فإن قلت هذه المواضع التي نص لبعض القراء على إسكانها من أين تعلم قراءة الباقين ، قلت قد سبق الإعلام بها في قوله وما قبله التحريك للكل وصلا وهذه المواضع المسكنة كلها قبل هاآتها متحركات فكأنه قال القراء كلهم على صلة الهاء إذا تحرك ما قبلها ، واستثنى هؤلاء هذه المواضع فأسكنوها والله أعلم
(166)
وَعى (نَفَرٌ) أَرْجِئْهُ بِالْهَمْزِ سَاكِناً وَفي الْهَاءِ ضَمٌّ (لَـ)ـفَّ (دَ)عْوَاهُ (حَـ)ـرْمَلاَ
أرجئه موضعان في الأعراف والشعراء ومعنى وعى حفظ أي حفظ مدلول نفر وهم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أرجئه بهمزة ساكنة وحفظ الباقون بلا همز وهما لغتان فصيحتان قرئ بهما قوله تعالى (وآخرون مرجئون)-(وترجي من تشاء) ، ونفر همزوا الجميع يقال أرجأت الأمر إذا أخرته وبعض العرب يقول أرجيت كما يقول أخطيت وتوضيت فلا يهمز حكاه الجوهري وقوله بالهمز يؤخذ منه أن قراءة الباقين بلا همز ولم تكن له حاجة إلى قوله ساكنا فإنه قد لفظ به كذلك ، فإن قلت فيه زيادة بيان ، قلت صدقت ولكنه يلبس الضد إذ يلزم من ذلك أن يكون الضد فتح الهمز كقوله (ويطهرن) في الطاء السكون (والأيكة) اللام ساكن (منسأته) سكون همزته ماض فإنه ضد السكون فيها فتح الطاء واللام والهمزة ، وعذره في ذلك أن الهمز هو صاحب الضد فضده لا همز كما ذكر ذلك في (الصابئين) و (الأيكة) ولم يقدح في ذلك وصفه الهمز بالسكون وهذا كما أن الحركة ضدها السكون ولا يقدح في ذلك ذكره الكسر والضم والفتح معها على ما مهدناه في شرح الخطبة وساكنا حال من الهمز ، ولو قال مكانه فيهما لكان جيدا وارتفع الإيهام المذكور أي في الموضعين ، ثم ذكر أن جميع من همز أرجئه ضم الهاء إلا ابن ذكوان فإنه كسرها ، واستبعدت قراءته وتكلم فيها من جهة أن الهاء إنما تكسر بعد كسر أو ياء ساكنة وحقها الضم في غير ذلك فأرجئه مثل منه وزنه وأهبه ، وقد اعتذر له بأن الهمز لم يعتد به حاجزا لقبوله الإبدال فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة أو كأنها بعد ياء ساكنة في التقدير لو أبدلت الهمزة ياء ، ويضعف هذا الاعتذار وجوه ، الأول أن الهمز معتد به حاجزا بإجماع في (أنبئهم ونبئهم) والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم ، الثاني أنه كان يلزمه صلة الهاء إذ هي في حكمه كأنها قد وليت الجيم ، الثالث أن الهمز لو قلب ياء لكان الوجه المختار ضم الهاء مع صريح الياء نظرا إلى أن أصلها همزة فما الظن بمن يكسر
الهاء مع صريح الهمزة وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقف حمزة فضم الهاء مع الهمز هو الوجه فلهذا قال فيه لف دعواه حرملا والهاء في دعواه للضم ، والحرمل ثبت معروف له في الأدوية مدخل أشار بذلك إلى ظهور وجه الضم مع الهمز ، أي في طي الدعوى به ما يبين حسنه وجودة القراءة به ، وذكر ابن جني في كتابه المحتسب قال وروى عن ابن عامر (أنبئهم) بهمزة وكسر الهاء ، قال ابن مجاهد وهذا لا يجوز ، قال ابن جنى طريقه أن هذه الهمزة ساكنة والساكن ليس بحاجز حصين عندهم فكأن لا همز هناك أصلا ، ثم قرر ذلك بنحو مما تقدم والله أعلم قال
(167)
وَأَسْكِنْ (نَـ)ـصِيراً (فَـ)ـازَ وَاكْسِرْ لِغَيْرِهِمْ وَصِلْهَا (جـ)ـوَاداً (دُ)ونَ (رَ)يْبٍ (لِـ)ـتُوصَلاَ
نصيرا حال من فاعل أسكن أي ناصرا فائزا بظهور الحجة وقد تقدم وجه الإسكان وقرأ به سنا عاصم وحمزة ولا همز في قراءتهما فصار أرجه كألقه وهما يسكنانهما وأبو عمرو وافقهما على ألقه ولم يمكنه الإسكان في أرجه لأنه يهمز ففي الإسكان جمع بين ساكنين ثم قال واكسر لغيرهم أي لغير الذين ضموا والذين سكنوا وهم نافع والكسائي وابن ذكوان ، وقد مضى الكلام في قراءة ابن ذكوان ونافع والكسائي كسرا الهاء لكسرة الجيم قبلها إذ ليسا من أصحاب الهمز ، ثم ذكر الذين وصلوا الهاء وهم أربعة اثنان من أصحاب الضم والهمز وهما ابن كثير وهشام واثنان من أصحاب الكسر بلا همز وهما الكسائي وورش وصلاها بياء على أصلهما في صلة ما قبله متحرك وابن كثير وصلها بواو على أصله في صلة ما قبله ساكن وهشام وافقه وخالف أصله في ترك صلة ما قبله ساكن فقد وافق ابن كثير على مذهبه في الصلة راويان كل واحد منهما في حرف واحد أحدهما في صلة الضم بواو وهو هشام في هذا الحرف ، والآخر في صلة الكسر بياء وهو حفص في (فيه مهانا) ، وقد تقدم وأبو عمرو ضم من غير صلة على أصله وقالون قصر الهاء فكسرها من غير صلة على أصله في المواضع المجزومة كلها ، فالحاصل أن في كلمة أرجه ست قراءات ثلاث لأصحاب الهمز لابن كثير وهشام وجه ولأبي عمرو وجه ولابن ذكوان وجه ، وثلاث لمن لم يهمز لعاصم وحمزة وجه ، وللكسائي وورش وجه ولقالون وجه وقد جمعت هذه القراءات الست في بيت واحد في النصف الأول قراءات الهمز الثلاث وفي النصف الآخر قراءات من لم يهمز الثلاث فقلت ، وأرجئه مل والضم خر صله دع لنا وأرجه ف نل صل جي رضي قصره بلا) ، فابتدأت بقراءة ابن ذكوان ولم أخف تصحيفها بغيرها إذ لا يمكن في موضعها من جهة الوزن شيء من القراءات الست إلا قراءة أبي عمرو وهي مبينة بعدها وقراءة قالون على زحاف في البيت وقراءة قالون سنبين في آخر البيت مع أن صورة الكتابة مختلفة فتعين ما ابتدأ به لابن ذكوان والله أعلم
وجميع الكلمات المجزومة الخمسة عشر توصل بالياء إلا كلمتين يرضه ويره فإنهما يوصلان بالواو ، وفي أرجئه الوجهان من وصل هامزا فبالواو وغير الهامز يصل بالياء ، وقوله جوادا حال من فاعل صلها ، والريب الشك وقوله لتوصل من محاسن الكلام
باب المد والقصر
(168)
إِذَا أَلِفٌ أَوْ يَاؤُهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ أَوِ الْوَاوُ عَنْ ضَمّ لَقِي الْهَمْزَ طُوِّلاَ
ألف فاعل فعل مضمر فسره قوله لقي الهمز أي إذا لقيت الألف الهمز والهاء في ياؤها تعود على الألف لأنها أختها في المد أو تعود على حروف الهجاء للعلم بها وقوله عن ضم أي بعد ضم لأن عن للمجاوزة وأسكن الياء في لقي ضرورة والضمير في طول الحرف المد مطلقا أي الذي لقي الهمز ومعنى طول مد لأن حرف المد كلما طول ازداد مدا وقد تقدم أن حروف الهجاء يجوز تأنيثها وتذكيرها فلهذا أنث في قوله ياؤها وذكر في قوله لقي الهمز طول وذكر في هذا البيت حروف المد الثلاثة وهن الألف والياء والواو ولم يقيد الألف لأنها لا تقع إلا بعد فتحه وقيد الياء بكسرة قبلا والواو بضمة قبلها لأن كل واحدة منهما يجوز أن يقع قبلها فتحة (كهيئة-وسوأة) ولذلك حكم سيأتي وشرط الياء والواو أيضا أن يكونا ساكنين وأما الألف فلا تكون إلا ساكنة فالألف لا يزال حرف مد ، وأما أختاها فبشرطين ، أحدهما السكون ، والثاني أن يكون حركة ما قبلهما من جنسهما قبل الياء كسرة وقبل الواو ضمة فحينئذ يكونان حرفي مد نحو قال وقيل ويقول ينطق في هذه الثلاثة بعد القاف بمدة ثم لام ، فإذا اتفق وجود همز بعد أحد هذه الحروف طول ذلك المد استعانة على النطق بالهمز محققا وبيانا لحرف المد خوفا من سقوطه عند الإسراع لخفائه وصعوبة الهمز بعده وهذا عام لجميع القراء إذا كان ذلك في كلمة واحدة نص على ذلك جماعة من العلماء المصنفين في علم القراءات من المغاربة والمشارقة ومنهم من أجرى فيه الخلاف المذكور في كلمتين على ما سيأتي ، وبعضهم اختار تفضيل الألف
===============
ج2. كتاب : إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع
المؤلف:الإمام الشاطبي
على أختيها في المد وتفضيل الياء على الواو والله أعلم وأحكم
(169)
فَإِنْ يَنْفَصِلْ فَالْقَصْرُ (يَـ)ـادّرْهُ (طَ)ـالِباً بِخُلْفِهِماَ (يُـ)ـرْوِيكَ (دَ)رًّا وَمُخْضَلاَ
أي فإن ينفصل المذكور بعضه من بعض والمذكور هو أن يلقى حرف المد همزا ، وهو في اصطلاح القراء على ضربين متصل ومنفصل ، فالمتصل أن يلتقيا في كلمة واحدة وقد سبق ذكره ، والمنفصل أن يلتقيا وحروف المد آخر كلمة والهمز أول كلمة أخرى ويسمى مد حرف لحرف وهذا هو المذكور في هذا البيت ، فالقراء فيه على قسمين منهم من جرى على المد كما في المتصل ، ومنهم من لم يطول المد بل اقتصر على ما في حرف المد من المد الذي فيه إذا لم يصادف همزة فهذا هو الذي عبر عنه بالقصر وسواء في ذلك حرف المد المرسوم في المصحف والذي لم يرسم له صورة نحو (هاأنتم-ويا آدم) لم يرسم في كل كلمة غير ألف واحدة هو صورة الهمزة وألف هاويا محذوفة ونحو صلة هاء الكناية وميم الجمع نحو (به أن يوصل)-(ومنهم أميون) ، يجري الأمر فيه كغيره من المد والقصر على ما تقتضيه مذاهب القراء فالذين قصروا هم ابن كثير والسوسي وكذا قالون والدوري عن أبي عمرو بخلاف عنهما ، والباقون على المد ولم يذكر صاحب التيسير القصر عن الدوري فهو من زيادات القصيدة وقد ذكره غيره على ما نقلناه في الشرح الكبير ، ومنهم من نقل الخلاف عن أبي عمرو نفسه ، ووجه القصر الانفصال لأن لكل كلمة حكم الاستقلال فلم يقو الالتقاء قوته إذا كان في كلمة واحدة ، ومنهم من حكى عن ابن كثير المد في كلمة الشهادة ، وقد ذكر جماعة من المصنفين تفصيلا بين أصحاب المد فجعل بعضهم أطول مدا من بعض ولم يتعرض الشيخ الشاطبي رحمه الله في نظمه لذلك ، وحكى عنه الشيخ أبو الحسن رحمه الله في شرحه أنه كان يرى في المنفصل مدتين طولى لورش وحمزة ووسطى لمن بقي ، ويجوز في قوله فالقصر الرفع والنصب أجود ويرويك جملة مستأنفة أو حال من الهاء في بادره أي بادره طالبا
مرويا فيكون طالبا حالا من الفاعل ومرويا حالا من المفعول نحو لقيته مصعدا منحدرا ، ويجوز أن يكون يرويك جوابا للأمر في بادره ولم يجزمه ضرورة ودرا مصدر في موضع الحال أي دارا ومخضلا عطف عليه وهما حالان من فاعل يرويك العائد على القصر يقال درت الناقة ودر الضرع باللبن يدر ويدر درورا ودرا ، والدر اللبن نفسه أيضا ودرت السماء كثر مطرها ، وأخضلت الشيء فهو مخضل إذا بللته وشيء خضل أي رطب ، والخضل النبات الناعم وكل هذا ثناء على القصر أي بادره يثلج له صدرك بما يدر من فوائده وينسكب من معاني استحسانه ، وهو اختيار المبرد ثم مثل القسمين فقال
(170)
كَجِئَ وَعَنْ سُوءٍ وَشَاءَ اتِّصَالُهُ وَمَفْصُولُهُ في أُمِّهَا أَمْرُهُ إِلَى
أي اتصال الهمز بحرف المد في كلمة واحدة مثل جئ في قوله (وجئ يومئذ بجهنم) ، فهذا مثال الياء ومثله سيء بهم والواو كقوله (أو تعفو عن سوء) ، وثلاثة قروء الألف في نحو شاء وجاء ثم مثل المفصول وهو الالتقاء في كلمتين بقوله سبحانه (في أمها رسولا) ، فهذا مثال الياء ومثله (أولى أجنحة)-(يا بني آدم) والواو نحو (قوا أنفسكم)-(قالوا آمنا) ، ومثل الشاطبي رحمه الله بقوله أمره إلى إعلاما بأن واو الصلة التي لا رسم لها في المصحف كغيرها ، ومثله على قراءة ورش وغيره إنهمو أناس-عليهمو آياتنا-ومثال الألف (لا إله إلا الله)-(إنها إذا جاءت)-(لا أعبد ما تعبدون) ، وضاق على الناظم تمثيل الألف من القرآن في هذا البيت وإن كان حاصلا من جمعه بين المثالين في قوله أمها أمره لأن الغرض تصوير المثال كما أنه في بيت آخر سيأتي مثل بأوهلا في آخر باب الهمز المفرد فقال كآدم أوهلا وليس أوهل في القرآن والهاء في اتصاله ومفصوله لحرف المد ومفصوله مبتدأ وما بعده الخبر على حذف مضاف أي مثل هذا اللفظ وغلط من قال الخبر في الجار والمجرور أي مستقر في المذكور لأن في أمها لم يقصد به في البيت إلا حكاية ما في القرآن وفي نحو قوله تعالى (هؤلاء) مدان مد ألف ها من المنفصل ومد الألف الأخيرة من المتصل فاعلم ذلك والله أعلم
(171)
وَمَا بَعْدَ هَمْزٍ ثَابِتٍ أَوْ مُغَيَّرٍ فَقَصْرٌ وَقَدْ يُرْوَى لِوَرْش مُطَوَّلاَ
أي والذي وقع من حروف المد بعد همز سواء كان ذلك الهمز ثابتا أو مغيرا ويعني بالثابت الباقي على لفظه وصورته وبالمغير ما لحقه نقل أو تسهيل أو إبدال على ما نبينه ، وتقدير الكلام فإن انعكس ما ذكرناه فوقع حرف المد بعد الهمز وهذا لا يكون إلا في المتصل لأن حرف المد لا يقع أول كلمة لاستحالة ذلك من أجل سكونه ، فقوله وما مبتدأ وخبره قوله فقصر أي فهو ذو قصر أو فحكمه قصر ودخلت الفاء لما في المبتدإ من معنى الشرط وهذا القصر لجميع القراء ورش وغيره ولم يذكر ابن مجاهد عن أحد خلاف ذلك ولا عامة كتب العراقيين ثم قال أو قد يروي ذلك لورش مطولا أي ممدودا مدا طويلا قياسا على ما إذا تقدم حرف المد على الهمز ، ونص على المذكور ابن شريح وابن الفحام وصاحب العنوان ومكي والمهدوي وغيرهم من المغاربة والمصريين في مصنفاتهم ووجه القصر عدم المعنى الذي لأجله مد حرف المد إذا تقدم على الهمز والله أعلم
(172)
وَوَسَّطَهُ قَوْمٌ كَآمَنَ هؤُلاَءِ آلِهَةً آتى لِلْإِيمَانِ مُثِّلاَ
أراد وسط المد لورش في ذلك جماعة ليكون المد في هذا النوع أقل منه فيما إذا تقدم حرف المد على الهمز لظهور الفارق بينهما ولم يذكر صاحب التيسير غيره وذكره أيضا أبو علي الأهوازي وغيره ولا مانع من أن يكون لفظ قوم في بيت الشاطبي رحمه الله رمزا لخلاد على اصطلاحه كما قال فيما مضى حمى صفوه قوم فكان ينبغي له أن يأتي بلفظ يزيل هذا الاحتمال نحو أن يقول وبالمدة الوسطى أو يقول ووسطه أيضا كآمن فقد صار لورش ثلاثة أوجه في هذا النوع القصر كسائر القراء والمد المتوسط والمد الطويل ، ثم مثل ما فيه هذه الأوجه بأربعة أمثلة اثنان فيهما الهمز ثابت وهما آمن وأتى وبعد الهمز ألف ومثال ما بعده واو أوحى وأوتي ومثال ما بعده ياء (إيلافهم)-(وإيتاء ذي القربى) ، وإن كان الهمز في بعض ذلك يجوز أن تلقى حركته على الساكن قبله فيصير من باب الهمز المغير نحو (قل أوحي)-(من آمن) ، واثنان من أمثلة الناظم فيهما الهمز مغير أحدهما (لو كان هؤلاء آلهة) ، فقراءة ورش بإبدال همزة آلهة ياء في الوصل بعدها ألف فهي حرف مد بعد همز مغير والثاني للإيمان بنقل حركة همزة إيمان إلى اللام ونحو (جاء آل لوط) ، يسهل ورش همزة آل بين بين فالياء من إيمان والألف من آل بعد همز مغير وبعض من يرى المد لم يذكره بعد الهمز المغير ووجهه عدم الهمز ووجه المد ترك الاعتداد بالعارض فالوجهان جائزان في قصر حرف المد قبل الهمز المغير على ما يأتي في باب الهمزتين من كلمتين فقصر حرف المد بعد الهمز المغير أولى ، ثم إن بعض القائلين بالمد في هذا النوع قد استثنوا له مواضع فلم يمدوها وقد ذكرها الناظم فقال
(173)
سِوى يَاءِ إِسْرَاءيِلَ أَوْ بَعْدَ سَاكِنٍ صَحِيحٍ كَقُرْآنِ وَمَسْئُولاً اسْأَلاَ
في كلمة إسرائيل حرفا مد الألف قبل الهمزة والياء بعدها فمد الألف من باب المتصل ومد الياء من هذا النوع المختص لورش وأكثر ما تجيء كلمة إسرائيل بعد كلمة بني فيجتمع ثلاث مدات مد يا بني من المنفصل وفي إسرائيل مدتان مع طول الكلمة وكثرة دورها فاستثنى مد الياء تخفيفا فترك ، فإن قلت (فجاءوا أباهم) ، فيه أيضا ثلاث مدات فمد الألف قبل الهمزة من المتصل ومد الواو لهمزة أباهم من المنفصل ومدها للهمزة قبلها من النوع المختص لورش ، قلت مدها لما بعدها وما قبلها متحد فتدخلا فلم يبق إلا مدتان وأو في قوله أو بعد ساكن بمعنى الواو كما قال بعد ذلك وما بعد همز الوصل أراد وما بعد ساكن ثم حذف الموصول اكتفاء بصلته يعني واستثنوا من ذلك ما وقع من الهمز الذي بعده حرف مد بعد ساكن صحيح أي ليس بحرف علة مثل جاءوا والموءودة وسوآت والنبيين فإن المد في كل هذا منصوص عليه والذي قبله ساكن صحيح نحو قرآن وظمئان ومسئولا وعللوه بأن الهمزة معرضة للنقل إلى الساكن قبلها وهذه علة فاسدة من وجوه ، الأول أنه ليس من مذهب ورش النقل في كلمة واحدة ، الثاني أنه فيما تحقق فيه النقل يمد نحو للإيمان فما الظن بما يتوهم جواز نقله لغة ، الثالث أنه منقوض بالموءودة فإن النقل فيها سائغ كقرآن وقد نص مكي والداني في كتاب الإيجاز على مدها فعندي أن علة استثنائه مشكلة وأن الناظم نبه على ذلك في قوله اسألا وهو فعل أمر مؤكد بالنون الخفيفة ثم أبدل منها ألفا في الوقف كنظائر له سلفت أي اسألن عن علته وابحث عنها واكشفها ثم ذكر باقي المستثنى فقال
(174)
وَمَا بَعْدَ هَمْزِ لْوَصْلِ إيتِ وَبَعْضُهُمْ يُؤَاخِذُكُمُ آلانَ مُسْتَفْهِماً تَلاَ
ما بمعنى الذي مجرورة المحل عطفا على إسرائيل وقوله إيت مثل (آيت بقرآن)-(ايتوا صفا)-(إيذن لي)-(أو تمن) ، إذا ابتدأت بهذه الكلمات ونحوها وقع حرف المد بعد همز الوصل وحرف المد في الجميع بدل من الهمزة التي هي فاء الكلمة من آتى وآذن وآمن ولهذا إذا وصلت الكلمة بما قبلها ذهبت همزة الوصل ونطقت بفاء الكلمة همزة في موضع حرف العلة فوجه ترك المد ظاهر وهو أن أصل أحرف المد همزة ولأن همزة الوصل قبله عارضة ، وذكر بعض المصنفين في مده وجهين وعلة المد النظر إلى صورة الكلمة الآن والإعراض عن الأصل ، واتفقوا على منع المد في الألف المبدلة من التنوين بعد الهمزة نحو خطأ وملجأ وماء وغثاء وأما نحو (رأى القمر)-(وتراء الجمعان)-(وتبوؤا الدار) ، مما حذف منه حرف العلة لساكن بعده في الوصل فإذا وقفت عليه وقفت على حرف العلة ومددته لأجل الهمزة قبله فهذا آخر ما استثنى بعد همز ثابت وهذا آخر باب المد والقصر في كتاب التيسير ، وزاد صاحب القصيدة عليه في هذا الباب من قوله وبعضهم يؤاخذكم إلى آخر قوله وفي واو سوآت البيت إلا أن الداني ذكر مد نحو شيء وسوء في أول البقرة ، ثم ذكر الناظم ما استثنى من هذا النوع بعد همز مغير فلم يمد لورش فقال وبعضهم أي وبعض أهل الأداء استثنى لورش مواضع أخر ليست في كتاب التيسير كالمهدوي ومكي والحصري في قصيدته ومحمد بن شريح في كتاب التذكير قال ولم يمد يواخذكم (وعادا الأولى)-(وآلان) ، في الموضعين في يونس أعني الألف التي بعد اللام وقال أبو عمرو الداني في كتاب الإيجاز أجمع أهل الأداء على ترك زيادة تمكين في قوله (يواخذكم)-(ولا تواخذنا)-(ولا يواخذكم الله) ، حيث وقع وكأن ذلك عندهم من واخذت غير مهموز ، قلت فقد نص الداني على أن استثناء يواخذكم مجمع عليه فكان يلزمه ذكره في كتاب التيسير ثم قال وزاد بعضهم ثلاثة أحرف في آلان في الموضعين في يونس وعادا الأولى في النجم قلت فهذه الثلاثة هي التي جعلها الداني من
استثناء بعضهم فأدخل الشاطبي فيها يؤاخذكم لما رأى بعض المصنفين قد قرنها بهن ولم يذكر استثناء ما تصرف منها وكان يلزمه ذكره لئلا يتوهم تخصيصها بذلك ثم قال آلان مستفهما أي هو من جملة ما استثنى بعضهم وتلا خبر وبعضهم ومستفهما حال من فاعل تلا أي وبعضهم تلا يؤاخذكم كيف ما وقع وآلان في حال استفهامه به وعادا الأولى بغير مد ودل على هذا التقدير كونه يعد في تعداد ما استثنى من الممدود ويجوز أن يكون مستفهما حالا من الآن لما كان الاستفهام فيه ويجوز على هذا أن تكون الهاء مفتوحة أي مستفهما به ، وفيه مدتان لم يبين المستثنى منهما إحداهما بعد همزة الاستفهام ، والثانية بعد اللام وهي المستثناة بين ذلك المهدوي وابن شريح كما نقلناه من كلامه ، ووجه استثنائه استثقال الجمع بين مدتين من هذا النوع المختص بورش في كلمة واحدة ولا نظير لذلك فمد بعد الهمزة الأولى الثابتة وترك المد بعد الثانية المغيرة بالنقل وأما (آلآن خفف الله عنكم) فليس فيه إلا مدة واحدة واحترز بقوله مستفهما عن هذا ونحوه لأن ما لفظ به في البيت يمكن قراءته باستفهام قبضا لخبن مفاعيلن ونظمت أنا بيتا نطقت فيه بما لا يحتمل غير الاستفهام وأدرجت يؤاخذ مع المجمع عليه في الاستثناء على ما ذكره الداني ولم أقيده بالضمير ليشمل المواضع كلها وأوضحت ما بعد همز الوصل بأن ذلك في حال الابتداء وصرحت بالتمثيل بايت فقلت ، (وما بعد همز الوصل بدءا كايت مع يؤاخذ زاد البعض آلان قصر لا) ، أي موضع الاستثناء في آلان قصر لفظها لامها وهو ترك المد بعد الهمزة الثانية المنقول حركتها إلى اللام ففي البيت الذي نظمته خمسة أشياء فاتت بيت الشاطبي رحمه الله وهي تصريح التمثيل بابت وذكر البدء وإدراج يؤاخذ مع المستثنى المتفق عليه وتعريته من الضمير ليعم وبيان موضع المستثنى من الآن ثم تمم المستثنى فقال
(175)
وَعَادً الْأُولى وَابْنُ غَلْبُونَ طَاهِرٌ بِقَصْرِ جَمِيعِ الْبَاب قَالَ وَقَوَّلاَ
لم يسمح له النظم أن يلفظ بعادا الأولى على قراءة ورش فلفظ بها على قراءة حمزة إذا وقف عليها في بعض الوجه ، وأما قراءة ورش فبإدغام التنوين في اللام بعد نقل حركة الهمزة إليها فلم يمد واو لولى هنا وإن كان يمدها في (سيرتها الأولى) ، لأن الحركة هنا صارت كاللازمة من أجل التنوين فيها فكأن لا همز في الكلمة لا ظاهرا ولا مقدرا فإن وقفت لورش على عادا فتلك في ابتداء لولى مذهبان المد إن لم تعتد بالعارض وتركه إن اعتددت بها ذكرهما المهدوي وقوله وابن غلبون مبتدأ وطاهر عطف بيان ميزه بذلك من أبيه كل واحد منهما يقال له ابن غلبون وكلاهما من علماء القراءات المصنفين فيها فالأب مصنف كتاب (الإرشاد) وشيخ أبي محمد مكي بن أبي طالب وهو أبو الطيب عبد المنعم بن عبد الله بن غلبون الحلبي نزيل مصر وابنه أبو الحسن طاهر بن عبد المنعم وهو مصنف كتاب التذكرة وشيخ صاحب التيسير وقوله يقصر جميع الباب متعلق بقال وقال هو خبر المبتدإ أتى بذلك وأخذ به وعنى بجميع الباب كل ما كان حرف المد فيه بعد همز ثابت أو مغير وقولا عطف على قال أي وقول ورشا بذلك أي جعله هو المذهب له وما سواه غلطا ووهما قد قرر ذلك في كتاب التذكرة فأحسن وما قال به ابن غلبون هو الحق وهو اختيار ناظم القصيدة في ما أخبرني الشيخ أبو الحسن عنه رحمهما الله تعالى ، وغلبون اسم مشتق من الغلبة وهو في الزنة كحمدون من الحمد وسعدون من السعد واستعمله الناظم هنا غير منصرف وفي باب الهمز المفرد منصرفا والنظم يحتمل الأمرين ، وقد نقل ابن برهان في شرح (اللمع) عن أبي علي أن حمدون يمتنع صرفه ووقع في نظم المتنبي حمدون مصروفا وغير مصروف في بيت واحد فقال ابن جني في شرحه ترك صرف حمدون ضرورة وقد أجازه الكوفيون فدل هذا الكلام على أن رأي ابن جني فيه الصرف فتحصلنا على وجهين في حمدون وغلبون مثله
فالصرف رأي أبي الفتح وتركه رأي شيخه أبي علي رحمه الله والله أعلم
(176)
وَعَنْ كُلِّهِمْ بِالْمَدِّ مَا قَبْلَ سَاكِنٍ وعِنْدَ سُكُونِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ أُصِّلا
أي وما وقع من حروف المد قبل ساكن فحكمه المد عن كل القراء فهذه الجملة معطوفة على قوله وما بعد همز ثابت أو مغير فقوله ما قبل ساكن ما فيه بمعنى الذي وهي مبتدأ خبره أحد الجارين قبله مع مجروره وبالمد وعن كلهم فأيهما قدرته خبرا علقت الآخر به فإن جعلت الخبر بالمد كان التقدير والذي قبل ساكن مقروء بالمد عن كلهم وإن قلت الخبر عن كلهم قدرت مرويّ عن كلهم بالمد ولولا الباء في بالمد لكان ما قبل ساكن مفعولا به ، واعلم أن الساكن الواقع بعد حرف المد تارة يكون مدغما وتارة غير مدغم والمدغم على ضربين واجب الإدغام لغة وجائزه فالواجب نحو (دابة)-(والصاخة)-(والطامة)(والضالين)-(وأتحاجوني)-(والذكرين) (والطامة - والضالين - وأتحجونى - وآلذكرين (آلله خير) والجائز نحو (الكتاب)-(الأبرار لفي)-(نصيب برحمتنا) على قراءة أبي عمرو (ولا تعاونوا) ، على قراءة البزي والساكن غير المدغم نحو ما يأتي في فواتح السور (وآلآن) في موضعي يونس وكذا (واللاءي)-(ومحياي) ، في قراءة من أسكن وكذا ما يأتي في قراءة ورش من الإبدال في نحو (ءأنذرتهم)-(وشاء أنشره) ، وشرط الإدغام المذكور أن يكون في كلمة أو واقعا بعد التقاء الكلمتين كما مثلنا من قراءتي أبي عمرو والبزي فإن كان الإدغام في الكلمة الثانية سابقا لالتقائهما مستمرة حاله على ذلك فإن حروف المد تحذف حينئذ ولا يقنع بالمد فيها نحو (إذا الشمس كورت)-(وقالوا اتخذ)-(والمقيمي الصلاة) ، وكذا الساكن غير المدغم نحو (وإذا الجبال)-(وقالوا الحمد لله)-(ومنهم من خسفنا به الأرض) ، فقوله ما قبل ساكن ليس على إطلاقه بل يختص بما كان من ذلك في كل ما يعد كلمة واحدة ، قوله وعند سكون الوقف ، يعني إذا كان الساكن بعد حرف المد إنما سكنه الوقف وقد
كان محركا فسكونه عارض فهل يمد لأجله لأنه سكون في الجملة أو لا يمد نظرا إلى عروض السكون ويكتفي بما في حرف المد من المد فيه وجهان وذلك نحو (المصير)-(ويؤمنون)-(والألباب) ، وذلك أيضا عام لجميع القراء وإنما قال سكون الوقف ولم يقل وعند الوقف احترازا من الروم فلا مد مع الروم ويمد مع الإشمام لأنه ضم الشفتين بعد سكون الحرف ، ثم إذا قيل بالمد فهل هو مد متوسط أو مشبع فيه وجهان ، وذكر الشيخ وغيره أن الناظم أشار إلى هذين الوجهين بقوله وجهان أصلا أي جعلا أصلا يعتمد عليه وأشار بقوله أصلا إلى وجه ثالث وهو الاختصار على ما في حرف المد من المد ولا يظهر لي أنه أراد بالوجهين إلا القصر والمد لأنه ذكر المد لما قبل ساكن ولم يبين طوله ولا توسطه وقال بعد ذلك وعند سكون الوقف وجهان أصلا فعلم أنه المد وضده وهو القصر ولو كان أشار إلى الطول والتوسط لكان ممدودا بلا خلاف وإنما الخلاف في المقدار والمد لا يفهم من عبارته في نظمه فالظاهر ما ذكرته لكن ما ذكره الشيخ يقويه ما يأتي في شرح البيت الآتي وقوله أصلا تنبيه على الوجوه الثلاثة كأنه قال اختلف في مده وقصره بالنظر إلى أصل الكلام في ذلك ، ثم إذا قيل بالمد فهل هو مشبع أو متوسط فيه وجهان ولا يمتنع أن يكون أصلا رمزا لنافع فهو لفظ موهم كما ذكرناه في ووسطه قوم وقوله قبل ذلك وعن كلهم لا يدفع هذا الإبهام لاحتمال أن يقال الذي هو عن كلهم هو غير سكون الوقف ثم لا فرق في حرف المد بين أن يكون مرسوما نحو (قال) أو غير مرسوم نحو (الرحمن) ، أو كان بدلا من همزة نحو (الذئب)-(ويؤت) والرأس ، واختار أبو الحسن الحصري وجه القصر في سكون الوقف لأنه كسائر ما يوقف عليه مما قبله ساكن صحيح نحو (والعصر) و(خسر) و(الصبر) ، فما الظن بما قبله حرف مد فقال في قصيدته التي نظمها في قراءة نافع ، (وإن يتطرف عند وقفك ساكن فقف دون مد ذاك رأيي بلا فخر) ، (فجمعك بين الساكنين يجوز إن وقفت وهذا من كلامهم
الحر)
(177)
وَمُدَّ لَهُ عِنْدَ الْفَوَاتِحِ مُشْبِعاً وَفي عَيْن الْوَجْهَانِ وَالطُّولُ فُضِّلاَ
له أي للساكن لأن كلامه في البيت السابق فيما يمد قبل الساكن فكأنه قال ويمد لأجل الساكن أيضا في موضع آخر وهو فواتح السور ومشبعا حال من فاعل مد ويجوز بفتح الباء على معنى مدا مشبعا فيكون نعت مصدر محذوف ويجوز في دال مد الحركات الثلاث ، والفواتح جمع فاتحة وهي الأوائل ومنه سميت فاتحة الكتاب وعنى بها أسماء حروف التهجي التي تبتدأ بها السور نحو كاف قاف نون لام ميم سين إذ لا مد في فاتحة سورة لأجل ساكن إلا فيها وفي (والصافات)-(والحاقة) ، وذلك قد علم مما قبل ، وقوله عند الفواتح أي فيها وبحضرتها كما قال في الباب السابق ويأته لدى طه ولا بعد في أن يتجوز بحضرة الشيء عن الشيء وهذا المد أيضا لجميع القراء ولأن السكون لازم قال مشبعا كمدا دابة بخلاف المد لسكون الوقف ، ومنهم من اختار تفضيل مد المدغم على غيره ففضل مد لام من ألف لام على مد ميم ، ومنهم من سوى فإن تحرك الساكن نحو ميم أول آل عمران لجميع القراء وأول العنكبوت على قراءة ورش ففي المد وجهان ظاهران ، والأقيس عندهم المد وترك الاعتداد بالعارض ، ثم قال وفي عين الوجهان يعني في لفظ عين من حروف الفواتح وذلك في (كهيعص)-(وعسق) ، وإنما أعرب آخرها وكسر ونون وكان الوجه أن ينطق بها على لفظها ساكنة من أجل أن الشعر لا يجمع فيه بين ساكنين ، ولما انتفى هذا المانع في ألف طه نطق بهن على لفظهن في البيت الذي يأتي ، ولو قال في عينها الوجهان لكان أيضا جيدا أي في عين الفواتح ، وظاهر كلامه أن الخلاف في مد عين لجميع القراء لأن السابق كذلك وهو اختيار مكي ، ونص المهدوي وابن شريح أن ذلك مختص بورش ، ووجه الخلاف انفتاح ما قبل الياء فلم يقو المد فيها قوته في الياء لينكسر ما قبلها ، وقوله الوجهان الألف واللام فيه للعهد أي الوجهان المذكوران في المد لسكون الوقف في البيت قبله
هما في عين مطلقا وصلا ووقفا ، ثم قال والطول فضلا يعني المد في عين لأنه لاجتماع الساكنين مع أن الثاني ليس بعارض بخلاف سكون الوقف ، ويحتمل أنه عنى أن الطول فضل في عين وفي المد لسكون الوقف لشبه الجميع بباب دابة ولا نظر إلى عروض السكون في الوقف ، والأولى أن يكون قوله الوجهان إشارة إلى إشباع المد وهو المراد بالطول وإلى عدم إشباع المد مع أنه لا بد من المد فلهذا قال والطول فضلا يعني الإشباع ولم يقل والمد فضلا لأن المد في الوجهين
(178)
وَفي نَحْوِ طهَ الْقَصْرُ إِذْ لَيْسَ سَاكِنٌ وَمَا فِي أَلِفْ مِنْ حَرْفِ مَدٍ فَيُمْطَلاَ
أي إذ ليس فيه ساكن فيمد حرف المد لأجله فوجب القصر في كل ما كان من حروف الهجاء على حرفين وذلك خمسة أحرف حا. را. طا. يا. ها. وأما ألف فآخره ساكن ولكن ليس فيه حرف مد وقوله فيمطلا أي فيمد وكل ممدود ممطول يقال مطلت الحديدة أمطلها مطلا إذا ضربتها بعد ما حميت في النار ومددتها لتطول ومنه اشتقاق المطل بالدين لأنه مد في المدة ونصب فيمطلا في جواب النفي بالفاء ، فقد تحرر من هذين البيتين أن حروف الفواتح على أربعة أقسام الأول ما هو على ثلاثة أحرف والتقى فيه حرف المد والساكن وقبل حرف المد حركته المجانسة له فهو ممدود بلا خلاف وذلك في سبعة أحرف للألف أربعة صاد قاف كاف لام وللياء اثنان سين ميم وللواو واحد نون ، القسم الثاني مثل ذلك إلا أنه عدم مجانسة الحركة للحرف ففي مده خلاف وهو حرف واحد وهو عين والثالث والرابع المذكوران في هذا البيت لا مد فيهما لفقد الساكن في حا وأخواتها ولفقد حرف المد في ألف والله أعلم
(179)
وَإِنْ تَسْكُنِ الْيَا بَيْنَ فَتْحٍ وَهَمْزَةٍ بِكَلِمَةٍ أَوْ وَاوٌ فَوَجْهَانِ جُمِّلاَ
يعني إذا كان قبل الياء والواو فتح وبعدهما همزة في كلمة واحدة نحو (كهيئة-وسوأة) فلورش في مد ذلك وجهان جميلان وهذا هو مد المتصل بعينه الذي تقدم في أول الباب لم يعدم من شرطه إلا كون حرف المد ليس حركة ما قبله من جنسه فصار هذا من الممدود لأجل الهمز بمنزلة (عين)-(وجرين) ، في الممدود لأجل الساكن والمتصل بمنزلة لام ميم ، وكان الأولى وصل الكلام في هذا الفصل بالكلام في المتصل والمنفصل لأنه كله من باب واحد وهو مد حرف المد لهن بعده ثم يذكر مده لهمز قبله ثم يذكر مده للساكن بعده ويقسمه إلى مدغم وغير مدغم مبينا ما يحذف حرف المد لأجله مما يمد على ما سبق تفصيله إلى فواتح وغير فواتح وإلى ما يمد وصلا ووقفا وإلى ما يمد وقفا لا غير ولكن لما لم يكن ذلك في التيسير في هذا الباب أخره إلى الفراغ من نظم ما في التيسير والجيم من قوله جملا يجوز أن تكون رمزا لورش ولا يضر ذلك تسميته في البيت الآتي فهو كما يتكرر الرمز فهذا أولى ، ويجوز أن يكون أتى به لمجرد الوصف واستغنى بالتسمية عن الرمز والتقدير ففيه وجهان فحذف خبر المبتدإ للعلم به ثم بين الوجهين فقال
(180)
بِطُولٍ وَقَصْرٍ وَصْلُ وَرْشٍ وَوَقْفُهُ وَعِنْدَ سُكُونِ الْوَقْفِ لِلْكُلِّ أُعْمِلاَ
وصل ورش ووقفه مبتدأ وخبره بطول وقصر أي الوجهان له في الوصل والوقف لأنه لما مد ذلك وصلا كان ذلك من باب مد المتصل وكل من مد المتصل وصلا مده وقفا لوجود الهمز الموجب لذلك والمراد بالوجهين المد المشبع والمتوسط ، نص على ذلك المهدوي وغيره ونبه على ذلك بقوله بطول أي بتطويل المد والقصر عدم تطويل المد مع بقاء أصل المد ولولا إرادته لهذا المعنى لقال بمد وقصر فوجه الإشباع جعله كالمتصل ووجه التوسط حطه عن تلك الرتبة قليلا لضعفه عن ذلك بانفتاح ما قبله وقد بين ذلك الحصري في قصيدته فقال ، (وفي مد عين ثم شيء وسوءة خلاف جرى بين الأئمة في مصر) ، (فقال أناس مده متوسط وقال أناس مفرط وبه أقرى) ، فإن قلت كيف عبر الناظم رحمه الله عن المد المتوسط بلفظ القصر وهلا كان المفهوم منه عدم المد مطلقا كما استعمله بهذا المعنى في قوله فيما تقدم فإن ينفصل فالقصر وقوله وفي نحو طه القصر ، قلت كأنه قال بمد طويل ومد قصير ، ووجه التعبير عنه بالتوسط أنه مذهب بين مذهبين الإفراط في المد وعدمه الذي هو لسائر القراء لأن الياء والواو متى ما انفتح ما قبلهما لم يكن فيهما مد وإن كانا قابلين له لو فعل فيهما لأجل همز أو ساكن كما سيأتي ، والدليل على أنهما لا مد فيهما له إجراؤهما مجرى الحروف الصحيحة في إدغامهما في مثلهما نحو (عصوا وكانوا)-(وآووا ونصروا) ، واخشي يا هند ، وإذا كانت حركة ما قبلهما من جنسهما فلا إدغام لما فيهما من المد فجاز أن يعبر عن ذلك المد بالقصر أي لا يزداد عليه وهنا لما لم يكن فيهما مد كان القصر عبارة عن مد يسير يصيران به على لفظهما إذا كانت حركة ما قبلهما من جنسهما ، ووجه قراءة ورش أن العرب أعطتهما وإن انفتح ما قبلهما حكم ما لم ينفتح في إدغام ما هما قبله نحو ثوب بكر ودويبة ، وفي اجتماع النوعين ردفا في الشعر ولا يدغمان في مقاربهما ولا ينقل إليهما حركة الحرف الموقوف عليه في نحو زيد وعون من لغته النقل في بكر ونصر
وذلك للمد المقدر فيهما فينزل منزلة الحركة ، ثم قال وعند سكون الوقف أراد أن يبين حكم الياء والواو المفتوح ما قبلهما عند لقائهما للساكن بعد أن بين حكمهما عند الهمز وهذا كما ذكر حكم حروف المد واللين عند الهمز ثم ذكر حكمهما عند الساكن وقد تقدم ، يعني إذا وقعت الياء والواو المفتوح ما قبلهما قبل حرف سكن للوقف همزة كان أو غيره فالوجهان المذكوران وهما المد المشبع والمتوسط أعملا لجميع القراء نحو شيء وسوء وميت وخوف ، وأعملا بمعنى استعملا كقول نابغة بني شيبان ، (أمدح الكاس ومن أعملها وأهج قوما قتلونا بالعطش)
(181)
وَعَنْهُمْ سُقُوطُ الْمَدِّ فِيهِ وَوَرْشُهُمْ وَمَنْ أَعْمَلَهاَ يُوَافِقُهُمْ فِي حَيْثُ لَا هَمْزَ مُدْخَلاَ
ذكر وجها ثالثا عن القراء وهو عدم المد في حرف اللين قبل الساكن للوقف فصار لهم فيه ثلاثة أوجه ووافقهم ورش عليها في الوقف على كل ما لا همز فيه نحو (رأي العين)-(وإحدى الحسنيين) و(فلا فوت) و(الموت) ، فيكون له أيضا ثلاثة أوجه ، وأما ما كان ساكنة همزة نحو شيء وسوء فله فيه الوجهان المقدمان وقفا ووصلا لأن مد ورش هو لأجل الهمز لا لأجل سكون الوقف وهذه الأوجه الثلاثة في الوقف هنا هي الأوجه التي سبقت في حروف المد واللين عند سكون الوقف ولم ينص ثم على وجه سقوط المد ، وفي نصه عليه هنا تنبيه على ذلك ، واحترز أيضا بقوله هنا وعند سكون الوقف عن الوقف بالروم فلا مد فيه كما سبق في حروف المد واللين إلا في روم الهمزة فالمد باق لورش وحده لأجل الهمز فقد بان لك أن حرف اللين وهو الياء والواو المفتوح ما قبلهما لا مد فيه إلا إذا كان بعده همز أو ساكن عند من رأى ذلك فإن خلا من واحد منهما لم يجز مده فمن مد عليهم وإليهم ولديهم ونحو ذلك وقفا أو وصلا أو مد نحو (الصيف) و(البيت) و(الموت) و(الخوف) ، في الوصل فهو مخطئ ، وقوله مدخلا نعت لما قبله والألف فيه للإطلاق إن قدرناه مبنيا على الفتح كموصوفه وهي بدل من التنوين إن قدرناه منصوبا منونا وكلاهما جائز في صفة اللفظ المفرد المبني بعد لا وخبر لا محذوف تقديره لا همز فيه أي يوافقهم في مكان عدم الهمز والله أعلم
(182)
وَفِي وَاوِ سَوْآتٍ خِلاَفٌ لِوَرْشِهِمْ وَعَنْ كُلٍ الْمَوْءُودَةُ اقْصُرْ وَمَوْئِلاَ
هذا الخلاف هو سقوط المد والمد ، فإن قلنا بالمد على الوجهين في طوله وتوسطه فوجه المد ظاهر ، ووجه تركه النظر إلى أصل ما تستحقه هذه الواو وهو الفتح لأن ما وزنه فعلة بسكون العين جمعه فعلات بفتحها كتمرات وجفنات وأسكن حرف العلة تخفيفا ، ويقال ترك مدها لئلا يجمع بين مدتين في كلمة واحدة مقتضيهما ضعيف لأن مد ما قبله فتح ضعيف ومد ما بعد الهمز ضعيف كما سبق ولهذا جاء في الكل بخلاف اجتماع المدتين في نحو (جاءوا)-(والنبيين) ، فإن المد قبل الهمز مجمع عليه فلم يكن في الكلمة مد مقتضيه ضعيف غير واحد وهو ما بعد الهمز ، فإن قلت كيف يمد ما بعد الهمزة في سوآت وقبل الهمز ساكن وليس من أصل ورش مد ذلك كما تقدم ، قلت لأن الواو حرف علة والمانع هو الساكن الصحيح على أن الواو وإن كانت ساكنة لفظا فهي متحركة تقديرا على ما بيناه فلوحظ الأصل في ترك مدها في نفسها وفي مد ما بعد الهمزة فالعلة واحدة والحكم مختلف فيهما ولهذا ألغز الحصري هذه الكلمة في أبيات له قد ذكرناها والجواب عنها من نظم جماعة من المشايخ في الشرح الكبير وأطلق لفظ سوءات ليتناول ما أضيف إلى ضمير التثنية وإلى ضمير الجمع نحو (بدت لهما سوآتهما)-(يواري سوآتكم) وأما (الموءودة) ، فأجمعوا على ترك المدة في واوها الأولى لأن الثانية بعد الهمزة ممدودة فلم يجمع بين مدتين والتزم ذلك فيها خلاف (سوآت) لثقل مد الواو والهمزة المضمومة بخلاف الهمزة المفتوحة ومد الألف بعدها وأما موئلا فترك مده مشاكلة لرءوس الآى لأن بعده موعدا ، وقد ذكر فيه في (الموءودة) علل أخر ضعيفة تركت ذكرها هنا اختصارا وهي مذكورة في الشرح الكبير والله سبحانه أعلم وهو على كل شيء قدير
باب الهمزتين من كلمة
(183)
وَتَسْهِيلُ أُخْرَى هَمْزَتَيْنِ بِكِلْمةٍ (سَمَا) وَبِذَاتِ الْفتْحِ خُلْفٌ (لِـ)تَجْمُلاَ
لما كانت الهمزة حرفا جلدا على اللسان في النطق بها كلفة بعيد المخرج يشبه بالسعلة لكونه نبرة من الصدور توصل إلى تخفيفه فسهل النطق به كما تسهل الطرق الشاقة والعقبة المتكلف صعودها ، فلهذا سمي تخفيفها تسهيلا ثم تخفيفها يكون على ثلاثة أنواع الإبدال والنقل وجعلها بين بين وتجتمع الأنواع الثلاثة في باب وقف حمزة وهشام وللنقل باب مختص به والإبدال له باب الهمز المفرد وهو يقع في المتحركة والساكنة ، وأما النقل وبين بين فلا يكونان إلا في المتحركة وهذا الباب وما بعده مختصان بما يسهل بين بين ويقع فيهما ذكر الإبدال قليلا ولفظ التسهيل وإن كان يشمل هذه الأنواع الثلاثة تسمية من حيث اللغة والمعنى إلا أنه قد صار في اصطلاح القراء وكثرة استعمالهم وتردده في كلامهم كالمختص ببين بين أي تكون الهمزة بينها وبين الحرف الذي منه حركتها وقد بين ذلك في آخر الباب الذي بعد هذا ، ثم الهمزة الأولى في هذا الباب لا تكون إلا مفتوحة محققة إلا أن يأتي قبلها ساكن فتنقل حركتها إليه في مذهب من يرى ذلك بشرطه نحو (قل أؤنبئكم)-(قل ءأنتم أعلم)-(قل أئنكم لتكفرون) ، وهذا سيأتي ذكره في بابه إن شاء الله تعالى ، وأخرى بمعنى أخيرة أي الهمزة الأخيرة من همزتين واقعتين بكلمة وهي الثانية والأصل الأخرى تأنيث آخر بفتح الخاء كقوله تعالى ، (ولقد مننا عليك مرة أخرى) ، ثم استعملت أخرى بمعنى أخيرة كقوله تعالى (وأن عليه النشأة الأخرى) ، وقال تعالى في موضع آخر (ثم الله ينشيء النشأة الآخرة) ، فقابل بهما سبحانه لفظ الأولى في قوله تعالى (ولقد علمتم النشأة الأولى) ، وقال تعالى أيضا (قالت أخريهم) و(قالت أولاهم لأخراهم) ، أي الفرقة المتقدمة للفرقة المتأخرة ومنه قوله جاء بي في أخريات الناس أي أواخرهم ولا أفعله أخرى الليالي أي أبدا ، فالهمزة الأخيرة من همزتين وهي الثانية تسهيلها بأن يجعل لفظها بين الهمزة والألف إن كانت مفتوحة وبين الهمزة والياء إن
كانت مكسورة وبين الهمزة والواو إذا كانت مضمومة والذين فعلوا هذا التسهيل مدلول قوله سما وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وسما خبر قوله وتسهيل أخرى همزتين وإنما صح الابتداء بلفظ تسهيل وهو نكرة لتخصيصه بإضافته إلى مضاف إلى موصوف إن جعلنا بكلمة صفة لهمزتين أي كائنتين بكلمة كقولك بيت رجل ذي علم مقصود ويجوز أن تجعل بكلمة صفة تسهيل أي وتسهيل واقع بكلمة في همزة ثانية سما أي ارتفع شأنه وظهر وجهه وعليه أكثر العرب واختارته الأئمة من أهل العربية لأنهم إذا كانوا يستثقلون الهمزة المفردة فيخففونها بجميع أنواع تخفيفها فما الظن بما إذا اجتمعت مع همزة أخرى وقراءة باقي القراء بتحقيق الهمزة الثانية كالأولى فضد التسهيل تركه وهو إبقاء الهمز على حاله وهذا الخلاف مختص بالهمزة المتحركة لأنها هي التي يمكن جعلها بين بين ، أما إذا كانت ساكنة فإبدالها واجب على ما يأتي في موضعه ، قوله وبذات الفتح أي وبالهمزة الأخيرة ذات الفتح على حذف الموصوف أي وبالهمزة المفتوحة خلف لهشام في التسهيل والتحقيق واللام في لتجملا رمز لهشام والضمير فيها يرجع إلى الهمز أو إلى الكلمة وهو متعلق بالتسهيل لأنه مصدر أي وسهلت الهمزة الأخيرة لتجمل لأن تسهيلها يخفف النطق بها فهو جمال لها ولا يتعلق بالاستقرار المتعلق به وبذات الفتح لأنه ليس في الخلف جمال لها والجمال الحسن وقد جمل الشيء بالضم فهو جميل وسيأتي لهشام تسهيل موضع من المكسورة وموضعين من المضمومة بخلاف عنه فيهما كما أن الخلاف عنه في المفتوحة لكنه استوعبها بالتسهيل لثقل اجتماع المثلين وليس في كتاب التيسير والعنوان والمستنير غيره وكذا ذكر ابنا غلبون ومكي والمهدي وابن شريح وذكر له التحقيق ابن مجاهد والنقاش وصاحب الروضة ، وممن لم يذكر له إلا التحقيق أبو معشر وابن مريم والشيخ أبو محمد البغدادي وهو رواية إبراهيم بن عباد عن هشام ، وذكر الوجهين أبو علي الأهوازي وابن رضوان وابن الفحام
والحافظ أبو العلا الهمداني والله أعلم
(184)
وَقُلْ أَلِفاً عَنْ أَهْلِ مِصْرَ تَبَدَّلَّتْ لِوَرْشٍ وَفي بَغْدَادَ يُرْوَى مُسَهَّلاَ
ألفا مفعول تبدلت أي تبدلت الهمزة الثانية المفتوحة ألفا لورش قل ذلك عن أهل مصر أي انقله عنهم وانسبه إليهم والضمير في يروى عائد على المذكور وهي الهمزة بالصفة المتقدمة أي يروي ذلك مسهلا أي بين بين كما سبق وهي رواية العراقيين وغيرهم وإنما ذكر يروي بعد تأنيث تبدلت والضمير فيهما للهمزة لأجل قوله مسهلا ثم رجع إلى التأنيث في البيت الآتي فقال وحققها في فصلت فالتأنيث الأصل والتذكير على تأول يروي ذلك كما تقدم أو يروي الهمز والتسهيل هو الوجه المختار الجاري على القياس ، وأما البدل في مثل هذا فلا يكون إلا سماعا لأنه على خلاف قياس تخفيف الهمز على ما سيأتي بيانه في باب وقف حمزة ، وقد قيل إنه لغة لبعض العرب فعلى هذا إن كان بعد الهمز الثانية المبدلة ساكن طول المد لأجله نحو (ءأنذرتهم) ، أخذا من قوله وعن كلهم بالمد ما قبل ساكن وعلى رواية التسهيل لا مد لأن المسهلة بزنة المحققة ، وقيل يمد لأن المسهلة قريبة من الساكنة ولهذا لا تبتدأ بها وليس في القرآن متحرك بعد الهمزتين في كلمة سوى موضعين الذي في هود وهو قوله تعالى (ءألد وأنا عجوز) و(ءأمنتم) في تبارك ، فهذه أصول مطردة لمن حقق أو سهل أو أبدل تأتي في جميع المواضع ، ثم ذكر التي خرج فيها بعضهم عن أصله وكان الخلاف فيها غير الخلاف المقدم ذكره وهي تسعة مواضع في طريقته وبعضهم زاد عليها وإنما ذكرها صاحب التيسير في سورة فقال
(185)
وَحَقَّقَهَا فِي فُصِّلَتْ (صُحْبَةٌ) ءأَعْجَمِيٌّ وَالأولَى أَسْقِطَنَّ (لِـ)ـتُسْهِلاَ
أي وحقق الهمزة الثانية التي هي ذات الفتح في حرف فصلت صحبة فقرءوا (ءأعجمي) ، وخالف ابن ذكوان وحفص أصلها فسهلاها كما يقرؤها ابن كثير وأسقط هشام الأولى فقرأ على لفظ الخبر أي هو أعجمي وعربي أو والرسول عربي أو يكون معنى الاستفهام باقيا وإن سقطت همزته للعلم بها من قرينة الحال كنظائر له فيتفق حينئذ معنى القراءتين والاستفهام هنا للإنكار ، ويجوز أن يكون قوله-أعجمي-بدلا من حرف فصلت أو عطف بيان له ، وفصل بينهما بفاعل حققها وهو صحبة وضرورة ولك أن تجعله خبرا مبتدإ محذوف أي هو ءأعجمي ، وقوله لتسهلا أي لتركب الطريق السهل أو لتسهل اللفظ بإسقاطها ثم إن الناظم رحمه الله بعد ذكره لحرف فصلت أتبعه ما وقع فيه الخلاف بعده فلهذا ذكر ما في الأحقاف ونون ثم ذكر ما قبل فصلت على الترتيب فقال
(186)
وَهَمْزَة أَذْهَبْتُمْ فِي الأَحْقَافِ شُفِّعَتْ بِأُخْرَى (كَـ)مَا (دَ)امَتْ وِصَالاً مُوَصَّلاَ
شفعت أي جعلت شفعا بزيادة همزة التوبيخ عليها ابن كثير وابن عامر يقرآنها بهمزتين وكل واحد منهما على أصله من التحقيق والتسهيل وإدخال الألف بينهما على ما يأتي فالتحقيق لابن ذكوان ، ولهشام التسهيل وإدخال الألف ولابن كثير التسهيل من غير ألف ولم أر في تصانيف من تقدم الناظم من ذكر لهشام التحقيق هنا فإن كان فالمد معه ولكن ليس هذا مما يؤخذ قياسا ألا ترى أن ابن عامر بكماله شفع في نون مع التسهيل كما يأتي ، وظاهر نظم الشاطبي أن وجه التحقيق لهشام يجري هنا لإطلاقه القول في ذلك وإجماله له مع أنه بين الذي في سورة ن وللحافظ أبي عمرو الداني رحمه الله كتاب مستقل في إيضاح مذاهب القراء في الهمزتين الملتقيتين في كلمة أو كلمتين متفقتين أو مختلفتين فحكى فيه عن ابن ذكوان في (ءأذهبتم) ، وجهين أحدهما تحقيق الهمزتين والثاني بهمزة ومدة ، قال واختلف أصحاب هشام عنه فروى الحلواني عنه بهمزة مطولة قال يعني أنه حقق همزة الاستفهام وسهل همزة القطع بعدها فجعلها بين بين وأدخل ألفا فاصلة بينهما طردا لمذهبه في سائر الاستفهام ، وقال أحمد ابن يونس حدثنا هشام عن أصحابه عن ابن عامر-أأذهبتم-بهمزتين ولم يذكر فصلا بينهما ، قلت ولم يذكر تحقيقا ولا تسهيلا والظاهر التسهيل توفيقا بين الروايتين ويصدق على ذلك إطلاق عبارة الهمزتين ، قال الداني وقياس رواية إبراهيم بن عباد عن هشام أن يحققها ويفصل بألف بينهما وقوله كما دامت نعت لمصدر محذوف أي شفعت تشفيعا دائما دواما كدوام همزة-أذهبتم-في نفسها أي ثابتا ثباتا كثباتها ، والمعنى أن ثبات التشفيع في قراءة ابن عامر وابن كثير كثبات همزة أذهبتم لا تبرح ولا تذهب أو شفعت بأخرى دائمة كدوامها فتواصلا وصالا موصلا ينقله بعض القراء إلى بعض ، وقيل كما دامت كذلك مشفعة بهمزة التوبيخ مواصلة لها في مواضع كثيرة نحو (ءأشفقتم) ، ويؤيده قوله في آخر السورة (أليس هذا بالحق) ولا يمتنع الاستفهام بطريق التوبيخ
عما وجد وكان كقوله تعالى (أكفرتم بعد إيمانكم)-(أكذبتم بآياتي) ، ووجه القراءة على الخبر ظاهر والله أعلم
(187)
وَفِي نُون فِي أَنْ كَانَ شَفعَ حَمْزَةٌ وَشُعْبَةُ أَيْضاً وَالدِّمَشْقِي مُسَهِّلاَ
أي وفي حرف نون ثم أبدل منه قوله في أن كان بإعادة حرف الجر يريد قوله تعالى (أن كان ذا مال وبنين) ، أي لا تطعه لأن كان ذا مال ومن زاد همزة الإنكار فمعناه ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه فحمزة وأبو بكر وهو شعبة عن عاصم زادا همزة وحققاهما على أصلهما والدمشقي وهو ابن عامر زاد همزة وسهل الثانية أي وشفع الدمشقي في حال تسهيله ، خالف أصله فسهل هذا الموضع بلا خلاف وهشام يدخل ألفا بين الهمزتين على أصله كما يأتي وابن ذكوان يقرأ هنا كابن كثير في غير هذا الموضع ، وذكر صاحب التيسير في سورة فصلت قال على أن بعض أهل الأداء من أصحابنا يأخذ لابن ذكوان بإشباع المد هنا يعني في-ءأعجمي-وفي ءأن كان ذا مال قياسيا على مذهب هشام قال وليس ذلك بمستقيم من طريق النظر ولا صحيح من جهة القياس وذلك أن ابن ذكوان لما لم يفصل بهذه الألف بين الهمزتين في حال تحقيقهما مع ثقل اجتماعهما علم أن فصله بها بينهما في حال تسهيله إحداهما مع خفة ذلك غير صحيح في مذهبه
(188)
وَفِي آلِ عِمْرَانَ عَنِ ابْنِ كَثِيرِهِمْ يُشَفَّعُ أَنْ يُؤْتَى إِلَى مَا تَسَهَّلاَ
أي مضافا إلى ما تسهلا في مذهبه أي أنه وإن شفع (أن يؤتى أحدا) ، فهو يسهل الثانية على أصله وقراءة الباقين في هذه المواضع الثلاثة أذهبتم وأن كان وأن يؤتى بعدم التشفيع وهو الإتيان بهمزة واحدة وصاحب التيسير يعبر عن مذهب من سهل في هذه المواضع بهمزة ومدة ومراده بين بين والله أعلم
(189)
وَطه وفِي الأَعْرَافِ وَالشُّعَرَا بِهَا ءَآمَنْتُمُ لِلكُلِّ ثَالِثًا ابْدِلاَ
أي وطه بها وفي الأعراف والشعراء لفظ آمنتم وقيل بها أي بهذه السور الثلاث على زيادة في من قوله وفي الأعراف ووجه الكلام وطه والأعراف والشعراء بها ءآمنتم ولو قال مع الأعراف لما احتاج إلى هذا التكلف وثالثا نصب على التمييز وقد تقدم على عامله وفي جواز مثل ذلك خلاف النحويين ولو قال ثالثه أبدلا لخلص من ذلك وظهر المراد ولكن فيه وصل همزة القطع ومثل ذلك في التمييز قولك زيد ضربته ظهرا لأن الظهر بعضه وكذا ثالث حروف-أآمنتم-بعضها وقيل هو نصب على الحال أي أبدل همزة في حال كونه ثالثا ولا دليل على هذا بل الضمير في أبدل يعود إلى المذكور وهو أآمنتم وأصل آمن أأمن بهمزة ثانية ساكنة ثم دخلت همزة الترفيع فاجتمعت ثلاث همزات فأبدلت الثالثة ألفا بلا خلاف لسكونها وانفتاح ما قبلها والثانية مختلف في تسهيلها على ما سنذكر فعلى قراءة من سهلها يكون قد اجتمع همزتان مخففتان ليس بينهما حاجز وقد جرى بمجلس أبي محمد مكي ذكر اجتماع همزتين مخففتين في القرآن ليس بينهما حاجز في قراءة ورش فأجاب بأربعة أوجه اثنان منها نقلت حركة الأولى إلى ساكن قبلها والثانية مسهلة بين بين أو مبدلة نحو (قل أأنتم)-(من آمن) ، والثالث منها الأولى بين بين والثانية مبدلة وهي (أآمنتم)-(آلهتنا خير) والرابع نحو (من السماء آية)-(وهؤلاء آلهة) ، الأولى من آية وآلهة مبدلة ياء وبعدها ألف منقلبة من همزة والله أعلم
(190)
وَحَقَّقَ ثَانٍ (صُحْبَةٌ) وَلِقُنْبُلٍ بِإِسْقَاطِهِ الأُولى بِطه تُقُبِّلاَ
أي وحقق الهمزة الثانية من أآمنتم صحبة على أصولهم وسهلها الباقون بين بين ومن أبدل لورش الثانية في نحو ءأنذرتهم ألفا أبدلها أيضا ألفا ثم حذفها هنا لأجل الألف التي بعدها نص عليه أبو عمرو الداني في كتاب الإيجاز فتبقى قراءة ورش على هذا على وزن قراءة حفص بإسقاطه الهمزة الأولى كما يأتي فلفظهما متحد وأخذهما مختلف ، واعلم أن كل من أسقط الهمزة الأولى حقق الثانية أيضا وهو حفص في المواضع الثلاثة وقنبل في طه كما يأتي فليس تحقيق الثانية من خصائص صحبة إلا بتقدير اجتماعها مع الأولى فإذا سقطت الأولى فالثانية في قراءة صحبة صارت أولى لمن أسقط الأولى ومدلول صحبة هم حمزة والكسائي وأبو بكر وقال ثان لأنه أراد الحرف ولم ينصبه ضرورة كما قال الآخر لعلي أرى باق على الحدثان وقنبل أسقط الأولى في طه وحقق الثانية فقرأ على لفظ الخبر ، وفيه أيضا معنى التقريع والتوبيخ وإن انحذفت همزته كما يبقى معنى الاستفهام بعد حذف همزته لأن قرينة الحال دالة عليها والضمير في تقبلا للفظ أآمنتم أي تقبل هذا الحرف لقنبل بسبب إسقاطه الأولى منه بسورة طه وقيل الضمير في تقبل يعود إلى الإسقاط وليس بشيء
(191)
وَفي كُلِّهَا حَفْصٌ وَأَبْدَلَ قُنْبُلٌ فِي اْلأَعْرَافِ مِنْهَا الْوَاوَ وَالْمُلْكِ مُوْصِلاَ
أي وفي المواضع الثلاثة أسقط حفص الهمزة الأولى كما فعل قنبل في طه وأبدل قبنل في سورة الأعراف منها أي من الأولى واوا لأن ما قبلها ضمة في (قال فرعون) ، والهمزة المفتوحة بعد الضمة إذا أريد تسهيلها قلبت واو وفي سورة الملك (ءأمنتم من في السماء) ، أبدل أيضا قنبل من همزتها الأولى واوا كذلك لأن قبلها (وإليه النشور) ، والهمزة الثانية في الموضعين يسهلها بين بين على أصله وهو في التي في الشعراء يقرأ كما يقرأ من يحقق الثانية فقد غاير في قراءته بين المواضع الثلاثة في الهمزة الأولى فأسقطها في طه وأبدلها في الأعراف وأثبتها في الشعراء وحكم ما في الملك حكم ءأنذرتهم وشبهه لأن ليس فيها إلا همزتان ولم يكن له حاجة بذكر التي في الملك هنا فإنها ليست بلفظ هذه الكلمة ولأنه قد أفرد لها بيتا في سورتها فلو قال هنا في الأعراف منها الواو في الوصل موصلا بفتح الصاد من موصلا لكان أولى وأبين وقوله موصلا بكسر الصاد حال من قنبل أي أبدل الأولى موصلا لها إلى ما قبلها احترز بذلك من الوقف على فرعون أو النشور فإنه لو ابتدأ بما بعدهما لم يكن إبدال لانفصال الضمة من الهمزة والناظم رحمه الله يستعمل كثيرا في هذه القصيدة موصلا بمعنى واصلا كما يأتي في البقرة والنمل ، وفيه نظر فإن موصلا اسم فاعل من أوصله إذا بلغه ويقال وصله به ومنه الواصلة للشعر ويقرن لفظ الوصل بالإيصال ، ووجه الاعتذار له أنهما يتلاقيان في المعنى لأن الشيء إذا أوصلته إلى الشيء فقد وصلته به ، وكان يمكنه من جهة وزن الشعر أن يقول واصلا ولكنه عدل عنه تجنبا للسناد الذي هو عيب من عيوب القوافي وهو تأسيس بعضها دون بعض
(192)
وَإِنْ هَمْزُ وَصْلٍ بَيْنَ لاَمٍ مُسَكِّنٍ وَهَمْزَةِ الاِسْتِفْهَامِ فَامْدُدْهُ مُبْدِلاَ
هذه مسألة ليست في كتاب التيسير في هذا الباب وإنما ذكرها في سورة يونس تبعا لذكر نقل الحركة لنافع في (آلآن) ، ولم يجعل هذه المسألة أصلا فلم يذكرها هنا ولا في سورة الأنعام لأنها مما أجمع القراء عليه ولم توضع كتب القراءات إلا لبيان الحروف المختلف فيها لا المتفق عليها ولكن جرت عادة أكثر المصنفين أن يذكروا في بعض المواضع من المتفق عليه ما يشتد إلباسه بالمختلف فيه ليحصل التمييز بينهما وهذا الموضع من ذلك القبيل ومنه ما ذكر في آخر باب الهمز المفرد والإدغام الصغير ومسألة (لا تأمننا) ، في يوسف وغير ذلك ، قوله وإن همز وصل يعني وإن وقع همز وصل فحذف الفعل ولم يذكر له مفسرا ظاهرا وكذا في قوله في الباب الذي بعد هذا وإن حرف مد قبل همز مغير ولا بد بعد إن الشرطية من وقوع صريح أو مقدر بمفسر ظاهر نحو (وإن أحد من المشركين استجارك) ، ومن العجز من شعر الحماسة ، (إن ذو لوثة لاثا ) ، ووجه ما ذكره أن الظرف في البيتين دال على المفسر وهو ما يتعلق الظرف به فالتقدير وإن همز وصل وقع بعد لام إلى آخره وإن حرف مد وقع قبل همز مغير وأراد أن همزة الوصل التي دخلت على لام التعريف إذا دخل عليها همزة الاستفهام أبدلت ألفا ومدت لأجل سكون اللام بعدها وكان القياس أن تحذف همزة الوصل لأنه استغنى عنها بدخول همزة الاستفهام عليها كما في قوله (أفترى على الله كذبا) في سورة سبأ (أصطفى البنات على البنين) ، ولكن في لغة العرب الفرق بينهما لأنها لو حذفت مع لام التعريف لاقتبس الاستفهام بالخبر لأن همزة الوصل فيه مفتوحة كهمزة الاستفهام وهي في (أفترى-وأصطفى)مكسورة ففتح همزتها دليل على أنها للاستفهام لا للخبر فأعرضت العرب عن حذف همزة الوصل مع لام التعريف إذا دخل الاستفهام عليها وأبدلتها ألفا والهاء في قوله فامدده لهمز الوصل وكذا في قوله ويقصره في البيت الآتي وهو مجاز فإن الهمزة لا تقبل المد ولا القصر كسائر الحروف غير حروف العلة
الثلاثة ولكن أطلق عليه صفة ما يبدل منه وهو الألف ومبدلا حال ولو كان بفتح الدال لقوى هذا المعنى ، ويجوز أن يكون من باب القلب لأمن الإلباس كأنه أراد فأبدله مادا أي حرف مد وهذا هو حقيقة المعنى المراد وجملة ما وقع في القرآن من ذلك ستة مواضع متفق عليها وهي (آلذكرين) ، موضعان في الأنعام (آلآن) ، موضعان في يونس وفيها (آلله أذن لكم) وفي النمل (آلله خير) ، وفي يونس موضع سابع مختلف فيه وهو (آلسحر إن الله سيبطله) ، فهو في قراءة أبي عمرو من هذا الباب وهو في قراءة الباقين خبر والله أعلم
(193)
فَلِلْكُلِّ ذَا أَوْلى وَيَقْصُرُهُ الَّذِي يُسَهِّلُ عَنْ كُلِّ كَآلانَ مُثِّلاَ
أي فهذا الوجه أولى لكل القراء أي إبدال همزة الوصل هنا ألفا أولى من تسهيلها بين بين كما ذكر بعضهم عن كل القراء أيضا لأن همزة الوصل لا قدم لها في الثبوت فتسهل والقائل بالتسهيل لا يمد لأن المسهلة بزنة المحققة فلم يجتمع ساكنان بدليل اتزان الشعر في نحو قوله ، (أأن رأت رجلا أعشى أضر به ) ، سواء أنشدت الثانية محققة أو مسهلة بين بين مع أن بعدها نونا ساكنة ، ويحتمل أن يقال بالمد على مذهب التسهيل تخريجا من الوجه المحكي في أول الباب على قراءة ورش وهذا في مد يكون فاصلا بين المسهلة والساكن بعدها أما المد الذي يفصل بين المحققة والمسهلة لثقل اجتماعهما على ما سيأتي فلا جريان له هنا على مذهب التسهيل وقد بينه في البيت الآتي وقوله عن كل يتعلق بيسهل أو بيقصر وقوله كالآن خبر مبتدإ محذوف أي وذلك كالآن ، ثم استأنف جملة خبرية بقوله مثلا ، أي حصل تمثيل ذلك بما ذكرناه قال بآلان مثلا لكان المعنى ظاهرا ولم يحتج إلى هذه التقديرات والله أعلم
(194)
وَلاَ مَدَّ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ هُنَا وَلاَ بِحَيْثُ ثَلاَثٌ يَتَّفِقْنَ تَنَزُّلاَ
هنا يعني في هذا الذي سهلت فيه همزة الوصل أي من مذهبه المد بين الهمزتين على ما سيأتي لا يفعل ذلك هنا لأن همزة الوصل لا قدم لها في الثقل لأن ثبوتها عارض وحقها الحذف في الوصل وكذلك لا مد بين الهمزتين في كلمة اجتمع فيها ثلاث همزات وذلك لفظان (أآمنتم) في الأعراف وطه والشعراء (أآلهتنا خير) ، في الزخرف فالهمزة الثالثة مبدلة ألفا بإجماع على ما تقدم بيانه وسيأتي أيضا في سورة الزخرف والثانية مختلف في تحقيقها وتسهيلها ولم يمد أحد بينهما وبين الأولى خوفا من ثقل الكلمة باجتماع همزتين بينهما همزة وقيل لئلا يجمعوا بين أربع ألفات وليس في ذلك اللفظ أربع ألفات وإنما فيه همزتان وألفان نعم في الخط ألفان هما صورة الهمزتين وقوله بحيث ثلاث ثلاث مرفوع بالابتداء ولا يجوز جرها بإضافة حيث إليها لأن حيث إنما تضاف إلى الجمل لا إلى المفردات وقد شذ ما لا قياس عليه ويتفقن صفة ثلاث والخبر محذوف أي مجتمعة وقد كثر حذف الخبر بعد حيث لدلالة الكلام عليه ولا يكون يتفقن خبرا لئلا يبقى الابتداء بنكرة من غير وجود شرطها وإدخال الباء على حيث كإدخال من عليها في نحو (ومن حيث خرجت) ، ونصب تنزلا على التمييز أي اتفق نزولهن والله أعلم
(195)
وَأَضْرُبُ جَمْعِ الْهَمْزَتَيْنِ ثَلاَثَةٌ ءأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ أَئِنَّا أَنْزِلاَ
أي أن اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة يأتي في القرآن على ثلاثة أضرب ثم بينها بالأمثلة والهمزة الأولى مفتوحة في الأضرب الثلاثة والثانية إما مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة وكان الأولى تقديم هذا البيت في أول الباب وإنما احتاج إلى ذكر هذا التقسيم ليبنى عليه الخلاف في المد بين الهمزتين كما سيأتي وموضع قوله (أءنذرتهم) ، وما بعده رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره أمثلتها كذا وكذا على حذف حرف العطف وأم لم تتمة لقوله -أأنذرتهم-احتاج إليها الوزن الشعر ولا مدخل لها في الأضرب الثلاثة فقوله أأنذرتهم في سورة البقرة ويس مثال المفتوحتين (أئنا لتاركوا آلهتنا) ، ونحوه مثال ما الثانية فيه مكسورة والأولى مفتوحة وقوله أءنزل عليه الذكر مثال ما الثانية فيه مضمومة والأولى مفتوحة في الجميع ولا تكون إلا همزة الاستفهام والله أعلم
(196)
وَمَدُّكَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (حُـ)ـجَّةٌ بِـ(ـهَا) (لُـ)ـذُّ وَقَبْلَ الْكَسْرِ خُلْفٌ لَهُ وَلاَ
أي قبل ذات الفتح وذات الكسر يعني أن أبا عمرو وقالون وهشاما مدوا قبل الهمزة الثانية المفتوحة وقبل المكسورة وحجة خبر قوله ومدك على تقدير حذف مضاف أي ذو حجة وهي إرادة الفصل بين الهمزتين لثقل اجتماعهما ولأن الأولى ليست من بنية الكلمة ففصل بينهما ءايذانا بذلك ولهذا ضعف المد في كلمة أئمة لأن الأولى من بنية الكلمة وهي لغة فاشية قال ذو الرمة ، (آأنت أم أم سالم ) ، بهالذ أي الجأ إليها وتمسك بها ثم قال ، وقبل ذات الكسر خلف لهشام إلا فيما يأتي ذكره والهاء في له يعود على الحلف والولا النصر أي لكل وجه دليل ينصره والله أعلم
(197)
وَفي سَبْعَةٍ لاَ خُلْفَ عَنْهُ بِمَرْيَمٍ وَفي حَرْفَيِ الأَعْرَافِ وَالشُّعَرَا الْعُلاَ
لا خلف لهشام في مد هذه السبعة أو يكون التقدير وفي مد سبعة لا خلف عنه ثم بينها بما بعدها أي هي بمريم أو يكون قوله بمريم بدلا من قوله وفي سبعة لأن معنى مريم أي بمريم لا خلف عنه في المد وكذا في حر في الأعراف وما بعد ذلك والذي في مريم قوله تعالى (أئذا مامت) ، وفي الأعراف موضعان (أئنكم لتأتون)-(أئن لنا لأجرا) وفي الشعراء (أئن لنا لأجرا) ، والعلا نعت السور الثلاث فهذه أربعة مواضع من السبعة ثم قال
(198)
أَئِنَّكَ آئِفْكاً مَعًا فَوْقَ صَادِهَا وَفي فُصِّلَتْ حَرْفٌ وَبِالخُلْفِ سُهِّلاَ
يريد قوله تعالى في والصافات (أئنك لمن المصدقين)-(أئفكا آلهة) ، أي وفي أءنك أئفكاً وقوله معاً حال منهما كما تقول جاء زيد وعمرو معا أي مصطحبين أي إنهما في سورة واحدة فوق صادها وهي سورة الصافات وفي قوله معا يوهم أن أئفكا موضعان كقوله (نعما) ، معا فلو قال موضعها هما فوق صادها لزال الإيهام والضمير في صادها لسور القرآن وفوق ظرف للاصطحاب الذي دل عليه معا ، أي اصطحبا فوق صادها أو ظرف الاستقرار أي ولا خلف في مد أئنك أئفكا اللذين فوق صادها وفي فصلت خلف وهو (أئنكم لتكفرون) ، وبالخلف سهلا أي روي عن هشام تسهيله ولم يسهل من المكسور وغيره وفي جميع المفتوح خلف مقدم سوى حرف نون والأحقاف وأأعجمي وأأمنتم ولم يذكر صاحب التيسير في حرف فصلت لهشام غير التسهيل ولم يذكر صاحب الروضة فيه لابن عامر بكماله غير التحقيق ، فإن قلت من أين يعلم أن لهشام المد في هذه المواضع السبعة بلا خلاف وكل واحد من الأمرين محتمل لأنه ذكر الخلاف له في المد قبل المكسور واستثنى هذه المواضع فمن أين تعلم المد دون القصر ، قلت هذا سؤال جيد ، وجوابه أنه قد قدم أنه يمد قبل الفتح والكسر ثم استثنى الخلاف له قبل الكسر إلا في سبعة فلو لم يذكر الخلف في المكسورة لأخذنا له المد في الجمع عملا بما ذكر أولا فغايته أنه عين ما عدا السبعة للخلاف فنزل هذا منزلة استثناء من استثناء فكأنه قال يمد مطلقا إلا قبل الكسر فإنه لا يمد إلا في سبعة مواضع فمعناه أنه يمد فيها لأن الاستثناء من النفي إثبات على أنه لو قال سوى سبعة فالمد حتم بمريم لزال هذا الإشكال والله أعلم
(199)
وَآئِمَّةً بِالخُلْفِ قَدْ مَدَّ وَحْدَهُ وَسَهِّلْ (سَمَا) وَصْفاً وَفي النَّحْوِ أُبْدِلاَ
لم يمد هنا بين الهمزتين غير هشام بخلاف عنه لأن الأولى من بنية الكلمة كما سبق ذكره ولأن الهمزة الثانية حركتها عارضة فلم يتحكم ثقلها إذا أصلها السكون وذلك أن أئمة جمع إمام وأصله أئمة على وزن مثال وأمثلة ثم نقلت حركة الميم إلى الهمزة فانكسرت وأدغم الميم في الميم فمن حقق فعلى هذا وهم الكوفيون وابن عامر على أصولهم ومن سهل أيضا فهو على أصله وهم مدلول سما إذ قد اجتمع همزتان متحركتان الآن ولا نظر إلى كون الحركة عارضة فإن ذلك الأصل مرفوض ، وقوله أئمة مفعول مقدم بالخلف أي مدها مدا ملتبسا بالخلف ووصفا تمييز أي سما وصف التسهيل ، ثم قال وفي النحو أبدلا أي رأى أهل النحو إبدال الهمزة ياء في أئمة نص على ذلك أبو علي في الحجة والزمخشري في مفصله ووجهه النظر إلى أصل الهمزة وهو السكون وذلك يقتضي الإبدال مطلقا وتعينت الياء هنا لانكسارها الآن فأبدلت ياء مكسورة ثم لم يوافق أبو القاسم الزمخشري أهل النحو في ذلك واختار مذهب القراء فقال في تفسيره في سورة براءة في قوله تعالى (فقاتلوا أئمة الكفر) ، فإن قلت كيف لفظ أئمة ، قلت همزة بعدها همزة بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، قال وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون ومن صرح بها فهو لاحن محرف ، قلت ولم يذكر صاحب التيسير إبدالهما ياء ولا ذكر مسألة أئمة في هذا الباب وإنما ذكرها في سورة براءة ولفظ الناظم بأئمة على قراءة هشام بالمد والضمير في قوله أبدلا للمسهل المفهوم من قوله وسهل وهو الهمز المكسور ، وقال ابن جنى في باب شواذ الهمز من كتاب الخصائص ومن شواذ الهمز عندنا قراءة الكسائي أئمة بالتحقيق فيهما فالهمزتان لا تلتقيان في كلمة واحدة إلا أن تكونا عينين نحو سأال وسأار وجأار ، وأما التقاؤهما على التحقيق من كلمتين فضعيف عندنا وليس لحنا وذلك نحو قرأ أبوك و (السفهاء ألا)(ويمسك السماء أن
تقع على الأرض)-(وأنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم) ، فهذا كله جائز عندنا على ضعف لكن التقاؤهما في كلمة واحدة غير عينين لحن إلا ما شذ مما حكيناه في خطاء وبابه
(200)
وَمَدُّكَ قَبْلَ الضَّمِّ (لَـ)ـبَّى (حَـ)ـبِيبُهُ بِخُلْفهِمَا (بَـ)رَّا وَجَاءَ لِيَفْصِلاَ
مضى الكلام في المد قبل الفتح والكسر ثم ذكر المد قبل الضم فنص على أن لهشام وأبي عمرو خلافا في ذلك ولم يذكر عن قالون خلافا في المد وقد ذكره ابن الفحام في تجريده وأما أبو عمر فالمشهور عنه ترك المد ولم يذكر له صاحب التيسير غيره وذكره غيره ، وأما هشام فله ثلاثة أوجه اثنان كالوجهين عن أبي عمرو والثالث فصله في البيت الآتي والهاء في حبيبه تعود إلى المد أي لباه حبيبه ويكون الحبيب كناية عن القارئ كأن المد ناداه ليجعله في قراءته فأجابه بالتلبية والقبول له وبرا حال من حبيبه أي لباه في حال بره وشفقته عليه أو يكون برا مفعول لبى حبيبه قارئا بارا بالمد مختارا له والبر والبار ، بمعنى واحد وهو ضد العاق المخالف والضمير في جاء للمد أي جاء المد للفصل بين الهمزتين
(201)
وَفي آلِ عِمْرَانَ رَووْا لِهِشَامِهِمْ كَحَفْصٍ وَفي الْبَاقِي كَقَالُونَ وَاعْتَلاَ
فصل في هذا البيت الوجه الثالث الذي لهشام ، وشرحه أن يقال إن هذه الهمزة المضمومة بعد المفتوحة جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وجاءت لبعضهم في موضع رابع ، أما الثلاثة ففي آل عمران (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) وفي ص (أؤنزل عليه الذكر) وفي القمر (أؤلقى الذكر عليه) والرابع في الزخرف (أءشهدوا خلقهم) ، على قراءة نافع وحده وسيأتي في سورته والباقون بهمزة واحدة فلا مد فيه لغير نافع ، ومذهب هشام في الثلاثة على ما في التيسير أنه في آل عمران بلا خلاف فإنه قال وهشام من قراءتي على أبي الحسن بتحقيق الهمزتين من غير ألف بينهما في آل عمران ويسهل الثانية ويدخل قبلها ألفا في الباقيتين كقالون والباقون يحققون الهمزتين في ذلك وهشام من قراءتي على أبي الفتح كذلك ويدخل بينهما ألفا ، فقد اتفق الشيخان أبو الحسن وأبو الفتح على التحقيق في آل عمران وعلى المد في ص والقمر واختلفا في المد في آل عمران والتسهيل في ص والقمر فتكون قراءة هشام في ص والقمر كقراءته (أئنكم) في فصلت مد بلا خلاف وتسهيل بخلاف فيكون قد فعل في المكسورة في بعض مواضعها وجماعتنا أشكل عليهم تنزيل النظم على ما في التيسير ، وصوابه أن يقال لهشام في هذه الثلاثة ثلاثة أوجه ، القصر التحقيق في الجميع وهذا الوجه ذكره صاحب الروضة وغيره وهو من زيادات هذه القصيدة ، والوجه الثاني المد في الجميع مع التحقيق وهذا الذي قرأه صاحب التيسير على أبي الفتح فارس بن أحمد وهو شيخه الذي ذكره في آخر باب التكبير ، والوجه الثالث التفصيل القصر والتحقيق في آل عمران والمد والتسهيل في الباقيين وهذا الذي قرأه صاحب التيسير على أبي الحسن طاهر بن غلبون الذي سبق ذكره في باب المد والقصر فالوجهان الأولان لهشام يماثل فيهما أبا عمرو في أنه يمد في الجميع ولا يمد فلهذا أدرجه الناظم معه فقال في البيت الأول بخلفهما ثم ذكر لهشام الوجه الثالث في البيت الثاني ولو أنه نظم مقتصرا على ما في
التيسير لقال ما كنت قد نظمته قديما تسهيلا على الطلبة ، (ومدك قبل الضم بر حبيبه بخلف هشام في الثلاثة أصلا) ، (ففي آل عمران يمد بخلفه وفي غيرها حتما وبالخلف سهلا) ، أي مد حتما بلا خلاف والله أعلم
باب الهمزتين في كلمتين
(202)
وَأَسْقَطَ الأُولَى في اتِّفَاقِهِمَا مَعًا إِذَا كَانَتَا مِنْ كِلْمَتَيْنِ فَتَى الْعُلاَ
فتى العلا فاعل أسقط يعني ولد العلا وهو أبو عمرو بن العلاء أسقط الهمزة الأولى من المتفقتين بالفتح والكسر والضم وهذا نقل علماء القراءات عن قراءة أبي عمرو بإسقاط الهمزة ، ثم منهم من يرى أن الساقطة هي الأولى لأن أواخر الكلم محل التغيير غالبا ومنهم من يجعل الساقطة هي الثانية لأن الثقل بها حصل ، والذي نقله النحاة عن أبي عمرو أنه يخفف الأولى من المتفق والمختلف جميعا ، قال أبو علي في التكملة أهل التحقيق يحققون إحداهما فمنهم من يخفف الأولى ويحقق الثانية ومنهم من يحقق الأولى ويخفف الثانية وهو الذي يختاره الخليل ويحتج بأن التخفيف وقع على الثانية إذا كانتا في كلمة واحدة نحو آدم وآخر فكذلك إذا كانتا من كلمتين ، قال الخليل رأيت أبا عمرو قد أخذ بهذا القول في قوله (يا ويلتي أألد) ، قال العبدي في شرحه مذهب أبي عمرو تخفيف الأولى ، ومذهب الخليل تخفيف الثانية والقراء على خلاف ما حكاه النحويون عنه وذلك أنهم يقولون الهمزتان إذا التقيا بحركة واحدة حذفت إحداهما حذفا من غير أن تجعلها بين بين وإذا اختلفت الحركة عادوا إلى ما قلناه ، قال وقياس قول أبي عمرو المحذوفة هي الأولى لأنه حكى مذهبه أن تكون الأولى بين بين ، قلت ومن فوائد هذا الاختلاف ما يظهر في نحو (جاء أمرنا) ، من حكم المد فيه ، فإن قيل الساقطة هي الأولى كان المد فيه من قبيل المنفصل ، وإن قيل هي الثانية كان المد من قبيل المتصل ، وقد نص مكي في كتاب التبصرة على قول أن الساقطة هي الأولى ، ثم إن القارئ لأبي عمرو إذا وقف على جاء فإنه يمد
ويهمز فإن الحذف إنما يكون في الوصل لأن الاجتماع إنما يحصل فيه ، ولم أر أن النحويين ذكروا لغة الإسقاط ، ووجهها على ما نقله القراء أن من مذهب أبي عمرو الإدغام في المثلين ولم يمكن هنا لثقل الهمز غير مدغم فكيف به مشددا مدغما فعدل الإسقاط واكتفى به ، وقوله وقوله معا حال من ضمير التثنية الذي أضيف إليه الاتفاق لأنه بمنزلة قولك اتفقا معا ولا فائدة لقوله معا في هذا الموضع إلا مجرد التوكيد كما لو قال كليهما وفي غير هذا الموضع معا يذكر لفائدة سننبه عليها في الباب الآتي والهاء في اتفاقهما عائدة على الهمزتين في قوله في أول الباب السابق وتسهيل أخرى همزتين ثم مثل صورة الاتفاق فقال
(203)
كَجَا أَمْرُنَا مِنَ السَّماَ إِنَّ أَوْلِيَا أُولئِكَ أَنْوَاعُ اتِّفَاقٍ تَجَمَّلاَ
فمثل المفتوحتين بقوله تعالى جاء أمرنا والمكسورتين بقوله في سبأ (من السماء إن في ذلك) ، والمضمومتين بقوله في الأحقاف (أولياء أولئك) ، وليس في القرآن العزيز غيره ولفظ بالأمثلة الثلاثة على لفظ قراءة أبي عمرو فالهمزة المسموعة في جاء أمرنا هي أول أمرنا ومثله (ثم إذا شاء أنشره) ، الهمزة أول أنشره لأنها همزة قطع فإن اتفق بعد ما آخره همزة همزة وصل حذفت فتبقى الهمزة المسموعة هي آخر الكلمة الأولى لجميع القراء (فمن شاء اتخذ)-(فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت) ، الهمزة آخر شاء وآخر الماء ، وقوله أنواع خبر مبتدإ محذوف أي هي أنواع اتفاق تجمل أي تزين ، ثم بين مذهب قالون والبزي فقال
(204)
وَقَالُونُ وَالْبَزِّيُّ في الْفَتْحِ وَافَقَا وَفي غَيْرِهِ كَالْياَ وَكَالْوَاوِ سَهَّلاَ
أي وافقا أبا عمرو في ذواتي الفتح فأسقطا الأولى منهما وفي غير الفتح جعلا المكسورة كالياء والمضمومة كالواو أي سهلا كل واحدة منهما بين بين فجمعا بين اللغتين
(205)
وَبِالسُّوءِ إِلاَّ أَبْدَلاَ ثُمَّ أَدْغَمَا وَفِيهِ خِلاَفٌ عَنْهُمَا لَيْسَ مُقْفَلاَ
يعني قوله تعالى في سورة يوسف (إن النفس لأمارة بالسوء) ، خالفا فيها أصلهما فعدلا عن تسهيل همزة السوء بين بين لأن لغة العرب في تخفيف همزة مثل ذلك على وجهين سيأتي ذكرهما في باب وقف حمزة وهشام ، أحدهما أن تلقى حركة الهمزة على الواو وبحذف الهمز وهذا لم يقرأ به لهما وهو الوجه المختار في تخفيف همز ذلك وقد نبه عليه مكي رحمه الله في التبصرة ، والثاني أن تبدل الهمزة واوا وتدغم الواو التي قبل الهمزة فيها وهذا الوجه هو المذكور لهما في هذا البيت أي أبدلا الهمز واوا ثم أدغما فيها الواو التي قبلها وإنما اختارا هذا على وجه نقل الحركة لأن النقل يؤدي هنا إلى أن تنكسر الواو بعد ضمة فتصير مثل قول وهو مرفوض في اللغة وقول بالتشديد مستعمل وهو أخف من قول ولعل سببه حجز الساكن بين الضمة والكسرة ، وقد فعل قالون نحو ذلك في لفظ النبي في موضعين في سورة الأحزاب لأنه يهمز لفظ النبي وقبل الهمز ياء فأبدل الهمزة ياء وأدغم فيها الياء التي قبلها وذلك متعين ثم لا يجوز فيه نقل حركة الهمزة إلى الياء لأنها زائدة بخلاف الواو هنا وهذا سيأتي ذكره في سورة البقرة إن شاء الله تعالى ثم قال وفيه أي وفي تخفيف بالسوء خلاف عن قالون والبزي ليس مقفلا أي ليس مغلقا أو ليس مقفلا عليه أي ممنوعا لا يوصل إليه بل هو مشهور معروف في كتب مصنفة منها التبصرة لمكي وإن كان صاحب التيسير ما ذكره ولم يذكر هذه المسألة إلا في سورتها والخلاف المشار إليه أنهما قرآها بين بين على أصلهما ولا يمنع من ذلك كون الواو ساكنة قبلها فإنها لو كانت ألفا لما امتنع جعلها بين بين بعدها لغة على ما يأتي فالواو قريبة منها والله أعلم ، قال مكي ذكر عن قالون فيها أنه يجعل الأولى كالياء الساكنة قال والأحسن الجاري على الأصول إلقاء الحركة ولم يرو عنه ويليه في الجواز الإبدال والإدغام وهو الأشهر عن قالون وهو الاختيار لأجل جوازه والرواية قال فأما البزي فقد روي عنه الوجهان
أيضا والاختيار الإبدال والإدغام لجريه على الأصول ، قلت فهذا آخر الكلام في مذهب من يخفف الهمزة الأولى إما بإسقاط وإما بتسهيل ، وذلك في الوصل فلو وقف عليها لحققت الهمزة وسنذكر ذلك أيضا في سورة البقرة بتوفيق الله تعالى
(206)
وَالأُخْرَى كَمَدٍّ عِنْدَ وَرْشٍ وَقُنْبُلٍ وَقَدْ قِيلَ مَحْضُ المَدِّ عَنْهَا تَبَدَّلاَ
مذهب أبي عمرو وقالون والبزي كان متعلقا بالهمزة الأولى ومذهب ورش وقنبل يتعلق بالثانية لأن الثقل عندها حصل وهي المرادة بقوله والأخرى وروي عنهما في تسهيلها وجهان أحدهما جعلها بين بين لأنها همزة متحركة ما قبلها كذلك قياس تسهيلها وهو المراد بقوله كمد والوجه الثاني لم يذكر في التيسير وهو أن تبدل حرفا ساكنا من جنس حركتها وهو مذهب عامة المصريين كما فعلوا ذلك في المفتوحتين في كلمة واحدة إلا أن البدل هنا عام في المفتوحة والمكسورة والمضمومة لأنه أمكن إبدال المكسورة ياءا ساكنة والمضمومة واواً ساكنة لأن حركة ما قبلهما من جنسهما ولم يمكن ذلك في كلمة واحدة لأن قبلهما فتحا وبعدهما ساكنا والهمز المتحرك المتحرك ما قبله لا يبدل إلا سماعا وهذا المراد بقوله محض المد قالوا وأما (جاء آل) ، فالبدل فيه ممتنع والتسهيل متعين خوفا من اجتماع ألفين ، قلت وأي مانع في ذلك إذا اجتمع ألفان زيد في المد لهما لو حذف إحداهما كما ذكر هذان الوجهان لحمزة في وقفه على مثل يشاء ومن السماء وهو قوله فيما يأتي ويقصر أو يمضي على المد أطولا إلا أنه اغتفر ذلك في وقف حمزة لتعينه وأما (جاء آل) فلنا عنه مندوحة إلى جعل الهمزة بين بين فصير إليه ، وقوله محض المد مبتدأ وخبره قوله عنها تبدلا أي تبدل المد المحض عن الهمزة ، وقال بعض الشارحين محض المد منصوب بقوله نبدل ، قل فالمعنى حينئذ تبدل الهمز محض المد فيبقى قوله عنها لا معنى له فنصب محض المد فاسد والله أعلم
(207)
وَفي هؤُلاَ إِنْ وَالْبِغَا إِنْ لِوَرْشِهِمْ بِيَاءِ خَفِيفِ الْكَسْرِ بَعْضُهُمْ تَلاَ
قال صاحب التيسير وأخذ على ابن خاقان لورش بجعل الثانية ياء مكسورة في البقرة في قوله (هؤلاء إن كنتم) وفي النور (على البغاء إن أردن) ، فقط قال وذلك مشهور عن ورش في الأداء دون النص ، قلت وهذا الوجه مختص بورش في هذين الموضعين وفيهما له ولقنبل الوجهان السابقان
(208)
وَإِنْ حَرْفُ مَدِّ قَبْلَ هَمْزٍ مُغَيَّرٍ يَجُزْ قَصْرُهُ وَالْمَدُّ مَا زَالَ أَعْدَلاَ
هذا الخلاف يجيء على مذهب أبي عمرو وقالون والبزي لأنهم يغيرون الأولى إسقاطا أو تسهيلا فوجه القصر زوال الهمز أو تغيره عن لفظه المستثقل والمد إنما كان لأجله ووجه المد النظر إلى الأصل وهو الهمز وترك الاعتداد بما عرض من زواله ونبه على ترجيح وجه المد بقوله والمد مازال أعدلا لقول صاحب التيسير إنه أوجه فإنه قال ومتى سهلت الهمزة الأولى من المتفقتين أو أسقطت فالألف التي قبلها ممكنة على حالها مع تخفيفها اعتدادا بها ويجوز أن يقصر الألف لعدم الهمزة لفظا والأول أوجه ، ثم اعلم أن هذين الوجهين على قراءة الإسقاط إنما هما في مذهب من يقصر في المنفصل كبالزي والسوسي وقالون والدوري في أحد الروايتين عنهما فإنهم يمدون المتصل نحو (جاء-و-السماء-و-أولياء) ، فلما تغيرت الهمزة في قراءتهم اتجه الخلاف المذكور إما في قراءة من يمد المتصل والمنفصل جميعا فكل ذلك ممدود له بلا خلاف كالرواية الأخرى عن قالون والدوري لأنه كيف ما فرض الأمر فهو إما متصل أو منفصل فليس لهم إلا المد وكذا على قول من زعم أن الهمزة الساقطة هي الثانية ليس إلا المد في قراءته لأن الكلمة التي فيها المد المتصل بحالها ويجري الوجهان لحمزة في وقفه على نحو (الملائكة-و-إسرائيل) ، وكل هذه تنبيهات حسنة والله أعلم ، ومضى وجه قوله وإن حرف مد بغير فعل مفسر في شرح قوله وإن همز وصل في الباب السابق
(209)
وَتَسْهِيلُ الأُخْرَى في اخْتِلاَفِهِماَ (سَمَا) تَفِيءَ إِلَى مَعْ جَاءَ أُمَّةً انْزِلاَ
فرغ الكلام في أحكام المتفقتين ثم شرع في بيان حكم المختلفتين إذ التقتا في كلمتين فالأولى محققة بلا خلاف عند القراء وإن كان يجوز تسهيلها عند النحاة على ما سبق ذكره ، ووجه ما اختاره القراء أن حركة الثانية مخالفة للأولى فلم يصح أن تكون خلفا منها ودالة عليها بخلاف المتفقتين ثم إن الذين سهلوا في المتفقتين على اختلاف أنواع تسهيلهم وهم مدلول سما هم أيضا الذين سهلوا الثانية من المختلفتين متفقين على لفظ تسهيلها على ما يأتي بيانه ، ثم شرع يعدد أنواع اختلافها وهي خمسة أنواع والسمة العقلية تقتضي ستة إلا أن النوع السادس لا يوجد في القرآن فلهذا لم يذكر ، أما الخمسة الموجودة في القرآن فهي أن تكون الأولى مفتوحة والثانية مكسورة أو مضمومة وأن تكون الثانية مفتوحة والأولى مضمومة أو مكسورة فهذه أربعة أنواع والخامس أن تكون الأولى مضمومة والثانية مكسورة والنوع السادس الساقط أن تكون الأولى مكسورة والثانية مضمومة نحو في الماء أمم فذكر في هذين البيتين النوعين الأولين من الخمسة المكسورة بعد المفتوحة بقوله (تفيء إلى أمر الله) ، والمضمومة بعد المفتوحة بقوله (جاء أمة) ، في سورة قد أفلح وليس في القرآن من هذا الضرب غيره وأما-تفيء إلى-فمثله كثير نحو (أم كنتم شهداء إذ حضر) ، وموضع قوله تفيء إلى رفع لأنه خبر مبتدإ محذوف أي هي نحو (تفيء إلى) ، وكذا وكذا وقوله أنزلا جملة معترضة
(210)
نَشَاءُ أَصَبْنَا والسَّماءِ أَوِ ائْتِنَا فَنَوْعَانِ قُلْ كالْيَا وَكَالْوَاوِ سُهِّلاَ
وهذان نوعان على العكس مما تقدم وهما مفتوحة بعد مضمومة كقوله تعالى في سورة الأعراف (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) ومثله (النبي أولى بالمؤمنين) ، في قراءة نافع ومفتوحة بعد مكسورة كقوله في الأنفال (من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) ، فأما النوعان الأولان في البيت السابق فالثانية فيهما مسهلة بين بين وهو المراد بقوله كالياء وكالواو لأنها همزة متحركة بعد متحرك وأما النوعان اللذان في هذا البيت فأبدلت فيهما ياء وواوا كما قال
(211)
وَنَوْعَانِ مِنْهَا أُبْدِلاَ مِنْهُمَا وَقُلْ يَشَاءُ إِلى كالْيَاءِ أَقْيَسُ مَعْدِلاَ
منها أي من الأنواع المتقدمة والضمير في أبدلا عائد إلى الياء والواو في قوله كالياء وكالواو وفي منهما للهمزتين أي أبدل الياء والواو من همزهما وهذا قياس تخفيف الهمزة المفتوحة بعد الضم أن تبدل واوا وبعد الكسرة أن تبدل ياء وهذا مما استثنى من تسهيل الهمز المتحرك بعد حرف متحرك بين بين لمعنى اقتضى ذلك على ما نبين في باب وقف حمزة إن شاء الله تعالى فأبدلت في (نشاء أصبناهم-واوا-وفي-السماء أو ائتنا) ياء ، ولا يضر كونه في البيت السابق قدم ذكر الياء على الواو قوله كالياء وكالواو سهلا ، ثم قال ونوعان منهما أبدلا فعاد الضمير إليهما والواو في هذا البيت متقدمة على الياء من لفظ ما مثل به من الآيتين فإنا نرد كل شيء إلى ما يليق به وله نظائر فقوله ونوعان مبتدأ ومنها صفته وأبدلا خبره ونوعان في البيت السابق أيضا مبتدأ وسهلا صفته وخبره محذوف قبله أي فمنها نوعان سهلا كالياء وكالواو ومنها نوعان أبدلا منهما فلما ذكر منهما بعد نوعان صارت صفة له ثم ذكر النوع الخامس وهو مكسورة بعد مضمومة نحو (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ، فقياسها أن تجعل بين الهمزة والياء لأنها مكسورة بعد متحرك أي جعلها كالياء أقيس من غيره لغة ومعدلا تمييز أي أقيس عدول عن هذه الهمزة هذا العدول ثم ذكر مذهب القراء فيها فقال
(212)
وَعَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ تُبْدَلُ وَاوُهَا وَكُلٌّ بِهَمْزِ الْكُلِّ يَبْدَا مُفَصَّلاَ
واوها ثاني مفعولي تبدل فلهذا نصبه والهاء عائدة على الهمزة لأنها تبدل منها في مواضع أو على الحروف للعلم بها أي تبدل الهمزة واوا مكسورة ، وقال صاحب التيسير المكسورة المضموم ما قبلها تسهل على وجهين تبدل واوا مكسورة على حركة ما قبلها وتجعل بين الهمزة والياء على حركتها والأول مذهب القراء وهو آثر والثاني مذهب النحويين وهو أقيس ، قلت ولم يذكر مكي في التبصرة ولا ابن الفحام في التجريد ولا صاحب الروضة غير الوجه الأقيس وذكر ابن شريح ثلاثة أوجه فذكر الوجه الأقيس ، ثم قال وبعضهم يجعلها بين الهمزة والواو ومنهم من يجعلها واوا والأول أحسن ، قلت فلهذا قال الشاطبي عن أكثر القراء تبدل واوها لأن منهم من سهلها باعتبار حركة ما قبلها لأنها أثقل من حركتها وهذا الوجه أقرب من وجه الإبدال الذي عليه الأكثر وهذان الوجهان سيأتيان في باب وقف حمزة منسوبا الإبدال إلى الأخفش ووجه التسهيل موصوف ثم بالإعضال وسيأتي الكلام على ذلك ، وقوله وكل بهمز الكل يبدأ أي وكل من سهل الثانية من المتفقتين والمختلفتين وإنما ذلك في حال وصلها بالكلمة قبلها لأن الهمزتين حينئذ متصلتان وتلتقيان فأما إذا وقف على الكلمة الأولى فقد انفصلت الهمزتان فإذا ابتدأ بالكلمة الثانية حقق همزتها ولو أراد القارئ تسهيلها لما أمكنه لقرب المسهلة من الساكن والساكن لا يمكن الابتداء به ، وقوله يبدأ أبدل فيه الهمزة ألفا ضرورة أو يقدر أنه وقف عليه فسكنت الهمزة فجاز قلبها حينئذ ألفا ومفصلا أي مبينا لفظ الهمزة محققا له ، فإن قلت كما بين الابتداء للكل كان ينبغي أن يبين الوقف على الأولى للكل لأن التسهيل قد وقع في الأولى وفي الثانية في حال الاتصال فبقي بيان حالهما في الانفصال فلم تعرض لبيان حال الثانية دون الأولى ، قلت من حقق الهمزة الأولى وقف عليها ساكنة إلا من عرف
من مذهبه أنه يبدلها كما يأتي في باب وقف حمزة وهشام ومن سهلها وقف أيضا بسكونها إذ لا تسهيل مع السكون وللكل أن يقفوا بالروم والإشمام بشرطهما على ما سيأتي في بابه فلما كان للوقف باب يتبين فيه هذا وغيره أعرض عنه وأما الابتداء فلا باب له فبين هنا ما دعت الحاجة إلى بيانه والله أعلم وأحكم
(213)
وَالإِبْدَالُ مَحْضٌ وَالْمُسَهَّلُ بَيْنَ مَا هُوَ الْهَمْزُ وَالحَرْفُ الَّذِي مِنهُ أُشْكِلاَ
لما كان يستعمل كثيرا لفظي الإبدال والتسهيل احتاج إلى بيان المراد منهما في اصطلاح القراء فقال الإبدال محض أي ذو حرف محض أي يبدل الهمز حرف مد محضا ليس يبقى فيه شائبة من لفظ الهمز بخلاف التسهيل فإنه عبارة عن جعل الهمز بينه وبين الحرف المجانس لحركة الهمزة فمن أبدل في موضع التسهيل أو سهل في موضع الإبدال فهو غالط فما في قوله بين ما بمعنى الذي أي بين الذي هو الهمز وبين الحرف الذي منه أي من جنس لفظه أشكل الهمز أي ضبط بما يدل على حركته ، قال الجوهري يقال شكلت الكتاب قيدته بالإعراب قال ويقال أشكلت الكتاب بالألف كأنك أزلت عنه الإشكال والالتباس ويقع في كثير من عبارات المصنفين غير ذلك فيرى بعضهم يقول قرأ ورش وابن كثير بهمزة وبعدها مدة في تقدير ألف وقرأ قالون وأبو عمرو وهشام بهمزة وبعدها مدة مطولة في تقدير ألفين فكملت هذه العبارة كثيرا من الناس على أن مدوا بعد الهمزة وكان بعض أهل الأداء يقرب الهمزة المسهلة من مخرج الهاء ، وسمعت أنا منهم من ينطق بذلك وليس بشيء والله أعلم
باب الهمز المفرد
(214)
إِذَا سَكَنَتْ فَاءً مِنَ الْفِعْلِ هَمْزَةٌ فَوَرْشٌ يُرِيهَا حَرْفَ مَدٍّ مُبَدَّلاَ
أي إذا سكنت همزة في حال كونها فاء من الفعل لأنه حال بمعنى متقدمة ويجوز أن يكون ظرفا لأنه بمعنى أولا ومعنى كونها فاء للفعل أن الكلمة التي تكون فيها همزة لو قدرتها فعلا لوقعت الهمزة موضع فائه أي أول حروفه الأصول وذلك نحو (مأتيا) ، لأنك لو قدرت هذا فعلا لكان أتى ووزن أتى فعل فالهمزة موضع الفاء وتقريبه أن يقال هي كل همزة ساكنة بعد همزة وصل أو تاء أو فاء أو ميم أو نون أو واو أو ياء يجمعها قولك فيتمنو ، وهمزة الوصل نحو قوله (أئت بقرآن)-(ثم ائتوا صفا)-(الذي اؤتمن) ، لأن وزنها أفعل ، وافتعل يؤمنون-فأتوا-فائيا-(لن نؤمن لك)-(وأمر أهلك)-(وائتمروا بينكم) ، لأن وزنهما أفعل وافتعلوا (يأتين من كل فج عميق) ، ولا فرق بين أن تكون هذه الحروف أو الكلمة أول في وسطها نحو (أتأتون الفاحشة)-(ويستأذن فريق)-(فلنأتينهم بجنود) ، فإذا علمت همزة فاء الفعل بالحد والعلامة فإذا وقعت ساكنة أبدلها ورش حرف مد من جنس حركة ما قبلها ففي يأتين إبدالها ألفا وفي الذي أؤتمن ياء وفي نؤمن لك واوا وقوله يريها أي يريك إياها وحرف مد مفعول ثالث إن كأن يرى بمعنى يعلم أي ورش ومن يقوم مقامه من المعلمين قراءته يعلمونك أيها الطالب بأنها في قراءته حرف مد ويجوز أن يكون يرى من رؤية البصر فيكون حرف مد حالا أي يبصرك إياها على هذه الصفة كقولك أرأيت زيدا فقيرا وأرأيته إياه غنيا أي بصرته به فأبصره في هاتين الحالتين وإنما خص ورش همزة فاء الفعل بالإبدال دون همزة عينه ولامه وهي الواقعة في الوزن في موضع العين أو اللام لأن همزة فاء الفعل كأنها مبتدأة وورش من أصله نقل حركة الهمزة المبتدأة كما يأتي فأجرى هذه مجرى تيك في التعبير أو لأنه لما وجب إبدالها في نحو (آمن)-(وآتى المال) ، مما وقعت فيه بعد همزة طرد الباب فأبدلها مطلقا كما فعلت العرب في مضارع أفعل حذفوا الهمزة لأجل حذفها مع همزة المتكلم مع سائر حروف المضارعة وأبدل ورش ثلاثة مواضع من
همزات عين الفعل وهي-بئر-و-بئس-و-الذئب وسيأتي ، ومبدلا حال من ضمير ورش وهو فاعل يريها وبدل وأبدل لغتان قرئ بهما في مواضع وهما كنزل وأنزل وفي التشديد معنى التكثير ثم ذكر ما استثناه ورش من همز فاء الفعل فلم يبدله فقال
(215)
سِوَى جُمْلَةِ الإِيوَاءِ وَالْوَاوُ عَنْهُ إِنْ تَفَتَّحَ إِثْرَ الضَّمِّ نَحْوُ مُؤَجَّلاَ
أي سوى كل كلمة مشتقة من لفظ الإيواء نحو-تؤوي-وتؤويه-ومأواهم-ومأواكم-والمأوى-و-فأووا إلى-وعلته أن الهمز في تؤوي أخف من إبداله فطرد جميع الباب لأجله وجمع بين اللغتين ثم استأنف كلاما آخر بقوله والواو عنه أي مبدلة نائبة عن همز فاء الفعل إن تفتح الهمز بعد ضم وذلك قياس تخفيف كل همز مفتوح بعد ضم أن يبدل واوا ولم يخفف غير هذا من همز فاء الفعل نحو (يتأخر-ومآرب-وتؤزهم) ، لأنه كان يلزمه فيه التسهيل وإنما مذهبه الإبدال في همز فاء الفعل فلم يخرج عنه وقيل الهاء في عنه تعود على ورش والواو مروية عن ورش إن يفتح الهمز والأول أولى لأن فيه عود الضمير في عنه وتفتح إلى شيء واحد وقد روي عن ورش تسهيل باقي الباب في فاء الفعل على ما يقتضيه القياس والمشهور الأول ، وإثر ظرف يقال إثر وأثر ومؤجلا في موضع جر وإنما نصبه حكاية للفظه في القرآن العزيز وهو قوله تعالى (كتابا مؤجلا) ومثاله (يؤاخذكم)-(يؤلف بينه)-(لا تؤاخذنا)-(والمؤلفة) -ويؤيد-وغير ذلك ، وأما نحو (فؤادك-وسؤال) فالهمزة فيه عين الفعل فلا يبدلها والله أعلم
(216)
وَيُبْدَلُ لِلسُّوسِيِّ كُلُّ مُسَكَّنٍ مِنَ الْهَمْزِ مَدًّا غَيْرَ مَجْزُومِ نُ اْهْمِلاَ
وهذا الإبدال منسوب في كتاب التيسير وغيره إلى أبي عمرو نفسه لم يختص السوسي بذلك وذكره في باب مستقل غير الباب الذي بين فيه مذهب ورش ، وقال الشيخ في شرحه أما قوله ويبدل للسوسي فلأن القراءة به وقعت من طريقه لا من طريق الدوري وعن السوسي اشتهر ذلك اشتهارا عظيما دون غيره ، قلت وممن نسبه إلى السوسي من المصنفين ابن شريح وابن الفحام وغيرهما ، قوله كل مسكن أي كل همزة ساكنة سواء كانت فاء أو عينا أولا ما يبدلها حرف مد من جنس حركة ما قبلها ففاء الفعل مضى تمثيله في مذهب ورش وعين الفعل مثل رأس وبأس وبئر وبئس ولام الفعل نحو (فادارأتم فيها)-وجئت-وشئت ، فإن قلت لم أبدلت الساكنة ولم تبدل المتحركة ، قلت لأن الساكنة أثقل لاحتباس النفس معها والإجماع على إبدالها إذا اجتمعت مع المتحركة في كلمة وهذا مدرك بالحس وهو من خصائص الهمز وسائر الحروف ساكنها أخف من متحركها هذا قول جماعة ويرد عليه إسكان أبي عمرو بارئكم طلبا للتخفيف وقول النحويين إن سكون الوسط يقاوم أحد سببي منع الصرف ولم يفرقوا بين حروف وحرف وقيل إنما خص الساكنة بالتخفيف لأن تسهيلها يجري مجرى واحدا وهو البدل والمتحركة تخفيفها أنواع فآثر أن يجري اللسان على طريقة واحدة ومدا ثاني مفعول يبدل أي حرف مد وغير مجزوم استثناء من كل مسكن أي أهمل فلم يبدل ، ثم ذكر المجزوم فقال
(217)
تَسُؤْ وَنَشَأْ سِتٌّ وَعَشْرُ يَشَأ وَمَعْ يُهَيِّئْ وَنَنْسَأْهَا يُنَبَّأْ تَكَمَّلاَ
أي والمجزوم المهمل هو كذا وكذا وقوله ست صفة تسؤ ونشأ أو خبر مبتدأ محذوف أي كلتاهما ست كلمات أي كل لفظة منهما في ثلاثة مواضع-نسؤ-في آل عمران وفي المائدة وفي التوبة -ونشأ-بالنون في الشعراء وسبأ-ويس-ويشأ-بالياء عشر كلمات في النساء وإبراهيم وفاطر وفي الأنعام ثلاث وفي سبحان ثنتان وفي الشورى ثنتان وعشر في النظم مضاف إلى يشأ أي وعشر هذا اللفظ ولو نون لاستقام النظم ولكن كان يوهم عوده إلى ما قبله فيكون-تسؤ ويشأ-بالنون ست عشر أي-وتسؤ-ست و-ويشأ-عشر-فلهذا الخوف من الإيهام عدل إلى الإضافة-ويهيء لكم-في الكهف-وننسأها-في البقرة-وأم لم ينبأ - في النجم تسع عشرة كلمة ولم يستوعب صاحب التيسير ذكر مواضعها كما حصرها الناظم رحمه الله فالهمزة في جميع ذلك ساكنة للجزم ولهذا قال تكملا أي تكمل المجزوم واستثناه لعروض السكون والأصل الحركة ولئلا يجمع على الهمز أمرين إسكانا ثم إبدالا ويرد على هاتين العلتين نحو جئتم-وشئتم-والأولى أن يقال حافظ على الهمز كراهة لصورة ثبوت حرف المد في موضع الجزم أو الوقف أو يقال حافظ على ما سكونه علامة الإعراب فلم يغيره ويرد عليه ما روى من إسكانه علامتي الإعراب في الرفع والجر من نحو يأمركم-وبارئكم-على ما يأتي ، ولكن الأصح عنه أنه كان يختلس الحركة في ذلك فتوهم بعض الرواة أنها سكون ، وقوله تعالى-وإن أسأتم فلها-يبدل همزه وليس من المستثنى لأن سكون الهمز فيه لأجل ضمير الفاعل لا للجزم
(218)
وَهَيِّئْ وَأَنْبِئْهُمْ وَنَبِّئْ بِأَرْبَعٍ وَأَرْجِئْ مَعًا وَاقْرَأْ ثَلاَثًا فَحَصِّلاَ
وجميع ما في هذا البيت سكونه علامة للبناء فحافظ عليه فقوله وهيئ عطف على مجزوم في قوله غير مجزوم أهملا ، أي وغير هيئ وما بعده ووقع تسؤ ونشأ بيانا للمجزوم ويجوز أن يكون وهيئ مبتدأ وما بعده من البيتين عطف عليه والخبر قوله كله تخيره إلى آخر البيت وأراد (وهيئ لنا من أمرنا)-(أنبئهم بأسمائهم) ، نبئ - بأربع أي بأربع كلمات ، (نبئنا بتأويله)-(نبئ عبادي)-(ونبئهم عن ضيف إبراهيم)-(ونبئهم أن الماء) ، وأرجئه-في الأعراف والشعراء ولذلك قال معا أي في موضعين وحقيقة الكلام في السورتين معا وكذا معنى هذا اللفظ وفائدته حيث جاء خصصه الناظم بذلك وهو في اللغة يستعمل للاثنين فما فوقها وقد استشهدت على ذلك بأبيات العرب في موضعين من شرح الشقراطسية ووقع في قصيدة متمم ابن نويرة الأمران فقال ، (إذا جنب الأولى شجعن لها معا ) ، فهاهنا حال من جماعة وقال في الاثنين ، (فلما تغربنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا) وكذا تستعمل العرب جميعا قال مطيع بن إياس ، (كنت ويحيى كيدي واحد نرمي جميعا ونرامي معا) فجميعا هنا حال من اثنين واصطلاح الناظم على أن معا للاثنين وجميعا لما فوقها ، وقوله واقرأ ثلاثا أراد اقرأ كتابك-اقرأ باسم ربك الذي-اقرأ وربك الأكرم وقوله (إلا نبأتكما بتأويله) ، مبدل فجملة المبني المستثنى إحدى عشرة كلمة وقوله فحصلا الألف فيه بدل من نون التأكيد أراد فحصلن وقد سبق له نظائر ثم ذكر مواضع أخر مستثناة وعللها فقال
(219)
وتُؤْوِي وَتُؤْوِيهِ أَخَفُّ بِهَمْزِهِ وَرِئْيًا بِتَرْكِ الْهَمْزِ يُشْبِهُ الامْتِلاَ
يعني أنه استثنى أيضا (وتؤوي إليك من تشاء)-(وفصيلته التي تؤويه) ، فهمزها لثقل الإبدال فيهما ولم يطرد ذلك في جملة ما هو مشتق من لفظ الإيواء كما فعل ورش لزوال هذه العلة واستثنى أيضا (هم أحسن أثاثا ورئيا) ، لأنه لو أبدل الهمزة ياء لوجب إدغامها في الياء التي بعدها كما قرأ قالون وابن ذكوان فكان يشبه لفظ الري وهو الامتلاء بالماء ويقال أيضا رويت ألوانهم وجلودهم ريا أي امتلأت وحسنت ورءيا بالهمز من الرواء وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وبترك الهمز يحتمل المعنيين فترك أبو عمرو الإبدال لذلك ، وقول الناظم وتؤوى وتؤويه معطوفان على ما تقدم باعتبار الوجهين المذكورين في هييء وقوله أخف خبر مبتدأ محذوف أي ذلك بهمزة أخف منه بلا همز وكذا قوله ورءيا عطف على ما تقدم أيضا وما بعده جملة مستأنفة أي يشبه بترك الهمز الامتلاء وكذا قوله في البيت الآتي وهو مؤصدة أو صدت يشبه ويجوز أن يكون تؤوى ورءيا ومؤصدة-مبتدآت وما بعد كل واحد خبره والله أعلم
(220)
وَمُؤْصَدَةٌ أَوْصَدتُّ يُشْبِهُ كُلُّهُ تَخَيَّرَهُ أَهْلُ الأَدَاءِ مُعَلَّلاَ
أي واستثنى أيضا مؤصدة فهمزها لأنها عنده من آصدت أي أطبقت فلو أبدل همزها لظن أنها من لغة أو صدت كما يقرأ غيره فلهذا قال أوصدت يشبه فأوصدت مفعول يشبه أي مؤصدة بترك الهمز يشبه لغة أوصدت ثم قال كله أي كل هذا المستثنى تخيره المشايخ وأهل أداء القراء معللا بهذه العلل المذكورة قيل إن ابن مجاهد اختار ذلك وروي عن أبي عمرو بعضه وقاس الباقي عليه وقيل الجميع مروي عن أبي عمرو ومؤصدة موضعان في آخر سورة البلد والهمزة فهذه خمس وثلاثون كلمة لم يقع فيها إبدال لأبي عمرو وإن كان حمزة في الوقف يبدل الجميع على أصله كما يأتي ولا ينظر إلى هذه العلل وهي على خمسة أقسام كما تقدم ما سكونه علامة للجزم وما سكونه علامة للبناء في مثال الأمر وما همزه أخف من إبداله وما ترك همزه يلبسه بغيره وما يخرجه الإبدال من لغة إلى أخرى وقد اتضح ذلك ولله الحمد ، وحكى ابن الفحام في التجريد أن منهم من زاد على هذا المستثنى ومنهم من نقص ومنهم من لم يستثن شيئا
(221)
وَبَارِئِكُمْ بِالْهَمْزِ حَالَ سُكُونِهِ وَقَالَ ابْنَ غَلْبُونٍ بِيَاءٍ تَبَدَّلاَ
وبارئكم عطف على المستثنى أي وغير بارئكم المقروء للسوسي بهمزة ساكنة على ما يأتي في سورة البقرة أي المقروء بالهمز في حال سكونه فنصب حال سكونه على الحال وإن قدرنا وهيئ وما بعده مبتدآت كان قوله وبارئكم على تقدير وبارئكم كذلك ويجوز قراءة وبارئكم في البيت بكسر الهمزة وإسكان الميم وبسكون الهمزة وصلة الميم ولكل وجه ، ولم يذكر صاحب التيسير بارئكم في المستثنى ولا نبه عليها في سورتها أنها تبدل وذكر فيها مكي الوجهين الهمزة والإبدال واختار ترك الإبدال ووجهه أن سكونها عارض للتخفيف فكأنها محركة فاستثناؤه أولى من المجزوم والذي سكونه لازم لأمر موجب له ، قال مكي في كتاب التبصرة اختلف المعقبون فيما أسكنه أبو عمرو استخفافا نحو بارئكم في رواية الرقيين عنه فمن القراء من يبدل منها ياء ويجريها مجرى ما سكونه لازم ومنهم من يحققها لأن سكونها عارض ولأنها قد تغيرت فلا نغيرها مرة أخرى قياسا على ما سكونه علم للجزم وهو أحسن وأقيس لأن سكونها ليس بلازم ، وقال أبو الحسن طاهر بن غلبون في كتاب التذكرة وكذا أيضا هو يعني السوسي بترك الهمزة من قوله تعالى -بارئكم-في الموضعين في البقرة فيبدلها ياء ساكنة لأنه يسكنها في هذه الرواية تخفيفا من أجل توالي الحركات فلذلك تركها كما يترك همزة وإن أسأتم ويبدلها ياء ساكنة كما يبدل همز الذئب وما أشبهه ، قلت والإبدال عندي أوجه من القراءة بهمزة ساكنة وإليه مال محمد بن شريح في كتاب التذكير والضمير في قوله تبدلا للهمز ومما يقوي وجه البدل التزام أكثر القراء والعرب إبدال همزة البرية فأجرى ما هو مشتق من ذلك مجراه والله أعلم
(222)
وَوَالاَهُ في بِئْرٍ وَفي بِئْسَ وَرْشُهُمْ وَفي الذِّئْبِ وَرْشٌ وَالْكِسَائِي فَأَبْدَلاَ
أي وتابع ورش السوسي في إبدال همزة -بئر-و-بئس-ياء وهو عين الفعل وتابعه في -الذئب-ورش الكسائي معا فأبدلا همزه أيضا ياء وكل ذلك لغة فالذئب موضعان في يوسف وبئر في سورة الحج وبئس في مواضع وسواء اتصلت به في آخره ما أوفى أوله واو أو فاء أو لام أو تجرد عنها ، فأما الذي في الأعراف (بعذاب بئيس) ، فنافع بكماله يقرؤه كذلك بالياء من غير همز وهو غير هذا
(223)
وَفي لُؤْلُؤٍ في العُرْفِ وَالنُّكْرِ شُعْبَةٌ وَيَأْلِتْكُمُ الدُّورِي وَالاِبْدَالُ (يُ)ـجْتَلاَ
أي وتابعه شعبة عن عاصم في إبدال همزة لؤلؤ الأولى واوا سواء كانت الكلمة معرفة باللام نحو (يخرج منهما اللؤلؤ) ، أو منكرة نحو (من ذهب ولؤلؤا) ، وذكر صاحب التيسير هذا الحكم في سورة الحج ووجه اختيار شعبة تخفيف لؤلؤ دون غيره استثقال اجتماع الهمزتين فيه والساكنة أثقل فأبدلها ، قوله ويألتكم الدوري أي قراءة الدوري بهمزة ساكنة وأبدلها السوسي على أصله فالياء من يجتلا رمزه وهذا مما استغنى فيه باللفظ عن القيد فكأنه قال بالهمز وقراءة الباقين بضد ذلك وهو ترك الهمز فإذا ترك صار يلتكم وكذلك قرءوا وإنما تعين أن لفظ يألتكم بالهمز للدوري والوزن مستقيم بالهمز وبالألف لأنه قال بعده والإبدال يجتلا فتعين أن قراءة الدوري بالهمز وهو من ألت يألت وقراءة الباقين من لات يليت وهما لغتان بمعنى نقص وإنما كان موضع ذكر هذا الحرف سورته وهناك ذكره صاحب التيسير ، قال قرأ أبو عمرو ولا يألتكم بهمزة ساكنة بعد الياء وإذا خفف أبدلها ألفا والباقون بغير همز ولا ألف
(224)
وَوَرْشٌ لِئَلاَّ والنَّسِىءُ بِيَائِهِ وَأَدْغَمَ في يَاءِ النَّسِىءِ فَثَقَّلاَ
أي قرأ-لئلا-حيث وقع بياء لأن الهمزة مفتوحة بعد كسر فهو قياس تخفيفها وأبدل أيضا من همزة النسيء في سورة التوبة ياء وأدغم الياء التي قبلها فيها وهذا أيضا قياس تخفيفها لأن قبلها ياء ساكنة زائدة وهكذا يفعل حمزة فيهما إذا وقف عليهما ورسما في المصحف بالياء فالهاء في بيانه للهمز الموجود في لئلا والنسيء أي بيائه التي رسم بها أو بياء هذا اللفظ التي رسم بها أو أراد بياء الهمز المبدل لأنه قد علم وألف ، أن الهمزة تبدل تارة ألفا وتارة واوا ياء باعتبار حركة ما قبلها على الأوضاع المعروفة في ذلك فقال ورش يقرأ لئلا -والنسيء-بياء الهمزة المعروف إبدالها منه ، وقوله وأدغم في ياء-النسيء-أي أدغم في هذه الياء المبدلة من الهمزة ولم يذكر المدغم لضيق النظم عنه واكتفى بما يدل عليه لأن المبدلة من الهمزة إذا كانت مدغما فيها علم أن المدغم ما كان قبلها وهو الياء التي بعد السين وقوله فثقلا أي فشدد لأن الإدغام يحصل ذلك وقيل الهاء في بيائه لورش أضافها إليه لأنه يبدلها من الهمزة ، وذكر صاحب التيسير-النسيء-في سورتها-ولئلا-في هذا الباب وأصلها لأن لا فأدغم
(225)
وَإِبْدَالُ أُخْرَى الْهَمْزَتَيْنِ لِكُلِّهِمْ إِذَا سَكَنَتْ عَزْمٌ كَآدَمَ أُوهِلاَ
هذه المسألة موضعا باب الهمزتين من كلمة لا هذا الباب فإنه للهمز المفرد ، وأخرى بمعنى آخرة أي إذا اجتمع همزتان في كلمة والثانية ساكنة فإبدالها عزم أي واجب لا بد منه وفي الحديث فكانت عزمة والأصل ذو عزم أي إبدالها أمر معزوم عليه وهو أن تبدل حرف مد من جنس حركة ما قبلها لثقل الهمزة الساكنة ولا حركة لها فتسهل بين بين فتعين البدل ولا يكون ذلك إلا في كلمة واحدة وقال أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف والابتداء وقد أجاز الكسائي أن يثبت الهمزتين في الابتداء فأجاز للمبتدئ أن يقول-إئت بقرآن-بهمزتين قال وهذا قبيح لأن العرب لا تجمع بين همزتين الثانية منهما ساكنة ، ثم قال وأجاز الكسائي أن تبتدئ-أؤتمن-بهمزتين ، قلت ثم مثل الناظم بمثالين فيهما نظر أحدهما-آدم-وأصله على هذا الرأي أأدم كأنه مشتق من أديم الأرض أو من الأدمة فوزنه أفعل وقيل إنما وزنه فاعل لأن التسمية بهذا الوزن غالبة في الأسماء القديمة التي هي عمود النسب بين إبراهيم ونوح صلوات الله عليهما وذكره الزمخشري في باب تخفيف الهمز من مفصله وقال في تفسيره أقرب أمره أن يكون على فاعل كعازر وعابر وشالح وفالغ ، قلت والوجهان محتملان أيضا في آزر وإنما تعين مثالا لذلك آخر وآمن وآتى ونحوه ، المثال الثاني قوله أوهلا لفظ ليس في القرآن وهو من قولهم أوهل فلان لكذا أي جعل له أهلا هكذا في شرح الشيخ ويشهد له قول صاحب المحكم آهله لذلك الأمر وءأهله ويجوز أن يكون من قولهم آهلك الله في الجنة إيهالا أي أدخلكها وزوجك فيها حكاه الجوهري عن أبي زيد وقد استعمل الناظم اسم المفعول من هذا في باب يا آت الإضافة في قوله وافق موهلا واستعمل اسم الفاعل من ثلاثي هذا لازما في قوله فاهمز آهلا متأهلا على ما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى ، فقوله أوهل مثاله في القرآن (أوتي موسى)-(أوذينا من قبل)-(أؤتمن أمانته) ، إذا ابتدأت فهذه أمثلة قلبها ألفا وواوا ومثال قلبها ياء (لإيلاف
قريش إيلافهم)-(إيت بقرآن) ، إذا ابتدأت به وهذا أمر مجمع عليه لغة ولا يختص بقراءة القرآن ولهذا صح تمثيله بأوهل وهو بدل لازم لا يرتد تصغيرا ولا تكسيرا كأواخر وأويخر بخلاف قولهم ميقات ومواقيت وموسر ومياسير ومويقت ومويسر فرد الجمع والتصغير ياء ميقات إلى أصلها وهو الواو لأنه من الوقت وردا واو موسر إلى أصلها وهو الياء لأنه من اليسار وأما ما لا أصل له في الهمز ويشبه في اللفظ ما هو مهموز فيخفى على من لا خبرة له فتعرض لبيانه بعض المتقدمين فقال لا يجوز همز-يوقنون -و-الموقنين-ويوفون-والموفون-و-تورون-ولا همز-يولي-و-يوقي-و-موهن-مما لا أصل له في الهمز قال الحصري ، (ولا تهمزن ما كانت الواو أصله كقولك في الإنسان يوفون بالنذر) ، والله أعلم
باب نقل حركة الهمز إلى الساكن قبلها
(226)
وَحَرِّكْ لِوَرْشٍ كُلَّ سَاكِنِ آخِرٍ صَحِيحٍ بِشَكْلِ الْهَمْزِ واحْذِفْهُ مُسْهِلاَ
وصف الساكن بوصفين أحدهما أن يكون آخر الكلمة والهمز أول الكلمة التي بعدها لأن الأطراف أنسب للتغيير من غيرها والثاني أن يكون الساكن الآخر صحيحا أي ليس بحرف مد ولين نحو (في أنفسهم) و(قالوا آمنا) ، لأن حرف المد لما فيه من المد بمنزلة المتحرك فلم ينقل إليه كما لم ينقل إلى المتحرك ويدخل في هذا ميم الجمع قبل الهمز لأن ورشا يصلها بواو فلا ينقل حركة ذلك الهمز في نحو ، (ومنهمو أميون) ، لأن قبله حرف مد ولين وهو الواو التي هي صلة الميم فإن كان قبل الهمزة ياء أو واو ليسا بحرفي مد ولين وذلك بأن ينفتح ما قبلهما فإنه ينقل حركة الهمزة إليهما نحو (ابني آدم)-(ذواتي أكل)-(خلو إلى)-(تعالوا أتل)-(ولو أنهم) ، ودخل في الضابط أنه ينقل حركة الهمزة في-أحسب الناس-إلى الميم من ألف لام ميم في أول العنكبوت وينقل إلى تاء التأنيث نحو (قالت أولاهم) ، وإلى التنوين نحو(كفؤا أحد) وإلى لام التعريف نحو-الأرض والآخرة-لأنها منفصلة مما بعدها فهي وهمزتها كلمة مستقلة نحو قد وهل حرف دخل لمعنى فكانت لذلك آخر كلمة وإن اتصلت خطا والتنوين معدود حرفا لأنه نون لفظا وإن لم تثبت له صورة في الخط وقد نص في التيسير على النقل إلى جميع ما ذكرناه من الأمثلة وليس هذان الشرطان بلازمين في اللغة فالنقل جائز في وسط الكلمة كما يجوز في آخرها وهذا سيأتي في مذهب حمزة في الوقف ويجوز النقل إلى حرف المد غير الألف مثل قاضو أبيك وابتغى أمره نص الزمخشري عليهما في المفصل وفي كتاب سيبويه من ذلك أمثلة كثيرة ولو كانت الألف تقبل الحركة لجاز النقل إليها وقيل لانتقل إلى الواو والياء حركة همزة مضمومة ولا مكسورة لثقل ذلك والغرض من النقل تخفيف اللفظ بتسهيل الهمز والنقل في ذلك أثقل من عدم النقل فترك الهمز بحاله وقد استعمل الناظم هنا قوله ساكن صحيح باعتبار أنه ليس بحرف مد ولين ولم يرد أنه ليس بحرف علة بدليل أنه ينقل بعد حرف اللين في نحو ابني آدم-وخلوا
إلى-كما تقدم وهذا بخلاف استعماله في باب المد والقصر حيث قال أو بعد ساكن صحيح فإنه احترز بذلك عن حرف العلة مطلقا بدليل أنه لا يمد واو-الموؤودة-بعد الهمزة وقد تقدم بيان ذلك ، وقوله بشكل الهمز أي حرك ذلك الساكن الآخر بحركة الهمز الذي بعده أي حركة كانت ، قوله واحذفه يعني الهمز بعد نقل حركته لأن بقاءه ساكنا أثقل منه متحركا وربما يكون بعده ساكن في مثل-قد أفلح-فيؤدي إلى الجمع بين الساكنين ومسهلا حال أي راكبا للطريق الأسهل
(227)
وَعَنْ حَمْزَةَ في الْوَقْفِ خُلْفٌ وَعِنْدَهُ رَوَى خَلَفٌ في الْوَقْفِ سَكْتًا مُقَلَّلاَ
يعني حكى عن حمزة في الوقف على الكلمة التي نقل همزها لورش مثل قراءة ورش ومثل قراءة الجماعة وهذا مطرد فيما نقل إليه ورش وفيما لم ينقل إليه ولكنه داخل في الضابط المذكور في البيت الأول نحو (يؤده إليك) ، فإن ورشا وصل الهاء بياء وفي ميم الجمع وجوه ستأتي ولم يذكر صاحب التيسير النقل لحمزة في هذا كله وذكره جماعة غيره وسيأتي له في بابه أنه يخففه الهمز إذا كان وسطا أو آخرا وهذا الباب الهمز أولا وسيأتي له في بابه خلاف في الهمز المتوسط بسبب دخول حروف زوائد عليه هل يخفيه أولا ثم ذكر صاحب التيسير من هذا نحو -الأرض-والآخرة-دون-قد أفلح وشبهه ، فإن قلنا لا يخفف ذاك فهذا أولى لأن هذا مبتدأ حقيقة وذاك مبتدأ تقديرا ، وإن قلنا يخفف ذلك ففي هذا وجهان ، ثم لا ينبغي أن يختص الخلاف بالهمزة المنقولة إلى الساكن قبلها بل يعطى لجميع الهمزات المبتدآت حكم المتوسط فيما يستحقه من وجوه التخفيف فإن كانت المبتدأة ساكنة وذلك لا يتصور إلا فيما دخل عليها همزة وصل وحذفت لاتصال الكلمة التي قبلها بها نحو (يا صالح ائتنا) ، فإذا وقف عليها أبدلها واوا وفي-لقاءنا ائت-يبدلها ألفا وفي (الذي أؤتمن) ، يبدلها ياء وصاحب التيسير ذكر ما كان من هذا القبيل في الهمز المتوسط فقال تفرد حمزة بتسهيل الهمزة المتوسطة نحو (المؤمنون-و-يأكلون-والذئب) ، قال وكذلك (الذي أؤتمن) و(لقاءنا ائت) و(فرعون ائتوني) وشبهه ، قلت ووجهه أن دخول همزة الوصل قبلها في الابتداء صيرها متوسطة فإذا أبدل هذا الهمز حرف مد وكان قبله من جنسه وكان يحذف لأجل سكون الهمزة اتجه وجهان ، أحدهما عود الحرف المحذوف لزوال ما اقتضى حذفه وهو الهمزة الساكنة فإن الجمع بين حرفي مد من جنس واحد ممكن بتطويل المد ، والوجه الثاني حذفه لوجود الساكن وهذان الوجهان هما المذكوران في باب وقف حمزة وهشام على الهمز في قوله ، (ويبدله مهما تطرف مثله ويقصر أو يمضي على المد أطولا) ، وينبني على
الوجهين جواز الإمالة في قوله تعالى (الهدى ائتنا) ، لحمزة ولورش أيضا فإن أثبتنا الألف الأصلية أملنا وإن حذفناها فلا ويلزم من الإمالة إمالة الألف المبدلة فالاختيار المنع والله أعلم ، وإن كانت همزة الابتداء متحركة وقبلها متحرك جعلت بين بين مطلقا نحو (قال إبراهيم)-(إن أبانا)-(وجد عليه أمة) ، إلا أن تقع مفتوحة بعد كسر أو ضم فتبدل ياء أو واوا نحو (فيه آيات بينات)-(منه آيات محكمات) ، وإن كانت متحركة وقبلها ساكن صحيح أو حرف لين نقل الحركة إليه على ما يتبين في مذهب ورش وإن كان حرف مد ولين امتنع النقل في الألف فتجعل الهمزة بين بين كما يفعل في المتوسطة وعلى قياس مذاهب القراء في الواو والياء يجوز قلب الهمزة والإدغام ويجوز النقل إلى الأصليتين نحو (يدعو إلى)-(تزدري أعينكم) ، والزائدتان هما نحو (قالوا آمنا)-(نفسي إن النفس) ، ويجوز النقل إليهما لغة وأما إذا كان الساكن قبل الهمزة ميم الجمع نحو (عليكم أنفسكم) ، فقال الشيخ في شرحه لا خلاف في تحقيق مثل هذا في الوقف عندنا قلت قد ذكر أبو بكر بن مهران في كتاب له قصره على معرفة مذهب حمزة في الهمز فيه مذاهب أحدها وهو الأحسن نقل حركة الهمزة إليها مطلقا فتضم تارة وتفتح تارة وتكسر تارة نحو (ومنهم أميون)-(عليهم استغفرت)-(ذلكم إصرى) ، الثاني تضم مطلقا وإن كانت الهمزة مفتوحة أو مكسورة حذرا من تحرك الميم بغير حركتها الأصلية الثالث تنقل في الضم والكسر دون الفتح لئلا يشبه لفظ التثنية فإن كانت الهمزة قبلها همزة وهما متفقتان أو مختلفتان سهل الثانية بما تقتضيه لأنها في الكلمة الموقوف عليها ، وفي نحو (ءأندرتهم) ، تنقل الأولى وتسهل الثانية ويكون تخفيف الثانية مخرجا على الخلاف فيما هو متوسط بزائد دخل عليه لأن همزة الاستفهام زائدة على كلمة أنذر فإن تحققت هذه القواعد انبنى عليها مسألة حسنة وهي قوله تعالى (قل أؤنبئكم) ، فيها ثلاث همزات فنص ابن مهران فيها على ثلاثة
أوجه أحدها أنه يخفف الثلاثة الأولى تنقل حركتها إلى لام قل والثانية والثالثة تجعلان بين الهمزة والواو لأنهما مضمومتان بعد متحرك أما تسهيل الثالثة فلا خلاف فيه لأنها همزة متوسطة أو متطرفة إن لم يعتد بالضمير وفي ذلك بحث سيأتي في موضعه وفي كيفية تخفيفها وجوه ستأتي وأما الثانية فهي متوسطة بسبب الزائد ففي تخفيفها خلاف وأما الأولى فمبتدأه ففي نقل حركتها الخلاف المذكور في هذا الباب ، الوجه الثاني تخفيف الثالثة فقط وذلك رأي من لا يرى تخفيف المبتدأة ولا يعتد بالزائد ، الوجه الثالث تخفيف الأخيرتين فقط إعتدادا بالزائد وإعراضا عن المبتدأة وكان يحتمل وجها رابعا وهو أن يخفف الأولى والأخيرة دون الثانية لولا أن من خفف الأولى يلزمه تخفيف الثانية بطريق الأولى لأنها متوسطة صورة فهي أحرى بذاك من المبتدأة فهذا الكلام كله جره قوله وعن حمزة في الوقف خلف فاحتجنا إلى استيعاب الكلام في وقفه على كل همزة مبتدأة وفهمت كل ما ذكرته من كلام الأئمة مفرق في كتبهم حتى قال ابن مهران بتركها ، وإن كانت في أول الكلمة قال وعلى هذا يدل كلام المتقدمين وبه كان يأخذ أبو بكر ابن مقسم ويقول بتركها كيف ما وجد السبيل إليها إلا إذا ابتدأ بها فإنه لا بد له منها ولا يجد السبيل إلى تركها وقال مكي ذكر ابن مجاهد أنه يسهل لحمزة في الوقف ما كان من كلمتين نحو (يعلم أعمالكم) ، قال يلحقها بواو ونحو (ألا يظن أولئك) ، قال يجعلها بين الهمزة والواو أجرى الباب كله على أصل واحد
(228)
وَيَسْكُتُ في شَيْءٍ وَشَيْئًا وَبَعْضُهُمْ لَدَى الَّلامِ لِلتَّعْرِيفِ عَنْ حَمْزَةٍ تَلاَ
أي وسكت خلف أيضا على الساكن قبل الهمزة في هاتين الكلمتين وهو الياء وهما كلمة واحدة وإنما غاير بينهما باعتبار لفظ النصب وغيره لاختلاف ذلك في خط المصحف فالمنصوب بألف دون المرفوع والمجرور وهذه عبارة المصنفين من القراء فسلك سبيلهم في ذلك وإنما فعلوا ذلك مبالغة في البيان لئلا يتوهم من الاقتصار على لفظ أحدهما عدم جريان الحكم في الآخر ومثله قوله وجزأ وجزء ضم الإسكان صف ، فإن قلت لِم لم يفعل ذلك في-صراط-و-بيوت-مع أنهما في القرآن بلفظ النصب وغيره نحو (ويهديك صراطا مستقيما)-(فإذا دخلتم بيوتا) ، قلت كأنه لما ضبط ذلك لخلوه عن لام التعريف استغنى عنه وإنما احتاج إلى ذكر شيء وشيئا لأنهما لا يدخلان في الضابط السابق لورش لأن ورشا لا ينقل فيهما الحركة لأن ساكنهما ليس بآخر كلمته فحاصله أن خلفا يسكت بين الكلمتين ولم يسكت في كلمة واحدة إلا في هاتين اللفظتين ، وحكى صاحب التيسير هذا السكت عن حمزة في الكلمة الواحدة مطلقا نحو (قرآن)-(ولا يسأم الإنسان) ، كما في شيء وهو متجه لأن المعنى الذي لأجله فعل السكت موجود في الجميع والذي قرأه الداني على أبي الفتح لخلف هو ما ذكره الناظم وكان لا يرى لخلاد سكتا في موضع ما وقرأ الداني على طاهر بن غلبون بالسكت لخلف وخلاد جميعا على لام التعريف وشيء وشيئا فقط وهو المراد بقوله وبعضهم أي وبعض أهل الأداء تلا بالسكوت لحمزة عند لام التعريف كالأرض والآخرة وعنه سكوت شيء وشيئا وتمم ذلك بقوله
(229)
وَشَيْءٍ وَشَيْئًا لَمْ يَزِدْ وَلِنَافِعٍ لَدَى يُونُسٍ آلانَ بِالنَّقْلِ نُقِّلاَ
أي لم يزد بعضهم على ذلك شيئا بل اقتصر على السكت وقال الشيخ المراد لم يزد المذكور فقد صار لخلف وجهان أحدهما السكوت عند كل ساكن بالشرط المقدم وفي شيء وشيئا والثاني يختص السكت بلام المعرفة وشيء وشيئا فسكوته على لام التعريف وشيء وشيئا بلا خلاف عن خلف لأن الطريقتين اجتمعتا عليه وفي غير ذلك له خلاف وصار لخلاد وجهان أحدهما السكوت على لام التعريف وشيء وشيئا فقط والوجه الثاني لخلف والآخر لا سكوت لخلاد في موضع أصلا وهذا الموضع من مشكلات القصيدة فافهمه فإن وقفت لحمزة على الكلمة من ذلك فإن كانت لفظ شيء وشيئا وقفت بتخفيف الهمزة وله وجهان على ما يأتي وإن كانت غيره نحو-قد أفلح-والأرض فإن قلنا إن حمزة ينقل الحركة في الوقف نقلت لأن تخفيف الهمزة في الوقف هو مذهبه فيقدم على غيره كما قلنا في وقفه على شيء وشيئا وإن قلنا لا ينقل وقفت لخلف بالسكت في-الأرض-وبالسكت وعدمه في-قد أفلح-ووقفت لخلاد بعدم السكت في-قد أفلح-وبالسكت وعدمه في-الأرض-فلهما ثلاثة أوجه لخلف ولخلاد وجهان ، النقل وعدمه وفي نحو-الأرض-بالعكس لخلاد ثلاثة أوجه ولخلف وجهان النقل والسكوت وهذا من عجيب ما اتفق وأما ميم الجمع فإن قلنا يجوز النقل إليها فهي مثل-قد أفلح-وإلا ففيها لخلف وجهان السكوت وعدمه وصلا ووقفا وخلاد كغيره وصلا ووقفاه
(230)
وَقُلْ عَادًا الاُوْلَى بِإِسْكَانِ لامِهِ وَتَنْوِينِهِ بِالْكَسْرِ (كَـ)ـاسِيهِ (ظَ)ـلّلاَ
يعني إسكان لام التعريف وكسر التنوين الذي في عادا لالتقاء الساكنين هو واللام وهذه القراءة جاءت على الأصل كما تقول رأيت زيدا الطويل فلهذا أثنى عليها بقوله كاسيه ظللا أي حجتها قوية بخلاف قراءة الباقين ففيها كلام وكنى بكاسيه عن قارئه لأنه كساه تنوينا فظلله بذلك أي ستره عن اعتراض معترض تعرض للقراءة الأخرى وإن كان لا يؤثر اعتراضه والحمد لله ، وهذا الحرف في سورة النجم وأنه أهلك عادا الأولى
(231)
وَأَدْغَمَ بَاقِيهِمْ وَبِالنَّقْلِ وَصْلُهُمْ وَبَدْؤُهُمْ وَالْبَدْءُ بِالأَصْلِ فُضِّلاَ
يعني بالباقي نافعا وأبا عمرو لأن القراءة الأولى عليها الكوفيون وابن كثير وابن عامر ويعني بالإدغام إدغام تنوين عادا في لام التعريف من الأولى بعد ما نقل إلى اللام حركة الهمزة تخفيفا واعتدادا بالحركة وإن كانت عارضة لأنهما لما نقلا والتنوين ساكن أدغماه في اللام المتحركة بناء على قاعدة إدغام التنوين في اللام على ما سيأتي في باب أحكام النون الساكنة والتنوين ، وحكى أبو عمرو بن العلا إدغام مثل ذلك في قولهم رأيت زيادا لعجم في زيادا الأعجم ووجه الاعتراض على هذه القراءة أن تحريك اللام عارض فكأنها تعد ساكنة ولا يصح في الساكن إدغام وجواب هذا أن الممتنع هو ما يدغم في ساكن حقيقي أما ما هو ساكن تقديراً فلا وليس كل عارض لا يعتد به ولا ذلك بمجمع عليه وقد تقدم له نظائر فمن أدغم كان معتدا بالحركة كما يعتد بها من لغته لحمر إذا ابتدأ بكلمة الأحمر بعد نقل الحركة على ما سيأتي والهاء في وصلهم وبدؤهم تعود على مدلول باقيهم وجمع الضمير والباقي اثنان إما على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان وإما باعتبار رواتهما أي أن النقل إلى اللام ثابت وصلا وبدأ ويعني بالوصل وصل الأولى بعادا فالنقل لهما فيه لازم لأجل أنهما أدغما التنوين فيها فإن وقفا على عادا ابتدأ الأولى بالنقل أيضا ليبقى اللفظ حاكيا بحالة الوصل وفي كيفيته وجهان يأتيان فأما ورش فيتعين النقل له على أصله في النقل إلى لام التعريف وأما قالون وأبو عمرو فالأولى لهما أن يبتدئا بالأصل كما يقرأ الكوفيون وابن كثير وابن عامر لأنهما ليس من أصلهما النقل وما نقلا هنا إلا لأجل الإدغام لتخفيف الكلمة وقد زال الإدغام بالوقف فيرجع إلى الأصل وهو لأبي عمرو أولى منه لقالون لأن قالون في الجملة قد نقل الحركة في آلآن في موضعي يونس ونقل أيضا في ردءا كما سيأتي ، ثم ذكر من فضل له البدء
بالأصل ، والبدء مصدر بدأ ، فقال
(232)
لِقَالُونَ وَالْبَصْرِي وَتُهْمَزُ وَاوُهُ لِقَالُونَ حَالَ النَّقْلِ بَدْءًا وَمَوْصِلاَ
أي أن قالون يهمز واو لولى إذا بدأ بالنقل وفي الوصل مطلقا أي حيث قلنا لقالون بالنقل سواء ابتدأ الأولى أو وصلها بعادا فواو لولى مهموز بهمزة ساكنة وإن قلنا يبتدئ بالأصل فلا همز لئلا يجتمع همزتان فهذا معنى قوله حال النقل ووجه الهمز ضمة اللام قبلها فهمزت لمجاورة الضم كما همزت إذا كانت مضمومة في أجوه وأدور وهي لغة لبعض العرب كقوله أحب المؤقدين إلى موسى وهذا توجيه أبي علي في الحجة وقيل الأصل في الواو الهمز وأبدل لسكونه بعد همز مضموم واوا كأولى فلما حذفت الهمزة الأولى بعد نقل حركتها إلى لام الأولى زال اجتماع الهمزتين فرجعت تلك الهمزة ذكر ذلك مكي وغيره ، والله أعلم ، ومادة هذه الكلمة مختلف فيها وهي من المشكلات وسنتكلم عليها في شرح النظم إن شاء الله تعالى كلاما شافيا وبالله التوفيق ، وقوله بدءا وموصلا مصدران في موضع الحال أي بادءاً وواصلاً ، ثم ذكر كيفية البدء في حال النقل فقال
(233)
وَتَبْدَأْ بِهَمْزِ الْوَصْلِ في النَّقْلِ كُلِّهِ وَإِنْ كُنْتَ مُعْتَدًّا بِعَارِضِهِ فَلاَ
أبدل من همز وتبدأ ألفا بعد إسكانها ضرورة ، وقوله بهمز الوصل يعني همزة الوصل التي تصحب لام التعريف تقول إذا ابتدأت كلمة دخل فيها لام التعريف على ما أوله همزة قطع نحو-الأرض-و-الآخرة-والإنسان-و-الإحسان-فنقلت حركة الهمزة إلى اللام ثم أردت الابتداء بتلك الكلمة بدأت بهمزة الوصل كما تبتدئ بها في صورة عدم النقل لأجل سكون اللام فاللام بعد النقل إليها كأنها بعد ساكنة لأن حركة النقل عارضة فتبقى همزة الوصل على حالها لا تسقط إلا في الدرج ، وهذا هو الوجه المختار لغة وقراءة على ما سيأتي تقريره ثم ذكر وجها آخر وهو أن لا يحتاج إلى همزة لوصل لأنها إنما اجتلبت لأجل سكون اللام وقد زال سكونها بحركة النقل العارضة فاستغنى عنها فهذا معنى قوله وإن كنت معتدا بعارضه أي منزلا لحركة النقل منزلة الحركة الأصلية فلا تبدأ بهمز الوصل إذ لا حاجة إليه فتقول على الوجه الأول-ألرض-ألنسان-وعلى الثاني-لرض-لنسان-وعادة أهل النحو يمثلون في هذه المسألة بالأحمر فتقول على الوجه الأول الحمر وعلى الثاني لحمر ، وقوله في النقل كله ليشمل جميع ما ينقل إليه ورش من لام المعرفة ويدخل في ذلك الأولى من-عادا لولى-فيكون الوجهان لورش في جميع القرآن ويكونان لأبي عمرو وقالون في هذا الموضع إن قلنا إنهما يبدآن بالنقل كما في الوصل وإن قلنا يبدآن بالأصل من غير نقل فلا بد من همزة الوصل فقد صار لكل واحد منهما ثلاثة أوجه في صوره الإبتدا بقوله تعالى-الأولى-من عادا لولى ولورش وجها ، كما له في سائر القرآن على ما ذكرنا هكذا ذكر صاحب التيسير وغيره من المصنفين في القراءات وتبعهم الشيخ الشاطبي رحمه الله في نظمه هذا وفيه إشكال وهو أن النحاة ذكروا وجهين في أن حركة النقل يعتد بها أولا وأجروا على كل وجه ما يقتضي من الأحكام لم يخصوا بذلك دخول همزة الوصل وعدم دخولها بل قالوا إن اعتددنا بالعارض فلا حاجة إلى تحريك النون في من لأن بل تبقى على سكونها إذ لم
يلتق ساكنان وإن لم نعتد بالعارض أبقينا فتحة النون على حالها قبل النقل فإذا اتضح ذلك وجب النظر في مواضع النقل في القرآن فما رأينا فيه أمارة الاعتداد بالعارض حذفنا همزة الوصل في الابتداء به وما رأينا فيه أمارة عدم الاعتداد بالعارض أبقينا همزة الوصل فيه وما لا أمارة فيه على واحد منهما ففيه الوجهان وهذا تحقيق البحث في ذلك إن شاء الله تعالى فنقول ، في مسألة-عادا لولى-ظهرت أمارة الاعتداد بالعارض في قراءة أبي عمرو ونافع معا وذلك أنهما أدغما في الوصل التنوين في اللام فهذه أمارة الاعتداد بحركة اللام فإذا ابتدأ القارئ لهما بالنقل لم يحتج إلى همزة الوصل لأنا قد علمنا أن الحركة معتد بها عندهما وصلا فابتنى الابتداء عليه وقد نص أبو محمد مكي في كتاب الكشف على أن ورشا لا يمد-الأولى-وإن كان من مذهبه مد حرف المد بعد الهمز المغير لأن هذا وإن كان همزا مغيرا إلا أنه قد اعتد بحركة اللام فكان لا همز في الكلمة فلا مد ، قلت هكذا ينبغي في القياس أن لا تعود همزة الوصل في الابتداء ، والله أعلم ، ونقول في جميع ما نقل فيه ورش الحركة إلى لام المعرفة في جميع القرآن غير-عادا لولى-هو على قسمين ، أحدهما ما ظهرت فيه أمارة عدم الاعتداد بالعارض كقوله تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض)-(وما الحياة الدنيا في الآخرة)-(ويدع الإنسان)-(قالوا الآن)-(أزفت الآزفة) ، ونحو ذلك ألا ترى أنه بعد نقل الحركة في هذه المواضع لم ترد حروف المد التي حذفت لأجل سكون اللام ولم تسكن تاء التأنيث التي كسرت لسكون -الآزفة-فعلمنا أنه ما اعتد بالحركة في مثل هذه المواضع فينبغي إذا ابتدأ القارئ له فيها أن يأتي بهمزة الوصل لأن اللام وإن تحركت فكأنها بعد ساكنة ، القسم الثاني ما لم تظهر فيه أمارة نحو (وقال الإنسان ما لها) ، فإذا ابتدأ القارئ لورش هنا اتجه الوجهان المذكوران والله أعلم
(234)
وَنقْلُ رِدًا عَنْ نَافِعٍ وَكِتَابِيهْ بِالإِسْكانِ عَنْ وَرْشٍ أَصَحُّ تَقَبَّلاَ
لو أتى بهذا البيت قبل مسألة-عادا لولى-لكان أحسن ليتصل مذهب نافع بكماله يتلو بعضه بعضا وليفرغ مما روي عن ورش الانفراد بنقله ثم يذكر من وافقه في شيء من مواضع النقل كما هي عادته غالبا في باقي الأبواب وإنما أخر هذا البيت لأن النقل في كتابيه ضعيف والنقل في ردا على خلاف أصل ورش لأنه لا ينقل في كلمة وأراد قوله تعالى (فأرسله معي ردءا) ، أي معينا قراءة نافع بغير همز كما يقف عليه حمزة بنقل حركة الهمزة إلى الدال الساكنة وقيل هو من أردى على كذا أي زاد فلا همز فيه أي أرسله معي زيادة وأما قوله تعالى في الحاقة (كتابيه إني ظننت) ، فروي عن ورش نقل حركة همزة إني إلى هاء كتابيه لأنه ساكن آخر صحيح فدخل في الضابط المذكور أول الباب وروى ترك النقل وهو الصحيح في العربية لأن هذه الهاء هاء سكت وحكمها السكون لا تحرك إلا في ضرورة الشعر على قبح وأيضا فإنها لا تثبت إلا في الوقف فإذا خولف الأصل فأثبتت في الوصل إجراء له مجرى الوقف لأجل ثباتها في خط المصحف فلا ينبغي أن يخالف الأصل من وجه آخر وهو تحريكها فتجتمع في حرف واحد مخالفتان وهذه المسألة من الزيادات لم يذكرها الداني رحمه الله في التيسير وذكرها في غيره ، قال مكي أخذ قوم بنقل الحركة في هذا وتركه أحسن وأقوى ، قلت فلهذا قال الناظم أصح تقبلا-أي وكتابيه-بالإسكان أصح تقبلا منه بالتحريك وذلك أن التحريك تقبله قوم وتقبل الإسكان قوم فالإسكان أصح تقبلا من حيث الدليل على ما سبق ونصبه على التمييز وبالإسكان حال أي وكتابيه ساكنا أصح تقبلا منه متحركا فهو مثل قولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا والله أعلم
باب وقف حمزة و هشام على الهمز
(235)
وَحَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ سَهَّلَ هَمْزَهُ إِذَا كَانَ وَسْطًا أَوْ تَطَرَّفَ مَنْزِلاَ
سبق الكلام في مذهبه في الهمزة المبتدأة في شرح قوله في الباب السابق وعن حمزة في الوقف خلف والكلام في هذا الباب في الهمزة المتوسطة والمتطرفة التي في آخر الكلمة ويأتي فيهما إن شاء الله تعالى جميع أنواع تخفيف الهمز وهي إبداله وحذفه بعد إلقاء حركته على ساكن قبله وجعله بين بين ، ولفظ التسهيل يشمل الجميع وقد يخص القراء لفظ التسهيل بين بين كما سبق وهذه الأنواع هي التي نقلها أهل العربية في ذلك وعند القراء نوع آخر وهو تخفيف الهمز باعتبار خط المصحف وسيأتي الكلام عليه وعلى تفاريع هذه الأنواع على ما تقتضيه أصول العربية والقراءات والهاء في همزه تعود إلى حمزة أو إلى الوقف لملابسة كل واحد منهما هذا بفعله فيه وهذا بأنه محل الفعل والشيء يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة بينهما ووسطا ظرف وكان تامة أي إذا وقع في وسط الكلمة أي بين حروفها كما تقول جلست وسط القوم وبجوز أن يكون خبر كان الناقصة لأن وسطا مصدر من قولهم وسطت القوم أوسطهم وسطا وسطة أي توسطتهم ذكره الجوهري فالمعنى ذا وسط أي إذا كان متوسطا أو تطرف آخرها ومنزلا تمييز أي تطرف منزله أي موضعه وإنما اختص تسهيل حمزة للهمزة بالوقف لأنه محل استراحة القارئ والمتكلم مطلقا ولذلك حذفت فيه الحركات والتنوين وأبدل فيه تنوين المنصوب ألفا قال ابن مهران وقال بعضهم هذا مذهب مشهور ولغة معروفة يحذف الهمز في السكت كما يحذف الإعراب فرقا بين الوصل والوقف وهو مذهب حسن ، قال وقال بعضهم لغة أكثر العرب الذين هم أهل الجزالة والفصاحة ترك الهمزة الساكنة في الدرج والمتحركة عند السكت ، قلت وفيه أيضا تآخي رءوس الآي في مثل (كل يوم هو في شأن) ، والخاطئة-في الحاقة-وخاطئة-في سورة إقرأ وأنا أستحب ترك الهمز في هذه المواضع في الوقف لذلك ، وأما الحديث الذي رواه موسى بن عبيدة عن نافع عن ابن عمر قال ما همز رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء وإنما الهمز بدعة
ابتدعها من بعدهم فهو حديث لا يحتج بمثله لضعف إسناده فإن موسى بن عبيدة هو الزيدي وهو عند أئمة الحديث ضعيف ، ثم شرع الناظم في بيان ما يفعل حمزة بالهمز المتوسط والمتطرف فقال
(236)
فَأَبْدِلْهُ عَنْهُ حَرْفَ مَدِّ مُسَكَّنًا وَمِنْ قَبْلِهِ تَحْرِيكُهُ قَدْ تَنَزَّلاَ
أي فأبدل الهمز عن حمزة حرف مد من جنس حركة ما قبله بشرطين أحدهما أن يكون الهمز ساكنا والثاني أن يتحرك ما قبله سواء توسط أو تطرف نحو-يؤمنون-وإن يشأ-وقال الملأ والهمزة في الملأ متحركة ولكن لما وقف عليها سكنت وهذا قياس تخفيف الهمزات السواكن إذ لا حركة لها فتجعل بين بين أو تنقل ، وقال مسكنا بالكسر وهو حال من الضمير المرفوع في فأبدله ولم يقل مسكنا بالفتح ولو قاله لكان حالا من الهاء في فأبدله وهي عائدة على الهمز لئلا يوهم أنه نعت لقوله حرف مد فعدل إلى ما لا إيهام فيه وحصل به تقييد الهمز بالسكون ولأنه أفاد أن القارئ وإن سكن الهمز المتحرك في الوقف فحكمه هكذا أي أبدل الهمز في حال كونك مسكنا له سواء كان ساكنا قبل نطقك به أو سكنته أنت للوقف ، والواو في قوله ومن قبله تحريكه للحال والجملة حال من الهمز أي فأبدله مسكنا محركا ما قبله فتكون الحال الأولى من الفاعل والثانية من المفعول نحو لقيته مصعدا ومنحدرا واشتراط تحرك ما قبل الهمز إنما يحتاج إليه في المتحرك الذي سكنه القارئ في الوقف نحو (قال الملأ) ، ليحترز به من نحو (يشاء-و-قروء-و-هنيئا-و-شيء-و-سوء) ، وسيأتي أحكام ذلك كله ، وأما الهمزة الساكنة قبل الوقف فلا يكون ما قبلها إلا متحركا وفي هذا القسم الذي تسكنه للوقف وتبدله حرف مد من جنس حركة ما قبله وجهان آخران سنذكرهما ، أحدهما تسهيله على اعتبار مرسوم الخط والآخر تسهيله بالروم ، فإن قلت لم كانت الهمزة الساكنة تبدل حرفا من جنس حركة ما قبلها ولم تكن من جنس حركة ما بعدها ، قلت لأن ما قبلها حركة بناء لازمة وما بعدها يجوز أن تكون حركة
إعراب وحركة الإعراب تنتقل وتتغير من ضم إلى فتح إلى كسر فأي حركة منها تعتبر ولا ترجيح لإحداهن على الأخريين فينظر إلى ما لا يتغير وهو حركة ما قبلها ، فإن قلت كان من الممكن أن تعتبر كل حركة في موضعها ، قلت يلزم من ذلك أن ينقلب الهمز مع الضم واوا ومع الفتح ألفا ومع الكسر ياء فتختل بنية الكلمة نحو رأس يصير عين الكلمة في الرفع واوا وفي النصب ألفا وفي الجر ياء وفي ذلك اختلال الألفاظ واختلاط الأبنية وأيضا فاعتبار الحرف بما قبله أقرب إلى قياس اللغة من اعتباره بما بعده ألا تراهم التزموا فتح ما قبل الألف دون ما بعدها نحو قالوا وقائل ولأن اعتبار الأول أخف ومما ينبه عليه في هذا الموضع أن كل همزة ساكنة للجزم أو للوقف إذا أبدلت حرف مد بقي ذلك الحرف بحاله لا يؤثر فيه الجازم نحو (ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)-(ونبئهم عن ضيف إبراهيم) ، ونقل صاحب الروضة شيئا غريبا فقال وتقف على (نبئ عبادي) ، بغير همز فإن طرحت الهمزة وأثرها ، قلت نبا وإن طرحتها وأبقيت أثرها قلت نبي والله أعلم
(237)
وَحَرِّكْ بِهِ مَا قَبْلَهُ مَتَسَكِّنًا وَأَسْقِطْهُ حَتّى يَرْجِعَ اللَّفْظُ أَسْهَلاَ
به أي بالهمز يعني بحركته على حذف مضاف يعني إذا كان متحركا وقبله ساكن فألق حركته على الذي استقر قبله متسكنا وأسقط الهمز كما تقدم في باب نقل الحركة حتى يرجع اللفظ أسهل مما كان أو سهلا وذلك نحو-موئلا-ودفء-تلقى الحركة إلى الواو والفاء ويسقط الهمز ثم تسكن الفاء من دفء للوقف ولك فيها الروم والإشمام كما يأتي ، فإن قلت لم كان نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ولم ينقل إلى الساكن بعدها في نحو (قد أفلح) ، قلت لو نقل إلى الساكن بعدها لالتبست الأبنية فإنه كان يقال قد فلح فيظن أنه فعل ثلاثي وإذا نقل إلى الساكن قبله بقي في اللفظ ما يدل على بناء أصل الكلمة وهو السكون بعد الهمزة وكذا في أشياء وأزواج ونحوهما ثم استثنى من هذا أن يكون الساكن قبل الهمزة ألفا فقال
(238)
سِوَى أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ أَلِفٍ جَرى يُسَهِّلُهُ مَهْمَا تَوَسَّطَ مَدْخلاَ
أي سوى أن حمزة يسهل الهمز المتحرك الجاري من بعد ألف مهما توسط وما زائدة ومدخلا تمييز ومن بعد متعلق بيسهله أو بتوسط أي يسهله من بعد ألف أو مهما توسط من بعد ألف وقوله جرى حشو لا فائدة فيها على هذا التقدير فإنه لو حذف لم يختل المعنى المقصود وحيث قد أتى به فأقرب ما تقدره به أن يكون حالا ويتعلق به من بعد ما ألف وقد مقدرة قبله كما قيل ذلك في قوله تعالى (أو جاءوكم حصرت صدورهم) ، والتقدير يسهله جاريا من بعد ألف أي في هذه الحالة أو مهما توسط جاريا من بعد ألف ومراده بالتسهيل هنا بين بين وذلك لأن نقل الحركة إلى الألف متعذر لأنها لا تتحرك لأنها بما فيها من المد كأنها حرف متحرك فيسهل الهمز بعدها بين بين كما سنذكره في الهمز المتحرك بعد متحرك فإذا سهله بعد الألف هل يمكن مد الألف الذي كان لأجل الهمز أو يقصر فيه تردد سبق لأنها حرف مد قبل همز مغير وذلك نحو (دعاؤكم)-(ونداء) ، لأن بعد الهمزة في نداء ألف التنوين وهي لازمة فصارت الهمزة متوسطة ، قال صاحب التيسير في هذا النوع إن شئت مكنت الألف قبلها وإن شئت قصرتها والتمكين أقيس ثم ذكر حكم المتطرفة بعد ألف فقال
(239)
وَيُبْدِلُهُ مَهْمَا تَطَرَّفَ مِثْلُهُ وَيَقْصُرُ أَوْ يَمْضِي عَلَى الْمَدِّ أَطْوَلاَ
مثله أي حرفا مثله يريد مثل ما قبله يعني ألفا وذلك لأن الهمزة المتطرفة سكنت للوقف وقبلها ألف وقبل الألف فتحة فلم تعد الألف حاجزا فقلبت الهمزة ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها فاجتمع ألفان فإما أن يحذف إحداهما فيقصر ولا يمد أو يبقيهما لأن الوقف يحتمل اجتماع ساكنين فيمد مدا طويلا ويجوز أن يكون متوسطا لقوله في باب المد والقصر وعند سكون الوقف وجهان أصلا وهذا من ذلك ويجوز أن يمد على تقدير حذف الثانية لأن حرف المد موجود والهمزة منوية فهو حرف مد قبل همز مغير وإن قدر حذف الألف الأولى فلا مد وذلك نحو (صفراء)-(والسماء) ، والمد هو الأوجه وبه ورد النص عن حمزة من طريق خلف وغيره وهذا مبني على الوقف بالسكون فإن وقف بالروم كما سيأتي في آخر الباب فله حكم آخر وإن وقف على اتباع الرسم أسقط الهمزة فيقف على الألف التي قبلها فلا مد أصلا والله أعلم وأطول حال من المد على معنى زائدا طوله فهذه فائدة مجيئه على وزن أفعل والله أعلم
(240)
وَيُدْغِمُ فِيهِ الْوَاوَ وَالْيَاءَ مُبْدِلاَ إِذَا زِيدَتَا مِنْ قَبْلُ حَتَّى يُفَصَّلاَ
فيه أي في الهمز بعد إبداله يعني إذا وقع قبله واو أو ياء زائدتان فأبدله حرفا مثله ثم أدغم ذلك الحرف فيه كما تقدم لورش في (النسيء) وذلك نحو (خطيئة-و-قروء) ، وقوله حتى يفصلا أي حتى يفصل بين الزائد والأصل فإن الواو والياء الأصليتين ينقل إليهما الحركة لأن لهما أصلا في التحريك بخلاف الزائدة والزائد ما ليس بقاء الكلمة ولا عينها ولا لامها بل يقع ذلك وفي هذه الكلمات وقع بين العين واللام لأن النسيء فعيل والخطيئة فعيلة وقروء فعول والأصلي بخلافه نحو هيئة وشيء لأن وزنهما فعلة وفعل فهذا النوع تنقل إليه الحركة كما فعل في (موئلا-و-دفء) ، وبعضهم روى إجراء الأصلي مجرى الزائد في الإبدال والإدغام وسيأتي ذلك في قوله وما واو أصلي تسكن قبله أو الياء وهذا كان موضعه وإنما أخره لمعنى سنذكره ولو قال بعد هذا البيت ، (وإن كانتا أصلين أدغم بعضهم كشيء وسوء وهو بالنقل فضلا) ، لكان أظهر وأولى والله أعلم ، وفرغ الكلام في الهمزة المتحركة الساكن ما قبلها ثم شرع في ذكر المتحركة المتحرك ما قبلها فقال
(241)
وَيُسْمِعُ بَعْدَ الْكَسْرِ وَالضَّمِّ هَمْزُهُ لَدى فَتْحِهِ يَاءًا وَوَاوًا مُحَوَّلاَ
أي ويسمع حمزة همزة المفتوح بعد كسر ياء وبعد ضم واوا مبدلا من الهمزة فقوله محولا نعت للواو وحذف نعت ياء لدلالة الثاني عليه وأراد ياء محولا واوا محولا ولو كسر الواو من محولا لكان جائزا ويكون حالا من حمزة أي محولا للهمزة ياء وواوا ، وقوله همزة ثاني مفعولي يسمع والأول محذوف أي يسمع الناس همزه الموصوف إذا قرأه ياء وواوا أي يسمعهم إياه على هذه الصفة وبعضهم جعل يسمع متعديا إلى ثلاثة مفعوله الثالث قوله محولا ياء وواوا ، وهذا البيت فصيح النظم حيث لف الكلام فجمع بين الكسر والضم ثم رد إليهما قوله ياء وواوا فردت الفطنة الياء إلى الكسر والواو إلى الضم فهو من باب قوله تعالى (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) ، وقول امرئ القيس ، (كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والخشف البالي) ، واعلم أن قياس العربية في كل همزة متحركة متحرك ما قبلها إذا خففت أن تجعل بين بين إلا المفتوحة بعد كسر أو ضم فإنها تقلب ياء وواوا قالوا لأنها لو جعلت بين بين لقربت من ألف والألف لا يكون قبلها إلا فتح ومثال ذلك-فئة-ولئلا ومؤجلا-ويؤده-ونحو ذلك
(242)
وَفي غَيْرِ هذَا بَيْنَ بَيْنَ وَمِثْلُهُ يَقُولُ هِشَامٌ مَا تَطَرَّفَ مُسْهِلاَ
أي ويسمع همزه في غير ما تقدم ذكره بلفظ بين بين وهذا الغير الذي أشار إليه هو ما بقى من أقسام الهمز المتحرك بعد متحرك ومجموعهما تسعة لأن الحركات ثلاث كل واحدة قبلها ثلاث حركات فثلاثة في ثلاثة تسعة ، ذكر في البيت السابق منها قسمين مفتوحة بعد كسر مفتوحة بعد ضم وحكمهما الإبدال كما سبق فبقي لبين بين سبعة أقسام ، مفتوحة بعد مفتوح نحو-سأل-مآرب- ، مكسورة بعد فتح وكسر وضم نحو-بئس-وخاسئين وسئلوا ، مضمومة بعد فتح وكسر وضم نحو (رءوف-فمالئون-برءوسكم) ، وقد عرفت أن معنى قولهم بين بين أن تجعل الهمزة بين لفظها وبين لفظ الحرف الذي منه حركتها أي بين هذا وبين هذا ثم حذفت الواو والمضاف إليه منهما وبنيت الكلمتان على الفتح فهذه أصول مذهب حمزة في تخفيف الهمز على ما اقتضته لغة العرب ، ثم يذكر بعد ذلك فروعا على ما تقدم وقع فيها اختلاف ووجوها أخر من التخفيف غير ما سبق ذكره ، ثم قال ومثله أي ومثل مذهب حمزة مذهب هشام فيما تطرف من الهمز أي كل ما ذكرناه لحمزة في المتطرفة فمثله لهشام ولم يوافقه في المتوسطة لأن المتطرفة أحرى بالتخفيف لأنها آخر لفظ القارئ وموضع استراحته وانقطاع نفسه ويقع في النسخ ومثله بضم اللام ونصبها أجود لأنه نعت مصدر محذوف أي ويقول هشام في تسهيل ما تطرف من الهمز قولا مثل قول حمزة وما في قوله ما تطرف ظرفية كقوله (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، أي مهما تطرف الهمز فهشام موافق لحمزة في تخفيفه أو تكو ما مفعول يقول لأن يقول هنا بمعنى يقرأ أي يقرأ ما تطرف كقراءة حمزة له ومسهلا حال من هشام أي راكبا للسهل وأجاز الشيخ أن يكون حالا من الهاء في مثله العائدة على حمزة ثم ذكر الناظم فروعا للقواعد المتقدمة فقال
(243)
وَرِءْيَا عَلَى إِظْهَارِهِ وَإِدْغَامِهِ وَبَعْضٌ بِكَسْرِ الْها لِيَاءِ تَحَوَّلاَ
أي-ورءيا-مقروء أو مروي أو مستقر على إظهاره وإدغامه -أو-ورءيا-على إظهاره وإدغامه جماعة أي اختار قوم الإظهار وآخرون الإدغام يريد قوله تعالى في مريم (هم أحسن أثاثا ورءيا) ، وقد روي عن حمزة أنه استثناها فهمزها كما استثناها أبو عمرو فيما تقدم ذكره ثم قياس تخفيف همزها أن يبدل ياء لأنه ساكن بعد كسر فإذا فعل ذلك اجتمع ياءان فروى الإدغام لاجتماع ياءين وروى الإظهار نظرا إلى أصل الياء المدغمة وهو الهمز وكذلك الخلاف في-تؤوى-وتؤويه-لاجتماع واوين فكأن الناظم أراد ورءيا وما كان في معناه وكان يمكنه أن يقول ورءيا وتؤوى أظهرن أدغمن معا ، قال صاحب التيسير اختلف أصحابنا في إدغام الحرف المبدل من الهمز وفي إظهاره في قوله ورئيا وتؤوى وتؤويه فمنهم من يدغم إتباعا للخط ومنهم من يظهر لكون البدل عارضا والوجهان جائزان ثم ذكر أن بعضهم يكسر هاء الضمير المضمومة لأجل ياء قبلها تحولت تلك الياء عن همزة ويكون الضمير في تحولا للياء وذكر ضميره لأن حروف الهجاء كما ذكرنا فيها وجهان التذكير والتأنيث ويجوز أن يكون فاعل تحولا ضمير الهمز أي تحول الهمز إلى تلك الياء ثم مثل ذلك فقال
(244)
كَقَوْلِكَ أَنْبِئْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ وَقَدْ رَوَوْا أَنَّهُ بِالخَطِّ كانَ مُسَهَّلاَ
يعني (أنبئهم) في البقرة (ونبئهم)في الحجر والقمر ، قال صاحب التيسير اختلف أهل الأداء في تغيير حركة الهاء مع إبدال الهمز ياء قبلها في قوله أنبئهم ونبئهم فكان بعضهم يرى كسرها من أجل الياء وكان آخرون يبقونها على ضمتها لأن الياء عارضة قال وهما صحيحان يعني الوجهين ووجه قلب الهمزة في هاتين الكلمتين ياء أنها ساكنة بعد كسر فهو قياس تخفيفها فوجه كسر الهاء وجود الياء قبلها فصار نحو فيهم ويهديهم وهو اختيار ابن مجاهد وأبي الطيب بن غلبون وقال ابنه أبو الحسن كلا الوجهين حسن قال ابن مهران سمعت أبا بكر بن مقسم يقول ذهب ابن مجاهد إلى أبي أيوب الضبي فقال له كيف يقف حمزة على قوله تعالى (يا آدم أنبئهم) ، فقال أنبيهم خفف الهمزة وضم الهاء فقال له ابن مجاهد أخطأت وذكر تمام الحكاية ، ووجه ضم الهاء أن الياء عارضة لأن الهمزة لم تترك أصلا وإنما خففت وهي مرادة وهو اختيار مكي وابن مهران وهو الأشبه بمذهب حمزة ألا تراه ضم هاء-عليهم -وإليهم-و-لديهم-لأن الياء قبلها مبدلة من ألف وهاتان المسألتان (رءيا-وأنبئهم) ، فرعان لقوله فأبدله عنه حرف مد مسكنا ثم ذكر قاعدة أخرى مستقلة فقال وقد رووا أنه بالخط كان مسهلا أي أن حمزة كان يعتبر تسهيل الهمز بخط المصحف الكريم على ما كتب في زمن الصحابة رضي الله عنهم وذلك يعرف من مصنفات موضوعة له ، روى سليم عن حمزة أنه كان يتبع في الوقف على الهمز خط المصحف الكريم ، قال صاحب التيسير واعلم أن جميع ما يسهله حمزة فإنما يراعى فيه خط المصحف الكريم دون القياس ، قلت وضابط ذلك أن ينظر في القواعد المتقدم ذكرها فكل موضع أمكن إجراؤها فيه من غير مخالفة للرسم لم يتعد إلى غيره نحو جعل (بارئكم) ، بين الهمزة والياء وإبدال همز-أبرئ ياء وهمز-ملجأ-ألفا وإن لزم فيها مخالفة الرسم فسهل على موافقة الرسم فاجعل(تفتؤا) ، بين الهمزة والواو (من نبأ) ، بين الهمزة والياء ولا تبدلهما ألفا وكان القياس على ما مضى
ذلك لأنهما يسكنان للوقف وقبلهما فتح فيبدلان ألفا وهذا الوجه يأتي تحقيقه في قوله فالبعض بالروم سهلا ومثله في المتوسطة (أنبئكم) ، تجعل من بين الهمزة والياء أو تبدل ياء على خلاف يأتي وحكى ابن مهران خلافا في نحو (تائبات-سائحات) ، بين بين وإبدال الياء المحضة وكذا في نحو (رؤوف-تؤزهم) ، بين بين وإبدال الواو المحضة اتباعا للرسم ، قال غيره وقد تأتي مواضع يتعذر فيها اتباع الرسم فيرجع فيها إلى الأصول المتقدمة وما روي عن حمزة رحمه الله تعالى يحمل على ما يسوغ فيه ذلك والله أعلم
(245)
فَفِي الْيَا يَلِي والْوَاوِ وَالحَذْفِ رَسْمَهُ وَالاَخْفَشُ بَعْدَ الْكَسْرِ والضَّمِّ أَبْدَلاَ
بين بهذا مذهبه في اتباع الخط عند التسهيل ومعنى بلى يتبع ورسمه مفعول به أي يتبع رسم الخط في الياء والواو والحذف أي أن الهمز تارة تكتب صورته ياء وتارة واوا وتارة يحذف أي لا تكتب له صورة ، وإنما ذكر هذه الأقسام الثلاثة ولم يذكر الألف وإن كانت الهمزة تصور بها كثيرا لأن تخفيف كل همزة صورت ألفا على القواعد المتقدمة لا يلزم منه مخالفة الرسم لأنها إما أن تجعل بين بين نحو (سأل) ، أي بين الهمزة والألف أو تبدل ألفا في نحو (ملجأ) ، فهو موافق للرسم وإنما تجيء المخالفة في رسمها بالياء والواو وفي عدم رسمها وقد بينا المخالفة في الياء والواو في كلمتي (تفتؤا-ومن نبأ) ، وقد رسم الهمز في كلمة واحدة رسمين مرة ألفا ومرة واوا نحو (الملأ) ، رسم بالألف إلا في أربعة مواضع ثلاثة في النمل وواحد في أول المؤمنون فسهل في كل موضع باعتبار رسمه وأما الحذف ففي كل همزة بعدها واو جمع نحو (فمالئون-يطئون-مستهزءون) ، فكل هذا لو خفف همزه باعتبار ما تقدم من القواعد لجعل الجميع بين بين باعتبار حركته في نفسه فإذا أريد تخفيفه باعتبار خط المصحف حذف الهمز حذفا حتى أنهم نصوا أنه يقول في-الموءودة المودة بوزن الموزة وفي نحو(برءاء) ، كتبت الأولى بالواو والثانية بالألف فلزم من اتباع الرسم أن تبدل الأولى واوا مفتوحة إذ لم يمكن تسهيلها بين الهمزة والواو لأن الهمزة مفتوحة وإنما تسهل على قياس ما تقدم بين الهمزة والألف والثانية تبدل ألفا على القاعدتين معا وهما اتباع الرسم والقياس لأنها سكنت للوقف وقبلها فتحة فأبدلت ألفا واتفق أن كان الرسم كذلك فلا وجه غيره وعلى اتباع الخط تكون الهمزة في (تراءى الجمعان)وفي(رءا القمر) ، متطرفة فلها حكم المتطرفة لأنه لم يرسم بعد الهمز فيهما شيء بل كتبا على لفظ الوصل ، ثم بين الناظم رحمه الله تعالى مذهب الأخفش النحوي وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة وهو الذي يأتي ذكره في سورة الأنعام وغير الذي ذكره في
سورة النحل ، ووجه اتصاله بما تقدم من وجهين ، أحدهما أنه ذكره استئناسا لمذهب حمزة في إبدال الهمزة المتحرك المتحرك ما قبله حرف مد إتباعا للخط حيث يلزم من تسهيله على القياس المقدم مخالفة الرسم فذكر أن من أئمة العربية الأكابر من رأى بعض ذلك في هذا الموضع بشرطه ، وقد ذكره صاحب التيسير فقال نحو (أنبئكم)-(وسنقرئك) ، يبدلها ياء مضمومة اتباعا لمذهب حمزة في اتباع الخط عند الوقف على الهمز وهو قول الأخفش أعني التسهيل في ذلك بالبدل ، الوجه الثاني أن يكون في المعنى متصلا بقوله وفي غير هذا بين بين كأنه قال إلا في موضعين فإن الأخفش أبدل فيهما فتصير مواضع الإبدال على قوله أربعة من تسعة هذا نوعان ونوعان وافق فيهما سيبويه وهما المذكوران في قوله ويسمع بعد الكسر والضم وقوله ذا الضم مفعول أبدلا أي أبدل الهمز المضموم بعد الكسر بياء وتمم بيان مذهب الأخفش فقال
(246)
بِيَاءِ وَعَنْهُ الْوَاوُ في عَكْسِهِ وَمَنْ حَكَى فِيهِمَا كَالْيَا وَكَالْوَاوِ أَعْضَلاَ
أي وعن الأخفش إبدال الواو في عكس ذلك وهو أن تكون الهمزة مكسورة بعد ضم نحو-سئل-والأول نحو (تنبئهم بما) ، فأبدل المضمومة ياء والمكسورة واوا أبدلهما حرفين من جنس حركة ما قبلها فتارة يوافق مذهبه الرسم في نحو (تنبئهم) ، ومذهب سيبويه ما تقدم وهو جعل كل واحدة منها بين بين قال من قرر مذهب الأخفش لو جعلت هنا بين بين لقربت من الساكن فيؤدي إلى واو ساكنة قبلها كسرة وياء ساكنة قبلها ضمة ولا مثل لذلك في العربية كما أن المفتوحة بعد كسر أبدلت ياء وبعد ضم واوا كذلك ، وأجيب بأنه يلزمه أيضا في مذهبه أن تكون ياء مضمومة بعد كسرة وواو مكسورة بعد ضمة وذلك مطرح الاستعمال حقيقة وما اختاره سيبويه يشبه ما اطرح استعماله فما ذكره أفظع وأما إلزامه المفتوحة فلأن إبدالها لا يؤدي إلى ما اطرح استعماله بخلاف ما ذكره ، ثم قال ومن حكى فيهما أي في المضمومة بعد كسر والمكسورة بعد ضم أن تجعل المضمومة كالياء والمكسورة كالواو أي تسهل كل واحدة منها بينها وبين حرف من جنس حركة ما قبلها لا من جنس حركتها ليسلم من الاعتراضين الواردين على مذهب سيبويه والأخفش فمن حكى ذلك أعضل قال الشيخ أي أتى بعضلة وهي الأمر الشاق لأنه جعل همزة بين بين مخففة بينها وبين الحرف الذي منه حركة ما قبلها ، قلت وهذا الوجه مذكور في كتاب الكشف لأبي محمد مكي بن أبي طالب وغيره عن الأخفش ويقوى في مواضع توافق خط المصحف الكريم كالوقف على (لؤلؤ) ، المخفوض بروم الحركة لأنه يجعلها بين الهمزة والواو وذلك موافق للخط وعلى رأي سيبويه تصير بين الهمزة والياء فتخالف الخط فيوقفه بلا روم ليجد قبلها واوا فيوافق الرسم نص عليه مكي وقد تقدم مثل هذين الوجهين المحكيين عن الأخفش في مذهب الفراء في نحو (يشاء إلى) ، أكثرهم أبدل الثانية واوا وبعضهم جعلها بين الهمزة المكسورة والواو وقد غلط بعض الجهال لسوء فهمه فظن أن من سهل الهمزة بينها وبين الحرف الذي من جنس حركة ما قبلها قدر
أن الحركة تكون على الهمزة من جنس حركة الحرف قبلها ففي (تنبئهم)-(ويستهزءون) ، تسهل بين الهمزة المكسورة والياء الساكنة وفي نحو (سئل-و-يشاء إلى) ، تسهل بين الهمزة المضمومة والواو الساكنة وهذا جهل مفرط وغلط بين ولولا أني سمعته من قائله لما صدقت أن أحدا يقوله فإن الهمزة محركة والحاجة داعية إلى تسهيلها وذلك ممكن مع بقائها على حركتها فأي حاجة إلى تغير حركتها ونختل في وزنها ولفظها وإنما لما احتيج إلى الحرف الذي يسهل إليه قال أهل المذهب الصحيح يكون الحرف من جنس حركتها فهو أقرب إليها وقال قوم يجعل الحرف من جنس حركة ما قبلها كما لو كانت الهمزة ساكنة والفرق أن الساكنة لما لم تكن لها حركة اضطررنا إلى إبدالها حرفا من جنس حركة ما قبلها إذ لم يكن اعتبارها بنفسها وفيما ذكرناه لها حركة فاعتبارها بها أولى وهذا واضح لمن تأمله والله أعلم ، ويقال قد أعضل الأمر أي اشتد وغلظ واستغلق وأمر معضل لا يهتدي لوجهه والله أعلم
(247)
وَمْسْتَهْزِءُونَ الْحَذْفُ فِيهِ وَنَحْوِهِ وَضَمٌّ وَكَسْرٌ قِبْلُ قِيلَ وَأُخْمِلاً
هذا مفرع على القول بالوقف على مرسوم الخط فتحذف الهمزة منه لأنها لم تكتب لها في صورة وكذلك فيما أشبهه فيما فيه همزة مضمومة بعد كسر وبعدها واو ساكنة نحو (فمالئون)-(ليطفئوا)-(ويستنبئونك)-(ومتكئون) ، وهذا قد عرف مما تقدم وإنما عرضه بهذا البيت بيان الحركة لما قبل الواو بعد حذف الهمز وهذه مسألة ليست في التيسير ، وقال الشيخ في شرحه منهم من وقف (مستهزون -ومتكون) ، فضم ما قبل الواو ومنهم من كسر ما قبلها ولم يمد ثم قال وأخملا يعني المذهبين المذكورين وإنما أخملا لأن حركة الهمزة ألقيت على متحرك ، وفي الوجه الآخر واو ساكنة قبلها كسرة وليس ذلك في العربية ، قلت هذا الذي ذكره الشيخ فيه نظر وإن كان قد تبعه فيه جميع من رأيت له كلاما على شرح هذا البيت سوى الشيخ أبي عمرو رحمهما الله تعالى ، والصواب أن يقال ضم ما قبل الواو وجه جيد وليس نقلا لحركة الهمزة إليه وإنما بنى الكلمة على فعلها ، قال الفراء من العرب من يبدل الهمز يعني في الفعل فيقول استهزيت مثل استقضيت فمن وقف على (مستهزون) ، فعلى ذلك مثل مستقضون وقد ذكر الشيخ ذلك في شرحه وقال ابن مهران حكى عن الكسائي أنه قال من وقف بغير همز قال (مستهزون) ، فرفع الزاي ومثله متكون وليطفوا وأشباه ذلك قال وقال الزجاج أما ، (مستهزون) ، فعلى لغة من يبدل من الهمز ياء في الأصل فيقول في استهزئ استهزيت فيجب على استهزيت يستهزون ، قلت وقد قرئ ، (لا يأكله إلا الخاطون) ، بضم الطاء وترك الهمز رويت عن نافع كما قرأ (والصابون) ، فلا وجه لإخمال هذا الوجه أما كسر ما قبل الواو الساكنة فحقيق بالإخمال لأنه لا يوجد في العربية نظيره وهو الذي أراده الناظم رحمه الله تعالى إن شاء الله ، وتقدير البيت الحذف فيه وضم يعني في الحرف الذي قبل الهمز لأنه صار قبل الواو الساكنة فضم كما في قاضون ونحو ثم قال وكسر قبل قيل يعني قيل بالكسر قبل الواو وأخمل هذا القول لأنه على خلاف اللغة العربية
ولو أراد الناظم المعنى الأول لقال قيلا بالألف والوزن مؤات له على ذلك فلما عدل عنه إلى قيل دل على أنه ما أراد إلا وجها واحدا فيصرف إلى ما قام الدليل على ضعفه وهو الكسر ولا معنى لصرفه إلى الضم مع كونه سائغا في اللغة والألف في أخملا للإطلاق لا للتثنية والخامل الساقط الذي لا نباهة له وقد خمل يخمل خمولا وأخملته أنا والله أعلم
(248)
وَمَا فِيهِ يُلْقى وَاسِطاً بِزَوَائِدٍ دَخَلْنَ عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهَانِ أُعْمِلاَ
أي واللفظ الذي فيه يوجد الهمز متوسطا بسبب حروف زوائد دخلن عليه واتصلن به خطا أو لفظا ولم يأته التوسط من انتظام حروف الكلمة فيه وجهان أعملا أي استعملا مأخذ الوجهين أنه هل يعطي ذلك الهمز حكم المتوسط فيسهل تسهيل مثله على ما سبق تفصيله أو حكم المبتدأ فيحقق وأصل ذلك الاعتداد بالزائد العارض وعدم الاعتداد به ، قال في التيسير والمذهبان جيدان وبهما ورد نص الرواة ، قلت ولا ينبغي أن يكون الوجهان إلا تفريعا على قول من لا يرى تخفيف الهمز المبتدإ لحمزة في الوقف خلف أما من يرى ذلك فتسهيله لهذا أولى لأنه متوسط صورة وقد سبق التنبيه عليه وقوله يلفي أي يوجد ومنه قوله تعالى (ما ألفينا عليه آباءنا) ، أي ما وجدنا كما قال تعالى ذلك في سورة لقمان ، وقوله واسطاً هو اسم فاعل من وسطت القوم وقد سبق ذكره ثم مثل ذلك فقال
(249)
كَمَا هَاوَيَا وَالَّلامِ وَالْبَا وَنَحْوِهَا وَلاَمَاتِ تَعْرِيفٍ لِمَنْ قَدْ تَأَمَّلاَ
ما في قوله كما زائدة أي الزائد مثل لفظ هاويا أماها ففي نحو (هأنتم هؤلاء) ، لأن الكلمة التي للإشارة إلى الجماعة أولاء دخل عليها حرف التنبيه وهو هاويا حرف النداء نحو (ياءيها-يا ءدم-يا ءولي)-(يا ءخت هارون) ، وإنما عد الهمز في هذين الموضعين متوسطا وإن كان الزائد الداخل عليه كلمة مستقلة بنفسها من جهة الاتصال خطا لأن ألف ها و يا محذوفة في رسم المصحف الكريم واتصلت الهاء والياء بالهمزة بعدهما والألف المتصلة بالياء في نحو (يأيها) ، هي صورة الهمزة وليست ألف يا والدليل على ذلك أنه إذا لم تكن بعد يا همزة لم يكتبوا ألفا أصلا نحو (يقوم)-(وينوح) واللام نحو (لأنتم أشد-ولأبويه) والباء مثل (بأنهم) ، ونحو هذه الزوائد (فأمنوا-وأمر-كأنهم-ءأنذرتهم-أفأنت-فبأي-لبإمام-سأريكم) ونحو ذلك ، ولامات التعريف نحو (الآخرة-والأرض) ، فالهمز في كل ذلك متوسط باعتبار أن ما دخل عليه متصل به خطا أو لفظا لا يمكن انفصاله منه والزائد ما أمكن فصله من الكلمة ولا تختل بنيتها فحروف المضارعة لا تعطي حكم الزوائد والهمز بعدها متوسط بلا خلاف نحو (يؤمن-يأكل) وكذا (وأمر-فأووا-وألحق به بعضهم-يا صالح ائتنا)-(وإلى الهدى ائتنا) ، والاختيار التحقيق لتأتي الوقف على ما قبل الهمزة فإن وقف بتخفيف (الهدى ائتنا) لم يمل الألف لأنها بدل الهمزة وليست ألف الهدى وهو اختيار أبي عمرو الداني وقيل بل هي ألف الهدى وحذفت المبدلة من الهمزة ويحتمل أن ترجع ألف الهدى ويجمع بين الألفين بزيادة المد فعلى هذا تسوغ الإمالة في ألف الهدى لمن مذهبه الإمالة وقد سبق ذكر الوجهين والله أعلم ، وقوله تعالى (هاؤم) ، في الحاقة ليس لها حكم هأنتم لأن همزة هاؤم متوسطة لأنها من تتمة كلمة ها بمعنى خذ ثم اتصل بها ضمير الجماعة المتصل وها أنتم الهاء فيه للتنبيه دخل على أنتم وتسهل همزة هاؤم بلا خلاف بين بين ويوقف هاؤم ومنع مكي من الوقف عليها ظنا منه أن الأصل هاؤموا بواو وإنما
كتبت على لفظ الوصل فحذفت فقال لا يحسن الوقف عليها لأنك إن وقفت على الأصل بالواو خالفت الخط وإن وقفت بغير وخالفت الأصل وذكر الشيخ معنى ذلك وشرحه وهو سهو فإن الميم في هاؤم مثل الميم في أنتم الأصل فيها الصلة بالواو على ما سبق في بيان قراءة ابن كثير ورسم المصحف الكريم في جميع هذا الباب بحذف الواو فيما ليس بعده ساكن فما الظن بما بعده ساكن فالوقف على الميم لجميع القراء وإذا كان ابن كثير الذي يصل ميم الجمع بواو في الوصل لا يقف بالواو على الأصل فما الظن بغيره فإن قلت هلا جرى الوجهان في نحو (دعاؤكم-و-هاؤم) ، لأن الهمز فيها متوسط بزائد دخل عليه بعده كما لو كان الزائد قبله قلت لأن الهمز هنا دائر بين أن يكون متوسطا أو متطرفا وأياما كان فحمزة يسهله بخلاف ما إذا كان الزائد متقدما فإن الهمز يصير مبتدأ والمبتدأ فيه الخلاف كما سبق ولم تكن له حاجة إلى ذكر لام التعريف لأنه قد فهم له الخلاف فيه مما سبق في مذهب ورش ولكنه أراد إعلام أنه من هذا النوع والنقل فيه أولى من غيره والله أعلم
(250)
وَاشْمِمْ وَرُمُ فِيمَا سِوى مُتَبَدِّلٍ بِهَا حَرْفَ مَدٍّ وَاعْرِفِ الْبَابَ مَحْفِلاً
هذا عطف على كلام مقدر دل عليه ما تقدم أي افعل ما ذكرت لك من تخفيف الهمزة وأشمم ورم في مواضع ذلك بشرطه أي أن تخفيف الهمز المتطرف ليس بمانع من جريان الروم والإشمام فقطع بهذا الكلام وهم من توهم ذلك والروم والإشمام من خصائص الأطراف يجريان في المضموم دون المفتوح عند القراء ويجري الروم وحده في المكسور فمعنى البيت أنهما جائزان في كل ما تقدم بشروطهما إلا في موضع يبدل طرفه بالهمزة حرف مد أي ألفا أو واوا أو ياء سواكن وقبلهن حركات من جنسهن أو ألف فلا روم ولا إشمام حينئذ لأن هذه حروف سواكن لا أصل لهن هنا في الحركة فصرن مثلهن في يخشى ويدعوا ويرمي وذلك نحو-الملأ-ولؤلؤ-والباريء-ويشأ-وضابطه كل همز طرف قبله متحرك أو ألف وقد سبق ذكر النوعين في قوله فأبدله عنه حرف مد مسكنا ويبدله مهما تطرف مثله فأما ما قبله ساكن غير الألف فيصح رومه وإشمامه وهو نوعان أحدهما ما ألقي فيه حركة الهمز على الساكن نحو دفء والثاني ما أبدل فيه الهمز حرفا وأدغم فيه ما قبله نحو (قروء-وشيء) ، فكل واحد من هذين النوعين قد أعطي حركة فترام تلك الحركة ، أما ما ألقى عليه حركة الهمز فظاهر وأما نحو-قروء-فقد أدغم في الحرف المبدل من الهمز ما قبله ولا يدغم إلا في متحرك وضابطه كل همز طرف قبله ساكن غير الألف وهذا معنى قول صاحب التيسير والروم والإشمام جائزان في الحرف المتحرك بحركة الهمزة وفي المبدل منها غير الألف ، ومحفل القوم مجتمعهم أي هذا الباب موضع اجتماع أنواع تخفيف الهمز فاعرفه ونصبه على الحال
(251)
وَمَا وَاوٌ أَصْلِيٌّ تَسَكَّنَ قَبْلَهُ أوِ الْيَا فَعَنْ بَعْضٍ بِالإِدْغَامِ حُمِّلاَ
أي والهمز الذي تسكن قبله واو أصلي يعني إذا وقعت واو أصلية ليست بزائدة وهي ساكنة قبل الهمز نحو (سوء-والسوأى) أو ياء كذلك نحو (شيء)-(واستيأس) ، فقد ذكر أن مثل هذا تنقل إليه الحركة وتقدم أنهما لو كانا زائدين أبدل الهمز مثلهما وأدغما فيه فروى بعضهم عنه إجراء الأصلي مجرى الزائد في الإبدال والإدغام وحكى جواز ذلك عن العرب يونس وسيبويه وكان الأحسن أن يذكر هذا البيت عقيب قوله ويدغم فيه الواو والياء مبدلا إذا زيدتا البيت ويقول عقيبه وإن ولو أصلى بلفظ حرف إن الشرطية فهي أحسن هنا من لفظ ما وأقوم بالمعنى المراد ولو فعل ذلك لاتصل الكلام في الإدغام واتصل هنا كلامه في الروم والإشمام فإن هذا البيت الآتي متعلق بقوله وأشمم ورم على ما سنبينه فوقع هذا البيت فاصلا في غير موضعه من وجهين وبعضهم صوب ما فعله الناظم وقال قصد أولا أن يلخص من أحكام التسهيل حكما واحدا اشتهر ثم يذكر بعد ذلك أحكاما أخر كما فعل في (مستهزؤن) وغيره والله أعلم
(252)
وَمَا قَبْلَهُ التَحْرِيكُ أَوْ أَلِفٌ مُحَرَّكاً طَرَفاً فَالْبَعْضُ بالرَّوْمِ سَهَّلاَ
المذكور في هذا البيت هو ما امتنع رومه وإشمامه لأجل البدل على ما تقدم بيانه حكى فيه وجه آخر عن حمزة أنه كان يجعل الهمز في ذلك بين بين كأنه لما كان البدل يفضي إلى تعطيل جريان الروم المختار لجميع القراء على ما سيأتي في بابه لم يبدل وخفف الهمز بالتسهيل كما لو كان الهمز متوسطا إلا أن الوقف لا يكون على متحرك بل على ساكن أو مروم فالوقف بالسكون لا تسهيل معه إلا بالبدل والوقف بالروم يتأتى التسهيل معه بلفظ بين بين فنزل النطق ببعض الحركة وهو الروم منزلة النطق بجميعها وكل ذلك حركة الهمزة فسهلها بين بين فهذا معنى قوله بالروم سهلا أي في حال الروم أي وقع التسهيل بحالة الروم ، وخفي هذا المعنى على قوم فقالوا لا معنى لبين بين إلا روم الحركة فعبر عن الروم بكونه يجعلها بين بين وهذا التأويل ليس بشيء فإن النطق بالروم غير النطق بالتسهيل برهانه أن الروم عبارة عن النطق ببعض حركة الحرف فلا يلزم من ذلك تغيير ذلك الحرف كما إذا رام الدال من زيد والتسهيل بين بين بغير لفظ النطق بالهمزة والروم نطق ببعض حركة الهمزة أو حركة ما جعل بدلا عنها وهو كونها بين بين وهذا أوضح ولله الحمد ، فحاصل ما في هذا البيت أن ما دخل في الضابط الذي ذكره وسنبينه فلحمزة فيه وجهان ، أحدهما أن يقف بالسكون فيلزم إبدال الهمز حرف مد فلا روم إذا ولا إشمام كما سبق ذكره وهذا الذي تقدم استثناؤه له ، والثاني أنه يروم حركة الهمزة ويجعلها بين بين ثم إذ قلنا بهذا الوجه فهل يجري في المفتوح جريانه في المضموم والمكسور أو لا يجري فيه إذ لا روم فيه عند القراء فيه اختلاف ، وقد ذكر هذا الوجه مكي في الكشف وجعله المختار فيما يؤدي فيه الوقف بالسكون إلى مخالفة الخط نحو (تفتأ) ، واختار الوقف بالسكون فيما يوافق الخط نحو (يبديء) ، وقوله محركا طرفا حالان من الهمز المعبر عنه بما في قوله وما قبله التحريك أو ألف أي والهمز المحرك الذي هو طرف إذا وقع قبله تحريك
نحو (قال الملأ) أو ألف نحو (يشاء) ، فالبعض وقف بالروم وسهل ويجوز أن يكون طرفا حالا من الضمير المستكن في محركا ويجوز أن يكون محركا حالا من مفعول سهل المحذوف تقديره فالبعض بالروم سهلة محركا طرفا وفيه ضعف لتقدمه على فاء الجزاء ولا يستقيم أن يكون طرفا تمييزا على معنى محركا طرفه لأن المراد بالمحرك هو الطرف وهو الهمز ولو كان المراد بالمحرك اللفظ لاستقام ذلك لكن لا يمكن أن يكون المراد به اللفظ لقوله وما قبله التحريك أو ألف لأن المراد أن الحركة أو الألف قبل الهمزة لا قبل اللفظ ولا يكون في هذا النوع إشمام لأن حالة الروم لا حاجة إلى الإشمام وأن يبدل الهمز حرف مد فلا إشمام أيضا ولا روم على ما سبق فلو كان هذا البيت جاء عقيب قوله وأشمم ورم لكان أوضح للمقصود وأبين ، وقلت أنا بيتين قربا معنى بيتيه على ما شرحناهما به ، (وأشمم ورم في كل ما قبل ساكن سوى ألف وامنعهما المد مبدلا) ، أي في كل همزة قبلها ساكن غير الألف وهما نوعان النقل والإدغام كما سبق أو يقول ، (وأشمم ورم تحريك نقل ومدغم كشيء دف وامنعهما المد مبدلا) ، أي وامنع المد أي في حرف المد المبدل من الهمز من الروم والإشمام ، ثم بين ذلك الذي يمنعه منهما فقال ، (وذلك فيما قبله ألف أو الذي حركوا والبعض بالروم سهلا) ، فانضبط في هذين البيتين على التفصيل كل ما يدخله الروم والإشمام وما يدخلانه والله أعلم
(253)
وَمَنْ لَمْ يَرُمْ وَاعَتدَّ مَحْضاً سُكُونَهُ وَألْحقَ مَفْتُوحاً فَقَدْ شَذَّ مُوغِلاَ
أي ومن الناس من لم يرم لحمزة في شيء من هذا الباب أي ترك الروم في الموضع الذي ذكرنا أن الروم يدخله وهو كل ما قبله ساكن غير الألف فنفى الروم فيه وألحق المضموم والمكسور بالمفتوح في أن لا روم فيه فلم يرم ، (لكم فيها دفء)-كما لم يرم-(يخرج الخبء) ، فقال الناظم هذا قد شذ مذهبه موغلا في الشذوذ لأنه قد استقر واشتهر أن مذهب حمزة الروم في الوقف إلا فيما ثبت استثناؤه ويجوز أن يكون هذا القائل بنى مذهبه في ترك الروم على أن حمزة وقف على الرسم فاسقط الهمزة إذ لا صورة لها في نحو (سوء-وشيء-ودفء-وقروء) ، فما قبل الهمز في ذلك كله حرف ساكن لا حظ له في الحركة فلا روم وهذا مأخذ حسن والله الحمد ، ويجوز أن يكون نظر إلى أن حركة النقل والمدغم من جنس الحركة العارضة وتلك لا يدخلها روم ولا إشمام فقاس هذه عليها ، ويقال في نظم هذا ، (ومن لم يرمه أو يشم وقاسه بعارض شكل كان في الرأي محملا) ، ولو أتى بهذا البيت بعد قوله وأشمم ورم كان أحسن لأنه متعلق به وليس هو من توابع قوله فالبعض بالروم سهلا والهاء في سكونه عائدة على من في قوله ومن لم يرم أو على الحرف الذي لا يرام لأن سياق الكلام دال عليه ولا تعود على صاحب القراءة لأنهما اثنان حمزة وهشام إلا أن يريد حمزة وحده أو القارئ من حيث هو قارئ ويقطع النظر عن تعدده ، فإن قلت لم لم تعد على ما في قوله وما قبله التحريك والتقدير فالبعض سهله بالروم ومن لم يرمه واعتد محضا سكونه فقد شذ ويكون هذا البيت من تبع البيت الذي قبله لا من أتباع قوله وأشمم ورم أي ومن لم يرم في هذا المتحرك الطرف الذي قبله متحرك أو ألف ولم ير الوقوف عليه إلا بالسكون فقد شذ ، قلت يمنع من ذلك أنه قد منع الروم والإشمام في موضع يبدل فيه الهمز حرف مد والموضع الذي يبدل فيه الهمز حرف مد هو المحرك الطرف الذي قبله محرك أو ألف فإذا كان هذا مختارا فيه ترك الروم كيف يعود يقول ومن لم يرم فقد شذ وإنما أشار بهذا إلى
الموضع الذي نص على جواز رومه ، فإن قلت إن كان هذا هو المراد فهل لا قال ومن لم يرم ولم يشم ولم اقتصر على ذكر الروم دون الإشمام قلت يجوز أن يكون هذا الفريق الذي نفى الروم جوز الإشمام ولم ينفه لأنه إشارة بالعضو لا نطق معه فهو أخف من الروم والباب باب تخفيف فناسب ذلك ذلك ويجوز أن يكون أيضا نفى الإشمام واقتصر الناظم على ذكر الروم اجتزاء به عن الإشمام لأن الكلام فيه من القوة والوضوح ما يدل على ذلك فهو من باب قوله تعالى (سرابيل تقيكم الحر) ، ولم يقل تعالى والبرد لأنه معلوم والله أعلم ، على أن من الناس من جعل هذا البيت متعلقا بما قبله وقال من الناس من أنكر الروم في هذا النوع فتعذر التسهيل وأخذ في ذلك بالبدل لا غير فهذا قد أتى بقول شاذ لكونه أنكر هذا الوجه وهو مروي عن حمزة قال ومنهم من أجرى التسهيل بالروم بالمفتوح أيضا وهذا أتى أيضا بقول شاذ مخالف لما عليه اختيار القراء فأشار الناظم في هذا البيت إلى إبطال هذين القولين أي ومن لم يأخذ بالتسهيل في ذلك وأخذ به في الحركات كلها فقد شذ وإنما ينبغي الأخذ به في المضموم والمكسور لأنهما محل الروم عند القراء ، وقوله محضا أي ليس فيه للتحريك شائبة ما لأن الروم بخلاف ذلك وهو منصوب على أنه مفعول ثان لقوله اعتد لأنه بمعنى حسب وظن واعتقد ونحو ذلك ومفتوحا ثاني مفعولي ألحق على حذف حرف الجر والمفعول الأول محذوف أي ألحق مضموم هذا البيت ومكسوره بالمفتوح الذي أجمعوا على ترك رومه والإيغال السير السريع والإمعان فيه
(254)
وَفِي الْهَمْزِ أَنْحَاءٌ وَعِنْدَ نُحَاتِهِ يُضِيءُ سَنَاهُ كُلَّمَا اسْوَدَّ أَلْيَلاَ
أي وروى في تخفيف الهمز وجوه كثيرة وطرائق متعددة اشتمل عليها كتب القراآت الكبار والانحاء المقاصد والطرائق واحدها نحو وهو القصد والطريقة وقد ذكر الناظم رحمه الله تعالى من تلك الطرائق أشهرها وأقواها لغة ونقلا وذكر شيئا من الأوجه الضعيفة ونبه على كثرة ذلك في كتب غيره والهاء في نحاته وسناه للهمز أي يضيء ضوءه عند النحاة لمعرفتهم به وقيامهم بشرحه كلما أسود عند غيرهم لأن الشيء الذي يجهل كالمظلم عند جاهله والنحويون هم المتصدون لكشف ما أشكل من هذا ونحوه مما يتعلق باللسان العربي ، هذا إن كان كلما مفعولا ليضيء وتكون ما نكرة موصوفة أي كل شيء أسود ويجوز أن يكون ظرفا لازما لأن ما يجوز أن تكون ظرفية ولفظ كل إذا أضيف إلى الظرف صار ظرفا كقوله تعالى (كل يوم هو في شأن) ، فمعناه على هذا كلما أسود الهمز عند غير النحاة أضاء عندهم سناه أي كثر ضوؤه فيكون يضيء بلا مفعول لأن أضاء يستعمل لازما ومتعديا ، قال الله تعالى (كلما أضاء لهم مشوا فيه) ، وقال فلما أضاءت ما حوله فعبر الناظم بالإضاءة عن وضوحه عند العلماء به وبالسواد عن إشكاله عند الجاهلين له وأليلا حال أي مشبها ليلا أليل في شدة سواده يقال ليل أليل ولائل أي شديد الظلمة كقولهم شعر شاعر للتأكيد والمبالغة والله تعالى أعلم
باب الإظهار و الإدغام
(255)
سأَذْكُرُ أَلْفَاظًا تَلِيهَا حُرُوفُهَا بالإظْهَارِ وَالإدْغَامِ تُرْوىَ وَتُجْتَلاَ
أراد بالألفاظ كلمات تدغم أواخرها السواكن وهي لفظ إذ وقد وبل وهل ونفس تاء التأنيث وقوله تليها حروفها أي يتبع كل لفظ منها ذكر الحروف التي تدغم أواخر هذه الألفاظ فيها وتظهر على اختلاف القراء في ذلك وإنما يذكر تلك الحروف في أوائل كلمات على حد ما مضى في شفا لم تضق وللدال كلم ترب سهل ونحو ذلك والله أعلم
(256)
فَدُونَكَ إِذْ فِي بَيْتهَا وَحُرُوفُهَا وَمَا بَعْدُ بالتَقْييدِ قُدْهُ مُذَلَّلاَ
إذ منصوب المحل على الإغراء كقوله ودونك الإدغام أي خذ من تلك الألفاظ كلمة إذ فهي السابقة في الذكر في بيتها أي تفرد لذكرها بيت مستقل تذكر فيه هي والحروف التي تدغم الذال منها فيها فقوله وحروفها بالنصب عطف على إذ وما بعد معطوف أيضا أي وخذ ما أذكره بعد ذلك وسنبينه في البيت الآتي ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره أي وما يأتي بعد ذلك قده مذللا أي خذه سهلا بسبب التقييد الذي أبينه به أي لا أدع فيه إلباسا وهو من قولهم بعير مذلل إذا كان سهل القياد وهو الذي خزم أنفه ليطاوع قائده ثم بين ذلك فقال
(257)
سَأُسْمِي وَبَعْدَ الْوَاوِ تَسْمُو حُرُوفُ مَنْ تَسمَّى عَلَى سِيمَا تَرُوقُ مُقَبَّلاَ
يعني أسمى القراء إما بأسمائهم أو بالرمز الدال عليهم ثم آتي بواو فاصلة بعد الرمز وآتي بعد الواو الفاصلة بحروف من سميت من القراء يعني الذي يظهر ذلك القارئ ذال إذ عندها أو يدغم وهذا في غير القراء الذين اطرد أصلهم في إظهار واحدة من الألفاظ المذكورة عند جميع حروفها وإدغامها فإنه يقول في هذا أظهرها فلان وأدغمها فلان ثم يذكر من انقسم مذهبه إلى إظهار وإدغام فيقول وأظهر فلان كذا وأدغم فلان كذا ، وحكمة الواو الفاصلة أن لا تختلط الحروف الدالة على القراء بالحروف المدغم فيها ولهذا إذا صرح باسم القارئ لا يأتي بالواو كقوله وأدغم ورش ضر-ظمآن-وأدغم ورش ظافرا وإن رمز أتى بالواو كقوله وأظهر-ريا-قوله واصف جلا فالواو في واصف فاصلة بين رمز القراء والحرف المدغم فيه ولولا الواو لم تعرف كلمة رمز القراء من كلمة رمز الحروف ومثله وأدغم مرو واكف ضير وأدغم كهف وافر سيب لولا الواو لكانت الضاد من ضير والسين من سيب محتملة أن تكون رمز القارئ ورمز الحرف المدغم فيه وإذا صرح بالاسم لم يكن إلباس لأنه قد تمهد من معرفة اصطلاحه أنه لا يجمع بين رمز ومصرح باسمه والسمو الارتفاع والعلو كنى به عن ذكر الحروف على وجه ظاهر لا إلباس فيه بسبب أنه قد فصل بالواو بينها وبين رمز القارئ ، والسيما العلامة وراق الشي صفا أي أذكر ذلك على طريقة واضحة مستحسنة والمقبل التقبيل أو نفس الثغر وهو منصوب على التمييز أو عبر به عن نفس الفم لأن الفم منه يخرج الكلام فأشار إلى ما يحصل بالإثبات من العلم كأنها خاطبتك به فيحصل منها ما يشفيك ويروقك أي يقوم بما تريده منها وكل هذه الألفاظ استعارات حسنة المعنى متجانسة الألفاظ نبه بها على حسن ذكره لاختلاف القراء في هذا الباب لأنه احتاج فيه إلى زيادة لم يكن محتاجها في غيره ثم ذكر أن هذا الصنيع يصنعه أيضا في غير إذ من باقي الألفاظ فقال
(258)
وَفِي دَالِ قَدْ أَيْضًا وَتَاءٍ مُؤَنَثِ وَفِي هَلْ وَبَلْ فَاحْتَلْ بِذِهْنِكَ أَحْيَلاَ
أي أذكر ذلك أيضا في باقي الألفاظ ، وقوله احتل من الحوالة أو من الحيلة وأحيلا من الحيلة يقال هو أحيل منك وأحول منك أي أكبر حيلة وهو منصوب على الحال والذهن الفطنة والحفظ أي احتل بذهنك على ما وعدتك به أو احتل في استخراجه ، وهذه الأبيات الأربعة غير وافية بالتعريف بما صنعه في هذه الأبواب على ما ستراه وتهيأ لي مكانها أربعة أبيات لعلها تفي بأكثر الغرض فقلت سأذكر ألفاظا أخيرا حروفها البيت أي الحرف الأخير من كل لفظ منها هو الذي يروى بالإظهار والإدغام فهو أولى من نسبة ذلك إلى اللفظ بكماله ثم ذكرت الألفاظ فقلت ، (فدونك إذ قد بل وهل تا مؤنث لدي أحرف من قبل واو تحصلا) ، أي أذكر كل واحد منها وحروفها التي عندها يختلف في إظهارها وإدغامها فإذا تمت الحروف جاءت كلمة أولها واو دليلا على انفصالها ، (وقراءها المستوعبين وبعدهم أسمى الذي في أحرف اللفظ فصلا) ، أي ودونك القراء الذين استوعبوا الإظهار عند الحروف والإدغام أي أول ما أبدأ أن أقول أظهر هذا الحرف عند جميع الحروف أو أدغم فلان وفلان وبعد ذلك أذكر من فصل فأدغم في بعض وأظهر في بعض فإذا فرغ ذكر من فصل علمت أن باقي القراء استوعبوا الإدغام في الجميع إن كان الأولون أظهروا والإظهار إن كان المستوعبون الأولون أدغموا ثم ذكرت كيفية نظمه لمن استوعب أو فصل من القراء فقلت ، (ويرمز مع واو وبعد حروفه أوائل كلم بعدها الواو فيصلا) ، أي بعد الفراغ من الرمز للقراء تأتي الواو الفاصلة فهي بعد المستوعبين فاصلة بين المسائل على ما جرت به العادة في سائل المسائل ففصل بها هنا بين المستوعبين والمفصلين كقوله فإظهارها أجرى دوام نسيمها وأظهر قالوا وفي أظهر مثال ما ذكرناه والواو الآتية بعد رمز المفصلين فاصلة بين القراء وحروفهم التي أدغموا عندها أو أظهروا فإذا تمت حروف ذلك الرمز جاءت
واو أخرى فاصلة بين المسائل وهي التي تجري في سائر المواضع ، فحاصل الأمر أنه احتاج في هذا الباب إذا ذكر القارئ المفصل بالرمز إلى واوين فاصلتين ، الأولى بين القارئ والحروف والثانية بين المسائل ، وتأتي أمثلة ذلك في استعماله وقوله أوائل كلم بيان لكيفية ذكر الحروف ثم ذكر ذال إذ فقال
ذكر ذال إذ
(259)
نعم (إ)ذ (تـ)مشت (ز)ينب (صـ)ـال (د)لُّهَا (سـ)مِيَّ (جـ)مال واصلا من توصلا
كأنه قدر أن مستدعيا طلب منه الوفاء بما وعد في قوله سأذكر فقال مجيبا نعم وهو على عادته في تضمين الكلمات المأخوذ حروف أوائلها إما تغزل كما تقدم في شفا لم تضق وإما بثناء على صالح كقوله ترب سهل وحيث تغزل عني واحدة من نساء أهل الجنة على ما هو لائق بحاله رضي الله عنه ، وصال بمعنى استطال ووثب والدل الدلال وسمي جمال وإصلاحا لأن من الدل والسمي الرفيع ومعنى واصلا من توصلا أي يصل من توصلا إليه أي الحروف التي تدغم فيها ذال إذ هي هذه الستة من التاء إلى الجيم وواو واصلا فاصلة وأمثلة ذلك (إذ تبرأ الذين)-(وإذ زين)-(وإذا صرفنا)-(إذ دخلوا عليه)-(لولا إذ سمعتموه)-(إذ جاءكم من فوقكم) ، ثم ذكر من أظهرها في الكل فقال
(260)
فإِظْهَارُهَا (أ)جْرى (د)وَامَ (نُـ)سَيمِهَا وَأَظْهَرَ (رُ)يَا (قـ)وْلِهِ وَاصِفٌ جَلاَ
أي أظهر ذال إذ عند جميع حروفها الستة نافع وابن كثير وعاصم وتابعهم الكسائي وخلاد عند الجيم فقط وأدغما عند البواقي والإظهار في جميع هذه الأبواب هو الأصل ووجه الإدغام التخفيف لقرب المخارج ومن فرق جمع بين اللغتين وقيل ليست الجيم كالبواقي في القرب من الذال والواو في وأظهر وفي واصف للفصل ، والنسيم الريح الطيبة والريا بالقصر الرائحة الطيبة والهاء في قوله لواصف وريا مفعول أظهر أي أظهر واصفها طيب رائحة قوله أي لما وصفها واصف وجلا وصفها أي كشفه ، أظهر بقوله ثناء عطرا وما أظهرته من الجمال والزينة أجرى دوام نسيمها ثم ذكر باقي المفصلين الذين أدغموا في بعض وأظهروا في بعض فقال
(261)
وَادْغَمَ (ضَـ)ـنْكاً وَاصِلٌ تُومَ (دُ)رّه وَادْغَمْ (مُـ)ـوْلَى وُجْدُهُ (د)ائمٌ وَلاَ
أي أدغم خلف عند التاء والدال وأظهر عند الأربعة الباقية وأدغم ابن ذكوان عند الدال وحدها وأظهر عند الخمسة الباقية وباقي القراء وهم أبو عمرو وهشام فقط على الإدغام عند الستة والواو في وأدغم في الموضعين وفي ولا للفصل بين المسائل والواو في واصل وفي وجده للفصل بين الرمز والحرف والضنك الضيف والتوم جمع تومة وهي الحبة تعمل من الفضة كالدر أي أدغم الضيق رجل وصل توم دره والمولى هنا هو الولي المحب والوجد بضم الواو الغني ومولى فاعل أدغم ، وقوله وجده دائم جملة إبتدائية في موضع الصفة لمولى أي غناه بها دائم ستر أمره وكتم ضره والولا بالكسر المتابعة ويكون صفة لمولى أيضا على تقدير ذو ولا أو يكون محله نصبا على التمييز أي متابعة دائمة ولو كان ولا بالفتح بمعنى الموالاة لكان حسنا وكان مفعول أدغم الثاني أي أدغم المولى ولاه ومحبته ويكون موافقا لأدغم الأول فإن ضنكا مفعوله والله أعلم
ذكر دال قد
(262)
وَقَدْ (سَـ)ـحَبَتْ (ذ)يْلاً (ضَـ)ـفَا (ظ)ـلَّ (زَ)رْنَبٌ (جـ)ـلَتْهُ (صـ)ـبَاهُ (شـ)ـاَئِقاً وَمُعَلِّلاَ
أي والحروف التي تدغم فيها دال قد وتظهر في هذه الثمانية من السين إلى الشين أمثلتها (قد سمع الله)-(ولقد ذرأنا)-(قد ضلوا)-(فقد ظلم نفسه)-(ولقد زينا)-(ولقد جاءهم)-(ولقد صرفنا)-(وقد شغفها حبا) ، والواو في ومعللا فاصلة والضمير في سحبت لزينب المقدم ذكرها وضفا طال والزرنب ضرب من النبات طيب الرائحة جلته صباه أي كشفته ريحه وشائقا خبر ظل أي يشوق من وجد ريحه ومعللا عطف عليه أي مرويا لظمائه إليه مرة بعد مرة أو ملهيا له عن كل شيء يقال علله بالشيء أي ألهاه به والهاء في جلته لزرنب وفي صباه للذيل يعني أن طيب ريح ذيلها كشف عن طيب الزرنب وأبان محله كأنه إذا شم الزرنب تذكر به ريح ذيلها فيظل الزرنب شائقا ومعللا ، وللشعراء في هذا المعنى وما يقاربه نظوم كثيرة والله أعلم
(263)
فَاظْهَرَهَا (نَ)ـجَمٌ (بـ)ـدَا (دَ)ـلَّ وَاضِحاً وَأَدْغَمَ وَرْشٌ (ضَـ)ـرَّ (ظ)ـمْآنَ وَامْتَلاَ
أي فأظهر دال قد عند جميع حروفها عاصم وقالون وابن كثير وأدغمها ورش عند الضاد والظاء فقط وأظهرها عند باقي الحروف فهو في هذا الباب والذي بعده مفصل وكان من المستوعبين الإظهار في ذال إذ والواو في واضحا وامتلأ للفصل وقد تكررت في الموضعين بواو وأدغم بعدهما ، والنجم يكنى به عن العالم
(264)
وَادْغَمَ (مُـ)ـرُوٍ وَاكِفٌ (ضـ)يْرَ (ذ)ابِلٍ (ز)وى (ظ)ـلَّهُ وَغْرٌ تَسَدَّاهُ كَلْكلاَ
أي وفصل ابن ذكوان أيضا فأدغم عند الضاد والذال والزاي والظاء وأظهر عند الأربعة الباقية ، والواو في واكف وفي وغر فاصلة ومرو واسم فاعل من أروى يروي ويقال وكف البيت أي قطر والضير الضر والذابل الذاوي وزوى من زويت الشيء أي جمعته ومنه زوى فلان المال عن ورثته والوغر جمع وغرة وهي شدة توقد الحر وتسداه أي علاه وكلكلا بدل من الهاء في تسداه بدل البعض من الكل على حذف الضمير أي كلكله والكلكل الصدر أي لم يبق الوغر له ظلا لنحافته وضره
(265)
وَفِي حَرْفِ زَيَّنَا خِلاَفٌ وَمُظْهِرٌ هِشَامٌ بِص حَرْفَهُ مُتَحمِّلاَ
أي اختلف عن ابن ذكوان في (ولقد زينا) ، فروى له فيه الإظهار والإدغام ، قال صاحب التيسير روى النقاش عن الأخفش الإظهار عند الزاي وأظهر هشام (لقد ظلمك) ، في ص فقط ولم تجيء دال قد عند الزاي إلا في (ولقد زينا) ، الذي فيه الخلاف لابن ذكوان فلهذا لم يضره تخصيص لفظ زينا وأما دال قد عند الظاء فجاءت في غير حرف ص فلهذا قيد بص وليس فيها غير هذا الموضع فتعين ، فقد صار ابن عامر بكماله مفصلا أدغم بعضا وأظهر بعضا وورش كذلك والباقون وهم أبو عمرو وحمزة والكسائي أدغموها في الجميع وهشام مبتدأ ومظهر خبره مقدم عليه وحرفه مفعول بالخبر ومتحملا حال أي تحمل هشام ذلك ونقله والهاء في حرفه تعود على هشام لأنه لم يظهر غير هذا الموضع فهو حرفه الذي اشتهر بإظهاره ولو عاد على ص لقال حرفها والله أعلم
ذكر تاء التأنيث
(266)
وَأَبْدَتْ (سَـ)ـنَا (ثَـ)غْرٍ (صـ)ـفَتْ (ز)رْقُ (ظَ)لمِهِ (جـ)ـمَعْنَ وُرُوداً بَارِداً عَطِر الطِّلاَ
أي تاء التأنيث الساكنة المتصلة بالأفعال في أي كلمة وقعت اختلفوا في إظهارها وإدغامها عند هذه الحروف الستة من السين إلى الجيم وتجمع أمثلتها بهذا البيت ، (مضت كذبت لهدمت كلما خبت ومع نضجت كانت لذلك مثلا) ، أي هذا المذكور مثل ذلك وإنما نظمتها لأن أمثلتها تصعب لأنها ليست بلفظ واحد فيستذكر به ما بعده بخلاف إذ وقد ، وقد أتيت بالأمثلة على ترتيب الحروف المذكورة في البيت إلا أن الجيم قد تقدمت على الظاء وهي (مضت سنت الأولين)-(كذبت ثمود)-(لهدمت صوامع)-(كلما خبت زدناهم)-(نضجت جلودهم)-(كانت ظالمة) ، والواو في ورودا فاصلة ثم تمم البيت بما يلائم معناه المقصود بظاهر اللفظ ، والضمير في أبدت لزينب والسنا الضوء والثغر ما تقدم من الأسنان وزرق جمع أزرق بوصف الماء لكثرة صفائه بذلك ويقولون نطفة زرقاء أي صافية وقال زهير ، (فلما وردن الماء زرقا حمامه وضعن عصى الحاضر المتخيم) ، والظلم ماء الأسنان وبريقها هو كالسواد داخل عظم السن من شدة البياض كفر ند السيف وقال الشاعر ، (إلى شنباء مشربة الثنايا بماء الظلم طيبة الرضاب) ، الشنباء ذات الشنب وهو حدة في الأسنان حين تطلع يراد حداثتها وقيل هو بردها وعذوبتها ، والرضاب الريق ، وقوله جمعن يعني الرزق ورودا أي ذا ورود يعني الريق والورود الحضور ثم وصفه بأنه بارد عطر والطلاء بالمد ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه ويسمى به الخمر أيضا والعطر الطيب الرائحة ومن عادة الشعراء تشبيه الريق بالخمر لجلالتها عند الجاهلية وتبعهم في ذلك من بعدهم من الشعراء ، قال الشيخ أو يكون الطلا بمعنى الشفا من طلا الإبل قلت وقصره في الوقف على ما مضى في أجذم العلا والله أعلم
(267)
فإِظْهَارُهَا (دُ)رٌّ (نَـ)مَتْهُ (بُـ)ـدُورُهُ وَأَدْغَمَ وَرْشٌ (ظَ)ـافِراً وَمُخَوِّلاَ
أي أظهرها عند جميع حروفها الستة ابن كثير وعاصم وقالون وهم الذين أظهروا دال قد عند حروفها الثمانية وإنما غاير بين ألفاظ الرمز في الموضعين كما غاير في عبارة الإظهار بين اللفظين فقال في دال قد فأظهرها نجم بجملة فعلية وقال هنا بجملة إسمية حذرا من تكرار الألفاظ واشتراكها ومعنى نمته رفعته وأدغم ورش عند الظاء فقط كما فعل في دال قد إلا أنه ليس هنا ضاد معجمة وأظهرها عند الباقي والمخول الملك وكما اتحد في البابين أسماء المستوعبين للإظهار اتحد أيضا المستوعبون للإدغام فهم أبو عمرو وحمزة والكسائي واتحد أيضا من فصل وهو ابن عامر وورش وقد تمم ذلك بقوله
(268)
وَأَظْهَرَ (كـ)ـهْفٌ وَافِرٌ (سـ)ـيْبُ (جُـ)ودِهِ (زَ)كيٌّ وَفيٌّ عُصْرَةً وَمُحَلَّلاَ
أي وأظهر ابن عامر عند ثلاثة السين والجيم والزاي والواو في وافر وفي قوله وفي فاصلة والعصرة الملجأ والمحلل المكان الذي يحل فيه وهما حالان من فاعل وأظهر أي الذي أظهر كان بهذه الصفات تشد إليه الرحال ويقتبس من فوائده والسيب العطا وقد تقدم أي عطاؤه وافر وصف الكهف بثلاث صفات وهي أنه وافر العطا وأنه زكي وفي ثم نصب عنه حالين لأجل القافية وإلا كانتا صفتين والله أعلم
(269)
وَاظْهَرَ رَاويهِ هِشَامٌ لَهُدِّمَتْ وَفِي وَجَبَتْ خُلْفُ ابْنِ ذَكْوانَ يُفْتَلاَ
أي راوي مدلول كهف أي أظهر هشام راوي ابن عامر (لهدمت صوامع) ، زيادة على ما مضى دون باقي مواضع الصاد نحو (حصرت صدورهم) وفي (وجبت جنوبها) ، خلاف لابن ذكوان دون قوله تعالى (نضجت جلودهم) ، فإنه يظهره على أصله ، وقوله يفتلى أي يتدبر ويبحث عنه من فليت الشعر إذا تدبرته واستخرجت معانيه وكذلك فليت شعر الرأس وفليته شدد للتكثير وإنما قال ذلك لأن الإظهار هو المشهور عن ابن ذكوان وعليه أكثر الأئمة ولم يذكر في التيسير غيره وذكر الإدغام في غير التيسير في قراءته على فارس ابن أحمد لابن ذكوان وهشام معا وذكر أبو الفتح في كتابه عن هشام الإدغام فيه وعن ابن ذكوان الإظهار عند الجيم حيث وقع فقد صار الخلاف في (وجبت جنوبها) عن ابن عامر بكماله والأولى الإظهار على ما أطلقه في البيت الأول
ذكر لام هل و بل
(270)
ألا بَلْ وَهَلْ (تَـ)ـرْوِي (ثَـ)ـنَا (ظ)عْنِ (زَ)يْنَبٍ (سـ)مِيرَ (فَ)ـوَاهَا (طِ)ـلْحَ (ضُ)ـرٍ وَمُبْتَلاَ
أي لام هاتين الكلمتين لها هذه الحروف الثمانية من التاء إلى الضاد اختلف في إدغامها وإظهارها عندها وكذا أطلق غيره هذه العبارة وهي موهمة أن كل واحدة من الكلمتين تلتقي مع هذه الثمانية في القرآن العزيز وليس كذلك وإنما تختص كل واحدة منها ببعض هذه الحروف وتشتركان في بعض فمجموع ما لها ثمانية أحرف واحد يختص بهل وهو الثاء نحو-هل ثوب- ، وخمسة تختص ببل وهي السين والظاء والضاد والزاي والطاء نحو-بل سولت-بل ظننتم-بل ضلوا-بل زين-بل طبع الله ، واثنان لهما معا وهما التاء والنون نحو-هل ترى-بل تأتيهم ، (هل ننبئكم) بل نحن ، فلو أن الناظم قال ، (ألا بل وهل تروى نوى هل ثوى وبل سرى ظل ضر زائد طال وابتلا) ، لزال ذلك الإيهام أي لام هل وبل لهما التاء والنون وهل وحدها الثاء وليل الخمسة الباقية والأحرف تنبيه يستفتح به الكلام ثم قال بل فأضرب عن الأول وهو الإخبار ثم استفهم فقال هل تروي أي هل تروي هذا الكلام الذي أقوله وهو ثنا ظعن زينب إلى آخره كأنه يستدعي منه أن يسمعه ذلك ومعنى ثنا كف وصرف والظن السير والسمير والمسامر هو المحدث ليلا وأضافه إلى نواها لمخالطته إياه كأنه يسامره أي سير زينب صرف محبها عن حاجته والطلح بكسر الطاء الغبي وأضافه إلى الضر لأنه منه نشا وهو منصوب على الحال من سمير نواها ومبتلا عطف عليه أي صرفته في هذه الحال ويجوز أن يكون ضمن ثنى معنى صير فيكون طلح ضر مفعولا ثانيا والله أعلم بالصواب
(271)
فَأَدْغَمَهَا (رَ)اوٍ وَأَدْغَمَ فَاضِلٌ وَقُورٌ (ثـ)ـنَاهُ (سَـ)ـرّ (تـ)ـيْماً وَقَدْ حَلاَ
أي فأدغم لامهما الكسائي عند جميع الحروف والباقون على إظهارها عند الجميع إلا حمزة وأبا عمرو وهشاما فإنهم فصلوا فأدغموا في بعض وأظهروا في بعض ، أما حمزة فأدغم في ثلاثة أحرف الثاء والسين والتاء وأظهر عند البواقي والواو في وقور وفي وقد حلا فاصلة والوقور ذو الحلم والرزانة وتيم اسم قبيلة مستقلة من غير قريش وينسب حمزة إليها بالولاء أو بالنسب فقد وافق التضمين معنى لائقا بالقارئ أي ثناؤه سر قومه ومواليه والثناء ممدود وإنما قصره في قوله ثناء والله أعلم بالصواب
(272)
وَبَلْ فِي النِّسَا خَلاَّدُهُمْ بِخِلاَفِهِ وَفِي هَلْ تَرَى الْإدْغَامُ حُبَّ وَحُمِّلاَ
، أي أن خلادا له خلاف في قوله تعالى (بل طبع الله عليها) ، في سورة النساء وأدغم أبو عمرو-هل ترى-وهو في موضعين (هل ترى من فطور)-(فهل ترى لهم من باقية) ، وأظهر باقي جميع هذا الباب
(273)
وَاظْهِرْ لَدى وَاعٍ (نَـ)ـبِيلٍ (ضَـ)ـماَتُهُ وَفِي الرَّعْدِ هَلْ وَاسْتَوْفِ لاَ زَاجِراً هَلاُ
أي أظهر هشام عند النون والضاد مطلقا وعند التاء في الرعد في قوله تعالى (أم هل تستوي الظلمات) ، وأدغم الباقي ولم يدغم أحد الذي في الرعد لأن حمزة والكسائي يقرآن (يستوي) ، بالياء وهما أهل الإدغام أو هشام استثناه لأنه يقرؤه بالتاء وباقي القراء أهل الإظهار والواو في واع واستوف فاصلة أي واستوف جميع هذا الباب غير زاجر بهلا وهي كلمة يزجر بها الخيل فحذف الخافض والتقدير لا قائلا هلا لأن الزجر قول فعداه تعديته والمعنى خذه بغير كلفة ولا تعب لأني قد أوضحته وقربته إلى فهم من أراده والله أعلم
باب اتفاقهم في إدغام إذ و قد و تاء التأنيث و هل و بل
(274)
وَلاَ خُلفَ فِي الإِدْغَامِ إِذْ (ذَ)لَّ (ظ)ـاَلِمٌ وَقَدْ (ت)ـيَّمَتْ (دَ)عْدٌ وَسِيماً تَبَتَّلاَ
أي أدغموا ذال إذ في مثلها نحو (إذ ذهب) ، وفي الظاء لأنها من مخرجها نحو (إذ ظلمتم) ، وأدغموا دال قد في مثلها نحو (وقد دخلوا بالكفر) ، وفي التاء لأنها من مخرجها نحو (وقد تعلمون أني) ، ولم يقع في القرآن إذ عند الثاء المثلثة ولا عند الطاء المهملة وإلا لوجب الإدغام للموافقة في المخرج والوسيم الحسن الوجه وتبتل أي انقطع وكذلك لا خلاف في إظهار ذال إذ ودال قد عند خمسة أحرف يجمعها بل نفر
(275)
وَقَامَتْ (تُـ)ـرِيِه (دُ)مُيْةٌ (ط)ـيبَ وَصْفِهَا وَقُلْ بَلْ وَهَلْ (ر)اهَا (لَ)ـبَيبٌ وَيَعْقِلاَ
أي ولا خلاف في إدغام تاء التأنيث في مثلها وفي الحرفين اللذين من مخرج التاء وهما الدال والطاء المهملتان نحو (ربحت تجارتهم)-(وإذا غربت تقرضهم)-(فلما أثقلت دعوا الله)-(أجيبت دعوتكما)-(فآمنت طائفة من بني إسراءيل وكفرت طائفة)-(إذ همت طائفتان) ، والواو في وصفها فاصلة وقد تكررت والدمية الصورة من العاج ونحوه وتشبه بها المرأة وجمعها دمى ثم ذكر أن اللام من هل وبل واجبة الإدغام في مثلها نحو (بل لا تكرمون-فهل لنا من شفعاء) ، وفي الراء لقربها منها نحو (بل ران-هل رأيتم) ، واللام من-قل-مثلهما في ذلك نحو (قل لئن اجتمعت-قل ربي أعلم) ، فيجوز أن يكون قصد ذلك في قوله-وقل-بل-وهل-أي لام هذه الكلمات الثلاث تدغم في مثلها وفي الراء ويجوز أن يكون لم يقصد ذلك وإنما وقع منه كلمة-وقل-تتميما للنظم كما وقع مثل ذلك في كلم عديدة من هذه القصيدة وهذا الوجه هو الظاهر لأن الباب معقود فيما اتفق عليه من إدغام ما سبق الخلاف فيه والذي سبق ذكره من اللامات المختلف فيها هو لام بل وهل ولم يجمع هذا الباب ذكر جميع ما اتفق عليه ولهذا لم يذكر-قل-في ترجمة الباب ، فإن قلت لم أدغم-هل ترى-بل تأتيهم ولم يدغم-قل تعالوا-قلت لأن قل فعل قد أعل بحذف عينه فلم يجمع إلى ذلك حذف لامه بالإدغام من غير ضرورة وبل وهل كلمتان لم يحذف منهما شيء فأدغم لامهما ، فإن قلت فقد أجمعوا على إدغام-قل ربي-قلت لشدة القرب بين اللام والراء وبعد اللام من التاء والله أعلم ، وقوله راها بألف بعد الراء أراد راءها بهمزة بعد الألف مقلوب رآها بألف بعد الهمزة وكلاهما لغة كقوله ويلمه لو راءه مروان فقصر الناظم الممدود من هذه اللغة ونصب قوله ويعقلا على جواب الاستفهام بالواو والله أعلم
(276)
وَمَا أَوْلُ الْمِثْلَينِ فِيهِ مُسَكَّنٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِدْغَامِهِ مُتَمَثِّلاَ
لما ذكر أن الذال من إذ والدال من قد وتاء التأنيث واللام من بل وهل تدغم كل واحدة في مثلها خاف أن يظن أن ذلك مختص بهذه الكلمات فتدارك ذلك بأن عمم الحكم وقال كل مثلين التقيا وأولهما ساكن فواجب إدغامه في الثاني لغة وقراءة وسواء كان ذلك في كلمة نحو يدرككم الموت أو في كلمتين نحو-ما تقدم- ، ولا يخرج من هذا العموم إلا حرف المد نحو (وأقبلوا)-(في يومين) ، فإنه يمد عند القراء ولا يدغم وقرأت في حاشية نسخة قرئت على المصنف رحمه الله قوله متمثلا يريد متشخصا لا هوائيا واحترز بهذا عن الياء والواو إذا كانتا حرفي مد ، قلت وهذا احتراز فيه بعد من جهة أن متمثلا غير مشعر بذلك إذا أطلق والله أعلم (وفي ماليه هلك عني سلطانيه) ، خلاف والمختار الوقف على ماليه فإن وصل لم يتأت الوصل إلا بالإدغام أو تحريك الساكن وقال مكي في التبصرة يلزم من ألقى الحركة في (كتابيه إني-أن يدغم-ماليه هلك) ، لأنه قد أجراها مجرى الأصلي حين ألقى الحركة وقدر ثبوتها في الوصل ، قال وبالإظهار قرأت وعليه العمل وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، قلت يعني بالإظهار أن يقف على-ماليه-وقفة لطيفة وأما إن وصل فلا يمكن غير الإدغام أو التحريك وإن خلا اللفظ من أحدهما كان القارئ واقفا وهو لا يدري بسرعة الوصل وإن كان الحرفان في كلمة واحدة مختلفتين إلا أنهما من مخرج واحد نحو (حصدتم-و-وعدتم-و-ألم نخلقكم-و-إن طردتهم) ، فالإدغام لكونهما من مخرج واحد في كلمة واحدة ذكره الشيخ في شرحه وهذا مما يدل على أن الساكن من المثلين والمتقاربين أثقل من المتحرك حيث أجمع على إدغام الساكن واختلف في إدغام المتحرك ونظير هذا ما تقدم من اجتماع الهمزتين والثانية ساكنة فإنهم أوجبوا إبدالها وإن كانت متحركة جوزوا تسهيلها ولم يوجبوه وما ذكرناه من أن حرف المد لا يدغم قد ادعى فيه أبو علي الأهوازي الإجماع فقال في كتابه الكبير المسمى بالإيضاح المثلان إذا اجتمعا وكانا واوين قبل
الأولى منهما ضمة أو ياءين قبل الأولى منهما كسرة فإنهم أجمعوا على أنهما يمدان قليلا ويظهران بلا تشديد ولا إفراط في التلبين بل بالتجويد والتبيين مثل (آمنوا وكانوا) في يوسف (في يتامى النساء) ، قال وعلى هذا وجدت أئمة القراءة في كل الأمصار ولا يجوز غير ذلك فمن خالف هذا فقد غلط في الرواية وأخطأ في الدراية ، قال فأما الواو إذا انفتح ما قبلها وأتى بعدها واو من كلمة أخرى فإن إدغامها حينئذ إجماع مثل (عفوا وقالوا-عصوا وكانوا-آووا ونصروا-واتقوا وآمنوا) ، ونحو ذلك وذكر أن بعض شيوخه خالف في هذا والله سبحانه أعلم
باب حروف قربت مخارجها
(277)
وَإِدْغَامُ باءِ الْجَزْمِ فِي الْفَاءٍ (قَـ)ـدْ (ر)سَا (حَـ)مِيداً وَخَيِّرْ فِي يَتُبْ (قـ)ـاَصِداً وَلاَ
أضاف الباء إلى الجزم الداخل عليها أراد الباء المجزومة وهي في خمسة مواضع أما ثلاثة منها فالباء فيها مجزومة بلا خلاف عند النحويين (أو يغلب فسوف)-(وإن تعجب فعجب قولهم)-(ومن لم يتب فأؤلئك) ، والموضعان الآخران الباء فيهما مجزومة عند الكوفيين دون البصريين وهما (قال اذهب-فمن-اذهب فإن لك) ، فلأجل الاختصار سمي الكل جزما واختار قول الكوفيين والبصريون يسمون نحو هذا وقفا فلو عبر عن الكل بالوقف لكان خطأ لأن أحدا لم يقل في الثلاثة الأول إنها موقوفة والاختصار منعه أن ينص على كل ضرب باسمه وصفته أي ادغم الباء الموصوفة في الفاء خلاد والكسائي وأبو عمرو ولخلاد خلاف في قوله تعالى في الحجرات (ومن لم يتب فأؤلئك) ، وعبر عن الخلاف بلفظ التخيير إذ لا مزية لأحد الوجهين على الآخر فأنت فيها مخير لأن الكل صحيح ومثله ما تقدم في سورة الفاتحة وقالون بتخييره جلا وهذه عبارة صاحب التيسير هنا فإنه قال وخير خلاد في (ومن لم يتب فأؤلئك) ، وأظهر ذلك الباقون وأثنى على الإدغام بأنه قد رسا حميدا أي ثبت محمودا خلافا لمن ضعفه هنا وقاصدا حال والولاء بالفتح النصر أي قاصدا بالتخيير نصر الوجهين المخير فيهما ، فإن قلت لم قال وإدغام باء الجزم ، قلت لأن الباء غير مجزومة لم تدغم إلا في رواية شاذة عن أبي عمرو في الإدغام الكبير لأنه إدغام متحرك لا ريب فيه (ولله المشرق والمغرب فأينما-من المغرب فبهت)
(278)
وَمَعْ جَزْمِهِ يَفْعَلْ بِذلِكَ (سَـ)ـلَّمُوا وَنَخْسِفْ بِهِمْ (رَ)اعَوْا وَشَذَّا تَثَقُلاً
الهاء في جزمه ليفعل لأنه مؤخر في المعنى نحو في بيته يؤتي الحكم أي وإدغام لفظ يفعل مع جزمه أي حال كونه مجزوما وحرف العطف كما يجوز دخوله على الجملة يدخل أيضا على ما يتعلق بها نحو قوله تعالى (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله) ، أي وترى يوم ومعناه أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللام المجزومة من يفعل ذال ذلك وهو ، (ومن يفعل ذلك) ، في ستة مواضع في القرآن في البقرة وآل عمران وفي النساء موضعان وفي سورة المنافقين والفرقان فإن لم يكن يفعل مجزوما لم يدغم نحو (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) ، وقوله سلموا أي سلموه من الطعن بما احتجوا له به ، (ويخسف بهم) ، في سورة سبأ راعوا إدغامه أي راقبوه فقرءوا به ولم يلتفتوا إلى من رده أي أدغم الفاء المجزومة في الباء الكسائي وحده فإن تحركت لم تدغم نحو (بل نقذف بالحق) ، والألف في قوله وشذا ضمير يفعل ويخسف أي شذ إدغام هذين الحرفين عند أهل النحو فهم يضعفونه وتثقلا أي إدغاما وهو تمييز أي وشذ إدغامهما أو حال على تقدير ذوي تثقل
(279)
وَعُذْتُ عَلَى إِدْغَامِهِ وَنَبَذْتُهاَ شَوَاهِدُ (حَـ)ـمَّادٍ وَأَورِثْتُوُا (حَ)ـلاَ
(280)
(لَـ)ـهُ (شَـ)ـرْعُهُ وَالرَّاءُ جَزْماً يِلاَمِهاَ كَوَاصِبرْ لِحُكْمِ (طـ)َالَ بُالْخُلْفُ (يَـ)ذْبُلاَ
أي أدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو الذال في التاء في كلمتين وهما (وإني عذت) ، في غافر الذنب والدخان وفي طه (فنبذتها) ، وأدغم الثاء في التاء في (أورثتموها) ، في الأعراف والزخرف هؤلاء مع هشام ونبذتها عطف على الهاء في إدغامه أي على إدغام عذت وإدغام نبذتها شواهد حماد أو التقدير ونبذتها كذلك والضمير في له لحماد أي شواهد قارئ كثير الحمد وشواهد حماد وحلا له شرعه كلام حسن ظاهرا وباطنا ومعنى شرعه طريقه والراء جزما أي مجزومة أي ذات جزم ونصبه على الحال أي أدغمت في حال جزمها بلامها أي في اللام المعهود إدغامها فيها كما سبق في الإدغام الكبير نحو (واصبر لحكم ربك)-(أن اشكر لي)-(يغفر لكم من ذنوبكم) ، أدغمها السوسي لأنه يدغمها متحركة فساكنة أولى وعن الدوري خلاف لأن الساكن يدغم منه ما لا يدغم من المحرك على ما سبق في الياء واللام والفاء ولم يذكر صاحب التيسير هذا التفصيل بل ذكر الإدغام عن أبي عمرو نفسه وقال بخلاف بين أهل العراق في ذلك ويذبل اسم جبل أي طال الإدغام في شهرته عن أبي عمرو يذبل أي علاء خلافا لما قاله النحاء ، وإلى هنا ثم كلام الناظم في الإدغام فيأخذ للباقين الإظهار في جميع ذلك ثم عبر في المواضع الباقية من هذا الباب بالإظهار فيأخذ للمسكوت عنه الإدغام فقال
(281)
وَيس اظْهِرْ (عَ)ـنْ (فَـ)ـتى (حَـ)ـقُهُ (بَـ)ـدَا وَن وَفيهِ الْخِلْفُ عَنْ وَرْشِهمْ خَلاَ
حرك النون من هيجاء ياسين ون بالفتح وحقها أن ينطق بها ساكنة على الحكاية وإنما فعل ذلك لضرورة الشعر إذا الساكنان لا يلتقيان في حشو النظم وكذا نون من (طس) ، كما يأتي ودال صاد مريم واختار حركة الفتح على حد قوله في أول آل عمران (ألم الله) ، فإنه لما وجب تحريك الميم للساكن بعدها فتحت فكذا في هذه المواضع ولا يجوز أن يكون إعرابها ففتحها لأنه مفعول به كما تعرب المبنيات من الحروف عند قصد الألفاظ كما يأتي في شرح قوله وكم لو وليت لأنه لو قصد ذلك لنون إذ لا مانع من الصرف على هذا التقدير لأنه لم يرد اسم السورة وإنما أراد هذا اللفظ والوزن مستقيم له في-يس-و-ن-فيقول وياسينا أظهر بنقل حركة همزة أظهر إلى التنوين ثم يقول ونونا ثم هو على حذف مضاف أي ونون ياسين أظهر وكذا نون نون ودال صاد ونون طس وكان ينبغي أن يذكر النون من هذه الحروف في باب أحكام النون الساكنة والتنوين لأنه منه وفرع من فروعه وإنما ذكره هنا لأجل صاد مريم لئلا يتفرق عليه ذكر هذه الحروف ولم يذكرها صاحب التيسير إلا في مواضعها من السور أي أظهر النون من (يس و-ن) ، حفص وحمزة وابن كثير وأبو عمرو وقالون وأدغم الباقون وعن ورش وجهان في نون (ن والقلم) خاصة ، ومعنى خلا مضى أي سبق ذكر المتقدمين له ووجه الإدغام في ذلك ظاهر قياسا على كل نون ساكنة قبل واو على ما يأتي في الباب الآتي ووجه الإظهار أن حروف الهجاء في فواتح السور وغيرها حقها أن يوقف عليها مبينا لفظها لأنها ألفاظ مقطعة غير منتظمة ولا مركبة ولذلك بنيت ولم تعرب
(282)
وَ(حِرْمِيُّ) (نَـ)ـصْرِ صَادَ مَرْيَمَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ لَبِثْتَ الْفَرْدَ وَالجَمْعُ وَصَّلاَ
أي أظهر نافع وابن كثير وعاصم جميع ما في هذا البيت وهو ثلاثة أحرف الدال من هجاء صاد في ، (كهيعص ذكر) ، ولا خلاف في إظهارها من (والقرآن) ، فلهذا ميزها منها بقوله صاد مريم وأظهروا الدال عند الثاء المثلثة من قوله (ومن يرد ثواب) ، حيث وقع وأظهروا الثاء عند التاء من-لبثت-كيفما وقع فردا وجمعا فالفرد-لبثت-بضم التاء وفتحها نحو (قال كم لبثت قال لبثت) والجمع نحو قال (إن لبثتم إلا قليلا) دون قوله (لبثنا يوما) ، فهو وإن كان جمعا إلا أنه ليس فيه تاء والمدغم إنما هو الثاء عند التاء لأن المثال الذي ذكره كذلك وهو لبثت ثم قال الفرد والجمع يعني من هذا اللفظ دون غيره وقوله صاد مريم مفعول وصل في آخر البيت وكذا ما بعده ولهذا نصب نعت لبثت وهو الفرد والجمع أي وصل هذا المجموع ويجوز أن يكون ذلك مفعول فعل مضمر أي أظهر صاد مريم وما بعده لأن الكلام في الإظهار ويقع في بعض النسخ للفرد والجمع بالضم ، قال الشيخ رحمه الله هو مثل (وكل وعد الله) ، في قراءة ابن عامر ولا حاجة إلى العدول عن النصب عطفا على صاد مريم لأن حكم الكل واحد فلا معنى لقطع بعضه عن بعض والله أعلم ، ثم قال وصل أي وصل هذه الجملة إلينا بالإظهار والضمير في وصل عائد على لفظة حرمي نصر لأنه مفرد دال على مثنى كما سبق تقريره في الرموز فهو كقوله في موضع آخر حرميه كلا ولا تكون الألف في وصلا ضمير تثنية لأن القارئ ثلاثة لا إثنان فلم يبق إلا أن تكون الألف للإطلاق
(283)
وَطس عِنْدَ الْمِيم (فَـ)ـازَا اتَخَذْتُمْ أَخَذْتُمْ وَفِي الإِفْرَادِ (عَ)ـاشَرَ (دَ)غْفَلاَ
أي ونون-طس-فاز بالإظهار عند الميم يعني-طسم-في أول الشعراء والقصص احترازا من الذي في أول النمل فإن نونه مظهرة بلا خلاف والفاء رمز حمزة وأظهر حفص وابن كثير الذال من نحو (اتخذتم آيات الله)-(وأخذتم على ذلكم إصري) ، فهذا ضمير الجمع ثم قال وفي الإفراد يعني نحو (فأخذتهم فكيف كان عقاب)-(لئن اتخذت إلها غيري)-(لتخذت عليه أجرا)-(ثم أخذتها وإلي المصير) ، وتقدير الكلام إظهار اتخذتم في الجميع وفي الإفراد عاشر دغفلا ويقال عيش دغفل أي واسع وعام دغفل أي مخصب يشير إلى ظهور الإظهار وسعة الاحتجاج له ولا مانع من توهم أن إظهار اتخذتم وأخذتم لفاز ثم قال وفي الإفراد حفص وابن كثير والواو فصل
(284)
وَفِي ارْكَب (هُـ)ـدى (بَـ)ـرٍ (قَـ)ـرِيبٍ بِخُلْفِهِمْ (كَـ)ـمَا (ضـ)ـاَعَ (جـ)ـاَ يَلْهَثْ (لَـ)ـهُ (دَ)ارِ (جُـ)ـهَّلاَ
أي والإظهار في اركب هدى قارئ ذي بر متواضع يعني قوله تعالى في سورة هود (اركب معنا) ، أظهر الباء البزي وقالون وخلاد بخلف عنهم وأظهرها ابن عامر وخلف وورش بلا خلاف وأظهر الثاء من (يلهث ذلك) ، هشام وابن كثير وورش ويلهث موضعان في الأعراف الخلاف في الثاني منهما والأول لا خلاف في إظهار ثائه فكان ينبغي أن يقيده كما قيد صاد مريم ، فإن قلت الثاء لا تدغم في الهمزة فلهذا اغتفر أمرها قلت والدال لا تدغم في الواو فهلا اغتفر أمرها والبر بفتح الباء ذو البر وضاع أي انتشر واشتهر من ضاع الطيب إذا فاحت رائحته ودار فعل أمر من دارى يداري وجهلا جمع جاهل وما أطبع اقتران هذه الكلمة في الظاهر كما ضاع جا يلهث
(285)
وَقَالُونُ ذُو خُلْفٍ وَفِي الْبَقَرَهْ فَقُلْ يُعَذِّبْ (دَ)نَا بالْخُلْفِ (جَ)ـوْداً وَمُوبِلاَ
قد تقدم في شرح الخطبة أنه إنما سمى قالون هنا بعد الرمز لأنه يذكر الخلف له كأنه مستأنف مسألة أخرى كقوله وبصروهم أدري ولهذا قال ذو خلف بالرفع لأنه خبر وقالون الذي هو مبتدأ ولو عطف قالون على ما قبله لقال ذا خلف نصبا على الحال يعني لقالون خلاف في الثاء من يلهث وأما (يعذب من يشاء) ، في آخر البقرة فابن عامر وعاصم يضمان الباء كما سيأتي في موضعه والباقون من القراء يسكنونها ثم ثم انقسموا فمنهم من أظهرها وهو ورش وعن ابن كثير خلاف وأدغم الباقون وأسكن الناظم الهاء من البقرة ضرورة وكذا ما يأتي مثله وهو جائز للشاعر في الضرورة قال الراجز ، (لما رأى أن لا دعه ولا شبع ) ، والجود المطر الغزير ونصبه على الحال أي ذا جود وموبلا عطف عليه وهو اسم فاعل من أوبلا وقد استعمل فعله في سورة الأنعام فقال (حمى صوبه بالخلف در وأوبلا) ، والمعروف وبلت السماء فهي وابلة والوابل المطر الغزير فيجوز أن يكون أوبلا مثل أغدوا جرب أي صار ذا وبل وقيل الموبل الذي أتى بالوبل وهو المطر والله أعلم
باب أحكام النون الساكنة و التنوين
(286)
وَكُلُّهُمُ التَّنْوينَ وَالنُّونَ ادْغَمُوا بِلاَ غُنَّةٍ فِي الّلاَمِ وَالرَّا لِيَجْمُلاَ
أي كل القراء أدغموهما في اللام والراء للقلب وأسقطوا غنة التنوين والنون منهما لتنزلهما من اللام والراء منزلة المثل لشدة القرب والضمير في ليجملا للام والراء أو التنوين والنون ولم يقيد النون في نظمه بالسكون اجتزاء بذكر ذلك في ترجمة الباب ولو قال وقد أدغموا التنوين والنون ساكنا لحصل التقييد ولم يضر إسقاط لفظ كل لأن الضمير في أدغموا يغني عنه
(287)
وَكُلٌّ بِيَنْمُو أَدْغَمُوا مَعَ غُنَّةٍ وَفِي الْوَاوِ وَالْيَا دُونَهَا خَلَفٌ تَلاَ
جرت عادة المصنفين أن يقولوا النون الساكنة تدغم في حروف كلمة يرملون فلما قدم الناظم في البيت السابق ذكر اللام والراء جمع الباقي من حروف يرملون في كلمة ينمو أي كل القراء أدغموا النون الساكنة والتنوين في حروف ينمو وهي أربعة الياء والنون والميم والواو ولم يذهبوا غنتهما معها لأن حروف ينمو ليست في القرب إليها كقرب اللام والراء ، قال الشيخ رحمه الله اعلم أن حقيقة ذلك في الواو والياء إخفاء لا إدغام وإنما يقولون له إدغام مجازا وهو في الحقيقة إخفاء على مذهب من يبين الغنة لأن ظهور الغنة يمنع تمحض الإدغام لأنه لا بد من تشديد يسير فيهما وهو قول الأكابر قالوا الإخفاء ما بقيت معه الغنة وأما عند النون والميم فهو إدغام محض لأن في كل واحد من المدغم والمدغم فيه غنة وإذا ذهبت إحداهما بالإدغام بقيت الأخرى وخلف أدغمهما عند الواو والياء بلا غنة كما يفعل عند اللام والراء فهو إدغام محض على قراءته وقوله دونها أي دون الغنة وفي اللغة حذف الغنة وإبقاؤها جائز عند الحروف الستة ويستثنى مما نسبه في هذا البيت إلى الكل وإلى خلف ما سبق ذكره من نوني يس ون والقلم
(288)
وَعِنْدَهُمَا لِلكُلِ أَظْهِرْ بِكِلْمَةٍ مَخَافَةَ إِشْبَاهِ الْمُضَاعَفِ أَثْقَلاَ
أي وعند الواو والياء أظهر النون الساكنة إذا جاءت قبلهما في كلمة واحدة نحو صنوان وقنوان والدنيا وبنيانه لأنك لو أدغمت لأشبه ما أصله التضعيف وهذا كاستثناء السوسي همزة (رءيا) ، يبدلها خوفا من أن يشبه لفظه لفظ الري كما تقدم ولم تلتق النون الساكنة في كلمة بلام ولا راء ولا ميم في القرآن العزيز فلهذا لم يذكر من حروف يرملون غير الواو والياء وأما النون إذا لقيها فيجب الإدغام للمثلية وأما التنوين فلا مدخل له في وسط الكلمة ولا في أولها وأثقلا حال من فاعل إشباه وهو الذي فيه الكلام وإشباه مصدر أشبه كإكرام مصدر أكرم وأضيف إلى المفعول وهو المضاعف أي مخافة إشباه هذا الذي ذكرناه وهو صنوان ونحوه في حال كونه ثقيلا أي مدغما المضاعف فالمضاعف هو المفعول أضيف إليه المصدر نحو عجبت من إكرام زيد أي من إكرام عمرو له والمضاعف هو الذي في جميع تصرفاته يكون أحد حروفه الأصول مكررا نحو حيان وحتان ورمان والله أعلم
(289)
وَعِنْدَ حُرُوفِ الْحَلْقِ لِلكُلِ أُظْهِرَا (أَ)لاَ (هـ)ـاَجَ (حُـ)ـكْمٌ (عَـ)ـمَّ (خـ)ـاَليهِ (غُـ)ـفَّلاَ
يعني أظهر التنوين والنون الساكنة لكل القراء إذا كان بعدهما أحد حروف الحلق لبعدهما منها سواء كان ذلك في كلمة أو كلمتين ثم بين حروف الحلق بأوائل هذه الكلمات من ألا إلى آخر البيت وحروف الحلق سبعة ذكر منها ستة وبقي واحد وهو الألف وإنما لم يذكرها لأنها لا تأتي أول كلمة ولا بعد ساكن أصلا ، لأنها لا تكون إلا ساكنة فمثالهما عند الهمزة (كل آمن-وينأون-من أسلم) ، ولا توجد نون ساكنة قبل همزة في القرآن في كلمة غير ينأون ومثالهما عند الهاء (جرف هار-منها-من هاجر إليهم) ، ومثالهما عند الحاء (نار حامية-وانحر-من حاد الله) ، وعند العين (حقيق على)-(أنعمت عليهم) ، من عمل-وعند الخاء-يومئذ خاشعة-والمنخنقة-و-من خاف ، و-إن خفتم-و-من خزي-وعند الغين (من ماء غير آسن-فسينغضون-من غل) ، وقوله خاليه أي ماضيه وغفلا جمع غافل وكأنه أشار بهذا الكلام إلى الموت أو إلى البعث ومجازاة كل بعمله فهذا حكم عظيم عم الغافلين عنه كقوله ، (قل هو نبؤ عظيم أنتم عنه معرضون) ، وفي مواعظ الحسن البصري رحمه الله أيها الناس إن هذا الموت قد فضح الدنيا فلم يبق لذي لب فرحا ، وما أحسن قول بعضهم ، (يا غفلة شاملة للقوم كأنما يرونها في النوم ميت غد يحمل ميت اليوم) ، وقوله ألا استفتاح كلام وهاج بمعنى هيج الغافل هذا الحكم أي حركه فلم يدع له قرارا ولا هناء بعيش أيقظنا الله تعالى بفضله من هذه الغفلة
(290)
وَقَلْبُهُمَا مِيماً لَدَى الْيَا وَأَخْفِيا عَلَى غُنَّةٍ عِنْدَ الْبَوَاقِي لِيَكْمُلاَ
أي الموضع الذي تقلبان فيه ميما هو عند الباء يعني إذا التقت النون الساكنة مع الباء في كلمة نحو (أنبئهم-أو في كلمتين نحو-أن بورك) ، وإذا التقى التنوين مع الباء ولا يكون ذلك إلا في كلمتين نحو (سميع بصير) ، قلبا ميما ليخف النطق بهما لأن الميم من مخرج الباء وفيها غنة كغنة النون فتوسطت بينهما ولم يقع في القرآن ولا فيما دون من كلام العرب ميم ساكنة قبل ياء في كلمة واحدة فلم يخف إلباس في مثل عنبر ومنبر وعند باقي الحروف غير هذه الثلاثة عشر وغير الألف أخفى التنوين والنون مع بقاء غنتهما لأنها لم يستحكم فيها البعد ولا القرب منهما فلما توسطت أعطيت حكما وسطا بين الإظهار والإدغام وهو الإخفاء وسواء في ذلك ما كان في كلمة وما كان في كلمتين نحو (أنتم-أنذر الناس-أنشأكم-أنفسكم-إن تتوبا-من جاء بالحسنة-إن كنتم-أن قالوا بخلق جديد-غفور شكور-على كل شيء قدير-أزواجا ثلاثة) ، وقوله ليكملا أي ليكملا بوجوههما وهي لام العاقبة أي لتؤل عاقبتهما إلى كمال أحكامهما لأن هذه الوجوه هي التي لهما في اللغة وهي الإدغام في حروف يرملون الستة والإظهار في حروف الحلق الستة أيضا والقلب عند الباء والإخفاء في البواقي ثم الإدغام بغنة وبغير غنة فكمل ذكرها في النظم من هذه الوجوه والله أعلم
باب الفتح و الإمالة وبين اللفظين
(291)
وَحَمْزَةُ مِنْهُمْ وَالْكِسَائِيُّ بَعْدَهُ أَمَالاَ ذَوَاتِ الْياَءِ حَيْثُ تأَصَّلاَ
منهم أي من القراء كقولهم أنت منهم الفارس الشجاع أي من بينهم والكسائي بعده لأنه أخذ عنه أمالا ذوات الياء يعني الألفات التي انقلبت عن الياء احترازا عن ذوات الواو وهي الألفات التي انقلبت عن الواو فاجتزأ بالصفة لشهرتها عن الموصوف والإمالة تقع في الألف والهاء والراء وهذا الباب جميعه في إمالة الألف والذي بعده في إمالة الهاء والثالث في إمالة الراء على ما سيأتي بيانه ثم الألف تكون أصلية ومنقلبة وتارة زائدة واعلم أن كل ألف منقلبة عن ياء فجائز إمالتها وهي أن تكون عينا أو لاما فالعين نحو باع وسار لأنهما من البيع والسير وهذا النوع جائز الإمالة لغة مطلقا وقراءة في بعض المواضع الآتية نحو (جاء-و-شاء) واللام نحو (هدى) و(رمى) ، فهذا هو الذي يمال مطلقا عند القراء لمن مذهبه الإمالة وأطلق الناظم ذوات الياء وهو لفظ ذوات الياء وهو لفظ يقع على الضربين ومراده الضرب الثاني ولم يبين في نظمه الحرف الذي تقع فيه الإمالة ولو أنه قال ، (أمال الكسائي بعد حمزة إن تطرفت ألفات حيث ياء تأصلا) ، لذكر الحرف الممال وشرطيه وهما كونه عن ياء وكونه طرفا أي تكون لام الفعل وإنما خص القراء الإمالة بذلك لأنه طرف والأطراف محل التغيير غالبا والإمالة تغيير فإنها إزالة الألف عن استقامتها وتحريف لها عن مخرجها إلى نحو مخرج الياء ولفظها وأخذ لها هذا الاسم من أملت الرمح ونحوه إذا عوجته عن استقامته أي أما لا ألفات الياء إن تطرفت احترازا من المتوسطة فقوله تعالى (وسار بأهله) يمال وكذا (فأثابهم الله) ، لتوسط الألف فيها والألف في أثاب عن واو في الأصل وإنما يجوز إمالتها لغة لأن الفعل قد زادت حروفه فرجع إلى ذوات الياء على ما سيأتي في شرح قوله وكل ثلاثي يزيد فإنه ممال وقوله حيث تأصلا قال الشيخ أي حيث كان الياء أصلا وهو أحد أسباب الإمالة وأكثر أنواعها استعمالا وإنما أميلت الألف لتدل على الأصل ، قلت فكأن قوله حيث تأصلا خرج مخرج التعليل
فإن حيث من ظروف المكان وإذ من ظروف الزمان تأتي كل واحدة منهما وفيها معنى التعليل نحو قولك حيث جاء زيد فلا بد من إكرامه وإذ خرج فلا بد من التزامه أي لأجل أن الياء أصلها أميلت ولم يخرج ذلك مخرج الاشتراط فإن هذا شرط مستغنى عنه بقوله ذوات الياء كما قال صاحب التيسير كان حمزة والكسائي يميلان كل ما كان من الأسماء والأفعال من ذوات الياء ولم يرد على ذلك لكنه ما أراد بذوات الياء إلا كل ألف تنقلب ياء في تثنية أو جمع أو عند رد الفعل إلى المتكلم أو غيره فيدخل في ذلك ما الياء فيه أصل وما ليست بأصل ولهذا مثل (موسى-و-عيسى-و-إحدى-و-يتامى) ، ونحوه ما ألفه للتأنيث ثم قال وكذلك ، (الهدى-و-العمى) ، ونحوه مما الألف فيه منقلبة عن ياء فجمع بين النوعين فعبر عنهما بذوات الياء فيجوز أن يكون الناظم سلك هذا المسلك وقسم ذوات الياء إلى ما الألف فيه أصل وإلى ما الألف فيه للتأنيث وسيأتي كل ذلك ويجوز أن يكون المراد تأكيد ما تقدم أي أن الإمالة لا تقع في قراءتهما إلا حيث كانت الياء التي انقلبت عنها الألف أصلا وهذا وإن كان معلوما من قوله ذوات الياء فإن ذلك لا يقال إلا لما كانت الياء فيه أصلا فإنه غير معلوم من اللفظ بل من قاعدة علم التصريف فنص عليه لفظا وغرضه إعلام أن الإمالة لهما لا تقع في الألفات الزوائد كألف نائم ولاعب وإنما تقع في ألف منقلبة عن ياء هي لام الكلمة ويجوز أن يكون المعنى حيث تأصلا الياء أي تمكنت تمكنا تاما بحيث رسمت الكلمة بها لا بالواو فأميلت الألف موافقة للرسم فهذه ثلاثة أوجه في معنى هذا الكلام إن كان فاعل تأصلا ضميرا عائدا على الياء والألف فيه للإطلاق ويجوز أن تكون الألف للتثنية وهي ضمير عائد على حمزة والكسائي وله وجهان من المعاني ، أحدهما في المواضع التي تأصلاها أي أنهما أصلا لها أصلا فكل ما دخل في ذلك الأصل والضابط أمالاه ثم بين الأصل والضابط بالبيت الآتي ، والثاني أن المعنى حيث تأصلاهما
أي كانا أصلا في باب الإمالة لاستيعابهما منهما ما لم يستوعب غيرهما فكل من أمال شيئا فهو تابع لهما أو لأحدهما في الغالب أي فعمما جميع ذوات الياء لأنهما ليس من مذهبهما تخصيص أفراد من الكلم بالإمالة بخلاف ما فعل غيرهما كما ستراه ثم لا فرق في إمالة هذه الألف المنقلبة عن الياء لهما بين ما هي مرسومة في المصحف بالياء وما هي مرسومة بالألف فإن من ذوات الياء ما رسم في المصحف بالألف كما ترسم ذوات الواو نحو (طغا-و-تولاه-و-أقصا المدينة-و-الأقصا-و-العليا-و-الدنيا) ، وغير ذلك ، وأما الحياة فلم تمل وإن كانت ألفها منقلبة عن ياء عند قوم لأن ألفها رسمت واوا في المصحف ولأن الخلاف قد وقع في أصل ألفها فوقع الشك في سبب الإمالة فتركت وعدل إلى الفتح فإنه الأصل وكل ما أميل ففتحه جائز وليس كل ما فتح إمالته جائزة ثم من ضرورة إمالة الألف حيث تمال أن ينحى بالحرف الذي قبلها نحو الكسرة ثم إن حمزة والكسائي يميلان الألف الموصوفة بالأوصاف المذكورة حيث وجدت إلا في مواضع خالف فيها بعضهم أصله وفي مواضع زاد معهم غيرهم ثم بين ذات الياء فقال
(292)
وَتَثْنِيَةُ الأسْماءِ تَكْشِفَها وَإِنْ رَدَدْتَ إِلَيْكَ الْفِعْلَ صَادَفْتَ مَنْهلاَ
الهاء في تكشفها لذوات الياء أو الألف الممالة المفهومة من سياق الكلام أي تكشف لك أصلها إن كانت في اسم تثنية نحو (قال لفتاه) ، لأن هذا لو ثنى لانقلبت الألف ياء نحو ، (ودخل معه السجن فتيان) وكذا (فاستحبوا العمى) ، لو ثنيته لقلت عميان وهذا بخلاف (الصفا-و(شفا جرف)-و-سنا برقه-و-عصاه-و-عصاي-و-أبا أحد) ، فإن الألف في ذلك كله أصلها الواو ويثني جميع ذلك بها وأما الألف في الأفعال فيكشفها أن تنسب الفعل إلى نفسك وإلى مخاطبك فإن انقلبت فيه ياء أملتها نحو (رمى-و-سعى) ، لأنك تقول رميت وسعيت بخلاف دعا وعفا وخلا وبدا وعلا ونجا فإنك تقول فيهما دعوت وعفوت إلى آخرها ويكشفها لك أيضا لفظ المضارع نحو يدعو ويعفو ولحوق ضمير التثنية نحو دعوا وعفوا والاشتقاق يكشف الأمرين نحو الرمي والسعي والعفو والعلو فإن قلت من جملة الأسماء الممالة ما لا تظهر التثنية ياءه التي انقلبت الألف عنها نحو الحوايا جمع حاوية فالألف عن ياء كائنة في المفرد وفي تثنية المفرد ولكن اللفظ الممال في القرآن لا يثنى فلم يكشف هذا اللفظ تثنية فكيف قال وتثنية الأسماء تكشفها قلت ذكر ذلك كالعلامة والعلامة قد لا تعم ولكنها تضبط الأكثر والحد يشمل الجميع وهو قوله ذوات الياء والألف من آخر الحوايا من ذوات الياء وأصلها حواوى على حد ضوارب لأنه جمع حاوية وهي المباعر على أنك لو قدرت من هذا فعلا ورددته إلى نفسك لظهرت الياء نحو حويت وصاحب التيسير ذكر هذا الحرف مع يتامى وأيامى فجعل الجميع في باب فعالى الذي يأتي ذكره وقوله صادفت منهلا أي موردا للإمالة ، وهذه استعارة حسنة لأن طالب العلم يوصف بالعطش فحسن أن يعبر عن بغيته ومطلوبه بالمورد ، كما يعبر عن كثرة تحصيله بالري فيقال هو ريان من العلم ثم مثل ذوات اليا من الأسماء والأفعال فقال
(293)
هَدى وَاشْتَرَاهُ وَالْهَوى وَهُدَاهُمُ وَفِي أَلِفِ الْتَأْنِيثِ فِي الْكُلِّ مَيَّلاَ
لأنك تقول هديت واشتريت وهويان وهديان فمثل بفعلين واسمين ثم ذكر أن حمزة والكسائي ميلا أيضا ألف التأنيث في كل موضع وقعت فيه فقوله وفي ألف متعلق بميلا أي أوقعا الإمالة فيها فهو من باب قوله ذي الرمة يجرح في عراقيبها نصلي وقوله في الكل بدل من ألف التأنيث أي وفي كل ما فيه ألف التأنيث أوقعا الإمالة وخالف حمزة أصله في الرؤيا على ما يأتي وليست ألف التأنيث منقلبة عن ياء وإلا لاستغنى عنها بما تقدم وإنما هي مشبهة بالمنقلبة عن الياء لأجل أنها تصير ياء في التثنية والجمع تقول حبليان وحبليات ، فإن قلت ظهرت فائدة قوله فيما قبل حيث تأصلا فإن ألف التأنيث ليست أصلا فاحترز عنها ، قلت ولماذا يحترز عنها وهي ممالة لهما كما أن الأصلية ممالة لهما فلا وجه للاحتراز إن كانت ألف التأنيث داخلة في مطلق قوله ذوات الياء وهو ممنوع وإذا لم تكن داخلة فلا احتراز ولم يبق فيه إلا التأكيد أو المعاني التي تقدم ذكرها ثم ذكر الأمثلة التي توجد فيها ألف التأنيث المقصورة وهي الممالة فقال
(294)
وَكَيْفَ جَرَتْ فَعْلى فَفيهَا وُجُودُهَا وَإِنْ ضُمَّ أَوْ يُفْتَحْ فُعَالى فَحَصِّلاَ
أي وجود ألف التأنيث في موزون فعلى كيف جرت بفتح الفاء أو بكسرها أو بضمها نحو السلوى والتقوى والموتى ومرضى وإحدى وسيما وذكرى والدنيا والقربى والأنثى وكذلك في فعالى بضم الفاء وفتحها نحو كسالى ويتامى والتحق بهذا الباب موسى وعيسى ويحيى وهو مذهب القراء اعتمادا على أنها فعلى فعلى وفعلى والفاء في فحصلا ليس برمز لأن مراده بهذا البيت بيان محل ألف التأنيث ولأنه سيقول بعد هذا وعسى أيضا أمالا والضمير لحمزة والكسائي ولو كان فحصلا رمز اللزوم بعد ذلك إذا ذكر مسألة أن يرمز لها أو يصرح باسم القارئ ولا يأتي بضمير من تقدم إلا إذا كان الباب كله واحدا على أنه يشكل على هذا أنه سيذكر اختصاص الكسائي بإمالة مواضع ثم قال بعدها وأما ضحاها والضحى والربى مع القوى فأمالاها ويذكر أيضا ما تفرد به حفص عن الكسائي ثم قال ومما أمالاه وجوابه أنه صرح باسم الكسائي وحفص فلا إلباس وأما بعد الرمز فلم يفعل مثل ذلك لما فيه من الإلباس وأراد فحصلا بالنون الخفيفة ، ثم أبدل منها ألفا في الوقف ثم ذكر أنهما أمالا أشياء أخر لم تدخل في الضابط المتقدم من ذوات الياء الأصلية ولا في ضابط ألف التأنيث ولكنها من المرسومات بالياء فقال
(295)
وَفِي اسْمِ فِي الْاِستِفْهَامِ أَنَّى وَفِي مَتى مَعاً وَعَسى أَيْضاً أَمَالاَ وَقُلْ بَلى
أي وأوقع الإمالة في اسم استعمل في الاستفهام وهو أنى وإن كان قد استعمل غير استفهام وهو إذا وقع شرطا نحو أنى تقم أقم معك إلا أنه في القرآن للاستفهام ولهذا قال صاحب التيسير أمالا أنى التي بمعنى كيف نحو قوله تعالى (أنى شئتم)-(أنّي لك هذا) ، قلت وغرضهم من هذا القيد أن يفصلوها من أنا المركبة من أن واسمها نحو (أنا دمرناهم) ، وهو احتراز بعيد ، فإن أحدا لا يتوهم الإمالة في مثل ذلك ثم قال وفي متى أي وأوقعا الإمالة أيضا في متى ومعا حال من حمزة والكسائي أي أوقعا معا الإمالة في ذلك أو حال من أتى ومتى بمعنى أنهما اصطحبا في الإمالة والاستفهام ، وقال الشيخ مراده أن ألف التأنيث أيضا في اسم استعمل في الاستفهام ، وهو أنى ومتى فأما أنى فكان ابن مجاهد يختار أن يكون فعلى فقال الداني وزنها فعلى وهو كقولهم قوم تلى أي صرعى وليلة غمى إذا كان على السماء غيم وألف متى مجهول فأشبهت ألف التأنيث في ذلك فأميلت ونص النحاة على أنه لو سمى بها وبيلى لثنيا بالياء وهذا صحيح ولكن من أين يلزم إذا كانت ألفها مجهولة أن تكون للتأنيث وإنما وزنها فعل والألف لام الكلمة على أن الحروف وما تضمن معناها من الأسماء لا يتصرف فيها بوزن ولا ينظر في ألفاتها فـ متى كإلى وبلى في ذلك ، ثم قال وأمالا عسى وبلى أما عسى ففعل تقول فيه عسيت فالألف منقلبة عن ياء فهو داخل في ما تقدم فلم يكن له حاجة إلى إفراده بالذكر ولكنه تبع صاحب التيسير في ذلك فإنه قال بعد أنى وكذلك متى وبلى وعسى حيث وقع ولعله إنما أفرده بالذكر لأنه لا يتصرف وقيل إن بعض النحاة زعم أنها حرف كما أطلق الزجاجي على كان وأخواتها أنها حروف بمعنى أنها أدوات للمعاني التي اكتسبتها الجمل معها ولما كفت بلى في الجواب ضارعت بذلك الإسم والفعل فأميلت ألفها وقيل إن ألف بلى أيضا بل للتأنيث وهو حرف لحقه ألف التأنيث كما لحقت تاء التأنيث ثم ورب وأصلها بل فيجوز على هذا أن يقال ألف أنى كذلك
وأصلها أن ثم خرج هذان الحرفان عن معناهما المعروف بلحوق ألف التأنيث لهما إلى معنى آخر فصار أنى على وزن شتى ورسمت أنى ومتى وبلى بالياء وكذا عسى وعيسى ويحيى وموسى وإلحاق الألف في شيء من ذلك بألف التأنيث بعيد بل هي قسم برأسها فكأنه قال أمالا ذوات الياء الأصلية وغير الأصلية مما رسمت ألفه ياء وغير الأصلية على ضربين ألف تأنيث وملحق بها ولو قال عوض هذا البيت ، (وموسى عسى عيسى ويحيى وفي متى وأنى للاستفهام تأتى وفي بلا) ، لكان أحسن وأجمع للغرض وتبعناه في ذكر عسى وإن كانت داخلة في قسم الياء الأصلية وخلصنا من جزرفة العبارة في قوله وفي اسم في الاستفهام أنى والضمير في تأتى للإمالة وما أبعد دعوى أن الألف في موسى وعيسى ويحيى للتأنيث فموسى وعيسى معربان ويحيى إن كان عربيا فوزنه يفعل والكلام في النبي المسمى بيحيى عليه السلام وأما نحو قوله تعالى (لا يموت فيها ولا يحيى) وقوله (ويحيى من حيى عن بينة) ، فوزنه يفعل والله أعلم
(296)
وَمَا رَسَمُوا بالْيَاءِ غَيْرَ لَدى وَمَا زَكى وَإِلى مِنْ بَعْدُ حَتَّى وَقُلْ عَلَى
أي وأمالا كل ما رسم في المصحف بالياء من الألفات وإن لم تكن الياء أصلية إتباعا للرسم ولأنها قد تعود إلى الياء في صورة وذلك ضحى في الأعراف وطه (وضحاها)-(ودحيها) ، في والنازعات وفي والشمس وضحيها (وتلاها)-(وطحاها)-(والضحى)-(وسجى) ، فهذا جميع ما رسم من ذوات الواو بالياء على ما ذكره في قصيدته الرائية لكن (تلاها-وطحاها-وسجى) ، لم يملها إلا الكسائي وحده كما يأتي وإمالتهما ضحى في الأعراف وطه تبنى على خلاف يأتي في آخر الباب وأما (ويلتى-و-حسرتى-و-أسفى) ، فألفاتها مع كونها مرسومة بالياء منقلبة عن ياء بالإضافة فقويت الإمالة فيها وهذا البيت لا يظهر له فائدة إلا في هذه الألفاظ الثلاثة فإن الياء التي انقلبت عنها الألف ليست بأصل في الكلمة فلم تدخل في قوله حيث تأصلا ويظهر أيضا فائدته في إمالة -ضحى-في الأعراف على قول من يقول إنه إذا وقف عليه كان الوقف على ألفه الأصلية وأما باقي الكلمات التي ذكرت أنها رسمت بالياء وهي من ذوات الواو فكانت تعرف من ذكره إمالة رءوس الآى وأما نحو (أدنى-و-أزكى-و-يدعى-و-تتلى) ، فتعلم إمالته من البيت الآتي فإنه من الثلاثي الزائد ثم ذكر أنه استثنى مما رسم بالياء وليست الياء أصله خمس كلمات فلم تمل وهي اسم وفعل وثلاثة أحرف فالإسم لدى لم يمل أنه رسم بالألف في يوسف وبالياء في غافر وألفه مجهولة فلم يمل ليجري مجرى واحدا والفعل (ما زكي منكم من أحد أبدا) ، هو من ذوات الواو فلم يمل تنبيها على ذلك والحروف إلى وحتى وعلى لم تمل لأن الحروف لا حظ لها في الإمالة بطريق الأصالة إنما هي للأفعال والأسماء فلم يؤثر فيها رسمها بالياء وكل ما أميل من الحروف بلى ويا في الندا ولا في أمالا لإغنائها عن الجمل فأشبهت الفعل والإسم وقول الناظم من بعد حتى الدال من بعد مجرورة وبعضهم اختار ضمها وقدر حذف واو العطف من قوله حتى ومعنى الوجهين ظاهر وإذا كسرنا الدال كان التقدير من بعد استثناء حتى وكذا معنى
قولي أنا فيما تقدم أمال الكسائي بعد حمزة أي بعد إمالة حمزة
(297)
وَكُلُّ ثُلاَثِيٍّ يِزِيدُ فَإِنَّهُ مُمَالٌ كَزَكَّاهَا وَأنْجَى مَعَ ابْتَلى
أي كل لفظ ثلاثي ألفه عن واو إذا زيد في حروفه الأصول حرف فأكثر فصار كلمة أخرى أميل لأن واوه تصير ياء إذا اعتبرتها بالعلامات المقدم ذكرها وذلك كالزيادة في الفعل بحروف المضارعة وآلة التعدية وغيرها نحو (ترضى)-(وتدعى)-(وتتلى) (ويدعى)-(وتبلى)-(ويزكى)-(وتزكى)-(وزكاها)-(ونجانا الله منها)-(فأنجاه الله من النار)-(وإذا ابتلى إبراهيم ربه)-(فلما تجلى ربه) (فمن اعتدى عليكم)-(فتعالى الله)-(من استعلى) ، ومن ذلك أفعل في الأسماء نحو (أدنى-وأرى-وأزكى-وأعلى) ، لأن لفظ الماضي من ذلك كله تظهر فيه الياء إذا رددت الفعل إلى نفسك نحو زكيت ورضيت وابتليت وأعليت وأما فيما لم يسم فاعله نحو-تدعى-فلظهور الياء في دعيت ويدعيان فقد بان أن الثلاثي المزيد يكون اسما نحو أدنى وفعلا ماضيا نحو أنجى وابتلى ومضارعا مبنيا للفاعل نحو يرضى وللمفعول نحو يدعى ، ولو قال الناظم رحمه الله تعالى ، (وكل ثلاثي مزيد أمله مثل يرضى وتدعى ثم أدنى مع ابتلى) ، لجمع أنواع ذلك وقد نص صاحب التيسير وغيره على أن ذلك يمال وجعل سببه الزيادة فقال الإمالة شائعة في-تدعى-و-تتلى-و-اعتدى-و-استعلى-و-أنجى-و-نجى-وشبهه لانتقاله بالزيادة إلى ذوات الياء ، قلت الزيادة في أوله إذا كانت مفتوحة ظهرت الواو نحو يدعو ويتلو فإذا ضمت قلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها فمن أين تجيء الياء وأين الزيادة التي اقتضت ذلك لا جائز أن تكون حرف المضارعة فإنها موجودة في حالة الضم وجودها في حالة الفتح والضم والفتح حركتان متقابلتان فليس إمالة هذا لأجل الزيادة وإنما لأجل أن الياء ظهرت في الماضي في قولك دعى قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها والمضارع فرع عن الماضي فلهذا اعتقد في ألف تدعى أنها ياء وأميلت مع أن رسم المصحف الكريم فيها بالياء
وقوله تعالى (فأثابهم الله بما قالوا) ، وارد على ما ذكره في هذا البيت فإنه ثلاثي زاد ولا يمال لأن ألفه ليست طرفا وهو لم يشترط الطرف فلهذا ورد والله أعلم
(298)
وَلَكِنَّ أَحْيَا عَنْهُمَا بَعْدَ وَاوِهِ وَفِيمَا سَوَاهُ لِلكِسَائِي مُيِّلاً
أي إذا جاء أحيا أو يحيى بعد الواو فإنهما أمالاه قال في التيسير واتفقا يعني الكسائي مع حمزة على الإمالة في قوله-ويحيى ولا يحيى- ، (وأمات وأحيا) ، إذا كان منسوقا بالواو وتفرد الكسائي دون حمزة بإمالة أحياكم-و-فأحيا به-و-أحياها-حيث وقع إذا نسق ذلك بالفاء أو لم ينسق لا غير وإنما ذكر هذا البيت ليبين ما انفرد به الكسائي ولهذا أتى بحرف لكن التي للاستدراك وإلا فما اجتمعا عليه من ذلك داخل في ذوات الياء فكأنه قال أمالا الجميع لكن كذا وكذا تفرد به الكسائي ثم استوفى جميع ما انفرد به الكسائي من ذلك وغيره فقال
(299)
وَرُءْيَايَ وَالرءُيَا وَمَرْضَاتِ كَيْفَمَا أَتَى وَخَطَايَا مِثْلُهُ مُتَقَبَّلاً
رؤيا فعلى مستثناة مما فيه ألف التأنيث ومرضاة مفعلة من الرضوان ترجع ألفها إلى الياء في التثنية والجمع فهي كمغزى ومدعى لأن ألفها ترجع إلى الياء في الماضي نحو رضيت وذكر مكي في الثلاثي الزائد مرضاة وكمشكاة لأن ضابطه ما كانت ألف الإمالة فيه رابعة فصاعدا فمرضاة مستثناة من ذلك لحمزة بخلاف مزجاة فإنها ممالة لهما وقوله كيف ما أتى يعنى نحو مرضاة الله ومرضاتي بخلاف الرؤيا فإنه لم يملها كيف ما أتت لأن رؤياك لم يملها إلا الدوري عنه كما يأتي فلهذا قال ورؤياي والرؤيا أي هاتان اللفظتان مع ما بعدهما ممال للكسائي وخطايا مثله أي مثل مرضاة يميلها كيف ما أتت نحو (خطايانا-خطاياكم-وخطاياهم) ، والإمالة في ألفها الأخيرة لأجل الياء قبلها ولأنها من ياء لأنها جمع خطية بغير همز عند الفراء كهدية وهدايا وعند غيره أصلها خطايىء بياء بعدها همزة فمنهم من يقول همزت الياء كما تهمز في صحائف فاجتمع همزتان فأبدلت الثانية ياء فاجتمع بعد ألف الجمع همزة عارضة في الجمع وياء فوجب قلب الهمزة ياء والياء ألفا على قياس قولهم مطايا ومنهم من يقول قدمت الهمزة وأخرت الياء ثم فعل ذلك-وأما الحوايا-فأمالها حمزة والكسائي وألفها عن ياء وهو على وزن خطايا ومتقبلا حال من خطايا أو من ضمير مرضاة ويجوز أن يكون تمييزا على أن يكون متقبلا بمعنى قبولا مثل قولهم على التمرة مثلها زيدا ولا مانع من حيث اصطلاحه من أن يكون متقبلارمزا وكذا ما بعده من قوله ليس أمرك مشكلا ويجتلا والذي أذعت به إلى آخره ويكون ما في كل بيت لمن رمز له ، فإن قلت هو في باب إمالة حمزة والكسائي فجميعه لا يخلو عنهما أو عن أحدهما ولهذا يذكر ما انفرد به الكسائي ثم يذكر ما اتفقا عليه فيقول مع-القوى-فأمالاها ولو كان ما اعترض به رمزا لما صح له هذا الضمير إذ تقدم جماعة ، فلا يتعين من يعود إليه الضمير وكذا يذكر ما تفرد به الدوري ثم يقول ومما أمالاه وذلك مما يدل على أن قوله قد
انجلا ليس برمز ، قلت كل هذا صحيح معلوم أنه ليس برمز في نفس الأمر ولكن من حيث اصطلاحه يوهم ذلك والله أعلم
(300)
وَمَحْيَاهُمُوا أَيْضًا وَحَق تُقَاتِهِ وَفِي قَدْ هَدَانِي لَيْسَ أمْرُكَ مُشْكِلاَ
(أراد سواء محياهم)-(في الجاثية وحق تقاته) ، في آل عمران ووافق حمزة الكسائي على إمالة الأول فيها وهو قوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقية) ، لأنه رسم بالياء في الأول وفي الثاني بالألف فاتبع الرسم فيهما وكلاهما من ذوات الياء والأصل تقية ، (وقد هدان) ، في أول الأنعام وصوابه في البيت بغير ياء لأن قراءة الكسائي كذلك والبيت متزن بالقبض وقيده بقد احترازا من الذي في آخر السورة (قل إنني هداني) وفي الزمر (لو أن الله هداني) ، فإن ذلك ممال لحمزة والكسائي معا على أصلهما والياء فيهما ثابتة بإجماعهم
(301)
وَفِي الْكَهْفِ أَنْسَاني وَمَنْ قَبْلُ جَاءَ مَنْ عَصَاني وَأَوْصَاني بِمَرْيَمَ يُجْتَلاَ
أراد (وما أنسانيه) ، ومن قبل الكهف جاء في إبراهيم (ومن عصاني)-(وأوصاني بالصلاة) ، في مريم ويجتلا ليس برمز
(302)
وَفِيهَا وَفِي طس آتَانِيَ الَّذِي اذَعْتُ بِهِ حَتَّى تَضَوَّعَ مَنْدَلاَ
أي وفي مريم والنمل لفظ (آتاني-يريد) (أتاني الكتاب)-(آتاني الله) ، بخلاف الذي في هود فإنه ممال لهما وقوله أذعت به أي أفشيته من قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) ، أي أفشوه والمراد أني جهدت بالنص على إمالته ولم أسر ذلك ولكن في اللفظ إشكال لأنه إن كان فعل هذا قبل هذا الكلام فأين ذكره وإن كان ما فعله إلا بهذا الكلام لم تصح هذه العبارة لأن حق ما يوصل به الذي يكون معلوما للمخاطب وهذا لم يعلمه بعد إلا من هذا العبارة فإن جاز ذلك فينبغي أن يجوز أن يقال جاءني الذي أكرمته ويكون إكرامك له لم يعرف إلا من هذه اللفظ وهذا لا يجوز فالوجه في هذا أن يقال الذي مفعول فعل مقدر وتضرع محذوف إحدى تائيه وهو مضارع لا ماض وتقدير الكلام خذ هذا الذي أذعت به لكي تتضوع أنت أي تفوح رائحة عملك مشبها مندلا والمندل نوع من الطيب وموضع في بلاد الهند ينسب إليه العطر وقيل المندل العود الهندي
(303)
وَحَرَفُ تَلاَهَا مَعْ طَحَاهَا وَفِي سَجى وَحَرْفُ دَحَاهَا وَهَي بِالْوَاوِ تُبْتَلاَ
(تلاها-وطحاها) ، في سورة الشمس (وسجى) في و(الضحى) و(دحاها) ، في والنازعات وأشار بقوله وهي بالواو إلى علة استثناء حمزة لها وهي كون ألفها عن واو وما تقدم كانت ألفه عن ياء ومعنى تبتلا تختبر وإنما حسن إمالتها للكسائي كونها رءوس آي فأميلت تبعا لذوات الياء فهو من باب إمالة لإمالة ولأنها رسمت في المصحف بالياء كأخواتها من ذوات الياء فلما ألحقت بها كتابة طلبا للمشاكلة ألحقت بها إمالة لذلك والله أعلم
(304)
وَأَمَّا ضُحَاهَا وَالضُّحى وَالرِّبا مَعَ الْقُوى فَأَمَا لاَهَا وَبِالْوَاوِ تَخْتَلاَ
تختلا أي تجتنى وتحصل من قولهم اختليت الخال وهو الحشيش إذا جززته وقطعته أمال حمزة والكسائي هذه الأربعة وإن كانت من ذوات الواو لأن أوائلها إما مضموم أو مكسور فالكسر في واحد وهو-الربا-والضم في الثلاثة البواقي وهي رءوس آي ومن العرب من يثنى ما كان بهذه الصفة بالياء وإن كان من ذوات الواو فيقول ربيان وضحيان فرار من الواو إلى الياء لأنها أخف حيث ثقلت الحركتان بخلاف المفتوح الأول قال مكي مذهب الكوفيين أن يثنوا ما كان من ذوات الواو مضموم الأول أو مكسورة بالياء فأمالا على أصل مذهبهما لأنهما كوفيان ولم يعتبر الأصل وإنما أفرده الناظم بالذكر وإن كان داخلا تحت قوله ومما أمالاه أواخر آي ما كما يأتي لأن منه ما ليس برأس آية وهو الربا وليبين أن الجميع من ذوات الواو والقوى جمع قوة وهو رأس آية في (والنجم) ولم يبق عليه إلا ذكر العلا ولكنه لما كان جمع عليا وقد قلبت الواو في عليا ياء صار كأنه من ذوات الياء والله أعلم ، وأما الزنا بالزاي والنون فمن ذوات الياء ، فلم يحتج إلى ذكره لأنه ممال لهما على أصلهما
(305)
وَرُؤيَاكَ مَعَ مَثْوَايَ عَنْهُ لِحَفْصِهِمْ وَمَحْيَايَ مِشْكَاةٍ هُدَايَ قَدِ انجَلاَ
جميع ما في هذا البيت تفرد بإمالته الدوري عن الكسائي دون أبي الحارث وحفص هو اسم أبي عمرو الدوري والهاء في عنه تعود إلى الكسائي وأراد ورؤياك المضاف إلى الكاف وهي في أول يوسف دون المضاف إلى الياء والمعرف باللام فهما للكسائي بكماله كما تقدم وذكر مكي وغيره أن أبا الحارث وافق الدوري في إمالة الرؤيا حيث وقعت فلم يستثن المضاف إلى الكاف وأما مثواي ففي يوسف (إنه ربي أحسن مثواي) ، فالذي تفرد به الدوري هو المضاف إلى الياء دون قوله تعالى (أكرمي مثواه)-(ومثواكم)-(ومثواهم) ، فأمال الثلاثة حمزة والكسائي على أصلهما في إمالة ذوات الياء (ومحياي) ، المضاف إلى الياء في آخر الأنعام دون (ومحياهم) ، فذاك للكسائي بكماله كما سبق و(مشكاة) ، في النور ووجه إمالتها الكسرة بعد الألف الميم أيضا كما تميل العرب شملال وأما-هدى ففي سورة البقرة وطه ، أراد المضاف إلى الياء دون المضاف إلى غيرها نحو (فبهداهم-وهداها-والهدى) ، ونحوه فذلك ممال لحمزة والكسائي
(306)
وَممَّا أَمَالاَهُ أَوَاخِرُ آيٍ مَّا بطِه وَآيِ الْنَّجْمِ كَيْ تَتَعَدَّلاَ
أي أواخر آي القرآن الذي تراه بسورة طه مما أماله حمزة والكسائي على الأصول المتقدمة وآي جمع آية كتمر وتمرة وما بمعنى الذي وبطه صلتها كما تقول عرفت ما بالدار أي الذي فيها أراد الألفات التي هي أواخر الآيات مما جميعه لام الكلمة سواء فيها المنقلب عن الياء والمنقلب عن الواو إلا ما سبق استثناؤه من أن حمزة لا يمليه فأما الألف المبدلة من التنوين في الوقف نحو-همسا-و-ضنكا-و-نسفا-و-علما-و-عزما-فلا تمال لأنها لا تصير ياء في موضع بخلاف لمنقلبة عن الواو فإن الفعل المبني للمفعول تنقلب فيه ألفات الواو ياء فألف التنوين كألف التثنية لا إمالة فيها نحو (فخانتاهما-إلا أن يخافا-اثنتا عشرة ) ، وأما المنون من المقصور نحو (هدى-وسوى-وسدى) ، ففي الألف الموقوف عليها خلاف يأتي ذكره في آخر الباب ثم قال وآي النجم أي أواخر سورة والنجم ثم بين حكمة ذلك فقال كي تتعدلا يعني رءوس الآي فتصير على منهاج واحد وهذه حكمة ترك الإمالة أنسب لها منها لأن الفتح يناسب في كل المواضع الممالة وغيرها فإن في أواخر الآى من السور المذكورة ما لا يمال وليس فيها ما لا يفتح ، فإن قلت أراد بالتعديل إلحاق ذوات الواو بذوات الياء في الإمالة لم يتم له هذا لأن حمزة استثنى أربعة مواضع من رءوس الآى فلم يملها فلم يكن في إمالة الباقي تعدل ولو لم يمل الجميع حصل التعدل على أني أقول لم يكن له حاجة إلى ذكر إمالة أواخر الآي لأن جميع ذلك قد علم مما تقدم من القواعد من ذوات الياء أصلا ورسما وقد نص على ذوات الواو منها فلم يبق منها شيء ولهذا لم يتعرض كثير من المصنفين لذكر هذه السور ولا ذكرها صاحب التيسير فإن قلت فيها نحو (وأن يحشر الناس ضحى) فمن أين تعلم إمالته ، قلت من قوله وما رسموا بالياء وقد نبهنا عليه ثم وكذلك العلى ثم ذكر باقي السور فقال
(307)
وَفِي الشَّمْسِ وَالأَعْلى وَفِي اللَّيْلِ الضُّحى وَفِي اقْرَأَ وَفِي وَالنَّازِعَاتِ تَمَيَّلاَ
(308)
وَمِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ الْقِيَامَةِ فِي الْمَعَارِجَ يا مِنْهَالُ أَفْلَحْتَ مُنْهِلاَ
الضمير في تميلا للمذكور ومراده تميل أواخر أي هذه السور أيضا والضمير في ومن تحتها للنازعات أراد سورة عبس والجار والمجرور صفة موصوف محذوف كقوله تعالى (وما منا إلا له مقام معلوم) ، أي وفي سورة من تحت النازعات ثم في القيامة ثم في المعارج أي وفي سورة سأل سائل ألا ترى كيف ذكر ما قبلها وما بعدها بحرف في فجملة هذه السور إحدى عشر منها أربع شملت الإمالة أواخر آياتها كلها لقبولها لذلك وهي (والنجم إذا هوى-سبح اسم ربك الأعلى-والشمس وضحاها-والليل إذا يغشى) ، وسبع سور دخلت الإمالة في بعض آياتها وهي التي تقبل الإمالة وهي طه والمعارج والقيامة والنازعات وعبس والضحى واقرأ باسم ربك ، ثم الإمالة في الجميع ليس بعدها ضمير مؤنث إلا في سورتين والشمس والنازعات أما والشمس فاستوعب ضمير المؤنث أواخر آيها وأما النازعات ففيها الأمران مرتين ولم يأت آيات في آخرهن ألف مقصورة نسقا إلا في هذه السور والمنهال الكثير الإنهال والإنهال إيراد الإبل المنهل ومنهلا أي موردا أو معطيا إذ يقال ، أنهلت الرجل إذا أعطيته وانتصب على الحال فكأنه نادى نفسه أو جميع من يعلم العلم وحروف القرآن ورواياته الثابتة من ذلك وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه والله أعلم
(309)
رَمى (صُحْبَةٌ) أَعْمَى فِي الإِسْراءِ ثَانِيًا سِوًى وَسُدًى فِي الْوَقْفِ عَنْهُمْ تَسَبُّلاِ
جميع ما في هذا البيت إمالة صحبة وهو من ذوات الياء وسدى من أسديت الشيء إذا أهملته ولا يمال (سوى وسدى) ، في الوصل لأنهما منونان وتبنى إمالتهما في الوقف على خلاف يأتي والأرجح الإمالة على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى وأراد (ولكن الله رمى)-(فهو في الآخرة أعمى)-(مكانا سوى)-(أن يترك سدى) ، وهذه الأربعة معلوم إمالتها لحمزة والكسائي من القواعد المقدمة وإنما ذكرها بعد ذلك لموافقة أبي بكر عن عاصم لهما فيها وكان يمكنه أن يقول رمى شعبة وإنما عدل عنه خوفا من وهم أن ذلك مختص بشعبة وهذه عادته في مثل ذلك على ما سيتضح فيما بعد ، قال الشيخ وقوله تسبلا أي تحبس يشير إلى ثبوته ، قلت أظن معناه أبيحت إمالته عنهم من سبلت الماء فتسبل لأن غيرهم لم يسبل إمالته وهو خبر أعمى فما بعده أي إضجاع ذلك نقل عنهم والإضجاع من أسماء الإمالة وإنما قدرت المحذوف بها لتذكير الضمير فيه وفي الإسراء في موضع الحال عاملها المضاف المحذوف أي إمالة أعمى في حال كونه في الإسراء ثانيا ، (وسوى وسدى) ، عنهم تسبل ورمى صحبة أي أماله صحبة والله أعلم
(310)
وَرَاءُ تَراءَى (فـ)ـَازَ فِي شُعَرَائِهِ وَأَعْمى فِي الإِسْرا (حُـ)ـكْمُ (صُحْبَةٍ) أَوّلاَ
الهاء في شعرائه تعود على الراء أو لفظ تراءا لأن كل واحد منهما في السورة المذكورة فهو كقولك غلام زيد في داره ولفظ تراءا وزنه تفاعل ففيه ألفان بينهما همزة الأولى زائدة والثانية لام الكلمة منقلبة عن ياء فإذا وقف عليها أميلت الثانية لحمزة والكسائي على أصلهما في إمالة ما كان من الألفات من ذوات الياء طرفا غير أن حمزة يجعل الهمزة بين بين على أصله وأضاف إلى ذلك أن إمالة الألف الأولى لمجاورة الثانية فهو من باب إمالة الإمالة ولهذا لم يمل الراء من قوله تعالى (فلما تراءت الفئتان) ، لما لم تكن فيها إمالة تسوغ ذلك وليست الألف أصلية منقلبة عن ياء بل هي زائدة لأنها ألف تفاعل ولم يجاورها كسر فلا إمالة فيها ولا نظر إلى كونها بعد راء والعرب تستحسن إمالة الألف قبل الراء وبعدها نحو-ترى-و-النار-مالا تستحسنه في غير ذلك ولهذا أمالهما أبو عمرو لأن الألف في كل ذلك إما منقلبة عن ياء أو هي ألف تأنيث أو مجاورة لكسر-نحو (ترى-وبشرى-وأبصارهم) ، والراء المفتوحة تمنع الإمالة إلا أن يوجد أحد أسباب الإمالة ثم من ضرورة إمالة الألفين في تراءا إمالة الراء والهمزة قبلها فبقيت الهمزة المسهلة بين ألفين ممالتين وهي في نفسها ممالة فتجاورت أربعة أحرف ممالة في الوقف فإذا وصلت سقطت الألف الثانية لوجود الساكن بعدها فبطلت الإمالة في الهمزة وبقيت إمالة الألف الأولى والراء قبلها لحمزة وحده فعبر الناظم عن ذلك بإمالة الراء لأن من ضرورتها إمالة الألف بعدها وهي عبارة صاحب التيسير ولم يذكر ذلك في باب الإمالة بل في سورة الشعراء فقال حمزة (فلما تراء الجمعان) ، بإمالة فتحة الراء وإذا وقف أتبعها الهمزة فأمالها مع جعلها بين بين على أصله فتصير بين ألفين ممالتين الأولى أميلت لإمالة فتحة الراء والثانية أميلت لإمالة فتحة الهمزة ألا ترى كيف عبر عن إمالة الألفين بإمالة ما قبلهما مجازا وجعلهما أصلين في ذلك والحق عكس ذلك وهو أن ما قبل
الألفين أميلا لإمالة الألفين تبعا لهما والتعبير بذلك في الراء أقرب منه في الهمزة لأن الراء في الجملة قد أميلت حيث لا ألف مجاورة لها كما يأتي في باب ترقيق الراءات في (رءا القمر) ، في الوصل وبه قرأ حمزة أمال الراء والألف بعدها وقد تجوز الناظم أيضا بهذه العبارة فيه هنا عن إمالة الألف الذي بعد الراء بإمالة الراء فقال وراء تراءا فاز أي إضجاعها أو فاء بالإمالة وعبر في سورة الأنعام في نحو (رءا كوكبا)-(ورأى القمر) ، عن إمالة الألف بإمالة الهمزة فقال وفي همزه حسن وقال وقل في الهمز خلف مع أن الهمز لو تجرد عن الألف لم تقع فيه إمالة أبدا وإنما أماله من أمال في الوصل في (رءا القمر) ، نظرا إلى الأصل ولم يعتد بعارض حذف الألف للساكن وسيأتي الكلام في نحو هذا في آخر هذا الباب ولما لم يكن هذا المذهب في قراءة حمزة في (رءا القمر) ، بل اقتصر على إمالة الراء فعل مثل ذلك في (تراءا الجمعان) ، في الوصل فأمال الراء دون الهمزة وأما (أعمى) ، الأول في سورة الإسراء فأماله أبو عمرو موافقا لصحبة وخالفهم في الثاني كما سبق إما جمعا بين اللغتين وإما لفرق ذكروه وهو أن الثاني عنده أفعل التفضيل فكأن ألفه لم يقع طرفا لافتقاره إلى من المقدرة وصاغ ذلك لأنه من العمى المجازي وهو عمي القلب دون الحقيقي الذي هو عمى العين فلهذا بنى أفعل منه أي من كان جاهلا للحق في الدنيا فهو في الآخرة أجهل وأضل ومن أمالهما أو فتحهما سوى بينهما وإن اختلفا في المعنى لأن الألف فيهما عن ياء ولهم أن يقولوا ليس الثاني أفعل تفضيل بل هو اسم فاعل من العمى كالأول أي من كان أعمى في الدنيا عن الحق فهو أعمى أيضا في الآخرة وعند هذا يجوز أن يكون من العمى المجازي كالأول ويجوز أن يكون حقيقة كما في قوله تعالى في طه (ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) فهذا دليل على أنه عمى العين إذ كان بصيرا بها قبل ذلك ولم يكن المذكور بصيرا
بقلبه وقال سبحانه في آخر سورة الإسراء (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) ، فقول الناظم أولا ليس برمز وإنما هو بيان لموضع أعمى فهو من تتمة بيان الحرف المختلف فيه وهو حال من أعمى أي وإمالة أعمى أولا في الإسراء حكم صحبة فهو من القبيل الذي جاء الرمز فيه متوسطا في أثناء التقييد كما نبهنا عليه في شرح الخطبة مثل قوله دار واقصر مع مضعفة وقد فصل الناظم بمسئلة تراءا بين لفظي أعمى في الإسراء ولو اتصلا لكان أولى فيقول ، (واعمى في الاسرا أو لا حكم صحبة وراء تراءا بالإمالة فصلا) ، فيجئ الرمز لأعمى بعد كمال قيده بقوله أولا ولولا أن همزة تراءا لا تمال إلا في الوقف لقلت وراء تراءا فاز والهمز شمللا والله أعلم
(311)
وَمَا بَعْدَ رَاءٍ (شَـ)ـاعَ (حُـ)ـكْمًا وَحَفْصُهُمْ يُوَالِي بِمَجْرَاهَا وَفي هُودَ أُنْزِلاَ
حكما تمييز أي ما وقع من الألفات بعد راء فقل شاع حكمه في الإمالة وذلك لما ذكرته من مجاورتها للراء قال الكسائي للعرب في كسر الراء رأي ليس لها في غيره وروى عن أبي عمرو أنه قال أدركت أصحاب ابن مجاهد وهم لا يكسرون شيئا من القرآن إلا نحو (وما أدراك-و-أفترى-وترى) ، أي أمال ذلك حمزة والكسائي وأبو عمرو ومثاله (ذكرى-و-اشترى-و-النصارى-و-القمر) ، وتابعهم حفص في إمالة (مجريها) ، في سورة هود ولم يمل غيره وهو وحمزة والكسائي يقرءونها بفتح الميم كما يأتي في السورة وغيرهم بالضم وأما إمالة ألف مرساها فلحمزة والكسائي على أصلهما لأنها عن ياء ولم تجاور راء وقوله يوالي أي يتابع ووجه الكلام وحفص يواليهم فنقل الضمير من يوالي إلى حفص فقال وحفصهم يوالي والكل صواب وجعل في هذا البيت الإمالة لما بعد الراء وهو الألف على ما ذكرنا أن هذا هو الحق في التعبير عن ذلك وإمالة الراء قبل الألف تبع لها وما ذكره في إمالة (تراءا) ، مجاز والله أعلم
(312)
نَأَى (شَـ)ـرْعُ يُـ(مْنٍ) بِاخْتِلاَفٍ وَشُعْبَةٌ في الاِسْرَا وَهُمْ وَالنُّونُ (ضَـ)ـوْءُ (سَـ)ـنًا (تـ)ـلاَ
أي إمالة ألف-نأى-شرع يمن لأنها عن ياء والمشهور عن السوسي الفتح ووافقهم شعبة على إمالتها في سورة الإسراء دون فصلت فلهذا قال وهم أي وهم وشعبة أمالوا التي في سبحان وإنما احتاج إلى قوله وهم لما ذكرناه في قوله رمى صحبة ولم يقل شعبة ثم قال والنون يعني إمالة النون من نأى أمالها خلف والكسائي لأجل إمالة ما بعدها وهو سبب من أسباب الإمالة وأسباب الإمالة التي يذكرها أهل العربية هي انقلاب الألف عن الياء أو عن كسرة أو مجاورتها لواحدة منها أو لإمالة ولم يأت ذلك للقراء في غير هذا الحرف فلم يقرأ (هدى-ولا-رمى-ولا-نهار) ، ولا نحو ذلك في هذه الطرق المشهورة وقوله والنون مبتدأ وضوء سنا خبره أي وإمالة النون ضوء أي ذات ضوء أي لها وجه ظاهر مضيء وأضافه إلى السنا ومعناه الضوء لاختلاف اللفظين نحو ، (كجلمود صخر خطه السيل من عل ) ، وتلا خبر بعد خبر ومعناه تبع أي أميل تبعا لما بعده لا بطريق الأصالة ويجوز نصب ضوء سنا بقوله تلا ويكون تلا وحده خبر المبتدأ والثناء على هذا لإمالة ما بعد النون والله أعلم
(313)
إِنَاهُ (لَـ)ـهُ (شَـ)ـافٍ وَقُلْ أَوْ كِلاَهُمَا (شَـ)ـفَا وَلِكَسْرٍ أَوْ لِيَاءٍ تَميَّلاَ
أي لإمالته دليل شاف وهو أن ألفه منقلبة عن ياء من أنى يأتى بمعنى آن يئين آي حان يحين ومنه قول الشاعر فجمع بين اللغتين ، (ألما يئن لي أن تقضي عمايتي وأعرض عن ليلى بلى قد أناليا) ، وقال الله تعالى (ألم يأن للذين آمنوا) ، وأصل أنا أنى تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فقال أنا الطعام يأنى إناء إذا بلغ حال النضج فمعنى قوله تعالى غير ناظرين إناه أي غير متحينين وقت نضجه وإدراكه فأمال ألف إناه هشام مع حمزة والكسائي وأما كلاهما في سبحان فوجه إمالة ألفه كسرة الكاف إن قلنا إن الألف منقلبة عن واو ولا يضرنا حجز اللام بينهما كما أمالت العرب عماد وإن قلنا ألفه عن ياء فظاهر فلهذا قال ولكسر أولياء تميلا وقياس هذا أن تمال كلتا إذا وقف عليها من قوله (كلتا الجنتين) ، ولأنها على وزن فعلى عند قوم قال الداني في كتاب الإمالة يجوز إمالتها مشبعة وغير مشبعة في مذهب من تقدم وعامة القراء وأهل الأداء على القول الأول يعني عدم الإمالة والله أعلم ، وذكر مكي أيضا فيها الوجهين وإنما احتاج الناظم إلى ذكر الإمالة في كلمة كلاهما خوفا من عدم دخولها في قاعدة ذوات الياء على قولنا إنها من ذوات الواو ولم ترسم بالياء فنص عليها لذلك وإلا فلم يوافق حمزة والكسائي على إمالتها غيرهما ولم يذكر من قوله رمى صحبة إلى هاهنا إلا المواضع التي وافقهما على الإمالة فيها غيرهما مما لو تركه لا ندرج فيما سبق وأما (راء تراءا) ، فلا اندراج لها فيما تقدم فنص عليها لحمزة وحده والله أعلم
(314)
وَذُوا الرَّاءِ وَرْشٌ بَيْنَ بَيْنَ وَفي أَرَاكَهُمْ وَذَوَاتِ الْيَالَهُ الْخُلْفُ جُمِّلاَ
شرع يبين مذهب ورش عن نافع وجميع إمالته في القرآن بين بين إلا الهاء من (طه) ، فإنها إمالة محضة على ما سيأتي في أول سورة يونس وصفة إمالة بين بين أن يكون بين لفظي الفتح والإمالة المحضة كما تقول في همزة بين يبن إنها بين لفظي الهمز وحرف المد فلا هي همزة ولا حرف مد ، فكذا هنا لا هي فتح ولا إمالة وأكثر الناس ممن سمعنا قراءتهم أو بلغنا عنهم يلفظون بها على لفظ الإمالة المحضة ويجعلون الفرق بين المحضة وبين بين رفع الصوت بالمحضة وخفضه بين بين وهذا خطأ ظاهر فلا أثر لرفع الصوت وخفضه في ذلك ما دامت الحقيقة واحدة وإنما الغرض تمييز حقيقة المحضة من حقيقة بين بين وهو ما ذكرناه فلفظ الصوت بين بين يظهر على صورة اللفظ بترقيق الراآت وقد أطلق العلماء على ترقيق الراآت لفظ بين بين فدل على ما ذكرناه وإن كان الأمر في اتضاحه لا يحتاج إلى شاهد ، قال صاحب التيسير اعلم أن ورشا كان يميل فتحة الراء قليلا بين اللفظين ، وقال في باب الإمالة وقرأ ورش جميع ذلك بين اللفظين فعبر في البابين بعبارة واحدة فدل على اتحاد الحقيقة فيهما وكذا ذكر في كتاب الإمالة هو وأبو الطيب ابن غلبون قبله ، ومعنى قوله وذو الراء ورش أي يقرؤه ورش بين بين ، ومعنى قولهم بين بين وبين اللفظين واحد ، واللفظان هما الفتح والإمالة أي بين هذا وبين هذا وهو معنى قول مكي هو صوت بين صوتين وحكى ابن مهران عن خلف قال سمعت الفراء النحوي يحيى ابن زياد يقول أفرط عاصم في الفتح وأفرط حمزة في الكسر ، قال وأحب إلى أن تكون القراءة بين ذلك ، قال خلف فقلت له ومن يطيق هذا قال كذلك ينبغي أن تكون القراءة بين الفتح والكسر مثل قراءة أبي عمرو رحمه الله وإنما يترك ذلك من يتركه لما لا يقدر عليه لأنه أمر صعب شديد ، قلت صدق ولصعوبته غلب على ألسنة الناس جعله كالإمالة المحضة وفرقوا بينهما برفع الصوت وخفضه وهو خطأ وأسهل ما يظهر فيه إمالة بين بين الراء فهو في نحو (ذكرى) ، أشد
بيانا فافهم ذلك وابن عليه ، وعنى الناظم بقوله وذو الراء ما كانت الألف الممالة المتطرفة فيه بعد الراء نحو (قد نرى-و-القرى) ، وهو الذي وافق أبو عمرو وحمزة والكسائي في إمالته في قوله وما بعد راء شاع حكما ولا يدخل في ذلك ما بعد راء (تراءا الجمعان) ، فإنها ليست بمتطرفة ولكنها واردة على إطلاقه فإنه لم يقيدها بالألف المتطرفة كما لم يقيد ألفات ذوات الياء في أول الباب وأما قوله تعالى (ولو أراكهم كثيرا) ، فعن ورش فيه وجهان الفتح وبين بين والفتح رواية المصريين لبعد الألف عن الطرف لكثرة الحروف المتصلة بها بعدها والوجهان جاريان له في ذوات الياء والصحيح وجه بين بين وعليه الأكثر ، قال في التيسير وهو الذي لا يوجد نص بخلافه عنه وقال في موضع آخر وهو الصحيح الذي يؤخذ به رواية وتلاوة ، وليس يريد الناظم بقوله ذوات الياء تخصيص الحكم بالألفات المنقلبات عن الياء فإن إمالة ورش أعم من ذلك فالأولى حمله على ذلك وعلى المرسوم بالياء مطلقا مما أماله حمزة والكسائي أو تفرد به الكسائي أو الدوري عنه أو زاد مع حمزة والكسائي في إمالته غيرهما نحو (رمى-و-أعمى-و-نأى-و-إناه) ، ودخل في ذلك ما فيه ألف التأنيث من فعلى وفعالى كيف تحركت الفاء وكذلك (ألى-و-متى-و-عسى-و-بلى) ، وكل ثلاثي زائد كـ (أزكى-و-تدعى-وكذا-خطايا-ومزجاة-وتقاة-وحق تقاته-والرءيا-كيف أتت-و-مثواي-و-محياي-و-هداي) ، وقد نص على ذلك كله أبو عمرو الداني في كتاب الإمالة مفرقا في أبوابه وكشفت الأبواب التي فيه ذوات الواو مما جازت إمالته لحمزة والكسائي أو الكسائي وحده فوجدته لم يذكر لورش بين بين في (مشكاة-ولا-مرضاة-ولا-كلاهما-وأما-تلاها-و-دحاها-و- طحاها ، فساقها في باب فعل المعتل اللام نحو (أتي-و-سعى-و-قضى-و-سجى) ، وقال في آخره وقرأ نافع الباب كله على نحو ما تقدم من الاختلاف عنه في ذوات الياء وأقرأني ابن غلبون لورش بفتح جميع ذلك إلا ما وقع منه رأس آية في سورة
أواخر آيها على ياء وليس بعد الياء كناية مؤنث فإنه بين اللفظين ، قلت فخرج من مذهب ابن غلبون أن ورشا يميل (سجى) ، في سورة والضحى لأنه رأس آية وليس في آخرها هاء ولا يميل (دحاها)و(تلاها)و(طحاها) ، ويميل الجميع على الرواية الأولى وسنوضح ذلك أيضا في البيت الآتي وأما ما كسر أوله أو ضم من ذوات الواو وهو الذي اتفق حمزة والكسائي على إمالته وهو (ضحاها-و-الضحى-و-الربا-و-القوى) ، ففيه نظر فإن الداني جمع في باب واحد من كتاب الإمالة ذكر الأسماء المقصورة في القرآن سواء انفتح أولها نحو (الهوى-و-فتاها) ، أو انكسر نحو (الربا-والزنا) ، أو انضم نحو (الهدى-والضحى-والقوى) ، وقال في آخره وقرأ نافع جميع ذلك على ما تقدم من الاختلاف عنه في باب فعل ، واقرأني ابن غلبون لورش ما كان من ذلك فيه راء أو وقع رأس آية ولم يتصل بها ضمير مؤنث بين اللفظين وما عدا ذلك بإخلاص الفتح ، قلت فحصل لنا من ظاهر مجموع ذلك أن رءوس الآى مما لا هاء فيه تمال بلا خلاف ، (كالضحى-و-القوى) ، وما فيه الهاء من رءوس الآى كالذي لا هاء فيه من غير رءوس الآى ففيه الوجهان كـ (ضحاها-و-تلاها-وجلاها-و-بناها) ، واستخراج ذلك من كتاب التيسير مشكل فإنه ذكر ذوات الياء ثم قال وقرأ ورش جميع ذلك بين اللفظين إلا ما كان من ذلك في سورة أواخر آيها على هاء فإنه أخلص الفتح فيه على خلاف بين أهل الأداء في ذلك ، هذا ما لم يكن في ذلك راء يعني فإنه يميله بلا خلاف بين بين نحو (ذكراها-كما يميل-ذكرى) ، في غير رءوس الآى وهو داخل في قوله وذو الراء ورش بين بين ثم ذكر صاحب التيسير ما تفرد الكسائي بإمالته وفيه أربع كلمات من ذوات الواو (سجى-و-دحاها-و-تلاها-و-طحاها-وفيه-مرضاة) ، وذكر في الفصل بعينه ما اتفقا عليه من إمالة (الضحى-و-الربا-و-كلاهما) ، ثم قال وقد تقدم مذهب ورش في ذوات الياء وهذه العبارة تحتمل معنيين ، أحدهما أن يريد أنه فعل في هذا الفصل ما فعله في ذوات
الياء فيلزم من ذلك أنه يميل (مرضاة-و-كلاهما-كما يميل-الربا-و-الضحى-و-سجى-و-دحاها) ، ولم أره في كتاب الإمالة ذكر لورش إمالة فيهما ، والثاني أن يريد أنه أمال من هذا الفصل ما كان من ذوات الياء كما تقدم فيلزم من ذلك أن لا يميل ذوات الواو في رءوس الآى ولا الربا وقد ذكرنا عبارته من كتاب الإمالة وهي تقتضي إمالة ذلك ثم ذكر صاحب التيسير ما انفرد الدوري بإمالته ثم قال وفتح الباقون ذلك كله إلا قوله عز وجل (رءياك) ، فإن أبا عمرو وورشا يقرآنه بين بين على أصلهما ولم يستثن (مثواي-ولا-محياي-و-هداي) ، وهي ممالة لورش بين بين لأنها من ذوات الياء فأعمل على ما ذكره في كتاب الإمالة فإنه بين فيه مذهب ورش في كل فصل وباب وحرف وأما (الدنيا-و-العليا) ، فممالان إذ أنهما من باب فعلى إلا أنهما من ذوات الواو ولم يرسما بالياء فلا يمكن إدخالهما في قوله وذوات اليا فإنهما ليسا من ذوات الياء أصلا ولا رسما وإنما هما منها إلحاقا فإن ألفهما ألف تأنيث ترجع ياء في التثنية والجمع والله أعلم ، فهذا البيت والذي بعده من مشكلات هذه القصيدة واستخراج مذهب ورش منهما صعب لا سيما إذا أريد ضبط مواضع الوفاق والخلاف وقد تحيلنا في إدخال كثير مما أماله في قوله ذوات اليا باعتبار الأصل والرسم والإلحاق وأما كل ما أماله من ذوات الواو فهو رأس آية سيأتي بيانه وشرحه في البيت الآتي إلا لفظ (الربا) ، فإنه ليس برأس آية وفي إمالته نظر عن ورش على ما دل عليه كلام الداني في كتاب الإمالة ولكنه نص في كتاب إيجاز البيان على أن جميع ما كان من ذوات الواو في الأسماء والأفعال نحو (الصفا-و-الربا-و-عصاي-و-سنا برقه-و-شفا جرف-و-مرضاة الله-و-خلا-و-عفا-و-دعا-و-بدا-و-دنا-و-علا-و-ما زكى) ، فورش يخلص الفتح في جميعه إلا ما وقع آخر آية نحو (الضحى-و-سجى-وكذا-(وأن يحشر الناس ضحى) ، عند الوقف والله أعلم
(315)
وَلكِنْ رُءُوسُ الآيِ قَدْ قَلَّ فَتْحُهَا لَهُ غَيْرَ مَاهَا فِيهِ فَاحْضُرْ مُكَمَّلاَ
يعني أن رءوس الآى لا يجري فيها الخلاف المذكور بل قراءته لها على وجه واحد وهو بين اللفظين وعبر عن ذلك بقوله قد قل فتحها يعني أنه قلله بشيء من الإمالة وقد عبر عن إمالة بين بين بالتقليل في مواضع كقوله وورش جميع الباب كان مقللا والتقليل جادل فيصلا وقلل في جود وعن عثمان في الكل قللا وأراد برءوس الآى جميع ما في السور المذكورة الإحدى عشرة سواء كان من ذوات الواو أو من ذوات الياء وقد نص الداني على ذلك في كتاب إيجاز البيان وإنما لم يجيء وجه الفتح فيها إرادة أن تتفق ألفاظها ولا يختلف ما يقبل الإمالة منها وذلك أن منها ما فيه راء نحو (الثرى-و-الكبرى) ، وذاك ممال لورش بلا خلاف فأجرى الباقي مجراه ليأتي الجميع على نمط واحد ثم استثنى من ذلك ما فيه هاء أي غير ما فيه لفظ هاء نحو (ذكراها-و-بناها-و-طحاها) ، وهذا التقدير أولى من أن يقول تقديره غير ما هاء فيه أي ما فيه هاء بالمد لما يلزم في ذلك من قصر الممدود والابتداء بالنكرة من غير ضرورة إلى ذلك ولأنه يوهم أيضا استثناء ما فيه مطلق الهاء فيدخل في ذلك هاء المذكر نحو (تقواهم-و-ذكراهم) ، وإنما المراد هاء ضمير المؤنث ، قال الشيخ وهو ينقسم على ثلاثة أقسام ما لا خلاف عنه في إمالته نحو (ذكراها) ، وذلك داخل في قوله وذو الراء ورش بين بين ، ومالا خلاف عنه في فتحه نحو (ضحاها) ، وشبهه من ذوات الواو ، وما فيه الوجهان وهو ما كان من ذوات الياء ، قلت وتبع الشيخ غيره في ذلك وعندي أنه سوى بين جميع ما فيه الهاء سواء كانت ألفه عن ياء أو واو فيكون في الجميع وجهان وقد تقدم ما دل على ذلك من كلام الداني في كتاب الإمالة وقال أيضا في الكتاب المذكور اختلف الرواة وأهل الأداء عن ورش في الفواصل إذا كن على كناية المؤنث نحو آى (والشمس وضحاها) ، وبعض آى (والنازعات) ، فأقرأني ذلك أبو الحسن
عن قراءته بإخلاص الفتح وكذلك رواه عن ورش أحمد بن صالح وأقرأنيه أبو القاسم وأبو الفتح عن قراءتهما بإمالة بين بين وذلك قياس رواية أبي الأزهر وأبي يعقوب وداود عن ورش ، قلت وجه المغايرة بين ما فيه ضمير المؤنث وغيره من رءوس الآى أن الألف في (ضحاها) ، ونحوه ليست طرفا للكلمة يحصل بإمالتها مشاكلة رءوس الآى بل المشاكلة حاصلة بضمير المؤنث فلم تكن حاجة إلى إمالة الألف قبله فصارت الكلمة كغيرها مما ليس برأس آية فجرى فيها الخلاف ومن سوى في الإمالة بين (ضحاها-و-الضحى) ، قصد قوة المشاكلة بالإمالة وضمير المؤنث فتقع المشاكلة طرفا ووسطا وقوله فاحضر مكملا أي لا تغب عنه فالمذكور مكمل البيان فيكون مكملا مفعولا به أي احضر كلاما مكملا أو يكون التقدير احضر رجلا مكملا في هذا العلم يفهمك إياه أي لا تقتد ولا تقلد إلا مكمل الأوصاف كمالا شرعيا معتادا فالكمال المطلق إنما هو لله عز وجل ويجوز أن يكون مكملا نعت مصدر محذوف أو حالا أي احضر حضورا مكملا أي لا تكن حاضرا ببدنك غائبا بذهنك وخاطرك أو احضر في حال كونك مكملا أي بجملتك من القلب والقالب والله أعلم ، وإنما قال ذلك على أي معنى قصده من هذه المعاني لصعوبة ضبط مذهب ورش هنا فأشار إلى تفهمه والبحث عنه وإلقاء السمع لما يقوله الخبير به وقد تخلص من مجموع ما تقدم أن ورشا يميل بين اللفظين كل ألف بعد راء ورءوس الآى غير المؤنثة بلا خلاف وفي المؤنثة الخالية من الراء وفي كلمة (أراكهم) ، وفي ذوات الياء انقلابا أو رسما أو إلحاقا خلاف ولا يميل (مرضاة-ولا-كلا-ولا-كمشكاة-ولا-الربا) ، من مجموع ما تقدم إمالته وباقي ما تقدم لورش على التفصيل المذكور ووقع لي في ضبط ذلك بيتان فقلت ، (وذو الراء ورش بين بين وفي رءوس الآى سوى اللاتي تحصلا) ، (بها وأراكهم وذي اليا خلافهم كلا والربا مرضاة مشكاة أهملا) ، فذكر أولا ما يميله بلا خلاف ثم ما فيه وجهان ثم ما امتنعت إمالته والله أعلم
(316)
وَكَيْفَ أَتَتْ فَعْلَى وَآخِرُ آيِ مَا تَقَدَّمَ لِلبَصْرِي سِوى رَاهُمَا اعْتَلاَ
أي وأميل لأبي عمرو بين بين فعلى كيف أتت بفتح الفاء نحو تقوى-و-شتى-و-يحي-أو بكسرها نحو إحدى-و-عيسى-أو بضمها نحو الحسنى-و-موسى-وكذا أواخر الآى من السور المقدم ذكرها وعطف ذلك على قراءة ورش فعلم أنها بين اللفظين فلا يزال في ذلك إلى أن يذكر الإمالة لحمزة مثل ما أنه قال وإدغام باء الجزم وعطف عليها مسائل أخر ولم يذكر الإدغام فحملت عليه إلى أن قال ويس أظهر وعطف المسائل إلى آخر الباب وحمل الجميع على الإظهار وقوله سوى راهما اعتلا أي سوى ما وقع من بابي فعلى ورءوس الآى بالراء قبل الألف نحو (ذكرى)-(وما كنا ظالمين)-(هدى وبشرى)-(رسلنا تترى)-(وما تحت الثرى) و(مآرب أخرى)-(وقد خاب من افترى) ، فإنه يميله إمالة محضة على ما تقدم له من ذلك في قوله وما بعد راء شاع حكما فالضمير في راهما يعود على فعلى وعلى آخر آي ما تقدم وقصر لفظ الراء ضرورة كما قصر الياء من قوله وذوات الياله الخلف وفي جملا ضمير يعود على الخلف ويجوز أن تكون الألف فيه للتنبيه لأن معنى الخلف وجهان فكأنه قال وجهان جملا كما قال ذلك في باب المد والقصر وقوله اعتلا الضمير فيه عائد على الراء أي اعتلا في الإمالة أو يعود على الإضجاع أي اعتلت الإمالة فيه فكانت محضة وقد اختلف في سبعة مواضع من تلك السور أهي رأس آية أم لا فيبني مذهب أبي عمرو وورش على ذلك الأول في طه (ولقد أوحينا إلى موسى) ، عدها الشامي وحده والثاني فيها أيضا (هذا إلهكم وإله موسى) ، عدها المدني الأول والكوفي والثالث فيها أيضا (فإما يأتينكم مني هدى) ، لم يعدها الكوفي والرابع في والنجم (فأعرض عن من تولى) ، عدها الشامي والخامس في والنازعات (فأما من طغى) ، لم يعدها المدني والسادس في والليل (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) ، لم يعدها بعض أهل العدد وهو غلط والسابع في اقرأ (أرأيت الذي ينهى) ، تركها الشامي
وليس قوله (فأما من أعطى) ، في سورة والليل برأس آية وقوله تعالى (فأولى لهم)-(أولى لك فأولى) ، قيل هو أفعل وقيل هو فعلى وقوله تعالى (يوم لا يغني مولى عن مولى) ، هو مفعل وليس فعلى قال مكي ، واختلف عنه في (يحيى) ، فمذهب الشيخ أنه بين اللفظين وغيره يقول بالفتح لأنه يفعل ، قلت يعني يحيى اسم النبي عليه السلام وأما نحو (ويحيى من حي) ، فهو يفعل بلا خلاف (كيسعى-و-يخشى-ويصلى) فاعلم ذلك
(317)
وَيَا وَيْلَتَى أَنَّى وَيَا حَسْرَتى (طَ)ـوَوْا وعَنْ غَيْرِهِ قِسْهَا وَيَا أَسَفَى الْعُلاَ
يعني أن الدوري عن أبي عمرو أمال هذه الكلم الأربع بين بين وهذا الحكم منقول في التيسير وغيره عن أبي عمرو البصري نفسه لكنه قال من طريق أهل العراق وتلك طريق الدوري قال ومن طريق أهل الرقة بالفتح يعني طريق السوسي وروى عنه فتحها وروى فتح (يا أسفى) ، وإمالة الثلاثة الباقية وهذه طريق أبي الحسن ابن غلبون ووالده أبي الطيب فلهذا اختزل الناظم (يا أسفى) ، عن أخواتها وألحقها بها أرادوا يا أسفى كذلك وكأنه أشار بقوله طووا إلى ذلك أي طووه ولم يظهروه إظهار غيره فوقع فيه اختلاف كثير ثم قال وعن غير الدوري قسها على أصولهم فتميل لحمزة والكسائي لأن الجميع من ذوات الياء رسما وقد تقدم الكلام في (أنى) ، والألف في (ويلتى-و-حسرتى-و-أسفى) ، منقلبة عن ياء والأصل إضافة هذه الكلمات إلى ياء المتكلم وتميل لورش بين اللفظين على أصله في ذوات الياء بخلاف عنه وافتح للباقين وإن كان ظاهر ما في التيسير أن ورشا لا يميلها لأنه ذكر مذهب أبي عمرو ثم قال وأمال ذلك حمزة والكسائي على أصلهما وقرأه الباقون بإخلاص الفتح في جميع ما تقدم وقوله العلا صفة لهذه الكلمات أي هي العلا ولو قال ويا أسفى على لكان أحسن لأنه لفظ القرآن ، فإن قلت إنما عدل عنه لئلا يلتبس ويوهم أن على من جملة الكلمات الممالة وأن التقدير ويا أسفا وعلى ، قلت زال هذا الإلباس بنصه فيما سبق على أن على لا تمال سلمنا الإلباس لكنا نقول الإلباس أيضا واقع في قوله العلا فإنه من ألفاظ القرآن أيضا فيقال لعله أراد والعلا ولفظ العلا لا يختص الدوري بإمالته بين اللفظين بل ذلك لأبي عمرو بكماله ولورش لأنهما رأس آية ثم إنه يلتبس أيضا من وجه آخر لأنه يوهم أنه رمز لنافع في ويا أسفى وتكون الواو في يا أسفى للفصل والله أعلم
(318)
وَكَيْفَ الثُّلاَثِي غَيْرَ زَاغَتْ بِمَاضِيٍ أَمِلْ خَابَ خَافُوا طَابَ ضَاقَتْ فَتُجْمِلاَ
===========
ج3.كتاب : إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع
المؤلف:الإمام الشاطبي
أي وكيف أتى اللفظ الذي على ثلاثة أحرف من هذه الأفعال العشرة التي يأتي ذكرها بشرط أن تكون أفعالا ماضية فأملها لحمزة وكلها معتلة العين والإمالة واقعة في وسطها بخلاف ما تقدم كله فإن الإمالة كانت واقعة في الطرف وكلها من ذوات الياء إلا واحد وهو خاف أصله خوف فأميل لأجل الكسرة التي كانت في الواو ولأن الخاء قد تنكسر في نحو خفت إذا رددت للفعل إلى نفسك أو إلى مخاطبك كما تكسر أوائل أخواتها لذلك ولأن الألف قد تنقلب ياء إذا بنى الفعل لما لم يسم فاعله نحو خيف زيد (وجئ يومئذ بجهنم) ، وزيد في المال ورين على قلبه ذكر في هذا البيت أربعة من العشرة وهي خاب وخاف وطاب وضاق ومثل بالفعل المجرد في خاب وطاب والمتصل بالضمير في خافوا وبالملحق به تاء التأنيث في ضاقت واستثنى من هذا لفظا واحدا في موضعين وهو زاغت في الأحزاب وص ومعنى قوله وكيف الثلاثي أي سواء اتصل به ضمير أو لحقته تاء تأنيث أو تجرد عن ذلك أي أمله على أي حالة جاء بعد أن يكون ثلاثيا نحو (وخاف وعيد-و-خافوا عليهم-خافت من بعلها) ، واحترز بالثلاثي عن الرباعي فإنه لا يميله وهو (فأجاءها المخاض-أزاغ الله قلوبهم) لا غير ، والمراد بالثلاثي هنا أن يكون الفعل على ثلاثة أحرف أصول والرباعي ما زاد على الثلاثة همزة في أوله دون ما زاد في آخره ضمير أو علامة تأنيث فلهذا أمال نحو (خافت-ولم يمل-أزاغ الله قلوبهم) ، وإن كانت عدة الحروف في كل كلمة أربعة فإن الهمزة مقومة للفظ الفعل بخلاف التاء والواو في (خافت-و-خافوا) ، واحترز بقوله بماضي عن غير الفعل الماضي فلا يميل (يخافون ربهم-ولا-وخافون إن كنتم-ولا-تخاف-ولا-ما تشاؤون) ، ونحوه ولا يتصور الألف في مضارع باقي الأفعال العشرة بل تنقلب فيها ياء نحو يخيب يطيب واستثنى من الماضي أيضا زاغت كما مضى جمعا بين اللغتين إلا أنه في التيسير قال زاغ في النجم ، وزاغوا في الصف لا غير وكذا قال مكي وقال الداني في كتاب الإمالة أما زاغ
فجملته ثلاثة مواضع في الأحزاب (وإذ زاغت الأبصار) ، وفي النجم والصف فأما في ص (أم زاغت) وفي الصف (أزاغ الله قلوبهم) ، فلا خلاف في فتحهما واستثنى ابن شريح في الجميع ما اتصل بتاء تأنيث ولم يستثن ابن الفحام ذلك وطاب في القرآن موضع واحد (ما طاب لكم من النساء)-(وإنما لم يمل-أجاءها) ، وأزاغ تخفيفا لأن في إمالة ذلك ثقلا من جهة انحدار اللفظ بعد همزة ثم صعوده إلى مثلها وإلى حرف استعلاء فهو مشبه بنزول واد والصعود منه فاختير اتصال اللفظ على سنن واحد كما يختار السنن كذلك وإنما لم يمل (يخاف-و-يشاء) ، لان الألف في المضارع من هذين الفعلين مفتوح الأصل إذ التقدير (يخيف ويشيأ) ، ولا ينكسر أوله إذا رد الفعل إلى المتكلم والمخاطب ولا تنقلب ألفه ياء إذا بنى لما لم يسم فاعله بخلاف الماضي في هذه الوجوه كلها فلهذا أمال الماضي دون المضارع ، وقوله بماضي كسر الياء ونونها وهذا هو الأصل ولكنه متروك لا يأتي إلا في ضرورة الشعر قال جرير ، (فيوما يجازين الهوى غير ماضي ) ، ووجه الكلام ماض بحذف الياء وإبقاء التنوين على كسر الضاد في الرفع والجر ، والفاء في فتجملا رمز لحمزة ونصب الفعل بإضمار أن بعدها في جواب الأمر في قوله أمل وهو من أجمل إذا فعل الجميل ثم ذكر باقي الأفعال العشرة فقال
(319)
وَحَاقَ وَزَاغُوا جَاءَ شَاءَ وَزَارَ (فُـ)ـزْ وَجَاءَ ابْنُ ذَكْوَانٍ وَفِي شَاءَ مَيَّلاَ
فهذه خمسة أفعال وتقدم أربعة والعاشر يأتي في البيت الآتي والفاء في فز رمز حمزة أيضا ثم ذكر أن ابن ذكوان وافق حمزة في إمالة ألف جاء وشاء وزاد على ما يأتي في البيت الآتي ووجهه خلو هذه الأفعال الثلاثة من حروف الاستعلاء قبلها وبعدها بخلاف الستة الباقية فإن ثلاثة منها حرف الاستعلاء في أوائلها وهي خاب-خاف-طاب-واثنان حرف الاستعلاء في آخرهما وهما-حاق-و-زاغ-وواحد حرف الاستعلاء في أوله وآخره وهو-ضاق-وحروف الاستعلاء تمنع الإمالة إذا وليت الألف قبلها أو بعدها في الأسماء فتجنبها ابن ذكوان أيضا في الأفعال ، وقوله جاء مبتدأ وابن ذكوان خبره أي وجاء ممال ابن ذكوان على حذف مضاف وفي شاء ميلا أي وأوقع الإمالة في شاء ولو قال وجاء وفي شاء ابن ذكوان ميلا لكان جاء مفعول ميل ومن لا يعرف مقاصد هذا الكتاب يعرب جاء ابن ذكوان فعلا وفاعلا ثم ذكر الفعل الثالث الذي أماله فقال
(320)
فَزَادَهُمُ الأُولَى وَفِي الْغَيْرِ خُلْفُهُ وَقُلْ (صُحْبَةٌ) بَلْ رَانَ وَاصْحَبْ مُعَدَّلاَ
يعني أول ما في القرآن من كلمة زاد وهي قوله تعالى في أول البقرة (فزادهم الله مرضا) ، هذه يميلها ابن ذكوان بلا خلاف وفي غير هذا الموضع له في إمالة لفظ زاد كيف أتى خلاف ولا يقع في القرآن إلا متصلا بالضمير إلا أنه على وجوه نحو (فزادتهم رجسا إلى رجسهم-وزادكم في الخلق بسطة-فزادوهم رهقا) ، وقول الناظم فزادهم إما أن يكون معطوفا على ما قبله وحذف حرف العطف فإن حذفه لضرورة الشعر جائز إذا دل عليه دليل وإما أنه مبتدأ وخبره محذوف أي فزادهم الأولى كذلك أي أماله ابن ذكوان وأما الفعل العاشر فقوله سبحانه (بل ران على قلوبهم) ، وافق حمزة الكسائي على إمالته وأبو بكر عن عاصم ولم يملها ابن ذكوان لأن الراء غير المكسورة إذا وليت الألف كان لها حكم حروف الاستعلاء وقوله واصحب معدلا مثل قوله فيما سبق فاحضر مكملا على قولنا أن المعنى رجلا مكملا كأنه لمح من لفظ صحبة ما يختار في نفس الصحبة فحث عليه رحمه الله
(321)
وَفِي أَلِفَاتٍ قَبْلَ رَا طَرَفٍ أَتَتْ بِكَسْر أَمِلْ (تُـ)ـدْعى (حَـ)ـمِيداً وَتُقْبَلاَ
وهذا نوع آخر من الممالات وهي كل ألف متوسطة قبل راء مكسورة تلك الراء طرف الكلمة احترازا من نحو (نمارق-فلا تمار فيهم) ، لأن الراء فيهما عين الكلمة أما في-نمارق-فظاهر وأما في-فلا تمار-فلأن لام الفعل ياء وحذفت للجزم واشترط صاحب التيسير ومكي وابن شريح في الراء أن تكون لام الفعل وهو منتقض بالحواريين فإن الراء فيهما لام الكلمة ولا تمال الألف قبلها فإن ياء النسبة حلت محل الطرف فأزالت الراء عن الطرف بخلاف الضمائر المتصلة في نحو أبصارهم فإنها منفصلة تقديرا باعتبار مدلولها فلم تخرج الراء عن كونها طرف كلمة أيضا وأما الياء في حواري فأزالت الراء عين الطرف ولهذا انتقل الإعراب إلى ياء النسبة وحرف الإعراب من كل معرب آخره والمسوغ للإمالة في هذه الألف كسرة الراء بعدها ، وقوله وفي ألفات مفعول أمل أي أوقع الإمالة فيها وقوله تدعى مجزوم تقديرا لأنه جواب الأمر وإنما أجراه مجرى الصحيح فلم يحذف ألفه كما قرئ (إنه من يتق ويصبر) ، بإثبات الياء كما يأتي ونصب وتقبلا لأنه فعل مضارع بعد الواو في جواب الأمر كما تقول زرني وأكرمك وليس بمعطوف على تدعى بل على مصدره وسيأتي نظير هذا في قوله تعالى (ويعلم الذين) ، بالنصب في سورة الشورى وقد استعمل الناظم هذه العبارة أيضا في سورة الرحمن عز وجل فقال (يطمث) ، في الأولى ضم تهدى وتقبلا وقال الشيخ وغيره أراد وتقبلن أي ولتقبلن ثم حذف اللام وأبدل من النون ألفا
(322)
كَأَبْصَارِهِمْ وَالدَّارِ ثُمَّ الْحِمَارِ مَعْ حِمَارِكَ وَالْكُفَّارِ وَاقْتَسْ لِتَنْضُلاَ
مثل هذا النوع بأمثلة متعددة خاليا من الضمير ومتصلا به غائبا ومخاطبا وهو يأتي في القرآن على عشرة أوزان ذكر الناظم منها أربعة أفعال وفعل وفعال وفعال وبقي ستة فعال نحو كفار وسحار وفعال نحو نهار وبوار وفعال نحو دينار أصله دنار فأبدلت النون الأولى ياء وفعلال وهو قنطار ومفعال وهو بمقدار وإفعال وهو إبكار واقتس أي قس على ما ذكرته ما لم أذكره فهو مثل قرأ واقترأ وقوله لتنضلا أي لتغلب يقال ناضلهم فنضلهم إذا رماهم فغلبهم في الرمي ويلزم أن يكون من هذا الباب (من أنصاري إلى الله) ، وهو الذي انفرد الدوري بإمالته كما يأتي فإن الراء طرف والياء ضمير كالضمير في (أبصارهم-و-حمارك)
(323)
وَمَعْ كَافِرِينَ الْكافِرِينَ بِيَائِهِ وَهَارٍ (رَ)وَى (مُـ)ـرْوٍ بِخُلْفٍ (صَـ)ـدٍ (حَـ)ـلاَ
أي وأمالا الكافرين مع كافرين يعني معرفا ومنكرا وبيائه في موضع الحال أي أمالا هذا اللفظ في هذه الحالة وهي كونه بالياء التي هي علامة النصب والجر احترز بذلك عن المرفوع نحو كافرون والكافرون فإن ذلك لا يمال لأن الراء غير مكسورة ولا يميلان أيضا ما هو على وزن كافرين بالياء نحو صابرين-وقادرين-و-بخارجين-و-الغارمين-وأما-هار-من قوله تعالى (على شفا جرف هار) ، فأصله هاور أو هاير من هار يهور ويهير ثم قدمت اللام إلى موضع العين وأخرت العين إلى موضع اللام وفعل فيه ما فعل بقاض فالراء على ما استقر عليه الأمر آخرا ليست بطرف وبالنظر إلى الأصل هي طرف ولكن على هذا التقرير لا تكون الألف تلي الراء التي هي طرف بل بينهما حرف مقدر فصار مثل كافرين بين الألف والراء حرف محقق وقوله مرو هو اسم فاعل من أروى غيره وهو فاعل روى أي نقل رجل عالم معلم وصد نعته ومعناه العطشان أي هو مرو لغيره بالعلم صد إلى تعلم ما لم يعلم كقوله صلى الله عليه وسلم منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا ، أو يكون صد مفعولا ولم ينصبه ضرورة أي أمال هار الكسائي بكماله وابن ذكوان بخلاف عنه وأبو بكر وأبو عمرو فإن قلت يظهر من نظم هذا البيت أن الذين أمالوا هار أمالوا كافرين لأنه قال ومع كافرين ولا مانع من أن تكون الواو في ومع فاصلة بعد واو واقتس وإذا كان الأمر كذلك ولم يذكر بعده من أماله فيظهر أن قوله وهار عطف عليه والرمز بعده لهما فيكون كقوله في آل عمران (سنكتب) ، ياء ضم البيت ذكر فيه ثلاث قراءات في ثلاث كلمات ثم رمز لهن رمزا واحدا قلت لا مانع من توهم ذلك ويقويه أن كافرين وهار كلاهما ليس داخلا في الضابط المقدم لأبي عمرو والدوري على ما شرحناه فإنه فصل بين الألف والراء الفاء في كافرين وفي هار حرف مقدر إما واو وإما ياء وعلى الوجه الآخر لا تكون الراء طرفا وإذا خرجا من ذلك الباب قوى الوهم في أن من أمال أحدهما أمال الآخر ولو كان أسقط الواو من
ومع وقال مع الكافرين كافرين لزال الوهم أي أمالا هذا مع الكافرين ولو قال كذا كافرين الكافرين لحصل الغرض والله أعلم
(324)
(بَـ)ـدَارِ وَجَبَّارِينَ وَالْجَارِ (تَـ)ـمَّمُوا وَوَرْشٌ جَمِيعَ الْبَابِ كَانَ مُقَلِّلاَ
بدار رمز قالون لأنه من جملة من أمال هار ومعناه بادر مثل قولهم نزال أي انزل أي بادر إلى أخذه ومعرفته وأمال الدوري وحده جبارين في المائدة والشعراء والجار في موضعين في النساء والشعراء فتمموا الباب بإمالة هذين له وورش قلل جميع هذا الباب أي أماله بين اللفظين من قوله وفي ألفات قبل را طرف إلى هنا والله أعلم
(325)
وَهذَانِ عَنْهُ بِاخْتِلاَفٍ وَمَعَهُ في الْبَوَارِ وَفي الْقَهَّارِ حَمْزَةُ قَلَّلاَ
يعني جبارين والجار عن ورش خلاف في تقليلهما ووافق حمزة ورشا في تقليل-البوار-والقهار-فقط والله أعلم
(326)
وَإِضْجَاعُ ذِي رَاءَيْنِ (حَـ)ـجَّ (رُ)وَاتُه كَالأَبْرَارِ وَالتَّقْلِيلُ (جَ)ـادَلَ (فَـ)ـيْصَلاَ
الإضجاع الإمالة وحج رواته رمز ومعناه غلبوا في الحجة أي إضجاع ذي راءين مما ذكرناه أي تكون الألف قبل راء مكسورة طرف ومثاله (من الأشرار-ودار القرار-وكتاب الأبرار-فقوله-إن الأبرار) ، لا يمال لأن الراء مفتوحة كما لا يمال-خلق الليل والنهار-وفيصلا حال من الضمير في جادل العائد على التقليل لأن التقليل متوسط بين الفتح والإمالة أي أمال ذلك أبو عمرو والكسائي بكماله وقرأه ورش وحمزة بين اللفظين والله أعلم
(327)
وَإِضْجَاعُ أَنْصَارِي (تَـ)ـمِيمٌ وَسَارِعُوا نُسَارِعُ وَالْبَارِي وَبَارِئِكُمْ (تَـ)ـلاَ
يريد قوله تعالى (من أنصاري إلى الله) ، في آل عمران والصف-وسارعوا إلى مغفرة- نسارع لهم في الخيرات-والبارئ-في الحشر-وبارئكم-في موضعين في البقرة انفرد بإمالة ما في هذا البيت والذي بعده الدوري عن الكسائي والتاء في تميم وتلا رمز كل واحد منهما رمز لما سبقه من الألفاظ وكذا آخر البيت الآتي وأشار بقوله تميم إلى أن الإمالة هي لغة تميم على ما سبق نقله في أول الباب وهو على حذف مضاف أي الإضجاع لغة تميم ولو قال واضجع (أنصاري) ، تميم لكان حسنا ولم يحتج إلى حذف مضاف والضمير في تلا فاعل يعود إلى المقصود بقوله تميم وهو القارئ كما قال في البيت الآتي عنه ويجوز أن يريد تبع هذا المذكور ما قبله في الإمالة ووجه إمالة الألف في هذه المواضع ما بعدها من الكسر على الراء مع أن الراء ظرف في أنصاري ولو لم يذكر هاهنا مع ما اختص بالدوري لكانت واجبة الإمالة في مذهب أبي عمرو أيضا على القاعدة السابقة
(328)
وَآذَانِهِمْ طُغْيَانِهِمْ وَيُسَارِعُونَ آذَانِنَا عَنْهُ الْجَوَارِي (تَـ)ـمَثَّلاَ
وجميع في هذا البيت انفرد بإمالته الدوري عن الكسائي والضمير في عنه له والتاء في تمثلا رمزه لأجل لفظ الجواري وقيل الرمز هو قوله تميم وما ذكرناه واضح وإنما أميلت هذه الألفاظ الخمسة للكسر المجاور للألف بعدها مع كون الكسرة على راء في-يسارعون-و-الجوار-ومع زيادة-في طغيانهم-وهي مجاورة الياء للألف من قبلها-وآذانهم-في القرآن في سبعة مواضع في البقرة والأنعام وسبحان والكهف في موضعين وفصلت ونوح-و-طغيانهم-في خمس سور في البقرة والأنعام والأعراف ويونس والمؤمنون ولا يمال طغيانا كبيرا إلا في رواية شاذة عن الكسائي ويسارعون في سبعة مواضع في آل عمران موضعان وفي المائدة ثلاثة وفي الأنبياء والمؤمنون-و-آذاننا-في فصلت فقط والجوار في ثلاث سور في حم عسق والرحمن وكورت وصواب قراءته في النظم بغير ياء لأن قراءة من أمالها كذلك في حم عسق وأجمعوا على حذفها في الرحمن وكورت للساكن بعدها ثم ذكر ما اختلف فيه عن الدوري فقال
(329)
يُوَارِي أُوَارِي فِي العُقُودِ بِخُلْفِهِ ضِعَافًا وَحَرْفَا النَّمْلِ آتِيكَ (قَـ)ـوَّلاَ
العقود هي سورة المائدة يريد قوله تعالى (كيف يواري)-(فأواري سوأة أخي) ، ولم يذكر صاحب التيسير فيهما إمالة وقال في كتاب الإمالة اجتمعت القراءة على إخلاص الفتح فيهما إلا ما حدثنا به عبد العزيز بن جعفر بن محمد هو ابن أبي غسان الفارسي قال حدثنا أبو طاهر بن أبي هاشم قال قرأت على أبي عثمان الضرير عن أبي عمرو عن الكسائي (يواري-فأواري) ، بالإمالة قال وقرأت على أبي بكر بالفتح ولم ترو الإمالة عن غيره قال أبو عمرو وقياس ذلك الموضع الذي في الأعراف وهو قوله (يواري سوءاتكم) ، ولم يذكره ثم ذكر ضعافا من قوله تعالى في النساء (ذرية ضعافا) ، فوجه إمالة ألفها كسرة الضاد ولا اعتبار بالحاجز كما تميل العرب عمادا وفي النمل (أنا آتيك به) ، في موضعين أميلت ألف آتيك لكسرة التاء بعدها واستضعف إمالتها قوم من جهة أن أصلها همزة لأنه مضارع أتى ويمكن منع هذا ويقال هو اسم الفاعل منه كقوله تعالى (وإنهم آتيهم عذاب) ، أي أنا محضره لك فقوله ضعافا مبتدأ وحرفا النمل عطف عليه وآتيك عطف بيان له ووجه الكلام أن يقول آتيك آتيك مرتين وإنما استغنى بأحدهما عن الآخر وقولا خبر المتبدإ وما عطف عليه ونزل حرفي النمل منزلة حرف واحد لأنهما كلمة واحدة تكررت وهي آتيك وكأنه قال ضعافا وآتيك قولا فالألف في قولا للتثنية أي قيلا بالإمالة والقاف رمز خلاد ثم قال
(330)
بِخُلْفٍ (ضَـ)ـمَمْنَاهُ مَشَارِبُ (لا)مِعٌ وَآنِيَةٍ فِي هَلْ أَتَاكَ (لِـ)أَعْدِلاَ
أي الخلف عن خلاد في إمالتها والضاد في ضممناه رمز خلف أمالهما من غير خلاف ثم قال مشارب لامع وهما مبتدأ وخبر أي ظاهر واضح كالشيء اللامع أراد أن هشاما أمال (مشارب) ، في سورة يس لكسرة الراء بعدها وألف (آنية) ، في سورة الغاشية لكسرة النون بعدها وللياء التي بعد الكسرة ووزنها فاعلة وهي قوله تعالى (تسقى من عين آنية) ، أي حارة وأما (آنية) ، التي في سورة هل أتى قوله تعالى (ويطاف عليهم بآنية من فضة) ، فوزنها أفعلة لأنها جمع إناء ولم يمل ألفها أحد ولعل سببه أن ألفها بدل عن همزة فنظر إلى الأصل فلم تمل فقوله في هل أتيك أي في سورة (هل أتاك حديث الغاشية) ، احترازا من التي في (هل أتى على الإنسان) ، واللام في لأعدلا رمز لهشام أي لقارئ زائد العدل أي أماله من هذه صفته والألف للإطلاق والله أعلم
(331)
وَفِي الْكَافِرُونَ عَابِدُونَ وَعَابِدٌ وَخَلَفُهُمْ في النَّاسِ في الْجَرِّ (حُـ)ـصِّلاَ
أي في سورة الكافرون أمال هشام (ولا أنتم عابدون) في موضعين (ولا أنا عابد) ، لكسرة الباء بعد الألف واحترز بذلك من قوله تعالى (ونحن له عابدون) ، ثم قال وخلفهم أي خلف الناقلين من أهل الأداء في إمالة لفظ الناس إذا كان مجرورا نحو (جميع) ، الذي في سورة الناس فروى عن أبي عمرو الوجهان واختار الداني الإمالة في كتاب الإمالة ووجهها كسرة السين بعد الألف وقيل إن ذلك لغة أهل الحجاز قال الشيخ وكان شيخنا يعني الشاطبي رحمه الله يقرئ بالإمالة يعني لأبي عمرو من طريق الدوري وبالفتح من طريق السوسي وهو مسطور في كتب الأئمة كذلك قلت وكذلك أقرأنا شيخنا أبو الحسن ولم يذكر أبو الحسن ابن غلبون غيره ويتجه في هذا البيت من الإشكال ما اتجه فيما مضى في قوله ومع كافرين الكافرين بيائه من أنه يحتمل أن تكون الواو في قوله وفي الكافرون فاصلة وإذا كان كذلك فلم يذكر لقارئها رمزا فيكون حصلا رمزا لها وللناس وتكون الواو في وخلفهم عاطفة ولو قال وفي الكافرون عابدون وعابد له خلفهم في الناس لخلص من ذلك الإيهام ولا يحتاج إلى واو فاصلة في خلفهم لأن هذا من باب قوله سوى أحرف لا ريبة في اتصالها كما قال بعد هذا حمارك والمحراب إلى آخره ولم يأت بواو فاصلة فإن قلت فقد سنح إشكال آخر وهو أنه يحتمل أن يكون بعض ما في البيت الآتي لأبي عمرو إذا لم يأت بواو والباقي من عند الواو لابن ذكوان فمن أين يتمحض الجميع لابن ذكوان قلت من جهة استفتاحه ذلك بقوله حمارك وهو مما قد علم أن أبا عمرو يميله فدل ذلك على أنه إنما ساقه مع ما عطف عليه لغير أبي عمرو فينتظر من يرمز له وليس إلا قوله مثلا والله أعلم
(332)
حِمَارِكَ وَالمِحْرَابِ إِكْرَاهِهِنَّ وَالْحِمَارِ وَفي الإِكْرَامِ عِمْرَانَ مُثِّلاَ
أي أمال ابن ذكوان جميع ما في هذا البيت (حمارك-في البقرة-و-الحمار) ، في الجمعة والمحراب ، وعمران حيث وقعا و-إكراههن-في النور-والإكرام-في موضعين في سورة الرحمن عز وجل ووجهه كسرة أوائل الجميع وما بعد الألف غير عمران والمحراب المنصوب ووافق في حمارك والحمار مذهب أبي عمرو والدوري عن الكسائي في ذلك فإن قلت فماله لم يذكرهما معه عندما ذكر حمارك والحمار كما أعاد ذكر حمزة والكسائي مع من وافقهما في إمالة-رمى-و-نأى-و-إناه ، قلت لأنه نص على الحمار وحمارك في إمالة أبي عمرو والدوري في قوله كأبصارهم والدار ثم الحمار مع حمارك فلم يضره بعد ذلك أن يذكر مذهب ابن ذكوان وحده ومثل ذلك قوله فيما مضى وجاء ابن ذكوان وفي شاء ميلا وإن كان حمزة يقرأ كذلك لأنه قد تقدم ذكره له معينا بخلاف-رمى-و-نأى-و-إناه-فإنه لم يتقدم النص عليها معينة وإنما اندرجت في قاعدة ذوات الياء فلو لم يعد ذكر حمزة والكسائي لظن أن ذلك مستنثى من الأصل المقدم كما تفرد الكسائي بإمالة مواضع من ذلك والله أعلم
(333)
وَكُلٌّ بِخُلْفٍ لاِبْنِ ذَكْوَانَ غَيْرَ مَا يُجَرُّ مِنَ الْمِحْرَابِ فَاعْلَمْ لِتَعْمَلاَ
أي كل هذه الألفاظ الستة في إمالتها لابن ذكوان خلاف إلا المحراب المجرور فلم يختلف عنه إمالته وهو موضعان في آل عمران ومريم فتفردا ابن ذكوان بإمالة هذه الكلم الأربع-المحراب-و-إكراههن-والإكرام-وعمران وباقي القراء على فتحها إلا ورشا فإنه يقرؤها بين اللفظين إلا عمران وهو المعبر عنه بترقيق الراء على ما يأتي في بابه ويتضح لك الفرق بين الإمالة وبين اللفظين بقراءة ورش وابن ذكوان في هذه الكلمات وهو عين ما نبهنا عليه في شرح قوله وذو الراء ورش بين بين وأكثر الناس يجهلون ذلك والله أعلم
(334)
وَلاَ يَمْنَعُ الإِسْكَانُ فِي الْوَقْفِ عَارِضًا إِمَالَةَ مَا لِلكَسْرِ فِي الْوَصْلِ مُيِّلاَ
في الوقف معمول عارضا ولو جعلناه معمول الإسكان لقلت فائدته فإن إسكان الوقف لا يكون إلا عارضا ومعنى البيت كل ألف أميلت في الوصل لأجل كسرة بعدها نحو-النار-و-الناس-فتلك الكسرة تزول في الوقف وتوقف بالسكون فهذا السكون في الوقف لا يمنع إمالة الألف لأنه عارض ولأن الإمالة سبقت الوقف ولم يذكر في التيسير غير هذا الوجه وذهب قوم إلى منع الإمالة لزوال الكسر الموجب لها فإن رمت الحركة فالإمالة لا غير والله أعلم
(335)
وَقَبْلَ سُكُونٍ قِفْ بِمَا فِي أُصُولِهِمْ وَذُو الرَّاءِ فِيهِ الخُلْفُ في الْوَصْلِ (يُـ)ـجُتَلاَ
أي كل ألف قبل ساكن لو لم يكن بعدها ساكن لجازت إمالتها ففي الوصل لا يمكن إمالتها لذهابها فإن وقف عليها كانت على ما تقرر من أصول القراء تمال لمن يميل وتفتح لمن لم يمل وتقرأ بين اللفظين لمن مذهبه ذلك لكن الألف التي قبلها راء اختلف عن السوسي في إمالتها في الوصل ولا يظهر إلا كسر الراء ولم يذكر صاحب التيسير للسوسي إلا الإمالة وابن شريح وغيره من المصنفين لم يذكروا وجه الإمالة أصلا وشرط ما يميله السوسي من هذا الباب أن لا يكون الساكن تنوينا فإن كان تنوينا لم يمل بلا خلف نحو-قرى-و-مفترى-ثم مثل النوعين وهما ذو الراء وما ليس فيه راء والألف ظرف الكلمة فقال
(336)
كَمُوسَى الْهُدى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والْقُرَى الْتِي مَعَ ذِكْرَى الدَّارِ فَافْهَمْ مُحَصِّلاَ
إذا وقفت على موسى من قوله تعالى (ولقد آتينا موسى الهدى) ، أملت ألف موسى لحمزة والكسائي وجعلتها بين بين لأبي عمرو وورش وفتحت للباقين وكذا في (عيسى ابن مريم) ، فهذا مثال ما ليس فيه راء ومنه (إنا لما طغى الماء) ، نص مكي وغيره على أن الوقف على طغى بالإمالة لحمزة والكسائي ومثال ما فيه الراء (القرى التي باركنا فيها) ، في سبأ (ذكرى الدار) ، في ص فإذا وقفت على القرى وذكرى أملت لأبي عمرو وحمزة والكسائي ولورش بين اللفظين وههنا أمر لم أر أحدا نبه عليه وهو أن (ذكرى الدار) ، وإن امتنعت إمالة ألفها وصلا فلا يمتنع ترقيق رائها في مذهب ورش على أصله لوجود مقتضى ذلك وهو الكسر قبلها ولا يمنع ذلك حجز الساكن بينهما فيتخذ لفظ الترقيق وإمالته بين بين في هذا فكأنه أمال الألف وصلا وما ذكره الشيخ في شرح قوله وحيران بالتفخيم بعض تقبلا من قوله الترقيق في (ذكرى) ، من أجل الياء لا من أجل الكسر أراد بالترقيق الإمالة فهو من أسمائها والله أعلم ، والسوسي في أحد الوجهين يكسر الراء في الوصل ومثله (حتى نرى الله-و-يرى الذين أوتوا العلم) بخلاف قوله -(أو لم ير الذين كفروا) ، لأن ألف يرى قد ذهبت للجازم فإذا وقفت عليها قلت أو لم ير ثم ذكر ما حذفت فيه الألف لأجل التنوين لأنه ساكن فقال
(337)
وَقَدْ فَخَّمُوا التَّنْوِينَ وَقْفاً وَرَقَّقُوا وَتَفْخِيمُهُمْ في النَّصْبِ أَجْمَعُ أَشْمُلاَ
هذا فرع من فروع المسئلة المتقدمة داخل تحت قوله وقبل سكون قف بما في أصولهم وأفردها بالذكر لما فيها من الخلاف والأصح والأقوى أن حكمها حكم ما تقدم تمال لمن مذهبه الإمالة وهو الذي لم يذكر صاحب التيسير غيره وجعل للمنون ولما سبق ذكره حكما واحدا فقال كلما امتنعت الإمالة فيه في حال الوصل من أجل ساكن لقيه تنوين أو غيره نحو (هدى-و-مصفى-و-مصلى-و-مسمى-و-ضحى-و-غزى-و-مولى-و-ربا-و-مفترى-و-الأقصا الذي-و-طغا الماء-و-النصارى المسيح-و-جنا الجنتين) ، وشبهه فالإمالة فيه سائغة في الوقف لعدم ذلك الساكن وذكر مكي في المنون وجهين أحدهما هذا وهو الذي اختاره وقرأه على شيخه أبي الطيب ابن غلبون قال ونص على (مصلى-و-غزى) ، أن الوقف عليهما بالإمالة لحمزة والكسائي وكلاهما في موضع نصب والوجه الثاني الفرق بين المنصوب وغيره فلا يمال المنصوب ويمال المرفوع والمجرور قال الشيخ وقال قوم يفتح ذلك كله فقد صار في المسئلة ثلاثة أوجه وهي مبنية على أن الألف في الوقف على جميع الأسماء المقصورة المنونة هي الأصلية رجعت لما سقط الموجب لحذفها وهو التنوين أو يقال هي مبدلة من التنوين إذا كانت منصوبة المحل وهي الأصلية في الرفع والجر لأنه قد ألف من اللغة الفصيحة التي نزل بها القرآن أن تبدل من التنوين ألفا في جميع الأحوال لأن التنون إنما يبدل ألفا في النصب لانفتاح ما قبله والانفتاح موجود في الأحوال كلها في الأسماء المعتلة المقصورة بخلاف الصحيحة وهذه الأوجه الثلاثة معروفة عند النحويين فإن قلنا الوقف إنما هو على الألف المبدلة في جميع الأحوال أو في حال النصب فلا إمالة لأن ألف التنوين لا حظ لها في الإمالة كما لو وقف على (أمتا-و-همسا-و-علما) ، وقد سبق بيان ذلك فقد صار المنصوب مفخما على قولين وممالا على قول فلهذا قال وتفخيمهم في النصب اجمع أشملا وليس ذلك منه اختيارا لهذا القول وإنما أشار إلى أن الوجهين اتفقا عليه والأجود وجه الإمالة
مطلقا والرسم دال عليه والنقل أيضا ومن وجهة المعنى أن الوقف لا تنوين فيه وإنما كانت الألف الأصلية تحذف للتنوين في الوصل فالنطق بالكلمة على أصلها إلى أن يلقاها ما يغيرها وأيضا فإن المبدل من التنوين إنما هو الألف والأصلية أيضاألف فلا حاجة إلى حذف ما هو أصل وجلب ما هو مثله في موضعه فترك اعتقاد الحذف فيه أولى وقول الناظم وقد فخموا التنوين فيه تجوز فإن التنوين لا يوصف بتفخيم ولا إمالة لعدم قبوله لهما فهو على حذف مضاف تقديره ذا التنوين ولا تقول التقدير ألف التنوين لما فيه من الإلباس بألف نحو (أمتا-وهمسا) ، مما لا يمال وسمى في هذا الموضع الفتح تفخيما والإمالة ترقيقا كما سمى ترقيق الراء إمالة على ما سيأتي وأشملا جمع شمل ونصبه على التمييز أي اجتمع شمل الأصحاب على الوجهين فيه بخلاف المرفوع والمجرور فإن كل واحد منهما مفخم على قول واحد وهو أضعف الأقوال وممال على قولين فهما في الترقيق أجمع أشملا لاقي التفخيم ثم مثل ذلك فقال
(338)
مُسَمَّى وَمَوْلًى رَفْعُهُ مَعْ جَرِّهِ وَمَنْصُوبُهُ غُزَّى وَتَتْرًى تَزَيَّلاَ
أي لفظ (مسمى-ومولى) ، وقع كل واحد منهما في القرآن مرفوعا ومجرورا كقوله تعالى (وأجل مسمى عنده)-(إلى أجل مسمى) وقال تعالى (يوم لا يغني مولى عن مولى)-(وأما-غزى-و-تترى) ، فلم يقعا في القرآن إلا منصوبين في قوله تعالى في آل عمران (أو كانوا غزى) ، ونصبه على أنه خبر كان وهو جمع غاز ووزنه فعل مثل كافر وكفر وأما (تترى) ، ففي سورة (قد أفلح) منصوب على الحال وإنما ينفع التمثيل به على قراءة أبي عمرو فهو الذي نونه وأما حمزة والكسائي فلا ينونانه فهو لهما ممال بلا خلاف في الوقف والوصل وكذا ورش يميله بين اللفظين وصلا ووقفا لأنه غير منون في قراءته أيضا فلم يمنع فتح من نون إمالة من لم ينون وهذا مما يقوى ما ذكرناه من ترقيق ورش راء (ذكرى الدار) ، في الوصل فلا يمنع ترك الإمالة لزوال محلها ترقيق الراء لوجود مقتضيه والله أعلم ، وقوله تزيلا أي تميز المذكور وهو التنوين أي ظهرت أنواعه وتميز بعضها من بعض بالأمثلة المذكورة ومنه قوله تعالى (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) ، فزيلنا بينهم والهاء في رفعه مع جره ومنصوبه راجعة إلى التنوين أيضا والكل على تقدير ذي التنوين وهو المنون وقال الشيخ تميز المنصوب من غيره بالمثال فإن قلت الألف الممالة في (غزى) ، منقلبة عن واو لأنه من غزا يغزو فكيف تمال قلت هو داخل في قوله وكل ثلاثي يزيد فإنه ممال (ك-زكاها) والله أعلم
باب مذهب الكسائي في إمالة هاء التأنيث في الوقف
(339)
وَفِي هَاءِ تَأْنِيثِ الْوُقُوفِ وَقَبْلَهَا مُمَالُ الْكِسَائِي غَيْرَ عَشْرٍ لِيَعْدِلاَ
احترز بقوله هاء تأنيث عن هاء السكت وهاء الضمير وقد تقدم بيان ذلك والوقوف مصدر بمعنى الوقف وأضاف هاء التأنيث إليه احترازا من الهاء في (هذه) ، فإنها هاء تأنيث لكنها لا تزال هاء وقفا ووصلا فأراد أن الإمالة واقعة في هاء التأنيث التي هي في الوقف هاء وفي الوصل تاء سواء كانت مرسومة في المصحف بالتاء أو بالهاء لأن من مذهب الكسائي الوقف على جميع ذلك بالهاء على ما يأتي بيانه فإن قلت ما وجه إضافة التأنيث إلى الوقوف قلت لم يضف التأنيث وحده فإن التأنيث من حيث هو التأنيث وقفا ووصلا وإنما أضاف إلى الوقوف ما يخصه وهو كون حرف التأنيث صار هاء فيكون من باب قولهم حب رماني لم يضف إلى الياء الرمان وحده وإنما أضاف حب الرمان وقد تقدم بيان ذلك في شرح قوله أبو عمرهم ويدخل تحت قوله هاء تأنيث ما جاء على لفظها وإن لم يكن المقصود بها الدلالة على التأنيث كهمزة (لمزة-كاشفة-بصيرة) ، ولهذا قال صاحب التيسير اعلم أن الكسائي كان يقف على هاء التأنيث وما ضارعها في اللفظ بالإمالة ومثل المضارع بما ذكرناه وغيره فقوله وما قبلها أي وفي الحروف التي قبلها وممال بمعنى الإمالة كمقام بمعنى إقامة أي أن إمالة الكسائي واقعة في هاء التأنيث في الوقف وفي الحرف الذي قبلها لقرب الهاء من الياء ولقرب ما قبلها من الكسرة كما يفعل مثل ذلك في إمالة الألف لابد من تقريب ما قبلها من الكسر ويوصف ذلك بأنه إمالة له وعلى ذلك شرحنا قوله وراء (تراءى) ، فإن قلت لما ذكر في الباب المتقدم إمالة الألفات لم ينص على إمالة ما قبلها من الحروف فلم نص هنا على إمالة الحرف الذي قبل هاء التأنيث قلت لأن الألف الممالة لم يستثن من الحروف الواقعة قبلها شيء وهنا بخلاف ذلك على ما ستراه ، قوله غير عشر مستثنى من موصوف قبلها المحذوف والتقدير وفي الحروف التي قبلها غير عشرة من تلك الحروف فإنه لم يملها ومن ضرورة ذلك أن لا يميل الهاء وإنما أنث لفظ عشر وإن كان الوجه
تذكيره لأن معدوده حروف وهي مذكرة لأنها جمع حرف من أجل أن تلك الحروف عبارة عن حروف الهجاء وأسماء حروف الهجاء جاء فيها التذكير والتأنيث فأجرى ذلك في العبارة عنها اعتبارا بالمدلول لا اعتبارا باللفظ والعرب تعتبر المدلول تارة والعبارة أخرى كقوله ، (وأن كلابا هذه عشر أبطن ) ، فأنث أبطنا وهو جمع مذكر وهو بطن لما كان البطن بمعنى القبيلة ولهذا تم البيت بقوله ، (وأنت بريء من قبائلها العشر ) ، وأشار بقوله ليعدلا إلى أن تلك الحروف تناسب الفتح دون الإمالة فلهذا استثناها ثم بين تلك الحروف العشرة في كلمات جمعها فيها فقال
(340)
وَيَجْمَعُهَا (حَقٌ ضِغَاطٌ عَصٍ خَظَا وَ(أَكْهَرُ) ببَعْدَ الْيَاءِ يَسْكُنُ مُيِّلاَ
أي يجمع تلك الحروف هذه الكلمات الأربع وضغاط جمع ضغطة وعص بمعنى عاص وخظا بمعنى سمن واكتنز لحمه يشير إلى ضغطة القبر وهي عصرته والضيق فيه والعاصي حقيق بذلك ولا سيما إذا كان سمينا وكأنه يشير بالسمن إلى كثرة ذنوبه كما يوصف من كثر ماله بذلك والسمن الحقيقي مكروه في ذاته لأهل الدين والعلم لأنه يشعر غالبا بقلة اهتمامه بالآخرة وبالبلادة أيضا والهم يذيب الجسم وينحفه ولهذا جاء في الحديث أما علمت أن الله يبغض الحبر السمين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم قوم قليل فقه قلوبهم وكثير شحم بطونهم ، قال العلماء فيه تنبيه على أن الفطنة قل ما تكون مع كثرة اللحم والاتصاف بالسمن والشحم وفي أخبار الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال ما رأيت سمينا عاقلا قط إلا رجلا واحدا وفي رواية ما رأيت سمينا أخف روحا من محمد بن الحسن رضي الله عنه ومثال ذلك (النطيحة-و-الحاقة-و-قبضة-و-بالغة-و-حياة-و-بسطة-و- القارعة-و-خصاصة-و-الصاخة-و-موعظة) ، وهذه الحروف العشرة سبعة منها هي حروف الاستعلاء تستعلى إلى الحنك الأعلى فتناسب الفتح وهي تمنع إمالة الألف في الأسماء فكيف لا تمنع إمالة الهاء التي هي مشبهة بها فإن كان قبل حرف الاستعلاء كسرة فإن الإمالة جائزة في الألف نحو (ضعافا) ، ولم يقرأ الكسائي بها في هاء التأنيث نحو (القارعة) ، والبالغة طردا للباب ولأن الإمالة في الهاء ضعيفة فجاز أن يمنعها ما لا يمنع إمالة الألف فإن فصل بين حرف الاستعلاء وبين الهاء فاصل جازت الإمالة نحو (رقبة-و-مسبغة-و-نحلة-و-بطشة-و-عصبة) ، والأحرف الثلاثة الباقية هي من حروف الحلق الألف والحاء والعين أما الألف فلأنها ساكنة لا يمكن كسرها ولو كسر ما قبلها لكانت الإمالة للألف لا للهاء وأما الحاء والعين فلأنها أقرب حروف الحلق إلى حروف الاستعلاء فأعطيا حكمها ثم قال وأكهر أي حروف أكهر وهي أربعة الهمزة والكاف والهاء والراء إذ وقعت قبل هاء التأنيث بعد ياء
ساكنة أو كسرة أميلت فذكر الباء في هذا البيت والكسر في البيت الآتي ويلزم من إمالة هذه الحروف إمالة الهاء بعدها والأكهر الشديد العبوس يقال كهره إذا استقبله بذلك والكهر ارتفاع النهار مع شدة الحر ويسكن في موضع الحال من الياء والضمير في ميلا عائد على لفظ أكهر دون معناه وهما مبتدأ وخبر وذكر ميلا معاملة للمضاف إليه بعد حذف المضاف لما أقيم مقامه فهو من باب قوله تعالى (وكم من قرية أهلكناها فجاءها) ، وشبهه ولو عامل المضاف المحذوف لقال ميلت كما قال تعالى بعد ذلك (أو هم قائلون) ، وإنما اختار الناظم ذلك لأجل القافية فمثال الهمزة بعد الياء الساكنة (خطيئة-هيئة-وبعد الكسر-خاطئة) ، ومثال الكاف بعد الياء الساكنة (الأيكة-وبعد الكسر-الملائكة) ، ومثال الهاء بعد الكسر (آلهة-و-فاكهة) ، ولا مثال لها بعد الياء الساكنة في القرآن ومثال الراء بعد (الياء الكبيرة-و-صغيرة-وبعد الكسر-تبصرة-والآخرة) ، وقد ذكر الكسر قبل الأربعة في قوله
(341)
أَوِ الْكَسْرِ وَالإِسْكَانُ لَيْسَ بِحَاجِزٍ وَيَضْعُفُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَرْجُلاَ
إذا وقع بين الكسر وبين الراء حرف ساكن لم يكن ذلك بحاجز أي بمانع للكسر من اقتضائه الإمالة فكأنه قال أو تقع هذه الحروف الأربعة بعد كسر يليها أو بعد ساكن يليه كسر ، ولا مثال لهذا في الهمزة والكاف وإنما مثاله في الهاء نحو وجهة وفي الراء نحو -عبرة-و-سدرة-واختلف في-فطرة-لأجل أن الساكن حرف الاستعلاء فقوى المانع وهذا وجه جيد ويقويه ما يأتي في الراءات فإنه اعتد به حاجزا فمنع الترقيق فكذا يمنع الإمالة ولكن هما بابان كل باب لقارئ فلا يلزم أحدهما مذهب الآخر والكل جائز الإمالة والترك في اللغة ومثاله ترك ورش ترقيق راء عمران للعجمة وابن ذكوان رققها تبعا لإمالة الألف بعدها ولم ينظر إلى العجمة ثم قال ويضعف يعني أكهر ضعفت حروفه عن تحمل الإمالة إذا وقعت بعد الفتح والضم وأرجلا جمع رجل ونصبه على التمييز استعار ذلك لما كان يقال لكل مذهب ضعيف هذا لا يتمشى ونحوه لأن الرجل هي آلة المشي فمثال الهمزة بعد الفتح امرأة فإن فصل بين الفتح وبين الهمزة فاصل ساكن فإن كان ألفا منع أيضا نحو (براءة) ، وإن كان غير ألف اختلف فيه نحو (سوءة) ، وكهيئة والنشأة قال الداني والقياس الفتح كأنه أراد القياس على الألف أو لأن الإسكان لما لم يحجز الكسر عن اقتضاء الإمالة في نحو (عبرة) ، فكذا لا يحجز الفتح عن منع الإمالة في نحو (سوءة) ، مثال الكاف بعد الفتح نحو (مباركة-و-الشوكة) ، سواء في ذلك ما فيه فصل ومالا فصل فيه وبعد الضمة نحو (التهلكة) ، ومثال الهاء بعد الفتح مع فصل الألف-سفاهة-ولا يقع غير ذلك ومثال الراء بعد الفتح شجرة وثمرة وكذا مع فصل الألف وغيرها من الساكن نحو-سيارة-و-نضرة-وبعد الضم مع الحاجز-نحو-عسرة-و-محشورة-ويجمع ذلك كله أن تقع حروف أكهر بعد فتح أو ضم بفصل ساكن وبغير فصل فلهذا طلق قوله بعد الفتح والضم ووجه استثناء هذه الحروف الأربعة في بعض الصور أما الهمزة والهاء فمن حروف الحلق فألحقا بالألف والحاء والعين والخاء
والغين وأما الكاف فقريبة من القاف فمنعت منعها وأما الراء فلما فيها من التكرير تشبه المستعلية فمنعت فأما إذا وقع قبل هذه الأحرف الأربعة كسرة أو ياء ساكنة فإن أسباب الإمالة تقوى وتضعف المانع فتمال الهاء ثم مثل ما قبله ساكن بعد كسر وما قبله كسر أو ياء ساكنة فقال
(342)
لَعِبْرَهْ مِائَهْ وِجْهَهْ وَلَيْكَهْ وَبَعْضُهُمْ سِوى أَلِفٍ عِنْدَ الْكِسَائي مَيَّلاَ
أراد قوله تعالى (إن في ذلك لعبرة) ، فهذا مثال ما قبله ساكن بعد كسر ومثله ولكل وجهة ومثال ما قبله كسر (فإن يكن منكم مائة) ، ومثال ما قبله ياء (أصحاب الأيكة) ، ووقع في نظم البيت (ليكة) ، باللام وهذا وإن كان قرئ به في سورتي الشعراء و(ص) فليس صاحب الإمالة ممن قرأ هذه القراءة فالأولى أن يقع المثال بما هو قراءة له فيقال وأيكة بهمزة قبل الياء ولا يضر حذف لام التعريف فإنها منفصلة من الكلمة تقديرا ، ووجه ثان وهو أن الأيكة جاءت في القرآن في غير هاتين السورتين غير مقروءة باللام بإجماع على ما في التيسير ونظمه فإذا وقع المثال بهمزة عم جميع المواضع مع موافقة القراءة بخلاف التمثيل بقراءة اللام ولعله أراد (الأيكة) ، على قراءته وإنما نقل حركة الهمزة إلى اللام لضرورة النظم كما يقرأ ورش فالصواب كتابته على هذه الصورة في هذا البيت ليشعر بذلك ولا يوهم أنه أراد تلك القراءة فهو كقوله في الأنعام (والآخرة) ، المرفوع بالخفض-و-كلا-والله أعلم ، ثم قال وبعضهم أي وبعض المشايخ من أهل الأداء ميل ، للكسائي جميع الحروف قبل هاء التأنيث مطلقا من غير استثناء شئ إلا الألف قال صاحب التيسير والنص عن الكسائي في استثناء ذلك معدوم وبإطلاق القياس في ذلك قرأت على أبي الفتح عن قراءته ، ثم قال والأول أختار إلا ما كان قبل الهاء فيه ألف فلا تجوز الإمالة فيه وقال في كتاب الإمالة لم يستثن خلف عن الكسائي شيئا وكذلك بلغني عن أبي مزاحم الخاقاني وكان من أضبط الناس لحرف الكسائي
وإليه ذهب أبو بكر ابن الأنباري وجماعة من أهل الأداء والتحقيق وبه قرأت على شيخنا أبي الفتح عن قراءته على أصحابه قال وكان أبو بكر بن مجاهد وأبو الحسين بن المنادى وأبو طاهر بن أبي هاشم وجميع أصحابهم يخصون من ذلك بالفتح ما كان فيه قبل هاء التأنيث أحد عشرة أحرف فذكرها ثم قال جعلوا للهمزة والراء والكاف إذا وقعت قبل هاء التأنيث أحوالا فأمالوا بعضا وفتحوا بعضا ثم شرح ذلك على نحو ما تقدم فأما الألف قبل هاء التأنيث فأتت في عشر كلم (الصلاة-و-الزكاة-و-الحياة-و-النجاة-و-منوة-و-هيهات هيهات-و-ذات-و-لات-و-اللات) ، لأن الكسائي يقف على هذه الكلم الخمس بالهاء وهو وغيره يقفون على ما عداها كذلك فلا تمال الهاء في هذه الكلم العشر لأنه يلزم من ذلك إمالة الألفات وهي لا تقبل الإمالة لأنها من ذوات الواو في بعضها ومجهولة في بعضها ولا حظ للجميع في الإمالة فلو وقعت إمالة لظن أنها للألف لا للهاء لأن الألف هي الأصل في الإمالة والهاء فرع لها ومشبهة بها ألا ترى أن (تقاة-و-مرضات-و-مزجاة-و-التوراة-و-كمشكاة) ، معدودة في باب إمالة الألف لا في باب إمالة الهاء وذكر مكي في-مناة-خلافا مبنيا على أصل الألف واختار عدم الإمالة وذكر الداني في ألف الحياة خلافا أنها منقلبة عن واو وعن ياء وإنما لم تمل على هذا القول لكونها مرسومة في المصحف بالواو والله أعلم
باب مذاهبهم في الراءات
(343)
وَرَقَّقَ وَرْشٌ كُلَّ رَاءٍ وَقَبْلَهَا مُسَكَّنَةً يَاءٌ أَوِ الْكَسْرِ مُوصَلاَ
رقق أي أمال بين بين قال في التيسير اعلم أن ورشا كان يميل فتحة الراء قليلا بين اللفظين وكذا قال في باب الإمالة وقال مكي كان ورش يرقق الراء فيعلم من هذا الإطلاق أن الترقيق في هذا الباب عبارة عن إمالة بين بين ويستخرج من هذا أن إمالة الألفات بين بين على لفظ الترقيق في هذا الباب على ما ينطق به قراء هذا الزمان وقد نبهنا على ذلك في شرح قوله وذو الراء ورش بين بين فالمراد من ترقيق الراء تقريب فتحها من الكسرة وقوله كل راء يعني ساكنة كانت أو متحركة بأي حركة تحركت على الشروط المذكورة إلا ما يأتي استثناؤه وقوله مسكنة حال مقدمة لو تأخرت لكانت صفة للياء والواو في وقبلها للحال أي رققها في حال كون الياء الساكنة قبلها نحو (غير-و-الخير-و-لا ضير-و-ميراث-و-فقيرا-و-المغيرات) ، ولا يكون قبل الياء الساكنة إلا مفتوح أو مكسور وقد مثلنا بالنوعين ثم قال أو الكسر أي أو أن يكون قبل الراء كسر نحو (الآخرة-و-باسرة-و-المدبرات) ، ولا فرق في المكسور بين أن يكون حرف استعلاء أولا وتقع حروف الاستعلاء قبلها إلا الغين نحو (ناضرة-إلى ربها ناظرة-قاصرات-قطران) ، ونحوه فهذه ستة ودخل ذلك كله تحت قوله كل راء أي سواء توسطت أو تطرفت لحقها تنوين أو لم يلحقها كان المكسور قبلها حرف استعلاء أو غير حرف استعلاء فالراء مرققة محالة بين اللفظين لورش سواء وصل الكلمة أو وقف عليها وقوله موصلا حال من الكسر أي يكون الكسر موصلا بالراء في كلمة واحدة احترازا مما يأتي ذكره وهو الكسر العارض والمفصل والغرض من الإمالة والترقيق مطلقا اعتدال اللفظ وتقريب بعضه من بعض بأسباب مخصوصة وأسباب ترقيق الراء هنا لورش أن يكون قبلها ياء ساكنة أو كسرة لازمة متصلة لفظا أو تقديرا والله أعلم
(344)
وَلَمْ يَرَ فَصْلاً سَاكِنًا بَعْدَ كَسْرَةٍ سِوى حَرْفِ الاِسْتِعْلاَ سِوَى الْخَا فَكَمَّلاَ
أي لم يعتد بالحرف الساكن الذي وقع فصلا بين الكسرة اللازمة والراء فأعمل الكسرة ما تقتضيه من الترقيق كأنها قد وليت الراء وذلك نحو (إكراه-و-إكرام-و-سدرة) ، فرقق لضعف الفاصل بسكونه فإن كان الفاصل الساكن حرف استعلاء قوي المانع فإنه لقوته في منع الإمالة لا يضعف بكونه ساكنا كما يضعف غيره ولا يقع كذلك من حروف الاستعلاء إلا الصاد والطاء والقاف نحو (إصرا-و-قطرا-و-وقرا) ، واستثنى من حروف الاستعلاء الخاء فلم يعتد بها فاصلا نحو إخراجا لأنها ضعفت عن أخواتها بالهمس والصاد وإن كانت مهموسة إلا أنها مطبقة ذات صفير فقويت فمنعت فإن قلت قوله ولم ير من رؤية القلب فأين مفعولاه قلت فصلا هو المفعول الثاني وساكنا هو الأول أي لم ير الساكن فصلا وقوله ساكنا نكرة في سياق النفي فهي للعموم فاستثنى من ذلك العموم حروف الاستعلاء فقوله حرف بمعنى حروف اكتفى بالمفرد عن الجمع للدلالة على الجنس ثم استثنى الخاء من هذا الجنس فهو استثناء من استثناء والاستثناء مغاير في الحكم للمستثنى منه فحروف الاستعلاء فاصلة والخاء ليست فاصلة فهو كقولك خرج القوم إلا العبيد إلا سالما فيكون سالم قد خرج وقصر الناظم لفظي الاستعلاء والخاء ضرورة والضمير في ولم ير وفي فكملا لورش أي كمل حسن اختياره بصحة نظره حين اختزل الخاء من حروف الاستعلاء فرقق بعدها
(345)
وَفَخَّمَهَا في الأَعْجَمِيِّ وَفِي إِرَمْ وَتَكْرِيرِهَا حَتَّى يُرى مُتَعَدِّلاَ
ذكر في هذا البيت ما خالف فيه ورش أصله فلم يرققه مما كان يلزم ترقيقه على قياس ما تقدم والتفخيم ضد الترقيق أي وفخم ورش الراء في الاسم الأعجمي أي الذي أصله العجمة وتكلمت العرب به ومنعته الصرف بسببه والذي منه في القرآن ثلاثة (إبراهيم-و-إسرائيل-و-عمران) ، كان يلزمه ترقيق رائها لأن قبلها ساكنا بعد كسرة وليس الساكن حرف استعلاء ثم قال وفي إرم أي وفخم الراء في (إرم ذات العماد) ، وكان يلزمه ترقيقها لأنها بعد كسرة وإرم أيضا اسم أعجمي وقيل عربي فلأجل الخلاف فيه أفرده بالذكر ووجه تفخيم ذلك كله التنبيه على العجمة ورقق أبو الحسن بن غلبون (إرم) ، لأن الكسرة وليت الراء بخلاف البواقي وأما (عزيز) ، فلم يتعرضوا له وهو أعجمي وقيل عربي على ما يبين في سورته فيتجه فيه خلاف مبني على ذلك ثم قال وتكريرها أي وفخم الراء أيضا في حال تكريرها أو في ذي تكريرها أي في الكلمة التي تكررت الراء فيها يعني إذا كان في الكلمة راءان نحو (فرارا-و-ضرارا-و-لن ينفعكم الفرار-و-إسرارا-و-مدرارا) ، لم ترقق الأولى وإن كان قبلها كسرة لأجل الراء التي بعدها فالراء المفتوحة والمضمومة تمنع الإمالة في الألف كما تمنع حروف الاستعلاء فكذا تمنع ترقيق الراء وقوله حتى يرى متعدلا يعني اللفظ وذلك أن الراء الثانية مفخمة إذ لا موجب لترقيقها فإذا فخمت الأولى اعتدل اللفظ وانتقل اللسان من تفخيم إلى تفخيم فهو أسهل والله أعلم
(346)
وَتَفْخِيمُهُ ذِكْرًا وَسِتْرًا وَبَابَهُ لَدى جِلَّةِ الأَصْحَابِ أَعْمَرُ أَرْحُلاَ
، ذكر في هذا البيت ما اختلف فيه مما فصل فيه بين الكسر والراء ساكن غير حرف استعلاء فذكر مثالين على وزن واحد وهما (ذكرا-و-سترا) ، ثم قال وبابه أي وما أشبه ذلك قال الشيخ وبابه يعني به كل راء مفتوحة لحقها التنوين وقبلها ساكن قبله كسرة نحو (حجرا-و-صهرا-و-شيئا إمرا-و-وزرا) ، فالتفخيم في هذا هو مذهب الأكثر ثم علل ذلك بأن الراء قد اكتنفها الساكن والتنوين فقويت أسباب التفخيم قلت ولا يظهر لي فرق بين كون الراء في ذلك مفتوحة أو مضمومة بل المضمومة أولى بالتفخيم لأن التنوين حاصل مع ثقل الضم وذلك قوله تعالى (هذا ذكر) ، فإن كان الساكن الذي قبل الراء قد أدغم فيها فالترقيق بلا خلاف نحو (سرا-و-مستقرا) لأن الكسرة كأنها وليت الراء من جهة أن المدغم فيه كالحرف الواحد فالمدغم كالذاهب ورقق أبو الحسن ابن غلبون جميع الباب إلا (مصرا-و-إصرا-و-قطرا) ، من أجل حرف الاستعلاء فألزمه الداني (وقرا) ، ومنهم من لم يرقق (إلا صهرا) ، لخفاء الهاء وفخم أبو طاهر بن أبي هاشم وعبد المنعم بن غلبون وغيرهما أيضا من المنون نحو (خبيرا-و-بصيرا-و-مدبرا-و-شاكرا) ، مما قبل الراء فيه ياء ساكنة أو كسرة فكأنه قياس على (ذكرا-و-سترا) ، قال الداني وكان عامة أهل الأداء من المصريين يميلونها في حال الوقف لوجود الجالب لإمالتها في الحالين وهو الياء والكسرة وهو الصواب وبه قرأت وبه آخذ وقال في (ذكرا-و-سترا) ، أقرأني ذلك غير أبي الحسن بن غلبون بالفتح وعليه عامة أهل الأداء من المصريين وغيرهم وذلك على مراد الجمع بين اللغتين قلت فحصل من هذا أن المنصوب المنون الذي قبل رائه ما يسوغ ترقيقها على ثلاثة أقسام ما يرقق بلا خلاف وهو نحو (سرا-و-مستقرا) ، وما يرقق عند الأكثرين وهو نحو (خبيرا-و-شاكرا) ، وما يفخم عند الأكثر وهو نحو (ذكرا-و-سترا) ، وقلت في ذلك بيتا جمع الأنواع الثلاثة على هذا الترتيب وهو ، (وسرا رقيق قل خبيرا وشاكرا للأكثر ذكرا فخم الجلة
العلا) ، وكأنهم اختاروا تفخيم هذا النوع لأنه على وزن مالا يمال نحو (علما-و-حملا) ، والخلاف في ذلك إنما هو في الأصل ولهذا عد التنوين مانعا أما في الوقف فعند بعضهم لا خلاف في الترقيق لزوال المانع وقال أبو الطيب بن غلبون اختلف عن ورش في الوقف فطائفة يقفون بين اللفظين وطائفة يقفون بالفتح من أجل الألف التي هي عوض من التنوين والله أعلم ، والجلة جمع جليل وأرحلا جمع رحل ونصبه على التمييز وتفخيمه مبتدأ وأعمر أرحلا خبره وعمارة الرحل توزن بالعناية والتعاهد له فكأنه أشار بهذه العبارة إلى اختيار التفخيم عند جلة الأصحاب من مشايخ القراء وبابه النصب عطف على مفعول تفخيم
(347)
وَفي شَرَرٍ عَنْهُ يُرَقِّقُ كُلُّهُمْ وَحَيْرَانَ بِالتَّفْخِيمِ بَعْضُ تَقَبَّلاَ
أراد قوله تعالى (إنها ترمى بشرر كالقصر) ، رقق كل الأصحاب عن ورش راءه الأولى لأجل كسر الثانية وهذا خارج عن الأصل المقدم وهو ترقيق الراء لأجل كسر قبلها وهذا لأجل كسر بعدها وكسرة الراء تعد بكسرتين لأجل أنها حرف تكرير قال الداني لا خلاف عن ورش في إمالتها وإن وقف عليها قال وقياس ذلك عند قوله في النساء (غير أولي الضرر) ، غير أن أصحابنا يمنعون من إمالة الراء فيه من أجل وقوع الصاد وهي حرف استعلاء قبلها قال وليس ذلك مما يمنع من الإمالة هاهنا لقوة جرة الراء كما لم يمنع منها لذلك في نحو (الغار-و-أنصار-و-كالفخار-و-بقنطار) ، وشبهه مع أن سيبويه قد حكى إمالة راء الضرر سماعا وعليه أهل الأداء غير أنى بالفتح قرأت ذلك وبها آخذ قال وأجمعوا عنه على تفخيمها في قوله تعالى (على سرر) ، حيث وقع قال وقياس ما أجمعوا عليه عنه من ترقيقها في قوله (بشرر) ، لأجل جرة الراء بعدها يوجب ترقيقها هنا قال وزادني ابن خاقان في الاستثناء إخلاص الفتح للراء في قوله (حيران) ، في الأنعام قال وقرأت على غيره بالترقيق قال وهو القياس من أجل الياء وقد ذهب إلى التفخيم جماعة من أهل الأداء وقال قرأت بالوجهين في (حيران)و(إجرامي)و(عشيرتكم) ، في سورة براءة خاصة قلت وعلل بعضهم تفخيم حيران بالألف والنون فيه في مقابلة ألف التأنيث في حيرى وإذا وقعت الراء قبل ألف حيرى رققت لأجل الألف الممالة لا لأجل الياء فكما لم يكن للحاء حكم مع وجود الألف في حيرى لم يكن لها حكم مع وجود الألف والنون في حيران قلت وهذا كلام ضعيف لمن تأمله ثم قال ونظير ارتفاع حكم الياء مع الألف الممالة ارتفاع حكم الكسرة معها في نحو (ذكرى الدار) ، ألا ترى أنك إذا وقفت رققت وإذا وصلت فخمت قلت وهذا ممنوع بل إذا وصل رقق لأجل الكسرة وإذا وقف أمال تبعا للألف وقد سبق التنبيه على هذا في باب الإمالة والله أعلم
(348)
وَفي الرَّاءِ عَنْ وَرْشٍ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ مَذَاهِبُ شَذَّتْ فِي الْأَدَاءِ تَوَقُّلاَ
توقلا تمييز يقال توقل في الجبل إذا صعد فيه أي شذ ارتفاعها في طرق الأداء ولفظة الأداء كثيرة الاستعمال بين القراء ويعنون بها تأدية القراء القراءة إلينا بالنقل عمن قبلهم كأنه لما ذكر هذه المواضع المستثناة من الأصل المتقدم قال وثم غير ذلك من المواضع المستثناة اشتمل عليها كتب المصنفين فمن تلك المذاهب ما حكاه الداني عن شيخه أبي الحسن بن غلبون أنه استثنى تفخيم كل راء بعدها ألف تثنية نحو (طهرا-و-ساحران) ، أو ألف بعدها همزة نحو (افتراء عليه) ، أو بعدها عين نحو (سراعا-و-ذراعا-و-ذراعيه) ، وفخم قوم إذا كان بين الراء وبين الكسر ساكن نحو (حذركم-و-ذكركم-و-لعبرة-) ، مطلقا ومنهم من اقتصر على تفخيم (-وزر-) ، حيث وقع ومنهم من اقتصر على (وزرك-ذكرك) ، ومنهم من فخم في موضعين وهما عشرون (كبره-و-ماهم ببالغيه)
(349)
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَرْقِيِقِهاَ بَعْدَ كَسْرَةٍ إِذَا سَكَنَتْ ياَ صَاحِ لِلسَّبْعَةِ المَلا
أي إذا سكنت الراء وقبلها كسرة رققت لجميع القراء نحو (مرية-و-شرذمة-و-اصبر-و-يغفر-و-فرعون) ، قالوا لأن الحركة مقدرة بين يدي الحرف وكأن الراء هنا مكسورة ولو كانت مكسورة لوجب ترقيقها على ما يأتي ومن ثم امتنع ترقيق نحو (مرجع) ، لأن الكسرة تبعد عنها إذا كانت بعدها وتقرب منها إذا كانت قبلها بهذا الاعتبار قال ومن ثم همزت العرب نحو مؤسى والسؤق لما كانت الضمة كأنها على الواو والواو المضمومة يجوز إبدالها همزة فأجروا الساكنة المضموم ما قبلها مجرى المضمومة لهذه العلة وكثر في نظم العرب ومن بعدهم قوله ياصاح ومعناه يا صاحب ثم رخم كما قرأ بعضهم (يا مال ليقض علينا ربك) ، قال إلا أن ترخيم صاحب من الشذوذ المستعمل لأنه غير علم بخلاف مالك ونحوه والملأ الأشراف
(350)
وَمَا حَرْفُ الاِسْتِعْلاَءُ بَعْدُ فَراؤُهُ لِكُلِّهِمُ التَّفْخِيمُ فِيهاَ تَذَلَّلاَ
أي واللفظ الذي وقع فيه حرف الاستعلاء بعد رائه فراء ذلك اللفظ تذلل التفخيم فيها لكلهم أي انقاد بسهولة لأن التفخيم أليق بحروف الاستعلاء من الترقيق لما يلزم المرقق من الصعود بعد النزول وذلك شاق مستثقل وحرف الاستعلاء إذا تأخر منع الإمالة مطلقا بخلافه إذا تقدم فإنه لا يمنع إلا إذا لم يكن مكسورا أو ساكنا بعد مكسور وهذا البيت مشكل النظم في موضعين أحدهما أن ما في أوله عبارة عن ماذا والثاني الهاء في راؤه إلى ماذا تعود والذي قدمته من المعنى هو الصواب إن شاء الله تعالى وهو أن ما عبارة عن اللفظ الذي فيه الراء بعد كسر والهاء في راؤه تعود على ذلك اللفظ وقال الشيخ في شرحه يعني والذي بعده من الراءات حرف الاستعلاء فراؤه إن شئت رددت الضمير إلى ما وإن شئت أعدته على حرف الاستعلاء قلت كلاهما مشكل فإن ما مبتدأ وقد جعلها عبارة عن الراء فإذا عادت الهاء إلى ما يصير التقدير فراء الراء وذلك فاسد لأنه من باب إضافة الشيء إلى نفسه وذلك لا يجوز وإن عادت إلى حرف الاستعلاء بقي المبتدأ بلا عائد يعود إليه ثم جمع حروف الاستعلاء فقال
(351)
وَيَجْمَعُهاَ قِظْ خُصَّ ضَغْطٍ وَخُلْفُهُمْ بِفِرْقٍ جَرى بَيْنَ المَشَايِخِ سَلْسَلاَ
أي يجمعها هذه الكلمات فهي سبعة أحرف وربما ظن السامع أن جميعها يأتي بعد الراء فيطلب أمثلة ذلك فلا يجد بعضه إنما أراد الناظم أي شيء وجد منها بعد الراء منع والواقع منها في القرآن في هذا الغرض أربعة الصاد والضاد والطاء والقاف ولم يقع الخاء والظاء والغين ولو أنه قال ، (وما بعده صاد وضاد وطا وقاف فخم لكل خلف فرق تسلسلا) ، لبان أمر البيتين في بيت واحد وخلصنا من إشكال العبارتين فيهما والله أعلم ، أما الصاد فوقعت بعد الراء الساكنة بعد كسر وهي المرققة لجميع القراء فمنعت الترقيق حيث وقعت نحو (إرصادا-و-لبالمرصاد) ، وأما الضاد فوقعت في مذهب ورش في نحو (إعراضا-و-إعراضهم) ، وأما الطاء والقاف فوقعا في الأمرين نحو (قرطاس-و-فرقة-و-صراط-و-فراق) ، وليس من شرط منع حرف الاستعلاء أن يلي الراء بل يمنع وإن فصل بينهما الألف ولا يقع في مذهب ورش إلا كذلك غالبا نحو (صراط-و-فراق-و-إعراض) ، حتى نص مكي في التبصرة على أن (حصرت صدورهم) ، لا ترقق في الوصل لأجل صاد (صدورهم) ، فإن رققت على (حصرت) ، رققت لزوال المانع قلت وتفخيم راء (حصرت) لأجل صاد (صدورهم) ، بعيد لقوة الفاصل وهو التاء بخلاف فصل الألف ولأن حرف الاستعلاء منفصل من الكلمة التي فيها الراء فلا ينبغي أن يعتبر ذلك إلا في كلمة واحدة وعلى قياس ما ذكروه يجب التفخيم فيما إذا كانت الراء آخر كلمة وحرف الاستعلاء أول كلمة بعدها نحو (لتنذر قوما-أن أنذر قومك-ولا تصاعر خدك-فاصبر صبرا جميلا) ، والتفخيم في هذا يكون أولى من التفخيم في (حصرت صدورهم) ، لوجود الفاصل في حصرت دون ما ذكرناه ولا أثر للصاد في حصرت فإنها مكسورة فلا تمنع لأنها مثل (تبصرون) ، والأظهر الترقيق في الجميع قياسا للمانع على المقتضى وسيأتي في البيت بعد هذا أن ما جاء بعد الكسر المفصل فلا ترقيق فيه فلم ينظر إلى المفصل ترقيقا فلا ينظر أيضا إلى المفصل تفخيما فيعطي كل كلمة حكمها والله أعلم ، ومعنى قوله
قظ خص ضغط أي أقم في القيظ في خص ذي ضغط أي خص ضيق أي اقنع من الدنيا بمثل ذلك وما قاربه واسلك طريقة السلف الصالح فقد جاء عن أبي وائل شقيق بن سلمة رحمة الله عليهما وهو من المخضرمين وأكابر التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما نحو من ذلك قال عبد الله بن عمير كان لأبي وائل خص من قصب يكون فيه هو ودابته فإذا غزا نقضه وإذا رجع بناه وأما قوله في الشعراء (فكان كل فرق) ، فالراء فيه رقيقة لوقوعها بين كسرتين وضعف منع حرف الاستعلاء بسبب كسره ونقل الاتفاق على ترقيق هذا الحرف مكي وابن شريح وابن الفحام ، قال الشيخ رحمه الله وفخمها بعضهم لمكان حرف الاستعلاء قال الحافظ أبو عمرو والوجهان جيدان قال وإلى هذا أشار بقوله جرى بين المشايخ سلسلا قلت وقال الداني في كتاب الإمالة كان شيخنا أبو الحسن يرى إمالة الراء في قوله (والإشراق) ، لكون حرف الاستعلاء فيه مكسورا قال فعارضته بقولي (إلى صراط) ، وألزمته الإمالة فيه قال ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء لقراءة ورش عن نافع من المصريين وغيرهم في إخلاص فتح الراء في ذلك وإنما قال ذلك شيخنا رحمه الله فيما أحسبه قياسا دون أداء لاجتماع الكل على خلاف ما قاله والله أعلم
(352)
وَمَا بَعْدَ كَسْرٍ عَارِضٍ أَوْ مُفَصَّلٍ فَفَخِّمْ فَهذاَ حُكْمُهُ مُتَبَذِّلاَ
أي والذي يوجد من الراءات بعد كسر عارض وهو كسر ما حقه السكون ككسر همزة الوصل نحو (امرأة-و-ارجعوا) ، إذا ابتدأت وكسرة التقاء الساكنين نحو (وإن امرأة-أم ارتابوا-يا بني اركب) ، إذا وصلت أو بعد كسر مفصل أي يكون الكسر في حرف مفصل من الكلمة التي فيها الراء لفظا أو تقديرا نحو ما سبق من كسرة التقاء الساكنين نحو (لحكم ربك-بحمد ربهم-و-برسول-و-لرسول) ، لأن حروف الجر في حكم المنفصل من الكلمة الداخلة هي عليها لأن الجار مع مجروره كلمتان حرف واسم فلعروض الكسرة في القسم الأول وتقدير انفصال الراء عن الكسرة في الثاني فخمها ورش في المتحركة وجميع القراء في الساكنة قال ابن الفحام لم يعتد أحد بالكسرة في قوله (بربهم-ولا-بروح القدس-ولا في-ارجعوا) ، قال وأما المبتدأة فلا خلاف في تفخيمها نحو (أرأيت) ، قلت فيعلم من هذا أن نحو قوله تعالى (مقنعي رءوسهم)-(الذي رزقنا) ، لا ترقق وإن كان قبل الراء ياء ساكنة لأنها منفصلة عنها ولم ينبه الناظم على الياء المنفصلة كما نبه على الكسر المفصل وقد نبه عليه غيره والله أعلم ، وقوله متبذلا حال يشير إلى أن التفخيم مشهور عند القراء مبذول بينهم
(353)
وَمَا بَعْدَهُ كَسْرٌ أَوِ الْيَا فَمَا لَهُمْ بِتَرْقِيقِهِ نَصٌّ وَثِيقٌ فَيَمْثُلاَ
أي وما وقع من الراءات بعده كسرة أو ياء على ضد ما سبق لأن الذي تقدم الكلام فيه أن تكون الراء بعد كسر أو ياء وليس هذا على عمومه بل مراده أن ما حكوا ترقيقه مما بعده كسر أو ياء لا نص لهم فيه والذي حكوا ترقيقه من ذلك نحو (مريم-ولفظ-المرء) ، وعموم ما ذكره في هذا البيت يجئ في الراء الساكنة نحو (مريم-و-يرجعون) ، ولا تكون الياء بعدها إلا متحركة نحو (لبشرين-و-البحرين-و-إلى ربهم) ، وكان القياس يقتضي أن هذا كله يرقق كما لو تقدمت الياء أو الكسر فإن الترقيق إمالة وأسباب إمالة الألف تكون تارة بعدها وهو الأكثر وتارة قبلها فينبغي أن تكون الراء كذلك ولكن عدم النص في ترقيق مثل ذلك ونقل مكي الترقيق في نحو (مريم-و-قرية) ، فقال أما الراء الساكنة فلا اختلاف فيها أنها غير مغلظة إذا كان قبلها كسرة لازمة أو بعدها ياء نحو (مريم-و-فرعون-قال ونقلت-بين المرء) ، بالتغليظ وتركه لورش وللجماعة بالتغليظ قال الداني على الترقيق عامة أهل الأداء من المصريين القدماء قال والقياس إخلاص فتحها لفتحة الميم قبلها قوله فيمثلا أي فيظهر ثم قال
(354)
وَمَا لِقِيَاسٍ فِي الْقِرَاءة مَدْخَلٌ فَدُونَكَ مَا فِيهِ الرِّضاَ مُتَكَفِّلاَ
أي لو فتح قياس ما بعد الراء على ما قبلها لاتسع الأمر في ذلك فيقال يلزم من إمالة (مريم-إمالة نحو-يرتع) ، فلا فرق بين أن تكون الياء المفتوحة بعد الراء وقبلها بل مراعاة ما قبلها أولى بدليل أن الياء الساكنة اعتبرت قبل الراء ولم تعتبر بعدها نحو (وجرين بهم) ، وقد اعتذر قوم عن ذلك بما فيه تكلف ولو رققت الراء من (يرتع) ، لرققت لورش في نحو (يرون) ، فدونك ما فيه الرضى أي ما نقل ترقيقه وارتضاه الأئمة متكفلا بتقديره وإظهاره للطلبة أي خذه والزمه متكفلا به ويجوز أن يكون متكفلا حالا من ما وهو المفعول أي خذ الذي تكفل بالرضى للقراء والمعنى أنهم يرضون هذا المذهب دون غيره وأما نفي أصل القياس في علم القراءة مطلقا فلا سبيل إليه وقد أطلق ذلك أبو عمرو الداني في مواضع وقد سبقت عبارته في (بين المرء) ، بأن القياس إخلاص فتحها وقال في آخر باب الراءات من كتاب الإمالة فهذه أحكام الوقف على الراءات على ما أخذناه عن أهل الأداء وقسناه على الأصول إذ عدمنا النص في أكثر ذلك واستعمل ذلك أيضا في بيان إمالة ورش الألف بين اللفظين في مواضع كثيرة في كتاب الإمالة وغيره
(355)
وَتَرْقِيقُهاَ مَكْسُورَةً عِنْدَ وَصْلِهِمْ وَتَفْخِيمُهاَ في الْوَقْفِ أَجْمَعُ أَشْمُلاَ
يعني إذا كانت الراء مكسورة فكلهم يرققها إذا وقعت وسطا مطلقا نحو (قادرين-و-الصابرين) ، أو أولا نحو (ريح-ورجال) ، وإن وقعت الراء المكسورة آخر كلمة رققت للجميع في الوصل سواء كان الكسر أصلا أو عارضا نحو (من أمر الله-و-أنذر الناس) ، فإن وقفت زالت كسرة الراء الموجبة لترقيقها فتفخم حينئذ وفيه إشكال فإن السكون عارض وقد تقدم في باب الإمالة أن السكون العارض في الوقف لا يمنع الإمالة فيتجه مثل ذلك هنا وقد أشار إليه مكي فقال أكثر هذا الباب إنما هو قياس على الأصول وبعضه أخذ سماعا ولو قال قائل إنني أقف في جميع الباب كما أصل سواء سكنت أو رمت لكان لقوله وجه لأن الوقف عارض والحركة حذفها عارض وفي كثير من أصول القراءات لا يعتدون بالعارض قال فهذا وجه من القياس مستتب والأول أحسن قلت وقد ذكر الحصري الترقيق في قصيدته فقال ، (وما أنت بالترقيق واصله فقف عليه به إذ لست فيه بمضطر) ، ويمكن الفرق بين إمالة الألف وترقيق الراء بأن إمالة الألف أقوى وأقيس وأفشى في اللغة من ترقيق الراء بدليل أن الألف تمال ولا كسر يجاورها كذوات الياء ويمال أيضا نحو (خاف) ، لأن الخاء قد تكسر إذا قيل خفت فاتسع في إمالة الألف كثيرا فجاز أن يمنع الأضعف ما يمنع الأقوى لكن يضعف هذا الفرق نصهم على ترقيق الراء الأولى من (شرر) ، في الوقف فهذا دليل على اعتبار الكسر فيها بعد ذهابه بسكون الوقف قالوا وترقيق الثانية لأجل إمالة الأولى وهذا دليل على عدم اعتبار الكسر فيها وإلا لآثر في نفسها الترقيق ولم يعتبر بإمالة ما قبلها ووجه ذلك أن ترقيق الأولى أشبه إمالة الألف في نحو (النار) ، وكلاهما رقق لكسرة بعده فبقي الترقيق بعد زوال الكسرة في الوقف كما تقدم في الألف وقوله وترقيقها مبتدأ وخبره قوله عند وصلهم وأجمع أشملا خبر قوله وتفخيمها وأشملا تمييز وهو جمع شمل والمعنى هو أجمع أشملا من ترقيقها إشارة إلى كثرة القائلين به وقلة من نبه على جواز الترقيق
فيه كما نبه عليه مكي والحصري فإن قلت ما تقول في قوله تعالى (فالفارقات فرقا) ، هل تمنع القاف من ترقيق الراء المكسورة قلت لا لقوة مقتضى الترقيق وهو الكسر في نفس الراء وإنما يمنع حرف الاستعلاء ترقيق غير المكسورة لأن مقتضى ترقيقها في غيرها فضعف فقوى حرف الاستعلاء على منع مقتضاه قال الداني أما الراء المكسورة فلا خلاف في ترقيقها بأي حركة تحرك ما قبلها ولا يجوز غير ذلك والله أعلم
(356)
وَلكِنَّهَا في وَقْفِهِمْ مَعْ غَيْرِهاَ تُرَقِّقُ بَعْدَ الْكَسْرِ أَوْ مَا تَمَيَّلاَ
الضمير في ولكنها للمكسورة أي مع غيرها من الراءات المفتوحة والمضمومة والساكنة ترقق في الوقف إذا كان قبلها أحد أسباب ثلاثة ذكر منها في هذا البيت اثنين الكسر والإمالة والثالث يأتي في البيت الآتي وهو الياء الساكنة فمثال ذلك بعد الكسر (فهل من مدكر-يحلون فيها من أساور-إنما أنت مذكر-فانتصر) ، ومن ذلك ما كان بين الراء وبين الكسر فيه ساكن نحو- الذكر-و-السحر-و-الشعر ، نص عليه الداني في كتاب الإمالة فكأن الشاطبي أراد بعد الكسر المؤثر في مذهب ورش وقد علم ذلك من أول الباب ومثال ذلك بعد الإمالة (عذاب النار) ، في مذهب الدوري وأبي عمرو و(بشرر) ، في مذهب ورش نص عليه الداني وغيره وهو مشكل من وجه أن الراء الأولى إنما أميلت لكسرة الثانية فإذا اعتبرت الكسرة بعد سكون الوقف لأجل إمالة الأولى فلم لا تعتبر لأجل ترقيقها في نفسها ولا يقع هذا المثال إلا في المكسورة وعلى مذهب بعض القراء بخلاف المثال بعد الكسر فإنه وقع في أنواع الراء الأربعة وفي مذهب جميع القراء وسبب الترقيق سكون الراء بعد الكسر أو ما يناسبه وهو الإمالة وقد سبق قوله ولا بد من ترقيقها بعد كسرة وهذا الاستدراك المفهوم من قوله ولكنها لأجل قوله في البيت السابق وتفخيمها في الوقف أجمع أشملا فكأنه استثنى من هذا فقال إلا أن تكون بعد كسر أو حرف تميل ثم ذكر الياء الساكنة فقال
(357)
أَوِ الْيَاء تَأْتِي بِالسُّكُونِ وَرَوْمُهُمْ كَمَا وَصْلِهِمْ فَابْلُ الذَّكَاءَ مُصَقَّلاَ
لا تقع الراء الساكنة بعد الياء الساكنة وإنما تقع بعدها الراء المتحركة بالحركات الثلاث في قراءة جميع القراء نحو (ذلك خير-وما تفعلوا من خير-وافعلوا الخير) ، ولا يستقيم التمثيل بالمنصوب المنون فإن الوقف لا يكون فيه على الراء بل على الألف المبدلة من التنوين فيبقى الترقيق فيه لورش وحده بشرطه هذا كله إذا وقفت على الراء بالسكون فإن وقفت بالروم على ما سيأتي شرحه كان حكم الوقف حكم الوصل لأنه قد نطق ببعض الحركة فترقق المكسورة للجميع وغيرها لورش بشرطه ويفخم الباقي للجميع وما في قوله كما زائدة أي رومهم كوصلهم وفابل بمعنى اختبر ومصقلا نعت مصدر محذوف أي بلاء مصقلا أي مصقولا يشير إلى صحة الاختبار ونقائه مما يكدره ويشوبه من التخاليط فبذلك يتم الغرض في تحرير هذه المسألة لأنها مسائل متعددة عبر عنها بهذه العبارة الوجيزة وبسط هذا أن نقول لا تخلو الياء إما أن تكون مكسورة أو غير مكسورة فإن كانت مكسورة رققت وصلا وروما وفخمت إن وقفت بالسكون إلا في ثلاث صور وهي أن يكون قبلها كسر أو ياء ساكنة فترقق لجميع القراء في هاتين الصورتين الصورة الثالثة أن يكون قبلها إمالة فترقق لأصحاب الإمالة دون غيرهم وإن كانت غير مكسورة فهي مفخمة لجميع القراء وقفا بالسكون إلا أن يكون قبلها أحد الثلاثة فالحكم ما تقدم في الوصل والروم مفخمة لغير ورش مرققة لورش بعد الكسر والياء الساكنة على ما في أول الباب ولا يقع الروم في المنصوبة فاعتبر ذلك وقس عليه ، ثم أشار إلى أن الأصل التفخيم بقوله
(358)
وَفِيماَ عَدَا هذَا الَّذِي قَدْ وَصَفْتُهُ عَلَى الْأَصْلِ بِالتَّفْخِيمِ كُنْ مُتَعَمِّلاَ
أي كن متعملا بالتفخيم على الأصل ومتعملا بمعنى عاملا وفي الصحاح تعمل فلان لكذا وقال غيره سوف أتعمل في حاجتك أي أقضي فيجوز في موضع بالتفخيم بالباء للتفخيم باللام على ما نقله الجوهري والله أعلم
باب اللامات
(359)
وَغَلَّظَ وَرْشٌ فَتْحَ لاَمٍ لِصَادِهاَ أَوِ الطَّاءِ أَوْ لِلظَّاءِ قَبْلُ تَنَزُّلاَ
التغليظ في هذا الباب زيادة عمل في اللام إلى جهة الارتفاع وضده ترك ذلك ومنهم من يعبر عن تركه بالترقيق وعن التغليظ بالتفخيم ثم التغليظ إشباع الفتحة في اللام فلهذا لم يجئ في المكسورة ولا المضمومة ولا الساكنة نحو (يصلي عليكم-تطلع على قوم-وصلنا لهم القول) ، وبعضهم غلظ اللام من (صلصال) ، لوقوعها بين حرفين مستعليين فالتغليظ عند الأكثر لا يقع إلا في اللام المفتوحة ولا فرق بين أن تكون مخففة أو مشددة نحو (أو يصلبوا-وظللنا عليهم) ، وحكى مكي عن شيخه أبي الطيب ابن غلبون أنه رقق المشددة بعد الظاء دون الصاد وقوله لصادها أي لأجل الصاد الواقعة قبلها أو أضافها إليها لاتصالها بها أي إذا تنزل أحد هذه الأحرف الثلاثة قبل اللام المفتوحة غلظت اللام ولم يعتبر أبو الطيب بن غلبون الطاء المهملة واعتبر قوم الضاد المعجمة أيضا نحو (أضللتم-و-ضللنا) ، ومنهم من اعتبر أيضا كل لام مفتوحة بين حرفين مستعليين مطلقا نحو (خلطوا-و-أخلصوا-و-غلقت الأبواب-فاستغلظ-ماذا خلقوا) ، وكل هذا قياس على رواية ضعيفة نقلا ولغة والله أعلم
(360)
إِذَا فُتِحَتْ أَوْ سُكِّنَتْ كَصَلاتِهِمْ وَمَطْلَعِ أَيْضًا ثمَّ ظَلَّ وَيُوصَلاَ
أي شرط تأثير هذه الحروف الثلاثة وهي الصاد والطاء والظاء في التغليظ في اللام المفتوحة أن تكون مفتوحة أو ساكنة فإن حرف الاستعلاء إذا فتح أو سكن عظم استعلاؤه بخلافة إذا انكسر أو انضم نحو (فصلت-و-عطلت-و-ظلال-و-في ظلل من الغمام) ، فمثال الصاد المفتوحة (الصلاة) ، ومثال الساكنة (فيصلب-والطاء نحو-طلقتم-و-مطلع-والظاء نحو-ظلموا-و-إذا أظلم) ، ومثل الشاطبي رحمه الله بقوله تعالى (ظل وجهه) و(يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) ، وهذان وما أشبههما نحو (بطل-و-فصل) ، وقعت اللام فيها طرفا فالمتوسطة نحو (صلاتهم-و-مطلع) ، مغلظة وصلا ووقفا والمتطرفة مغلظة وصلا وأما في الوقف فقال أبو عمرو الداني يحتمل وجهين الترقيق والتفخيم فالترقيق نظرا إلى السكون العارض بالوقف والتفخيم نظرا إلى الأصل قال وهو أوجه
(361)
وَفي طَالَ خُلْفٌ مَعْ فِصَالاً وَعِنْدَماَ يُسَكَّنُ وَقْفاً وَالمُفَخَّمُ فُضِّلاَ
أراد قوله تعالى (أفطال عليكم العهد)-(فطال عليهم الأمد)-(فإن أرادا فصالا)-(وكذلك)-(يصالحا) ، وشبهه مما بين اللام فيه وبين حرف الاستعلاء ألف فاصل وظاهر النظم يوهم اقتصار الخلاف على (طال-و-فصالا) ، ولو قال ، (وفي طال خلف مع فصالا ونحوه وساكن وقف والمفخم فضلا) ، لزال الإيهام ، قال الداني في اللام وجهان التفخيم اعتدادا بقوة الحرف المستعلى والترقيق للفاصل الذي فصل بينهما قال والأوجه التفخيم لأن ذلك الفاصل ألف والفتح منه ، قلت وأما اللام المشددة نحو (ظل-و-يصلبوا) ، فلا يقال فيها إنه فصل بينها وبين حرف الاستعلاء فاصل ، فينبغي أن يجري الوجهان لأن ذلك الفاصل أيضا لام أدغمت في مثلها فصارا حرفا واحدا فلم تخرج اللام عن أن حرف الاستعلاء وليها وأما الذي سكن للوقف فنحو (أن يوصل) ، إذا وقفت عليه ففيه وجهان سبق ذكرهما أي وعند الذي يسكن في الوقف وقوله وقفا مصدر في موضع الحال أي ذا وقف أي موقوفا عليه وقوله والمفخم فضلا يعني في المسئلتين المذكورتين كما نقلناه من كلام الداني ، فإن قلت لم كان التفخيم أفضل فيما سكن للوقف ولقائل أن يقول ينبغي أن لا يجوز التفخيم أصلا كما سبق في الراء المكسورة أنها تفخم وقفا ولا ترقق لذهاب الموجب للترقيق وهو الكسر وههنا قد ذهب الفتح الذي هو شرط في تغليظ اللام وكلا الذهابين عارض ، قلت سبب التغليظ هنا قائم وهو وجود حرف الاستعلاء وإنما فتح اللام شرط فلم يؤثر فيه سكون الوقف لعروضه وقوة السبب فعمل السبب عمله لضعف المعارض وفي باب الوقف على الراء المكسورة زال السبب بالوقف وهو الكسر فافترقا
(362)
وَحُكْمُ ذَوَاتِ الْياَءِ مِنْهاَ كَهذِهِ وَعِنْدَ رُءُوسِ الآيِ تَرْقِيقُهاَ اعْتَلاَ
منها أي من هذه الألفاظ التي فيها اللام المستحقة للتفخيم ويعني الكلمات المقصورة التي آخرها ألف منقلبة عن ياء ولا يقع ذلك في القرآن إلا مع الصاد وحدها في خمسة مواضع في سبحان ، (يصلاها مذموما) وفي الانشقاق (ويصلى سعيرا) وفي الغاشية (تصلى نارا) وفي الليل (لا يصلاها إلا الأشقى) وفي تبت (سيصلى نارا ذات) وكذا (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ، في الوقف ففي تفخيم اللام وجهان كالوجهين فيما سكن في الوقف وذلك أنه قد تقدم أن له في إمالة ذوات الياء وجهين فإن أمال فلا تغليظ وإن لم يمل فالتغليظ فهما ذانك الوجهان ويجوز أن يقال إن الخلاف على قول من يميل ذوات الياء لأن اللام جاورها ما يقتضي تغليظها وما يقتضي ترقيقها لكن التغليظ يكون ههنا أولى من الإمالة لأنه شبه الخلاف الذي هنا بالخلاف الذي فيما سكن للوقف وقد ذكر أن المفخم ثم ، فضل فكذا ينبغي أن يكون هنا وقد نص عليه الداني في كتاب الإمالة فقال والأوجه هنا التفخيم ولم يذكر مرجحا وإنما فرق بين هذا وبين رءوس الآي على ما سنذكره ، وأقول سبب ترجيح التفخيم وجود سببه سابقا وتقدم اللام المغلظة على الألف الممالة فعمل السبب عمله قبل وجود ما تدخله الإمالة ، ثم قال وعند رءوس الآي أي إذا وجد مثل ذلك وهو ما يقتضي التغليظ والإمالة في كلمة هي رأس آية من السور الإحدى عشرة المتقدم ذكرها غلبت الإمالة التغليظ لأن ورشا يميل رءوس الآي بلا خلاف لمؤاخاة رءوس الآي والتغليظ يخالف بينها وقد روى التغليظ قال الداني كلا الوجهين حسن جميل غير أن الترقيق أقيس وأوجه ، قلت فلهذا قال ترقيقها اعتلا أي اعتلى على التغليظ واستعمل الترقيق هنا بمعنى الإمالة وجملة ما وقع من ذلك في رءوس الآي ثلاثة مواضع في سورة القيامة (ولا صلى) وفي سبح (فصلى) وفي اقرأ (إذا صلى) وأما (من مقام إبراهيم مصلى) ، ففيه التغليظ في الوصل لأنه منون وفي الوقف الوجهان السابقان ولا تترجح الإمالة وإن كان رأس آية إذ
لا مؤاخاة لآي قبلها ولا بعدها قوله كهذه أي كهذه المواضع المذكورات في البيت السابق وهي ما في باب طال والمسكن وقفا
(363)
وَكُلُّ لَدَى اسْمِ اللهِ مِنْ بَعْدِ كَسْرَةٍ يُرَقِّقُهَا حَتَّى يَرُوقَ مُرَتَّلاَ
أي وكل القراء وغيرهم أيضا اجتمعوا على أن اللام من اسم الله تعالى إذا كان قبلها حرف مكسور أنهم يرققونها والترقيق هنا ضد التغليظ وليس المراد به الإمالة بخلاف قوله وترقيقها اعتلا على ما سبق واسم الله تعالى التزم فيه التغليظ تفخيما له وتعظيما اختص بذلك اسمه سبحانه من غير وجود حرف استعلاء فيه فإذا وقع بعد كسرة رققت اللام تحسينا للفظ به فهذا معنى قوله حتى يروق مرتلا أي يروق في اللفظ به حال ترتيله وذلك لكراهة التصعد بعد التسفل وأما سائر اللامات فمرققة مطلقا كالليل واللبن واللحم
(364)
كَمَا فَخَّمُوهُ بَعْدَ فَتْحٍ وَضَمَّةٍ فَتَمَّ نِظَامُ الشَّمْلِ وَصْلاً وَفَيْصَلاَ
الهاء في فخموه لاسم الله تعالى ولو قال فخموها يعني اللام كما قال ترقيقها لكان جيدا وقوله وصلا وفيصلا حالان من الهاء أي ذات وصل وفيصل أي سواء كانت الحركات المذكورة على حروف متصلة بالاسم العظيم أو على حروف منفصلة منه في كلمة أخرى فلا يتغير الحكم بشيء من ذلك في الترقيق والتفخيم فمثال المتصل بالله ولله ومثال المنفصل (بسم الله-قال الله-رسل الله) ، وكذا يرقق بعد الكسر العارض نحو (قل الله) ، وهذا بخلاف ما سبق في ترقيق الراء فإنهم قالوا لا يؤثر في ترقيقها كسرة مفصولة ولا عارضة والفرق أن المراد من ترقيق الراء إمالتها وذلك يستدعي سببا قويا للإمالة وأما ترقيق اللام فهو الإتيان بها على ماهيتها وسجيتها من غير زيادة شيء فيها وإنما التغليظ هو الزيادة فيها ولا تكون الحركة قبل لام اسم الله تعالى إلا مفصولة لفظا أو تقديرا وأما الحركة قبل الراء فتكون مفصولة وموصولة فأمكن اعتبار ذلك فيها بخلاف اللام هذا كله فيما إذا وصلت اسم الله تعالى بما قبله فإن ابتدأت به فخمته لأن الهمزة قبل اللام مفتوحة فهذه حركة متصلة وذلك كأول آية الكرسي ونحوه والراء المرققة غير المكسورة كغير المرققة يجب بعدها التفخيم لأن الترقيق لم يغير فتحها ولا ضمها وأما إذا وقع اسم الله تعالى بعد إمالة نحو قراءة السوسي (ترى الله) ، ففيه وجهان التفخيم كالذي بعد الراء المرققة الغير المكسورة والترقيق لأن في الراء بالإمالة شيئا من الكسر وقال شيخنا أبو الحسن التفخيم أولى وحكاه عن شيخه الشاطبي وقال لي الشيخ أبو عمرو الترقيق أولى لأمرين ، أحدهما أن أصل هذه اللام الترقيق وإنما فخمت للفتح والضم ولا فتح ولا ضم هنا فعدنا إلى الأصل ، والثاني اعتبار ذلك بترقيق الراء في الوقف بعد الإمالة على ما سبق في باب الراءات ، وقوله تعالى (رسل الله)-(الله) ، الاسم الأول مفخم والثاني مرقق وقوله تعالى في أول إبراهيم (إلى صراط العزيز الحميد)-(الله) ، هو مرقق
في الوصل ومفخم إذا ابتدئ به سواء قرئ برفع الهاء أو بجرها والله أعلم
باب الوقف على أوخر الكلم
(365)
وَالإِسْكَانُ أَصْلُ الْوَقْفِ وَهْوَ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْوَقْفِ عَنْ تَحْرِيكِ حَرْفٍ تَعَزَّلاَ
أي اشتقاق الوقف من قولك وقفت عن كذا إذا لم تلابسه فلما كان هذا وقفا عن الإتيان بالحركة سمى وقفا لأن لغة العرب أن لا يوقف على متحرك فالأصل أن يكون الوقف بالإسكان لهذا ولأنه أخف والوقف موضع تخفيف وقوله تعزلا يعني أن الحرف صار بمعزل عن الحركة يقال اعتزله وتعزله ومنه الأعزل الذي لا سلاح معه فيجوز أن يكون تعزلا صفة لحرف وقد ذكرنا معناه ويجوز أن يكون صفة لتحريك حرف أي لتحريك انعزل عن محله ، فإن قلت في قوله وهو اشتقاقه إشكال لأن المعنى يؤول إلى تقدير والوقف اشتقاقه من الوقف ولا يكون اللفظ مشتقا من نفسه ووجه الكلام إنما يسمى وقفا من قولهم وقفت عن كذا لأنه وقف عن الحركة ، قلت يجوز أن يكون وهو ضمير الشأن لا ضمير الوقف فيلتئم الكلام ولا يتنافر وهذا الذي ذكره تبرع منه وليس في كتاب التيسير الذي نظمه
(366)
وَعِنْدَ أَبِي عَمْرٍو وَكُوفِيِّهِمْ بِهِ مِنَ الرُّوْمِ وَالإِشْمَامِ سَمْتٌ تَجَمَّلاَ
به أي فيه والهاء ضمير الوقف والسمت الهيئة والسمت الطريق والسمت القصد نفسه يقال سمت يسمت إذا قصد والسمت الناحية المقصودة وكل ذلك محتمل هنا ووصفه بالتجمل أي عندهم من ذلك أمر جميل من الاحتفال به والاهتمام بشأنه والقصد له في التلاوة به قال صاحب التيسير وردت الرواية عن الكوفيين وأبي عمرو بالوقف بالإشارة إلى الحركة سواء كانت إعرابا أو بناء والإشارة تكون روما وإشماما والباقون لم يأت عنهم في ذلك شيء واستحباب أكثر شيوخنا من أهل القرآن أن يوقف في مذاهبهم بالإشارة لما في ذلك من البيان ، قلت فهذا معنى قوله
(367)
وَأَكْثَرُ أَعْلاَمِ الْقُرَانِ يَرَاهُما لِسَائِرِهِمْ أَوْلَى الْعَلاَئِقِ مِطْوَلاَ
أعلام جمع علم يشير إلى المشايخ أهل أداء القراءة وجعلهم أعلاما لحصول الهداية بهم كالأعلام في الطرق وأضافهم إلى القرآن الذي هو اسم للكتاب العزيز لأنهم أهله أو أراد به القراءة لأنها صناعتهم وأتى به بغير همز كما في قراءة ابن كثير له كما يأتي والقرآن بمعنى القراءة وأراد في قوله تعالى (إن علينا جمعه وقرآنه) ، وقوله يراهما يعني الروم والإشمام لسائرهم أي لباقي القراء السبعة وهم نافع وابن كثير وابن عامر والعلائق جمع علاقة والمطول الحبل ونصبه على التمييز أي يراهما أولى حبل يتعلق به والحبل يكنى به عن السبب الموصل إلى المطلوب فكأنه قال أولى الأسباب سببا أو يكون العلائق البضائع ومطولا حال من الضمير المستتر في يراهما الراجع على أكثر ، قال الشيخ لأنه يكون بذلك سببا للطول أو الطول
(368)
وَرَوْمُكَ إِسْمَاعُ المُحَرَّكِ وَاقِفًا بِصَوْتٍ خَفِيٍّ كُلَّ دَانٍ تَنَوَّلاَ
أخذ يبين حقيقة الروم فقال هو أن تسمع الحرف المحرك احترازا من الساكن في الوصل نحو (لم يلد ولم يولد) ، فهذا لا روم فيه إنما يكون الروم في المحرك في حالة الوصل فترومه في الوقف بأن تسمع كل قريب منك ذلك المحرك بصوت خفي قال في التيسير هو تضعيفك الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها فتسمع لها صوتا خفيا يدركه الأعمى بحاسة سمعه وقال الشيخ هو الإشارة إلى الحركة مع صوت خفي وكلاهما واحد وهذا أخصر فقول الناظم كل دان مفعول إسماع والمفعول الأول أضيف إليه إسماع وهو المحرك أراد إسماعك المحرك كل قريب منك كقولك أسمعت زيدا كلاما ، وقوله واقفا حال من فاعل إسماع وتنولا صفة لدان وهو مطاوع نولته أي أعطيته نوالا كأنه يشير إلى السماع أي كل دان سامع منصت لقراءتك فهو المدرك لذلك بخلاف غيره من غافل أو أصم وقال صاحب صحاح اللغة روم الحركة الذي ذكره سيبويه هي حركة مختلسة مخفاة بضرب من التخفيف وهي أكثر من الإشمام لأنها تسمع وهي بزنة الحركة وإن كانت مختلسة مثل همزة بين بين ثم أخذ يبين الإشمام فقال
(369)
وَالاِشْمَامُ إِطْبَاقُ الشِّفَاهِ بُعَيْدَ مَا يُسَكَّنُ لاَ صَوْتٌ هُنَاكَ فَيَصْحَلاَ
أي بعد ما يسكن الحرف المحرك والشفاه بالهاء جمع شفة وإنما جمع اعتبارا بالقارئين أو هو من باب قولهم هو عريض الحواجب عظيم المناخر ويقال صحل صوته بكسر الحاء يصحل بفتحها إذا صار أبح أي كانت فيه بحوحة لا يرتفع الصوت معها فكأنه أشبه إضعاف الصوت في الروم بذلك فقال ليس في الإشمام مثل ما في الروم قال في التيسير الإشمام ضمك شفتيك بعد سكون الحرف أصلا ولا يدرك معرفة ذلك الأعمى لأنه لرؤية العين لا غير إذ هو إيماء بالعضو إلى الحركة وقال الشيخ هو الإشارة إلى الحركة من غير تصويت وقال في موضع آخر حقيقته أن تجعل شفتيك على صورتهما إذا لفظت بالضمة وقال الجوهري إشمام الحرف أن تشمه الضمة أو الكسرة وهو أقل من روم الحركة لأنه لا يسمع وإنما يتبين بحركة الشفة العليا ولا يعتد بها حركة لضعفها والحرف الذي فيه الإشمام ساكن أو كالساكن ، قلت وهذا خلاف ما يقوله القراء والنحاة في حقيقة الإشمام وفي محله أيضا لكن قال مكي قد روى عن الكسائي الإشمام في المخفوض قال وأراه يريد به الروم لأن الكوفيين يلقبون ما سميناه روما إشماما وما سميناه إشماما روما ، قلت فعبر الجوهري بما لا يوافق المذهبين فكأنه كان في ذلك بين بين وقال أبو علي في التكملة الإشمام هو أن تضم شفتيك بعد الإسكان وتهيئهما للفظ بالرفع أو الضم وليس بصوت يسمع وإنما يراه البصير دون الأعمى وذكر نصر بن علي الشيرازي في كتابه الموضح أن الكوفيين ومن تابعهم ذهبوا إلى أن الإشمام هو الصوت وهو الذي يسمع لأنه عندهم بعض حركة والروم هو الذي لا يسمع لأن روم الحركة من غير تفوه به ، قال والأول هو المشهور عند أهل العربية ، قلت وزعم بعضهم أن ابن كيسان ومن وافقه من الكوفيين ترجموا عن الإشمام بالروم وعن الروم بالإشمام وزعموا أن ذلك أقرب إلى استعمال اللفظين في وضع اللغة ولا مشاحة في التسمية إذا عرفت الحقائق ، ثم ذكر الناظم مواضع استعمال الروم والإشمام فقال
(370)
وَفِعْلُهُماَ في الضَّمِّ وَالرَّفْعِ وَارِدٌ وَرَوْمُكَ عِنْدَ الْكَسْرِ وَالْجَرِّ وُصِّلاَ
أي فعل الروم والإشمام ورد عنهم في المضموم والمرفوع ويختص الروم بالمكسور والمجرور
(371)
وَلَمْ يَرَهُ في الْفَتْحِ وَالنَّصْبِ قَارِئٌ وَعِنْدَ إِمَامِ النَّحْوِ في الْكُلِّ أُعْمِلاَ
الهاء في (يره) ، للروم أي مذهب القراء أن لا روم في المفتوح والمنصوب قالوا لأن الفتحة خفيفة فإذا خرج بعضها خرج سائرها لأنها لا تقبل التبعيض كما تقبله الضمة والكسرة لما فيهما من الثقل ولأن المنصوب المنون لما تبينت فيه الفتحة لإبدال التنوين فيه ألفا لم يرم الباقي لأن لا يبقى ذلك على التقريب من لفظه وقال مكي يجوز فيه الروم غير أن عادة القراء أن لا يروموا فيه وأن يقفوا بالسكون للجميع وقال وقد اختلف لفظ أبي الطيب رحمه الله تعالى في ذلك وبالإسكان قرأت عليه في المنصوب لجميع القراء وأما أهل النحو فأجازوا الروم في الفتح كما في الكسر والضم من غير فرق فقوله إمام النحو يحتمل أن يريد به أئمة النحو فهو لفظ مفرد أريد به الجنس ويجوز أن يريد به المشهور فيهم المقتدى به منهم وهو سيبويه الذي كتابه قدوة هذا العلم والضمير في أعملا للروم وليست الألف للتثنية إنما هي للإطلاق فالإشمام لا مدخل له في حركة الفتح كما لا مدخل له في الكسر وإنما يختص بحركة الضم لأن حقيقته ضم الشفتين وذلك لا يحصل به إلا الدلالة على الضم فقط وقوله في الكل يعني في الحركات كلها ولم يتعرض صاحب التيسير لبيان مذهب النحويين قال سيبويه في كتابه أما ما كان في موضع نصب أو جر فإنك تروم فيه الحركة فأما الإشمام فليس إليه سبيل
(372)
وَمَا نُوِّعَ التَّحْرِيكُ إِلاَّ لِلاَزِمٍ بِنَاءً وَإِعْرَاباً غَداَ مُتَنَقِّلاَ
هذا اعتذار منه عن كونه لفظ بستة أسماء للحركات وهن ثلاث فخاف من إشعار ذلك بتعدد الحركات فقال ما نوعت التحريك وقسمته هذه الأقسام إلا لأعبر عن حركات الإعراب وحركات البناء ليعلم أن حكمهما واحد في دخول الروم والإشمام وفي المنع منهما أو من أحدهما ولو اقتصر على ألقاب أحدهما لخيف أن يظن أن الآخر غير داخل في ذلك وحركة البناء توصف باللزوم لأنها لا تتغير ما دام اللفظ بحاله فلهذا قال للازم بناء أي ما نوعته إلا لأجل أنه منقسم إلى لازم البناء وإلى ذي إعراب غدا بذلك متنقلا من رفع إلى نصب إلى جر باعتبار ما تقتضيه العوامل المسلطة عليه فألقاب الإعراب رفع ونصب وجر وربما قيل وخفض وألقاب البناء ضم وفتح وكسر وقد ذكرها سيبويه في أول باب من كتابه واعتذر عن تعدد الأسماء واتحاد المسمى في اللفظ بنحو من ذلك فإن الرفع والضم لفظهما واحد وكذا النصب والفتح والجر والكسر وكذا الذي آخره ساكن للإعراب يسمى جزما والذي للبناء يسمى وقفا والله أعلم ، فمثال حركات البناء في القرآن (من قبل ومن بعد)و(من حيث)و(من عاد)و(هؤلاء) ، وحركات الإعراب نحو (قال الملأ-إن الملأ-إلى الملإ الأعلى) ، ونصب بناء في قوله للازم بناء على أنه مفعول للازم أو تمييز والتقدير وإن اختلفا فهما متفقان في المعنى لأن الكلمة لزمت البناء والبناء لزم الكلمة إما مطلقا (كحيث-و-أين-و-هؤلاء) ، وإما في حالة من أحواله مطلقا نحو (من قبل-و-لا ظلم-لم يكن الذين كفروا-والله أعلم)
(373)
وَفي هَاءِ تَأْنِيثٍ وَمِيمَ الْجَمِيعِ قُلْ وَعَارِضِ شَكْلٍ لَمْ يَكُوناَ لِيَدْخُلاَ
شرع يبين ما يمتنع فيه الروم والإشمام على رأي القراء فالألف في (يكونا) ، ليدخلا ترجع إلى الروم والإشمام أي لم يقعا في هذه المواضع الثلاثة حيث كانت الموضع الأول هاء التأنيث وهي التي تكون تاء في الوصل ويوقف عليها بالهاء نحو (رحمة-و-نعمة) ، فلا يدخلان فيها لأن الحركة إنما كانت للتاء والهاء بدل عنها في الحالة التي تعدم الحركات فيها وهي الوقف فلا حركة للهاء فترام وتشم فأما ما وقف عليه بالتاء من هذا الباب لأجل رسمه فيدخله الروم والإشمام لأن الحركات داخلة في التاء نص عليه مكي وقال لم يختلف القراء في هاء التأنيث أن الوقف عليها بالإسكان ولا يجوز الروم والإشمام فيها لأن الوقف على حرف لم يكن عليه إعراب إنما هو بدل من الحرف الذي كان عليه الإعراب إلا أن تقف على شيء منه بالتاء اتباعا لخط المصحف فإنك تروم وتشم إذا شئت لأنك تقف على الحرف الذي كانت الحركة لازمة له فيحسن فيه الروم والإشمام ، الموضع الثاني ميم الجمع أي الدالة على جماعة نحو (عليهم-و-إليهم-و-منهم-و-عنهم) ، في المواضع التي توصل بواو على ما تقدم بيانه لم يدخلا فيها لأنها ساكنة وتحريكها في حال صلتها على مذهب من وصلها إنما كان لأجل الصلة ولهذا إذا وقف عليها ترك الصلة فيسكن الميم وأجاز مكي رومها وإشمامها كهاء الضمير على ما يأتي ورد عليه الداني وقال خالف في ذلك الإجماع وأتى بخطأ من القول ، قال مكي ميم الجمع أغفل القراء الكلام عليها والذي يجب فيها على قياس شرطهم أن يجوز فيها الروم والإشمام لأنهم يقولون لا فرق بين حركة الإعراب وحركة البناء في جواز الروم والإشمام فالذي يروم ويشم حركة الميم على النص غير مفارق له للإجماع والذي لا يروم حركة الميم خارج عن النص بغير رواية اللهم إلا أن يوجد الاستثناء فيها منصوصا فيجب الرجوع إليه إذا صح قال وليس ذلك بموجود ومما يقوى جواز ذلك فيها نصهم على هاء الكناية بالروم والإشمام فهي مثل الهاء لأنها توصل
بحرف بعد حركتها كما توصل الهاء ويحذف ذلك الحرف في الوقف كما يحذف مع الهاء فهي مثلها في هذا غير أن الهاء أخفى منها فلذلك امتنعت الهاء عند القراء من الروم والإشمام إذا كانت حركتها مثل حركة ما قبلها أو كان قبلها ساكن من جنس حركتها وهذا لا يكون في الميم لأنها ليست بالخفية ولو كانت في هذا مثل الهاء لم يجز الإشمام في (يا قوم-و-يحكم) ، وليس في جوازه اختلاف وليس قول من يمنع ذلك لأجل أن الميم من الشفتين بشيء لإجماع الجميع على الروم والإشمام في الميم التي في أواخر الأفعال والأسماء التي ليست للجمع ولو تم له منع الإشمام فيها لم يتم له منع الروم فقياس ميم الجمع لمن ضمها وهو يريد بالضم أصلها أن يقف عليها كغيرها من المتحركات والإسكان حسن فيها فأما من حركها لالتقاء الساكنين فالوقف له بالسكون لا غير قلت فنحو (عليهم الذلة) ، حركة الميم بالضم أو الكسر هي لالتقاء الساكنين عند الأكثر فلا ترام ضما ولا كسرا ولا تشم ضما وهي في مذهب من يرى الصلة ليست لالتقاء الساكنين فيجوز فيها الروم والإشمام على مذهب ابن كثير على ما ذكره مكي وفرق الداني بين ميم الجمع وهاء الكناية بأن الهاء محركة قبل الصلة بخلاف الميم يعني بدليل قراءة الجماعة فعوملت حركة الهاء في الوقف معاملة سائر الحركات ولم يكن للميم حركة فعوملت بالسكون فهي كالتي تحرك لالتقاء الساكنين كما يأتي ، الموضع الثالث قوله وعارض شكل الشكل عبارة عن الحركة هنا تجوزا على تجوز وذلك أن استعماله في دلالة الخط على الحركات والسكون مجاز لأنه تقييد كالشكل في الدواب ثم استعماله مخصصا بالحركة تجوز آخر ودلت قرينة الكلام في الروم والإشمام على هذا التجوز ، لأنهما لا يدخلان إلا في متحرك أي وفي شكل عارض أي حركة عارضة فهو من باب حسن وجه إلا أنه لا يجوز أن تقول مررت بحسن وجه وأنت تريد بوجه حسن لما فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف وإنما يجوز على تقدير مررت بشخص حسن وجه فعلى
هذا يكون تقدير البيت وفي لفظ عارض شكل لم يدخلا وذلك حركة التقاء الساكنين ، نحو لم يكن الذين (لم يكن الذين-وعصوا الرسول-فلينظر الإنسان-ويومئذ) ، لأنه ليس هنا حركة فتفتقر إلى دلالة والعلة الموجبة للتحريك في الوصل مفقودة في الوقف لأن الساكن الذي من أجله تحرك الحرف الأول قد باينه وانفصل عنه فأما حركة نحو القاف من قوله تعالى (ومن يشاقِّ الله) ، فترام وإن كانت حركة التقاء الساكنين أيضا لأن الأصل يشاقق فأدغم وحرك وسببه دوام مصاحبة الساكن المدغم وقفا ووصلا ومما يمتنع رومه من الحركات العارضة حركة الهمزة المنقولة في قراءة ورش نحو (من إستبرق-و-قل أوحي) ، قال مكي فأما إن كان الذي أوجب الحركة في الحرف لازما فالروم والإشمام جائزان فيه على ما قدمناه في الوقف على (جزء-و-ملء-و-دفء) إذا ألقيت حركة الهمزة على ما قبلها في قراءة حمزة وهشام لأنها حركة الهمزة وهي تدل عليها فكأن الهمزة ملفوظ بها قال فأما (يومئذ-و-حينئذ) ، فبالإسكان تقف عليه لأن الذي من أجله تحركت الذال يسقط في الوقف فترجع الذال إلى أصلها وهو السكون فهو بمنزلة (لم يكن الذين) ، وشبهه قال وليس هذا بمنزلة (غواش-و-جوار) ، وإن كان التنوين في جميعه دخل عوضا من محذوف لأن التنوين دخل في هذا على متحرك فالحركة أصلية والوقف عليه بالروم حسن والتنوين -في يومئذ- دخل على ساكن فكسر لالتقاء الساكنين على الأصل والله أعلم
(374)
وَفي الْهَاءِ لِلإِضْمَارِ قَوْمٌ أَبَوْهُمَا وَمِنْ قَبْلِهِ ضَمٌّ أَوِ الْكَسْرُ مُثِّلاَ
(375)
أَو امَّاهُمَا وَاوٌ وَيَاءٌ وَبَعْضُهُمْ يُرى لَهُمَا فِي كُلِّ حَالٍ مُحَلِّلاَ
يعني هاء الضمير وهي هاء الكناية التي سبق لها باب أبي قوم الروم والإشمام فيها إذا كان قبلها ضم أو كسر نحو (بمزحزحه-لا نخلفه) ، أو يكون قبلها إما الضم أو الكسر وهما الواو والياء نحو (فيه-و-عقلوه) ، وطلبوا بذلك التخفيف لئلا يخرجوا من ضم أو واو إلى ضمة أو إشارة إليها ومن كسر أو ياء إلى كسرة والهاء في قبله تعود إلى الإضمار أو إلى الهاء ولو قال قبلها لجاز على هذا وكان أحسن لأنه أوضح والوزن موات له قوله مثلا أي شخص قبل الهاء والألف للإطلاق ويجوز أن يكون ضمير التثنية على حد قوله تعالى (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) ، وليس هذا مثل قولك زيد أو عمرو قائم فإنه لا يجوز قائما لأنك لم ترد الإخبار عنهما بل عن أحدهما وهاهنا يريد الإخبار عنهما معا وإنما حرف أو أفاد نفي اجتماعهما فلا يكون إلا أحدهما فلهذا عدل عن الواو إلى أو فهي قريبة الشبه من قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإن المعنى جالسهما وعدل إلى لفظ أو ليفيد أن لك أن تجالس واحدا منهما منفردا كما لك أن تجالسهما معا ثم قال أو أماهما فنقل حركة همزة أم إلى الواو وجعل الواو أما للضم والياء أما للكسر أي أن الضم والكسر تولدا منهما وهذه مسئلة قد اختلف الناس فيها وهي أن الحركات الثلاث أصول حروف العلة أو حروف العلة أصول الحركات وقد سبق الناظم إلى هذه العبارة أبو الحسن الحصري فقال في باب الكناية من قصيدته ، (وأشمم ورم ما لم تقف بعد ضمة ولا كسرة أو بعد أميهما فادر) ، وقوله واو وياء بدلان من أما ثم قال وبعضهم أي وبعض الشيوخ يرى محللا لهما أي مجوزا للروم والإشمام في هاء الإضمار كيف كانت وعلى أي حال وجدت ولم يستثن ما ذكره هؤلاء القوم فقوله محللا اسم فاعل من التحليل الذي هو ضد التحريم ونصبه على أنه مفعول ثان لقوله يرى وهذه المسئلة لم تذكر في التيسير وقد ذكرها مكي فقال إذا وقفت على هاء الكناية وكانت مضمومة وقبلها ضمة أو واو ساكنة أو كانت مكسورة
وقبلها كسرة أو ياء ساكنة وقفت بالإسكان لا غير عند القراء ، قال وقد ذكر النحاس جواز الروم والإشمام في هذا وليس هو مذهب القراء ويقف عليها فيما عدا هذين الأصلين كسائر الحروف بالروم والإشمام على ما ذكرناه والله أعلم
باب الوقف على مرسوم الخط
(376)
وَكُوفِيُّهُمْ وَالْمَازِنِيُّ وَنَافِعٌ عُنُوا بِاتَّبَاعِ الْخَطِّ فِي وَقْفِ الاِبْتِلاَ
المازني هو أبو عمرو وعنوا أي اعتنوا باتباع خط المصحف والابتلا الاختبار أي إذا اختبروا بالوقف على كلمات ليست بموضع وقف ليعلم به معرفة القارئ بحقيقة تلك الكلمة أو إذا انقطع نفس القارئ فوقف على تلك الكلمة فقد وردت الرواية عن هؤلاء الأئمة المذكورين باتباع الرسم فيها فيوقف عليها على وفق رسمها في الهجاء وذلك باعتبار الأواخر في تفكيك الكلمات بعضها من بعض وتقطيعها فما كتب من كلمتين موصولتين لم يوقف إلا على الثانية منهما وما كتب منهما مفصولا يجوز أن يوقف على كل واحدة منهما وذلك نحو عن ماهما كتبتا بالقطع في موضع وبالوصل في آخر فيقفون في المقطوع على عن وفي الموصول على عما وفي الوصل لا يظهر لذلك أثر فلهذا خص الباب بالوقف
(377)
وَلاِبْنِ كَثِيٍر يُرْتَضى وَابْنِ عَامِرٍ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ حَرٍ أَنْ يُفَصَّلاَ
أي يرتضى لهما الوقف على المرسوم وإن لم يرد به عنهما رواية وذلك لما فيه من التنبيه على الرسم قال في التيسير اعلم أن الرواية ثبتت لدينا عن نافع وأبي عمرو والكوفيين أنهم كانوا يقفون على المرسوم وليس في ذلك عندنا شيء يروى عن ابن كثير وابن عامر واختيار أئمتنا أن يوقف في مذهبهما على المرسوم كالدين روي عنهم ذلك ، قلت وذلك منقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه ولم توضع هذه القصيدة إلا لبيان المختلف فيه فلهذا قال وما اختلفوا فيه حر أن يفصلا أي حقيق تفصيله أي تبيينه بطريق التفصيل واحدا بعد واحد فقوله حر مثل عم وشد وهو خبر قوله وما اختلفوا فيه وقوله أن يفصلا في موضع رفع على أنه فاعل حر يقال حر وحرا منقوصا ومقصورا وكلاهما مستقيم هنا وزنا ومعنى والكل بمعنى خليق وجدير وحقيق إلا أن المنقوص يثنى ويجمع بخلاف المقصور أما المتفق عليه فنحو الوصل والقطع بين الكلمات والإثبات والحذف في حروف العلة نحو (ويمح الله الباطل) في الشورى و(يدع الإنسان بالشر-يدع الداع-سندع الزبانية) ، كتبت هذه المواضع الأربعة بحذف الواو فيوقف عليها كذلك وكتب (يمحو الله ما يشاء) ، في الرعد بإثبات الواو فالوقف عليه كذلك و(عمّا) ، موصولة إلا قوله تعالى (فلما عتوا عن ما نهوا عنه) ، فإنها مفصولة وكذا (إما) ، موصولة إلا في الرعد (وإن ما نرينك) ، وهو كثير يؤخذ من المصنفات في ذلك فلا يطول بذكره ، ثم شرع يبين الذي اختلف فيه القراء فقال
(378)
إِذَا كُتِبَتْ بِالتَّاءِ هَاءُ مُؤَنَّثٍ فَبِالْهَاءِ قِفْ (حَقَّـ)ـا رِضًى وَمُعَوِّلاَ
يعني كل هاء تأنيث في الوقف وهي تاء في الوصل منها ما رسم في المصحف على لفظ الوقف ومنها ما رسم على لفظ الوصل بالتاء فما كتب من ذلك بالهاء فلا خلاف في الوقف عليها كذلك لأنها هي اللغة الفصحى والرسم موافق لها فلا معدل عنها وما كتب من ذلك بالتاء فوقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخالفوا الرسم اتباعا لأفصح اللغتين ووقف الباقون بالتاء لأنها لغة ثابتة وفي القراءة بها موافقة للرسم وقوله حقا رضى ومعولا أحوال على حذف مضاف أي ذا حق ورضى وتعويل ويجوز أن تكون مفعولات مطلقة وأفعالها مضمرة أي حق ذلك حقا ورضى ذلك رضى وعول عليه معولا ثم استثنى من ذلك فقال
(379)
وَفي اللاَّتَ مَعْ مَرْضَاتِ مَعْ ذَاتَ بَهْجَةٍ وَلاَتَ (رُِ)ضًى هَيْهَاتَ (هَـ)ادِيِه رُفِّلاَ
أي الوقف بالهاء في هذه الأماكن مرضى يريد قوله تعالى (أفرأيتم اللات والعزى) و (مرضاة) ، حيث وقعت وذات من قوله (ذات بهجة-بخلاف قوله-ذات بينكم) ، ونحوها وليس الكلام في بهجة فإن الوقف عليها بالهاء بإجماع لأنها رسمت كذلك وأما ولات ففي قوله تعالى (ولات حين مناص) ، رسم الجميع بالتاء ووقف الكسائي عليهن بالهاء طردا لمذهبه ولم يوافقه أبو عمرو وابن كثير لمعان اختصت بهذه المواضع أما اللات فإذا وقف عليها بالهاء أشبه لفظ الوقف على اسم الله وأما مرضاة فالوقف عليه بالهاء يشبه لفظ مرضى جمع مريض إذا أضيفت إلى هاء الضمير وأما ذات فمؤنث ذو ولم يجر على لفظ مذكره فوقف عليه بالتاء كبنت وأخت بخلاف ابنة ففيها اللغتان لأنها على لفظ مذكرها وهو ابن فزيد فيه هاء التأنيث وأما لات فالتاء فيها تأنيث بمنزلة التي تدخل الأفعال نحو قامت وقعدت وإنما حركت لالتقاء الساكنين وللفرق بين تاء التأنيث في الأفعال وبينها في الحروف ألا تراها لا تزال مفتوحة فهي محركة كما حركوا تاء ثمت وربت إلا أن هذه يجوز إسكانها إذ لا ساكن قبلها وما كان من هذا القبيل فحقه أن يوقف عليه بالتاء ووقف عليها الكسائي بالهاء لأنها أشبهت تاء التأنيث في الأسماء للزومها الحركة وقرأت في كتاب أبي بكر بن مهران في شرح كتاب سيبويه قال يقال لات ولاه في الوقف وثمة وثمه في الوقف وربت وربه في الوقف قلت وقد حكى أن التاء كتبت مع حين فعلى هذا يكون الوقف على لا وبعدها تحين وقال الفراء الوقف على ولات واللات وذات بالتاء أحب إلي من الهاء وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي فقال ذاة للذات و-أفرأيتم اللاه) للات ، وقال في-ولات حين مناص- ولاه وخص الوقف بالهاء على ذات في (ذات بهجة-دون-ذات بينكم) ، وشبهه جمعا بين اللغتين ووافقه البزي على (هيهات) ، فوقفا بالهاء ولهذا قال رفلا لأن الترفيل التعظيم وهو اسم زيادة سبب خفيف في قافية مجزو ، والكامل في الضرب الأول منه وإنما
قال هاديه رفل لانضمام البزي إلى الكسائي في ذلك
(380)
وَقِفْ يَا أَبَهْ (كُـ)فْؤًا (دَ)نَا وَكَأَيِّنِ الْوُقُوفُ بِنُونٍ وَهْوَ بِالْيَاءِ (حُـ)صِّلاَ
كفوا حال من الضمير في قف أي كفؤا في إقامة الحجة أي قف بالهاء قائلا يا أبه أراد يا أبت حيث جاء وقف عليه بالهاء ابن عامر وابن كثير لأنها تاء تأنيث لحقت الأب في باب النداء خاصة فكان الوقف عليها كغيرها فابن كثير جرى على أصله في ذلك وخالفه أبو عمرو والكسائي لأنها ليست طرفا فإن ياء الإضافة مقدرة بعدها وقد قال أبو بكر الأنباري يقف بالتاء من كسر ولا يجوز أن يقف بالهاء لأن الكسرة التي في التاء دالة على ياء المتكلم مثل (يا قوم-و-يا عباد) ، وخالف ابن عامر هنا أصله فلم يقف بالتاء لأنه فتحها وصلا على ما يأتي فأراد أن يفرق بينها وبين غيرها من التاءات لما اختصت به هذه من أحكام لم توجد في الباقية ومن وقف بالتاء اتبع الرسم في جميع الباب وكذا من وقف على (كأين) ، بالنون وهم جميع القراء إلا أبا عمرو فإنه وقف على الياء تنبيها على الأصل لأن التنوين يحذف في الوقف وهي كلمة أي دخل عليها كاف التشبيه وهي مجرورة منونة مثل زيد فحصل ذلك المعنى منه بسبب الوقف عليه بالياء والواو في قوله (وكأين) ، للعطف ليشمل ما جاء من ذلك بالواو والفاء وقوله الوقوف بنون مبتدأ وخبر أي الوقوف فيه كائن بالنون أي عندها كما تقول قف بالديار وقوله وهو بالياء مثله أي والوقوف أيضا (كأين) ، بالياء والألف في حصلا ضمير الموقفين ولا يجوز أن يكون بالياء متعلقا بضمير الوقوف الذي هو وهو ويكون حصلا خبره لمنعهم جواز قولك مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح ويجوز أن يتعلق بالياء بقوله حصلا فتكون الألف في حصلا للإطلاق والله أعلم
(381)
وَمَالِ لَدَى الْفُرْقَانِ وَالْكَهْفِ وَالْنِّسَا وَسَالَ عَلَى مَا (حَـ)جَّ وَالْخُلْفُ (رُ)تِّلاَ
يريد قوله تعالى (ما لهذا الرسول) و (ما لهذا الكتاب)-(فمال هؤلاء القوم)-(فمال الذين كفروا) ، كتبت لام الجر مفصولة في هذه المواضع الأربعة تنبيها على انفصالها من مجرورها في المعنى فوقف أبو عمرو على-ما-لأن حرف الجر من الكلمة الآتية ووقف باقي القراء على اللام اتباعا للرسم واختلف عن الكسائي فروى عنه مثل أبي عمرو ومثل الجماعة وتقدير البيت ومال في هذه السور الأربع الوقف فيها على لفظ ما حج أي غلب في الحجة لأن الكلمة مستقلة فوقف عليها ولم يقف على اللام الخافضة لأنها مع ما بعدها كالكلمة الواحدة ولفظه بقوله ومال تنبيه على أن الرسم كذلك فمنه نأخذ أن وقف المسكوت عنه من القراء على اللام وقوله رتلا أي بين ومنه ترتيل القراءة وهو الترتيل فيها والتبيين أي نقل الخلاف عن الكسائي في الكتب المشهورة والله أعلم
(382)
وَيَا أَيُّهَا فَوْقَ الدُّخَانِ وَأَيُّهَا لَدَى النُّورِ وَالرِّحْمنِ (رَ)افَقْنَ حُمِّلاَ
يعني أن في الزخرف (ياأيّه الساحر) ، وفي سورتي النور والرحمن (أيها) ، بغير حرف النداء فلهذا أعاد لفظ أيها يريد قوله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعا أيُّه المؤمنون)-(سنفرغ لكم أيه الثقلان) ، وقف بهذا اللفظ الكسائي وأبو عمرو وهو لفظ الوصل وإنما سقطت الألف للساكن بعدها فوقفا على أصل الكلمة ووقف الباقون على الهاء من غير ألف اتباعا للرسم لأن الألف لم ترسم في هذه المواضع الثلاثة فكتبت على لفظ الوصل من غير نظر إلى الأصل كما كتبت ، (ويمح الله الباطل) ، بغير واو ووقف الجميع كذلك وأما سائر المواضع نحو (يا أيها الناس-يا أيها الذين آمنوا-يا أيها النبي) ، فالوقف بالألف لجميع القراء لأن الرسم كذلك ، فإن قلت تلفظ في البيت بغير لفظ الرسم فمن أين تعلم قراءة الباقين قلت من البيت الآتي والضمير في رافقن لهذه المواضع أي رافقن حاملين لهن من القراء النقلة يشير إلى أن القراءة نقل فالاعتماد عليه وإن كان أصل الكلمة شاهدا لها وحملا جمع حامل
(383)
وَفي الْهَا عَلَى الإِتْبَاعِ ضَمَّ ابْنُ عَامِرٍ لَدَى الْوَصْلِ وَالْمَرْسُومِ فِيهِنَّ أَخْيَلاَ
يعني أن ابن عامر ضم الهاء في الوصل في هذه المواضع الثلاثة قال الشيخ قدرت الهاء في المعنى كما هي في اللفظ فضمت كما يضم المنادى المفرد وهي لغة عربية حكاها الكسائي والفراء ، قال الفراء هي لغة بني أسد يقولون أيه الرجل أقبل وذلك أنهم شبهوا هذه الهاء بهاء الضمير فضموها وكذلك حركوا هاء السكت تشبيها لها بهاء الضمير وأسكنوا هاء الضمير تشبيها بهاء السكت وفي قراءة ابن عامر تحريك هاء السكت يعني في الأنعام (فبهداهم أقتده) ، وقول الناظم على الإتباع بيان لمأخذ هذه اللغة وحركتها وهي أنهم ضموا الهاء إتباعا لضمة الياء قبلها والوجه فتح الهاء وهي قراءة الجماعة لأنها ها التي للتنبيه حذفت ألفها للساكن الذي بعدها ويعلم من قوله إن ابن عامر ضم الهاء على الإتباع أنه رسم بغير ألف وأن من عدا الكسائي وأبا عمرو وقفوا على الهاء لأن الألف لا يمكن ضم ما قبلها وكأن هذا من باب الإثبات والحذف فكأنه قال أثبت الألف في الوقف أبو عمرو والكسائي فالباقون على حذفها وقفا وزاد ابن عامر فضم الهاء في الوصل إتباعا والإتباع في اللغة وجه مقصود في مواضع كثيرة ، قال الشيخ وأجاز صاحب القصيدة ضم ابن عامر بالرفع على الابتداء وضم ابن عامر على أنه فعل وفاعل ، قلت فعلى هذا تقدير الكلام أوقع الضم في الهاء فهو من باب ، يجرح في عراقيبها نصلى ، ثم قال الشيخ والمرسوم مبتدأ وفيهن الخبر وأخيلا منصوب على الحال والتقدير والمرسوم استقر فيهن أخيلا أي مشبها ذلك والأخيل الحبرة اليمانية شبه الرسم بها ، قلت وتبع الشارحون الشيخ في هذا المعنى واللفظ وهو مشكل لفظا ومعنى فإن الأخيل طائر والرجل المتكبر وما رأيت أحدا من أهل اللغة ذكر أنه الحبرة وقد كشفت الكتب المشهورة في ذلك فلم أجده ثم لا طائل للمعنى المفهوم من هذا اللفظ على تقدير صحته وقد طال فكري في معنى صحيح أحمل اللفظ عليه فوقع لي أن قوله أخيلا فعل ماض هو خبر والمرسوم بمعنى الرسم مصدر على وزن
مفعول كالمجلود والمفتون أي والرسم أخيل فيهن ذلك من قولهم أخالت السماء وأخيلت إذا كانت ترجى المطر حكاه الجوهري وابن سيده فاستعارة الناظم هنا أي أن الرسم أخيل ضم الهاء الذي قرأ به ابن عامر في هذه المواضع الثلاثة لأنها لما رسمت على هذه الصورة بلا ألف أوقع ذلك في ذهن من رآه ظنا أنه رسم على لغة بني أسد المذكورة ، قال الجوهري وقد أخلت السحابة وأخيلتها إذا رأيتها مخيلة للمطر ثم إني رأيت بعد ما وقع لي هذا المعنى الصحيح في شرح هذا اللفظ نسخة صحيحة من القصيدة في طرة هذا الموضع منها حاشية منقولة من حواشي نسخة الشيخ أبي عبد الله القرطبي رحمة الله عليه يقال سحاب ، مخيل أي حقيق بالمطر ورأيت هذا أيضا في طرة نسخة أخرى مقروءة على المصنف ولا شك أن ما كان فيها من الحواشي هو من كلامه وزاد فكأن الرسم حقيق بضم الهاء إذا جاء بغير ألف ورأيت في حاشية نسخة أخرى قرئت على الناظم غير مرة وهو من قولهم أخال السحاب وأخيل إذا كان حقيقا بالمطر ولما رسمت هذه المواضع بغير ألف إجماعا كان فيه حجة لابن عامر قلت فدل ذلك على أنه مراد الناظم وأن أبا عبد الله وغيره سمعوه منه والله أعلم ، ورسمت يا أيها في جميع القرآن بالألف آخرها إلا في هذه المواضع الثلاثة وكأنهم أشاروا بذلك إلى جواز كتابتها على هذا الوجه إما اجتزاء بالفتحة عن الألف على قراءة الجماعة وإما على اللغة الأخرى التي قرأ عليها ابن عامر واكتفى بذلك في هذه الثلاثة دون باقي المواضع لأنها جمعت الأنواع الثلاثة وهي نداء المفرد والمثنى والمجموع فالمفرد (يا أيها الساحر-والمثنى-أيها الثقلان-والمجموع-أيه المؤمنون) والله أعلم
(384)
وَقِفْ وَيْكَأَنَّهْ وَيْكَأَنَّ بِرَسْمِهِ وَبِالْيَاءِ قِفْ (رِ)فْقًا وَبِالْكَافِ (حُـ)لِّلاَ
أي هكذا رسمتا فقف على هذه الصورة لجميع القراء إلا الكسائي وأبا عمرو فإن الكسائي وقف على الياء لأنه جعل (وى-كلمة-و-كأن-كلمة) ، ووى كلمة يقولها المتندم والمتعجب ووجه الكاف بعدها تشبيه الحالة الراهنة بحال الوقوع لحصول اليقين والمتيقن كالمعاين ، قلت تقدير البيت ، (كأنك بالدنيا غير كائنة ) أي غير موجودة أي إنها ذاهبة واجبة الذهاب ، (وكأنك بالآخرة غير زائلة ) أي إذا وجدت فهي واجبة الدوام والله أعلم ، ومن قوله عليه الصلاة والسلام كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل ، وقول امرؤ القيس ، (كأني لم أركب جوادا للذة ) ، وقول عبد يغوث بن وقاص ، (كأني لم أركب جوادا ولم أقل ) ، وقول الجرهمي ، (كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر) ، ووقف أبو عمرو على الكاف جعل (ويك) ، كلمة ويكون أصلها ويلك حذفت منها اللام وهي لغة ، قال عنترة ، (ولقد شفا نفسي وأيرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم) ، وقال آخر ، (ألا ويك المسرة لا تدوم ولا يبقى على البوسى النعيم) ، وفتح أن بعدها على إضمار اعلم أو إضمار لام الجر أي لأنه ، وقراءة الجماعة تحتمل معنى قراءة الكسائي ومعنى قراءة أبي عمرو قال أبو الفتح بن جني في باب توجه اللفظ الواحد إلى معنيين اثنين من ذلك قوله تعالى (ويكأنه لا يفلح الكافرون) ، مذهب الخليل وسيبويه فيه أنه (وى) ، مفصول وهو اسم سمى به الفعل في الخبر وهو اسم أعجب ثم قال مبتدئا (كأنه لا يفلح الكافرون) وأنشد فيه ، (وى كأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر) وذهب أبو الحسن فيه إلى أنه (ويك) ، أراد بويك أعجب أي اعجب لسوء اختيارهم فعلق أن بما في ويك من معنى الفعل وجعل الكاف حرف خطاب بمنزلة كاف ذلك وهنالك قال أبو علي ناصرا لقول سيبويه قد جاءت كأن كالزائدة وأنشد بيت عمر ، (كأنني حين أمسي لا يكلمني ذو بغية يشتهي ما ليس موجودا) أي أنا كذلك وكذلك قوله (كأنه لا يفلح الكافرون) ، أي هم لا
يفلحون وقوله رفقا أي رافقا مصدر في موضع الحال أي ارفق في تقدير وجه ذلك وفهم معناه وحللا من التحليل أي جوز الوقف على الكاف ردا على من أنكر ذلك وقوله برسمه في موضع الحال أي ملتبسا برسمه فكأنه قال على رسمه وأفاد قوله هذا أن الرسم على هذه الصورة فلا تقتصر على بعض هذا اللفظ في الكلمتين وهما في آخر سورة القصص والله أعلم
(385)
وَأَيّاً بأَيّاً مَا (شَـ)فَا وَسِوَاهُمَا بِمَا وَبِوَادِي النَمْلِ بِالْيَا (سَـ)ناً تَلاَ
يريد قوله تعالى (أيا ما تدعوا) ، في آخر سورة سبحان هي كلمة أي زيدت عليها ما فهي مثل حيثما وكيفما وعمّا فوقف حمزة والكسائي على (أيا) ، وحدها وأبدلا من التنوين ألفا لأنها كلمة مستقلة مفصولة من ما خطا ومعنى ووقف الباقون على ما وهو مشكل فإنها لم تتصل بما قبلها خطا فصارت مثل عن ما المفصولة فإنهم يقفون على عن دون ما وقد تقدم بيان ذلك ولكن الفرق تحقق الانقطاع في نحو عن ما لأن الاتصال كان ممكنا وههنا لم يتحقق ذلك فإن الألف لا يتصل بها شيء في الخط بعدها والأكثر في الخط اتصال ما المزيدة بما قبلها فاحتاطوا وأجروا هذا الموضع مجراها خوفا من أن يكونوا قصدوا الاتصال ولحظوه حال الكتابة معنى وتعلقا كما لحظوه فيما تحقق اتصاله ثم منعهم من ذلك خطا أن الألف لا تقبل ذلك فتركوه فقوله وأيا بأياما أي والوقف على أيا في قوله أياما شفا لظهور دليله بالفصل في الخط وسوى مدلول شفا وهما حمزة والكسائي وقفوا بما أي عليها يقال وقفت به وعليه قال طرفة (وقفت بها أبكي ) وقال عنترة (قف على دراسات الدمن ) وكذلك الياء في قوله وبواد النمل أي وقف الكسائي عليها بالياء لأنها الأصل والباقون بحذفها على الرسم وكان ينبغي أن يذكر هذا في سورته كما ذكر-هاد-و-وال-و-واق-و-باق-في سورة الرعد وذكر (يوم يناد) ، في سورة ق فالجميع اختلفوا في إثبات يائه في الوقف واتفقوا على حذفها في الوصل ولهذا لم يذكرها في باب الزوائد على ما يأتي شرحه إن شاء الله تعالى
(386)
وَفِي مَهْ وَمِمَّهْ قِفْ وَعَمَّهْ لِمَهْ بِمَهْ بِخُلْفٍ عَنِ الْبَزِّيِّ وَادْفَعْ مُجَهِّلاَ
انفرد البزي في رواية عنه بزيادة هذه الهاء في الوقف على ما الاستفهامية الداخل عليها حرف الجر وهي هاء السكت لأن بعض العرب يلحقها في هذه المواضع جبرا لما حذف من ما وهو ألفها وإبقاء لحركة الميم لئلا تذهب في الوقف فيجتمع في ما وهي حرفان حذف أحدهما وإسكان الآخر وأنشدوا (صاح الغراب بمه ) وأراد بما ذكره (فيم أنت من ذكراها)-مم خلق-عم يتساءلون-لم تقولون-بم يرجع المرسلون) ، وشبه ذلك ووقف غير البزي بلا هاء إتباعا للرسم وهي اللغة المشهورة وقوله مجهلا منصوب على أنه مفعول به أراد أن من جهل قارئ هذه القراءة فهو كالصائل الظالم فادفعه عنه وحجة من يردعه ويزجره عن تجهيله له ويجوز أن يكون حالا من فاعل ادفع والمفعول محذوف أي ادفع من رد هذه القراءة مجهلا له بقلة معرفته وفي حواشي النسخة المقروءة على الناظم قال الحوفي في البرهان لا يجوز هذا واحتج بالرسم قال فيقال له أليس ابن كثير وغيره يثبت الزوائد في الوقف وليست في الرسم وقد وقف قوم بخلاف الرسم في مواضع والمعول عليه صحة النقل لا غير ، قلت وحكى صاحب المستنير أن يعقوب كان يقف على هو وهي النون المفتوحة نحو (العالمين-و-الذين) ، بهاء السكت كما فعل البزي في هذا فيقول (هوه-و-هيه-العالمينهْ-الذينهْ) ، وشبهه وحكى الحافظ أبو العلاء عن ابن جبير عن أبي عمرو (يا ويلتاه-و-أسفاه-و-يا حسرتاه-والله أعلم)
باب مذاهبهم في ياءات الإضافة
(387)
وَلَيْسَتْ بِلاَمِ الْفِعْلِ يَاءُ إِضَافَةٍ وَمَا هِيَ مِنْ نَفْسِ اْلأُصُولِ فَتُشْكِلاَ
أي تكون آخر كلمة ولكن ليست من حروف تلك الكلمة بل زائدة عليها وشرح هذا الكلام أن تقول الكلمة إن كانت مما يوزن ووقع في آخرها ياء فزنها بالفاء والعين واللام فإن صادفت اللام مكان الباء فتعلم أنها لام الفعل مثاله (أم من يأتي آمنا-ننظر أتهتدي أم تكون-وإن أدري أقريب-فبما يوحي إلي ربي-والله يقضي بالحق-يهدي به الله) ، فحكم مثل هذه الياء في المضارع السكون في الرفع والفتح في النصب والحذف في الجذم وفي الماضي الفتح نحو (ألقي إلي كتاب-وأوحي إلي هذا القرآن) ، ومثاله في الأسماء نحو (الداعي-و-المهتدي-و-الزاني-و-النواصي) ، فهذا وشبهه يقع الاختلاف فيه في الياء بالحذف والإثبات منها ما اتفق على إثباته-كالزاني-والنواصي-ومنها ما اختلف فيه-كالداعي-و-التلاق-على ما سيأتي بيابه في بابه وإن كانت الكلمة مما لا يوزن وذلك في الأسماء المبهمة نحو الذي والتي واللاتي وفي الضمائر هي فالياء فيها ليست بياء إضافة لأنها من نفس أصول الكلمة ليست زائدة عليها وإن كان يجوز في ياء الذي وأخواته الحذف والتشديد ويجوز في ياء هي في الشعر الإسكان والتشديد فاحترز بقوله وما هي من نفس الأصول من مثل ذلك ولم يكتف بقوله وليست بلام الفعل لما ذكرت من الفرق بين الكلمات الموزونة وغيرها وقوله وما هي من نفس الأصول يشمل الجميع ولكن أراد التنبيه على مثل هذه الفوائد وإذا تقرر أنها ليست من نفس الأصول لم تبق مشكلة فلهذا قال فتشكلا ونصبه على الجواب بالفاء بعد النفي وكان ينبغي أن يأتي بما يحترز به أيضا عن ياء ضمير المؤنث في نحو (اقنتي لربك واسجدي واركعي-وهزي إليك) ، وعن الياء في جميع السلامة نحو (حاضري المسجد-و-عابري سبيل-غير محلي الصيد-برادي رزقهم-والمقيمي الصلاة-مهلكي القرى) ، فهذا كله ليس من باب ياءات الإضافة وكان يكفيه في تعريفها أن يقول هي ياء المتكلم أي ضميره المعبر عنه به في موضع النصب والجر متصلا ثم عرفها بالعلامة فقال
(388)
وَلكِنَّهَا كالْهَاءِ وَالْكَافِ كُلُّ مَا تَلِيهِ يُرى لِلْهَاءِ وَالْكَافِ مَدْخَلاَ
أي أنها كهاء الضمير وكافه كل لفظ تليه ياء الإضافة أي كل موضع تدخل فيه فإنه يصح دخول الهاء والكاف فيه مكانها فتقول في (ضيفي-و-يحزنني-و-إني-ولى ضيفه-و-يحزنه-و-إنه و-له-وضيفك-و-يحزنك-و-إنك-و-لك-و-لكن) ، ههنا إشكال وهو أن من المواضع مالا يصح دخول الكاف فيه نحو (فاذكروني-و-حشرتني) ، فلا يبقى قوله كل ما على عمومه ولو قال كل ما تليه يرى للها أو الكاف لزال هذا الإشكال بحرف أو وقصر الهاء وقوله كل ما مبتدأ وحق كلمة ما بعدها أن تكتب مفصولة منها لأنها مضاف إليها وهي نكرة موصوفة أي كل شيء يليه ولا تكاد تراها في النسخ إلا متصلة بكل ومنهم من ينصب كل ما يعتقد أنه مثل قوله تعالى (كلما ألقي فيها فوج) ، وذلك خطأ ويرى خبر المبتدأ أي كل شيء يليه الياء يرى ذلك الشيء مدخلا للهاء والكاف أي موضع دخول لهما وقوله تليه يجوز أن يكون من ولى هذا هذا أي تبعه وأتى بعده أي كل موضع اتصل به ياء الإضافة يرى موضعا لاتصال الها والكاف به مكان الياء ويجوز أن تكون تليه من الولاية التي بمعنى الإمرة أي كل موضع وليته الياء أي حكمت عليه بحلولها فيه فذلك الموضع يصح أن يكون مدخلا للضميرين الهاء والكاف ضميري الغائب والمخاطب فيحكما حكمها فيه والله أعلم ، ووقع لي بيتان في تعريفها حدا وتمثيلا باتصالها بالاسم والفعل والحرف وتمثيل ما احترز عنه مما تقدم ذكره فقلت ، (هي الياء في أني على متكلم تدل وضيفي فاذكروني مثلا) ، (وليست كيائي و هي أوحي واسجدي وياء التي والمهتدي حاضري انجلا) ، فالحد أن تقول هي الياء التي تدل على المتكلم وعند ذلك تتصل بالحروف الجارة والناصبة نحو لي-و-إني وبالاسماء نحو ضيفي ودوني وتحتي وعندي وبالافعال الماضية والمضارعة ومثال الأمر (كحشرتني-و-يحزنني-فاذكروني) ، والبيت الثاني فيه أمثلة ما الياء فيه أصل لا عبارة عن متكلم
والله أعلم ، قال رحمه الله تعالى
(389)
وَفي مِاَئَتَيْ ياَءٍ وَعَشْر مُنِيفَةٍ وَثِنْتَيْنِ خُلْفُ الْقَوْمِ أَحْكِيهِ مُجْمَلاَ
منيفة أي زائدة يقال أناف على كذا أي أشرف عليه وأنافت الدراهم على مائة إذا زادت عليها وناف الشيء في نفسه ينوف أي طال وارتفع ذكره أي جملة ياءات الإضافة هي العدة وهي مائتان واثنتا عشرة ياء وعدها صاحب التيسير مائتين وأربع عشرة ياء فزاد ثنتين وهما (آتاني الله) ، في سورة النمل وقوله في الزمر (فبشر عباد الذين) ، وذكرهما الناظم في باب الزوائد لأن الياء حذفت منهما في الرسم وهذا حقيقة باب الزوائد ثم إن صاحب التيسير لما ذكر (آناني الله) ، في سورتها عدها مع الزوائد ولم يعدها مع ياءات الإضافة وعد (فبشر عباد) ، في سورتها مع ياءات الإضافة ولا شك أنهما أخذا من كل باب من هذين البابين حكمه فإن الخلاف فيهما في فتح الياء وإسكانها وفي إثباتها وحذفها وأما (يا عباد لا خوف عليكم) في الزخرف فذكرها الشيخ الشاطبي رحمه الله في باب ياءات الإضافة وبين حكمها لأن المصاحف لم تجتمع على حذف يائها كما يأتي بيانه بخلاف ياء (آتاني) في النمل و(عبادي) في الزمر ، فإن المصاحف اجتمعت على حذف الياء منهما وذكر صاحب التيسير حكم الياء التي في الزخرف في باب الزوائد ولذلك عدها إحدى وستين ياء وأدرجها في باب ياءات الإضافة في العدد ولم ينص على حكمها فإنه عد الياءات التي ليس بعدها همز ثلاثين كما عدها الشاطبي ولا يتم هذا العدد إلا بالتي بالزخرف وذكرها صاحب التيسير في سورتها مع ياءات الإضافة فقد عدها في البابين وعذره في ذلك أنها حذفت في بعض الرسوم كما يأتي ذكره ، وقوله أحكيه مجملا يعني خلف القراء فيها بالفتح والإسكان ولم يذكر في هذا الباب حذفا وإثباتا إلا في التي في الزخرف فإنه ذكر فيها الأمرين فإن من أثبتها اختلفوا في فتحها وإسكانها وكذا فعل في باب الزوائد في اللتين في النمل والزمر ، وقوله مجملا حال
من الهاء في أحكيه أو نعت مصدر محذوف أي ذكرا مجملا فهو مصدر قرن بغير فعله لأنه بمعناه مثل قعدت جلوسا لأن معنى أحكيه وأذكره واحد أي أذكره على الإجمال بضابط يشملها من غير بيان مواضع الخلاف كلها تنصيصا على أعيانها في سورها وستأتي معينة في آخر كل سورة وإنما أحكامها تؤخذ من هذا الباب وقيل هو من إجمال العدد وهو ما كان منه متفرقا ويجوز أن يكون من أجمل إذا أتى بالجميل من قولهم أحسن فلان وأجمل أي أذكره ذكرا جميلا سهلا ويروى مجملا بكسر الميم وهو حال من الفاعل بالمعاني السابقة
(390)
فَتِسْعُونَ مَعْ هَمْزٍ بِفَتْحٍ وَتِسَعُهاَ (سَماَ) فَتْحُهاَ إَلاَّ مَوَاضِعَ هُمَّلاَ
أي فمن جملة المائتين والاثنتي عشرة ياء المذكورة تسع وتسعون ياء بعدها همزة مفتوحة نحو (إني أعلم-إني أرى) ، فتحها كلها مدلول سما وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو إلا مواضع خرجت عن هذا الأصل ففتحها بعضهم أو زاد معهم غيرهم جمعا بين اللغتين أو اختلف عن بعضهم في شيء من ذلك ومعنى هملا متروكة وهو جمع هامل يقال بعير هامل من إبل هوامل وهمل وهمل وقد همل هذا إذا ترك بلا راع والشيء الهمل هو السدي المتروك وقد رتب الناظم ذكر الياءات المختلف فيه ترتيبا حسنا وهو ترتيب صاحب التيسير وحاصل المختلف فيه منها ستة أنواع فإن الياء لا تخلو إما أن يكون بعدها همزة أو لا فالتي بعدها همزة لا تخلو من أن تكون همزة قطع أو همزة وصل فهمزة القطع لا تخلو من أن تكون مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة وإن كانت همزة وصل فلا تخلو من أن يكون معها لام التعريف أو لا فهذه ستة أنواع خمسة منها لما بعده همز وواحد مع غير همز فابتدأ بذكر ما بعده همزة قطع على الترتيب المذكور وبدأ بما بعده همزة مفتوحة لكثرة ذلك ولأن الفاتحين له من القراء ثلاثة عبر عنهم بسما وربما زادوا في بعض المواضع كما يأتي بيانه ثم ذكر ما بعده همزة مكسورة لأنه دون ذلك في العدة وعلى فتحه من جملة مدلول سما اثنان ثم ذكر ما بعده همزة مضمومة لقلته وعلى فتحه واحد من مدلول سما ثم ذكر ما بعده همزة وصل وقدم ما معه لام التعريف لكثرته ثم ذكر النوع الآخر ثم ذكر مالا همز بعده وهو آخر الأنواع الستة ، واعلم أن الغالب على ياء الإضافة في القرآن الإسكان وأكثر ما فتح منها ما بعده همزة قطع وسببه الخلاص بالفتح من المد وقد ذكر ابن مجاهد في كتابه قال الفراء وقد زعم الكسائي أن العرب تستحب نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام ، قال الفراء ولم أر ذلك عند العرب رأيتهم يرسلون الياء فيقولون عندي أبواك ولا يقولون عندي أبواك إلا أن يتركوا الهمزة فيحولوا الفتحة في الياء ، قال ابن مجاهد
فأما قولهم لي ألفان وبي أخواي كفيلان فإنهم ينصبون في هذين لقلتهما ، قلت يعني قلة حروف الكلمتين لي وبي فحيث تقل الحروف يحسن الفتح مالا يحل في كثرتها وقد أفادنا ما حكاه عن الفراء أن معظم العرب على الإسكان وأن من فتح منهم فأكثر فتحه فيما بعده همزة قطع وأما ما بعده همزة وصل فلا لأنه يلزم من إسكان الياء المد في القطع دون الوصل ومذهب أكثر القراء عكس ذلك وهو اختيار الفتح قبل لام التعريف لتظهر الياء ولا تحذف لالتقاء الساكنين وفيما بعده همزة وصل بغير لام التعريف من الخلاف نحو مما بعده همزة قطع ولعل سببه أن همزة لام التعريف مفتوحة فكأن فتحتها نقلت إلى الياء وهمزة الوصل في غيرها مكسورة أو مضمومة وقد أشار أبو عبيد إلى قريب من هذا الفرق في سورة الصف والخلاف في هذا الباب جميعه في الفتح والإسكان وليس أحدهما ضدا للآخر فكان الواجب عليه في اصطلاحه أن ينص في كل ما يذكره على القراءتين معا لكن كان يطول عليه فاكتفى بدلالة النظم في جميع الباب على ذلك فإنه تارة ينص على الفتح وتارة على الإسكان ففهم من ذلك الأمران والله أعلم
(391)
فَأَرْنِي وَتَفْتِنِّي اتَّبِعْنِي سُكُونُهاَ لِكُلٍ وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ وَلَقَدْ جَلاَ
يعني أن هذه الياءات الأربع وإن كان بعدها همزات مفتوحة فقد أجمعوا على إسكانها وليست من جملة التسع والتسعين التي ذكرها وأراد (أرني أنظر إليك) ، وأتى به على قراءة ابن كثير والسوسي (و-لا تفتني ألا-اتبعني أهدك-و-إلا تغفر لي وترحمني أكن) ، وفائدة ذكره لهذه المواضع الأربعة من بين المجمع عليه أن لا يلتبس المختلف فيه بها لأنها داخلة في الضابط المذكور وهو ما بعده همزة مفتوحة فلولا تنصيصه عليها بالإسكان للكل لظن أنها من جملة العدة فتفتح لمن يفتح تلك العدة فعلم من ذكره لهذا المواضع أن المختلف فيه غيرها مما بعده همزة مفتوحة وكذا يفعل فيما بعده مكسورة ومضمومة فلهذا قال ولقد جلا أي كشف مواضع الخلاف وبينها وفاعل جلا ضمير يرجع إلى الناظم أو إلى المذكور ، وقيل يعود الضمير على السكون أي كشف فصاحة هذه اللغة وهي الإسكان بسبب الاتفاق عليه في هذه المواضع وكذا فيما بعده همزة مكسورة أو مضمومة كما يأتي وقد ذكرنا فيم مضى أن أكثر الياءات في غير كلمات الخلاف مسكنة والمجمع على فتحه من ذلك ما قبله ساكن مدغم أو ألف نحو (لدي-و-هداي) ، للضرورة أو كان بعده لام التعريف نحو (بلغني الكبر) ، حرصا على بيان الياء ، وقيل حسن الإسكان في (أرني-أن بعده-لن تراني-و-سوف تراني) ، ساكن الياء وفي (تفتني-أن قبله-إيذن لي) ، ساكن الياء وأنه محل الوقف وفي (اتبعني-أن قبله-جاءني من العلم) ، ساكن الياء وفي (ترحمني-أن قبله-إن ابني من أهلي) ، ساكن الياء والله أعلم
(392)
ذَرُونِي وَادْعُونِي اذْكُرُونِيَ فَتْحُهاَ (دَ)وَاءٌ وَأَوْزِعْنِي مَعاً (جَـ)ـادَ (هُـ)ـطَّلاَ
أراد (ذروني أقتل موسى-ادعوني أستجب لكم-فاذكروني أذكركم) ، فتح هذه المواضع من مدلول سما ابن كثير وحده (أوزعني أن أشكر) ، في النمل والأحقاف وهو معنى قوله معا وتقدير الكلام وفتح ياءي كلمتي أوزعني معا وقد تقدم بيان اصطلاحه في ذلك في قوله وأرجئ معا وفتح ياءي أوزعني في الموضعين ورش والبزي والضمير في جاد يرجع إلى الفتح وهطلا جمع هاطل والهطل تتابع المطر ويقال جاد المطر إذا غزر وهطلا حال أي ذا هطل أي سحائب هطل ، قال الجوهري سحائب هطل جمع هاطل ويجوز أن يكون جاد من الجودة أي جاد في نفسه أو يكون من جاد بماله إذا سمح به ونصب هطلا على ما ذكرناه وقيل هطلا تمييز على حد تفقأ زيد شحما أي جاد هطله والله أعلم
(393)
لِيَبْلُوَنِي مَعْهُ سَبِيلِي لِنَافِعٍ وَعَنْهُ وَلِلْبصْرِي ثَمَانٍ تُنُخِّلاَ
معه أي مع ليبلوني-سبيلي فتحهما لنافع أراد (ليبلوني ءأشكر-قل هذه سبيلي أدعوا) ، وعنه يعني عن نافع ولأبي عمرو فتح ثمان ياءات تنخل أي اختير فتحها ولو قال تنخلا أي اختارا فتحها وتكون الألف ضمير التثنية كان أبين وأحسن ثم بين مواضعها فقال
(394)
بِيُوسُفَ إِنيِّ الأَوَّلاَنِ وَليِ بِهاَ وَضَيْفِي وَيَسِّرْ لِي وَدُونِي تَمَثَّلاَ
أراد (إني أراني أعصر خمرا-إني أراني أحمل) ، احترز بقوله الأولون عن ثلاث ياءات أخر في يوسف بلفظ إني وبعدها همزة مفتوحة وهي (إني أرى سبع بقرات-إني أنا أخوك-إني أعلم من الله) ، فهذه الثلاث يفتحها سما على أصلهم ووجه الكلام ياء كلمتي إني الأولان أو إني إني الأولان ولكنه حذف أحدهما لدلالة المراد من هذا الكلام على المحذوف وكذا قوله وأوزعني معا أي أوزعني أوزعني معا ، وقوله ولى بها أي بسورة يوسف أيضا أراد (حتى يأذن لي أبي)و(ضيفي أليس منكم) في هود و(يسر لي أمري) في طه (من دوني أولياء) ، في آخر الكهف وقوله تمثلا أي تشخص ذلك وبان فهذه ست ياءات ثم ذكر الياءين الباقتين فقال
(395)
وَيَاءَانِ في اجْعَلْ لِي وَأَرْبَعٌ (إِ)ذْ حَمَتْ (هُـ)ـدَاهاَ وَلكِنِّي بِهاَ اثْناَنِ وُكِّلاَ
أراد (اجعل لي آية) ، في آل عمران ومريم فهذه آخر الياءات الثمانية لنافع وأبي عمرو فتحها ثم ذكر أربعا فتحها لهما وللبزي فقال وأربع أي وفتحت أربع إذ حمت تلك الأربع هداها أي ذوي هداها أي المهتدي لفتحها وهم قراؤها حمتهم من أن يطعن عليهم في فتحهم لها لحسن الفتح فيها ثم أخذ يبينها فقال ولكني والواو من نفس التلاوة وليست عطفا أراد قوله تعالى (ولكني أراكم) ، في هود والأحقاف وهو معنى قوله بها اثنان والهاء في بها عائدة على ولكني أي وكل بهذا اللفظ موضعان ثم ذكر ما بقي فقال
(396)
وَتَحْتِي وَقُلْ في هُودَ إِنِّي أَرَاكُمُو وَقُلْ فَطَرَنْ في هُودَ (هَـ)ـادِيِهِ (أَ)وْصَلاَ
أراد (من تحتي أفلا تبصرون) ، في الزخرف (إني أراكم بخير) ، وفتح البزي ونافع (فطرني-أفلا تعقلون) ، وحذف الناظم الياء من فطرني وأسكن النون ضرورة لأنه لا يستقيم الوزن في بحر الطويل بلفظ فطرني لما فيه من توالي أربع حركات ويستقيم فيه اجتماع ثلاث حركات ومعنى قوله هاديه أوصلا أي أوصل فتحه وهاديه ناقله
(397)
وَيَحْزُنُنِي (حِرْمِيُّـ)ـهُمْ تَعِدَانِنِي حَشَرْتَنِي أَعْمى تَأْمُرُونِي وَصَّلاَ
وجميع ما في هذا البيت وصل الحرميان فتحه وليست الألف في وصلا للتثنية وإنما في وصل ضمير مستكن يرجع إلى لفظ حرمي لأنه مفرد وإن كان مدلوله اثنين ويجوز أن تكون الألف ضمير التثنية اعتبارا للمدلول أراد (ليحزنني أن تذهبوا به)-(أتعدانني أن أخرج)-(حشرتني أعمى) ، في طه (تأمروني أعبد) ، في الزمر فهذه أربع آيات لفظ بإثنتين منها ساكنتين وبإثنتين مفتوحتين على ما اتفق نظمه على أن فتحته ياء (حشرتني) ، يحتمل أن تكون حركة ياء الإضافة ووصل همزة أعمى ضرورة ويحتمل أن تكون حركة الهمزة نقلت إليها وهو أولى فهذا آخر ما أهمل فتحه بعض مدلول سما ثم ذكر ما زاد معهم على فتحة غيرهم فقال
(398)
أَرَهْطِي (سَمَا مَـ)وْلىً وَمَالِي (سَمَا لِـ)وىً لَعَلِّي (سَمَا كُـ)فْؤًا مَعِي (نَفْرُا) الْعُلاَ
يريد قوله تعالى (أرهطي أعز عليكم) ، زاد على فتحه ابن ذكوان (مالي أدعوكم إلى النجاة) ، زاد على فتحه هشام لعلي زاد على فتحه ابن عامر بكماله وهو في ستة مواضع في القرآن (لعلي أرجع) ، في يوسف (لعلي آتيكم) ، في طه والقصص (لعلي أعمل صالحا) ، في قد أفلح (لعلي أطلع) ، في القصص (لعلي أبلغ الأسباب) ، في غافر ونصب مولى ولوا وكفؤا على التمييز أو على الحال ، والمولى الناصر ولوى مقصورا لواء ، ويكنى به عن الشهرة وسموه موافق لذلك أي ارتفع لواؤه هذا إن نصبناه على التمييز وإن كان حالا فالتقدير ذا لواء والكفؤ المماثل وأما-معي-في قوله تعالى (معي أبدا) ، في براءة (معي أو رحمنا) ، في تبارك ، فزاد على فتحه ابن عامر أيضا وحفص وهو المذكور في أول البيت الآتي ، ومعي مبتدأ ونفر العلا خبره أي ذو نفر العلا أي نفر الأدلة العلا أو يكون نفرا لعلا مبتدأ ثانيا وخبره أول البيت الآتي وهو قوله
(399)
(عِـ)مَادٌ وَتَحْتَ النَّمْلِ عِنْدِي (حُـ)سْنُهُ (إِ)لَى (دُ)رِّهِ بِالْخُلْفِ وَافَقَ مُوهَلاَ
أي هم عماد له في فتحه فالجملة خبر معي ، وقوله عندي مبتدأ وتحت النمل خبر أراد قوله تعالى في القصص (إنما أوتيته على علم عندي)-(أولم يعلم) ، وهذا الموضع هو الذي اختلف فيه عن بعض مدلول سما وهو ابن كثير ولولا الخلف لما كان له حاجة لذكره فإنه داخل في عموم ما تقدم لهم ، وقوله حسنه مبتدأ أيضا أي حسن الفتح إلى دره وافق موهلا وقوله وافق هو خبر المبتدأ ، وموهلا حا أي مجعولا أهلا للموافقة للصواب من قولهم أهلك الله لكذا أي جعلك أهلا له أو هو مفعول به أي وافق قارئا هذه صفته أو ذا أهل يشير إلى أن له أدلة وبراهين ، وهذا آخر الكلام فيما بعده همزة مفتوحة ، ثم ذكر النوع الثاني وهو ما بعده همزة مكسورة فقال
(400)
وثِنْتَانِ مَعْ خَمْسِينَ مَعْ كَسْرِ هَمْزَةٍ بِفتْحِ (أُ)ولِي (حُـ)كْمٍ سِوى مَا تَعَزَّلاَ
أي استقرت بفتح أولى حكم أي بفتح جماعة أصحاب حكم وعدل وذلك نحو (فإنه مني إلا من اغترف-فتقبل مني إنك-ربي إلى صراط) ، سوى ما تعزلا أي ما انعزل عن هذا الأصل ففتحه بعض مدلول قوله أولى حكم أو زاد معهم غيرهم ومن المواضع ما لم تزد فيه العدة ولم تنقص وخرج عن الأصل السابق وهو موضعان ، أحدهما خلف فيه قارئ عن قارئ وهو (رسلي) ، في سورة المجادلة فتحه ابن عامر وأسكنه أبو عمرو وهو مذكور في البيت الآتي والثاني (ربي) ، في (حم) السجدة فتحه نافع وأبو عمرو على أصلهما لكن عن قالون فيه وجهان وقد ذكر الخلاف فيه في سورته فهو نظير ما تقدم فيما بعده همزة مفتوحة من قوله (عندي) ، في القصص وتعزل واعتزل واحد قال الأحوص ، (يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل)
(401)
بَنَاتِي وَأَنْصَارِي عِبَادِي وَلَعْنَتِي وَمَا بَعْدَهُ بِالْفَتْحِ إِنْ شَاءَ أُهْمِلاَ
جميع ما في هذا البيت فتحه نافع وحده فأهمل فلم يجر عليه الحكم المتقدم وهو فتحه لمدلول قوله أولى حكم بل فتح لبعضهم وأراد (هؤلاء بناتي إن كنتم)-(من أنصاري إلى) ، في آل عمران والصف (أن أسر بعبادي إنكم) ، في الشعراء فخذف الباء ضرورة وليس في القرآن لفظ عبادي بعده همزة مكسورة غير هذا فلا تلتبس هذه العبارة (لعنتي إلى يوم الدين) ، والذي بعده إن شاء هو قوله تعالى (ستجدني إن شاء الله) ، حيث جاء وهو في الكهف والقصص والصافات وإنما عبر عنه الناظم بهذه العبارة لأن مثله لا يستقيم في وزن الشعر لكثرة حركاته المتوالية وليس في القرآن ياء إضافة بعدها إن شاء غير هذه اللفظة فتعينت وعبر عنها في آخر الكهف بقوله وما قبل إن شاء وفي آخر القصص والصافات بقوله وذو الثنيا أي الاستثناء والله أعلم
(402)
وَفِي إِخْوَتِي وَرْشٌ يَدِي (عَـ)نْ (أُ)ولِي (حِـ)مىً وَفِي رُسُلِي (أَ)صْلٌ (كَـ)سَا وَافِيَ الْمُلاَ
أراد (وبين إخوتي إن ربي) ، فتحها ورش وحده وأما (يدي إليك) ، في المائدة فزاد حفص في أصحاب الفتح وهم نافع وأبو عمرو وأما (رسلي إن الله قوي عزيز) ، ففتحها نافع وابن عامر والملا جمع ملاءة وهي الملحفة البيضاء أراد إنها كسوة سابغة وافية وانتصاب وافي الملا على أنه مفعول ثان لكسا أي كسا الفتح كسوة وافية ويجوز أن يكون حالا أي هذا الأصل الكاسي حاله أنه وافي الملا أي سابغ الكسوة جيدها والله أعلم
(403)
وَأُمِّي وَأَجْرِي سُكِّنَا (دِ)ينُ (صُحْبَةٍ) دُعَاءِي وَآباءِي لِكُوفٍ تَجَمَّلاَ
أراد (وأمي إلهين-و-إن أجري إلا) ، حيث جاء زاد على فتحهما ابن عامر وحفص ونصب قوله دين صحبة على أنه مصدر مؤكد مثل (صبغة الله-و-كتاب الله عليكم) ، والدين العادة أي هي عادة صحبة إسكان ياءات الإضافة أي مذهبهم وطريقتهم وما يتدينون به في قراءة القرآن ، وقيل نصبه على الحال من الإسكان المفهوم من قوله سكنا أي أوقع الإسكان فيهما في حال كونه دين صحبة وعبر في هذا الباب تارة بالفتح وتارة بالإسكان على قدر ما سهل عليه في النظم كما فعل في باب حروف قربت مخارجها عبر تارة بالإدغام وتارة بالإظهار فمن أول الباب إلى هنا كان كلامه في الفتح وفي هذا البيت وما بعده إلى انقضاء الكلام فيما بعده همزة مكسورة كلامه في الإسكان وما بعد ذلك يأتي أيضا تارة فتحا وتارة سكونا وتعبيره في هذا الباب بالإسكان أولى من تعبيره بالفتح لأنه إذا قال فلان أسكن تأخذ لغيره بضد الإسكان وهو التحريك المطلق والتحريك المطلق هو الفتح على ما تقرر في شرح الخطبة وأما إذا قال افتح فليس ضده أسكن إنما ضده عند الناظم اكسر ولو قال موضع الفتح حرك بفتح لصحت العبارة كما أن عادته أن يقول في الضم والكسر والفتح وحرك عين الرعب ضما ومحرك ليقطع بكسر اللام وليحكم بكسر ونصبه بحركة فإن ضد ذلك كله الإسكان لأجل لفظ التحريك وأما (دعائي إلا) ، في نوح (ملة آبائي إبراهيم) ، في يوسف فأسكنهما الكوفيون فزاد على فتحهما ابن كثير وابن عامر وقوله لكوف متعلق بتجملا وهو خبر دعائي وآبائي والألف ضمير التثنية أي حسنا في نظرهم بالإسكان فأسكنوهما فقوله تجملا بالجيم ويأتي في سورة النساء بالحاء على ما نبينه إن شاء الله تعالى
(404)
وَحُزْنِي وَتَوْفِيقِي (ظِـ)لاَلٌ وَكُلُّهُمْ يُصَدِّقْنِيَ انْظِرْنِي وَأَخَّرْتَنِي إِلى
(وحزني إلى الله-و-ما توفيقي إلا بالله) ، أسكنهما الكوفيون وابن كثير فيكون قد زاد على فتحهما ابن عامر وظلال جمع ظل أي هما ذوا ظلال لمن استظل بهما وهو المتصف بهما وفقنا الله تعالى للحزن على ما فرطنا فيه من أعمارنا أي حزنه على ما سلف وتوفيق الله إياه لطاعته ظلال واقية من النار ، ثم قال وكلهم أي وكل القراء أسكنوا ستة ألفاظ ذكر في هذا البيت منها ثلاثة والباقي في البيت الآتي وليست من جملة العدة السابقة والسبب في ذكره المتفق على إسكانه هنا هو ما ذكرناه عند ذكر ما اتفق على إسكانه فيما بعده همزة مفتوحة غير أنه في ذلك النوع بدأ بذكر المتفق على إسكانه وهنا ختم به هذا النوع وأراد (يصدقني إني أخاف) ، في القصص (وانظرني إلى يوم) ، في الأعراف والحجر وص (لولا أخرتني إلى أجل قريب) ، في آخر المنافقين وأما قوله تعالى في سبحان (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) فمذكور في باب ياءات الزوائد وحكم ياءات الزوائد أن من أثبتها لا يفتحها إلا في المواضع المستثناة وهي ثلاثة في النمل والزمر والزخرف ففيهما اختلاف وسيأتي ذكر الذي في الزخرف آخر هذا الباب والذي في النمل والزمر في باب الزوائد ، فإن قلت كيف يلفظ في البيت بقوله -يصدقني-أنظرني ، قلت يحتمل وجهين وكلاهما لا يخلو من ضرورة أحدهما بضم القاف على قراءة عاصم وحمزة فيلزم من ذلك وصل همزة القطع في (أنظرني) ، وحذف الياء لالتقاء الساكنين والثاني بإسكان القاف على قراءة الجماعة فيلزم من ذلك فتح الياء وهي لم يفتحها أحد من القراء مع وصل همزة القطع ويجوز أن يعتذر عن هذا بأن يقال لم يصل همزة القطع على هذا الوجه بل نقل حركة الهمزة إلى الياء كما تقول العرب أبتغي أمره فالياء على هذا كأنها ساكنة في التقدير لأن الفاء جاء من عارض نقل حركة الهمزة وليس الفتح من باب فتح ياء الإضافة ، فإن قلت فحذف الهمزة من (أنظرني) ، لا يقرأ به أحد ، قلت حذف الهمزة لا بد منه في الوجهين المذكورين
فما فيه إثبات الياء أولى مما فيه حذفها إلا أنه يعارض هذا أن فتح الياء قراءة وحذفها معلوم يوهم أنه لالتقاء الساكنين فالوجهان متقاربان لتعارض الكلام فيهما ويحتمل وجها ثالثا بإسكان القاف وحذف الياء مع بقاء كسرة النون وتبقى همزة (أنظرني) ، ثابتة مفتوحة بحالها ويكون هذا أولى بالجواز من قوله قبل ذلك وقل (فطرن) ، في هود فإنه حذف الياء من (فطرني) ، وأسكن النون فحذف الياء مع بقاء كسرة النون أولى
(405)
وَذُرِّيَّتِي يَدْعُونَنِي وَخِطَابُهُ وَعَشْرٌ يَلِيهَا الْهَمْزُ بِالضَّمِّ مُشْكَلاَ
أراد (وأصلح لي في ذريتي إني تبت)-(مما يدعونني إليه) ، في يوسف وأراد بقوله وخطابه أن يأتي هذا اللفظ بالتاء وهو موضعان في غافر (وتدعونني إلى النار) و (لا جرم أن ما تدعونني إليه) ، فهذه أربع ياءات وتقدم خمس فالمجموع تسع مجمع على إسكانها في ستة ألفاظ تكرر واحد مرتين وهو (تدعونني) ، بالخطاب وتكرر آخر ثلاثا وهو (أنظرني) ، ثم ذكر النوع الثالث فقال وعشر أي وعشر ياءات تليها الهمزة المضمومة ومشكلا حال من الهمز يقال شكلت الكتاب وأشكلته وقد تقدم ذكره في آخر باب الهمزتين من كلمتين والعشر قوله (إني أعيذها-إني أريد) ، في المائدة والقصص (فإني أعذبه)-(إني أمرت) ، في الأنعام والزمر (عذابي أصيب به)-(إني أشهد الله)-(إني أوف الكيل)-(إني ألقي) ، فتحها جميعا نافع وحده وأسكنها الباقون وأجمعوا على إسكان ياءين وقد ذكر ذلك في قوله
(406)
فَعَنْ نَافِعٍ فَافْتَحْ وَأَسْكِنْ لِكُلِّهِمْ بِعَهْدِي وَآتُونِي لتَفْتَحَ مُقْفَلاَ
يريد قوله تعالى (بعهدي أوف)-(آتوني أفرغ عليه) ، وإنما ذكرهما للمعنى الذي ذكرناه في المفتوحة والمكسورة ولم يتعرض صاحب التيسير لذكر المجمع عليه من ذلك لا في التي قبل الهمزة المفتوحة ولا المكسورة ولا المضمومة وكأنه اتكل على بيان المختلف فيه في آخر كل سورة وحسنت المقابلة في قوله لتفتح مقفلا بعد قوله وأسكن أي لتفتح بابا من العلم كان مقفلا قبل ذكره والله أعلم
(407)
وَفِي اللاَّمِ لِلتَّعْرِيفِ أَرْبَعُ عَشْرَةٍ فَإِسْكَانُهَا (فَـ)ـاشٍ وَعَهْدِي (فِـ)ي (عُـ)لاَ
هذا النوع الرابع وهو ما بعده همزة وصل بعدها لام التعريف ومجموع الهمزة واللام عند قوم هو المعرف وتقدير قوله وفي اللام أي وفي قبل اللام فحذف المضاف للعلم به ولو قال وفي قبل اللام لكان على حذف الموصول تقديره وفي الذي قبل اللام وكل ذلك قد جاءت له نظائر في اللغة ونون قوله أربع عشرة ضرورة كما قال العرجي فجاءت تقول الناس في تسع عشرة وجوز الفراء الإضافة مع التنوين في الشعر قال في كتاب المعاني أنشدني أبو ثروان ، (كلف من عنائه وشقوته بنت ثماني عشرة من حجته) قلت فعلى هذا يجوز في بيت الشاطبي أربع عشرة برفع أربع وجر عشرة مع التنوين فأسكن الأربع عشرة جميعها حمزة ووافقه غيره في بعضها وقوله فاش أي منتشر شائع خلافا لما نقل عن الكسائي عن العرب من ترك ذلك وقد تقدم ذكره ووافق حفص حمزة على إسكان (لا ينال عهدي الظالمين)
(408)
وَقُلْ لِعِبَادِي (كَـ)ـانَ (شَـ)رْعاً وَفِي النِّدَا (حِـ)مًى (شَـ)ـاعَ آيَاتِي (كَـ)مَا (فَـ)ـاحَ مَنْزِلاَ
أراد (قل لعبادي الذين آمنوا) ، وافق على إسكانها ابن عامر والكسائي ووافق على إسكان عبادي إذا جاء بعد حرف النداء أبو عمرو والكسائي وذلك في موضعين في العنكبوت (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة) وفي الزمر (يا عبادي الذين أسرفوا) ، وهو ملبس بالتي في أول الزمر (يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) وإنما لم يأت فيها خلاف لأن الياء محذوفة منها في الرسم باتفاق وإذا لم تكن ياء فلا فتح وأما (آياتي) ففي الأعراف (سأصرف عن آياتي الذين) ، وافق ابن عامر على إسكانها وتقدير معنى البيت كان إسكانه شرعا وهو في الندا حمى شاع وفاح أي تضوع وظهرت رائحته ومنزلا تمييز ثم عد هذه الأربع عشرة ياء فقال
(409)
فَخَمْسَ عِبَادِي اعْدُدْ وَعَهْدِي أَرَادَنِي وَرَبِّي الَّذِي آتَانِ آياتِي الْحُلاَ
(410)
وَأَهْلَكَنِي مِنْهَا وَفِي صَادَ مَسَّنِي مَعَ الأَنَبِيَا رَبِّي فِي الأَعْرَافِ كمَّلاَ
تقدم ذكر عهدي وآياتي وثلاثة من لفظ عبادي وبقي اثنان (عبادي الصالحون-عبادي الشكور-وأما-فبشر عبادي الذين) ، فيأتي في باب الزوائد وأنث لفظ الخمس بحذف الهاء منه على تأويل إرادة الكلمات وقوله أرادني أراد (إن أرادني الله بضر-ربي الذي يحيي-آتاني الكتاب) ، في مريم وأما (فما آتاني الله) ، فيأتي ذكره في باب الزوائد والحلا جمع حلية وهي صفة للكلمات المذكورة وحذف الياء من آتاني ضرورة ويجوز إثبات الياء وفتحها نقلا لحركة همزة آياتي إليها على حد قوله (حشرتني أعمى) ، ولو حذف الياء ثم وأثبت الهمزة لكان سائغا كما فعل هنا في (آتان-آياتي) ، فالحاصل أن كل واحد من الموضعين يجوز فيه ما نظمه في الآخر ومنها (إن أهلكني الله)-(مسني الضر) ، في الأنبيا (مسني الشيطان) ، في ص (حرم ربي الفواحش) ، في الأعراف فهذه أربع عشرة ياء وعدها صاحب التيسير ست عشرة فزاد ما في النمل والزمر (آتاني الله)-(فبشر عبادي الذين) ، وإنما بين سورتي مسني دون سور باقي الياءات لأن في الأعراف (و ما مسني السوء) ، مجمعا على فتحه وإنما عد الشاطبي ياءات هذا النوع دون الأنواع التي سبقت لئلا تشتبه بغيرها نحو (شركائي الذين كنتم-نعمتي التي أنعمت-بلغني الكبر) ، لأنه لم يذكر المجمع عليه من هذا القسم لكثرته فرأى عده أيسر عليه والمجمع عليه من هذا القسم مفتوح والمجمع عليه من ما مضى مسكن ثم ذكر النوع الخامس فقال
(411)
وَسَبْعٌ بِهَمْزِ الْوَصْلِ فَرْدًا وَفَتْحُهُمْ أَخِي مَعَ إِنِّي (حَـ)ـقَّهُ لَيْتَنِي (حَـ)لاَ
أي وسبع ياءات إضافة بعدها همزة الوصل دون لام التعريف فلهذا قال فردا وهو حال من الهمز ثم أخذ يذكرها واحدة بعد واحدة ولم يعمها بحكم لأحد كما فعل في الأنواع السابقة لأن كل واحدة منها تختص برمز إلا واحدة وافقت أخرى في الرمز بهذا البيت فجمعهما وبدأ بهما فقال -أخي-مع إني أراد (أخي اشدد) ، في طه فهمز الوصل بعدها في قراءة من فتحها وغيره وهي همزة قطع في قراءة ابن عامر كما يأتي وفي الأعراف (إني اصطفيتك) ، فتحهما ابن كثير وأبو عمرو وانفرد أبو عمرو بفتح (يا ليتني اتخذت) ، وهو يفتح الجميع وابن كثير يفتح ما عدا (يا ليتني) ، في رواية البزي ونافع يفتح ما عدا هذا البيت ثم تممها فقال
(412)
وَنَفْسِي (سَمَا) ذِكْرِي (سَمَا) قَوْمِي (ا)لرِّضَا (حَـ)ـمِيدُ (هُـ)دىً بَعْدِي (سَمَا صَـ)فْوُهُ وِلاَ
أراد في طه (واصطنعتك لنفسي اذهب)-(ولا تنيا في ذكري اذهبا) ، فتحهما مدلول سما وكرر لهما الرمز من غير حاجة إلى تكريره سوى ضرورة النظم وخرج منهم قنبل في فتح (إن قومي اتخذوا) ، في الفرقان وزاد مع سما أبو بكر ففتحوا (من بعدي اسمه أحمد) ، والولاء بكسر الواو والمد المتابعة ونصبه على التمييز أي سمت متابعة صفوة
(413)
وَمَعَ غَيْرِ هَمْزٍ فِي ثَلاَثيِنَ خُلْفُهُمْ وَمَحْياَيَ (جِـ)ـي بالْخُلْفِ وَالْفَتْحُ (خُـ)وِّلاَ
وهذا النوع السادس الذي ليس بعده همز أصلا لا همز قطع ولا همز وصل ثم شرع يذكرها واحدة بعد واحدة فبدأ بقوله تعالى (ومحياي) ، في آخر الأنعام فالواو من جملة التلاوة لا عاطفة فذكر أن قالون أسكنها ولورش فيها خلاف وفتحها الباقون وهو لأقيس في العربية فلذا قال خولا أي ملك وإنما ضعف الإسكان لما فيه من الجمع بين الساكنين ولا يليق بفصاحة القرآن إلا ذلك ، ألا ترى كيف أجمعوا على الفتح (مثواي-و-هداي) وكلاهما مثل (محياي) ، وشنع بعض أهل العربية على نافع رحمه الله متعجبا منه كيف أسكن (محياي-وفتح بعدها-مماتي) ، وكان الوجه عكس ذلك أو فتحهما معا والظن به أنه فتحهما معا وهو أحد الوجهين عن ورش عنه وهي الرواية الصحيحة فقد أسندها أبو بكر بن مجاهد في كتاب الياءات عن أحمد بن صالح عن ورش عن نافع الياء في (محياي ومماتي) ، مفتوحتان وفي أخرى عن ورش قال كان نافع يقرأ أولا محياي ساكنة الياء ثم رجع إلى تحريكها بالنصب قلت فهذه الرواية تقضي على جميع الروايات فإنها أخبرت بالأمرين ومعها زيادة علم بالرجوع عن الإسكان إلى التحريك فلا تعارضها رواية الإسكان فإن الأولى معترف بها ومخبر بالرجوع عنها وكيف وإن رواية إسماعيل بن جعفر وهو أجل رواة نافع موافقة لما هو المختار قال ابن مجاهد أخبرني محمد ابن الجهم عن الهاشم عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة ونافع أنهم ينصبون الياء في (محياي ومماتي لله) ، قلت وهذه الآية مشتملة على أربع ياءات (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي) ، فالأولتان ساكنتان بلا خلاف في هذه الطرق المشهورة فكأن نافعا أسكن اثنتين وفتح اثنتين ولا ينبغي لذي لب إذا نقل له عن إمام روايتان أحداها أصوب وجها من الأخرى أن يعتقد في ذلك الإمام إلا أنه رجع عن الضعيف إلى الأقوى ولا يغتر بما ذكره الداني في كتاب الإيجاز من اختياره الإسكان وذكر وجهه من جهة العربية فإن غاية ما استشهد به قول بعض العرب التقت حلقتا البطان وله ثلثا
المال بإثبات الألف فيهما وهذا ضعيف شاذ لم يقرأ بمثله ألا ترى أن الإجماع على أن الألف محذوفة من نحو هذا مثل (ادخلا النار-ولقد خلقنا الإنسان) ، وأما استشهاده بقراءة أبي عمرو (واللاى) ، بإسكان الياء فسيأتي الكلام عليه في سورة الأحزاب وحكمه حكم (محياي) ، وقول الناظم جئ بالخلف أي ائت به وانظر في اختلاف الروايات بين لك الصواب إن شاء الله تعالى
(414)
وَ(عَمَّ عُلاً) وَجْهِي وَبَيْتِي بِنُوحِ (عَـ)ـنْ (لِـ)ـوىً وَسِوَاهُ (عُـ)ـدْ (أَ)صْلاً (لِـ)ـيُحْفَلاَ
يريد (وجهي لله) ، في آل عمران (إني وجهت وجهي) ، في الأنعام (بيتي مؤمنا) ، وسواه يعني سوى الذي في نوح وهو (بيتي للطائفين) ، في البقرة والحج وتقدير البيت وعم فتح وجهي علا وفتح بيتي وارد لواء أي عن ذي لواء وشهرة قصروه ضرورة كما قال لو كنت من هاشم أو من بني أسد أو عبد شمس أو أصحاب اللوى الصيد يريد بأصحاب اللواء بني عبد الدار بن قصي وقوله عد أصلا أي عده أصلا لفتح الذي بنوح ليتضح عذر من عمم الفتح للجميع يقال حفلته أي جلوته وحفلت كذا أي باليت به وفلان محافل على حسبه إذا صانه
(415)
وَمَعْ شُرَكَاءِي مِنْ وَرَاءِي (دَ)وَّنُوا وَليِ دِينِ (عَـ)ـنْ (هَـ)ـادٍ بِخُلْفٍ (لَـ)ـهُ (ا)لْحَلاَ
يريد (أين شركائي قالوا-من ورائي وكانت-ولي دين) ، آخر سورة الكافرين له أي للخلف والحلا جمع حلية
(416)
مَمَاتِي (أَ)تَى أَرْضِي صِرَاطِي ابْنُ عَامِرٍ وَفِي النَّمْلِ مَالِي (دُ)مْ (لِـ)ـمَنْ (رَ)اقَ (نَـ)ـوْفَلاَ
لو أتى بهذا البيت بعد محياي كان أولى لأنه يتصل الكلام في (ومحياي ومماتي) ، وأراد (إن أرضي واسعة-وأن هذا صراطي مستقيما-مالي أرى) ، وراق الشيء صفا والنوفل السيد المعطي وهذا الكلام مليح أي دم نوفلا لمن راق وصفا باطنه وظاهره
(417)
وَلِي نَعْجَةُ مَا كَانَ لِي اثْنَيْنِ مَعْ مَعِي ثَمَانٍ (عُـ)ـلاً وَالظُّلَّةُ الثَّانِ (عَـ)ـنْ (جِـ)ـلاَ
أي وفتح هذه المواضع علا واثنين حال من قوله ما كان لي يريد (وما كان لي عليكم) ، في إبراهيم (ما كان لي من علم) ، في ص ومعي في ثمانية مواضع (معى بني إسرائيل) ، في الأعراف (معي عدوا) ، في التوبة(معي صبرا) ، ثلاثة في الكهف (ذكر من معي) ، في الأنبياء (إن معي ربي) ، في الشعراء (معي ردءا) ، في القصص فتح الجميع حفص وتابعه ورش على الثاني في سورة الظلة وهي سورة الشعراء لأن فيها (عذاب يوم الظلة) ، يريد قوله تعالى في قصة نوح (ومن معي من المؤمنين) ، أي وحرف الظلة الثاني فتحه عن جلا أي كشف وجلوت الشيء كشفته
(418)
وَمَعْ تُؤْمِنُوا لِي يُؤْمِنُوا بِي (جَـ)ـاوَيَا عِبَادِيَ (صِـ)ـفْ وَ الْحَذْفُ (عَـ)نْ (شَـ)ـاكِرٍ (دَ)لاَ
يريد (وإن لم تؤمنوا لي) ، في الدخان (وليؤمنوا بي) ، في البقرة فتحهما ورش (يا عباد لا خوف عليكم) ، في الزخرف فتحها أبو بكر وحذفها عن شاكر دلا أي أخرج دلوه ملأى يشير إلى قوة مذهبهم لأن الياء حذفت في بعض المصاحف وحذفها في باب الندا أفصح من إثباتها وأسكنها الباقون وقوله في الزمر (يا عباد فاتقون) ، ياؤها محذوفة في جميع المصاحف وانضاف إلى ذلك أن حذفها في النداء أفصح لغة فلهذا لم يأت فيها خلاف في حذفها من هذه الطرق المشهورة وإن كان قد حكى إثباتها وفتحها في طرق أخرى
(419)
وَفَتْحُ وَلِي فِيهَا لِوَرْشٍ وَحَفْصِهِمْ وَمَالِي فِي يس سَكِّنْ (فَـ)تَكْمُلاَ
يريد (ولي فيها مآرب أخرى-ومالي لا أعبد) ، أسكنها حمزة وحده ونصب فتكملا على جواب الأمر بالفاء أي فتكمل معرفة مواضع الخلاف في هذا الباب والله أعلم
باب ياءات الزوائد
(420)
وَدُونَكَ يَاءَاتٍ تُسَمّى زَوَائِدَا لأَنْ كُنَّ عَنْ خَطِّ المَصَاحِفِ مَعْزِلاَ
أي إنما سميت زوائد لأنها زادت على رسم المصحف عند من أثبتها والمعزل هاهنا مصدر بمعنى العزل كالمرجع أي لأن كن ذوات عزل أي إنهن عزلن عن الرسم فلم تكتب لهن صورة ثم بين حكمها فقال
(421)
وَتَثْبُتُ في الْحَالَيْنَ (دُ)رَّا (لَـ)ـوَامِعاَ بِخُلْفٍ وَأُولَى النَّمْلِ حَمْزَةُ كَمَّلاَ
أي إن القراء مختلفون في هذه الياءات الموصوفة بأنها زوائد فمنهم من أثبتها في حالي الوصل والوقف وهم المذكورون في هذا البيت ومنهم من أثبتها في الوصل دون الوقف وهم المذكورون في البيت الآتي وليس الأمران على العموم هؤلاء أثبتوا الجميع في الحالين وأولئك في الوصل بل معنى هذا الكلام أن كل من أذكر عنه أنه أثبت شيئا ولم أقيده فانظر فيه فإن كان من المذكورين في هذا البيت فاعلم أنه يثبته في الحالين وإن كان من المذكورين في البيت الآتي فاعلم أنه يثبته في الوصل فقط فحصل من هذا أن ابن كثير من طريقيه أو من أحدهما وهشاما يثبتان الياء في الحالين في المواضع التي يأتي ذكرها لهما لكن ابن كثير له مواضع كثيرة وأما هشام فليس له إلا موضع واحد في الأعراف سيأتي ذكره وفيه خلاف عنه وقفا ووصلا وأثبت حمزة في الحالين موضعا واحدا وهو ( أتمدونن بمال) ، وهو يقرؤه بتشديد النون على ما سيأتي في سورته وهذا الموضع هو أول النمل لأن فيها ياءين زائدتين على رأي الناظم وكلتاهما في آية واحدة وهذه الياء هي الأولى وبعدها (فما آتان الله) ، فاحترز بقوله وأولى النمل عن ياء آتاني وقوله كملا ليس برمز لأن الرمز لا يجتمع مع المصرح به وإنما معناه أن حمزة كمل عدة المثبتين في الحالين ودرا لوامعا حالان من ضمير الياءات في وتثبت أي مشبهة ذلك لأن هذه القراءة موافقة للأصل لأن الياء إما لام الكلمة أو كناية عن المتكلم وأياما كان فالأصل إثباتها وأما حذفها والاجتزاء بالكسرة عنها ففرع عن ذلك الأصل وحكى ابن قتيبة أن إثباتها لغة أهل الحجاز ثم الإثبات في نحو-الداعي-و-الجواري-مما الياء فيه لام الفعل وفيه الألف واللام أحسن عند أهل العربية من الحذف إلا في الفواصل والقوافي فالحذف أحسن وكذا الياء التي هي لام الفعل نحو (نبغي-و-يأتي) ، إثباتها أحسن من حذفها
فإن قلت بقي على الناظم ذكر جماعة لهم خلاف في الإثبات في الحالين في ثانية النمل (فما آتاني الله) ، وهم قالون وأبو عمرو وحفص كما يأتي وكذا قنبل له خلاف في الوقف على (بالواد) ، في سورة الفجر قلت هذا كله يجئ مفصلا مبينا وإنما ذكر في هذا البيت ما يأتي مجملا مطلقا فتعلم من إجماله وإطلاقه أن الإثبات في الحالين للمذكورين وأما المبين فمتضح في نفسه فلا يحتاج إلى هذه المقدمة ثم ذكر المثبتين في الأصل فقط في المواضع التي تذكر لهم فقال
(422)
وَفِي الْوَصْلِ (حَـ)ـمَّادٌ (شَـ)ـكُورٌ (إِ)مَامُهُ وَجُمْلَتُهاَ سِتُونَ وَاثْنَانِ فَاعْقِلاَ
أي إمامه حماد شكور لأن هؤلاء جمعوا في قراءتهم بين الأصل وموافقة الرسم وخصوا الوقف بالحذف لأنه الأليق بالتخفيف على ما مضى في تخفيف الهمز في الوقف فالمثبتون في الوصل وحده هم أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع على ما رمز لهم في البيت فأما الكسائي وورش فاطرد لهما ذلك فلم يثبتا في الوقف شيئا وأما حمزة فقد تقدم أنه أثبت في الوقف والوصل (أتمدونني) ، في النمل وحدها وما عدها مما سيذكر له أنه يثبته يختص بوصله دون وقفه وذلك موضع واحد (وتقبل دعائي) ، في سورة إبراهيم وأما أبو عمرو وقالون فلهما خلاف في الوقف على (آتاني الله) ، في النمل كما يأتي والباقون على حذف الجميع في الحالين اتباعا للرسم وهم عاصم وابن عامر فقط لكن لهشام خلاف في الموضع الواحد المقدم ذكره وكذا لحفص موضع واحد وهو (آتاني الله) ، في النمل على ما يأتي فما يصفو من أهل الحذف على الإطلاق أحد غير أبي بكر وابن ذكوان والحذف لغة هذيل قال أبو عمرو وأنشد الفراء ، (كفاك كف ما تليق درهما وجود أخرى تعط بالسيف الدما) ، ( لقد تخف بشارتي قدر يوم ولقد تخف شيمتي إعساري) ، وقال آخر ، (وأخو الغوان متى يشأن صرمنه ) ، وأنشد سيبويه ، (أمحمد نفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تباني) ، وحمله هو والنحاة على حذف لام الأمر وجعلوه لذلك شاذا والأولى جعله من هذا الباب ثم ذكر الناظم عدد الياءات التي اختلف القراء في إثباتها وحذفها وهي محذوفة في الرسم فقال جملتها اثنان وستون ياء وعدها صاحب التيسير إحدى وستين لأنه أسقط (فما آتاني الله-في النمل-فبشر عبادي) ، في الزمر وعدّهما في باب ياءات الإضافة ، فإن قلت فينبغي أن يبقى ستون فما هي الواحدة الزائدة ، قلت هي (يا عبادي) ، التي في الزخرف ذكرها في البابين وقد تقدم التنبيه على ذلك وذكر الناظم في هذا الباب لفظ العدد فقال اثنان وأنثه في باب ياءات الإضافة في قوله وعشر وتسعها وثنتان وأربع عشرة وسبع وأربع وثمان والكل في
البابين عبارة عن الياءات وكلا اللفظين من التذكير والتأنيث سائغ في العبارة عن الياء لأنها من حروف المعظم وكلها يجوز فيها الأمران على ما قد ذكرناه مرارا ثم شرع يذكر الزوائد مفصلة فقال
(423)
فَيَسْرِي إِلى الدَّاعِ الْجَوَارِ المُنَادِ يَهْدِيَنْ يُؤْتِينَ مَعْ أَنْ تُعَلِّمَنِي وِلاَ
وأراد (والليل إذا يسر-مهطعين إلى الداع-ومن آياته الجوار) ، في سورة الشورى دون اللتين في سورة الرحمن وكورت ودلنا على ذلك أنهما لا يمكن إثبات الياء في الوصل لأجل الساكن بعدهما فتعينت التي في الشورى وهذا بخلاف إمالة الدوري للجواري فإنها في المواضع الثلاثة كما سبق (والمنادي) ، في سورة ق-يوم يناد المناد- والثلاثة الباقية في الكهف (وقل عسى أن يهدين ربي)-(فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك)-(على أن تعلمن مما علمت) ، والولاء المتابعة يعني أن هذه الثلاثة تتابعت في سورة واحدة على هذا النسق ودلنا على أن مراده يهدين التي في الكهف أن التي في القصص مثبتة بإجماع وسيأتي ذلك وليس غيرهما فتعينت التي في الكهف والله أعلم
(424)
وَتُخْزُونِ فِيهاَ (حَـ)ـجَّ أَشْرَكْتُمُونِ قَدْ هَدَانِ اتَّقُونِ يَا أُولِي اخْشَوْنِ مَعْ وَلاَ
فيها أي في هود (ولا تخزون في ضيفي) ، وجميع ما في هذا البيت أثبته أبو عمرو في الوصل أراد (أشركتموني من قبل) ، في إبراهيم (قد هدان) في الأنعام و(اتقون يا أولي الألباب) ، في البقرة وقيد-هدان-بقوله-قد-احترازا من نحو (قل إنني هداني)-(لو أن الله هداني) ، فهي ثابتة باتفاق وقيد اتقون بقوله (يا أولى) ، احترازا من قوله (وإياي فاتقون) ، فإنها محذوفة باتفاق وقوله (واخشون ولا تشتروا) ، في المائدة فقيده بقوله ولا أي الذي بعده ولا احترز بذلك عن الذي في أول المائدة (واخشون اليوم) ، فإنها فيه محذوفة في الحالين باتفاق ومن الذي في البقرة (واخشوني ولأتم نعمتي) ، فإنه ثابت في الحالين باتفاق اتباعا للرسم فيهما مع أن الذي في أول المائدة واجب الحذف في الوصل لأن بعده ساكنا فأجرى الوقف مجراه
(425)
وَأَخَّرْتَنِي الاسْراَ وَتَتَّبِعَنْ (سَماَ) وَفي الْكَهْفِ نَبْغِي يَأْتِ فِي هُودَ (رُ)فِّلاَ
أراد (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) ، وأضافه إلى الإسراء احترازا من التي في سورة المنافقين (لولا أخرتني إلى أجل قريب) ، فإنها مثبتة في الحالين بلا خلاف وأراد (أن لا تتبعن أفعصيت) ، في طه أثبت هاتين الياءين مع اللآتي في البيت السابق جميعها مدلول قوله سما فابن كثير أثبتها في الحالين ونافع وأبو عمرو في الوصل فقط وأما (ذلك ما كنا نبغي-و-يوم يأتي لا تكلم) ، فوافقهم فيهما الكسائي فأثبتها في الوصل وإنما قيد (نبغي) ، في الكهف احترازا من التي في يوسف (يا أبانا ما نبغي) ، فإنها مثبتة بإجماع وقيد يأتي بهود احترازا مما أجمع أيضا على إثباته نحو (يأتي بالشمس-يوم يأتي بعض آيات ربك-أم من يأتي آمنا يوم القيامة) ، ورفل معناه عظم
(426)
(سَماَ) وَدُعَاءِي (فِـ)ي (جَـ)ـنَا (حُـ)ـلْوِ (هَـ)ـدْيِهِ وَفي اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ (حَـ)ـقَّهُ (بِـ)ـلاَ
سما من تتمة رمز نبغي ويأتي وأراد (وتقبل دعاءي) ، أثبتها في الوصل حمزة وورش وأبو عمرو وأثبتها البزي في الحالين (واتبعون) ، في غافر أثبتها في الوصل أبو عمرو وقالون وفي الحالين ابن كثير وبلا معنى اختبر أي اختبر الحق ما ذكرته فكان صوابا دون ما روى من خلاف ذلك فإن قلت من أين علمنا أن مراده بقوله (دعاء) ، التي في إبراهيم دون التي في نوح (دعاءي إلا فرارا) ، قلت لأن تلك دخلت في حساب ياءات الإضافة في عده ما بعده همزة مكسورة وقد نص عليها في قوله (دعاءي-و-آباءي) ، لكوف تجملا والفرق بينهما أن التي في نوح ثابتة في الرسم والتي في إبراهيم محذوفة وذلك فصل ما بين ياء الإضافة والزائدة وكذلك القول في (اتبعون أهدكم) ، إذ لقائل أن يقول لما لا تدخل هذه في ياءات الإضافة التي بعدها همزة مفتوحة فيكون الجواب أن هذه الياء محذوفة رسما غير ثابتة فيه وعلم ذلك من موضع آخر-وقيد اتبعوني-بقوله-أهدكم-احترازا من الذي في الزخرف لأبي عمرو وحده وسيأتي ومن الذي أجمع على إثباته نحو (فاتبعوني يحببكم الله-فاتبعوني وأطيعوا أمري) والله أعلم
(427)
وَإِنْ تَرَنِي عَنْهُمْ تُمِدُّونَنِي (سَماَ) (فَـ)ـرِيقاً وَيَدْعُ الدَّاعِ (هَـ)ـاكَ (جَـ)ـناً (حَـ)ـلاَ
عنهم أي عن مدلول حقه بلا أراد (إن ترن أنا أقل منك-و-أتمدونني) ، في النمل لمدلول سما فريقا وهذا الموضع هو الذي يثبته حمزة في الحالين ونصب فريقا على التمييز أي ارتفع فريقه وهم قراؤه وروى عن حمزة فيه الحذف في الحالين والإثبات في الوصل دون الوقف (يدع الداع) ، في سورة القمر أثبتها في الحالين البزي وفي الوصل ورش وأبو عمرو وما أحلا قوله هاك جناحلا أي خذ ثمرا حلوا وهو ما نظمه الناظم رحمه الله
(428)
وَفي الْفَجْرِ بِالْوَادِي (دَ)ناَ (جَـ)ـرَيَانُهُ وَفي الْوَقْفِ بِالْوَجْهَيْنِ وَافَقَ قُنْبُلاَ
أي وافق بالوادي قنبلا بالوجهين يعني روى عن قنبل الحذف والإثبات في الوقف وأما في الوصل فيثبت بلا خلاف كورش وأثبت البزي في الحالين وما أحسن ما وافقه لفظ لجريان بعد ذكر الواد
(429)
وَأَكْرَمَنِي مَعْهُ أَهَانَنِ (إِ)ذْ هَـ(دَ)ى وَحَذْفُهُماَ لِلْمَازِنِي عُدَّ أَعْدَلاَ
يعني أن المشهور عن أبي عمرو حذفهما وقد روى عنه إثباتهما في الوصل كنافع وأثبتهما البزي في الحالين أراد (ربي أكرمن)و(ربي أهانن) ، كلاهما في سورة الفجر أتبعهما ذكر بالواو لأن الجميع في سورة واحدة
(430)
وَفي النَّمْلِ آتانِي وَيُفْتَحُ (عَـ)ـنْ أُوِلي (حِـ)ـمىً وَخِلافُ الْوَقْفِ (بَـ)ـيْنَ (حُـ)ـلاً (عَـ)ـلاَ
يعني جمع هؤلاء بين إثبات الياء وفتحها في قوله تعالى (فما آتاني الله خير مما آتاكم) ، ويلزم من الإثبات الفتح وإلا لانحذفت لالتقاء الساكنين والباقون على حذفها اتباعا للرسم فمن حذف في الوصل حذف في الوقف وأما من أثبت في الوصل فقياسه أيضا الحذف في الوقف لأنه ليس فيهم من المثبتين في الحالين أحد فأما ورش فجرى على القياس فحذفها في الوقف وأما قالون وأبو عمرو وحفص فاختلف عنهم في إثباتها وحذفها في الوقف ووجه إثباتها أن هذه الياء أخذت شبها من ياء الإضافة لكونهم فتحوها وياءات الإضافة لا تحذف في الوقف فكذا هذه وقوله بين حلا متعلق بقوله علا
(431)
وَمَعْ كَالْجَوَابِ الْبَادِ (حَقَّ جَـ)ـناَ (هُـ)ـماَ وَفي الْمُهْتَدِ الإِسْرَا وَتَحْتُ (أَ)خُو (حُـ)ـلاَ
أراد (وجفان كالجواب-سواء العاكف فيه والباد) ، وتقدير الكلام والباد مع كالجواب حق جناهما فالباد مبتدا وحق خبره وجناهما فاعل حق وهذا أولى بالجواز من قوله عليك ورحمة الله السلام والجنا المجنى ويجوز أن يكون خبر الباد ما تقدم عليه كقولك مع زيد درهم كأنه قال اشترك هذان في إثبات الياء لقارئ مخصوص ثم بينه وحق خبر مقدم وجناهما مبتدأ وكذا أعرب الشيخ وغيره قوله وفي المهتدي الإسرا وتحت قال فإن قلت كان الوجه أن يقول وفي الإسرا المهتدي قلت معناه واشترك في المهتدي الإسراء والكهف وهو أخو حلا قلت أنا يجوز أن يكون المهتدي مضافا إلى الإسراء لأن المراد هذه اللفظة والكلمة فلا يمنع وجود الألف واللام فيها من إضافتها كما لو كانت فعلا أو حرفا لأن المراد حكاية ما في القرآن كما قال وأخرتني الإسراء فأضاف أخرتني إلى الإسراء وقوله وتحت أي والذي تحت أي والإثبات في حرفي الإسراء والكهف الذي هو المهتدي أخو حلا واحترز بذلك من الذي في الأعراف فإن الياء فيه ثابتة بلا خلاف وهو ( من يهد الله فهو المهتدي) ، وكذا لفظ ما في الإسراء والكهف إلا أنه بغير ياء في الرسم
(432)
وَفي اتَّبَعَنْ فِي آلِ عِمْرَانَ عَنْهُماَ وَكِيدُونِ فِي الأَعْرَافَ (حَـ)ـجّ (لِـ)ـيُحْمَلاَ
عنهما يعني عن نافع وأبي عمرو أثبتا ياء (ومن اتبعن) ، في آل عمران يريد (أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) ، واحترز بذكر السورة عن التي في آخر سورة يوسف (على بصيرة أنا ومن اتبعني) ، فهي ثابتة بلا خلاف وقيد-كيدون-بالأعراف احترازا من المجمع على إثباته في هود وعلى حذفه في المرسلات وقوله وكيدون حج أي غلب في الحجة بإثبات يائه ليحمل ذلك ويقرأ به وهذا هو الموضع الذي أثبته هشام في الحالين بخلاف عنه فيهما وروى عن ابن ذكوان إثباتها في الحالين أيضا ، قال أحمد بن يزيد الحلواني رحلت إلى هشام بن عمار بعد وفاة ابن ذكوان ثلاث مرات ثم رجعت إلى حلوان فورد على كتابه يقول فيه إني أخذت عليكم (ثم كيدون) ، في سورة الأعراف بياء في الوصل وهو بياء في الحالين يعني الوصل والوقف
(433)
بِخُلْفٍ وَتُؤْتُونِي بِيُوسُفَ (حًـ)ـقُّهُ وَفي هٌودَ تَسْأَلْنِي (حَـ)ـوَارِيهِ (جَـ)ـمَّلاَ
إنما أعاد ذكر الخلف عن هشام لئلا يظن أن الذي تقدم كان للوقف وحده فأبان بهذا أن له أيضا في الوصل خلافا وقيل إنما أعاده تأكيدا لأن بعض المصنفين لم يذكر له هذا الخلاف وقوله-حتى تؤتون موثقا-أثبتها مدلول حق وأما (فلا تسئلني ما ليس لك به علم) ، فأثبت الياء أبو عمرو مع تخفيف الكلمة وأثبتها ورش مع تشديدها ويأتي الكلام في التخفيف والتشديد في سورة هود وحواريه ناصره وخفف الياء ضرورة كما تقدم في أول الخطبة
(434)
وَعَنْهُ وَخَافُونِ وَمَنْ يَتَّقِي (زَ)كاَ بِيُوسُفَ وَافى كَالصَّحِيحَ مُعَلَّلاَ
أي وعن أبي عمرو إثبات (وخافون إن كنتم) ، في آل عمران فالواو في قوله وخافون من التلاوة وليست عاطفة في النظم ثم قال ومن يتقي زكا أراد (إنه من يتق ويصبر) ، زكا أي طهر من طعن في قراءة قنبل لأنه أثبت الياء في محل الجزم ولا شك أنها قراءة ضعيفة لأنه زاد على الرسم حرفا وارتكب المحذور بزيادته وجها ضعيفا في العربية بخلاف الياءات المثبتة فيما تقدم فإنها لغة فصيحة وهو من الاختلاف في الهجاء فلم يضر من جهة الرسم كقراءة (مالك يوم الدين) ، بالألف ثم ذكر وجه هذه القراءة وهو أن من العرب من يجري المعتل مجرى الصحيح فلا يحذف منه شيئا من حروفه للجزم كما لا يحذف شيئا في الصحيح ويكتفي بإسكان آخره ومنه قوله (ألم يأتيك والأنباء تنمى ) ووجه آخر وهو أن الكسرة أشبعت فتولدت منها ياء والإشباع قد ورد في اللغة في مواضع ووجه ثالث وهو أن من في قوله ( من يتقي) ، تكون بمعنى الذي لا شرطية فلا جزم ولكن يضعفه أنه عطف عليه قوله ويصبر ، فأجيب بأنه أسكنه تخفيفا كما يأتي عن أبي عمرو في-يأمركم-ونحوه وأكد ذلك أبو علي بأن جعله من باب هل المعطوف على المعنى نحو ( ويكفر عنكم-ويذرهم في طغيانهم-وأكن من الصالحين) ، لأن من يتقي في الجزاء بمنزلة الذي يتقي لدخول الفاء في جوابهما فقد تضمنا معا معنى الجزاء وكل هذه وجوه ثابتة ولكنها ضعيفة في الفصيح على خلاف في اللغة وقال الحصري ، (وقد قرأ من يتقي قنبل فانصر على مذهبه قنبلا) ، واختار الناظم الوجه الأول وقوله وافى أي جاء معللا كالصحيح أي بأنه أجرى مجراه قال أبو بكر ابن مجاهد أخبرني قنبل عن القواس عن أصحابه أنهم يقرءون (إنه من يتقي ويصبر) ، بالياء في الوصل والوقف وقرأت في حاشية نسخة مقروءة على الناظم وأظن الحاشية من إملائه قال معللا أي مروي بعذوب الاحتجاج له فهو على هذا من العلل
(435)
وَفِي المُتَعَالِي (دُ)رُّهُ وَالتَّلاًقِ وَالتْتَنَا (دِ)رَا (بَـ)ـاغِيهِ بِالْخُلْفِ (جُـ)ـهِّلاَ
(المتعالى)-في الرعد و(التلاق)و(التناد) ، في غافر أثبت الثلاثة في الحالين ابن كثير وأثبت ورش وقالون بخلاف عنه ياء التلاق والتناد في الوصل ودرا بمعنى دفع فأبدل من الهمزة ألفا وباغيه بمعنى طالبه يقال بغيت الشيء إذا طلبته وجهلا جمع جاهل وهو مفعول درا أي دفع قارئه الجهال عن تضعيفه بكونه رأس آية فلا ينبغي أن يثبت الياء لئلا يخرج عن مؤاخاة رءوس الآى فأتى بالخلف ليرضى به كل فريق لأن كلا الأمرين لغة فصيحة
(436)
وَمَعْ دَعْوَةَ الدَّاعِ دَعَانِي (حَـ)ـلاَ (جَـ)ـناً وَلَيْسَا لِقَالُونٍ عَنِ الْغُرِّ سُبَّلاَ
يريد قوله تعالى (أجيب دعوة الداع إذا دعان) ، أ ثبتهما أبو عمرو وورش وجنا في موضع نصب على التمييز وليسا-يعني الياءين في هاتين الكلمتين-لقالون أي لم يشتهر إثباتهما له وإن كان قد روى عنه إثباتهما وإثبات الأول دون الثاني وعكسه والغر المشهورون جمع أغر أي عن النقلة الغر وسبلا حال منهم وهو جمع سابلة وهم المختلفون في الطرق يريد أنهم سلكوا طرق النقل وقبلوها خبره بها ولو جاز أن يكون جمع سبيل لقلنا هو نصب على التمييز أي عن القوم المنيرة طرقهم والله أعلم
(437)
نَذِيرِي لِوَرْشٍ ثُمَّ تُرْدِينِ تَرْجُمُونِ فَاعْتَزِلُونِ سِتَّةٌ نُذُرِي جَلاَ
(438)
وَعِيدِي ثَلاَثٌ يُنْقِذُونِ يُكَذِّبُونِ قَالَ نَكِيرِي أَرْبَعٌ عَنْهُ وُصِّلاَ
هذا كله أثبته ورش في الوصل وحده أراد (فستعلمون كيف نذير-إن كدت لتردين-وفي الدخان-(أن ترجمون)-(وإن لم تؤمنوا فاعتزلون) ، ونذر ستة مواضع في سورة القمر وجلا فيه ضمير لورش وعيدي ثلاث أي ثلاث كلمات واحدة في إبراهيم واثنتان في ق (لا ينقذون) في يس (إني أخاف أن يكذبون) ، في القصص وقيده بقوله قال لأن بعده قال (سنشد) ، احترز بذلك عن (يكذبون) ، الذي ليس بعده قال نحو (أن يكذبون-و-يضيق صدري) ، فهذه محذوفة باتفاق في الحالين و (نكيري) ، أربع كلمات في الحج وسبأ وفاطر وتبارك وليس الذي في الشورى من هذا الباب وهو قوله تعالى (ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) ، والضمير في عنه لورش فهذه تسع عشرة زائدة انفرد بها ورش والألف في فصلا ليست ضمير تثنية فإن الذي تقدم متعدد أي وصل المذكور عنه فالألف للإطلاق
(439)
فَبَشِّرْ عِبَادِي افْتَحْ وَقِفْ سَاكِناً (يَـ)ـداً وَوَاتَّبِعُونِي (حَـ)ـجَّ في الزُّخْرُفِ الْعَلاَ
لما فتح السوسي هذه الياء في الوصل وقف عليها بالإسكان كسائر ياءات الإضافة وهو القياس كما فعل في حرف النمل (فما آتان الله) ، على وجه وحذفها الباقون في الحالين اتباعا للرسم ووقع في نقل مذهب السوسي اختلاف كثير في غير التيسير فروى عنه الحذف في الوقف وروى عن أبي عمرو نفسه الحذف في الحالين وروى عنه الفتح في الوصل والحذف في الوقف وأشار الناظم بقوله وقف ساكنا يدا إلى ترك الحركة باليد لأن المتكلم في إبطال الشيء أو إثباته قد يحرك يده في تضاعيف كلامه فكأنه قال لا تتحرك في رد ذلك بسبب ما وقع فيه من الخلاف هكذا ذكر الشيخ فقوله يدا في موضع نصب على التمييز وكأن هذا زجر عن سؤال مقدر واعتراض وارد من حيث القياس والجدل وذلك أن الخلاف محكي عن أبي عمرو نفسه في (فما آتاني الله) ، في النمل والعمل في الاثنين واحد فعرف الناظم أن من سمع من جهة نظمه أن السوسي يقف بياء ساكنة دون الدوري ولم يذكر خلافا أنه يورد حرف النمل ويطلب الفرق بينهما ويستطيل باعتراضه لأنه وارد فسكنه وثبته بقوله وقف ساكنا يدا أي النقل كذا فلا ترده بقياس وجدل وهذا معنى جيد وتفسير حسن لظاهر اللفظ ولكن يلزم منه أن تكون السين من ساكنا رمزا لأبي الحارث كما لو قال باسطا يدا فإن الباء حينئذ كانت تكون رمز قالون وإنما المراد من هذا اللفظ بيان قراءة السوسي في الوقف وهي غير مبينة من هذا التفسير فإن أريد ذلك جعل ساكنا حالا من مفعول محذوف أي وقف عليه ساكنا ويكون يدا حالا من الفاعل أي ذا يد فتظهر قراءة السوسي حينئذ والله أعلم ، ثم قال و-اتبعون-أراد قوله تعالى في سورة الزخرف (واتبعون هذا صراط) ، فأدخل واو العطف على كلمة القرآن وفيها واو فاجتمع واوان ليحصل حكاية لفظ القرآن فهو كقوله في أول القصيدة بدأت ببسم الله كأنه قال وحرف الزخرف الذي هو-واتبعوني-أثبت ياءه في الوصل أبو عمرو وحده والعلا مفعول حج وليس برمز وهو مشكل إذ يحتمل ذلك ولا يدفعه كونه فصل
بين الرمزين بقوله في الزخرف فإن هذا فصل تقييد فليس أجنبيا فلا يضر فهو كفصله بلفظ الخلف في أثناء الرمز كقوله لبى حبيبه بخلفهما برا وكما قد جاء الفصل بالرمز بين تقييدين كقوله كما دار واقصر فلقائل أن يقول كما جاز الفصل بين التقييدين بالرمز كذا يجوز الفصل بين الرمزين بالتقييد ويؤيد الإشكال أنه قد التزم في خطبته أنه يسمى الرجال بعد ذكر الحرف ومتى انقضى ذلك أتى بالواو الفاصلة والواو لم تأت هنا إلا بعد قوله العلا في أول البيت الآتي فليته قال و(واتبعوني) ، زخرف حج واعتلا أو و-واتبعوني-الزخرف اتبع فتى العلا ويكون قد أضاف واتبعوني إلى اسم السورة لأنه لفظ وكلمة وحرف من حروف القراءة فهو كما قدمنا في قوله (وأخرتني) ، الإسراء وفي-المهتدي-الإسراء والله أعلم
(440)
وَفي الْكَهْفِ تَسْأَلْنِي عَنِ الْكُلِّ يَاؤُهُ عَلَى رَسْمِهِ وَالْحَذْفُ بِالْخُلْفِ مُثِّلاَ
يعني أنه رسم بالياء فأثبتها الكل وقفا ووصلا وروى عن ابن ذكوان حذفها في الحالين ، فإن قلت من أين يعلم أنه أراد في الحالين ، قلت هو في التيسير كذلك وإنما لم ينبه عليه الناظم اتكالا على فهم الذكي من جهة أنه لا جائز أن يكون أراد أنه حذفها وصلا لا وقفا إذ ليس في هذا الباب له نظير إذ كل من أثبت ياء في الوقف أثبتها في الوصل ولا ينعكس هذا القسم ثم لو كان أراد هذا القسم لذكره في سورته كما ذكر ما يشبه ذلك في الرعد وإذا بطل هذا القسم فلا يجوز أن يظن بالناظم أنه أراد عكسه وهو أنه حذفها وقفا وأثبتها وصلا لأنه لم يذكره مع من هذا فعله في سائر الباب في قوله وفي الوصل حماد شكور إمامه فبان أنه أراد حذفها في الحالين وهذه الياء التي في الكهف زائدة على العدة بخلاف التي في هود فإنها منها لأن تلك محذوفة رسما وهذه ثابتة فيه
(441)
وَفي نَرْتَعِي خُلْفٌ (زَ)كاَ وَجَمِيعُهُمْ بِالإِثْبَاتِ تَحْتَ النَّمْلِ يَهْدِيَنِي تَلاَ
ليته وصل هذا البيت بالبيت الذي فيه يتقي لأن إثبات الياءين فيهما لقارئ واحد في سورة واحدة وكلاهما في موضع الجزم وما عطف عليهما مجزوم أوليته قدم هذا البيت على الذي قبله لتتصل الياءات المعدودة ثم بذكر الخارج من العدة أراد قوله تعالى (أرسله معنا غدا نرتع ونلعب) ، وسيأتي الخلاف فيه في سورته وأما وجه إثبات الياء فإجراء المعتل مجرى الصحيح أو الإشباع ويجيء الوجه الآخر على أن يكون-نرتعى-في موضع الحال وسكن ونلعب تخفيفا على ما تقدم في (يتق ويصبر) ، والباقون على حذف الياء لكن منهم من كسر العين ومنهم من أسكنها وأجمعوا على إثبات ياء (يهديني سواء السبيل) ، في القصص لثبوتها في الرسم وإنما نص عليها من بين ما أجمعوا على إثباته لأنه ذكر فيما تقدم من جملة ما اختلفوا فيه-يهدين-ولم يعين أنها التي في الكهف فخشي أن تلتبس بهذه فاستدرك وبين أن هذه مجمع عليها فتعينت تلك للخلاف وقد نظم الشيخ رحمه الله في الياءات المجمع على إثباتها أبياتا جمعت أشياء مما يشكل منها ولم يحتج الناظم إلى ذكر غير حرف القصص مما أجمع عليه إذ لا التباس لشيء منه بما ذكره لأنه استوعب ذكر العدة ببيان مواضعها بخلاف ما فعل في ياءات الإضافة فلهذا ذكر المجمع عليه في الأنواع التي لم يستوعب ذكرها مفصلة على ما تقدم شرحه ولم يحتج إلى ذكر غير الملتبس بما ذكره من المجمع عليه إسكانا وفتحا هكذا هاهنا لم يذكر ما أجمع عليه حذفا وإثباتا والله أعلم
(442)
فَهذِي أُصُولُ الْقَوْمِ حَالَ اطِّرَادِهاَ أَجَابَتْ بِعَوْنِ اللهِ فَانْتَظَمَتْ حُلاَ
أي تم الكلام في الأصول وحال اطرادها منصوب على الحال كقوله تعالى (وهذا بعلي شيخا) ، أو يكون العامل فيه أجابت أي أجابت مطردة لما دعوتها أي انقادت لنظمي طائعة بإعانة الله تعالى فانتظمت مشبهة حلا جمع حلية فيكون خلا في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون تمييزا أي انتظمت حلاها وقد ذكر نحو ذلك صاحب التيسير فقال بعد فراغه من باب الزوائد فهذه الأصول المطردة قد ذكرناها مشروحة وأقول المراد من إفراد الأصول بأبواب قبل الشروع في السور الفرق بين ما يطرد حكمه وما لا يطرد والمطرد هو المستمر الجاري في أشباه ذلك الشيء وكل باب من أبواب الأصول لم يخل من حكم كلى يستمر في كل ما تحقق فيه شرط ذلك الحكم وهو في جميع الأبواب ظاهر وهو خفي في ياءات الإضافة والزوائد وهو في الزوائد أخفى فوجهه في ياءات الإضافة أن فيه ما يطرد حمله مثل قوله فتح سما ما بعده همزة مفتوحة وفي الزوائد وتثبت في الحالين وفي الوصل حماد فإن ذلك مطرد في الجميع وباقي الكلام في البابين أشبه بالفرش منه بالأصول وشاهده ذكر التاءات المشددة للبزي في الفرش وهي قريبة من الزوائد والله أعلم
(443)
وَإِنِّي لأَرْجُوهُ لِنَظْمِ حُرُوفِهِمْ نَفَائِسَ أَعْلاَقِ تُنَفِّسُ عُطَّلاَ
أي أرجو عون الله أيضا لتسهيل نظم الحروف المنفردة غير المطردة وهو ما سيأتي ذكره في السور وهو معنى قول صاحب التيسير ونحن مبتدئون بذكر الحروف المتفرقة ونفائس جمع نفيس وأعلاق جمع علق وهو الشيء النفيس يقولون هو علق مضنة أي يضن به ويبخل بإعادته فلا يسمح به قال الشاعر (وسلمى لعمر الله علق مضنة ) أي لا يسمح بفراقها فمعنى نفائس أعلاق على هذا نفائس أشياء نفائس كقولك خيار الخيار ثم هو منصوب إما على الحال من حروفهم أو هو مفعول ثان كما تقول نظمت الدر عقدا فيكون قد كنى بالأعلاق عن القلائد ويجوز أن يكون كنى بها عن أنواع النظم النفيسة فيكون نفائس منصوبا على المصدر وتقديره أنظم حروفهم أنفس نظم تنفس تلك لنفائس أجيادا عطلا أي أعناقا لا قلائد لها أي تجعلها ذات نفاسة قال الشيخ ومعنى ذلك أنه إذا نظمها فحفظها من لا علم له كان كمن تحلى جيده بعقد نفيس قلت فهذا مما يقوى جعل نفائس أعلاق مفعولا ثانيا ولم يذكر الشيخ إلا أنها حال من حروفهم
(444)
سَأَمِضي عَلَى شَرْطِي وَبِاللهِ أَكْتَفِي وَماَ خَابَ ذُو جِدٍّ إِذَا هُوَ حَسْبَلاَ
أي سأستمر على ما شرطته في الرموز والقيود والجد ضد الهزل وحسبل إذا قال حسبي الله ركب من لفظي الكلمتين كلمة تدل عليهما كما تقدم ذكره في باب البسملة ، وقوله وبالله أكتفي هو معنى حسبي الله فلهذا أخبر أنه قد حسبل والمعنى أني لا أخيب فيما قصدته لأني اكتفيت به سبحانه وتعالى في تتمة ذلك واستعنت به عليه فأناب رحمه الله وما خاب بل اشتهر ذكره وطاب وانتفع بما نظمه الأصحاب والله أعلم ، وهذا آخر شرح الأصول والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه الأكرمين أجمعين ، وحسبنا الله وكفى ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
باب فرش الحروف
سورة البقرة
(445)
وَمَا يَخْدَعُونَ الْفَتْحَ مِنْ قَبْلِ سَاكِنٍ وَبَعْدُ (ذَ)كَا وَالْغَيْرُ كَالْحَرْفِ أَوَّلاَ
قوله وما تقييد للحرف المختلف فيه احترازا من الأول وهو قوله(يخادعون الله) ، فإنه ليس قبله وما والساكن الخاء والفتح قبله في الياء وبعده في الدال وهذا تقييد لم يكن محتاجا إليه لأنه قد لفظ بالقراءة ونبه على القراءة الأخرى بما في آخر للبيت لأنه لا يمكن أخذها من أضداد ما ذكر فهو زيادة بيان ، فإن قلت احترز بذلك عن أن يضم أحد الياء ، قلت ليس من عادته الاحتراز عن مثل هذا ألا تراه يقول سكارى معا سكرى ولم يقل بضم السين اكتفاء باللفظ ، فالوجه أن يقال هو زيادة بيان لم يكن لازما له وهو مثل قوله في سورة الحج ويدفع حق بين فتحيه ساكن وذكا بمعنى اشتعل وأضاء وأولا ظرف أي وقراءة الغير كالحرف الواقع أولا وأجاز الشيخ أن يكون حالا وأطلق الناظم الحرف على الكلمة على ما سبق في قوله لعل حروفهم وقوله وفي أحرف وجهان وما يأتي من قوله وفي الروم والحرفين في النحل أولا وذلك سائغ ومنه قول أبي القاسم الزجاجي باب الحروف التي ترفع الاسم وتنصب الخبر يعني كان وأخواتها أي اقرءوا ، (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون) ، ففي هذه القراءة رد لفظ ما ابتدأ به وأجمع عليه ومن قرأ الثانية (يخدعون) ، نبه على أن الأولى بهذا المعنى وأن فاعلت هنا بمعنى فعلت نحو طارقت النعل وسافرت وعاقبت وقيل جعلوا خادعين لأنفسهم لما كان ضرر ذلك عائدا إليهم كقوله تعالى في موضع آخر (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) ، وإنما أجمع على الأول وعدل فيه من فعل إلى فاعل كراهة التصريح بهذا الفعل القبيح أن يتوجه إلى الله سبحانه فأخرج مخرج المحاولة لذلك والمعاناة له والله أعلم
(446)
وخَفَّفَ كُوفٍ يَكْذِبُونَ وَيَاؤُهُ بِفَتْحٍ وَلِلْبَاقِينَ ضُمَّ وَثُقِّلاَ
عني بالتخفيف إسكان الكاف وإذهاب ثقل الذال والباقون ثقلوا موضع تخفيف هؤلاء فلزم تحريك الكاف وإن لم يتعرض له إذ لا يمكن تثقيل الذال إلا بفتح الكاف وضم الياء والقراءتان ظاهرتان فإن المنافقين لعنهم الله قد وصفوا في القرآن بأنهم كاذبون في مواضع كثيرة ومع أنهم كاذبون هم يكذبون لأن الله تعالى وصفهم بقوله (وما هم بمؤمنين) ، ومن لم يكن مصدقا فهو مكذب ولا خلاف في تخفيف (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) ، كما أنه لا خلاف في تثقيل قوله تعالى (بل الذين كفروا يكذبون) ، ونحوه ولا يرد على الناظم ذلك لأنه لم يقل جميعا ولا بحيث أتى ولا نحو ذلك وتلك عادته فيما يتعدى الحكم فيه سورته إلا مواضع خرجت عن هذه القاعدة سننبه عليها في مواضعها منها ما في البيت الآتي (والتوراة-و-كائن) ، وضى فعل ماض لا أمر بل هو من جنس ما عطف عليه من قوله وثقلا والله أعلم
(447)
وَقِيلَ وَغِيضَ ثُمَّ جِيءَ يُشِمُّهَا لَدى كَسْرِهَا ضَمَّا (رِ)جَالٌ (لِـ)تَكْمُلاَ
(448)
وَحِيلَ بِإِشْمَامٍ وَسِيقَ (كَـ)ـمَا (رَ)سَا وَسِيءَ وَسِيئَتْ (كَـ)ـانَ (رَ)ـاوِيهِ (أَ)نْبَلاَ
أراد (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض-وإذا قيل لهم آمنوا) ، وما جاء من لفظ قيل فهو فعل ماض (وغيض الماء-وجيء بالنبيين-وجيء يومئذ-وحيل بينهم-وسيق الذين) ، موضعان في آخر الزمر (وسيء بهم) ، في هود والعنكبوت (وسيئت وجوه الذين كفروا) ، فأطلق هذه الأفعال ولم يبين مواضع القراءة وفيها ما قد تكرر والعادة المستمدة منه فيما يطلق أن يختص بالسورة التي هو فيها كما في-يكذبون-السابقة ولكن لما أدرك مع قيل هذه الأفعال الخارجة عن هذه السورة كان ذلك قرينة واضحة في طرد الحكم حيث وقعت قيل وغيرها من هذه الأفعال ورجال فاعل يشمها وضما مفعول ثان والمراد بالإشمام في هذه الأفعال أن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمة وبالياء بعدها نحو الواو فهي حركة مركبة من حركتين كسر وضم لأن هذه الأوائل وإن كانت مكسورة فأصلها أن تكون مضمومة لأنها أفعال ما لم يسم فاعله فأشمت الضم دلالة على أنه أصل ما يستحقه وهو لغة للعرب فاشية وأبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقته هذه الأفعال من الاعتلال ولهذا قال لتكملا أي لتكمل الدلالة على الأمرين وهذا نوع آخر من الإشمام غير المذكور في الأصول وقد عبروا عنه أيضا بالضم والروم والإمالة ومنهم من قال حقيقته أن تضم الأوائل ضما مشبعا وقيل مختلسا وقيل بل هو إيماء بالشفتين إلى ضمة مقدرة مع إخلاص كسر الأوائل ثم القارئ مخير في ذلك الإيماء إن شاء قبل اللفظ أو معه أو بعده والأصح ما ذكرناه أولا ومن أخلص الكسر فلأجل الياء الساكنة بعده كميزان وميقات وهو اللغة الفاشية المختارة وقال مكي الكسر أولى عندي كما كان الفتح أولى من الإمالة ونافع وابن ذكوان جمعا بين اللغتين ورسا أي استقر وثبت وأنبلا أي زائد النبل وأما قيل الذي هو مصدر فلا يدخل في هذا الباب إذ لا أصل له في الضم وهو في نحو (ومن أصدق من الله قيلا-وقيله يا رب-إلا قيلا سلاما سلاما-وأقوم قيلا) ، والرمز في هذين البيتين رجال لتكملا كما رسا كان راويه
أنبلا والله أعلم
(449)
وَهَا هُوَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَا وَلاَمِهَا وَهَا هِيَ أَسْكِنْ (رَ)اضِياً (بَـ)ـارِداً (حَـ)لاَ
أي إذا كانت الهاء من لفظ هو والهاء من لفظ هي بعد واو أو فاء أو لام زائدة نحو (وهو بكل شيء-فهو وليهم اليوم-وإن الله لهو الولي-وهي تجري بهم-فهي كالحجارة-لهي الحيوان) ، فأسكن الهاء في هذه المواضع الكسائي وقالون وأبو عمرو لأن اتصال هذه الحروف بها صيرت الكلمة مشبهة لفظ عضد وكتف فأسكنت الهاء كما أسكنا تخفيفا وقولنا زائدة احتراز من نحو (لهو الحديث-إلا لهو ولعب) ، فالهاء ساكنة باتفاق لأنها ليست هاء هو الذي هو ضمير مرفوع منفصل وذلك معروف ولكنه قد يخفى على المبتدئ فبيانه أولى وقصر لفظ ها في الموضعين ضرورة والضمير في لامها للحروف أو للفظ هو لكثرة دخولها عليها وراضيا حال وباردا مفعول به وحلا صفة باردا كما تقول رضيت شيئا جيدا وباردا من قولهم غنيمة باردة أي حاصلة من غير مشقة ويمكن جعل الكل أحوالا ويكون راضيا حال من الفاعل وباردا حالا من المفعول نحو لقيته مصعدا منحدرا وقيل باردا نعت مصدر محذوف إي إسكانا باردا حلوا يروى عن من قرأ به كالماء البارد وهذا الحكم المذكور في هذا البيت أيضا مطرد حيث جاءت هذه الألفاظ لا يختص بهذه السورة ولم يصرح بذلك وكأنه اكتفى بضابط قوله بعد الواو وللفاء ولامها لأن المجموع ليس في سورة البقرة والله أعلم
(450)
وَثُمَّ هْوَ (رُِ)فْقًا (بَـ)ـانَ وَالضَّمُّ غَيْرُهُمُ وَكَسْرٌ وَعَنْ كُلٍّ يُمِلُّ هُوَ انْجَلاَ
أراد (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) ، لم يسكنه أبو عمرو لأن ثم ليس اتصالها بهو كاتصال الواو والفاء واللام بها لأن ثم كلمة مستقلة وأسكنه الكسائي وقالون حملا لثم على هذه الحروف لمشاركتها لها في الحرفية والواو والفاء في العطفية وقوله رفقا بان حال أي أسكنه ذا رفق بين أي أرفق به في تقرير وجه إسكانه والضم غيرهم في لفظ هو بعد هذه الحروف والكسر في لفظ هي بعدها وإنما بين قراءة الباقين لأنها لا تفهم من ضد الإسكان المطلق فإن ضده-على ما سبق في الخطبة-هو الفتح على أنه كان يمكنه أن لا يتكلف ببيان قراءة الباقين فإنها قد علمت من تلفظه بها في قوله وها هو وها هي فكأنه قال أسكن ضم هذه وكسر هذه ولو قال ذلك تصريحا لم يحتج إلى بيان قراءة الباقين فهذا المذكور في معناه وأما قوله تعالى في آية الدين (أن يمل هو) ، فلم يسكن الهاء أحد لأن يمل كلمة مستقلة وليست حرفا فتحمل على أخواتها وإنما ذكره لأن هو قد جاء فيها بعد لام فخشي أن تدخل في عموم قوله ولامها فقال ضمها عن كل القراء ولم يصرح بذلك ولكن لفظه أنبأ عنه ولهذا قال انجلا أي انكشف الأمر في ذلك وبعض المصنفين ذكر عن قالون إسكانها
(451)
وَفِي فَأَزَلَّ اللاَّمَ خَفِّفْ لِحَمْزَةٍ وَزِدْ أَلِفًا مِنْ قَبْلِهِ فَتُكَمِّلاَ
يريد قوله تعالى (فأزلهما الشيطان) ، والهاء في قبله تعود إلى اللام فيصير فأزال ومعناهما واحد أي فنحاهما عنها وقيل يجوز أن يكون معنى قراءة الجماعة أوقعهما في الزلة وهي الخطيئة ، والفاء في فتكملا ليست برمز لأنه قد صرح بقوله لحمزة وإنما أتى بالفاء دون اللام لئلا يوهم رمزا فإن قلت لا يكون رمز مع مصرح باسمه قلت يظن أنها قراءة ثانية بالألف وقراءة حمزة بالتخفيف فقط فاختار الفاء لئلا يحصل هذا الإيهام وأراد فتكمل الألف الكلمة أو تكمل أنت الكلمة بزيادتك للألف وهو منصوب على جواب الأمر بالفاء
(452)
وَآدَمَ فَارْفَعْ نَاصِباً كَلِمَاتِهِ بِكَسْرٍ وَلِلْمَكِّيِّ عَكْسٌ تَحَوَّلاَ
أي القراءة (فتلقى آدم من ربه كلمات) ، فيكون آدم فاعلا وكلمات مفعولا وعلامة نصبه الكسرة وعكس ابن كثير فجعل آدم مفعولا فنصبه وكلمات فاعلا فرفعها والمعنى واحد لأن ما تلقيته فقد تلقاك وكذا ما أصبته فقد أصابك وقوله وللمكي عكس أي عكس ما ذكر وحقيقة العكس لا تتحقق هنا من جهة أن نصب آدم ليس بكسر بل بفتح فهو عكس مع قطع النظر عن لفظ الكسر ولم يمكنه أن يقول وللمكي رفع لأنه لا يعرف الخلاف في آدم حينئذ لمن هو لأن رفع المكي مخصوص بكلمات وقوله تحولا أي المذكور إليه أو عكس تحول إلى هذا والله أعلم
(453)
وَيُقْبَلُ الأُولى أَنَّثُوا (دُ)ونَ (حَا)جِزٍ وَعُدْنَا جَمِيعاً دُونَ مَا أَلِفَ (حَـ)لاَ
يريد قوله تعالى (ولا تقبل منها شفاعة) ، يقرأ بالتأنيث والتذكير أي بالتاء والياء فوجه التأنيث ظاهر لأن الشفاعة مؤنثة ولهذا قال دون حاجز أي مانع ووجه التذكير أن تأنيث الشفاعة غير حقيقي وكل ما كان كذلك جاز تذكيره لا سيما وقد وقع بينه وبين فعله فاصل وسيأتي له نظائر كثيرة واحترز بقوله الأولى أي الكلمة الأولى عن الأخيرة وهي (ولا يقبل منها عدل) ، فإن الفعل مذكر بلا خلاف لأنه مسند إلى مذكر وهو عدل وبعده (ولا تنفعها شفاعة) ، لم يختلف في تأنيثها لأنه لم يفصل بينهما كلمة مستقلة بخلاف الأولى وقرأ أبو عمرو (وعدنا) ، في البقرة والأعراف وطه بغير ألف بعد الواو لأن الله تعالى وعده وقرأ غيره-واعدنا- بألف بعد الواو على معنى وعدنا كقوله فحاسبناها وقيل يصح فيه معنى المفاعلة فإن قلت من أين يعلم من النظم أن قراءة الباقين بألف بعد الواو دون أن يكون بألف قبلها فيكون أوعدنا لأنه قال دون ما ألف ولم ينطق بقراءة الجماعة ولو كان لفظ بها لسهل الأمر قلت يعلم ذلك من حيث أنه أراد أوعدنا للزمه أن يبين إسكان الواو وتحريكها فلما لم يتعرض لذلك علم أنه غير مراد وأيضا فإن حقيقة الألف ثابتة في لفظ (واعدنا) ، وأما أوعدنا فهي حمزة قبل الواو فإطلاق الألف عليها مجاز والأصل الحمل على الحقيقة فيزول الإشكال على هذا مع ظهور القراءتين واشتهارهما وعدم صحة معنى الوعيد في هذه المواضع ولو قال وفي الكل واعدنا أو وجملة واعدنا بلا ألف حلا بطل هذا الإشكال لكن في-وعدنا-و-واعدنا-ألف بعد النون كان ينبغي الاحتراز عنها أيضا فإن قلت تلك لا يمكن حذفها ، فإن قلت وليس كل ما لا يمكن حذفه لا يحترز منه فإنه سيأتي في قوله وقالوا الواو الأولى سقوطها ولا يمكن إسقاط الثانية مع بقاء ضمة اللام ثم إنه أيضا يرد عليه ما في سورة القصص (أفمن وعدناه) وعدا حسنا ، فهو بغير ألف بلا خلاف وكذا الذي في الزخرف (أو نرينك الذي وعدناهم) ، فإن اعتذر له بأنه قال
وعدنا بغير هاء والذي في القصص بزيادة هاء والذي في الزخرف بزيادة هاء وميم فلا ينفع هذا الاعتذار فإن الذي في طه بزيادة كاف وميم وهو قوله تعالى (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) ، وصاحب التيسير نص على أن الخلاف في-وعدنا-و-وعدناكم-فخرج الذي في القصص فإنه لفظ ثالث والذي في الزخرف فإنه لفظ رابع فلو قال الناظم وعدنا وعدناكم بلا ألف حلا لخلص من هذا الإشكال ولكن خلفه إشكال آخر وهو أنه لم يقل جميعا ولكن يكون له أسوة بما ذكر في بيتي الإشمام ويبقى عليه الإشكالان المتقدمان في موضع الألف وما في قوله دون ما ألف زائدة والله أعلم
(454)
وَإِسْكَانُ بَارِئِكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ لَهُ وَيَأْمُرُهُمْ أَيْضاً وَتَأْمُرُهُمْ تَلاَ
(455)
وَيَنْصُرُكُمْ أَيْضاً وَيُشْعِرُكُمْ وَكَمْ جَلِيلٍ عَنِ الْدُّورِيِّ مُخْتَلِساً جَلاَ
أي أسكن أبو عمرو في هذه المواضع كلها حيث وقعت حركة الإعراب تخفيفا وقد جاء ذلك عنه من طريق الرقيين كذا ذكر الداني ومكي وغيرهما ورواية العراقيين عن أبي عمرو الاختلاس وهي الرواية الجيدة المختارة فإن الإسكان في حركات الإعراب لغير إدغام ولا وقف ولا اعتلال منكر فإنه على مضادة حكمة مجيء الإعراب وجوزه سيبويه في ضرورة الشعر لأجل ما ورد من ذلك فيه نحو ، (وقد بدا هنك من الميزر فاليوم أشرب غير مستحقب) ، (ولا أعلام قد تعلل بالمناة فما تعرفكم العرب) ، ونحوه إذا اعوججن قلت صاحب مقوم ، قال أبو علي في الحجة أما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها فمن الناس من ينكره فيقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب قال وسيبويه يجوز ذلك في الشعر ، قال الزجاج روي عن أبي عمرو ابن العلا أنه قرأ (بارئكم) ، بإسكان الهمزة ، قال وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسر قال وأحسب الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لما روي عن أبي عمرو ، والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف الكسر في مثل هذا وحذف الضم إنما يأتي في اضطرار الشعر وفي كتاب أبي بكر بن مجاهد قال سيبويه كان أبو عمرو يختلس الحركة (من بارئكم-و-يأمركم) ، وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات فيرى من يسمعه أنه قد أسكن ولم يسكن قال أبو بكر وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو لأنه كان يستعمل في قراءته التخفيف كثيرا كان يقرأ (ويعلمهم الكتاب-ويلعنهم الله) ، يشم الميم من يعلمهم-والنون من-يلعنهم-الضم من غير إشباع وكذلك (عن أسلحتكم وأمتعتكم) ، يشم التاء شيئا من الخفض وكذلك (يوم يجمعكم) ، يشمها شيئا من الضم وفي كتاب أبي علي الأهوازي عن المازني عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلا قال سمعت أعرابيا يقول (بارئكم) ، فاختلس الكسر حتى كدت لا أفهم الهمزة قال أبو علي الفارسي وهذا الاختلاس وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط وأخفى فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك قال وعلى
هذا المذهب حمل سيبويه قول أبي عمرو (على بارئكم) ، فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك فمن روى عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو فلعله سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانا وقال أبو الفتح بن جني في كتاب الخصائص الذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة لا حذفها البتة وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذي رووه ساكنا ، قال ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة لكن أتوا من ضعف دراية قال الشيخ في شرحه وقد ثبت الإسكان عن أبي عمرو والاختلاس معا ووجه الإسكان أن من العرب من يجتزى بإحدى الحركتين عن الأخرى قال وقد عزا الفراء ذلك إلى بني تميم وبني أسد وبعض النجديين وذكر أنهم يحققون مثل-يأمركم-فيسكنون الراء لتوالي الحركات ، قلت وكان الناظم رحمه الله مائلا إلى رواية الاختلاس وهو الذي لا يليق بمحقق سواه فقال وكم جليل أي كثير من الشيوخ الجلة جلوا الاختلاس عن الدوري وكشفوه وقرروه وعملوا به ومختلسا حال من الدوري أي جلا عن مذهبه في حال اختلاسه ونسب الناظم ذلك إلى الدوري وهو محكي عن أبي عمرو نفسه كما نسب إبدال الهمز الساكن إلى السوسي وهي محكي عن أبي عمرو كما سبق وسبب ذلك أن رواية الرقيين هي رواية السوسي ومن وافقه ورواية العراقيين هي رواية الدوري وأضرابه قال أبو علي الأهوازي ومعنى الاختلاس أن تأتي بالهمز وبثلثي حركتها فيكون الذي تحذفه من الحركة أقل مما تأتي به قال ولا يؤخذ ذلك إلا من أفواه الرجال ، قلت وقراءة الباقين بإشباع الكسر في (بارئكم) ، وإشباع الضم في البواقي ، فإن قلت من أين يؤخذ ذلك ، قلت ما بعد (بارئكم) ، قد لفظ به مضموما فهو داخل في قوله وباللفظ أستغنى عن القيد إن جلا وقد سبق في شرح الخطبة أن قوله وإسكان (بارئكم) ، لا يفهم منه القراءة الأخرى فإنه ليس ضد السكون الكسر ولو حصل التلفظ بالكسر لصار كالذي بعده ولو قال وبارئكم سكن لاستقام وقوله له أي لأبي عمرو ،
فإن قلت لم لم يكن رمزا لهشام كما قال في موضع آخر بخلف له ولا يكون له ثوى ، قلت له لفظ صريح حيث يكون له ما يرجع إليه كهذا المكان وإن لم يكن له ما يرجع إليه فهو رمز وعلامة ذلك اقترانه في الغالب برمز آخر معه ومتى تجرد وكان له ما يرجع فحكمه حكم الصريح وقوله تلا ليس برمز وهو مشكل إذ لا مانع من جعله رمزا ويكون إسكان يأمرهم وما بعده للدوري عن الكسائي وكان ينبغي أن يحترز عنه بأن بقوله وتأمرهم حلا أو غير ذلك مما لم يوهم رمزا لغير أبي عمرو وأما جلا فظاهر أنه ليس برمز لتصريحه بالدوي والله أعلم
(456)
وَفِيهَا وَفِي الأَعْرَافِ نَغْفِرْ بِنُونِهِ وَلاَ ضَمَّ وَاكْسِرْ فَاءه (حِـ)ـينَ (ظَـ)ـلَّلاَ
فيها يعني في البقرة (نغفر لكم خطاياكم) ، ولا ضم يعني الفتح في النون فتأخذ للغير بالضم وفتح الفاء وضد النون الياء ووجه النون أن قبله (وإذ قلنا) ، فهي نون العظمة فأشار بقوله حين ظللا إلى أنهم في ظل غفرانه سبحانه وتعالى
(457)
وَذَكِّرْ هُنَا (أَ)صْلاً وَلِلشَّامِ أَنَّثُوا وَعَنْ نَافِعٍ مَعْهُ في الأعْرَافِ وُصِّلاَ
ذكر في هذا البيت مذهب من بقي وهو نافع وابن عامر فقراءة نافع هنا على الضد من قراءة الجماعة بضم الياء وفتح الفاء وقراءته في الأعراف كقراءة ابن عامر في الموضعين بضم التاء المثناة من فوق وهو معنى قوله أنثوا وقوله وذكر أي اجعل موضع النون ياء مثناة من تحت وقد تقدم أن التأنيث غير الحقيقي يجوز فيه التذكير فلهذا قال أصلا لأن الخطايا راجعة إلى معنى الخطأ ونافع يقرأ في الأعراف (خطيئتكم) ، على جمع السلامة ففيه تاء التأنيث لفظا فترجح اعتبار التأنيث فلهذا أنث فيها وفي البقرة يقرأ-خطايا-وهو جمع تأنيثه معنوي فضعف أمر التأنيث فذكر وابن عامر أنث اعتبارا للمعنى وهو في الأعراف آكد لأنه يقرأ فيها بالإفراد (خطيئتكم) ، والضمير في وصلا راجع إلى التأنيث المفهوم من قوله أنثوا أي وصل التأنيث إلينا بالنقل عن نافع مع ابن عامر في الأعراف
(458)
وَجَمْعاً وَفَرْداً فِي النَّبِيءِ وَفي النُّبُوءةِ الْهَمْزَ كُلٌّ غَيْرَ نَافِعٍ ابْدَلاَ
جمعا وفردا حالان من-النبيء-والهمز مفعول أبدل وتقدير البيت كل القراء غير نافع أبدل الهمزة في لفظ النبيء مجموعا ومفردا فالمجموع نحو (الأنبياء-والنبيين-و-النبيون) ، والمفرد نحو النبىء-ونبيء-ونبيئا-وفي لفظ-النبوءة-أيضا يريد قوله تعالى (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) ، فلهذا كانت في البيت منصوبة على الحكاية وفي تقدم حال المجرور عليه خلاف عند النحويين فإن كان جائزا فإعراب جمعا وفردا على ما ذكرناه وإن لم يكن جائزا كان ذلك منصوبا بفعل مضمر أي وخذ جمعا وفردا في لفظ -النبيء-أو دونك ذلك ثم بين ما يفعل به فقال أبدل كل القراء الهمز فيه غير نافع يعني أن أصل هذه اللفظة الهمز لأنه من أنبأ إذا أخبر ثم فعل فيه بطريق تخفيف الهمز ما يفعله حمزة في نحو (خطيئة-وقروء-و-لئلا) ، من البدل الإدغام في نبيء-و-نبوة-ومن البدل في-أنبيا-أبدلت الهمزة الأولى ياء والأصل الهمز كما قال العباس بن مرداس ، يا خاتم النبئاء إنك مرسل ، فلما جمعه على فعلاء ظهرت الهمزتان ولما جمع على أفعلاء أبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها فعلى هذا القراءتان بمعنى واحد لأن الهمز وإبداله لغتان لأن لغة الإبدال هي الفصيحة الفاشية حتى أن بعض النحاة رحمهم الله يقول التزمت العرب الإبدال في-النبي-و-البرية- وقال أبو علي في الحجة ، قال سيبويه بلغنا أن قوما من أهل التحقيق يخففون-نبي-و-برية- قال وذلك رديء قال وإنما استردأه لأن الغالب في استعماله التخفيف على وجه البدل من الهمز وذلك الأصل كالمرفوض ، قلت وقيل إن قراءة الجماعة يجوز أن تكون من نبا ينبو إذا ارتفع والنباوة الرفعة فلا يكون في الكلمة همز والأول أصح لمجيء الهمز فيه فيكون -النبيء- فعيلا بمعنى مفعول بمعنى أنه مخبر من جهة لله تعالى بما لا يخبر به غيره صلوات الله على جميع الأنبياء وسلامه ، قال أبو عبيد الجمهور الأعظم من القراء والعوام على إسقاط الهمز
من-النبي-و-الأنبياء-والنبيين-في كل القرآن وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه مرفوعا إن كان حفظ حدثنا محمد بن ربيعة عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله فقال لست بنبيء ولكني نبي الله ، قال أبو عبيد ومعناه أنه أنكر عليه الهمز وقال لي أبو عبيدة العرب تترك الهمز في ثلاثة أحرف-النبي-و-البرية-والخابية-وأصلهن جميعا الهمز قال أبو عبيد وفيها حرف آخر رابع-الذرية-وهو من قوله (يذرؤكم فيه) ، قلت سأذكر إن شاء الله تعالى شرح هذه الأربعة الأحرف في شرح ما نظمته في النحو وأما هذا الحديث الذي ذكره أبو عبيد فقد أوله شيخنا أبو الحسن رحمه الله في شرحه بعد أن قال إنه غير صحيح الإسناد وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه المستدرك فقال حدثني أبو بكر أحمد بن العباس بن الإمام المقرئ حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا خلف بن هشام حدثني الكسائي حدثني حسين الجعفي عن حمزان ابن أعين عن أبي الأسود الدؤلي عن أبي ذر قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، قلت ولا يظهر لي في تأويله إلا ما قاله أبو عبيد إنه أنكر عليه الهمز لأن تخفيفه هو اللغة الفحيحة وما أول الشيخ به الهمز لا ينفيه تخفيفه فإن-النبي-سواء كان من الإخبار أو غيره فتخفيف همزه جائز أو لازم والله أعلم
(459)
وَقَالُونُ فِي اْلأَحْزَابِ فِي لِلنَّبيِّ مَعْ بُيُوتَ النَّبيِّ الْيَاءَ شَدَّدَ مُبْدِلاَ
يريد قوله تعالى (أن وهبت نفسها للنبي)و(لا تدخلوا بيوت النبي) ، خالف قالون أصله في الهمز في هذين الموضعين فقرأهما كالجماعة اعتبارا لا أصل له آخر تقدم في باب الهمزتين من كلمتين لأجل أن كل واحد من هذين الموضعين بعده همزة مكسورة ومذهبه في اجتماع الهمزتين المكسورتين أن يسهل الأولى إلا أن يقع قبلها حرف مد فتبدل فيلزمه أن يفعل ههنا ما فعل في (بالسوء إلا) ، أبدل ثم أدغم غير أن هذا الوجه متعين هنا لم يرو غيره وهذا يفعله قالون في الوصل دون الوقف لأن الوقف لا يجتمع فيه الهمزتان فإذا وقف وقف على همزة لا على ياء وقد أشار صاحب التيسير إلى ذلك حين قال وترك قالون الهمز في قوله في الأحزاب (للنبي إن أراد) ، و-(بيوت النبي) إلا في الموضعين في الوصل خاصة على أصله في الهمزتين المكسورتين
(460)
وَفي الصَّابِئِينَ الْهَمْزَ وَالصَّابِئُونَ خُذْ وَهُزْؤاً وَكُفْؤاً في السَّوَاكِنِ (فُـ)صِّلاَ
أي خذ الهمز فيهما لأنه الأصل وروى الهمز رفعا على الابتدا أي وفي-الصابئين-في البقرة والحج وفي-الصابؤن-في المائدة الهمز ثم قال خذ أي خذ ما ذكرت بنية واجتهاد يقال صبأ يصبأ إذا خرج من دين إلى آخر وأبدل نافع الهمز فكأنه من صبا بلا همز كرمى ورعى فقرأ-الصابون-و-الصابين-كقولك الداعون والداعين ومثل هذا البدل لا يكون إلا سماعا لأنه همز متحرك بعد متحرك فهو كما قرئ-سأل سائل-بالهمز وبالألف كما يأتي فاجتمع في قراءة نافع همز-النبي-وترك همز-الصابئين والعكس الذي هو قراءة الجماعة أفصح وأولى وهذا نحو مما مضى في قراءة ورش ترقيق الراءات وتغليظ اللامات وأسند أبو عبيد عن ابن عباس أنه قال ما-الخاطون-إنما هي-الخاطئون-ما-الصابئون-إنما هي-الصابون-قال أبو عبيد وإنما كرهنا ترك الهمزة ههنا لأن من أسقطها لم يترك لها خلفا بخلاف-النبيين-وقرأ حمزة وحده (هزؤا-و-كفؤا) ، بإسكان الزاي والفاء تخفيفا والأصل الضم وهو قراءة الجماعة وقيل هما لغتان ليست إحداهما أصلا للأخرى ، قال مكي حكى الأخفش عن عيسى بن عمر قال كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان التخفيف والتثقيل وقوله في السواكن فصلا أي ذكرا في السواكن مفصلين أي عدا من جملة الأسماء التي سكن وسطها نحو قفل وشكر وكفر ثم ذكر قراءة الجماعة فقال
(461)
وَضُمَّ لِبَاقِيهِمْ وَحَمْزَةُ وَقْفُهُ بِوَاوٍ وَحَفْصٌ وَاقِفاً ثُمَّ مُوصِلاَ
يجوز في ضم ، هنا أن يكون أمرا وأن يكون ماضيا لم يسم فاعله ورسمت الهمزة في هاتين الكلمتين بواو فوقف حمزة عليهما بالواو إتباعا للرسم مع كونه يسكن الوسط فهو يقول (هزوا-و-كفوا) ، على وزن جزؤا ولم يفعل مثل ذلك في جزأ وإن كان يسكن زايه أيضا لأن الهمزة في جزأ لم ترسم واوا فيقف على ما تمهد في باب وقفه على الهمز بنقل حركة الهمزة إلى الزاي الساكنة فيقول (جزا) ، على وزن هدى ومثل ذلك جار في-هزؤا-و-كفؤا-قياسا وقل من ذكره هنا قال صاحب التيسير قراءة حمزة بإسكان الزاي والفاء وبالهمز في الوصل فإذا وقف أبدل الهمز واوا إتباعا للخط وتقديرا لضمة الحرف المسكن قبلها يعني فلهذا لم ينقل حركة الهمز إلى الساكن وقال مكي وقف حمزة ببدل واو من الهمزة على غير قياس تباعا لخط المصحف قال وأما جزأ فكل القراء يسكن إلا أبا بكر فإنه ضم الزاي ووقف حمزة بإلقاء الحركة على الزاي يقول (جزا) ، على الأصل المتقدم وقال في الكشف كلهم همز في -هزوا-وكفوا-إلا حفصا فإنه أبدل من الهمزة واوا مفتوحة على أصل التخفيف لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل كقوله-السفهاء إلا-في قراءة الحرميين وأبو عمرو وكذلك يفعل حمزة إذا وقف كأنه يعمل الضمة التي كانت على الزاي والفاء في الأصل قال وكان يجب عليه على أصل التخفيف لو تابع لفظه أن يلقى حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها كما فعل في-جزأ-في الوقف فكان يجب أن يقول-كفا-وهزا-لكنه رفض ذلك لئلا يخالف الخط فأعمل الضمة الأصلية التي كانت على الزاي والفاء في الهمزة فأبدل منها واوا مفتوحة ليوافق الخط ثم تأتي بالألف التي هي عوض من التنوين بعد ذلك فقوله وحفص مبتدا وخبره محذوف أي وحفص يقرأ بالواو في حال وقفه وإيصال الكلمة إلى ما بعدها يقال وصلت الشيء بالشيء وأوصلته إليه أي بلغته إليه وألصقته به والمستعمل في مقابلة الوقف هو الوصل لا الإيصال ولكنه عدل عن واصلا إلى موصلا كراهة السناد في الشعر فإنه
عيب لأن هذا البيت كان يبقى مؤسسا بخلاف سائر أبيات القصيدة وإنما أبدل حفص هذه الهمزة واوا لأنها همزة مفتوحة قبلها ضم أراد تخفيفها وهذا قياس تخفيفها على باب ما سبق في باب وقف حمزة وانفرد حفص بهذه القراءة لأن كل من ضم الفاء لا يبدل هذه الهمزة أما السوسي فلأنها متحركة وأما ورش فلأنها لام الفعل وأما هشام في الوقف فلأنها متوسطة وأما حمزة فإنه وإن أبدل فإنه لم يضم الزاي والفاء ومن شأن حفص تحقيق الهمزة أبدا وإنما وقع له الإبدال في هاتين الكلمتين وسهل-أعجمي-جمعا بين اللغات ومن عادته مخالفة أصله في بعض الكلم كصلته (فيه مهانا) ، وإمالته مجراها ولم يصرح الناظم بقراءة حفص هنا وحذف ما هو المهم ذكره ولو أنه قال في البيت الأول-وهزؤا-وكفؤا-ساكنا الضم فصلا لاستغنى عن قوله وضم لباقيهم ثم يقول بدل البيت الثاني ، (وأبدل واوا حمزة عند وقفه وحفص كذا في الوصل والوقف أبدلا) ، ورأيت في بعض النسخ وهو بخط بعض الشيوخ ومنقول من نسخة الشيخ أبي عبد الله القرطبي رحمه الله ومقروءة عليه ومسموعة من لفظه عوض هذا البيت ، (وفي الوقف عنه الواو أولى وضم غيره ولحفص الواو وقفا وموصلا) ، وكتب عليهما معا ورأيت في حاشية نسخة أخرى مقروءة على المصنف هذا البيت يتفق مع وضم لباقيهم في المعنى ومخالفة في اللفظ وخير المصنف بينهما لأن كل واحد منهما يؤدي معنى الآخر ، قلت وهذا البيت أكثر فائدة لبيان قراءة حفص فيه والتنبيه على أن أصل حمزة في الوقف يقتضى وجها آخر وهو نقل الهمز وإنما إبداله واوا أولى من جهة النقل وإتباع الرسم على أن أبا العباس المهدوي قال في شرح الهداية الأحسن في-هزوا-وكفوا-أن يلقي حركة الهمزة على الزاي والفاء كما ألقيت في-جزأ-والله أعلم
(462)
وَبِالْغَيْبِ عَمَّا تَعْمَلُونَ هُنَا (دَ)نَا وَغَيْبُكَ في الثَّانِي (ِإ)لَى (صَـ)ـفْوَهِ (دَ)لاَ
هنا أي بعد هزؤا وهو قوله تعالى (أتتخذنا هزؤا) ، ودنا أي دنا مما فرغنا منه يعني (عما يعملون-أفتطمعون) ، ووجه الغيب قطعه عن الأول واستئناف أخبار عنهم ولهذا قال بعده (أن يؤمنوا لكم) ، ووجه الخطاب رده على قوله (ثم قست قلوبكم-ويعني بالثاني-عما تعملون-أولئك الذين اشتروا الحياة) ، ووجه الغيب فيه ظاهر وهو موافقة ما قبله وما بعده ولهذا قال إلى صفوه دلا أي أخرج دلوه ملأى بعد أن أدلاها إلى صفوه وقيل دلوت الدلو وأدليتها بمعنى وهذه عبارة حلوة شبه هذه القراءة بماء صاف أرسل القارئ إليه آنية فاستخرجها وافية الامتلاء يشير إلى اختياره على ما هو أهل للاختيار ووجه الخطاب رده على قوله (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) ، وفاعل قوله دنا ضمير (عما يعملون) ، وفاعل دلا ضمير قوله وغيبك والله أعلم
(463)
خَطِيئَتُهُ التَّوْحِيدُ عَنْ غَيْرِ نَافِعٍ وَلاَ يَعْبُدُونَ الْغَيْبُ (شَـ)ـايَعَ (دُ)خْلَلاَ
لم يأت بواو فاصلة بين هاتين المسئلتين لأن قوله خطيئته لا يلتبس أنه رمز لأنه رمز لنافع فيما قبله ولأنه من لفظ القرآن وهو في البيت مبتدأ والتوحيد صفته على معنى ذو التوحيد أو يكون مبتدأ ثانيا أي التوحيد فيه كقولهم السمن منوان بدرهم ولو قال-خطيئاته-وحده عن غير نافع لكان لأحسن لأن فيه التلفظ بقراءة وتقييد أخرى ولئلا يوهم أن قراءة نافع بجمع التكسير كما قرئ شاذا-خطايا-والتوحيد في مثل هذا يفيد معنى الجمع كقوله تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ، ووجه الجمع ظاهر لأن الذنوب متعددة وفي الإفراد موافقة قوله قبله (من كسب سيئة) ، أي وأحاطت به تلك السيئة وقيل في قراءة الجمع إن المراد بالسيئة الشرك فيبقى على موازنة (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، فالمعنى من أشرك وعمل السيئات والله أعلم وقوله شايع أي تابع والدخلل الذي يداخلك في أمورك وهو حال من الضمير في شايع والضمير عائد على الغيب أو على يعبدون فإن عاد على الغيب كان يعبدون مبتدأ والغيب مرفوع على أنه مبتدأ ثان أو بدل منه بدل اشتمال نحو زيد ثوبه حسن أي الغيب فيه تابع ما قبله وهو قوله (ميثاق بني إسرائيل) ، أي تابعه في حال كونه دخللا أي ليس بأجنبي ويجوز أن يكون دخللا مفعولا على هذا أي تابع دخيلا له وهو ما قبله من الغيبة وإن عاد الضمير على-يعبدون-كان الغيب مفعولا به أي تابع الغيب فيكون الغيب منصوبا ودخللا حال ووجه الخطاب أن بعده-وقولوا للناس-وهو حكاية حال الخطاب في وقته ولهذا يقال قلت لزيد لا تضرب عمرا بالياء والتاء وهو نهي بلفظ الخبر كما يجيء الأمر كذلك نحو-والمطلقات يتربصن- (والوالدات يرضعن-تؤمنون بالله) ، في سورة الصف ونحو القراءتين هنا ما يأتي في آل عمران (قل للذين كفروا ستغلبون) ، بالياء والتاء فالخطاب كقوله تعالى (و قل للذين لا يؤمنون اعملوا) ، والغيب- كقوله تعالى (قل للذين آمنوا يغفروا) ، وذلك قريب من قولهم يا تميم كلكم ويا تميم
كلهم بالخطاب والغيب نظرا إلى النداء وإلى الاسم
(464)
وَقُلْ حَسَناً (شُـ)ـكْراً وَحُسْناً بِضَمِّهِ وَسَاكِنِهِ الْبَاقُونَ وَاحْسِنْ مُقَوِّلاَ
شكرا حال أو مفعول له أي لأجل شكر الله أي اشكر نعمة الله بسبب ما يصدر منك من القول الحسن ثم بين قراءة الباقين وقيدها بالضم والإسكان ولزم من ذلك تقييد القراءة الأخرى وإن كان لفظها قد جلا عنها لأن الضم ضده الفتح والإسكان ضده التحريك المطلق والتحريك المطلق هو الفتح وكان يمكنه جعل هذا البيت والذي بعده واحدا فيقول ، (وقل حسنا شكرا وحسنا سواهما وتظاهروا تظاهرا خف ثملا) ، ويكون حذف النون للضرورة كقوله قل فطرن في هود ولم يقرأ أحد بحذف الياء وإسكان النون ثم لو قال وإسكانه الباقون أو وتسكينه لكان أولى من قوله وساكنه ليعطف مصدرا على مصدر ولا يصح ما ذكر إلا بتقدير بذي ضمه وساكنه أي بالمضموم والساكن وقوله بضمه وإسكانه أخصر وأولى وأوضح معنى والقراءتان بمعنى واحد كلا اللفظين نعت مصدر محذوف أي وقولوا للناس قولا حسنا وقولا حسنا هذا إن قلنا هما لغتان كالرشد والرشد والبخل والبخل والحزن والحزن وإن قلنا الحسن بالضم والإسكان مصدر فتقديره قولا ذا حسن ومقولا أي ناقلا لأن الناقل يقول غيره ما ينسبه إليه أي أحسن في نقلك وتوجيه ما تنقله من هذه القراءات ونصبه على التمييز كقولك لله دره فارسا وحسبك به ناصرا لأن النسبة في المعنى إلى مصادر هذه المنصوبات أي لله در فروسيته وحسبك نصرته وليحسن تقويلك وأداؤك لهذه الوجوه من القراءات في نسبتها إلى أربابها والله أعلم
(465)
وَتَظَاهَرُونَ الظَّاءُ خُفِّفَ (ثَـ)ـابِتاً وَعَنْهُمْ لَدَى التَّحْرِيمِ أَيْضاً تَحَلَّلاَ
أي الظاء فيه خفف وثابتا حال أي في حال ثبوته والتقدير تخفيفا ثابتا فهو نعت مصدر محذوف وتحللا من الحلول أو التحليل أي وحل التخفيف عنهم أيضا في سورة التحريم في قوله تعالى (وإن تظاهرا عليه) ، والذي هنا-تظاهرون عليهم بالإثم-ووجه القراءتين ظاهر الأصل تتظاهرون وتتظاهرا فمن شدد أدغم التاء في الظاء ومن خفف حذف إحدى التاءين وأيتهما المحذوفة فيه اختلاف لأهل العربية وسيأتي له نظائر كثيرة وقابل بين لفظي التحريم وقوله تحللا وهو اتفاق حسن والله أعلم
(466)
وَحَمْزَةُ أَسْرى فِي أُسَارى وَضَمُّهُمْ تُفَادُوهُمُو وَالْمَدُّ (إِ)ذْ (رَ)اقَ (نُـ)ـفِّلاَ
أي وقراءة حمزة أسرى أو حمزة يقرأ أسرى في موضع أسارى فلفظ بالقراءتين فلم يحتج إلى تقييد وأسرى جمع أسير كقتيل وقتلى وأسارى قيل أيضا جمع أسير كقديم وقدامى وقيل جمع جمع ككسلان لما جمعهما لمعنى وهو عدم النشاط فكما قالوا كسالى قالوا أسارى وقيل هو جمع أسرى وفداه وفاده واحد وقيل معنى المفاعلة محقق في فاد وقوله وضمهم يعني في التاء والمد يعني به الألف ويلزم من ذلك فتح الفاء والباقون بفتح التاء والقصر وإسكان الفاء ولو قال ، (أسارى قل أسرى فز وضم محركا لتفدوهم والمد إذ رق نفلا) ، لحصلت قيود القراءتين وراق الشراب أي صفا ورقني الشيء أعجبني ونفل أي أعطى النفل وهو الغنيمة يشير بذلك إلى ظهور معنى القراءة يريد قوله تعالى (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم)
(467)
وَحَيْثُ أَتَاكَ الْقُدْسُ إِسُكَانُ دَالِهِ (دَ)وَاءٌ وَلِلْبَاقِينَ بِالضَّمِّ أُرْسِلاَ
إنما كان إسكان داله دواء لأنه أخف وهما لغتان الضم لأهل الحجاز والإسكان لتميم وإنما احتاج إلى بيان قراءة الباقين لأن الإسكان المطلق ضده الفتح لا الضم وأرسل أي طلق ومرفوعه ضمير القدس أو الدال وحيث متعلق بالإسكان وتقديمه على عامله وهو مصدر من باب الاتساع في الظروف وقد نص على جوازه غير واحد من المحققين وكأن الناظم رحمه الله كان يرى ذلك فقد تكرر ذلك في نظمه وقد سبق في قوله وإن تزد لربك تنزيها وكان يمكنه أن يحترز هنا عن ذلك بأن يقول وإسكان دال القدس في كل موضع دواء
(468)
وَيُنْزِلُ خَفِّفْهُ وَتُنْزِلُ مِثْلُهُ وَتُنْزِلُ (حَقٌّ) وَهْوَ في الْحِجْرِ ثُقِّلاَ
التخفيف في هذا والتشديد لغتان وقيل في التشديد دلالة على التكثير والتكرير وبناء فعل يكون كذلك غالبا وأنزل ونزل واحد في التعدية وأنزل أكثر استعمالا في القرآن ويدل على أن نزل المشدد في معنى أنزل إجماعهم على قوله تعالى (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) ، وإنما كرر الناظم هذه الألفاظ الثلاثة لأن مواضع الخلاف في القراءتين لا يخرج عنها من جهة أن أوائل الأفعال لا تخلو من ياء أو تاء أو نون وقوله وهو عائد على آخر الألفاظ الثلاثة المذكورة وهو ننزل لأن الذي في الحجر موضعان أحدهما لحمزة والكسائي وحفص (ما ننزل الملائكة) ، والآخر لجميع القراء وهو قوله (وما ننزله إلا بقدر معلوم) ، وفي هذا البيت نقص في موضعين أحدهما أن الألفاظ التي ذكرها لا تحصر مواضع الخلاف من جهة أن مواضع الخلاف منقسمة إلى فعل مسند للفاعل كالأمثلة التي ذكرها وإلى أمثلة مسندة للمفعول ولم يذكر منها شيئا نحو (أن ينزل عليكم من خير من ربكم-من قبل أن تنزل التوراة) ، فضابط مواضع الخلاف أن يقال كل مضارع من هذا اللفظ ضم أوله سواء كان مبنيا للفاعل أو للمفعول وقوله ضم أوله احترازا من مثل قوله (وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) ، وبذلك ضبطه صاحب التيسر فقال إذا كان مستقبلا مضموم الأول وكذا قال مكي وغيره الموضع الثاني الذي في الحجر لم يبين من ثقله وليس في لفظه ما يدل على أن تثقيله لجميع القراء إذ من الجائز أن يكون المراد به مثقل لحق دون غيرهما خالفا أصلهما فيه كما خالف كل واحد منهما أصله فيما يأتي في للبيت الآتي وصوابه لو قال ، (وينزل حق خفه كيفما أتى ولكنه في الحجر للكل ثقلا) ، وهذا اللفظ يشمل الموضعين في الحجر لأن الأول وإن اختلفت القراءات فيه مشدد للجميع ، على ما يأتي بيانه في سورته أو يقول ننزله في الحجر للكل ثقلا فينص على ما يوهم أنه مختلف فيه ولا حاجة إلى التنبيه على الموضع الآخر لأن ذلك سيفهم من ذكره في سورته وقلت أيضا في نظم
بدل هذا البيت وما بعده في هذه المسئلة ثلاثة أبيات ستأتي إن شاء الله
(469)
وَخُفِّفَ لِلْبَصْرِي بِسُبْحَانَ وَالَّذِي في اْلأَنْعَامِ لِلْمَكِّي عَلَى أَنْ يُنَزِّلاَ
خالف أبو عمرو أصله في الأنعام فثقل لأنه جواب قوله (وقالوا لولا نزل عليه) ، وخالف ابن كثير أصله بسبحان وفيها موضعان وهما (وننزل من القرآن)-(حتى تنزل علينا كتابا) ، فثقل فيهما جمعا بين اللغتين وبين الذي في الأنعام بقوله على أن ينزل فهو عطف بيان ولو عكس فقال وثقل للمكي بسبحان والذي في الأنعام للبصري لأوهم انفراد كل واحد منهما بذلك وليس الأمر كذلك
(470)
وَمُنْزِلُهَا التَّخْفِيفُ (حَقٌّ) شِفَاؤُهُ وَخُفِّفَ عَنْهُمْ يُنْزِلُ الْغَيْثَ مُسْجَلاَ
وافق حمزة والكسائي على تخفيف (إني منزلها عليكم) ، في المائدة كقوله تعالى قبله (ربنا أنزل علينا مائدة-وعلى تخفيف-ينزل الغيث) ، في لقمان والشورى لقوله في غير موضع (أنزل من السماء ماء-وأنزلنا من السماء ماء) ، ومسجلا أي مطلقا وهو نعت مصدر محذوف أي تخفيفا مطلقا ليعم الموضعين وقلت أنا ثلاثة أبيات بدل هذه الثلاثة ، (وينزل مضموم المضارع خفه لحق على أي الحروف تنقلا) ، (وخفف للبصري بسبحان والذي في الأنعام للمكي وفي الحجر ثقلا) ، (لكل لو حق شاء منزلها وينزل الغيث تخفيفا بحرفين أسجلا)
(471)
وَجِبْرِيلَ فَتْحُ الْجِيمِ وَالرَّا وَبَعْدَهَا وَعى هَمْزَةً مَكْسُورَةً (صُحْبَةٌ) وِلاَ
(472)
بِحَيْثُ أَتَى وَالْيَاءَ يَحْذِفُ شُعْبَةٌ وَمَكِيُّهُمْ في الْجِيمِ بالْفَتْحِ وُكِّلاَ
وعى أي حفظ وهمزة مفعوله وصحبة فاعله أي همزوا بعد فتحهم الجيم والراء وحذف أبو بكر الياء بعد الهمزة فقرأ جبرئل والباقون أثبتوا الياء فقرأ حمزة والكسائي جبرءيل وابن كثير لم يفتح إلا الجيم وليس من أصحاب الهمز فقرأ (جبريل) ، والباقون بكسر الجيم والراء (جبريل) ، وكل هذه لغات في هذا الاسم وفيه غير ذلك والله أعلم
(473)
وَدَعْ يَاءَ مِيكَأَئِيلَ وَالْهَمْزَ قَبْلَهُ (عَـ)ـلىً (حُـ)ـجَّةٍ وَالْيَاءُ يُحْذَفُ (أَ)جْمَلاَ
، أي حذف أبو عمرو وحفص الهمز فبقي (ميكال) ، على وزن ميثاق وحذف نافع الياء وحدها فقرأ (ميكائل) ، والباقون أثبتوهما وكل ذلك لغات فيه أيضا وأجملا حال أو نعت مصدر محذوف أي حذفا جميلا وفي ميكاءيل ياءان الأولى بعد الميم والثانية بعد الهمزة ودلنا على أنه أراد الثانية قوله والهمز قبله فلما عرف ذلك أعاد ذكرها بحرف العهد فقال والياء يحذف أجملا
(474)
وَلكِنْ خَفَيفٌ وَالشَّيَاطِينُ رَفْعُهُ (كَـ)ـمَا (شَـ)ـرَطُوا وَالْعَكْسُ (نَـ)ـحْوٌ (سَمَا) الْعُلاَ
أي كما شرط أهل العربية أن لكن إذا خففت بطل عملها فارتفع ما بعدها أي خفف ابن عامر وحمزة والكسائي (لكن) فلزم كسر النون لالتقاء الساكنين فقرءوا (ولكن الشياطين كفروا) ، ولم ينبه على حركة النون ولو نبه عليها وترك ذكر قراءة الباقين لأنها تعلم من الضد كان أولى فيقول والنون بالكسر وكلا أو وصلا فتكون قراءة الباقين تشديد النون وفتحها ونصب الشياطين وهذه أضداد ما تقدم ذكره وقوله والعكس نحو يعني تشديد لكن ونصب الشياطين على أنه اسم لكن أي هذا أيضا وجه من وجوه علم النحو سما العلا أي طال العلا يعني أنه نحو رفيع أي ذلك وجه قوي أيضا وهو اختيار الفراء قال تشديد لكن بعد الواو أوجه من تخفيفها وأفصح لأنها إذا خففت صارت حرف عطف والواو حرف عطف فلزم أن لا تعمل كسائر حروف العطف ونحو سما العلا رمز قراءة الباقين ولم يكن محتاجا إليه فإنه لو قال والعكس غيرهم تلا لحصل المراد واستعمل العكس بمعنى الضد الذي اصطلح عليه وهذا كما قال في سورة الإسراء وفي مريم بالعكس حق شفاؤه
(475)
وَنَنْسَخْ بِهِ ضَمٌّ وَكَسْرٌ (كَـ)ـفَى وَنُنْسِهَا مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ (ذَ)كَتْ (إِ)لَى
يعني ضم أوله وكسر ثالثه من أنسخ أي أمر بالنسخ والنسخ الإزالة وقوله كفى أي كفى ذلك في الدلالة على القراءتين لفظا وضدا فإن ضد الضم والكسر معا الفتح ثم قال وننسها مثله أي بضم أوله وكسر ثالثه أيضا وقد اتفق في الكلمتين أن المضموم فيهما حرف النون والمكسور حرف السين وزاد في ننسها أن قال من غير همز لتأخذ الهمز في القراءة الأخرى ومطلق الهمز لا يقتضي حركته فيقتصر على أقل ما يصدق عليه اسم الهمز وهو الإتيان بهمزة ساكنة فهو بلا همز من النسيان أي تذهب بحفظها من القلوب وقيل هو من نسيت الشيء إذا تركته وأنسيته أمرت بتركه أي نأمر بترك حكمها أو تلاوتها فكل من هذه المعاني قد وقع فيما أنزل من القرآن وقراءة الهمز من الإنساء الذي هو التأخير أي نؤخرها إلى وقت هو أولى بها وأصلح للناس أي نؤخر إنزالها والضمير في ذكت للقراء وإلى واحد الآلاء وهو النعم يقال المفرد بفتح الهمزة وكسرها وهو في موضع نصب على التمييز أو الحال أي ذات نعمة
(476)
عَلِيمٌ وَقَالُوا الْوَاوُ اْلأُولَى سُقُوطُهَا وَكُنْ فَيَكُونُ النَّصْبُ في الرَّفْعِ (كُـ)ـفِّلاَ
يعني أسقط ابن عامر الواو الأولى من-وقالوا-الذي قبله-عليم-يعني قوله تعالى (إن الله واسع عليم)-(وقالوا اتخذ الله ولدا) ، احترز بتقييده عما قبله من قوله (وقالوا لن يدخل الجنة) ، وهذه الواو التي أسقطها ابن عامر اتبع فيها مصاحف أهل الشام فإنها لم ترسم فيها فالقراءة بحذفها على الاستئناف ولأن واو العطف قد تحذف إذا عرف موضعها وربما كان حذفها في أثناء الجمل أحسن ولا سيما إذا سيقت للثناء والتعظيم ألا ترى إلى حسنه في قوله تعالى في أول سورة الرعد (يدبر الأمر يفصل الآيات) ، وفي قوله (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) ، وقول الناظم عليم وقالوا هذا المجموع مبتد وقوله الواو الأولى بدل من المبتدا بدل البعض وسقوطها بدل من الواو بدل الاشتمال ويجوز أن يكون الواو الأولى مبتدأ ثانيا أي الواو الأولى من هذا اللفظ وسقوطها مبتدا ثالثا واحترز بقوله لأولى من الواو التي بعد اللام وقوله وكن فيكون أيضا مبتدا معطوف على المبتدا الأول والنصب في الرفع مبتدا ثان لهذا المبتدأ أي النصب فيه في مواضع الرفع وفي كفلا ضمير تثنية يرجع إلى المبتدأين فهو خبر عنهما أي سقوط الواو الأولى من عليم وقالوا والنصب في الرفع من كن فيكون كفلا أي حملا فهو كما تقول زيد ثوبه وعمرو قميصه مسلوبان كأنك قلت قميص زيد وقميص عمرو مسلوبان ويجوز أن يكون خبر سقوطها محذوفا دل عليه قوله كفلا الذي هو خبر النصب في الرفع فالألف في كفلا على هذا للإطلاق لا ضمير تثنية وجعلها ضمير تثنية أولى لترتبط المسئلتان لقارئ واحد على ما هو غرض الناظم فإن هذا موضع ملبس إذ لا مانع من أن تكون المسئلة الأولى للرمز السابق في البيت الذي قبل هذا البيت فإنه لم يأت بينهما بواو فاصلة وقد أتى بين هاتين المسئلتين بواو فاصلة وهي قوله وكن فيكون فيظهر كل الظهور التحاق المسئلة الأولى بما تقدم وإذ كان قد ألحق قراءة (فتثبتوا) ، بالرمز السابق في إشمام أصدق على ما سيأتي
مع وجود الواو الفاصلة بينهما فإلحاق هذا يكون أولى وكذا قوله في الأنفال والنعاس ارفعوا ولا هو لحق المرموز لقراءة يغشاكم ، فإن قلت قد جمع الناظم بين ثلاث مسائل لرمز واحد في قوله في آل عمران-سنكتب-ياء ضم البيت فلا بعد في جمع مسئلتين لرمز واحد ، قلت ذلك البيت ليس فيه الإلباس المذكور فإنه ما ابتدأ به إلا بعد واو فاصلة قبله فلم يبق ما يوهم التحاقه بما قبله وتعين أن يكون رمزه بعده ولم يأت رمز إلا في آخر البيت فكان لجميع ما هو مذكور في البيت ، فإن قلت ففيه واو في قوله وقتل ارفعوا ، قلت هو من نفس التلاوة في قوله تعالى (وقتلهم الأنبياء) ، ولو لم تكن من التلاوة لما أوهمت الفصل إذ ما قبلها لا رمز له فيكون لعطف مسئلة على مسئلة أي قراءة هذا وهذا فلان وما أحسنه لو قال عليم وقالوا الشام لا واو عنده ولا حاجة إلى الاحتراز عن الواو التي بعد اللام لبعد وهم ذلك وكان البيت قد خلص من هذا البحث الطويل ففي النظر في وجه قراءة النصب في فيكون شغل شاغل ، قال الزجاج كن فيكون رفع لا غير من جهتين إن شئت على العطف على يقول وإن شئت على الاستئناف المعنى فهو يكون وقال ابن مجاهد قرأ ابن عامر (كن فيكون) ، نصبا قال وهذا غير جائز في العربية لأنه لا يكون الجواب للأمر هاهنا بالفاء إلا في يس والنحل فإنه صواب وذلك نسق في ذينك الموضعين لا جواب وقال في سورة آل عمران قرأ ابن عامر وحده (كن فيكون) ، بالنصب قال وهو وهم وقال هشام كان أيوب بن تميم يقرأ فيكون نصبا ثم رجع فقرأ (فيكون) ، رفعا واعلم أن قراءة ابن عامر بالنصب مشكلة لأن النصب بالفاء في جواب الأمر حقه أن ينزل منزلة الشرط والجزاء فإن صح صح فتقول قم فأكرمك أي إن تقم أكرمتك ولو قدرت هذا فيما نحن فيه فقلت إن يكن يكن لم يكن مستقيما كيف وأنه قد قيل إن هذا ليس بأمر على الحقيقة وإنما معناه أن لله إذا أراد شيئا أوجد مع إرادته له فعبر بهذه العبارة عنه فليس هذا مثل قم فتقوم
فقيل جاز النصب لوجود لفظ الأمر ولا اعتبار بالمراد به فلا يضر أن يكون المراد به غير ذلك قال أبو علي الفارسي أماكن فإنه وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر ولكن المراد به الخبر أي يكون فيكون أي يوجد بإحدائه فهو مثل أكرم بزيد أي إنه أمر بمعنى الخبر قال ومنه (فليمدد له الرحمن مدا) ، والتقدير مده الرحمن وبنى أبو علي على هذا أن جعل فيكون بالرفع عطفا على كن من حيث المعنى وضعف عطفه على يقول لأن من المواضع ما ليس فيه يقول كالموضع الثاني في آل عمران وهو ( ثم قال له كن فيكون) ، ولم ير عطفه على قال من حيث أنه مضارع فلا يعطف على ماض فأورد على نفسه عطف الماضي على المضارع في ، (ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ) ، فقال أمر بمعنى مررت فهو مضارع بمعنى الماضي فعطف الماضي عليه ، قلت و-يكون-في هذه لآية بمعنى-كان-فليجز عطفه على قال ثم قال أبو علي وقد يمكن أن يقول في قراءة ابن عامر لما كان على لفظ لأمر وإن لم يكن المعنى عليه حمل صورة اللفظ قال وقد حمل أبو الحسن نحو قوله تعالى (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) ، على أنه أجرى مجرى جواب لأمر وإن لم يكن جوابا له في الحقيقة فكذلك قول ابن عامر يكون قوله فيكون بمنزلة جواب الأمر نحو ائتني فأحدثك لما كان على لفظه
(477)
وَفي آلِ عِمْرَانٍ في الاُولَى وَمَرْيَمٍ وَفِي الطَّوْلِ عَنْهُ وَهْوَ بِاللَّفْظِ أُعْمِلاَ
أي في الآية الأولى وهي التي بعد يكون فيها (ويعلمه الكتاب) ، احترازا من الثانية وهي التي بعدها (الحق من ربك) ، والتي في مريم بعدها (وإن الله ربي وربكم) ، والطول سورة غافر والتي فيها بعدها (ألم تر إلى الذين يجادلون) ، والضمير في عنه لابن عامر وقوله وهو يعني النصب باللفظ أعملا أي اعتبر فيه لفظ الأمر لا حقيقته فاستعمل في فيكون في هذه المواضع الأربعة وإن لم يكن جوابا على الحقيقة وقد اعتبرت المراعاة اللفظية في قوله (قل لعبادي اللذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا-قل للذين آمنوا يغفرا-وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) ، وقال جرير قولا لحجاج يدع مدح كودن وقال عمر بن أبي ربيعة ، (فقلت لجناد خذ السيف واشتمل عليه برفق وارقب الشمس تغرب) ، (وأسرج لي الرجناء واعجل بممطري ولا يعلمن خلق من الناس مذهبي) ، فجعل تغرب جوابا لقوله ارقب وهو غير متوقف عليه ولكنها معاملة لفظية
(478)
وَفي النَّحْلِ مَعْ يس بِالْعَطْفِ نَصْبُهُ (كَـ)ـفَى (رَ)اوِياً وَانْقَادَ مَعْنَاهُ يَعْمُلاَ
، هذان موضعان آخران إلا أن يقول الذي قبله منصوب فيهما وهو (أن يقول له كن فيكون) ، فالنصب في-فيكون-عطفا على-أن يقول-فهذا معنى قوله بالعطف نصبه ثم قال كفى راويا أي كفى راويه النصب في توجيهه وانقاد معناه مشبها يعمل وهو الجمل القوي يعمل في السير ولهذا تابع الكسائي ابن عامر في نصبهما وقد ذكر هذا التوجيه غير واحد من أئمة العربية والقراءة ويؤيده أن قراءة الرفع في غير هذين الموضعين قد ذكر الزجاج وغيره أنها معطوفة على يقول المرفوع فإن قلت هذا مشكل من جهة أخرى وهي أنه يلزم منه أن يكون-فيكون-خبرا للمبتدأ الذي هو-قولنا-في النحل-وأمره-في يس لأن قوله-أن يقول-خبر عنهما فما عطف عليه يكون خبرا أيضا كما تقول المطلوب من زيد أن يخرج فيقاتل فيكون المطلوب منه أمرين هما الخروج والقتال وهذا المعنى لا يستقيم هاهنا لأن التقدير يصير إنما قولنا لشيء قول كن فيكون فيؤول المعنى إلى إنما قولنا كون فهو كما ترى مشكل وليس مثل قول علقمة (فإن المندى رحله فركوب ) لأن كل واحد منهما يصح أن يكون خبرا عن المندي على الجهة التي قصدها من التجويز قلت القول في الآية ليس المراد منه حقيقته كما سبق ذكره وإنما عبر به عن سرعة وقوع المراد فهو لقوله تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) ، فكأنه سبحانه قال إذا أردنا شيئا وقع ولم يتخلف عن الإرادة فعبر عن ذلك بقول-كن فيكون-فالعطف غير مناف لهذا المعنى فصح فهذه ستة مواضع وقع فيها قراءة النصب منها الموضعان الآخران نصبهما بالعطف والأربعة السابقة منصوبة على لفظ جواب الأمر وبقي موضعان لم يختلف في رفعهما وهما الثاني في آل عمران وفي الأنعام (ويوم يقول كن فيكون) ، وعلل ذلك بعضهم بأنه معطوف على ماض لفظا في آل عمران وتقديرا في الأنعام والله أعلم
(479)
وَتُسْأَلُ ضَمُّوا التَّاءَ وَالَّلامَ حَرَّكُوا بِرَفْعٍ (خُـ)ـلُوداً وَهْوَ مِنْ بَعْدِ نَفْيِ لاَ
يعني قوله تعالى (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) ، فقرأه الجماعة بعد لا النافية فهذا معنى قوله وهو من بعد نفي لا والمعنى أنت غير مسئول عنهم وقراءة نافع بجزم الفعل على النهي أي لا تسئل عنهم أي احتقرهم ولا تعدهم وخلودا مصدر أي خلد ذلك خلودا وثبت واستقر أو التقدير تحريكا ذا خلود والله أعلم
(480)
وَفيهاَ وَفي نَصِّ النِّساَءِ ثَلاَثَةٌ أَوَاخِرُ إَبْرَاهَامَ (لَـ)لاحَ وَجَمَّلاَ
وفيها يعني في سورة البقرة وفي نص النساء أي وفيها نص الله سبحانه عليه في سورة النساء كما تقول في نص الشافعي كذا أي في منصوصه الذي نص عليه ثم نضيف النص إلى محله فنقول في نص الأم كذا أي فيهما نص عليه الشافعي في كتاب الأم كذا ولو قال وفي آي النساء لكان أحسن وأظهر وقوله أواخر صفة لثلاثة وإبراهام مبتدأ وفيها متعلق بالخبر أي إبراهام لاح في سورة البقرة في جميع ما فيها من لفظ إبراهيم يقرؤه هشام إبراهام بالألف وفي النساء ثلاثة مواضع كذا وهي أواخر ما فيها يعني (واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا)-(وأوحينا إلى إبراهيم) ، احترازا من الأول وهو (فقد آتينا آل إبراهيم) ، فقرأه هشام بالياء وجعل بعضهم إبراهام بدلا من ثلاثة أواخر على حذف مضاف أي كلمات إبراهام وجعل قوله وفيها خبر المبتدأ الذي هو قوله ثلاثة أواخر إبراهام وفي نص النساء عطف على الخبر ويلزم من هذا الإعراب أن تكون الثلاثة الأواخر في البقرة وهو خطأ والصواب في الإعراب ما قدمته والله أعلم ، ولا يفهم من القصيدة قراءة الجماعة لأنه ليس في اصطلاحه أن ضد الألف الياء وإنما القراءة المشهورة أظهر من ذلك وكان طريقه المعلومة من عادته في مثل ذلك أن يلفظ بالقراءتين معا كقوله وحمزة أسرى في أسارى سكارى معا سكرى وعالم قل علام وليس ذلك من باب استغنائه باللفظ عن القيد لأن الوزن يستقيم له على القراءتين ولو قال ، (وفي يا إبراهيم جا ألف وفي ثلاث النساء آخرا لاح وانجلا) ، لحصل
الغرض
(481)
وَمَعْ آخِرِ الأَنْعَامِ حَرْفَا بَرَاءَةٍ أَخِيراً وَتَحْتَ الرَّعْدِ حَرْفٌ تَنَزَّلاَ
وفي الأنعام لفظ إبراهيم في مواضع وقع الخلاف في آخرها وهو قوله تعالى (دينا قيما ملة إبراهيم) ، وفي براءة أيضا مواضع الخلاف منها في حرفين من آخرها وهما (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه)و(إن إبراهيم لأواه) ، وتحت الرعد يعني سورة إبراهيم فيها (وإذا قال إبراهيم رب اجعل) ، وأخيرا ظرف أي وقفا أخيرا والله أعلم
(482)
وَفي مَرْيَمٍ وَالنَّحْلِ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ وَآخِرُ مَا فِي الْعَنْكَبُوتِ مُنَزَّلاَ
أي في مجموعهما خمسة اثنان في النحل (إن إبراهيم كان أمة)-(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) ، وفي مريم ثلاثة (واذكر في الكتاب إبراهيم)-(أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم)-(ومن ذرية إبراهيم) ، وآخر ما في العنكبوت هو قوله تعالى (ولما جاءت رسلنا إبراهيم) ، احترازا مما قبله وهو (وإبراهيم إذ قال لقومه) ، ومنزلا حال من ما وهي بمعنى الذي
(483)
وَفي النَّجْمَ وَالشُّورى وَفي الذَّارِيَاتِ وَالْحَدِيدِ وَيُرْوِي في امْتِحَانِهِ الأَوَّلاَ
يريد (وإبراهيم الذي وفى-وما وصينا به إبراهيم-حديث ضيف إبراهيم-ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم) ، وفاعل يروي هو هشام والهاء في امتحانه تعود إلى القرآن للعلم به أو إلى لفظ إبراهيم لأنه مذكور فيها والأول مفعول يروي أي يروي الأول في سورة الممتحنة كذلك بالألف يعني (أسوة حسنة في إبراهيم) ، احترازا من قوله بعده (إلا قول إبراهيم لأبيه) ، فجملة ما وقع فيه الخلاف ثلاثة وثلاثون موضعا منها خمسة عشر في البقرة وإبراهيم لفظ أعجمي هو بالعبرانية بالألف وتصرفت العرب فيه فقالته بالياء وجاء في أشعارهم إبراهيم ليس بين الهاء والميم حرف وجاء أيضا إبراهيم بحذف الألف التي بين الراء والهاء وحكى أبو على الأهوازي عن الفراء فيه ست لغات بالياء والألف والواو إبراهيم إبراهام إبراهوم وبحذف كل واحد من هذه الحروف الثلاثة وإبقاء الحركة التي قبلها (إبراهِم-إبراهَم-إبراهُم) ، قال وجملة ما في القرآن من لفظ إبراهيم تسعة وستون موضعا رواها كلها إبراهام بألف من غير استثناء شيء منها العباس بن الوليد عن عبد الحميد ابن بكار عن ابن عامر وقرأتها كلها كذلك عن النوفل عن عبد الحميد عنه ولم أقرأ عن العباس بن الوليد عنه كل ذلك إلا بالياء ثم ذكر في بعض الطرق الألف في الأحزاب والزخرف والأعلى قال والمشهور عن أصحاب ابن عامر إثبات الألف في ثلاثة وثلاثين موضعا يعني ما تقدم نظمه قال وهو مكتوب في مصاحف الشام في ثلاثة وثلاثين موضعا بألف وهو الذي قدمنا ذكره وفي ستة وثلاثين موضعا بالياء قال ورأيت من يقول بل مصاحف الأمصار الخمسة على ذلك قال وحدثني أبو بكر محمد ابن أحمد السلمي قال قال لي أبو الحسن محمد النضر بن الأخرم كان الأخفش يقرأ مواضع إبراهام بالألف ومواضع إبراهيم بالياء ثم ترك القراءة بالألف وقال لي أبو بكر السلمي أيضا قال لي أبو الحسن السلمي كان أهل الشام يقرءون إبراهام بألف في مواضع دون مواضع ثم تركوا القراءة بالألف وقرءوا جميع القرآن
بالياء قال أبو علي وهي لغة أهل الشام قديما كان قائلهم إذا لفظ إبراهيم في القرآن وغيره قال أبراهام بألف وقال أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي دخلت بعض قرى الشام فرأيت بعضهم يقول لبعض يا إبراهام فاعتبرت ذلك فوجدتهم ما يعرفون غيره قال أبو زرعة الدمشقي حدثنا محمد بن أسامة الحلبي وكان كيسا حافظا قال حدثنا ضمرة عن علي عن أبي جميل عن يحيى بن راشد قال صليت خلف ابن الزبير صلاة الفجر فقرأ-صحف إبراهام وموسى-قال أبو زرعة وسمعت عبد الله بن ذكوان بحضرة المشايخ وتلك الطبقة العالية قال سمعت أبا خليد القارئ يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعا إبراهام قال أبو خليد فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك وقال أبو بكربن مهران روي عن مالك بن أنس أنه قيل له إن أهل دمشق يقرءون إبراهام فقال أهل دمشق يأكل البطيخ أبصر منهم بالقراءة فقيل إنهم يدعون قراءة عثمان رضي الله عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق قال أبو بكر وكذلك رأيت أنا في مصاحفهم وكذلك هو إلى وقتنا هذا قال وفي سائر المصاحف (إبراهيم) ، مكتوب بالياء في جميع القرآن إلا في البقرة فإن فيها بغير ياء وقال مكي الألف لغة شامية قليلة قال أبو الحسن محمد بن الفيض سمعت أبي يقول صلى بنا عبد الله ابن كثير القارئ الطويل فقرأ (وإذ قال إبراهام لأبيه) ، فبعث إليه نصر بن حمزة وكان الوالي بدمشق إذ ذاك فخفقه بالدرة خفقات ونحاه عن الصلاة قال الأهوازي لعله جعل ذلك سببا لشيء كان في نفسه عليه والله أعلم وأحكم ، قلت ويحتمل أنه فعل به ذلك لكون هذا الموضع ليس من المواضع المذكورة المعدودة ثلاثة وثلاثون أو لأنه لما ترك أهل الشام ذلك استغرب منه ما قرأ وخاف من تجرؤ الناس على قراءة ما ليس بمشهور في الصلاة فأدبه على ذلك والله أعلم
(484)
وَوَجْهَانِ فِيهِ لاِبْنِ ذَكْوَانَ ههُنَا وَوَاتَّخِذُوا بِالْفَتْحِ عَمَّ وَأَوْغَلاَ
ههنا يعني في سورة البقرة ووجه تخصيصها بذلك اتباع الخط قال أبو عمرو الداني قال أبو عبد الله محمد بن عيسى عن نصير في سورة البقرة إلى آخرها في بعض المصاحف-إبراهم-بغير ياء وفي بعضها بالياء قال أبو عمرو ولم أجد ذلك كذلك في مصاحف العراق إلا في البقرة خاصة قال وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام وقال أبو عبيد تتبعت رسمه في المصاحف فوجدته كتب في البقرة خاصة بغير ياء ، قلت لم يكتب في شيء من المصاحف الألف على وفق قراءة هشام وإنما لما كتب بغير ياء أوهم أن الألف محذوفة لأنها هي المعتاد حذفها كالألف التي بعد الراء في هذا الاسم وفي-إسحاق-وفي-إسماعيل-وغير ذلك ومن قرأ بالياء قال كتابتها في أكثر المواضع بالياء دليل على أنها المحذوفة وفي ذلك موافقة للغة الفاشية الصحيحة ، فهذا وجه الخلاف وقوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ، يقرأ بكسر الخاء وفتحها فهو بالكسر أمر وبالفتح خبر وإنما جعل الفتح أعم لأن الضمير يرجع إلى عموم الناس فيكون الفعل موجها إلى الأمم قبلنا نصا وإلينا بطريق الاتباع لهم لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ وأما قراءة الكسر فتختص بالمأمورين ويجوز أن يكون التقدير وقلنا لهم-اتخذوا-فيتحد العموم في القراءتين وهذا الوجه أولى وقوله وأوغلا أي أمعن من الإيغال وهو السير السريع والإمعان فيه
(485)
وَأَرْنَا وَأَرْنِي سَاكِنَا الْكَسْرِ (دُ)مْ (يَـ)ـداً وَفي فُصِّلَتْ (يُـ)ـرْوِي (صَـ)ـفاً (دَُ)رِّهِ (كُـ)لاَ
اليد النعمة وهو في موضع نصب على التمييز أي دامت نعمتك أو يكون حالا أي دم ذا نعمة والسكون في هذين اللفظين حيث وقعا للتخفيف كقولهم في (وأرنا مناسكنا-أرنا الله جهرة-أرني كيف تحيي الموتى-أرني أنظر إليك) ، والذي في فصلت (أرنا الذين أضلانا) ، وافق على إسكانه أبو بكر وابن عامر والكلا جمع كلية والصفا ممدود وقصره ضرورة يشير إلى قوة القراءة لأن الإسكان هنا في حركة البناء بخلافه في يأمركم ونحوه والله أعلم
(486)
وَأَخْفَاهُمَا (طَـ)ـلْقٌ وَخِفُّ ابْنِ عَامِرٍ فَأُمَتِّعُهُ أَوْصَى بِوَصّى (كَـ)ـمَا (ا)عْتَلاَ
الطلق السمح يريد بالإخفاء الاختلاس الذي تقدم ذكره في (بارئكم-و-يأمركم) ، وهو اللائق بقراءة أبي عمرو والضمير في أخفاهما لقوله (وأرنا-و-أرني) ، وخف ابن عامر مبتدأ والخبر فأمتعه أي المخفف لابن عامر قوله تعالى -فأمتعه- وقوله أوصى بوصي أي يقرأ في موضع (وصى-أوصى) ، ومتع وأوصى ووصى لغات كأنزل ونزل وحسن تخفيف فأمتعه قوله بعده قليلا
(487)
وَفي أَمْ يَقُولُونَ الْخِطَابُ (كَـ)ـمَا (عَـ)لاَ (شَـ)ـفَا وَرَءُوفٌ قَصْرُ (صُحْبَتِهِ حَـ)لاَ
يريد قوله تعالى (أم يقولون إن إبراهيم) ، وجه الخطاب أن قبله (قل أتجاجوننا-وبعده-قل ءأنتم أعلم) ، ووجه الغيبة أن قبله (فإن آمنوا) ، أو يكون على الالتفات ورؤف ورءوف لغتان ولا يختص لخلاف في رءوف بما فيه هذه السورة فكان حقه أن يقول جميعا أو نحو ذلك وكان الأولى لو قال صحاب كفى خاطب تقولون بعد أم وكل رءوف قصر صحبته حلا
(488)
وَخَاطَبَ عَمَّا يَعْمَلُونَ (كَـ)ـمَا (شَـ)ـفَا وَلاَمُ مُوَلِّيهَا عَلَى الْفَتْحِ (كُـ)ـمِّلاَ
يريد الذي بعده (ولئن أتيت) ، وهو ملتبس بالذي في آخر الآية التي أولها (أم تقولون) ، ولا خلاف في الخطاب فيها وإن اختلفوا في -أم تقولون- وسببه أنه جاء بعد -أم تقولون- ما قطع حكم الغيبة وهو -قل ءأنتم أعلم- ويزيل هذا الالتباس كونه ذكره بعد رءوف وذلك في آخر الآية التي بعد آية رءوف فالخطاب للمؤمنين والغيبة لأهل الكتاب وفتح ابن عامر اللام من قوله (ولكل وجهة هو موليها) ، فانقلبت الياء ألفا وإنما قال كملا لأن قراءة ابن عامر لا تحتاج إلى حذف مفعول أي لكل فريق وجهة هوموليها مبني لما لم يسم فاعله لأن مولى بفتح اللام اسم مفعول وبكسرها اسم فاعل فعلى قراءة الجماعة يحتاج مولى إلى مفعولين حذف أحدهما والفاعل هو الله تعالى أو الفريق أي الله موليها إياهم أو الفريق موليها نفسه
(489)
وَفي يَعْمَلُونَ الْغَيْبَ (حَـ)لَّ وَسَاكِنٌ بِحَرْفَيْهِ يَطَّوَّعْ وَفي الطَّاءِ ثُقِّلاَ
يعني الذي بعده (ومن حيث خرجت) ، الخطاب للمؤمنين والغيبة لأهل الكتاب والهاء في بحرفيه عائدة إلى يطوع أي وتطوع ساكن في موضعيه وهما (أن يطوف بهما-ومن تطوع خيرا-وقوله- فمن تطوع خيرا فهو خير له) ، ويعني بالساكن العين لأنه فعل مستقبل فانجزم بالشرط وعلامة الجزم هنا السكون وإنما عدل عن لفظ الجزم إلى لفظ السكون وكان لفظ الجزم أولى من حيث أن يطوع فعل مضارع معرب لأن الجزم في اصطلاحه ضده الرفع وضد السكون الحركة المطلقة وهي في اصطلاحه الفتح وهو المراد هنا في قراءة الباقين لا الرفع فاستعمل اللفظ الموافق لغرضه مع أن الضد وهو الفتح حركة بناء فلم يكن له بد من تسمح وهذا كما يأتي في قوله تضارر وضم الراء حق ونحوه وقراءة الجماعة على أن تطوع فعل ماض وتثقيل الطاء من أجل أن أصله على قراءتهم بتطوع فأدغمت التاء في الظاء كما في قوله (أن يطوف بهما) ، ثم ذكر تمام القراءة وهو أن أولها يا موضع التاء فقال
(490)
وَفي التَّاءِ يَاءٌ (شَـ)ـاعَ وَالرِّيحَ وَحَّدَا وَفي الكَهْفِ مَعْهَا وَالشَّرِيعَةِ وَصَّلاَ
كان ينبغي أن يبين بالتقييد لفظ التاء من لفظ الياء فإنهما متفقان في الخط وعادته بيان ذلك كقوله بالثا مثلثا وكثيرا نقطة تحت نفلا فلو قال ، (وفي التاء نقطها تحت وحد الرياح مع الكهف الشريعة شمللا) ، لاستغنى بالرمز آخر البيت للمسئلتين كما تقدم في كفلا أي قرأ هاتين القراءتين من شملل أي أسرع وأراد (وتصريف الرياح والسحاب) ، وفي الكهف (تذروه الرياح) ، وفي الجاثية (وتصريف الرياح) ، قرأ حمزة والكسائي هذه المواضع الثلاثة بالتوحيد أي بلفظ الإفراد وهو الريح وهو بمعنى الجمع لأن المراد الجنس وأجمعوا على توحيد ما جاء منكرا نحو (ولئن أرسلنا ريحا) ، وعلى توحيد بعض المعرف نحو (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) ، والهاء في معها تعود إلى السورة التي نحن فيها وهي سورة البقرة
(491)
وَفي النَّمْلِ وَاْلأَعْرَافِ وَالرُّومِ ثَانِياً وَفَاطِرِ (دُ)مْ (شُـ)ـكْراً وَفي الْحِجْرِ (فُـ)ـصِّلاَ
أي وافقهما ابن كثير على التوحيد في هذه السورة وإعراب قوله دم شكرا كما تقدم في دم يدا أي ذا شكر أو دام شكرك فهو أمر بمعنى الدعاء والذي في النمل (ومن يرسل الرياح بشرا) ، وفي الأعراف (وهو الذي يرسل الرياح) ، والثاني الذي في الروم (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) ، وأما الأول فيها فمجموع بالإجماع وهو (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) ، وثانيا حال لأن المعنى وفي الذي في الروم ثانيا واختص حمزة بتوحيد الذي في الحجر وهو قوله (وأرسلنا الرياح لواقح) ، وخالفه غيره لأجل قوله لواقح كما جمعوا الذي في الروم لأجل قوله مبشرات وحجة حمزة أن ذلك غير مانع لأن المراد بالمفرد الجمع فلواقح-مثل-نشرا-بضم النون لأنه جمع نشور في قراءة ابن كثير وأما الكسائي فلا يلزمه ذلك لأنه يقرأ بفتح النون
(492)
وَفي سُورَةِ الشُّورى وَمِنْ تَحْتِ رَعْدِهِ (خُـ)ـصُوصٌ وَفي الْفُرْقَانِ (زَ)اكِيهِ (هَـ)ـلَّلاَ
يعني قوله تعالى (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) ، وفي سورة إبراهيم (كرماد اشتدت به الريح في يوم) ، وفي الفرقان (وهو الذي أرسل الرياح بشرا) ، انفرد نافع بجمع الذي في الشورى وإبراهيم وانفرد ابن كثير بتوحيد الذي في الفرقان وقوله خصوص مبتدا خبره ما قبله أي خصوص لبعض القراء دون بعض والهاء في رعده كما تقدم في امتحانه فإن الريح وإن كانت مؤنثة يعود الضمير إليها مذكرا باعتبار أنها حرف القراءة وموضعها والهاء في زاكيه للموضع أيضا أو للتوحيد المفهوم من قوله واحدا وهلل إذا قال لا إله إلا الله وهذا آخر الكلام في مسئلة الرياح والله أعلم
(493)
وَأَيُّ خِطَابٍ بَعْدُ (عَمَّ) وَلَوْ تَرى وَفي إِذْ يَرَوْنَ الْيَاءُ بِالضَّمِّ (كُـ)ـلِّلاَ
بعد يعني بعد ذكر الريح (ولو ترى) ، مبتدأ خبره ما قبله كقولك أي رجل زيدا على سبيل التعظيم والتفخيم لشأنه لا على محض الاستفهام أي هو خطاب عظيم يتعلق به أمر فظيع من شدة عذاب الله يوم القيامة لمتخذي الأنداد من دون الله وقيل وأي خطاب مبتدأ وعم خبره وأشار بقوله عم إلى أنه خطاب عام لكل إنسان أي ولو ترى أيها الإنسان القوم الظالمين حين يرون العذاب يوم القيامة لرأيت أمرا فظيعا وشدة شديدة لا يماثلها شدة وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو من باب مخاطبة رئيس القوم بما هو مطلوب منه ومن جميع قومه وهو مثل قوله تعالى (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)-(يأيها النبي إذا طلقتم النساء) ، فأشار بقوله عم إلى أنه وإن كان على لفظ الخطاب للمفرد فالمراد به تعميم كل مخاطب فالذين ظلموا-مفعول-ترى-على قراءة الخطاب و-إذ يرون-ظرف للرؤية وهي في الموضعين من رؤية البصر ويجوز أن يكون-إذ يرون-بدلا من-الذين ظلموا-بدل الاشتمال كما قيل ذلك في نحو (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت) ، أي ولو ترى زمان رؤية الظالمين العذاب وقد صرح بهذا المعنى في آيات كثيرة نحو (ولو ترى إذ وقفوا على النار-ولو ترى إذ وقفوا على ربهم-ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت-ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم-ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت-ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) ، وعلى قراءة الغيبة يكون-الذين ظلموا-فاعل-يرى-وإذ يرون-مفعوله على سياق هذه الآيات المذكورة وجواب-لو-محذوف على القراءتين و-أن القوة-وما بعده معمول الجواب المحذوف أي لرأيت أو لرأوا أو لعلموا أن القوة لله أي لشاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز وأن الأمر ليس ما كانوا عليه من جحورهم لذلك وشكهم فيه وقيل الجواب بجملته محذوف مثل (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) ، وإنما أبهم تفخيما للأمر كما يقول القائل لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ولو رأيته والسيوف تغشاه من كل جانب
أي لرأيت أمرا شاقا لا صبر على رؤيته فكيف صبر من حل به أو تقديره لعلموا مضرة اتخاذهم للأنداد وأن القوة على تقدير لأن القوة فهو تعليل للجواب وقيل (أن القوة) ، على قراءة الغيبة مفعول يرى وعند هذا يجوز أن يكون يرى من رؤية القلب وسدت أن مسد المفعولين وقيل إن القوة على قراءة الخطاب بدل من العذاب وقيل على قراءة الغيبة التقدير-ولو يرى الذين ظلموا -في الدنيا حالهم-حين يرون-لأقلعوا عن اتخاذ الأنداد وقيل-الذين ظلموا- مفعول كما في قراءة الخطاب والفاعل ضمير عائد على لفظ-من في قوله من يتخذ وقيل التقدير ولو يرى راء أو إنسان في الدنيا حال الظالمين إذ يرون العذاب لعلم أن القوة لله كما قيل في قوله تعالى (ولا يحسبن الذين يبخلون) ، أي ولا يحسبن حاسب وقيل التقدير ولو يرى أحد حالهم في ذلك الوقت فرأى أمرا هائلا وقيل المعنى ولو تيقن الذين ظلموا زمان رؤية العذاب فيكون المراد به الإيمان بالبعث على أن يرى بمعنى عرف وهذا من المواضع المشكلة وما قدمته أحسن الوجوه في تفسيره وإذ فيه لمجرد الزمان من غير تعرض لمضى كما تستعمل إذا كذلك من غير تعرض للاستقبال نحو (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) ، وقال أبو علي إنما جاء على لفظ المضى لما أريد فيها من التحقيق والتقريب وعلى هذا جاء (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) ، ومنه قد قامت الصلاة والخلاف في يرون بفتح الياء وضمها ظاهر فإن الله تعالى يريهم ذلك فيرونه وما أحسن ما عبر عن الضمة على الياء بأن الياء كللت به اشبه الضمة بالإكليل وهو تاج الملك والله أعلم
(494)
وَحَيْثُ أَتي خُطُوَاتٌ الطَّاءُ سَاكِنٌ وَقُلْ ضَمُّهُ (عَـ)ـنْ (زَ)اهِدً (كَـ)ـيْفَ (رَ)تَّلاَ
أي كيفما رتل القرآن فإنه يضم الطاء وضمها وإسكانها لغتان فالإسكان موافق للفظ المفرد لأنه جمع خطوة وهو اسم ما بين القدمين من خطا يخطو والمصدر بفتح الخاء فمعنى قوله تعالى (لا تتبعوا خطوات الشيطان) ، أي لا تسلكوا مسالكه ولا تفعلوا فعله وضم الطاء في الجمع للاتباع ويجوز الفتح في اللغة أيضا وقوله عن زاهد أي الضم محكي مروي عن قارئ زاهد إشارة إلى عدالة نقلته والله أعلم
(495)
وَضَمُّكَ أَولَى السَّاكِنَينَ لِثَالِثٍ يُضَمُّ لُزُوماً كَسْرُهُ (فِـ)ـي (نَـ)ـدٍ (حَـ)ـلاَ
وضمك مبتدأ وما بعده مفعول به وتعليل وكسره مبتدأ ثان وهو وما بعده خبر الأول أي كسر ذلك الضم في ند حلو في محل رطب لين أو التقدير كسره حلا في ند ويجوز أن يكون لثالث خبر وضمك أي ضم أول كل ساكنين واقع عند كل ثالث يضم ضما لازما فتكون هذه اللام للتوقيت لا للتعليل ثم بين القراءة الأخرى فقال كسره في ند حلا وكان الوجه أن يقول أول الساكنين بالتذكير فلم يتزن له البيت فعدل إلى التأنيث ولم يتعرض الشيخ رحمه الله لبيانه وقال غيره التقدير وضمك السواكن الأولى من باب التقاء الساكنين ثم حذف الموصوف ولام التعريف وأضاف قال ونظيره (والرسول يدعوكم في أخراكم-وقالت أولاهم لأخراهم) ، أي الطائفة الأخرى منهم قلت يجوز أن يكون أنث باعتبار المدلول كما ذكرنا في شرح قوله غير عشر ليعدلا لأن السكون واقع في حرف من حروف الهجاء وأسماء حروف الهجاء يجوز تأنيثها فأنث لفظ أولى بهذا الاعتبار وذكر لفظ الساكنين على الأصل ويجوز أن يكون التأنيث في أولى باعتبار الحركة أي أولى حركتي الساكنين وذلك لأن الساكنين متى التقيا فتارة يحرك الأول وتارة يحرك الثاني نحو من الرجل وانطلق لما سكنت اللام تخفيفا كما جاء في خاء فخذ وكانت القاف ساكنة للأمر فتحت القاف لالتقاء الساكنين فحركة الساكن الأول في من الرجل هي أولى حركتي الساكنين ولا يحرك الساكن الأول إلا إذا كان التقاء الساكنين في كلمتين أو ما هو في حكم الكلمتين كهمزة الوصل أو تقول الحركة الأولى هي حركة الساكن الأول في الوصل والحركة الثانية هي حركة الهمزة إذا ابتدأت بها ووقفت على الأول والحركتان معا لا يجتمعان فمهما حركت الأول بطلت حركة الهمزة وإذا بطلت حركة الأول تحركت الهمزة وقوله لثالث بضم أي لحرف ثالث مضموم وعده إياه ثالثا بأحد اعتبارين أحدهما أنه عبد قبله الساكن وقبل الساكن همزة الوصل اعتبارا بالكلمة لو ابتدئ بها لأن الكلام في مثل انقص واخرج ولأن ذلك في الخط أربعة أحرف الثالث
منها هو المضموم ، الثاني أنه عد ذلك ثالثا باعتبار الساكن الأول لأن الحكم متعلق به فبعده في الوصل الساكن الثاني وبعدهما الحرف المضموم وهمزة الوصل انحذفت في الدرج فالتقى الساكن الذي هو آخر الكلمة بالساكن الذي هو بين همزة الوصل والحرف المضموم فوجب تحريك الأول فمنهم من كسر على أصل التقاء الساكنين ومنهم من ضم للاتباع كراهة الخروج من كسر إلى ضم ولم يعتد بالحاجز لأنه ساكن فهذا معنى التعليل المفهوم من قوله لثالث يضم وهذا التعليل بمجرده لا يكفي فكم من ضمة لازمة لا يضم لها الساكن الأول نحو (قل الروح) ، وشبهه كما يأتي فلا بد من أن يضم إلى ذلك الدلالة على حركة همزة الوصل المحذوفة في ذلك وهي الضمة وقوله لزوما أي ذا لزوم واللزوم مصدر لزمت الشيء ألزمه لزوما أي يكون الضم لازما لا عارضا وذلك مثل أخرج ادعوا ضمة الراء والعين لازمة لهذه البنية مستحقة فيها بطريق الأصالة احترز بذلك من الضمة العارضة غير اللازمة وذلك نحو (إن امرؤ) ، فإن ضمة الراء إنما جاءت لأجل ضمة الهمزة فلو فتحت الهمزة أو كسرت لفتحت الراء وكسرت وكذلك الضمة في قوله تعالى (أن امشوا) ، لأن حق هذه الشين أن تكون مكسورة وأصله امشيوا كاضربوا وكذلك ضمة الإعراب في نحو (بغلام اسمه- عزير ابن الله) ، فكل هذا يكسر فيه أول الساكنين ولا يضمه أحد لأجل عروض الضمة في الثالث والتمثيل بقوله-عزير-إنما ينفع في قراءة من نونه والذي نونه اثنان عاصم والكسائي فكلاهما بكسر التنوين ، أما عاصم فعلى أصله في كسر أول الساكنين مطلقا وأما الكسائي فلأجل عروض الضمة في-ابن-وقوله (أن اتقوا الله) ، الضمة فيه على حرف رابع لا على ثالث لأن التاء مشددة فهي حرفان هذا كله مع أن الضمة عارضة كما في (أن امشوا) ، فهذا تمام الكلام في تقدير الضابط الذي ذكره الناظم وقد أورد عليه قوله تعالى (قل الروح) ، فهو مما اتفق على كسره مع أن ضمة الراء فيه لازمة ومثله (إن الحكم-غلبت
الروم-بلغت الحلقوم-عاد المرسلين) ، وصاحب التيسير قال إذا كان بعد الساكن الثاني ضمة لازمة وابتدئت الألف بالضم فهذا لقيد الثاني يخرج جميع ما ذكرناه من (إن امرؤ-أن امشوا-و-عزير ابن الله-و-قل الروح) ، وشبهه لأن همزة الوصل في أول الكلمة الثانية منهما مكسورة عند الابتداء بها في الثلاثة الأول ومفتوحة في-الروح-وما بعده مما ذكرناه وهذا القيد كاف وحده فلا حاجة إلى ذكر الضمة اللازمة ومكي رحمه الله لم يذكرها واقتصر على ذلك القيد ، فقال اختلفوا في الساكنين إذا اجتمعا من كلمتين وكانت الألف التي تدخل على الساكن الثاني في الابتداء تبتدأ بالضم وكذا قال ابن شريح الاختلاف في الساكن الذي بعده فعل فيه ألف وصل يبتدئ بالضم فلو أن الناظم قال ، (وإن همز وصل ضم بعد مسكن فحركه ضما كسره في ند حلا) ، أي فحرك ذلك المسكن بالضم أو الكسر لمن رمز له لكان أبين وأسهل على الطالب إلا أن في بيت الشيخ الشاطبي رحمه الله إشارة إلى علة الضم والله أعلم
(496)
قُلِ ادْعُوا أَوِ انْقُصْ قَالَتِ اخْرُجْ أَنِ اعْبُدُوا وَمَحْظُوراً انْظُرْ مَعْ قَدِ اسْتُهْزِئَ اعْتَلاَ
هذه أمثلة ما تقدم ذكره وقد حصر أنواعه في هذه الأمثلة الستة وذلك أن الساكن الأول لا يخلو من أن يكون أحد هذه الأحرف الستة اللام والواو والتاء والنون والتنوين والدال قال ابن الفحام يجمعهن من غير التنوين لتنود وإنما ذكر هذه القاعدة في هذه السورة لأجل قوله تعالى (فمن اضطر) ، ولم يتفق له التمثيل به وأغنى عنه قوله (أن اعبدوا-ومثله-ولكن انظر) ، الساكن في الجميع نون ولو قال من اضطرا وانقص قالت اخرج قل انظروا لحصلت النصوصية على موضع السورة التي هو فيها ولا يضر وصل همزة أو إسكان راء اضطر فإن لكليهما نظائر جائزة في اللغة ومثل (قل ادعو-قل انظروا) ، في يونس لا غير ومثل-أو انقص-أو اخرجوا-أو ادعوا الرحمن-لا غير ومثل- أن اعبدوا (أن اقتلوا أنفسكم-و-أن اعبدوني-و-أن احكم بينهم-أن اشكر لله-أن اغدوا على حرثكم) ، ولا نظير لقوله (وقالت اخرج-ولقد استهزئ) ، ومثال التنوين اثنا عشر موضعا والله أعلم
(497)
سِوى أَوْ وَقُلْ لاِبْنِ الْعَلاَ وَبِكَسْرِهِ لِتَنْوِيِنهِ قالَ ابْنُ ذَكْوَانَ مُقْوِلاَ
يعني ضم أبو عمرو الواو من أو واللام من قل حيث وقعا نحو (قل ادعوا الرحمن-أو انقص منه-أو اخرجوا من دياركم- قل انظروا ماذا في السموات والأرض) ، وذلك لأن كسر الواو أثقل من ضمها واللام من قل قبلها ضمة فترجح مقتضى الضم فيها والهاء في بكسرة تعود على ابن العلاء وكذا الهاء في لتنوينه أو أراد لتنوين هذا الكلام وقوله لتنوينه مفعول بكسره كما تقول عجبت من ضربه لابنه وليست لام التعليل بخلاف اللام في لثالث أي قرأ ابن ذكوان التنوين بالكسر الذي لأبي عمرو فيه ووجه ذلك أن التنوين ليس له استقرار غيره من الحروف فإنه يحذف ويبدل فلما لم يكن لازما لا يضمه لأجل الاتباع لأنه كأنه زائل كما أنهم لم يضموا لأجل الضمة العارضة التي هي غير مستقرة لذلك ويقال أقوله مثل قوله أي معلما القول بذلك والله أعلم
(498)
بِخُلْفٍ لَهُ فِي رَحْمَةٍ وَخَبِيثَةٍ وَرَفْعُكَ لَيْسَ الْبِرُّ يُنْصَبُ (فِـ)ـي (عُـ)ـلاَ
يعني قوله تعالى في الأعراف (برحمة ادخلوا الجنة) ، وفي إبراهيم (كشجرة خبيثة اجتثت) ، روى عن ابن ذكوان ضمهما جمعا بين اللغتين ولم يفعل ذلك في نحو ( عيون ادخلوها-ونحو-متشابه انظروا-وأما-ليس البر أن تولوا وجوهكم) ، فقرأ حمزة وحفص بنصب-البر-على أنه خبر ليس ورفع الباقون على أنه اسمها و-أن تولوا-هو الاسم على قراءة النصب وهو الخبر على قراءة الرفع وإنما جاز كونه اسما لأنه مقدر بالمصدر معناه توليتكم وجوهكم ، قال الفارسي كلا الوجهين حسن وقوله في علا أي في علا ورفعة أو في حجج معتلية لأن علا بالضم والقصر يحتمل الإفراد والجمع ولا خلاف في رفع (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) ، لأن-بأن تأتوا-قد تعين لأن يكون خبرا بدخول الباء عليه ولا يرد على الناظم لأنه قال-ليس البر-بلا واو وهذا الذي لا خلاف في رفعه هو بالواو وقد تعين النصب في القرآن في مواضع الحصر بإلا وإنما نحو (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا-ما كان حجتهم إلا أن قالوا-وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا-إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا) ، وجاء الخلاف في الأنعام في (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) ، لكن الأكثر على النصب حملا على نظائره ووجه الرفع أنه جائز على ما ذكرناه وفي (ليس البر) ، بالعكس الأكثر على الرفع لأنه ليس للحصر وفي (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءاى أن كذبوا) ، اختلف أيضا على ما يأتي في موضعه والله أعلم
(499)
وَلكِنْ خَفِيفٌ وَارْفَعِ اْلبِرَّ (عَمَّ) فِيهِماَ وَمُوَصٍّ ثِقْلُهُ (صَـ)ـحَّ (شُـ)ـلْشُلاَ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق