ج28. تفسير الشعراوي
وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
كذلك من الآيات العجيبة الدالة على قدرة الله { مَنَامُكُم.. } [الروم: 23] فحتى الآن لم يكشف علماء وظائف الأعضاء والتشريح عن سِرِّ النوم، ولم يعرفوا - رغم ما قاموا به من تجارب - ما هو النوم. لكن هو ظاهرة موجودة وغالبة لا يقاومها أحد مهما أُوتِي من القوة، ومهما حاول السهر دون أنْ ينام، لا بُدَّ أن يغلبه النوم فينام، ولو على الحصى والقتاد، ينام وهو واقف وهو يحمل شيئاً لا بُدَّ أنْ ينام على أية حالة.
وفلسفة النوم، لا أن نعرف كيف ننام، إنما أن نعرف لماذا ننام؟ قالوا: لأن الإنسان مُكوَّن من طاقات وأجهزة لكل منها مهمة، فالعين للرؤية، والأذن للسمع.. الخ، فساعة تُجهد أجهزة الجسم تصل بك إلى مرحلة ليستْ قادرة عندها على العمل، فتحتاج أنت - بدون شعورك وبأمر غريزي - إلى أن يرتاح كأنها تقول لك كفى لم تَعُد صالحاً للعمل ولا للحركة فنم.
ومن عجيب أمر النوم أنه لا يأتي بالاستدعاء؛ لأنك قد تستدعي النوم بشتى الطرق فلا يطاوعك ولا تنام، فإنْ جاءك هو غلبك على أيِّ حال كنتَ، ورغم الضوضاء والأصوات المزعجة تنام. لذلك يقول الرجل العربي: النوم طيف إنْ طلبتَه أعْنَتك، وإنْ طلبك أراحك.
ولأهل المعرفة نظرة ومعنى كوني جميل في النوم، يقولون في قوله تعالى:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ... }[الإسراء: 44] فكل ما في الوجود يُسبِّح حتى أبعاض الكافر وأعضاؤه مُسبحة، إنما إرادته هي الكافرة، وتظل هذه الأبعاض خاضعة لإرادة صاحبها إلى أنْ تنفكّ عن هذه الإرادة يوم القيامة، فتشهد عليه بما كان منه، وبما أجبرها عليه من معصية الله.
وسبق أنْ مثَّلْنَا لذلك بقائد الكتيبة حين يطيعه جنوده ولو في الخطأ؛ لأن طاعته واجبة إلى أنْ يعودوا إلى القائد الأعلى فيتظلمون عنده، ويخبرونه بما كان من قائدهم.
وذكرنا أن أحد قواد الحرب العالمية أراد أنْ يستخدم خدعة يتفوق بها على عدوه، رغم أنها تخالف قانون الحرب عندهم، فلما أفلحتْ خْطّته وانتصر على عدوه كرَّموه على اجتهاده، لكن لم يَفُتهم أنْ يعاقبوه على مخالفته للقوانين العسكرية، وإنْ كان عقاباً صُورياً لتظل للقانون مهابته.
كذلك أبعاض الكافر تخضع له في الدنيا، وتشهد عليه يوم القيامة:{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النور: 24].
مع أن هذه الجوارح هي التي نطقتْ بكلمة الكفر، وهي التي سرقتْ.. الخ؛ لأن الله أخضعها لإرادة صاحبها، أما يوم القيامة فلا إرادةَ له على جوارحه:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... }[فصلت: 21] لذلك يُطمئننا الحق سبحانه بقوله:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
فإذا ما نام الكافر ارتاحتْ منه أبعاضه وجوارحه، ارتاحتْ من مرادات الشر عنده؛ لذلك يُحدِّثنا إخواننا الذين يحجُّون بيت الله يقولون: هناك النوم فيه بركة، ويكفيني أقلّ وقت لارتاح، لماذا؟ لأن فكرك في الحج مشغول بطاعة الله، ووقتك كله للعبادة، فجوارحك في راحة واطمئنان لم ترهقها المعصية؛ لذلك يكفيها أقل وقت من النوم لترتاح.
وفي ضوء هذا الفهم نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " تنام عيني ولا ينام قلبي " لأنه صلى الله عليه وسلم حياته كلها للطاعة، فجوارحه مستريحة، فيكفيه من النوم مجرد الإغفاءة.
وفي العامية يقول أهل الريف: نوم الظالم عبادة، لماذا؟ لأنه مدة نومه لا يأمر جوارحه بشرٍّ، ولا يُرغمها على معصية فتستريح منه أبعاضه، ويستريح الناس والدنيا من شره، وأيّ عبادة أعظم من هذه؟
ونلحظ في هذه الآية } وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ... { [الروم: 23] فجعل الليل والنهار محلاً للنوم، ولابتغاء الرزق، وفي آية أخرى:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[القصص: 73] فجمعهما معاً، ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب{ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[القصص: 73] أي: في الليل{ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }[القصص: 73] أي: في النهار.
وهذا أسلوب يُعرف في اللغة باللفِّ والنشر، وهو أنْ تذكر عدة أشياء محكوماً عليها، ثم تذكر بعدها الحكمَ عليها جملة، وتتركه لذكاء السامع لِيُرجِع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب.
ومن ذلك قول الشاعر:قَلْبي وجَفْنِي واللسَان وخَالِقي رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِر وغَفُورفجمع المحكوم عليه في ناحية، ثم الحكم في ناحية، فجَمْع المحكوم عليه يسمى لَفّاً، وجَمْع الحكم يُسمى نَشْراً.
وهاتان الآيتان من الآيات التي وقف أمامها العلماء، ولا نستطيع أنْ نخرج منهما بحكم إلا بالجمع بين الآيات، لا أن نفهم كل آية على حدة، فنلحظ هنا في الآية التي معنا } وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ.... { [الروم: 23] أن الله تعالى جعل كلاً من الليل والنهار محلاً للنوم، ومحلاً للسعي.
وفي الآية الأخرى:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[القصص: 73] ثم قال{ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }[القصص: 73] ولم يقل (فيه) ويجب هنا أنْ نتنبه، فهذه آية كونية أن يكون الليل للنوم والسكون والراحة، والنهار للعمل وللحركة، فلا مانع أن نعمل بالليل أيضاً، فبعض الأعمال لا تكون إلا بليل، كالحراس ورجال الأمن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم، وسكن هؤلاء يكون بالنهار، وبهذا الفهم تتكامل الآيات في الموضوع الواحد.
إذن: فقوله تعالى: } وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ... { [الروم: 23] يعني: طلب الرزق والسَّعْي إليه يكون في النهار ويكون في الليل، لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل، والقلة على عكس ذلك.
فإنْ قلتَ: هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار، فما بالك بالبلاد التي يستمر ليلها مثلاً ثلاثة أشهر، ونهارها كذلك، نريد أن نفسر الآية على هذا الأساس، هل يعملون ثلاثة أشهر وينامون ثلاثة أشهر؟ أم يجعلون من أشهر الليل ونهاراً، ومن أشهر النهار أيضاً ليلاً ونهاراً؟ لا مانع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يخلو من ليل للراحة، ونهار للعمل أو العكس، فكل من الليل والنهار ظرف للعمل أو للراحة.
لذلك، فالحق - تبارك وتعالى - يمتنُّ علينا بتعاقُب الليل والنهار، فيقول سبحانه:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ }[القصص: 71] وذيَّل الآية بأفلا تسمعون{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ }[القصص: 72].
قالوا: لأن النهار محلُّ الرؤية والبصر، أما الليل فلا بصرَ فيه، فيناسبه السمع، والأذن هي الوسيلة التي تؤدي مهمتها في الليل عندما لا تتوفر الرؤية.
وفي موضع آخر:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }[الفرقان: 62] فالليل يخلُف النهار، والنهار يخلُف الليل، هذا في الزمن العادي الذي نعيشه، أما في بدْء الخَلْق فأيهما كان أولاً، ثم خلفه الآخر؟
فإنْ قلت: إن الليل جاء أولاً، فالنهار بعده خِلْفة له، لكن الليل في هذه الحالة لا يكون خِلفة لشيء، والنص السابق يوضح أن كلاً منهما خِلْفة للآخر، إذن: فما حَلُّ هذا اللغز؟
مفتاح هذه المسألة يكمن في كروية الأرض، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر في بداية البعثة بهذه الحقيقة لما صدَّقوه، كيف ونحن نرى مَنْ ينكر هذه الحقيقة حتى الآن.
والحق - سبحانه وتعالى - لا يترك قضية كونية كهذه دون أنْ يمسَّها ولو بلُطْف وخِفة، حتى إذا ارتقت العقول تنبهتْ إليها، فلو أن الأرض مسطوحة وخلقَ الله تعالى الشمس في مواجهة الأرض لاستطعنا أنْ نقول: إن النهار جاء أولاً، ثم عندما تغيب الشمس يأتي الليل، أما إنْ كانت البداية خلْق الأرض غير مواجهة للشمس، فالليل في هذه الحالة أولاً، ثم يعقبه النهار، هذا على اعتبار أن الأرض مسطوحة.
وما دام أن الخالق - عز وجل - أخبر أن الليل والنهار كل منهما خِلْفة للآخر، فلا بُدَّ أنه سبحانه خلق الأرض على هيئة بحيث يوجد الليل ويوجد النهار معاً، فإذا ما دارت دورة الكون خلف كل منهما الآخر، ولا يتأتّى ذلك إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة، فما واجه الشمس منها صار نهاراً، وما لم يواجه الشمس صار ليلاً.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى:{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].
فالحق سبحانه ينفي هنا أنْ يسبقَ الليلُ النهارَ، فلماذا؟
قالوا: يعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار، أَلاَ تراهم يلتمسون أول رمضان بليله لا بنهاره؟ وما داموا يعتقدون أن الليل سابق النهار، فالمقابل عندهم أن النهار لا يسبق الليل، هذه قضية أقرَّها الحق سبحانه؛ لذلك لم يعدل فيها شيئاً إنما نفى الأولى{ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ... }[يس: 40].
إذن: نفى ما كانوا يعتقدونه{ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ... }[يس: 40] وصدَّق على ما كانوا يعتقدونه من أن النهار لا يسبق الليل. فنشأ عن هذه المسألة: لا الليل سابق النهار، ولا النهار سابق الليل، وهذا لا يتأتّى إلا إذا وُجدوا في وقت واحد، فما واجه الشمسَ كان نهاراً، وما لم يواجه الشمس كان ليلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً... {.
(/3357)
وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
نلحظ في تذييل الآيات مرة يقول سبحانه:{ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21] ومرة{ لِّلْعَالَمِينَ }[الروم: 22] ومرة{ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }[الروم: 23] أو { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم: 24] فتختلف الأدوات الباحثة في الآيات.
والبعض يظن أن العقل آلة يُعملها في كل شيء، فالعقل هو الذي يُصدِّق أو لا يُصدِّق، والحقيقة أنك تستعمل العقل في مسألة الدين مرة واحدة تُغنيك عن استعماله بعد ذلك، فأنت تستعمل العقل في أنْ تؤمن أو لا تؤمن، فإنْ هداك العقل إلى أن الكون له إله قادر حكيم خالق لا إله إلا هو ووثقتَ بهذه القضية، فإنها لا تطرأ على تفكيرك مرة أخرى، ولا يبحثها العقل بعد ذلك، ثم إنك في القضايا الفرعية تسير فيها على وَفْق قضية الإيمان الأولى فلا تحتاج فيها للعقل.
لذلك العقلاء يقولون: العقل كالمطية توصلك إلى حضرة السلطان، لكن لا تدخل معك عليه، وهكذا العقل أوصلك إلى الإيمان ثم انتهى دوره، فإذا ما سمعتَ قال الله فأنت اثق من صِدْق القول دون أنْ تُعمل فيه العقل.
وحين يقول سبحانه: يعقلون يتفكرون يعلمون، حين يدعوك للتدبُّر والعِظَة إنما ينبه فيك أدوات المعارضة لتتأكد، والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج.
كما لو ذهبتَ مثلاً لتاجر القماش فيعرض عليك بضاعته: فهذا صوف أصلي، وهذا فطن خالص، ولا يكتفي بذلك إنما يُريك جودة بضاعته، فيأخذ (فتلة) من الصوف، و (فتلة) من القطن، ويشعل النار في كل منهما لترى بنفسك، فالصوف لا ترعى فيه النار على خلاف القطن.
إذن: هو الذي يُنبِّه فيك وسائل النقد، ولا يفعل ذلك إلا وهو واثق من جودة بضاعته، أما الآخر الذي لا يثق في جودة بضاعته فإنه يلجأ إلا ألاعيب وحيل يغري بها المشتري ليغُرّه.
كذلك الخالق - عز وجل - يُنبِّهنا إلى البحث والتأمل في آياته فيقول: تفكَّروا تدبَّروا، تعقَّلوا، كونوا علماء واعين لما يدور حولكم، وهذا دليل على أننا لو بحثنا هذه الآيات لتوصَّلْنا إلى مطلوبه سبحانه، وهو الإيمان.
والبرق: ظاهرة من ظواهر فصل الشتاء، حيث نسمع صوتاً مُدوِّياً نسميه الرعد، بعد أن نرى ضوءاً شديداً يلمع في الجو نسميه (برق)، وهو عامل من عوامل كهربة الجو التي توصَّل إليها العلم الحديث، لكن قبل ذلك كان الناس عندما يروْن البرق لا يفهمون منه إلا أحد أمرين: إما أنْ يأتي بصاعقة تحرقهم، أو ينزل عليهم المطر، فيخافون من الصاعقة ويرجون المطر.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً... } [الروم: 24] ليظل العبد دائماً مع ربه بين الخوف والرجاء.
لكن أكُلّ الناس يرجون المطر؟ هَبْ أنك مسافر أو مقيم في بادية ليس لك كِنٌّ تكِنُّ فيه، ولا مأوى يأويك من المطر، فهذا لا يرجو المطر ولا ينتظره، لذلك من رحمته تعالى أن يغلب انفعال الطمع في الماء الذي به تحيا الأرض بالنبات.
} وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... { [الروم: 24] وكلمة السماء لها مدلولان: مدلولٌ غالب، وهي السماوات السبع، ومدلول لُغوي، وهي كل ما علاَّك فأظلَّك، وهذا هو المعنى المراد هنا } وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً... { [الروم: 24] لأن المطر إنما ينزل من السحاب، فالسماء هنا تعني: كل ما علاك فأظلَّك.
ولو تأملتَ الماء الذي ينزل من السماء لوجدتَّه من سحاب متراكم{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ... }[النور: 43].
وسبق أنْ تحدَّثنا عن كيفية تكوُّن السُّحُب، وأنها نتيجة لبخر الماء، لذلك من حكمته تعالى أنْ جعل ثلاثة أرباع الأرض ماءً والربع يابسة، ذلك لتتسع رقعة بَخْر الماء، فكأن الثلاثة الأرباع جعلت لخدمة الرُّبْع، وليكفي ماء المطر سكان اليابسة.
وبيَّنا أهمية اتساع مسطح الماء في عملية البخر، بأنك حين تترك مثلاً كوباً من الماء على المنضدة لمدة طويلة يظل كما هو، ولو نَقُص منه الماء لكان قليلاً، أمّا لو سكبتَ ماء الكوب على أرض الغرفة مثلاً فإنه يجفّ في عدة دقائق لماذا؟ لأن مسطح الماء اتسع فكَثُر الماء المتبخِّر.
ومثَّلْنا لتكوُّن السُّحُب بعملية التقطير التي نُجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي المعقم، وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلي، ثم تمريره على سطح بارد فيتكثف البخار مُكوِّناً الماء الصافي، إذن: فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماءً مقطراً في غاية الصفاء والنقاء، دون أن تشعر أنت بهذه العملية، ودون أن نُكلِّفك فيها شيئاً.
وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر، فحرارة الشمس على سطح الأرض تُبخِّر الماء بالحرارة، وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثُّف للماء ويتكوَّن السحاب، ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا 30 متراً عن الأرض تقل الحرارة درجة، مع أننا نقترب من الشمس؛ ذلك لأن الشمس لا تُسخِّن الجو، إنما تُسخِّن سطح الأرض، وهو بدوره يعطي الحرارة للجو؛ لذلك كلما بَعُدنا عن الأرض قلَّتْ درجة الحرارة.
ومن حكمة الله أنْ جعل ماء الأرض الذي يتبخر منه الماء العَذْب جعله مالحاً؛ لأن ملوحته تحفظه أنْ يأسن، أو يعطن، أو تتغير رائحته، تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة، وليظلّ على صلاحه؛ لأنه مخزن للماء العذب الذي يروي بعذوبته الأرض.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ... {.
(/3358)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
السماء هنا بمعنى السماوات السبع التي تقوم بلا عَمَد، وقلنا: إن الشيء الذي يعلوك إما أنْ يُحمل على أعمدة، وإما أنْ يُشدَّ إلى أعلى، مثل الكبارى المعلقة مثلاً، وكذلك السماء سقف مرفوع لا نرى له أعمدة. إذن: لا تبقى إلا الوسيلة الأخرى، وهي أن الله تعالى{ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... }[الحج: 65] فهي قائمة بأمره.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ... } [الروم: 25] لا يهتز لها نظام أبداً، ولا تجد فيها فروجاً، لأنها محْكَمة البناء، وانظر إليها حين صفاء السماء وخُلوِّها من السحب تجدها ملساء ذات لون واحد على اتساعها، أيستطيع أحد من رجال الدهانات أن يطلي لنا مثل هذه المساحة بلون واحد لا يختلف؟
وإذا أخذنا السماء على أنها كُلُّ ما علاك فأظلَّك، فانظر إلى الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكيف أنها تقوم بأمر الله خالقها على نظام دقيق لا اختلالَ فيه، فلم نَر مثلاً كوكباً اصطدم بآخر، ولا شيئاً منها خرج عن مساره.
وصدق الله تعالى{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[الأنبياء: 33] فلكل منها سرعة، ولكل منها مداره الخاص ونظام بحسبان؛ ذلك لأنها تقوم بأمر الله وقدرته تعالى فهي منضبطة تؤدي مهمتها دون خلل، ودون تخلّف.
فمعنى { تَقُومَ... } [الروم: 25] يعني: تظل قائمة على حالها دون فساد، وهو فعل مضارع دالٌّ على استمرار. وحين تتأمل: قبل أن يخترع الإنسان المجاهر والميكروسكوبات لم نكن نرى من المجموعة الشمسية غير الشمس، فلما اخترعوا المجهر رأينا الكواكب الأخرى التي تدور حولها.
والعجيب أنها لا تدور في دوائر متساوية، إنما في شكل إهليلي، يتسع من ناحية، ويضيق من ناحية، وهذه الكواكب لها دورة حول الشمس، ودورة أخرى حول نفسها. فالأرض مثلاً لها مدار حول الشمس ينشأ عنه الفصول الأربعة، ولها دورة حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار، وكل هذه الحركة المركبة تتم بنظام دقيق محكم منضبط غاية الانضباط.
وهذه الكواكب تتفاوت في قُرْبها أو بُعْدها عن الشمس، فأقربها من الشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المشتري، ثم المريخ، ثم زحل، ثم أورانوس، ثم نبتون، ثم أبعدها عن الشمس بلوتو. ولكل منها مداره الخاص حول الشمس وتسمى (عام)، ودورة حول نفسه تسمى (يوم).
وعجيب أن يوم الزهرة، وهو ثاني كوكب من الشمس يُقدَّر بـ 44 يوماً من أيام الأرض، في حين أن العام بالنسبة لها يُقدَّر بـ 25 يوماً من أيام الأرض، فالعام أقل من اليوم، كيف؟ قالوا: لأن هذه دورة مستقلة، وهذه دورة مستقلة، فهي سريعة في دورانها حول الشمس، وبطيئة في دورانها حول نفسها.
ولو علمتَ أن في الفضاء وفي كون الله الواسع مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية في (سكة التبَّانة)، وهذا كله في المجرة التي نعرفها - لو علمت ذلك لتبيَّن لك عظَم هذا الكون الذي لا نعرف عنه إلا القليل؛ لذلك حين تقرأ:
{ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }[الذاريات: 47] فاعلم أنها مسألة لا نهاية لها ولا حدودَ في علمنا وفي عقولنا، لكن لها نهاية عند الله.
ولا أدلَّ على انضباط حركة هذه الكونيات من انضباط موعد الكسوف أو الخسوف الذي يحسبه العلماء فيأتي منضبطاً تماماً، وهم يبنون حساباتهم على حركة الكواكب ودورانها؛ لذلك نقول لمن يكابر حتى الآن ويقول بعدم دوران الأرض: عليك أن تعترف إذن أن هؤلاء الذين يتنبأون بالكسوف والخسوف يعلمون الغيب. فالأقرب - إذن - أن نقول: إنها لله الذي خلقها على هذه الهيئة من الانضباط والدقة، فاجعلها لله بدل أنْ تجعلها للعلماء.
ثم يقول سبحانه: } ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ... { [الروم: 25] معنى } دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ... { [الروم: 25] المراد النفخة الثانية، فالأولى التي يقول الله عنها:{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }[يس: 29] والثانية يقول فيها:{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }[يس: 53].
فالأولى للموت الكلي، والثانية للبعث الكلي، ولو نظرت إلى هاتين النفختين وما جعل الله فيهما من أسرار تلتقي بما في الحياة الدنيا من أسرار لوجدتَ عجباً.
فكل لحظة من لحظات الزمن يحدث فيها ميلاد، ويحدث فيها موت، فنحن مختلفون في مواليدنا وفي آجالنا، أما في الآخرة فالأمر على الاتفاق، فالذين اختلفوا في المواليد سيتفقون في البعث{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }[يس: 53].
والذين اختلفوا في الموت سيتفقون في الخمود:{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }[يس: 29] فالميلاد يقابله البعث، والموت يقابله الخمود. إذن: اختلاف هذه يعالج اتفاق هذه، واتفاق هذه يعالج اختلاف هذه؛ لذلك يقول:{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ... }[التغابن: 9].
والنفخة الثانية يؤديها إسرافيل بأمر الله؛ لأن الحق - سبحانه وتعالى - يزاول أشياء بذاته، ولا نعلم منها إلا أنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وسَّواه بيده، كما قال سبحانه:{ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... }[ص: 75] أما غير ذلك فهو سبحانه يزاول الأشياء بواسطة خَلْقه في كل مسائل الكونيات.
تأمل مثلاً:{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا... }[الزمر: 42] فالمتوفِّي هنا الله عز وجل، وفي موضع آخر:{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ... }[السجدة: 11] فنقلها إلى ملَك الموت، وفي موضع آخر:{ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا... }[الأنعام: 61] فنقلها إلى رسل الموت من الملائكة، وهم جنود لملَك الموت.
وبيان ذلك أنه سبحانه نسب الموت لنفسه أولاً؛ لأنه صاحب الأمر الأعلى فيه، فيأمر به ملَك الموت، وملَك الموت بدوره يأمر جنوده، إذن: فمردُّها إلى الله.
ثم يقول سبحانه: } إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ { [الروم: 25] أي: حين يسمع الموتى هذه الصيحة يهبُّون جميعاً أحياء، فإذا هنا الفجائية الدالة على الفجأة، وهذا هو الفارق بين ميلاد الدنيا وميلاد الآخرة، ميلاد الدنيا لم يكُنْ فجأة، بل على مهل، فالمرأة قبل أنْ تلد نشاهد حملها عدة أشهر، وتعاني هي آلام الحمل عدة أشهر، فلا فجأة إذن.
(/3359)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
نعرف أن (مَنْ) للعاقل، ولنا أن نسأل: لماذا خصَّ العاقل مع أن لك ما في الكون خاضع لله طائع مُسبِّح يدخل في دائرة القنوت لله؟ قالوا: لأن التمرد لا يأتي إلا من ناحية العقل؛ لذلك بدأ الله به، أما الجماد الذي لا عقلَ له، فأمره يسير حيث لا يتأبَّى منه شيء على الله، لا الجماد ولا الحيوان ولا النبات.
تأمل مثلاً الحمار تُحمِّله القاذورات فيحمل، فإذا رقَّيْته وجعلته مطية للركوب لا يعترض، لا عصى في الأولى، ولا عصى في الأخرى؛ لأنه مُذلَّل لك بتذليل الله، ما ذلَّلته لك بعقلك ولا بقوتك{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }[يس: 71-72].
وضربنا لذلك مثلاً بالجمل لما ذلَّله الله لك استطاع الغلام الصغير أنْ يقوده ويُنيخه ويركبه ويحمله، أما الثعبان الصغير فيُخيفك رغم صِغَره؛ لأن الله لم يُذلِّله لك.
ونقف هنا عند قوله تعالى { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [الروم: 26] فمن في السماوات نعم هم قانتون لله أي: خاضعون له سبحانه، مطيعون لإرادته لأنهم ملائكة مُكرَّمون{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6].
{ يُسَبِّحُونَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }[الأنبياء: 20].
فما بال أهل الأرض، وفيهم ملاحدة وكفار ليسوا قانتين، فكيف إذن نفهم { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [الروم: 26].
قالوا: لأنهم لما تمرَّدوا على الله وكفروا به، أو تمرَّدوا على حكمه فعصَوْه لم يتمردوا بذواتهم، إنما بما خلق الله فيهم من اختيار، ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما شذَّ واحد منهم عن مراد ربه، والله عز وجل لا يريد أنْ يحكم الإنسان بقهر القدرة، إنما يريد لعبده أنْ يأتيه طواعية مختاراً، فإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن، وبإمكانه أن يعصي ومع ذلك أطاع.
فلو أرادهم الله مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلاً، ولعصمهم كما عصم الأنبياء، ربك يريدك مؤمناً عن محبة وإخلاص لا عن قهر وغلبة؛ لذلك قال إبليس في جداله:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83].
فلا قدرة له على عباد الله المخلصين، الذين اختارهم الله لنفسه، ولا سلطانَ له عليهم، فإبليس إذن ليس في معركة مع ربه، إنما في معركة مع الإنسان. وفي موضع آخر قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ... }[الحجر: 42].
ولما عشق هؤلاء المتمرِّدون على الله التمرد، وأحبوه زادهم الله منه وأعانهم عليه؛ لأنه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فختم على قلوبهم فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، وهو سبحانه الغني عن خَلْقه؛ لذلك لما خلق الجنة خلقها لتتسع للناس جميعاً إنْ آمنوا، ولما خلق النار خلقها لتتسع للناس جميعاً إنْ كفروا، وترك لنا سبحانه الاختيار:
{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29].
وكأن الحق سبحانه يقول لنا: أنتم أحرار، فأنا مستعد للجزاء على أيِّ حال تسعكم جنتي، إنْ آمنتم جميعاً، ولا تضيق بكم النار إنْ كفرتم جميعاً.
ونقول لمن تمرَّد على الله: ينبغي أن تكون منطقياً مع نفسك، وأن تظل متمرداً على الله في كل شيء ما دمت قد ألفتَ التمرد، فإنْ جاءك المرض تتأبى عليه، وإنْ جاءك الموت ترفضه، فإذا لم تستطع فأنت مقهور لله خاضع له } كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ { [الروم: 26] خاضعون، إما عن اختيار، وإما عن قهر في كل أمر لا اختيار لك فيه، إذن: فأنت قانت رغماً عنك، وقنوتك مع تمرُّدك أبلغ في الشهادة لله.
إذن: فالمؤمن خاضع لله في منطقة الاختيار، وهي الإيمان والتكاليف، وخاضع لله فيما لا اختيار له فيه كالقضاء والأمور الاضطرارية، فهو يستقبلها عن رضا، أما الكافر فهو خاضع لله لا يستطيع الفكاك عن قضائه ولا عن قدره رغماً عنه في الأمور التي لا اختيارَ له فيها، لكنه يستقبلها بالسُّخْط وعدم الرضا، فهو كافر بالله كاره لقضائه.
فنقول لمن تمرد على الله فكفر به، أو تمرَّد على أحكامه فعصاها: ما لكم لا تتمردون على الله فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الاختيار في غير محلِّه؛ لأن الذي يختار ينبغي أنْ يأخذ الاختيار في كل شيء، لكن أنْ تختار في شيء ولا تختار في شيء آخر، فهذا لا يجوز.
(/3360)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
كثيراً ما يُحدِّثنا القرآن الكريم عن هذه المسألة ويُذكِّرنا بالبدء والإعادة، لماذا؟ يهتم القرآن بهذه المسألة ويؤكد عليها لأنها كانت الأساس في دعوته؛ لأنهم إنْ كانوا يؤمنون بأنهم يرجعون إلى الله لخافوا من عقابه؛ لذلك يؤكد لهم في مواضع كثيرة حتمية الإعادة وأنها حَقٌّ.
قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... } [الروم: 27] استُهلَّت الآية بقوله تعالى (وَهُوَ) وفي آية أخرى{ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... }[الروم: 11] فكأن (هُوَ) مدلولها (الله) وهو كما نعلم ضمير غيبة، والحق سبحانه غَيْب عن الأنظار، ومن عظمته سبحانه أنه غيب، فلو كان مُدْركاً مُحسَّاً ما استحق أنْ يكون إلهاً، وكيف نطمع في إدراكه سبحانه ونحن لا نستطيع أن ندرك بعض مخلوقاته؟
فالمعاني التي خلقها الله لتسوس حركة الحياة: كلمة الحق، العدل، الحق الذي يقف القضاء كله ليؤيده ويُعلنه، والعدل الذي يحكم موازين الحياة؛ ليوازن بين الشهوات وبين الحقائق، هذه المعاني لا تُدرَك بالحواس، فهل رأيتم العدل؟ هل سمعتم العدل؟ هل شممتم العدل؟... الخ.
إذن: فالمعاني العالية لا يمكن أنْ تُدرك لأنها أرفع من الإدراك؛ لأن بها يكون الإدراك، أيكون المخلوق للحق أسمى من أنْ يُدرك، ويكون الحق سبحانه موضعاً للإدراك.
فإذا سمعت (هُوَ) فاعلم أنها لا تنصرف إلا إلى الإله الواحد الذي من عظمته أنه لا يُدرَك{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... }[الأنعام: 103].
لذلك نقرأ في سورة الإخلاص{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] فترى أن (الله) لفظ الجلالة، وهو عَلَم على واجب الوجود يأتي بعد (هُوَ) فكأن (هُوَ) أدلُّ على وجود الحق سبحانه من لفظ الجلالة (الله)، فكأنه لا يصح حين يُطلَق ضمير الغيبة (هُوَ) على شيء إلا الله؛ لأنه لا شيء في الكون إلا الله.
وقوله تعالى هنا { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ... } [الروم: 27] بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرارية، مع أنه سبحانه بدأ الخَلْق بالفعل{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }[الأعراف: 29] فإنْ ذكرت الأولى فقد بدأ الخَلْق، وإن ذكرت الاستمرارية في الإيجاد فهو يبدأ دائماً، وفي كل وقت ترى في خَلْق الله شيئاً جديداً، فالخَلْق لم يأتِ مرة واحدة، ثم توقف، بل بدأ ثم استمر.
ونلحظ أن القرآن يذكر هذه المسألة مرة بالماضي (بَدَأ) ومرة بالمضارع (يَبْدأ)؛ لأن الخالق سبحانه بدأ الخلق فعلاً بخَلْق آدم عليه السلام الإنسان الأول:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ }[السجدة: 7] ولا يزال سبحانه بقيوميته خالقاً، يبدأ كل يوم وكل لحظة خَلْقاً جديداً نشاهده في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات.. الخ.
وبالخَلْق المتجدِّد للإنسان، حيث يُولَد كل لحظة مولود جديد نردُّ على الذين يقولون بتناسخ الأرواح - يعني: أن الروح تخرج من جسد فتحلُّ في جسد آخر - وهذا يعني أن تكون المواليد على قدر الوَفيَات، ويعني أن يظل العالم على تعداد واحد دون زيادة، ونحن نرى الآن مدى الكثافة السكانية التي يشكو العالم منها الآن، وهذه تكفي لهدم هذه النظرية.
والحق سبحانه يُحذِّرنا أن نأخذ قصة بَدْء الخلق من غير الخالق سبحانه، فمن الناس مضلون سيضلونكم في هذه المسألة، فلا تُصغْون إليهم؛ لأن الله يقول:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
وقد رأينا من هؤلاء المضلين مَنْ يقول بأن الإنسان أصله قرد متطور إلى إنسان، والردُّ على هذه الضلالات يسير، فإذا كان القرد تطور إلى إنسان، فلماذا لم تتطور باقي القرود؟ ولماذا لم يتطور الإنسان منذ أنْ خُلِق آدم وحتى الآن إلى شيء آخر؟ وكيف نصدق هذه الضلالات، وربنا سبحانه يقول:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[الذاريات: 49].
ويقول سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] فإياك أنْ تقول: إن شيئاً تطور عن شيء، فكل جنس قائم بذاته منذ خلقه الله.
إذن: احذروا مثل هذه الأقوال، ولا تأخذوا قصة بَدْء الخَلْق إلا من الله وحده.
كلمة } يُعِيدُهُ... { [الروم: 27] أي: إلى الخَلْق فهي بمعنى يخلقه، فالمعنى: يبدأ الخلق ثم يميته ثم يُعيده، البعض يظن أن يعيده يعني يبعثه في الآخرة، لكن الله تعالى يقول:{ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[الروم: 11] فيعيده غير تُرجعون، ترجعون أي: في القيامة.
وقوله } وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... { [الروم: 27] أي: على حَسْب فهمكم أنتم للأشياء، وإلا فالله تعالى لا يقال في حقه هذا سهل وهذا أسهل، ولا هيِّن وأهون؛ لأنه سبحانه لا يزاول الأشياء كما نزاولها نحن، ولا يعالج الأفعال، إنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.
ومن ذلك قوله تعالى لزكريا عليه السلام لما تعجب أن يكون له ولد، وقد بلغ من الكِبَر عتياً وامرأته عاقر:{ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... }[مريم: 9] ذلك لأن طلاقَة القدرة لا تقف عند أسبابكم. وكذلك قال لمريم:{ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... }[مريم: 21].
فالأمر عجيب في نظر مريم، أن تأتي بولد بدون زوج؛ لكنه ليس عجيباً في قدرة الله، فإنْ كانت العادة أنْ يأتي الولد بالأسباب فالله سبحانه هو خالق الأسباب، يفعل ما يشاء بدونها.
وسبق أن تحدثنا عن طلاقة قدرة الله في قصة إبراهيم عليه السلام حينما أراد القوم أنْ يحرقوه، فلو كانت المسألة مسألة نجاة إبراهيم من النار ما مكّنهم الله من الإمساك به، أو: حتى إنْ أمسكوه وألقَوْه في النار كان بالإمكان أنْ يُنزِل الله على النار مطراً فتنطفيء.
لكن الحق سبحانه يريد أن يسدَّ على الكافرين منافذ الحِجَاج، ويبطل كفرهم، فهاهم قد ظفروا به وألقَوْه في قَعْر النار، وهي على حال الاشتعال والإحراق، لكنهم غفلوا عن شيء هام، هو أن الله تعالى ربُّ هذه النار وخالقها وخالق قوة الإحراق فيها، وهو وحده القادر على أنْ يسلبها هذه الخاصية، فيلقى فيها نبيه إبراهيم دون أن يحترق.
وهنا تكِمن العظمة وتظهر الحجة{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الأنبياء: 69].
ونلحظ فصاحة الأداء في } وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ... { [الروم: 27] فهو أسلوب قَصْر، حيث قدّم المتعلق الذي حقُّه أن يكون مؤخراً، كما في{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ... }[الفاتحة: 5] فقدّم المفعول، ومن حق المفعول أن يُؤخّر عن الفعل والفاعل، وقدَّمه هنا، لنقصر العبادة على الله وحده دون سواه، وحتى لا نعطف على الله تعالى شيئاً، فلو قلت نعبدك لجاز أن تقول: ونعبد غيرك، كذلك هنا } وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ... { [الروم: 27] أفادت تخصيص الخلق لله وحده دون أن نعطف عليه أحداً.
وقوله تعالى } وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... { [الروم: 27] الحقيقة ليس في الأمور بالنسبة لله تعالى هَيِّن وأهون، إنما في عُرْفنا نحن، وليُقرِّب لنا الحق سبحانه فَهْم المسائل، وإلا فالحق سبحانه لا يعالج الأمور ولا يزاولها كما نعالجها نحن، وإنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.
لذلك لما نتأمل قَوْل مريم عليها السلام لما بشَّرتها الملائكة بالمسيح قالت:{ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ... }[آل عمران: 47] فكيف فهمتْ مريم هذه المسألة، ومَنْ أخبرها بأن الولد سيكون دون أن يمسَّها بشر؟
لقد فهمت مريم هذا من قول الملائكة{ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... }[آل عمران: 45]. فلو كان له أبٌ لذكرته الملائكة، وما داموا قد نسبوه إلى أمه فلا أب له.
ثم يقول سبحانه: } وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَىا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... { [الروم: 27] له المثل الأعلى يعني: أن الله تعالى لا مثيل له، فإنْ شابهه سبحانه شيء من خَلْقه في صفة من الصفات فخُذْها في إطار التقريب للمعنى، وفي إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11] فلك وجود لله تعالى وجود، لكن وجودك ليس كوجود الله، أنت حَيٌّ والله حَيٌّ، لكن حياتك ليست كحياته عز وجل.. وهكذا.
وقوله } الْمَثَلُ الأَعْلَىا... { [الروم: 27] نقول: عالٍ وأعلى، فهي أفعل تفضيل بمعنى: الذي لا يُشابه ولا يُضاهي؛ لذلك يقول سبحانه{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 1] فينفي أن يوجد شبيه لمثل الله لا شبيه لله؛ لأن الكاف هنا بمعنى: مثل. فكأنك قلت: ليس مِثْل مِثْله شيء.
وطريقة العرب في الأداء في مسألة المشابهة يقولون: زيد مثل الأسد في الشجاعة، فأنت تريد أن تعطيني صورة لشجاعة زيد، فذكرت أوضح شيء لهذه الصفة وهو الأسد، فهو مُشبَّه به.
إذن: فالأسد أقوى من زيد في هذه الصفة، وإلا لما جعلتَ المشبّه به توضيحاً لما لا تعلم.
فحين تقول:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.... }[الشورى: 1] تعني: إنْ وُجد مِثْل لله لا يوجد مثل لهذا المثْل، فنفيتَ المثل من باب أَوْلَى؛ لأن الأضعف وهو المثل المشبه أضعف من المشبه به، فإذا كان المثل أضعف من الممثَّل ولا يوجد مثل للأضعف، فكيف يوجد مثل للأقوى؟
وانظر إلى جمال الحق سبحانه حين يُجلِّي للخَلْق مثَلاً في دنياهم، ويجعل من ذاته - سبحانه وتعالى - المماثلة، يقول تعالى ليُقرِّب لأفهامنا كيفية نوره:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ... }[النور: 35].
فالله - سبحانه وتعالى - يضرب المثَل لنوره بالمشكاة، السطحيون يظنون أن المشكاة هي المصباح، لكن الله يقول{ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... }[النور: 35] والمشكاة تجويف في الحائط، مثل الطاقة غير نافذة، فإنْ كانت نافذة نسميها شباكاً، وكانوا في الماضي يضعون المصباح في هذه الفجوة ليضيء الحجرة، والفجوة هذه أو المشكاة تجمع الضوء وتُقوِّيه؛ لذلك يكون الضوء فيها أقوى من ضوء الحجرة، أو: أن المصباح يستوعب المشكاة أكثر من استيعابه للحجرة كلها.
وبتأمل هذا المعنى نرى أن الحق سبحانه لا يضرب لنا مثَلاً لنوره إنما لتنويره، فتنوير الله تعالى مِثْل المشكاة التي فيها المصباح، والمصباح يدلُّ على الرقي في وسائل الإضاءة، فدونه مثلاً الشعلة، وهو فتيل يُوقَد في الهواء ويكون له دخان أسود، أما المصباح فله زجاجة تحجز عنه الهواء إلا بقدر ما يكفي لاحتراق الفتيل، فيأتي الضوء منه صافياً.
ثم هو فضلاً عن ذلك في زجاجة ليست عادية، إنما{ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ... }[النور: 35] أي: مثل الدرة التي تضيء بذاتها، هذا المصباح يُوقَد من شجرة زيتونة معتدلة المزاج{ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ... }[النور: 35] فتصوُّر هذا المصباح في مكان ضيق لا في الحجرة كلها، إنما في المشكاة كيف يكون ضوؤه؟
كذلك تنوير الله - سبحانه وتعالى - للسماوات والأرض على سعتهما، فنوره تعالى يستوعبهما، لا يترك منهما مكاناً مظلماً كالطاقة بالنسبة لهذا المصباح الذي وصفنا.
ولهذا المثل قصة شهيرة في الأدب العربي، فقد فطن إليها أبو تمام في مدحه أحد الخلفاء، وحين أراد أنْ يجمع له مَلَكات العرب ومواهبهم من الجود والشجاعة والحِلْم والذكاء، قال مادحاً:إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتمٍ وفي حِلْم أحْنفَ في ذَكاءِ إيَاسِوقد اشتهر عمرو بن معدي كرب بالشجاعة والإقدام، واشتهر حاتم الطائي بالكرم، وأحنف بن قيس بالحلم حتى قيل " أحلم العرب " فلا يُغضِبه شيء أبداً، ولا يُخرجه عن حِلْمه، حتى أن جماعة قصدوا أنْ يخرجوه عن حِلْمه، فتكون سابقة لهم فتبعوه في الطريق، وأخذوا يهزءُون به وهو يضحك، حتى قارب من الحي، فنظر إلى هؤلاء الفتية وقال: أيها الفتية، لقد قربنا من الحيِّ، فإنْ كان في جوفكم استهزاء بي فافرغوا منه؛ لأنهم لو ظفروا بكم لقتلوكم.
أما إياس بن معاوية فكان مَضْرب المثَل في الذكاء، وهكذا جمع أبو تمام لممدوحه خلاصة ما تعرفه العرب من مواهب. وهنا قام له واحد من خصومه وقال: أتُشبِّه الخليفة بأجلاف العرب، فمَنْ يكون هؤلاء إذا ما قُورِنوا بأمير المؤمنين؟
وهذا الاعتراض مأخوذ من قول الشاعر:وشَبَّهه المدَّاحُ في البَأْسِ والنَّدَى بمَنْ لوْ رآهُ كانَ أصْغر خَادمِفَفِي جيشه خَمسُونَ ألفاً كَعنترٍ وأَمْضَى وفي خُدَّامهِ ألفُ حاتمِفلما قيل لأبي تمام: كيف تشبه الخليفة بأجلاف العرب أحجم هنيهة ثم رفع رأسه، وقال:لاَ تُنكِروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسفالله قد ضَربَ الأقلَّ لِنُورِه مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِومع دقَّة الاستشهاد وطرافته إلا أن خصومه اتهموه بأن ذلك ليس ارتجالاً لوقته، إنما هو مُعدٌّ لهذا الموقف سلفاً، وبعض الدارسين للأدب يقول بذلك وقاله لنا مدرس الأدب، لكن يُروَى أنهم لما أخذوا الورقة التي مع أبي تمام لم يجدوا فيها هذه الأبيات، ثم على فرض أن الرجل أعدَّها قبل هذا الموقف فإنها تُحسَب له لا عليه، وتضيف إليه ذكاءً آخر؛ لأنه استدرك على ما يمكن أنْ يُقال فاستعد له.
وكما أن الحق سبحانه وتعالى له المثَل الأعلى في الأرض، فلا مثيلَ له، كذلك له المثل الأعلى في السماء فلا مثيلَ له، مع أن ما في السماء غيب، وهم الملائكة من صفاتهم كذا وكذا، فلله المثَل الأعلى في السماوات.
ثم يقول سبحانه: } وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [الروم: 27] أي: أنه سبحانه وتعالى بذاته عزيز لا يُغلب، ومع عزته سبحانه حكيم لا يظلم.
ثم يقول الحق سبحانه: } ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ... {.
(/3361)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
ضَرْب المثل أسلوب من أساليب القرآن للبيان والتوضيح وتقريب المسائل إلى الأفهام، ففي موضع آخر يقول سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. }[البقرة: 26].
وقال سبحانه:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ... }[الحج: 73] فهذا كثير من كتاب الله، والمثَل يُضرب ليُجلِّي حقيقة. والضَّرْب هنا لا يعني إحداث أثر ضار بالمضروب، إنما إحداث أثر نافع إيجابي كما في قوله تعالى:{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ... }[المزمل: 20].
وقولنا في مسألة سكِّ العملة: ضُرِبَ في كذا، فكأن الضرب يُحدث في المضروب أثراً باقياً، ففي الأرض بإثارة دفائنها واستخراج كنوزها، وفي العملة بتَرْكِ أثر بارز لا تمحوه الأيدي في حركة التداول، وكأن ضَرْب المثَلَ يوضح الشيء الغامض توضيحاً بيِّناً كما تُسَكّ العملة، ويجعل الفكرة في الذهن قائمة واضحة المعالم. وللضرب عناصر ثلاثة: الضارب، والمضروب، والمضروب به.
ويُروى في مجال الأمثال أن رجلاً خرج للصيد معه آلاته: الكنانة وهي جُعْبة السهام، والسهام، والقوس، فلما رأى ظبياً أخذ يُعدّ كنانته وقَوْسه للرمي لكن لم يمهله الظبي وفَرَّ هارباً، فقال له آخر وقد رأى ما كان منه: قبل الرِّماء تُملأ الكنائن، فصارت مثلاً وإن قيل في مناسبة بعينها إلا أنه يُضرَب في كل مناسبة مشابهة، ويقال في أيِّ موضع كما هو وبنفس ألفاظه دون أن نُغيِّر فيه شيئاً.
فمثلاً، حين ترى التلميذ المهمل يذاكر قبيل الامتحان، وحين ترى مَنْ يُقدِم على أمر دون أنْ يُعدّ له عُدَّته لك أنْ تقول: قبل الرِّماء تُملأ الكنائن. إذن: هذه العبارة صار لها مدلولها الواضح، وترسَّخَتْ في الذِّهْن حتى صارتْ مثَلاً يُضرب.
وتقول لمن تسلَّط عليك وادَّعى أنه أقْوى منك: إنْ كنتَ ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً.
والحق سبحانه يضرب لنا المثل للتوضيح ولتقريب المعاني للأفهام؛ لذلك يقول سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] يقف هنا بعض المتمحكين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله، يقولون: ما دام الله تعالى لا يستحي أنْ يضرب مثلاً بالبعوضة فما فوقها من باب أَوْلى، فلماذا يقول{ فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26].
وهذا يدل على عدم فهمهم للمعنى المراد لله عز وجل، فالمعنى: فما فوقها أي: في الغرابة وفي القلة والصِّغر، لا ما فوقها في الكِبَر.
ومن الأمثلة التي ضربها الله لنا ليوضح لنا قضية التوحيد قوله تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر: 29]
فالذي يتخذ مع الله إلهاً آخر كالذي يخدم سيدين وليتهما متفقان، إنما متشاكسان مختلفا، فإنْ أرضى أحدهما أسخط الآخر، فهو متعب بينهما، فهل يستوي هذا العبد وعبد آخر يخدم سيداً واحداً؟ كذلك في عبادة الله وحده لا شريك له.
فبالمثال اتضحت القضية، ورسختْ في الأذها؛ لذلك يقول سبحانه: أنا لا أستحي أنْ أضرب الأمثال؛ لأنني أريد أن أوضح لعبادي الحقائق، وأُبيِّن لهم المعاني.
} ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ... { [الروم: 28].
في هذه الآية وبهذا المثَل يؤكد الحق - سبحانه وتعالى - في قمة تربية العقيدة الإيمانية، يؤكد على واحدية الله وعلى أحديته، فالواحدية شيء والأحدية شيء آخر: الواحدية أنه سبحانه واحد لا فرد آخر معه، لكن هذا الفرد الواحد قد يكون في ذاته مُركّباً من أجزاء، فوصف نفسه سبحانه بأنه أحدٌ أي: ليس مُركَّباً من أجزاء. أكَّد الله هذه الحقيقة في قرآنه بالحجج وبالبراهين، وضرب لها المثل. وهنا يضرب لنا مثلاً من أنفسنا ليؤكد على هذه الوحدانية.
وقوله تعالى: } مِّنْ أَنفُسِكُمْ... { [الروم: 28] يعني: ليس بعيداً عنكم، وأقرب شيء للإنسان نفسه، إذن: فأوضح مثَل لما غاب عنك أنْ يكون من نفسك، ومن ذلك قوله تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] أي: من جنسكم تعرفون نشأته، وتعرفون خُلُقه وسيرته.
لكن، ما المثَل المراد؟
المثل: } هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ... { [الروم: 28].
يقول سبحانه: أريد أنْ أضرب لكم مثلاً على أن الإله الواحد يجب عقلاً ألاَّ تشركوا به أشياء أخرى، والمثل أنِّي أرزقكم، ومن رزقي لكم مَوَال وعبيد، فهل جئتم للرزق الذي رزقكم الله وللعبيد وقلتم لهم: أنتم شركاء لنا في أموالنا تتصرفون فيها كما نتصرف نحن، ثم جعلتم لهم مطلق الحرية والتصرف، ليكونوا أحراراً أمثالكم تخافونهم في أنْ تتصرفوا دونهم في شيء كخيفتكم أنفسكم؟ هل فعلتم ذلك؟ بل هل تقبلونه على أنفسكم؟ إذن: لماذا تقبلونه في حق الله تعالى وترضَوْن أنْ يشاركه عبيده في مكله؟
إنكم لم تقبلوا ذلك مع مواليكم وهم بشر أمثالكم ملكتموهم بشرع الله فائتمروا بأمركم. هذا معنى } مِّنْ أَنفُسِكُمْ... { [الروم: 28] أي: من البشر، فهم مثلكم في الآدمية، وملكيتكم لهم ليست مُطْلقة، فأنتم تملكون رقابهم، وتملكون حركة حياتهم، لكن لا تملكون مثلاً قتلهم، ولا تملكون منعهم من فضاء الحاجة، لا تملكون قلوبهم وإرادتهم، ثم هو مُلْك قد يفوتك، كأن تبيعه أو تعتقه أو حتى بالموت. ومع ذلك ما اتخذتموهم شركاء، فعَيْب أنْ تجعلوا لله ما تستنكفون منه لأنفسكم.
ونلحظ هنا أن الله تعالى لم يناقشهم في مسألة الشركاء بأسلوب الخبر منه سبحانه، إنما اختار أسلوب الاستفهام وهو أبلغ في تقرير الحقيقة: } هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ... { [الروم: 28].
وأنت لا تعدل عن الخبر إلى الاستفهام عنه إلا وأنت تعلم وتثق بأن الإجابة ستكون في صالحك، فمثلاً حين ينكر شخصٌ جميلَك فتقول مُخبراً: فعلتُ معك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وقد ينكر فيقول: لا لم تفعل معي شيئاً.
أما حين تقول مستفهماً: ألم أفعل فعل كذا وكذا؟ فإنك تُلجئه إلى واقع لا يملك إنكاره، ولا يستطيع أنْ يفرّ منه، ولا يملك إلا أنْ يعترف لك بجميلك ولا أقلَّ من أنْ يسكت، والسكوت يعني أن الواقع كما قلت.
لذلك يستفهم الحق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه } هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ... { [الروم: 28] لا بدّ أنْ يقولوا: لا ليس لنا شركاء في أموالنا، إذن: لماذا جعلتم لله شركاء؟
وقوله تعالى: } فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ... { [الروم: 28] سبق أنْ تحدثنا في مسألة الرزق وقلنا: إن الله تعالى هو الرازق، ومع ذلك احترم ملكية خَلْقه، واحترم سعيهم: لأنه سبحانه واهب هذا الملك، ولا يعود سبحانه في هبته لخَلْقه؛ لذلك لما أراد أنْ يُحنن قلوب خَلْقه على خَلْقه قال:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً... }[البقرة: 245] فاعتبر صدقتك على أخيك الفقير قرضاً يردّه إليك مُضَاعفاً.
والرزق لا يقتصر على المال - كما يظن البعض - إنما رزقك كلّ ما انتفعتَ به فهو رزق ينبغي عليك أن تفيض منه على مَنْ يحتاجه، وأن تُعدِّيه إلى مَنْ يفتقده، فالقويُّ رزقه القوة يُعدِّيها للضعيف، والعالم رزقه العلم يُعدِّيه للجاهل، والحليم رزقه حلْم يُعدِّيه للغضوب وهكذا، وإلا فالمال أهون ألوان الرزق؛ لأن الفقير الذي لا يملك مالاً ولم يتصدق أحد عليه قصارى ما يحدث له أن يجوع ويُباح له في هذه الحالة أنْ يسأل الناس، وما رأينا أحداً مات جوعاً.
لكن ينبغي على الفقير إنْ ألجأتْه الحاجة للسؤال أنْ يسأل بتلطُّف ولين، فإنْ كان جائعاً لا يسأل الناس مالاً إنما لقمة عيش وقطعة جبن أو ما تيسَّر من الطعام ليسُدّ جَوْعته، وسائل الطعام لا يكذبه أحد لأنه لا سأل إلا عن جوع، حتى لو سألك وهو شبعان فأعطيتَه ما استطاع أنْ يأكل، أما سائل المال فقد نظن فيه الطمع وقصد الادخار. إذن: أفضح سؤال سؤال القوت.
لذلك في قصة الخضر وموسى عليهما السلام:{ فَانطَلَقَا حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا.. }[الكهف: 77] فلما منعوهم حتى لقمة العيش استحقُّوا أنْ يوصفوا بألأَم الناسِ، وقد أباح الشرع للجائع أن يسأل الطعام من اللئيم فإن منعه فللجائع أن يأخذه ولو بالقوة، وإذا رفع أمره إلى القاضي أيَّده القاضي، لذلك يقولون فيه: طالب قُوتٍ ما تعدَّى.
والحق سبحانه تكفَّل لك برزقك، إنما جعل للرزق أسباباً وكل ما عليك أنْ تأخذ بهذه الأسباب ثم لا تشغل بالك هماً في موضوعه، وإيالك أن تظن أن السَّعْي هو مصدر الرزق، فالسعي سبب، والرزق من الله، وما عليك إلا أنْ تتحرى الأسباب، فإنْ أبطأ رزقك فأرحْ نفسك؛ لأنك لا تعرف عنوانه، أمّا هو فيعرف عنوانك وسوف يَأتيك يطرق عليك الباب.
والذي يُتعب الناس أنْ يظل الواحد منهم مهموماً لأمر الرزق مُفكِّراً فيه، ولو علم أن الذي خلقه واستدعاه للوجود قد تكفَّل برزقه لاستراح، فإنْ أخطأت أسباب الرزق في ناحية اطمئن فسوف يأتيك من ناحية أخرى.
ونذكر هنا قصة عروة بن أذينة وكان صديقاً لهشام بن عبد الملك بالمدينة قبل أنْ يتولى هشامٌ الخلافة، فلما أصبح هشام أميراً للمؤمنين انتقل إلى دمشق بالشام، أما عروة فقد أصابته فاقة، فلما ضاق به الحال تذكّر صداقته القديمة لهشام، وما كان بينهما من وُدٍّ، فقصده في دمشق علَّه يُفرِّج ضائقته.
جاء عروة إلى دمشق واستأذن على الخليفة فأذن له، فدخل وعرض على صاحبه حاجته وكله أمل في أنْ ينصفه ويجبر خاطره، لكن هشاماً لم يكن مُوفّقاً في الردِّ على صديقه حيث قال: أتيتَ من المدينة تسألني حاجتك وأنت القائل:لَقد عَلمْتِ ومَا الإِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنَّ الذي هُو رِزْقي سوفَ يَأْتِينيفقال عروة بعد أن كسر صديقه بخاطره: جزاك الله عني خيراً يا أمير المؤمنين، لقد نبَّهتَ مني غافلاً، وذكَّرتَ مني ناسياً، ثم استدار وخرج.
وعندها أدار هشام الأمر في نفسه وتذكّر ما كان لعروة من وُدٍّ وصداقة، وشعر بأنه أساء إليه فأنَّبه ضميره، فاستدعى صاحب الخزانة، وأمر لعروة بعطية كبيرة، وأرسل بها مَنْ يلحق به.
لكن كلما وصل الرسول إلى (محطة) وجد عروة قد فارقها حتى وصل إلى المدينة، ودقَّ على عروة بابه، وكان الرسول لَبِقاً، فلما فتح عروة الباب قال: ما بكم؟ قال: رسل هشام، وتلك صِلَة هشام لك لم يَرْضَ أنْ تحملها أنت خوفاً عليك من قُطاع الطريق، أو تحمل مؤونة حَمْلها، فأرسلنا بها إليك.
فقال عروة: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، قولوا له لقد ذكرت البيت الأول، ولو ذكرت الثاني لأرحتَ واسترحتَ، لقد قلت:لَقد عَلمْتِ ومَا الإِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنَّ الذي هُو رِزْقي سوفَ يَأْتِينيأَسْعى إِليْهِ فَيْعْييني تطلبّه ولَوْ قَعَدْتُ أتَاني لا يُعنِّينَيثم يقول سبحانه بعد هذا المثل: } كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] أي: نُبيِّنها إلا إليها، ومعنى } يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] من العقل، وسُمِّي عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه ويقيده عما لا يليق.
والبعض يظن أن العقل إنما جُعل لترتع به في خواطرك، إنما هو جاء ليقيد هذه الخواطر، ويضبط السلوك، يقول لك: اعقل خواطرك وادرسها لا تنطلق فيها على هواك تفعل ما تحب، بل تفعل ما يصح وتقول ما ينبغي. إذن: ما قصَّرنا في البيان ولا في التوضيح.
ويتجلَّى دور العقل المجرد وموافقته حتى للوحي في سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه، وفي وجود رسول الله، وهو ينزل عليه الوحي يأتي عمر ويشير على رسول الله بأمور، فينزل الوحي موافقاً لرأي عمر، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يلفت أنظارنا إلى أن العقل الفطري إذا فكَّر في أمر بعيداً عن الهوى لا بُدَّ أنْ يصل إلى الصواب وأنْ يوافق حقائق الدين، أمّا إنْ تدخَّل الهوى فسد الفكر.
وقوله تعالى } كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] العقل وسيلة من وسائل الإدراك في الإنسان؛ لأن الله تعالى قال:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78].
لكن، كيف تُربَّى الأمور العقلية في الناس؟ تُربَّى عن طريق الحواس والإدراك، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق، واليد تلمس، والأنف يشمُّ، إلى آخر الحواس التي توصلنا إليها كحاسة البين، وحاسة العضل وغيرها.
لذلك احتاط العلماء في تسمية الحواس فقالوا " الحواس الخمس الظاهرة " ليدعوا المجال مفتوحاً لحواس أخرى، فهذه الوسائل تدرك المعلومات وتنقلها إلى العقل ليراجعها وينتهي فيها إلى قضايا يجعلها دستوراً لحياته، فأنت تأكل مثلاً العسل فتدرك حلاوته، وتأكل الجبن فتدرك ملوحته، فتتكون لديك قضية عقلية أن هذا حلو، وهذا مالح.. إلخ.
وحين تستقر هذه القضايا في القلب تصير عقيدة لا تخرج للتفكير مرة أخرى، ولا تمر على العقل بعد ذلك، فقد انعقد عليها الفؤاد، وترسختْ في الذهن.
ودَوْر العقل أن يعقل هذه القضايا، وأنْ يختار بين البدائل، والأمر الذي لا بديلَ له لا عملَ للعقل فيه، فلو أنك مثلاً ستذهب إلى مكان ليس له إلا طريق واحد فلا مجال للتكفير فيه، لكن إنْ كان لهذا المكان أكثر من طريق فللعقل أنْ يفاضل بينها ويختار الأنسب منها فيسلكه.
وما دام العقل هو الذي يختار فهو الميزان الذي تَزِن به الأشياء، وتحكم به القضايا؛ لذلك لا بُدَّ له أنْ يكون سليماً لتأتي نتائجه كذلك سليمة وموضوعية، ومعلوم أن الميزان يختلف باختلاف الموزون وأهميته.
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لدقة الميزان في الشمس والقمر، فيقول{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5] أي: بحساب دقيق، ولولا الدقة فيهما ما أخذناهما ميزاناً للوقت، فبالشمس نعرف الليل والنهار، وبالقمر نعرف الشهور.
فحين يقول سبحانه } كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] يعني: أننا عملنا ما علينا من التفصيل والبيان، وتوضيح الحجج والبراهين، ولكن أنتم الذين لا تعقلون.
ولما كان العقل هو آلة الاختيار بين البدائل وآلة التمييز أعفى الحق سبحانه مَنْ لا عقل له من التكاليف، أعفى الطفل الصغير الذي لم يبلغ؛ لأن عقله لم ينضج بعد، ولأن حواسّه لم تكتمل.
وتتجلى حكمة الشارع في قول النبي صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر " فجعل من ضمن تكليف الآباء أنْ يُكلِّفوا هم الأبناء في هذه السنِّ، لتكون لهم دُرْبة على طاعة الأمر والنهي في وقت ليس عليهم تكليف مباشر من الله تعالى.
فإذا كبر الصغير يستقبل تكليفي كما استقبل تكليفك أولاً، وربُّك ما افتات عليك في هذه المسألة، فأعطاك حق التكليف بالصلاة، وأعطاك حق أنْ تعاقبه إنْ قصَّر، فأنت الذي تُكلِّف، وأنت الذي تعاقب.
وأعفى المجنون لأن آلة الاختيار عنده غير سليمة وغير صالحة، وقلنا: إن علامة النضج في الإنسان أن يصير قادراً على إنجاب مثله، ومثَّلْنا لذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نضجها، بحيث إذا أكلت زرعتَ بذرتها، فأنبتت ثمرة جديدة، وهكذا يحدث بقاء النوع وتستمر الدورة.
فربك لا يريد أن تأكل أكلة واحدة، ثم تُحرم أو يُحرم مَنْ يأتي بعدك، إنما يريد أنْ تأكل ويأكل كل مَنْ يأتي بعدك، فلا تأخذ الثمرةُ حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها، وصلاحيتها للإنبات.
وقوله تعالى: } لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] يدل على أن الذين يتخذون مع الله شركاء غير عاقلين، وإلا فما معنى عبادة الأصنام أو الأشجار أو الشمس أو القمر؟ وقد قالوا بألسنتهم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3].
فما هي العبادة؟ العبادة طاعة العابد لأمر المعبود ونَهْيه، إذن: بماذا أمرَتْكُم هذه الآلهة؟ وعَمَّ نهتْكُم؟ ما المنهج الذي وضعتْه لكم؟ ماذا أعدتْ لمن أطاعها من النعيم؟ وماذا أعدتْ لمن عصاها من العذاب؟ لا شيء إلا أنها آلهة بدون تكاليف، وما أيسرَ أنْ يعبد الإنسانُ إلهاً لا تكاليف له، لا يُقيدك فيما تحب من شهوات، ولا يُحمِّلك مشقة العبادة، وهنا يتضح عدم العقل.
وأيضاً عدم العقل في ماذا؟ الله خلقك في كون فيه أجناس، والأجناس تحكمها سلسلة الارتقاء، فجنس أعلى من جنس، والجنس الأعلى في خدمة الجنس الأقل.
ولو استقرأتَ أجناس الوجود تجد أن معك أيها الإنسان جنساً آخر يشاركك الحسَّ والحركة، لكن ليس له عقل واختيار بين البدائل؛ لأنه محكوم بالغريزة منضبط بها، وهذا هو الحيوان الذي لا ينفكُّ عن الغريزة أبداً.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك بالغريزة الجنسية عند الإنسان وعند الحيوان، وأن الله تعالى إنما جعلها لتكاثر وحِفْظ النوع، فالحيوان المحكوم بالغريزة يؤدي هذه المهمة للتكاثر ويقف بها عند حدِّها، فإذا لقَّح الذكر الأنثى يستحيل أنْ تمكِّنه من نفسها بعد ذلك، وهو أيضاً يشمُّ رائحة الأنثى، فإنْ كانت حاملاً ينصرف عنها.
أما الإنسان فغير ذلك؛ لأن له شهوة تتحكم فيه، فالمرأة تتحمل مشقة الحمل وألم الولادة، ثم تربية المولود إلى أنْ يكبر، ولولا أن الله تعالى ربط حِفْظ النوع في الإنسان بشهوة هي أعنف شهوات النفس ما أقدمتْ المرأة على الحمل مرة أخرى.
وما قُلْناه في غريزة الجنس نقوله في الطعام والشراب، الحيوان محكوم فيها بالغريزة المطلقة التي لا دَخْلَ للهوى فيها، فإذا شبع لا يأكل مهما حاولتَ معه، بل ونرى الحمار الذي نقول عنه إنه حمار لا يأكل عوداً واحداً بعد شِبَعه، ويمر على النعناع الأخضر مثلاً أو على الملوخية فلا يأكلها، ويذهب إلى الحشائش اليابسة، فهو يعرف طعامه بالغريزة التي جعلها الله فيه.
أما الإنسان فيأكل حتى التُّخْمة، ثم لا ينسى بعد ذلك الحلو والبارد والمهضم.. الخ ذلك؛ لأنه أسير لشهوة بطنه، حتى إن من الناس مَنْ يغضب؛ لأنه شبع فهو يريد ألاَّ يفارق المائدة.
وقد حدثنا رجال حديقة الحيوان بعد زلزال 1992 أنهم شاهدوا هياجاً في الحيوانات المحبوسة في الأقفاص قبل حدوث الزلزال، كان أولها الوطواط، ثم الزرافة، ثم التمساح، ثم القرود، ثم الحمير، وكأنهم يريدون تحطيم الأقفاص والخروج منها، بعدها حدث الزلزال.
وكذلك ما شاهده أهل أغادير بالدار البيضاء قبل الزلزال الذي وقع بها، حيث شاهدوا الحمير تفك قيودها، وتفرّ هاربة إلى الخلاء، وبعدها وقع الزلزال. إذن: لدى هذه الحيوانات استشعار بالزلزال قبل أن يقع.
وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - مثالاً لهذه الغريزة في قصة الغراب الذي علَّم الإنسان كيف يُواري الميت، فقال تعالى في قصة وَلَدَيْ آدم:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ... }[المائدة: 31].
نعود إلى حديثنا عن أجناس الكون لبيان عدم عَقْل هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء، فأجناس الوجود: الإنسان، ثم الحيوان، ثم النبات، ففيه حياة ونمو، ثم الجماد أقل الموجودات درجة، وهو خادم للنبات وللحيوان وللإنسان، فكل جنس من هذه يخدم الجنس الأعلى منه.
فماذا فعل الكفار حينما عبدوا الأصنام؟ جعلوا الجماد الذي هو أدنى المخلوقات أرقاها وأعظمها، جعلوه إلهاً يُعْبد، وهل هناك أقلّ عقلاً من هؤلاء؟
لذلك يقول الحق سبحانه: } بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ... {.
(/3362)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
اتبعوا اهواءهم: لأنهم اختاروا عبادة مَنْ لا منهجَ له ولا تكليف، عبدا إلهاً لا أمر له ولا نهي، لا يرتب على التقصير عقوبة، ولا على العمل ثواباً، وهذا كله من وحي الهوى الذي اتبعوه.
إياك أن تُقدِّم الهوى على العقل؛ لأنك حين تُقدِّم الهوى يصير العقل عقلاً تبريرياً، يحاول أنْ يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته، لكن بالعقل أولاً حدِّد الهوى، ثم اجعل حركة حياتك تبعاً له.
والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلاقه، لكن الهوى الواحد غير مذموم، أما المذموم فهي الأهواء المتعددة المتضاربة؛ لأن الهوى الواحد في القلب يُجنِّد القالب كله لخدمة هذا الهوى، فحين يكون هواى أنْ أذهب إلى مكان كذا، فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية، فيحدد الطريق، ويُعد الزاد، ويأخذ بأسباب الوصول.
وهذا الهوى هو المعنىّ في الحديث الشريف: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أن يكون للإنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه؛ لأن ذلك الهوى يُعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة.
أما حين تتعدد الأهواء فَلَك محبوب، ولي محبوب آخر، فإنها لا شكَّ تتعارض وتتعاند، والله تعالى يريد من المجتمع الإيماني أن تتساند كل أهوائه، وأن تتعاضد لا تتعارض، وأن تتضافر لا تتضارب؛ لأن تضارب الأهواء يُبدِّد حركة الحياة ويضيع ثمرتها.
أمّا إنْ كان هواي هو هواك، وهو هوى ليس بشرياً، إنما هوى رسمه لنا الخالق - عز وجل - فسوف نتفق فيه، وتثمر حركة حياتنا من خلاله{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14].
وسبق أنْ قُلْنا: إن صاحب الصَّنْعة في الدنيا يجعل معها كتالوجاً يُبيِّن طريقة صيانتها، والحق - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقك، وهو الذي يُحدِّد لك هواك، وأول فشل في الكون أن الناس المخلوقين لله يريدون أنْ يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم.
ونقول: هذا لا يصح؛ لأن الذي يُقنِّن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط: أولها: أن يكون على علم محيط لا يستدرك عليه، وأنت أيها الإنسان عِلْمك محدود كثيراً ما تستدرك أنت عليه بعد حين، ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلاحيته.
بل وتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره، كما يجب على مَنْ يشرِّع للناس الهوى الوحد أن يكونوا جميعاً بالنسبة له سواء، وألا ينتفع هو بما يشرِّع، وإلا لو كانت له منفعة فإنه سوف يميل إلى ما ينفعه، فلا يكون موضوعياً كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من المذاهب البشرية.
والحق - سبحانه وتعالى - هو وحده الذي لا يُستْدرك عليه؛ لأن علمه محيط بكل شيء لا تخْفى عليه خافية، والخَلْق جميعاً الذين يشرع لهم أمامه سواء، وكلهم عباده، لا يحابي منهم أحداً، ولا يميز أحداً على أحد، وليس له سبحانه من خَلْقه صاحبة ولا ولد.
لذلك يطمئننا سبحانه بقوله:{ وَأَنَّهُ تَعَالَىا جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3].
وكأن الله تعالى يقول: اطمئنوا، فربّكم ليس له صاحبة تُؤثِّر عليه، ولا ولد يُحابيه، فالصاحبة والولد نقطة الضعف، وسبب الميْل في مسألة التشريع.
وكذلك هو سبحانه لا ينتفع بما يُشرِّعه لنا، لأنه سبحانه خلقنا بقدرته، وهو الغني عنَّا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصي، إذن: فهو سبحانه وحده المستكمل لشروط التشريع، والمستحق لها سبحانه، وبيان الهوى الواحد الذي يجتمع عليه كل الخَلْق.
وسبق أن ذكرنا في مسألة التشريع أنه لا ينبغي أن تنظر إلى ما أُخِذ منك، بل قارن بين ما أخذتَ وما أعطيتَ، فالذي منعك أنْ تعتدي على الآخرين وأنت فرد واحد منع الخَلْق جميعاً أنْ يعتدوا عليك، فالتشريع إذن في صالحك أنت.
إذن: لو عقلنا لأخذنا هوانا الواحد من إله واحد هو الله - عز وجل - لكن الخيبة أنهم ما استمعوا هذا الكلام وما عقلوه.
} بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ... { [الروم: 29] ظلموا لأنهم عزلوا الهوى الواحد، ونَحَّوه جانباً، وأخذوا أهواءً شتى تعارضتْ وتضاربت، فلم يصلوا منها إلى نتيجة.
وما ظلموا بالشرك إلا أنفسهم، والله تعالى يقول:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13] ظلموا أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية، وغفلوا عن عاقبة ذلك، فهم إما كارهون لأنفسهم، أو يحبونها حباً أحمق، وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه.
وقوله تعالى: } بِغَيْرِ عِلْمٍ... { [الروم: 29] أولاً: ما هو العلم؟ في الكون قضايا نجزم بها، فإنْ كان ما نجزم به مطابقاً للواقع ونستطيع أن ندلل عليه - كما نُعلِّم مثلاً الولد الصغير: الله أحد، فإن استطاع أن يدلل عليها فهي عِلْم، وإنْ لم يستطع فهي تقليد.
وكمن يقول مثلاً: الأرض كروية وهي فعلاً كذلك، أما مَنْ يكابر حتى الآن ويقول ليست كروية، والواقع أنها كروية، فهذا جهل.
إذن: نقول ليس الجهل ألاَّ تعلم، إنما الجهل أنْ تععلم قضية على خلاف الواقع؛ لذلك نُفرِّق بين الجاهل والأمي: الأمي خالي الذِّهْن ليست لديه قضية من أساسه، فإنْ أخبرته بقضية أخذها منك دون عناد، ودون مكابرة أمّا الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة، فيحتاج منك أولاً لأنْ تُخرِج القضية الفاسدة لتُلِقي إليه بالقضية الصحيحة.
فإنْ كانت القضية لا تصل إلى مرتبة أنْ نجزم بها، فتنظر: إنْ تساوي الإثبات فيها مع النفي فهي الشك، إذن: فالشكُّ قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الإثبات والنفي، فإنْ غلَّبْتَ جانب الإثبات ورجَّحته فهو ظن، أما إنْ غلَّبت جانب النفي فهو وهم.
فعندنا - إذن - من أنواع القضايا: علم، وجهل وتقليد، وظن، ووَهْم.
فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها، مطابقة للواقع، وعليها دليل، لكن ما دام هؤلاء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة، وأخذوها بدون أصولها من العلم، فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبُّوا } فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ... { [الروم: 29] فقد ألغواْ عقولهم وعطَّلوها وعشقوا الكفر بعد ما سُقْنا لهم الأدلة والبراهين.
إذن: لم يَبْقَ إلا أنْ أعينكم على ما تعتقدون، وأنْ أساعدكم عليه، فأختم على قلوبكم، فلا يدخلها إيمان ولا يفارقها كفر، لأنني رب أعين عبدي على ما يريد. وهكذا يُضل الله هؤلاء، بمعنى: يعينهم على ما هم عليه من الضلال بعد أنْ عَشِقَوه، كما قال سبحانه:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ وَعَلَىا سَمْعِهِمْ وَعَلَىا أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }[البقرة: 7].
لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة، ثم لا يَسْلُون، ولا ينسون، ويلازمون الحزن، نحذرهم ونقول لهم: لا تدعوا باب الحزن مفتوحاً، وأغلقوه بمسامير الرضا، وإلا تتابعتْ عليكم الأحزان؛ لأن الله تعالى رب يُعين عبده على ما يحب، حتى الساخط على قدره تعالى.
فالمعنى } فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ... { [الروم: 29] يعني: مَنْ ينقذه؟ ومَنْ يضع له قانون صيانته إنْ تخلَّى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له؟ لا أحد. وأنت إذا نصحتَ صاحبك وكررتَ له النصْح فلم يُطعْك تتخلى عنه، بل إن أحد الحكماء يقول: انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، فإنْ لم يطاوعك ضلّله - أو أكمل له بقية النهار غِشّاً.
وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها، فلا تدخل إلى العلم بهوى سابق، بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها، ثم ابحث القضية بموضوعية، فما تقتنع به الموازين العقلية وتُرجِّحه أدخله إلى قلبك.
والذي يُتعب الناس الآن أن نناقش قضية الإسلام مثلاً وفي القلب مَيْل للشيوعية مثلاً، فننتهي إلى نتيجة غير سليمة.
ثم يقول سبحانه: } وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ { [الروم: 29] يعني: يا ليت لهم مَنْ ينقذهم إنْ أضلَّهم الله فختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، فليس لهم من الله نصير ينصرهم، ولا مجير يجيرهم من الله، وهو سبحانه يجير ولا يُجَار عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ... {.
(/3363)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما دام الأمر كذلك، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا، وأصروا على ضلالهم، فدَعْك منهم ولا تتأثر بإعراضهم.
كما قال له ربه:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3] وقال له:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6].
فما عليك يا محمد إلا البلاغ، واتركهم لي، وإياك أن يؤثر فيك عنادهم، أو يحزنك أن يأتمروا بك، أو يكيدوا لك، فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك، بل ستنتصر عليهم.
وهذه قضية قرآنية أقولها، وتُسجَّل عليّ:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171-173].
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ... }[الحج: 40].
{ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ... }[محمد: 7].
هذه قضية قرآنية مُسلَّم بها ومفروغ منها، وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا، فإنْ جاء واقعنا مخالفاً لهذه القضية، فقد سبق أنْ أكدها واقع الأمم السابقة، وسيحدث معك مثل ذلك؛ لذلك يُطمئن الحق نبيه صلى الله عليه وسلم:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77].
فهنا { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً... } [الروم: 30] أي: دعْكَ من هؤلاء الضالين، وتفرَّغ لمهمتك في الدعوة إلى الله، وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك.
ومعنى إقامة الوجه للدين يعني: اجعل وجهْتك لربك وحده، ولا تلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وذكر الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها؛ لأن الوجه سِمة الإقبال.
ومنه قوله سبحانه:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88] يعني: ذاته تعالى.
ومعنى { حَنِيفاً... } [الروم: 30] هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذباً عند الذين يحاولون أنْ يستدركوا على كلام الله؛ لأن معنى الحنيف: مائل الساقين فترى في رِجلْه انحناء للداخل، يقال: في قدمه حنف أي ميل، فالمعنى: فأقم وجهك للدين مائلاً، نعم هكذا المعنى، لكن مائلاً عن أيِّ شيء؟
لا بُدَّ أن تفهم المعنى هنا، حتى لا تتهم أسلوب القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليصلح مجتمعاً فاسداً منحرفاً يدين بالشرك والوثنية، فالمعنى: مائلاً عن هذا الفساد، ومائلاً عن هذا الشرك، وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها، ومعنى: مال عن الباطل. يعني: ذهب إلى الحق.
و (أَقِمْ) هنا بمعنى: أقيموا، لأن خطاب الرسول خطاب لأمته، بدليل أنه سبحانه سيقول في الآية بعدها:{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ... }[الروم: 31] ولو كان الأمر له وحده لَقالَ منيباً إليه، ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى:{ ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... }[الطلاق: 1].
فالخطاب للأمة كلها في شخص رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ، والمبلِّغ هو الذي يتلقى الأمر، ويقتنع به أولاً ليستطيع أنْ يُبلِّغه؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى:{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... }
[الأحزاب: 21].
وقال } حَنِيفاً... { [الروم: 30] لأن الرسل لا تأتي إلا على فساد شمل الناس جميعاً؛ لأن الحق سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية، فالإنسان تُحدِّثه نفسه بشهوة وتغلبه عليها، فيقع فيها، لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويُؤنِّبه ضميره، فيبكي على ما كان منه، وربما يكره من أعانه على المعصية.
وهذه هي النفس اللوامة، وهي علامة وجود الخير في الإنسان، وهذه هي المناعة الذاتية التي تصدر من الذات.
وفَرْق بين مَنْ تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه، ومَنْ يُرتِّب لها ويسعى إليها، وهذا بيِّن في قوله تعالى:{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ... }[النساء: 17].
فَرْق بين مَنْ يذهب إلى باريس لطلب العلم، فتعترض طريقه إحدى الفتيات، ومَنْ يذهب إلى باريس لأنه سمع عما فيها من إغراء، فهذا وقع في المعصية رغماً عنه، ودون ترتيب لها، وهذا قصدها وسعى إليها، الأول غالباً ما يُؤنِّب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية، أما الآخر فقد ألِفَتْ نفسه المعصية واستشرتْ فيها، فلا بُدَّ أن تكون له مناعة، ليست من ذاته، بل من المجتمع المحيط به، على المجتمع أن يمنعه، وأن يضرب على يديه.
والمناعة في المجتمع لا تعني أن يكون مجتمعاً مثالياً لا يعرف المعصية، بل تحدث منه المعاصي، لكنها مُفرّقة على أهواء الناس، فهذا يميل إلى السرقة، وهذا يميل إلى النظر إلى المحرمات، وهذا يحب كذا.. إلخ.
إذن: ففي الناس مواطن القوة، ومواطن ضعف، وعلى القوي في شيء أن يمنع الضعيف فيه، وأنْ يزجره ويُقومِّه؛ لذلك يقول تعالى:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 1-3].
فإذا عَمَّ الفساد وطَمَّ كما قال تعالى عن اليهود:{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ... }[المائدة: 79] وفقد المجتمع أيضاً مناعته. فلا بُدَّ أنْ تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، لينقذ هؤلاء.
ثم يقول تعالى: } فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا... { [الروم: 30] فنحن نرى البشر يتخذون الطعوم والأمصال للتحصين من الأمراض، كذلك الحق سبحانه - وله المثل الأعلى - جعل هذا المصل التطعيمي في كل نفس بشرية، حتى في التكوين المادي.
ألا ترى قوله تعالى في تكوين الإنسان:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... }[الحج: 5].
فالمخلَّقة هي التي تكوّن الأعضاء، وغير المُخلَّقة هي الرصيد المختزن في الجسم، وبه يعوَّض أيّ خلل في الأعضاء المخلَّقة، فهي التي تمده بما يصلحه، كذلك في القيم جاء دين الله فطرت الله التي فطر الناس عليها، فإذا تدخلتْ الأهواء وحدثتْ الغفلة جاءتْ المناعة، إما من ذات النفس، وإما من المجتمع، وإما برسول ومنهج جديد.
وقد كرَّم الله أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل، فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا، ولا يزال في يوم القيامة، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبداً بحيث يفقد كله هذه المناعة، فإذا فسدتْ فيه طائفة وجدت أخرى تُقوِّمها، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم.
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة ".
وإلا لو عَمَّ الفساد هذه الأمة لاقتضى الأمر شيئاً آخر.
وحين نقرأ الآية نجد أن كلمة } فِطْرَتَ... { [الروم: 30] منصوبة، ولم يتقدم عليها ما ينصبها، فلماذا نُصِِبَتْ؟ الأسلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب، وللفعل المحذوف هنا، لتبحث عنه بنفسك، فكأنه قال: فأقم وجهك للدين حنيفاً والزم فطرت الله التي فطر الناس عليها.
لذلك يسمي علماء النحو هذا الأسلوب أسلوب الإغراء، وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثَّك على فِعْله، كذلك الحق سبحانه يغري رسوله صلى الله عليه وسلم بأنْ يُقيم وجهه نحو الدين الخالص، وأنْ يلزم فطرت الله، وألا يلتفت إلى هؤلاء المفسدين، أو المعوِّقين له.
والفطرة: يعني الخلقة كما قال سبحانه:{ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }[يوسف: 101] يعني: خالقهما، والفطرة المرادة هنا قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56].
فالزم هذه الفطرة، واعلم أنك مخلوق للعبادة.
أو: أن فطرت الله تعني: الطبيعة التي أودعها الله في تكوينك منذ خلق اللهُ آدم، وخلق منه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا... }[الأعراف: 172].
وسبق أنْ بيَّنا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا، فالإنسان لا ينشأ إلا من الميكروب الذكري الحي الذي يُخصِّب البويضة، وحين تسلسل هذه العملية لا بُدَّ أن تصل بها إلى آدم عليه السلام.
وهذه الذرة الباقية في كل منا هي التي شهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله علينا، وإلا فالكفار في الجاهلية الذين جاء رسول الله لهدايتهم، كيف اعترفوا لله تعالى بالخلق:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[الزمر: 38].
من أين عرفوا هذه الحقيقة؟ نُقِلت إليهم من هذا العهد الأول، فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خَلْق الله أنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه، فظلت هذه القضية سليمة في الأذهان مع ما حدث من فساد في معتقدات البشر.
وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الأول، حتى عند الكفار والملاحدة، فحين تكتنفهم الأحداث وتضيق بهم أسبابهم، تراهم يقولون وبلا شعور: يا رب، لا يدْعون صنماً ولا شجراً، ولا يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها، فهم يعلمون أنها كذب في كذب، ونصب في نصب.
والآن لا يخدعون أنفسهم ولا يكذبون عليها، الآن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إلا الله يلجئون إليه، ليس إلا الحق والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وما دام الله قد فطرنا على هذه الفطرة، فلا تبديل لما أراده سبحانه: } ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ... { [الروم: 30] أي: الدين الحق } وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ { [الروم: 30] أي: لا يعلمون العلم على حقيقته والتي بيَّناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع، ويمكن إقامة الدليل عليها.
ثم يقول الحق سبحانه: } مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ... {.
(/3364)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
أناب: يعني رجع وقطع صلته بغير الحق { إِلَيْهِ... } [الروم: 31] إلى الله، فلا علاقة له بالخَلْق في مسألة العقائد، فجعل كل علاقته بالله.
ومنه يسمون الناب؛ لأنه يقطع الأشياء، ويقولون: ناب إلى الرشد،,وثاب إلى رشده، كلها بمعنى: رجع، وما دام هناك رجوع فهناك أصل يُرجع إليه، وهو أصل الفطرة.
وقوله تعالى { وَاتَّقُوهُ... } [الروم: 31] لأنه لا يجوز أنْ تنيب إلى الله، وأن ترجع إليه، وأن تجعله في بالك ثم تنصرف عن منهجه الذي شرَّعه لينظم حركة حياتك، فالإنابة وحدها والإيمان بالله لا يكفيان؛ بل لا بُدَّ من تطبيق المنهج بتقوى الله، لذلك كثيراً ما يجمع القرآن بين الإيمان والعمل الصالح:{ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[الشعراء: 227].
لأن فائدة الإيمان وثمرته بعد أن تؤمن بالإله الحق، وأن منهجه هو الصدق، وفيه نفعك وسلامتك في حركة حياتك، وأنه الذي يُوصلِّك إلى سعادة الدارين، ولا معنى لهذا كله إلا بالعمل والتطبيق.
{ وَاتَّقُوهُ... } [الروم: 31] أي: اتقوا غضبه، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية، وهذه الوقاية تتحقق باتباع المنهج في افعل ولا تفعل. وسبق أن تكلمنا في معنى التقوى وكلنا: إنها تحمل معنيين يظن البعض أنهما متضاربان حين نقول: اتقوا الله. واتقوا النار. لكن المعنى واحد في النهاية؛ لأن معنى اتق الله: اجعل بينك وبين عذاب الله وغضبه وقاية، وهذا نفسه معنى: اتق النار. يعني: ابتعد عن اسبابها حتى لا تمسَّك.
وقوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ... } [الروم: 31] أقيموا الصلاة أدُّوها على الوجه الأكمل، وأدُّوها على ما أُحبُّ منكم في أدائها، فساعة أناديك: الله أكبر يجب أن تقبل عليَّ، وأنت حين تُلبِّي النداء لا تأتي لتعينني على شيء، ولا أنتفع بك في شيء، إنما تنتفع أنت بهذا اللقاء، وتستمد مني العون والقوة، وتأخذ شحنة إيمان ويقين من ربك.
وقلنا: ما تصورك لآلة تُعرَض على صانعها كل يوم خمس مرات أيبقى بها عَطَب؟ لذلك يُعلِّمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبنا أمر أن نهرع إلى الصلاة، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم إذا عزَّ عليه شيء، أو ضاقت به الأسباب، وإلا فما معنى الإيمان بالله إنْ لم تلجأ إليه.
وما دام ربك غيباً، فهو سبحانه يُصلحك بالغيب أيضاً، ومن حيث لا تدري؛ لذلك أمرنا ربنا بإقامة الصلاة، وجعلها عماد الدين والركْن الذي لا يسقط عنك بحال، فالزكاة والحج مثلاً يسقطان عن الفقير وعن غير القادر، والصوم يسقط عن المريض أو المسافر، في حين مرضه أو سفره، ثم يقضيه بعد انقضاء سبب الإفطار.
أما الصلاة فهي الركْن الدائم، ليس مرة واحدة في العمر، ولا مرة واحدة في العام، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فبها يكون إعلان الولاء لله تعالى إعلاناً دائماً، وهذا إنْ دلَّ فإنما يدل على عظمة الإنسان ومكانته عند ربه وخالقه.
وسبق أن قلنا: إنك إنْ أردتَ مقابلة أحد المسئولين أو أصحاب المنزلة كم تعاني ليُؤذَن لك، ولا بُدَّ أن يُحدِّد لك الموعد والمكان، بل وموضوع المقابلة وما ستقوله فيها، ثم لصاحب المقابلة أنْ يُنهيها متى يشاء.
إذن: لا تملك من عناصر هذا اللقاء شيئاً؟ أما في لقائك بربك - عز وجل - فالأمر على خلاف ذلك، فربُّك هو الذي يطلبك ويناديك لتُقبل عليه، لا مرة واحدة بل خمس مرات كل يوم، ويسمح لك أنْ تناجيه بما تحب، وتطلب منه ما تريد.
ولك أن تنهي أنت المقابلة بقولك: السلام عليكم، فإنْ أحببتَ أن تطيل اللقاء، أو أنْ تعتكف في بيت ربك فإنه سبحانه لا يملُّ حتى تملُّوا، فهذه - إذن - ليست عبودية، بل عزٌّ وسيادة.
وما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى:حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يحتَفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّهُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ ولكِنْ أنَا أَلْقى متَى وأيْنَ أُحِبّولأن للصلاة هذه المنزلة بين أركان الإسلام لم تُفرض بالوحي كباقي الأركان، إنما فُرضَتْ مباشرة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حين استدعاه ربه للقائه في السماء في رحلة المعراج.
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - برئيس العمل الذي يُلقي أوامره بالتليفون، أو بتأشيره على ورقة، فإنْ تعرَّض لأمر هام استدعى الموظف المختص إلى مكتبه، وأعطاه الأمر مباشرة لأهميته، كذلك كانت الصلاة، وكذلك فُرِضَتْ على سيدنا رسول الله بالتكليف المباشر.
ثم يقول سبحانه: } وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [الروم: 31] وهنا وقفة: فكيف بعد الإنابة إلى الله والتقوى، وبعد الأمر بإقامة الصلاة يقول } وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [الروم: 31]؟ وأين الشرك ممَّنْ يُؤدِّي التعاليم على هذا الوجه؟ قالوا: الشرك المنهيّ عنه هنا ليس الإشراك مع الله إلهاً آخر، إنما أشركوا مع الله نية أخرى، فالإشراك هنا بمعنى الرياء، والنظر إلى الناس لا إلى الله.
لذلك يقولون: العمل من أجل الناس رياء، وترْك العمل من أجل الناس شرك، فالذي يصلي أو يبني لله مسجداً للشهرة، وليحمده الناس فهو مُراءٍ، وهو خائب خاسر؛ لأن الناس انتفعوا بعمله ولم يُحصِّل هو من عمله شيئاً.
أما مَنْ يترك العمل خوفاً من الوقوع في الرياء، فيمتنع عن الزكاة مثلاً، خَوْفَ أن يُتَّهم بالرياء، فهو والعياذ بالله مشرك، لأن الناس ينتفعون بالعمل حتى وإنْ كان رياءً، لكن إنِ امتنعتَ عن العمل فلا ينتفع الناس منك بشيء.
فالمعنى: } وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [الروم: 31] أي: الشرك الخفي وهو الرياء؛ لذلك رأينا سيدنا رسول الله وهو الأسوة للأمة الإيمانية يدعو ربه ويقول
" اللهم إنِّي أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".
فالعمل الإيماني ما كان لله خالصاً، وعلى قَدْر الإخلاص يكون الجزاء، فمن الناس مَنْ يفعل الصلاح فيوافق شيئاً في نفسه، كأن يساعده على استقامة الحياة أو على التوفير في النفقات أو غير ذلك؛ فيستمر عليه، لا لله إنما لمصلحته هو.
وفي هؤلاء يقول تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }[الحج: 11].
وكالتاجر الذي يلتزم الصدق في تجارته، لا حباً في الصدق ذاته، إنما طمعاً في الشهرة والصِّيت وكَسْب المزيد من الزبائن، ومثل هؤلاء ينالون من الدنيا على قَدْر سعيهم لها، ولا يحرمهم اللهُ ثمرةَ مجهوداتهم، كما قال سبحانه:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
فما أشبه الناس في نياتهم من الأعمال بركْب يقصدون وجهة واحدة، لكن لكل منهم غاية يسعى إليها، فهذا يسعى للطعام أو أكلة شهية، وهذا يسعى لامرأة جميلة، وهذا يسعى لدرْس علم ينتفع به، وآخر يسعى لرؤية مَنْ يحب، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:قَصَدْتُ بالركْبِ مَنْ أَهْوى وقُلْتُ لَهُم هَيّا كُلوا وخُذُوا ما حَظكم فِيهِلكِنْ دَعُوني أُلاَقِي مَنْ أؤملُهُ عَيْني تَرَاهُ وَوُجَْدَاني يُنَاجِيهِكذلك الحق - تبارك وتعالى - يريد من عبده أنْ يقصده لذَاته، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، وفَرْق بين أن تنعم بنعمة الله، وأن تنعم بالنظر إلى الله، فأنت في الجنة تأكل، لا عن جوع ولا عن حاجة، إنما لمجرد التنعُّم.
لذلك يقول سبحانه عن الشهداء:{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }[آل عمران: 169] فتكفيهم هذه العندية، وأنْ ينظروا إلى الله سبحانه وتعالى.
لذلك تقول رابعة العدوية: اللهم إنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فأدخِلني فيها، لكني أعبدك لأنك أحقُّ أنْ تُعبدَ.
ولا شكَّ أن القليل من الناس يخلصون النية لله، وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية، لا تعنيهم هذه المسألة، ولا يهتمون بها، كما قال سبحانه:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }[يوسف: 106].
(/3365)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
فرَّقوا دينهم كالركْب الذين اختلفتْ وجهاتهم ونياتهم { وَكَانُواْ شِيَعاً... } [الروم: 32] جمع شيعة، وهم الجماعة المتعاونة على أمر من الأمور، خيراً كان أو شراً، خيراً مثل قوله تعالى:{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ }[الصافات: 83].
أو شراً مثل:{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً... }[القصص: 4].
وفي آية أخرى:{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىا أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ... }[الأنعام: 65].
وقوله تعالى: { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم: 32] لما لهم من سلطة زمنية، ولما لهم من مكانة يخافون أنْ تهتز كالسلطة الزمنية التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان برسول الله، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويعرفون زمانه، وكانوا يقيمون بالمدينة ينتظرون ظهوره، وكل ذلك عندهم في التوراة، حتى إنهم كانوا يصطدمون بعبدة الأصنام، فيقولون لهم. لقد أطلَّ زمن نبي يظهر آخر الزمان سنتبعه، ونقتلكم به قتْل عاد وإرم.
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ... }[البقرة: 89].
لماذا؟ حفاظاً على سلطتهم الزمنية، وقد كانوا أهل علم وغِنيً ومكانة، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ألغى هذه السلطة، فلا كلام بعد كلامه صلى الله عليه وسلم، أما مَنْ ثبت منهم على دينه الحق، وعمل بما في التوراة فقد آمن بمحمد كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود.
فالسلطة الزمنية هي التي حالتْ بين الناس وبين الحق الذي يؤمنون به، وهذه السلطة الزمنية هي التي نراها الآن في هذه الفِرَق والأحزاب التي يدَّعي كل منها أنها على الحق وما سواها على الباطل.
يقول تعالى:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ... }[المؤمنون: 71].
فكل منهم يناطح الآخرين ليعلي مذهبه، ويظهر هو على الساحة.
بعد ذلك يُبيِّن لنا الحق سبحانه أن الذين يكفرون بالله، أو يتمردون على منهج الله يظلون هكذا أسْرى هذه السلطة الزمنية، فإذا أصابتهم هزة أو بلاء لا تقوى أسبابهم على دفعه لم يجدوا ملجأ إلا الله، فقال سبحانه: { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ... }.
(/3366)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
الضر: هو الشيء الذي نتضرر منه، ولا تستطيبه النفس، فإنْ أصابهم الضر وأسبابهم لا تفي بالخلاص منه { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ... } [الروم: 33] أي: رجعوا إليه سبحانه، والآن علموا أن لهم رباً يلجئون إليه، وهذا يُذكِّرنا بما قاله العرب عندما فتر الوحي عن رسول الله، فسرَّهم ذلك، وقالوا: إن رب محمد قلاه. سبحان الله الآن عرفتم أن لمحمد رباً.
وقلنا: إن ساعة الضيق والمحنة لا يَكْذب الإنسان نفسه ولا يخدعها، وسبق أنْ ذكرنا قصة حلاق الصحة الذي كان يحلّ محلّ الطبيب الآن، فلما أنشئت كليات للطب وخرَّجت أطباء، وذهب أحدهم إلى قرية الحلاق، فأخذ الحلاق يهاجمه ويدَّعي أنه حديث لا خبرةَ له، فلما مرض ابنه وأحسَّ بالخطر أخذه خُفْية في ظلام الليل، وذهب به إلى الطبيب، لماذا؟ لأنه لن يغشَّ نفسه في هذه اللحظة.
{ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [الروم: 33] أي: يعودون إلى ما كانوا عليه من الشرك بالله.
وحين نتأمل هذه المسألة نجد أن القرآن عرضها مرة بصيغة الإفراد، فقال:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً.... }[الزمر: 8].
وقال:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ... }[يونس: 12].
لكن الكلام عن الإنسان المفرد لا يكفي لإثبات الظاهرة؛ لأن الإنسان الواحد يمكن أن يستذل أمام ربه، ويعود إليه بعد أنْ تجرَّأ على معصيته، يكون ذلك بينه وبين نفسه، فلا يفضح نفسه أمام الناس، فأراد سبحانه أنْ يثبت هذه المسألة عند الناس جميعاً؛ ليفضح بعضهم بعضاً، فذكر هنا { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ... } [الروم: 33].
وفي آية أخرى:{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65].
فجاء بصيغة الجمع ليفضح الكافرين بعضهم أمام بعض، وقد يكون في هؤلاء الداعين مَنْ كان يُؤلّبهم على الله، ويصرفهم عن الإيمان به، وها هو الآن يدعو ويتضرع، وحين يُفتضح أمرهم يكون ذلك أَدْعى لاستقامتهم وأدعى ألاَّ يتكبر أحد على أحد.
لذلك قلنا في ميزات الصلاة أنها تُسوِّي بين الناس، فيجلس الرجل العادي بجوار مَنْ لم يكُن يُؤْمَل أنْ يجلس بجواره، ويجده خاضعاً معه مطاوعاً للإمام.. الخ ففي الصلاة، الجميع سواء، والجميع منتفع بهذه المساواة، آخذ منها عبرة، فلا يتكبر بعدها أحد على أحد.
ونقف هنا عند { مَسَّ... } [الروم: 33] وهو اللمس الخفيف، فالمعنى مسَّهم اليسير من الضر، ومع ذلك ضاقتْ أسبابهم عن دفعه، وضَجُّوا يطلبون الغَوْث.
وكلمة { أَذَاقَهُمْ... } [الروم: 33] الذوق حاسة من حواس الإنسان يُحِسُّ بها الطعام عند مروره على منطقة معينة في اللسان، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقةَ لا يشعر الإنسان بطعمه.
إذن: فَلذَّة الطعام مقصورة على هذه المنطقة في الفم، والتذوق أقوى انفعالات النفس في استقبال المذاق؛ لذلك يقولون في الأمثال (اللي يفوت من اللسان بقي نتان).
وتأمل، كيف استعمل الحق سبحانه الإذاقةَ في مجال العذاب حبن ضرب لنا هذا المثل:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
فذكر الإذاقة مع أن اللباسَ يستوعب الجسم كله، وكذلك الجوع والخوف، فكل منهما إحساس يستولي على الإنسان كله، ومع ذلك قال{ فَأَذَاقَهَا... }[النحل: 112] لأن الإذاقة أقوى أنواع الإدراك.
وكلمة } مِّنْهُ... { [الروم: 33] أي: من الله تعالى، يعني بلا أسباب، أو } أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ... { [الروم: 33] أي: بدَّل الضر برحمة، وخلَّصهم من الضُّرِّ برحمة، كما أن الإذاقة وإنْ دلَّتْ على الانفعال الشديد للمستقبل، فإنها أيضاً تدلُّ على التناول الخفيف بلُطْف، كما تقول: ذُقْتُ الطعام. أو تقول: والله ما ذُقْتُ لفلان طعاماً يعني: ما أكلتُ عنده من باب أَو أَوْلى.
لذلك الحق سبحانه وتعالى عبر عن الرحمة هنا بالإذاقة؛ لأن رحمة الدنيا لا تستوعب كل رحمة الله، فالقليل منها في الدنيا، وجُلُّها في الآخرة.
ونلحظ في قوله تعالى: } إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ { [الروم: 33]، أما في الآية الأخرى:{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65].
فلماذا قال في الأولى } إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ... { [الروم: 33] وفي الأخرى:{ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65] فلم يستثْنِ منهم أحداً؟
قالوا: لأن الآية الأولى تتكلم عن الذين دَعَوا الله في البَرِّ، والناس في البر عادة ما يكونون مختلفين، فيهم الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فهم مختلفون في رَدِّ الفعل، فالمؤمنون لما عَينوا النجاة ورحمة الله قالوا: الحمد الله الذي نجانا، أما المشركون فعادوا إلى كُفْرهم وعنادهم.
أما الآية الأخرى فتتكلم عن الذين دَعَوا الله في البحر، وعادة ما نرى الذين يركبون البحر على شاكلة واحدة، وهم لا يركبونه كوسيلة للسفر، إنما للترف، كما نرى البعض يتخذ لنفسه يختاً مثلاً أو عوَّامة يجمع فيها أتباعه ومَنْ هم على شاكلته، ولا بُدَّ أنهم يجتمعون على شيء يحبونه، فهم على مذهب واحد، وطريقة واحدة، وسلوك واحد.
إذن: ما دام هؤلاء كانوا في البحر فلا بُدَّ أنهم كانوا مجرمين عتاة، وكانوا سواسية في الشرك وفي التخلِّي عن الله، بمجرد أنْ أمِنوا الخطر، لذلك استخدم الأسلوب هنا } إِذَا... { [الروم: 33] الفجائية واستخدمه في آية أخرى{ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65] فبعد أنْ أنجاهم الله أسرعوا العودة إلى ما كانوا عليه من الشرك.
ففي هذه الآية الحق سبحانه يُبيِّن لنا حقيقة الإنسان، ومدى حرصه على جَلْب الخير لنفسه، فإنْ كان الخير الذي أعدَّه الله له يُبطره ويُطغيه كما قال سبحانه:
{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].
فإنه لا مناصَ له من أنْ يرجع إلى ربه حين ينفض الله عنه كُلَّ أسباب الخير، ويهدده في نفسه وفي ذاته التي لم تنتفع بآيات الله في الكون، فتظل في حضانة الله، فيأتي له بالضرُّ الذي ينفض عنه كلّ أسباب البطَر والأشرَ والاستعلاء.
ولكنه لا يسلم نفسه للضر الذي يهلكه، بل عندها يتنبه أن له رباً يلجأ إليه، ولا يجد مفزعاً في الكون إلا هو؛ لأنه يعلم جيداً أن الذين أخذوه من الله فآمن بهم وكفر بالله لن ينفعوه بشيء؛ لأنه عبد من دون الله آلهة لا تضر ولا تنفع.
لذلك يقول تعالى:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 67] فهؤلاء الذين تدعونهم لا يعرفون طريقكم، وإنْ عرفوا لا يملكون أنْ يصلوا إليكم، أما أنا فربكم الأعلم بكم، والقادر على إغاثتكم، وإنزال الرحمة بكم.
إذن: هؤلاء المشركون أشركوا بالله في وقت الرخاء، أما في وقت الضيق والكرب فلن يخدع أحدهم نفسه، ولن يغشَّها لن يقول: يا هُبَل. لأنه يعلم أن هُبَلَ لا يسمعه ولا يجيبه، فلا ينفعه الآن، ولا ينجيه إلا الإله الحق، فقد ألجأتْه الضرورة أن يعترف به ويدعوه.
ثم يقول الحق سبحانه: } لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ... {.
(/3367)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
يتبادر إلى الذهن أن اللام في { لِيَكْفُرُواْ... } [الروم: 34] لام التعليل، أو لام السببية التي يكون ما بعدها سبباً لما قبلها، كما تقول: ذاكر لتنجح، وكذلك في الشرط والجواب: إنْ تذاكر تنجح فِعِلَّة المذاكرة النجاح.
فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجاهم الله وأذاقهم الرحمة ليكفروا به؟
نقول: ليس الشرط سبباً في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة، بل الجواب هو السبب في الشرط، لكنهم لم يُفرِّقوا بين سبب دافع وسبب واقع، فالتلميذ يذاكر لأن النجاح ورد بباله، وتراءتْ له آثاره الطيبة أولاً فدفعتْه للمذاكرة.
إذن: فالجواب سبب في الشرط أي: سبب دافع إليه، فإذا أردتَ أن يكون واقعاً فقدِّم الشرط ليجيء الجواب.
وكما تقول: ركبتُ السيارة لأذهب إلى الأسكندرية، فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للاسكندرية، لأنك أردْتَ أولاً الذهاب فركبتَ السيارة، فلما ركبتها وصلتَ بالفعل. إذن: نقول: الشرط سبب للجواب دافعاً يدفع إليه، والجواب سبب للشرط واقعاً.
فهنا نجّاهم الله من الكرب، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به، إنما ليُبيِّن لهم أنه لا مفزعَ لهم إلا إليه، فيتمسكون به سبحانه، فيؤمن منهم الكافر، ويزداد مؤمنهم إيماناً، لكن جاء ردُّ الفعل منهم على خلاف ذلك، لقد كفروا بالله؛ لذلك يسمون هذه اللام لام العاقبة أي: أن كفرهم عاقبة النجاة والرحمة.
ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - لو ضممتَ طفلاً مسكيناً إلى حضانتك وربَّيته أحسن تربية، فلما شبَّ وكَبِر تنكّر لك، واعتدى عليك، فقلت للناس: ربَّيته ليعتدي عليَّ، والمعنى: ربَّيته ليحترمني ويحبني، لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلاف ذلك، وهذا يدل على فساد التقدير عند الفاعل الذي ربَّي، وعلى لُؤْم وفساد طبع الذي رُبِّي.
فالأسلوب هنا { لِيَكْفُرُواْ... } [الروم: 34] يحمل معنى التقريع؛ لأن ما بعد لام العاقبة ليس هو العلة الحقيقية لما قبلها، إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللام: أذاقهم الرحمة، ونجاهم ليؤمنوا، أو ليزدادوا إيماناً، فما كان منهم إلا أنْ كفروا.
ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في قصة موسى:{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... }[القصص: 8].
ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرَّة عين، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل، وكما يقولون في الأمثال (بيربي خنَّاقه).
فهذا دليل على غفلة الملتقِط، وعلى غبائه أيضاً، فكيف وهو يُقتِّل الأولاد في هذا الوقت بالذات لا يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر؟ أليس في هذا دلالة على أن أهله يريدون نجاته من القتل؟ لكن كما قال سبحانه:{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ... }[الأنفال: 24].
فأنت تُقتِّل في الأطفال لرؤيا أخبرك بها العرافون، فسيأتي مَنْ تخاف منه إلى بابك، وستأخذه وتُربِّيه في حضنك، وسيكون زوال مُلْكك على يديه، فلا تظن أنك تمكر على الله.
والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين، فإذا كنتَ قد صدَّقْتَ العرافين فيما أخبروك به فما جدوى قَتْل الأطفال، وأنت لن تدرك مَنْ سيكون زوال مُلْكك على يديه ولن تتمكن منه؟ فلماذا تحتاط إذن؟
لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر رباً، والرب يكلف العدو بعدو له ليقضي عليه، وهو سبحانه خير الماكرين، والمكْر الحق أن يكون خُفْية بحيث لا يسشعر به الممكور به.
وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول: الصراحة مكْر القرن العشرين. يعني: مَنْ أراد أنْ يمكر فليقُل الحق وليكُنْ صريحاً؛ لأننا أصبحنا في زمن قلَّتْ فيه الصراحة وقول الحق، لدرجة أنك حين تُحدِّث الناس بالحق يشكُّون فيك، ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق، كالذي قال لجماعة يطلبونه ليقتلوه: أنا سأذهب إلى المكان الفلاني في الوقت الفلاني فقالوا: إنه يُضلِّلنا ويمكر بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به.
وبعد أنْ تربَّى موسى - عليه السلام - في بيت فرعون، ثم كلَّفه ربه بالرسالة، وذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله قال له:{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }[الشعراء: 18].
نعم ربَّيتني وليداً، لكن الذي ربّاني وربّاك هو الذي بعثني إليك، فأنا أبرّ المربي الأعلى قبل أنْ أبرَّ بك، وفي هذا إشارة إلى أن عناية الله هي الأصل في تربية مَنْ تحب، فإياك أنْ تقول: ربَّيْتُ ولدي حتى صار كذا وكذا، بل عليك بالأَخْذ بأسباب التربية، وتترك المربِّي الأعلى هو الذي يُربِّي على الحقيقة.
وهذا المعنى فطن إليه الشاعر، فقال:إذَا لَمْ تُصَادِفْ في بَنِيكَ عنَايةً فَقَدْ كذَبَ الرَّاجي وخَابَ المؤملُفَمُوسَى الذي ربَّاه جِبْريلُ كَافرٌ ومُوسى الذي ربَّاهُ فِرْعَونُ مُرسَلثم يقول سبحانه: } فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ { [الروم: 34] لأنه كفر ليتمتع بكفره في الدنيا؛ لأن للإيمان مطلوبات صعبة تشقُّ على النفس، فيأمرك بالشيء الثقيل على نفسك، وينهاك عن الشيء المحبب إليها، أما الأصنام التي عبدوها من دون الله وغيرها من الآلهة فلا مطلوبَ لها ولا منهج.
لكنه متاع الحياة الدنيا ومتاع الدنيا قليل؛ لأن الدنيا بالنسبة لك مدة بقائك فيها فلا تقُلْ إنها ممتدة من آدم إلى قيام الساعة، فهذا العمر الطويل لا يعنيك في شيء، الذي يعنيك عمرك أنت.
ومهما كان عمر الإنسان في الدنيا فهو قصير وتمتُّعه بها قليل، ثم إن هذا العمر القصير مظنون غير مُتيقن، فربما داهمك الموت في أيِّ لحظة، ومَنْ مات قامت قيامته.
لذلك أبهم الحق - سبحانه وتعالى - الموت، ونثر أزمانه في الخَلْق: فهذا يموت قبل أن يولد، وهذا يموت طفلاً، وهذا يموت شاباً.
. الخ وإبهام الموت سبباً وموعداً ومكاناً هو عَيْن البيان؛ لأنه أصبح شاخصاً أمام كل مِنَّا ينتظره في أيِّ لحظة، فيستعد له.
ونلحظ هنا أن الأسلوب القرآني عطف فعل الأمر } فَتَمَتَّعُواْ.. { [الروم: 34] على الفعل المضارع } لِيَكْفُرُواْ... { [الروم: 34]، وفي موضع آخر قال سبحانه:{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ... }[العنكبوت: 66] فجعل التمتُّع ليس خاضعاً لفعل الأمر، إنما للعلة: ليكفروا وليتمتعوا.
لذلك اختلفوا حول هذه اللام. أهي للأمر أم للتعليل، } فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ { [الروم: 34] جاءت بعد } فَتَمَتَّعُواْ... { [الروم: 34] وهذه جاءتْ معطوفة على{ لِيَكْفُرُواْ... }[العنكبوت: 66] فكأنه قال: اكفروا وتمتعوا، لكن ستعلمون عاقبة ذلك.
والذي جعلهم يقولون عن اللام هنا لام التعليل أنها مكسورة، أما لام الأمر فساكنة، فلما رأوا اللام مكسورة قالوا لام التعليل، أما الذي فهم المعنى منهم فقال: ما دام السياق عطف فعل الأمر فتمتعوا على المضارع المتصل باللام، فاللام للأمر أيضاً، لأنه عطف عليها فعل الأمر، وهو هنا للتهديد.
لكن، لماذا كُسِرَتْ والقاعدة أنها ساكنة؟ قال أحد النحاة: لام الأمر ساكنة، ويجوز أنْ تُكْسَر، واستشهد بهذه الآية{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ... }[العنكبوت: 66].
ونقول لمن يقول: إنها لام التعليل: إذا سمعت لام التعليل فاعلم أنها تعني لام العاقبة؛ لأن الكفر والتمتّع لم يكُنْ سبباً في إذاقة الرحمة.
ويا مَنْ تقول لام الأمر سيقولون لك: لماذا كُسِرت؟ وفي القرآن شواهد كثيرة تدل على أنها قد تُكسر، واقرأ قوله تعالى:{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىا كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ... }[الحج: 28] فاللام هنا مكسورة لأنها لام التعليل.
ثم قال بعدها:{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }[الحج: 29] فاللام سُكِّنَتْ لأنها لام الأمر.
وفي آيةٍ أخرى جُمِعت اللامان:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ... }[الطلاق: 7] فجاءتْ لام الأمر مكسورة؛ لأنها في أول الجملة، ولا يُبتدأ في اللغة بساكن، فحُرِّكت بالكسر للتخلص من السكون، ثم يقول سبحانه:{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ... }[الطلاق: 7] فجاءت لام الأمر ساكنة؛ لأنها واقعة في وسط الكلام.
لذلك يجب أن يتنبه إلى هذه المسألة كُتَّاب المصحف، وأن يعلموا أن كلام الله غالب، فقد فات أصحاب رسم المصحف أنه مبنيٌّ من أوله إلى آخره على الوصل، حتى في آخر آيات سورة الناس وأول الفاتحة نقول } الَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بسم الله الرَّحْمانِ الرَّحِيـم... {.
فآخِرُ القرآن موصول بأوله، حتى لا ينتهي أبداً. وعليه فلا ترسم{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ... }[الطلاق: 7] بالكسر، إنما بالسكون، لأنها موصولة بما قبلها.
وكلمة } فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ { [الروم: 34] تدلُّ على التراخي واستيعاب كل المستقبل، سواء أكان قريباً أم بعيداً، فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة، أو سيموت بعده بوقت طويل.
ثم يقول الحق سبحانه: } أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً... {.
(/3368)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
كلمة (أم) لا تأتي بداية؛ لأنها أداة تفيد التخيير بين أمريْن، كما تقول: أجاء زيد أم عمرو؟ فلا بُدَّ أن تأتي بين متقابلين، والتقدير: أهُمُ اتبعوا أهواءهم، أم عندهم كتاب أُنزِل إليهم فهو حجة لهم على الشرك؟ وحيث إنهم لم ينزل عليهم كتاب يكون حُجَّة لهم فلم يَبْقَ إلا الاختيار الآخر أنهم اتبعوا أهواءهم.
والفعل { أَنزَلْنَا... } [الروم: 35] الإنزال يقتضي عُلُوَّ المنزَّل منه، وأن المنزَّلَ عليه أَدْنى، فالإنزال من عُلُو الربوبية إلى ذُلِّ العبودية. ونحن لم نَرَ الإنزال، إنما الذي تلقَّى القرآن أول مرة وباشر الوحي هو الذي رآه وأخبرنا به.
والأصل في الإنزال أن يكون من الله تعالى، وحين ينزل الله علينا إنما ليعطينا سبحانه شيئاً من هذا العُلْو، سواء أكان العُلُو معنوياً؛ لأن الله سبحانه ليس له مكان، أم عُلْواً حِسَّياً كما في{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... }[الحديد: 25].
والسلطان: من التسلُّط، وهي تدلُّ على القوة، سواء أكانت قوة الحجة والبرهان، فمَنْ أقعنك بالحجة والبرهان فهو قويٌّ عليك، أو قوة قهر وإجبار كمَنْ يُرغِمك على فعل شيء وأنت كاره، أما سلطان الحجة فتفعل وأنت راضٍ ومقتنع.
وإذا استقرأنا كلمة سلطان نجد أن الله تعالى عرضها لنا في موقف إبليس في الآخرة، حين يتبرأ من الذين اتبعوه:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ... }[إبراهيم: 22].
أي: لم يكُنْ لي عليكم سلطان حجة وإقناع أستحوذ به على قلوبكم، ولم يكُنْ لي عليكم سلطان قهر، فأقهر به قوالبكم، والحقيقة أنكم كنتم (على تشويرة) مجرد أنْ دعوتكُم جئتم مُسرعين، وأطعتُم مختارين.
وهذا المعنى يُفسِّر لنا شيئاً في القرآن خاض الناس فيه طويلاً - عن خُبْث نية أو عن صدق نية - هذا في قوله تعالى مرة لإبليس{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ... }[ص: 75] ومرة أخرى:{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ... }[الأعراف: 12].
فالأولى تدل على سُلْطان القهر، كأنك كنتَ تريد أنْ تسجد فجاء مَنْ منعك قهراً عن السجود، والأخرى تدل على سلطان الحجة والإقناع، فلم تسجد وأنت راضٍ ومقتنع بعدم السجود.
وقوله تعالى: { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [الروم: 35] أي: ينطق بما كانوا به يشركون، يقول: اعملوا كذا وكذا، فجاء هذا على وَفْق هواهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً... }.
(/3369)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
جميل أنْ يفرح الناس، وأنْ يستبشروا برحمة الله، لكن ما لهم إذا أصابتهم سيئة بما قدَّمتْ أيديهم يقنطون؟ فمُجري الرحمة هو مُجري السيئة، لكنهم فرحوا في الأولى لأنها نافعة في نظرهم، وقنطوا في الأخرى؛ لأنها غير نافعة في نظرهم، وكان عليهم أنْ يعلموا أن هذه وتلك من الله، وأن له سبحانه حكمةً في الرحمة وحكمةً في المصيبة أيضاً.
إذن: أنتم نظرتم إلى شيء وغفلتم عن شيء، نظرتُم إلى ما وُجِد من الرحمة وما وُجِد من المصيبة، ولم تنظروا إلى مَنْ أوجد الرحمةَ، ومَنْ أوجد المصيبة، ولو ربطتم وجود الرحمة أو المصيبة بمَنْ فعلها لَعلمتُم أنه حكيم في هذه وفي تلك، فآفة الناس أنْ يفصلوا بين الأقدار ومُقدِّرها. إذن: ينبغي ألاَّ تنظروا إلى ذات الواقع، إنما إلى مَنْ أوقع هذا الواقع.
فلو دخل عليك ولدك يبكي؛ لأن شخصاً ضربه، فأول شيء تبادر به: مَنْ فعل بك هذا؟ فإنْ قال لك: فلان تقول: نعم إنه يكرهنا ويريد إيذاءنا.. الخ فإنْ قال لك: عمى ضربني فإنك تقول: لا بُدَّ أنك فعلتَ شيئاً أغضبه، أو أخطأتَ في شيء فعاقبك عليه.
إذن: لم تنظر إلى الواقع في ذاته، إنما ربطت بينه وبين مَنْ أوقعه، فإنْ كان من العدو فلا بُدَّ أنه يريد شراً، وإنْ كان من الحبيب فلا بُدَّ أنه يريد بك خيراً.
وهكذا ينبغي أن نربط بين الموجود ومَنْ أوجده، فإنْ كان الذي أوجد الواقع رَبٌّ فيجب أنْ نتأمل الحكمة، ولن نتحدث عن الرحمة، لأن النفع ظاهر فيها للجميع، لكن تعال نسأل عن المصيبة التي تُحزِن الناس، فيقنطوا وييأسوا بسببها.
ونقول: لو نظرتَ إلى مَنْ أنزلها بك لارتاح بالك، واطمأنتْ نفسك، فالمصيبة تعني الشيء الذي يصيبك، خيراً كان أم شراً، أَلاَ ترى قوله تعالى:{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ... }[النساء: 79].
فالمصيبة لا تُذَمُّ في ذاتها، إنما بالنتيجة منها، وكلمة أصاب في الحسنة وفي السيئة تدلُّ على أن سهمها أُطلِق عليك، وعمرها مقدار وصولها إليك، فهي لا بُدَّ صائبتك، لن تتخلَّف عنك أبداً، ولن تُخطئك؛ لأن الذي أطلقها إله ورب حكيم، فإنْ كانت حسنة فسوف تأتيك فلا تُتعِب نفسك، ولا تُزاحِم الناس عليها، وإنْ كانت مصيبة فإياك أنْ تقول: أحتاط لها لأدفعها عن نفسي؛ لأنه لا مهربَ لك منها.
ثم لماذا تقنط وتيأس إنْ أصابتْك مصيبة؟ لماذا لا تنتظر وتتأمل، لعل لها حكمة، ولعل من ورائها خيراً لا تعلمه الآن، وربما كانت ضائقة سوف يكون لها فرج قريب.
ألم تقرأ:{ وَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىا أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ... }
[البقرة: 216].
أتذكرون حادث عمارة الموت وقد طردوا منها البواب وأسرته، وجعلوا منها قضية في المحكمة، وبعد أن انهارتْ العمارة، وتبيَّن للبواب وأسرته أن ما ظنوه شراً ومصيبة كان هو عَيْن الخير.
إذن: لا تقنط من ضُرٍّ أصابك، واعلم أن الذي أجراه عليك ربك، وأن له حكمة فانتظر حتى تنكشف لك، ولا يقنط إلا مَنْ ليس له ربٌّ يلجأ إليه.
ثم تعالَ نناقشك في المصيبة التي قَنَط من أجلها: ألكَ دَخْلٌ فيها؟ أم ليس لك دَخْل؟ إنْ كان لك دَخْل فيها كالتلميذ الذي أهمل دروسه فرسب في الامتحان، فعليك أن تستقبل هذه المصيبة بالرَّضا، فالرسوب يُعدِّل لك خطأك، ويلفتك إلى ما كان منك من إهمال حتى تتدارك الأمر وتجتهد.
فإنْ كانت المصيبة لا دَخْلَ لك فيها، كالذي ذاكر واجتهد، ومع ذلك لم يُوفّق لمرض ألمَّ به ليلة الامتحان، أو لعارض عرض له، نقول: إياك أنْ تفصل المصيبة عن مُجريها وفاعلها، بل تأمَّل ما يعقُبها من الخير، ولا تفصل المصيبة عن مُجريها عليك ولا تقنط.
وابحث عن حكمة ربك من إنزال هذه المصيبة بك، كالأم التي تقول لابنها: يا بُني أنت دائماً متفوق والناس تحسدك على تفوقك، فلعل رسوبك يصرف عنك حسدهم، ويُنجيك من أعينهم، فيكفوا عنك.
وحينما يأتي أبوه يقول له: يا بني هَوِّن عليك، فلعلَّك إنْ نجحت هذا العام لم تحصل على المجموع الذي تريده، وهذه فرصة لتتقوى وتحصل على مجموع أعلى. إذن: لن تُعدم من وراء المصيبة نفعاً، لأن ربك قيوم، لا يريد لك إلا الخير.
لذلك حين تستقريء الأحداث تجد أناساً فُضحوا وأُخِذوا بما لم يفعلوا، وذهبوا ضحية شاهد زور، أو قاضٍ حكم عن هوى.. الخ لكن لأن ربك قيوم لا يغفل يُعوِّض هذا المظلوم ويقول له: لقد أصبح لك نقطة عندي في حسابك، فأنت اتُّهمْتَ ظلماً، فلك عندي إذا ارتكبتَ جريمة أَنْ أنجيك منها فلا تُعاقَب بها، وأنت يا من عَمَّيْتَ على العدالة، وشهدتَ زوراً، أو: أخذت ما ليس لك، أو أفلتَّ من العقاب فسوف أُوقِعك في جريمة لم تفعلها.
إذن: القنوط عند المصيبة لا محلَّ له، ولو ربطتَ المصيبة بمجريها لعلمتَ أنه حكيم، ولا بُدَّ أنْ تكون له حكمة قد تغيب عنك الآن، لكن إذا أدرتَ المسألة في نفسك، فسوف تصل إلى هذه الحكمة.
وحين ننظر إلى أسلوب الآية نجد فيه مفارقات عديدة، ففي الكلام عن الرحمة قال } وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا... { [الروم: 36] فاستخدم أداة الشرط (إذا).
أما في المصيبة فقال } وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ { [الروم: 36] فاستخدم أداة الشرط (إنْ)، فلماذا عدلَ عن رتابة الأسلوب من إذا إلى إن؟
قالوا: حين تقارن بين النعَم وبين المصائب التي تنزل بالإنسان في دنياه تجد أن النعم كثيرة والمصائب قليلة، فنعم الله متوالية عليك في كل وقت لا تُعدُّ ولا تحصى، أمّا المصائب فربما تُعَدُّ على الأصابع.
لذلك استخدم مع النعمَ (إذا) الدالة على التحقيق، ومع المصيبة استخدم (إنْ) الدالة على الشك، ومن ذلك قوله تعالى:{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }[النصر: 1] فاستعمل إذا لأنها تدلُّ على التحقيق وتُرجِّح حدوث النصر، وقال سبحانه:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ... }[التوبة: 6].
كما نلحظ في أسلوب الآية أنها لم تذكر السبب في إذاقة الرحمة، إنما ذكرت سبب المصيبة } بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... { [الروم: 36] ليدلَّ على عدله تعالى في إنزال المصيبة، وتفضُّله في إذاقة الرحمة؛ لأن الرحمة من الله والنعَم فضل من الله.
لكن في المصيبة قال } بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... { [الروم: 36] فذكر العِلّة حتى لا يظن أحد أن الله تعالى يُجري المصيبة على عبده ظلماً، بل بما قدَّمَتْ يداه، فالمسألة محكومة بالعدل الإلهي.
وبين الفضل والعدل بوْن شاسع، فلو جاءك خَصْمان لتحكم بينهما تقول: أحكم بينكما بالعدل، أم بأفضل من العدل؟ يقول: وهل هناك أفضل من العدل؟ إذن: نريد العدل، لكن تنبَّه لأن العدل يعطيك حقك، والفضل يُتِركك حقك.
فكأن الحق سبحانه يقول لنا: إياكم أنْ تظنوا أنكم ناجون بأعمالكم، لا إنما بالتفضل عليكم:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
يعني: مهما جمعتُم من الطاعات فلن تكفيكم، ولا نجاةَ لكم إلا برحمة من الله وفضل.
فالحق - تبارك وتعالى - يريد منا أن نعرف أن رحمة الله وسعتْ كل شيء، وأنه مع ما أنعم به عليكم من نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصي لا يُعاقبكم إلا بشيء اقترفتموه يستحق العقاب؛ ذلك لأنه رَبٌّ رحيم حكيم.
وما دام الأمر كذلك فانظر إلى آثار رحمة ربك في الكون، وتأمل هذه النعَم، وقفْ عند دِقَّة الأسلوب في قوله سبحانه:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا... }[إبراهيم: 34].
فالعَدُّ يقتضي الكثرة و{ نِعْمَتَ... }[إبراهيم: ] مفرد، فكيف نعدُّ يا رب؟ قالوا: نعم هي نعمة واحدة، لكن في طياتها نِعَم فلو فتشتها لوجدتَ عناصر الخيرية فيها لا تُعَد ولا تُحصىَ.
لذلك لما تعرضتْ الآيات لِعَدِّ نِعَم الله استخدمتْ (إنْ) الدالة على الشكِّ؛ لأنها لا تقع تحت الحصر ولا العَدِّ، لكن على فرض إنْ حاولت عدَّها فلن تُحصيها، والآن ومع تقدُّم العلوم وتخصُّص كليات بكاملها لدراسة علم الإحصاء، وخرجوا علينا بإحصاءات لأمور ولأشياء كثيرة في حياتنا، لكن لم يتعرض أحد لأنْ يُحصي نعمة الله، لماذا؟
لأن الإقبال على الإحصاء لا يكون إلا مع مظنَّة أنْ تُعدَّ وتستوعب ما تحصيه، فإنْ كان خارج نطاق استيعابك فلن تتعرض لإحصائه كما لم يتعرَّضْ أحد مثلاً لِعَدِّ الرمال في الصحراء؛ لذلك يُشكككم الله في أنْ تعدُّوها{ وَإِن تَعُدُّواْ... }[إبراهيم: 34] فهو أمر مُستبعد، ولن يكون.
(/3370)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
يبسط: يُوسِّع، ويقدِر: يعني يُضيِّق.
يعني: ألم يروا هذه المسألة، فواحد يُوسِّع الله عليه الرزق، وآخر يُضيِّق عليه، وربما صاحب السعة لم يتعب فيها، إنما جاءته من ميراث أو خلافة، وصاحب الضيق يكدّ ويتعب، ومع ذلك فعيشته كفاف، لذلك استقبل الفلاسفة هذه المسألة بما في ضمائرهم من إيمان أو إلحاد، فهذا ابن الراوندي الملحد يقول:كَمْ عَالمٍ أعْيَتْ مَذَاهِبه وجَاهلٍ جَاهلٍ تَلْقَاهُ مرْزُوقاهَذَا الذِي تركَ الأوهامَ حَائرةً وَصيَّر العَالِم النَّحْرير زِنْدِيقافردَّ عليه آخر ممن امتلأت قلوبهم بالإيمان:كَمْ عَالمٍ قَدْ باتَ في عُسْرٍ وجَاهلٍ جاهلٍ قَدْ باتَ في يُسْرتحيَّر الناسُ في هَذا فقُلْتُ لهم هَذا الذي أوجبَ الإيمان بالقدرِفالعالم لا يسير بحركة ميكانيكية ثابتة، إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه، فانظر إلى البسط لمن بسط الله له، والقبض لمن قبض الله عنه، ولا تعزل الفعل عن فاعله سبحانه، وتأمل أن الله تعالى واحد، وأن عباده عنده سواء، ومع ذلك يُوسِّع على أحدهم ويُضيِّق على الآخر.
إذن: لا بُدَّ أن في هذه حكمة، وفي تلك حكمة أخرى، ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق هناك لتراءتْ لك الحكمة.
ألا ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة، ومع ذلك لم يستطع تربية أولاده؛ لأن مظاهر الترف جرفتهم إلى الانحراف، ففشلوا في حياتهم العملية، وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على الكفاف يتفوق أولاده، ويأخذون أعلى المراتب؟ إذن: { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ.... } [الروم: 37] وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في الإلحاد، إحداهما لواحد اسمه (جيبل)، والأخرى لـ (بختر) أحدهما: ينكر أن يكون للعالم إله، يقول: لو كان للعالم إله حكيم ما خلق الأعمى والأعرج والأعور.. الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة، فأخذ من الشذوذ في الخَلْق دليلاً على إلحاده.
أما الآخر فقال: ليس للكون إله، إنما يسير سَيْراً ميكانيكياً رتيباً، ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق على صور مختلفة، وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا، فأخذ ثبات النظام دليلاً على إلحاده ليناقض مذهب سابقه.
إذن: المسألة عندهم رغبة في الإلحاد بأيِّ شكل، وعلى أية صورة، واستخدام منهج مُعْوج يخدم القضية التي يسعون إلى إثباتها.
ونقول في الرد على الأول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلاً على عدم وجود إله حكيم: الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الأفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض، فواحد أعمى، وآخر أعور يقابلهم ملايين المبصرين، فوجود هذه النسبة الضئيلة لا تفسد القاعدة العامة في الخَلْق، ولا تؤثر على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح.
أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى الملأ الأعلى، وفي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم.
. الخ فسيرى فيه نظاماً ثابتاً لا يتغير، لأن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله؛ لذلك خلقه الله على هيئة الثبات وعدم الشذوذ.
إذن: في النظام العام للكون نجد الثبات، وفي الأفراد الذين يغني الواحد منهم عن الآخر نجد الشذوذ والاختلاف، فالثبات يثبت حكمة القدرة، والشذوذ يثبت طلاقة القدرة.
فيا مَنْ تريد ثبات النظام دليلاً على الإيمان، فالثبات موجود، ويا مَنْ تريد شذوذ النظام دليلاً على الإيمان، فالشذوذ موجود، فما عليككما إلا أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الآخر لتصلا إلى الصواب.
ومسألة الرزق لها فلسفة في الإسلام، فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزَّاق، فمرة يرزق بالأسباب، ومرة يرزق بلا أسباب، لكن إياك أنْ تغتر بالأسباب، فقد تقدم الأسباب وتسعى ثم لا يأتيك منها رزق، ويخيب سَعْيك كالفلاح الذي يأخذ بالأسباب حتى يقارب الزرع على الاستواء فتأتيه جائحة فتهلكه، فاحذر أن تغتر بالأسباب، وانظر إلى المسبِّب سبحانه.
وقلنا: ينبغي أنْ تتحرى إلى الرزق أسبابه ولا تشغلنّ بعدها بالك بأمره، فقد تكفل به خالقك الذي استدعاك للوجود، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:تَحَرَّ إلى الرزْقِ أَسْبابَهُ ولاَ تشغلنْ بعدَهَا بَالَكافَإنَّك تجهلُ عنوانه ورِزْقُكَ يعرِفُ عُنْوانَكاثم يقول سبحانه: } إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [الروم: 37] قال (لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ) لأن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه في الإعطاء وفي المنع.
ونلحظ على أسلوب الآية قوله تعالى في البسط: } لِمَن يَشَآءُ.. { [الروم: 37] وفي التضييق } وَيَقْدِرُ... { [الروم: 37] ولم يقُلْ لمن يشاء؛ لأن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه فقال } لِمَن يَشَآءُ... { [الروم: 37] لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلاء الذين سيُبْسط لهم في الرزق، أما في التقتير فلم يقُلْ (لمنْ) ليظل مبهماً يستبعده كلٌّ مِنّا عن نفسه
ثم يقول رب العزة سبحانه: } فَآتِ ذَا الْقُرْبَىا حَقَّهُ... {.
(/3371)
فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
حينما نتأمل النسق القرآني هنا نجد أن الله تعالى ذكر أولاً البسْطَ في الرزق، ثم التقتير فيه، ثم أكَّد بعده مباشرة على حَقِّ ذي القُرْبى والمسكين وابن السبيل، وكأنه يلفت أنظارنا أن هذه الحقوق لا تقتصر على مَنْ بسط له الرزق، إنما هي على الجميع حتى مَنْ كان في خصاصه، وضُيِّق عليه رزقه، فلا ينسي هؤلاء.
لذلك يذيل الحق سبحانه الآية بقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الروم: 38] والجميع: مَنْ بُسِط له، ومَنْ قُتِر عليه يريدون وجه الله.
وبمقارنة هذه الآية بآية الزكاة:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[التوبة: 60].
فلم تذكر ذا القربى الذي ذكر هنا، وكأن الآية تشير لنا إلى أمر ينبغي أن نلتفت إليه، وهو أن القريب عيب أن نعطيه من مال الزكاة، وهذه آفة وقع فيها كثير من الأغنياء وحتى المتدينين منهم، فكثيراً ما يسألون: لي ابن عم، أو لي قريب أأعطيه شيئاً من زكاة مالي؟
وكنتُ أقول للسائل: والله، لو علم ابن عمك أنك تعطيه من مال الزكاة ما قبله منك؛ لأن للقريب حقاً، سواء أكنتَ غنياً تملك نصاب الزكاة، أو لم تصل إلى حد النِّصَاب.
إذن: لا تربط هؤلاء الثلاثة - القريب والمسكين وابن السبيل - بمسألة الزكاة، فلهم حَقٌّ حتى على الفقير الذي لا يملك نصاباً، وعلى مَنْ ضُيِّقْ عليه رزقه.
ومع هذا الحق الذي قرره الشرع للقريب نجد كثيرين يأكلون حقوق الأقارب، ويحتالون لحرمانهم منها، فمثلاً بعض الناس لا ينجب ذكوراً، فيكتب أملاكه للبنات ليحرم عمهم أو أبناء عمومتهم من الميراث، مع أن البنت لها نصف التركة، وإنْ كُنَّ أكثر من واحدة فلهُنَّ الثلثان، ويُوزَّع الثلث على العم أو ابن العم؛ ذلك لأن البنات في هذه الحالة ليس لهن ذَكَر عصبة، فيجعلها الشرع في العم أو ابن العم.
والشارع الحكيم يوازن بين الأطراف، فيأخذ منك ويعطيك، فلماذا في حالة موت الوالد عن هؤلاء البنات، وليس لهُنَّ ميراث يَعُدْن على العم أو ابن العم بالنفقة ويقاضونه في المحاكم، فلماذا نحرمهم حقوقهم ونطالب نحن بحقوقنا، فهذا نوع من التغفيل.
لماذا لا نعطي العم أو ابن العم وهو الذي سيحمي البنات ويسهر على راحتهن، ويقف بجوارهن حال شدتهن؟
إيَّاك - إذن - أنْ تُدخِل الأقارب في الزكاة، أو تربط مساعدتهم بالقدرة؛ لأن لهم عليك حقاً حال رخائك وحال شدتك.
ويكفي أن الحق سبحانه خصَّهم بقوله { ذَا الْقُرْبَىا... } [الروم: 38] ولم يقُلْ: ذا المسكنة، أو ذا السبيل، وكلمة (ذو) بمعنى صاحب، تدل على المصاحبة الدائمة والملازمة، فلا نقول: فلان ذو علم لمن علم قضية أو قضيتين، إنما لمن اتصف بالعلم الوسع وتمكَّن منه، كذلك لا نقول فلان ذو خلق إلا إذا كان الخُلُق صفة ملازمة له لا تنفك عنه.
ومن ذلك نقول: ذو القربى يعني ملاصقاً لك لا ينفك عنك، فيجب أنْ تراعي حقَّه عليك، فتجعل له نصيباً، حتى إنْ لم تكُنْ تملك نصاباً، وكذلك للمسكين وابن السبيل؛ لأن الله ذكرهم معاً في غير بند الزكاة، فدلَّ ذلك على أن لهم حقاً غير الزكاة الواجبة.
ونلحظ أن القرآن رتَّبهم حسب الأهمية والحاجة، فأولهم القريب لقرابته الثابتة منك، ثم المسكين وهو متوطن معروف لك، ثم ابن السبيل العابر الذي تراه يوماً ولا تراه بعد ذلك، فهو حسب موضعه من الحال.
والمسكين قد يتغير حاله، ويتيسر له الرزق فيُوسِّع الله عليه، وابن السبيل يعود إلى بلده، فالوصف الثابت لذي القربى؛ لذلك وصفه الله تعالى بما يدل على الثبات.
ثم قال } حَقَّهُ... { [الروم: 38] فالحق ملازم له وهو أَوْلَى به، لذلك لم يَقُل مثلاً: وآت ذا القربى حقه، والمسكين، وابن السبيل حقوقهم.
وقد مثَّلوا لذلك بقولهم: قال الأمير: يدخل عليَّ فلان، وفلان، وفلان، فالإذن بالدخول للأول يتبعه في ذلك االباقون.
إذن: لهؤلاء الثلاثة خصوصية، فقد أمرك الله أنْ تعطيهم من لحمك، وألاّ تربطهم بالزكاة ولا ببسط الرزق، أما باقي السبعة المستحقون للزكاة فلم يُلزمك نحوهم بشيء غير الزكاة المفروضة.
ولما حدث نقاش بين العلماء حول المراد بالمسكين والفقير، أيهما أحوج من الآخر؟ قالوا: المسكين مَنْ له مال، ولكن لا يكفيه، واستشهد أبو حنيفة على هذا المعنى بقوله تعالى:{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ... }[الكهف: 79] فأثبت لهم ملكية وسماهم مساكين. أما الفقير فهو الذي لا شيء له، وعلى هذا فالفقير أحوج من المسكين، فيدخل في هذه الآية من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: } ذَلِكَ... { [الروم: 38] أي: الإيفاء لهؤلاء } خَيْرٌ... { [الروم: 38] كلمة خير تُطلَق في اللغة، ويُراد بها أحد معنيين: مرة نقول خير ويقابلها شر كما في قوله تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8]، ومرة نقول: خير ونقصد الأخْير كالأحسن أي: أفعل تفضيل، كما جاء في قول الشاعر:زَيْدٌ خِيَارُ النَّاسِ وابْنُ الأَخْير لكن الشائع أن تُستعمل خير في أفعل التفضيل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير " فخَيْر الأولى بمعنى أخير. لكن لمن؟
} لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [الروم: 38] أي: في الوفاء بحقِّ ذي القربى والمسكين وابن السبيل، يريد بذلك وجه الله، لا يريد رياءً ولا سمعة؛ لأن الذي يفعل خيراً يأخذ أجره مِمَّن فعل من أجله، فمَنْ عمل لله مخلصاً فأجره على الله، ومَنْ عمل للناس رياءً وسمعةَ فليأخذ أجره منهم.
وهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور: 39] أي: فوجيء بوجود إله لم يكُنْ في باله ولم يعمل من أجله.
فمعنى } يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ... { [الروم: 38] أي: يقصدون بعملهم وجه الله، سواء رآه الناس، أو أخفى عمله، حتى لا تعلم شماله ما صنعتْ يمينه؛ لأن الأمر قائم على النية، فقد تعطي أمام الناس ونيتك أنْ يتأسَّوْا بك، أو لتكُفَّ عنك ألسنتهم وقدحهم في حقك.
وحين تعطي علانية بنية خالصة لله فإنها صدقة مخصِّبة للعطاء، مخصِّبة للأجر؛ لأنك ستكون أُسْوة لغيرك فيعطي، ويكون لك من الأجر مثله؛ لأن مَنْ سَنَّ حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة.
والقرآن عرض علينا هذه القضية في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَىا كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ... }[البقرة: 264].
ثم يعطينا مثلاً توضيحياً:{ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىا شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264].
فمثَل المرائي كهذا الحجر الناعم الأملس حين يصيبه المطر، وعليه طبقة من التراب يزيحها المطر، ويبقى هو صَلْداً ناعماً لا يحتفظ بشيء، ولا ينبت عليه شيء.
وهذا المثَل يُجسِّد لنا خيبة سَعْي المرائي، وأنه مغفل، سعى واجتهد فانتفع الناس بسَعْيه، وتعدّى خيره إلى غيره، وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب.
ثم يذكر الحق سبحانه المقابل:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[البقرة: 265].
فالصدقة ابتغاء وجه الله كالأرض الخِصْبة حين ينزل عليها المطر، فيأتي نباتها مضاعفاً مباركاً فيه، فإنْ لم يكُمْ مطر كفاها الطَّل لتنبت وتُؤتي ثمارها، ولو قال: كمثل جنة لكانت كافية لكنها{ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ... }[البقرة: 265] يعني: على مكان مرتفع ليدلَّ على خصوبتها، فكلما كانت الأرض مرتفعة زادتْ خصوبتها، وخلَتْ من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات.
وهذه الجنة تُرْوى بالمطر يأتيها من أعلى، فيغسل الأوراق والغصون، فتزيد نضارتها وجودتها، والأوراق هي رئة النبات.
والله تعالى يترك لآثار الذات في الناس تذكرةً وعبرة، فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به، أو ليُخضع عنقه بهذا الجميل، فتكون النتيجة الطبيعية أنْ ينكر الآخر جميله، بل ويكرهه ويحقد عليه، وهذا جزاء وفاقٌ لمن عمل العمل لغير وجه الله.
وهو معنى قولهم: اتَّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأنه حين يراك يتذكر ما لك من يَد عليه، وما لك من فضل، فيخزي ويشعر بالذلة؛ لأن وجودك يدكُّ كبرياءه؛ لذلك يكره وجودك، ويكره أنْ يراك.
فالحق سبحانه يقول: احذروا أنْ تُبطلوا المعروف بالرياء، أو بالأغراض الدنية؛ لأن معروفك هذا سيُنَكر، وسينقلب ما قدمتَ، من خير شراً عليك. إذن: عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه الله لا إلى غيره، فإنْ حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند الله، وكأن ربك - عز وجل - يغار عليك، ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده.
وهذا المعنى عبَّر عنه الشاعر بقوله:أقُولُ لأصْحاب المرٌوءَاتِ قَوْلةً تُريحهُمُ إنْ أحسَنُوا وتفضَّلُوايَسيرُ ذوو الحَاجَاتِ خَلْفَكَ خُضَّعاً فَإِنْ أدْركُوها خلَّفُوكَ وهَرْوَلُوافَلا تَدعِ المعْروفَ مهما تنكَّروا فَإِنَّ ثوابَ الله أربى وأجْزَلُوسبق أنْ ذكرتُ قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في الجزائر، فأشار لنا لنوصله في طريقنا، فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب، لكنه قبل أنْ يركب قال (على كام)؟ يعني: ثمن توصيله. فقال صاحب السيارة: لله. فقال الرجل (غَلِّتها يا شيخ).
لذلك يقول بعض العارفين: إن الذين يريدون بأعمالهم وجه الله هم الذين يُغْلون أعمالهم، أي: يرفعون قيمتها، ويضاعفون ثوابها.
وقوله تعالى: } فَآتِ ذَا الْقُرْبَىا حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ... { [الروم: 38] بعد قوله:{ وَيَقْدِرُ... }[الروم: 37] يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مُقِلٌّ، وهذا يدخل في إطار قوله تعالى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }[الحشر: 9].
وقلنا: إن الشارع حكيم، فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إنْ احتجت، وكأنه يقول لك: اطمئن فقد أمَّنْتُ لك حياتك، إن أصابك الفقر، أو كنت في يوم من الأيام مسكناً أو ابن سبيل، فكما فعلتَ سيُفعل بك.
وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم، فلو أن المجتمع الإيماني عوَّضه عن أبيه عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " لاطمأنَّ كلُّ أب على أولاده إنْ مات وتركهم؛ لأنهم في مجتمع يُعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين.
والإنسان إنْ كان آمناً مُنعَّماً، فإنما يُنغِّص هذه النعمة أنها عُرْضة لأنْ تزول، فيريد الله أنْ يُؤمِّن لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده، وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله الله قضية تأمينية في الكون، ليست في شركات التأمين، إنما في يده سبحانه حيث قال:{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }[النساء: 9] فإذا اتقوا الله وقالوا القول السديد، فإن يتيمهم يصادف أناساً يكفلونه، ويخافون عليه، ويتولَّوْن أمره.
وسبق أنْ تعرَّضْنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر - عليه السلام - ببنائه مع أنه في قرية أهلها لئام منعوهم حتى الطعام. وقلنا: إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال، ولا يُرَدُّ سائله، ومع ذلك بناه الخضر، وقال في بيان أمر الجدار:{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً... }[الكهف: 82].
فصلاح الأبويْن ينفع الغلامين، فيُسخِّر الله لهما مَنْ يبني لهما الجدار، ويحافظ لهما على كنزهما حتى يكبرا، ويستطيعا حمايته من هؤلاء اللئام الذين إذا علموا بأمره نهبوه من هذْين الصغيريْن.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن الفارق بين الهدية والصدقة، فيقول: } وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ... {.
(/3372)
وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
الحق - سبحانه وتعالى - يعرف أن خَلْقه يفعلون الخير، ويطلبون الأجر عليه، لكن هذا الطلب إذا خلا من الرياء، لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عَالٍ، فيأخذ صاحبها الثمن من يد الله سبحانه مضاعفاً، وطلب الزيادات يكون في النية.
فالمؤمن مثلاً يعلم أنه إذا حُيِّيَ بتحية فعليه أنْ يردَّها بخير منها، فقد يأتي فقير ويقدم لأحد الأغنياء هدية على قدر استطاعته، وفي نيته أنْ يردَّها الغني بما يناسب غِنَاه، إذن: فهو حين أعطى يطمع في الزيادة، وإن كانت غير مشروطة، ويجوز أنْ يردَّ الغنيُّ على الهدية بأفضل منها، ويجوز ألاَّ يردَّها أصلاً.
فقوله تعالى: { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً... } [الروم: 39] أي: الزيادة بأيِّ ألوانها عما تعطي، وهذه الزيادة غير مشروطة في عقد، والزيادة تكون في المال، أو بأيِّ وسيلة أخرى فيها نفع؛ لأنهم قالوا في تعريف الربا: كل قرض جَرَّ نفعاً فهو ربا.
حتى أن الإمام أبا حنيفة كان يجلس في ظل لجاره، فلما طلب منه جاره مالاً وأقرضه رآه الجار لا يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس، فسأله عن ذلك فقال: كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم أنه تفضّل منك، أما الآن فأخاف أنْ أجلس فيه حتى لا تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذتَه مني.
فالمعنى: وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكانتْ نفعاً، أو مالاً، أو غير مال، سواء أكانت مشروطة أو غير مشروطة. قالوا: فما حكم الهدايا إنْ رُدَّتْ بأحسن منها؟ وما ذنبي أنا المعطي في ذلك؟ قالوا: لا شيء فيها بشرط ألاَّ تكون في نيتك الزيادة، وألا تكون هديتك مشروطة، إنما تكون تحبباً وتودداً ومعروفاً بين الناس، إنما لا تأخذ عليها ثواباً من الله.
وقوله { لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ... } [الروم: 39] في هنا للظرفية، فالمال ظرف، وما تضعه فيه ينقص منه، ويزيد ما عندك { فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ... } [الروم: 39] يربو عندك أنت بالزيادة التي تأخذها ممَّنْ حيَّيْته، أمّا عند الله فلا يربو.
هكذا قال ابن عباس، وإن كان بعض العلماء قال: هي مطلق في الربا الأصل، وهذه مسألة كان يجب أنْ يُشرّع لها، لكن رأى ابن عباس أن آية الربا معروفة، وهذه للربا في زيادات التحية والمجاملات بين الناس.
ثم يقول سبحانه: { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ... } [الروم: 39] أي: الذين يؤتون الزكاة ويريدون بها وجه الله { هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39] ليست من الإضعاف، إنما من الأضعاف، فالزكاة أضعاف الفتح كما في قوله تعالى:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11] أما الربا فإضعاف بالكسر.
وهذه المسألة وقف عندها بعض المستشرقين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله، قالوا: في القرآن آيات تصادم الحديث النبوي، فالقرآن يقول:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11]. إذن: القرض الحسن يضاعف به الله الثواب، وعندكم أن الحسنة بعشر أمثالها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مكتوب على باب الجنة: الحسنة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر " فلو أن القرض الحسن يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فهو بعشرين لا بثمانية عشر.
فقلنا له: لو تصدقْتَ بدولار مثلاً فقد عملتَ حسنة تُضَاعف لك إلى عشر، لكن أردُّ إليك دولارك الذي تصدَّقْتَ به؟ لا، إذن حقيقة الأمر أنك أخذتَ تسعة تضاعف إلى ثمانية عشر.
قالوا: فلماذا زاد ثواب القرض؟ نقول: لأن المتصدِّق حين يتصدق ينقطع أمله فيما قدَّم، لكن المقرض لا يزال مُعلَّق البال في القرض ينتظر ردّه، فكلما صبر عليه أخذ أجراً، ثم إن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما المتصدَّق عليه فقد يقبل الصدقة وهو غير محتاج إليها، وربما كان ممَّنْ يكنزون المال.
إذن: فالحق سبحانه يريد أنْ يُنمي القرض لماذا؟ قالوا: لأن الله يريد أن تسير حركة الحياة، وأنْ تتكامل، وأنت تعتز بمالك وتخاف عليه وتريد له النماء، وسوف تجد هذا كله في القرض، فاجعله قرضاً، فهو الباب الذي فتحه الله لك للزيادة وللثواب.
ثم إن الله تعالى احترم ملكيتك لمالك، وحرص على حمايته لك، فقال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... }[البقرة: 282].
فالله يحفظ عليك مالك لتهدأ بالاً من ناحيته، ومع ذلك يترك مجالاً لأريحية المعطي ومروءته{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ... }[البقرة: 283].
وبهذه الفلسفة الإيمانية يدور المال وتسير به حركة الحياة، بحيث يضمن لصاحب المال ماله، لأنه مُحِبٌّ له حريص عليه، ويضمن لمن لا مالَ له أنْ يتحرك من مال الغير، فإذا كانت هناك أمانة أداء، فكل صاحب أمانة عليه أنْ يؤدِّيها لمستحقها.
فإن اختلت هذه الموازين، وماطل الفقيرُ الغنيَّ، وضنَّ عليه أنْ يردَّ إليه حقه، فقد فسد حال المجتمع وانهارت فيه هذه القيم، وساعتها لا نلوم القادر على العطاء إنْ أمسك ماله عن المحتاجين للقرض ولِمَ لا؟ والناس يأكلون الحقوق، وبذلك تتوقف حركة الحياة ويتراجع المجتمع عن مسايرة حركة التقدم.
فإذا كان الربا غير المشروط، وهو الربا في الهدايا والمجاملات والتحية بين الناس جعله الله للمودَّات وللمروءات بين الناس، لا يثيب عليه ولا يعاقب، وقال عنه } فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ... { [الروم: 39].
أما الربا المشروط فقد وقف معه وقفة حازمة، وشرع له عقاباً وجعل هذا العقاب من جنس ما يضادّ غرض الذي رَابَى، فأنت ترابي لتزيد من مالك، فيقابلك الله بالنقصان{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا... }
[البقرة: 276] لماذا؟
قالوا: لأن المعطي غنيٌّ واجد، لديه فائض من المال يعطي منه، أما الآخذ فمحتاج، فكيف نطلب من المحتاج أنْ يزيد في مال الواجد غير المحتاج؟ وكيف تكون نظرة المحتاج إليك حين يعلم أن عندك مالاً يزيد عن حاجتك، ومع ذلك ترفض أن تُقرضه القرض الحسن، بل تشترط عليه الزيادة، فتأخذ الزيادة منه وهو محتاج؟
ثم افرض أنني أخذت هذا القرض لأثمره وأنميه فخسر، أليس كافياً أنْ أخسر أنا عملي، وأنْ يضيع مجهودي؟ أمن العدل أن أخسر عملي، ثم أكون ضامناً للزيادة أيضاً؟ هذه ليست من العدالة؛ لأن شرط العقد أن يحمي مصلحة الطرفين، أما عقد الربا فلا يحمي إلا مصلحة الدائن.
ونحن نرى حتى التشريعات الوضعية في الاقتصاد إذا أعطى البنك مالاً لشخص لعمل مشروع مثلاً ثم خسر وأرادوا تسوية حالته، أول شيء في إجراءاتهم أنْ يُسقطوا عنه الفوائد.
وهذا يوافق شرع الله في قوله تعالى:{ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }[البقرة: 279] (لاتُظلمون) بمعنى: أن نردَّ إليكم رءوس أموالكم؛ (ولا تظلمون) أي: لا نظلمك من ناحية أخرى، فنقول لك:
إنْ أردتَ أنْ تتوب فرُدّ ما أخذتَه بالربا بأثر رجعي؛ لأن ما أخذتَه قد صُرِف وتصعب إعادته، وبذلك نراعي مصلحة الدائن حين نعيد إليه رأس المال، ومصلحة المدين، فلا نكلفه ردَّ مَا لا يقدر على ردِّه.
وحين نتأمل هذه المسألة: آلدول أقوى أم الأفراد؟ الدول، أرأيتم دولة اقترضت مالاً من دولة أخرى، ثم استطاعت أن تُسدِّد فوائد هذا الدين فضلاً عن أصل الدَّيْن؟ كذلك الأفراد الأقوياء الذين يأخذون القروض، ثم لا يسددون مجرد الفوائد، ولا يستطيعون جدولتها ولا تسوية حالتهم، فيقعون في خصومات ومشاكل.
شيء آخر، هَبْ أن رجلاً لديه مثلاً ألف جنيه ورجل لا عند له، صاحب الألف يستطيع أن يديرها، وأن يعيش منها، أما الآخر الذي لا يملك شيئاً فيقترض ليعيش مثل صاحبه، فإنْ قلت له: الألف قرضاً بمائة جنيه، فمن أين يوفر هذه المائة؟
إنْ أخذها من عائد المال يخسر، وإنْ أخذها من السلعة بأنْ يُقلل من الجودة أو من العناصر الفعالة في السلعة، أو في التغليف، جاءت السلعة أقلَّ من مثيلاتها وبارت. إذن: لا بد أن يتحملها المستهلك، وهذا إضرار به، وهو ليس طرفاً في العقد، إذن: العقد باطل.
وحين نقول: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان يجب أن نفهم هذه القضية جيداً، وإياك أن تقول: إن الإسلام لا يصلح في زمان كذا، أو في مكان كذا.
والآن نسمع البعض ينصرف عن منهج الإسلام ويقول لك{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... }[البقرة: 286] أي: ليس في وُسْعه الآن تنفيذ شرع الله. لكن نقول له: مَن الذي يحدد الوُسْع؟ أنت أم المشرِّع سبحانه؟
ما دام الله تعالى قد كلَّف، فاعلم أن التكليف في وُسْعك، فخذ الوُسْع من التكليف، لا أن تُقدِّر أنت الوسع وتنسى ما كلَّفك الله به.
لذلك ترى أن الله تعالى إذا ضاق الوُسْع يُخفِّف عنك دون أنْ تطلب أنت التخفيف، كما في صلاة وصوم المريض والمسافر.. الخ وكما في التيمم إنْ تعذَّر استعمال الماء.
فلا معنى لأن نقول: إن تعاليم الدين لا تناسب العصر، إذن: اجعل العصر هو المشرِّع، وانصرف عن تشريع السماء إلى ما يحتمله العصر.
لذلك قلنا: إن الحق سبحانه حينما يلقي تكاليفه يقول:{ قُلْ تَعَالَوْاْ... }[الأنعام: 151] فمعنى تعالوا: ارتفعوا عن مستوى أهواء البشر، واعلوا إلى تكاليف الله، فإنْ هبطت بالتكاليف إلى مستواك، وقُلْت ظروف العصر تحتم عليَّ كذا وكذا فقد أخضعتَ منطق السماء لمنطق الأرض، وما جاء منطق السماء إلا ليعلو بك.
فإنْ نظرنا إلى مواقف العلماء من مسألة الربا، فمنهم مَنْ يُحلِّل، ومنهم مَنْ يُحرِّم وهم الكثرة، وهَبْ أنهم متساوون مَنْ يحرم ومَنْ يحلل، فما حكم الله فيما تساوتْ فيه الاجتهادات؟
النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لنا هذه القضية في قوله: " الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه،’ألا وإن لكل ملك حِمىً، ألا وإن حمى الله محارمه ".
فهل قال رسول الله: فمَنْ فعل الشبهات أم: فمَنْ ترك الشبهات؟ إذن: مَنْ وقع في الشبهات لم يستبريء، لا لدينه ولا لِعرْضه، وهل يرضى أحد أنْ يُوصَف هذا الوصف؟ وعجيب أن نسمع مَنْ يقول: وما علاقة العِرْض بهذه المسألة؟ نقول: والله حتى غير المؤمن بدين يستنكف أن يقال عنه أنه مُرابٍ، عِرْضه لا يقبلها فضلاً عن دينه.
لذلك؛ فالمكارون الذين يريدون أن يُغلوها، ويريدون أن يعيشوا على دماء الناس لا يدرون أن النفعية هي القانون الذي يحكم الله به خَلْقه، فيجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها، لذلك يقول اليهود: كيف تُحرِّمون الربا والله يعاملكم به؟
نعم، الحق - سبحانه وتعالى - يعاملنا بالربا، ويعطينا بالزيادة؛ لأن هذه الزيادة لا تُنقِص مما عنده سبحانه، أمّا الزيادة من الناس ومن المحتاجين فإنها ترهقهم وتزيدهم فقراً وحاجة.
ثم دَعْكَ من هذا كله، وتأمل في المحيط الذي تعيش فيه، ففي كل بلد أناس يحبون الربا ويتعاملون به، أرأيتم مرابياً مات بخير؟ أمات مرابٍ وثروته كاملة؟ لا، لأن الله تعالى لم يكن ليقول{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا... }[البقرة: 276] ثم يترك مرابياً ينمو ماله، ويسلم له إلى أنْ يموت، فإن اغتنى لحين، فإنما غِنَاه كيد فيه، ومبالغة في إيذائه، كما جاء في الأثر " إذا غضب الله على إنسان رزقه من الحرام، فإن اشتد غضبه عليه بارك له فيه ".
واقرأ قول الله تعالى:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44].
لذلك نسمع " فلان ماهر في التجارة " ، " فلان يضع يده في التراب يصير ذهباً "... الخ.
وسبق أن أوضحنا الفرق بين " فتحنا لهم " و " فتحنا عليهم ": " لهم " أي لصالحم بالخير، أما " عليهم " فيعني كيداً لهم وتحدياً وإهلاكاً، فالله تعالى يعطي الكافر ويُوسِّع عليه زهرة الدنيا، حتى إذا أخذه كان أخْذه أليماً، كما قلنا: إنك إنْ أردت أنَ تُوقِع عدوك لا توقعه من على الحصير، إنما من مكان عالٍ حتى يكون السقوط مؤلماً.
وقوله تعالى:{ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ... }[الأنعام: 44] والفرح بالنعمة ليس ممنوعاً، لكن هناك فرح يُحب، وفرح يُكره، وإلاَّ فالحق سبحانه نسب الفرح للمؤمنين في قوله تعالى في سورة الروم:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ... }[الروم: 4-5] وقال سبحانه:{ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ... }[آل عمران: 170] وقال:{ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ... }[يونس: 58] فأثبت لهم الفرح المقبول، وهو الفرح الذي يعقبه قولنا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ثم تشكر الله الذي أنعم عليك، أما الفرح المكروه فهوالفرح الذي يُورِثك بَطَراً وأَشَراً وكبراً.
ثم يقول الحق سبحانه: } اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ... {.
(/3373)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
سبق أنْ قلنا: إن قضية الخَلْق مُسلَّم بها؛ لأنها قضية لم يدَّعها أحد لنفسه مع كثرة المتبجحين بالكفر والإلحاد؛ لذلك لما ادَّعاها النمروذ الذي حاجَّ إبراهيم في ربه فقال: أنا أحيي وأميت، فعلم إبراهيم عليه السلام أنه يريد اللجاج والسفسطة التي لا طائل منها، وإلا فكيف يكون الأمر بقتل واحد إماتة، والأمر بترك الآخر والعفو عنه إحياء؟
ثم ما بال الذين خُلِقوا قبلك وميلادهم قبل ميلادك؟ إذن: أنت لم تخلق ولم تُحي أحداً، وسبق أنْ بيّنا الفرق بين القتل والموت مع أنهما يشتركان في إنهاء الحياة وإزهاق الروح، لكن الموت يكون بإزهاق الروح أولاً، يتبعه نَقْض البنية وتحطم الجسم.
أما القتل فينقض البنية أولاً نَقْضاً يترتب عليه إزهاق الروح فالروح لا تقيم إلا في بنية سليمة، ومثَّلنا لذلك بلمبة الكهرباء حين تحرق فينطفيء نورها، فهل يعني ذلك أن التيار انقطع عنها؟ لا بل هو موجود لكنه يحتاج لبنية سليمة بدليل أننا إذا استبدلنا اللمبة تضيء.
والحق - سبحانه وتعالى - يبين لنا هذا الفرق في قوله سبحانه:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىا أَعْقَابِكُمْ... }[آل عمران: 144] إذن: فالنمروذ لا يحيي، بل يُبقِي على الحياة، ولا يُميت بل يقتل ويُزهِق الروح.
وكان بمقدور إبراهيم عليه السلام أنْ يردَّ عليه هذه الحجة، وأنْ يكشف تزييفه، لكنه أراد أن يأخذه إلى ميدان آخر لا يستطيع التلفيق فيه ولا التمحُّك، فقال له:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ... }[البقرة: 258].
كذلك مسألة الرزق فهي مُسلَّمة لله لم يدَّعِها أحد: { خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ... } [الروم: 40].
بدليل أن الله تعالى جعل بعض المناطق جدباء، يجوع فيها القادر والعاجز، ويجوع فيها ذو المال وغير ذو المال، ولو كان هناك رازق غير الله فَلْيْحُي هذه المناطق الجدباء.
وقوله تعالى: { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. } [الروم: 40] ولم يقل: يقتلكم { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُمْ مِّن شَيْءٍ... } [الروم: 40] أي: اسألهم هذا السؤال، ودَعْهم يجيبون هم عليه: أتستطيع الأصنام التي تشركونها مع الله أنْ تفعل شيئاً من الخَلْق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة؟
أفي قدرتها شيء من ذلك وأنتم الذين تصنعونها وتنحتون حجارتها بأيديكم، وتُصوِّرونها كما تشاؤون، فإذا هبَّتْ عاصفة أطاحت بها وربما كسرت ذراع أحد الأصنام فتجتمعون لإقامتها وإصلاحها؟ فأين عقولكم؟ وما هذه الخيبة التي أصابتكم؟
لذلك يقول سبحانه عنهم:{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }[النحل: 20] ويقول سبحانه:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ... }[الحج: 73] بل وأكثر من ذلك
{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73].
بالله، أيستطيع أحد أنْ يستردَّ ما أخذتْه منه الذبابة؟
ونلحظ في الآية تكرار (منْ) وهي للتبعيض: } هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُمْ مِّن شَيْءٍ... { [الروم: 40] والمعنى: لا يستطيع أحد من شركائكم أن يفعل شيئاً ولو هيِّناً من الخلق، أو الرزق، أو الإحياء، أو الإماتة.
لذلك يجب أنْ تُعلِّقوا على هذه القضايا من الله بقول واحد } سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { [الروم: 40] لا تعليق إلا هذا.
لذلك لما تكلم سيدنا إبراهيم عن الأصنام قال:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ... }[الشعراء: 77] أي: أنتم وما تعبدون من دون الله؛ لأنهم كانوا يشركون آلهتهم مع الله، فالله سبحانه داخل في هذه الشركة؛ لذلك استثناه ربه{ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 77-78].
وتلحظ هنا في قوله{ الَّذِي خَلَقَنِي... }[الشعراء: 78] أنه لم يؤكدها بشيء، ولم يذكر قبل الخَلْق الضمير (هو)؛ لأن مسألة الخَلْق كما قُلْنا لم يدَّعها أحد، أمّا في الهداية وهي مجال ادعاء، فقال (فهو) أي: الحق سبحانه يقصر الهداية على الله{ فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 78].
وفي هذا إشارة إلى أن القانون الذي يُنظم حياتي والمنهج الذي يهديني قانون ربي لا آخذه من أحد سواه، وكثيراً ما نرى مَنْ يدَّعي الهداية ويقول: إنني وضعتُ قانوناً يُسعِد حياة الناس، ويفعل كذا وكذا، سمعنا هذه النغمة مرة من الرأسمالية، ومرة من الاشتراكية، ومن الشيوعية..الخ.
إذن: هذا مجال ادعاء واسع، فقيَّده إبراهيم - عليه السلام - وقصره على الله، حيث لا منهجَ إلا منهجُ الله، ولا قانونَ يحكمنا إلا قانون ربنا، كما نقول في العامية (مفيش إلا هو).
كذلك في مسألة الإطعام قال:{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي... }[الشعراء: 79] فاستخدم القصر هنا بذكر الاسم الموصول (الذي) ثم الضمير المفرد الغائب(هو)؛ ليؤكد أن الذي يطعمه إنما هو الله؛ لأن الإنسان قد يظن أن أباه هو الذي يطعمه، أو أن أمه هي التي تُطعمه؛ لأنها تُعِد له طعامه، فهما السببان الظاهران في هذه المسألة، فاحتاج الأمر إلى أكثر من مؤكد.
ثم يقول عليه السلام:{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }[الشعراء: 81] هكذا دون توكيد؛ لأن الموت والحياة مسألتان مُسلَّمتان لله مفروغ منهما، وكذلك:{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }[الشعراء: 82] وهذه أيضاً لا تكون إلا لله تعالى.
إذن: ما كان للغير فيه شبهة عمل يؤكدها ويخصُّها لله تعالى، أما الأخرى التي لا دخْلَ لغير الله فيها فيسوقها مُطْلقة دون اختصاص.
فالتعليق في هذا الأمر العجيب لا يكون إلا بقولنا: } سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { [الروم: 40] أي: تنزيهاً له عن الشركة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الله تعالى قال: لا إله إلا أنا، ولم يَقُمْ لهذه القضية منازع، ولم يدَّعها أحد لنفسه.
إذن: فهي مُسلَّمٌ بها، وإلا فإنْ كان هناك إله آخر فأين هو؟ ولماذا لم يدافع عن حقه في الألوهية؟ إن كان لا يدري فهو غافل، وإنْ كان يدري ولم يعارض فهو جبان، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهاً.
لذلك ربنا حكمها بقضية واحدة، فقال:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].
ثم يقول الحق سبحانه: } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ... {.
(/3374)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
ظهر: بان ووضح. والظهور: أن يُبين شيء موجود بالفعل لكنَّا لا نراه، وما دام الحق سبحانه قال: { ظَهَرَ الْفَسَادُ... } [الروم: 41] فلا بُدَّ أن الفساد كان موجوداً، لكن أصحاب الفساد عمُّوه وجَنُّوه إلى أن فقس وفرخ في المجتمع.
والفساد لا يظهر إنما يظهر أثره، أتذكرون الزلزال الذي حدث والذي كشف الفساد والغش والتدليس بين المقاول والمهندس، وكانت المباني قائمة والفساد مستتراً إما لغفلتنا عنه، أو لتواطئنا معه، أو لعدم اهتمامنا بالأشياء إلى أن طمَّتْ المسائل، ففضح الله الأرض بالزلزال، ليكشف ما عندنا من فساد.
فإذا ازداد الغش، وانتشر وفَاقَ الاحتمال لا بُدَّ أن يُظهره الله للناس، فلم يَعُدْ أحد قادراً على أن يقف في وجه الفساد، أو يمنعه؛ لذلك يتدخَّل الحق سبحانه، ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما عملت أيديهم.
وتأتي ظهر بمعنى " الغلبة " كما في قوله تعالى:{ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىا عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ }[الصف: 14] أي غالبين. وفي سورة التحريم:{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ.. }[التحريم: 4].
وبمعنى " العلو " في قوله تعالى:{ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً }[الكهف: 97].
فالمعنى { ظَهَرَ الْفَسَادُ... } [الروم: 41] أي: غلب الصلاح وعلا عليه، والكون خلقه الله تعالى على هيئة الصلاح، وأعدّه لاستقبال الإنسان إعداداً رائعاً، وللتأكد من صدْق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفلاكه وأجوائه، فلن ترى فساداً إلا فيما تتناوله يد الإنسان.
أما ما لا تتناوله يد الإنسان، فلا ترى فيه خللاً؛ لأن الله خلقه منسجمَ الأجناس منسجمَ التكوين:{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].
فهل خلقنا الحق سبحانه وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟
لا، إنما هو ابتلاء الاختيار حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانوناً لحركتك بافعل ولا تفعل، وما لم أقُل فيه (افعل) أو (لا تفعل) فأنت حر فيه، فلا يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون، أمّا أنا فقد قلت افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله، وقلت لا تفعل في الذي يحصل ضرر من فعله.
فالفساد يأتي حين تُدخِل يدك في شيء وأنت تطرح قانون الله في افعل ولا تفعل، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإنْ علا تيار الفساد وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس.
وعندها يُنبِّهنا الحق سبحانه بالأحداث تطرقنا وتقول لنا: انظروا إلى مَنْ خالف منهج الله ماذا حدث له؛ لذلك في أعقاب الأحداث نزداد عشقاً لله، وحباً لطاعته، وترى الناس (تمشي على العجين متلخبطه)، لكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من الإهمال والغفلة، على حَدِّ قول الشاعر:تُروِّعنا الجناَئِزُ مُقْبِلاتٍ ونلهُو حِين تَذهَبُ مُدبراتِكَروْعَةِ ثُلَّةٍ لمغَارِ ذِئْبٍ فَلما غابَ عادتْ راتعاتِ
فالحق يقول: } ظَهَرَ الْفَسَادُ... { [الروم: 41] أي: غلب على قانون الصلاح الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون، الذي لو نالتْه يد الإنسان لَفسد هو الآخر، كما قال سبحانه:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.... }[المؤمنون: 71].
فظواهر الكون أشياء وقضايا لكل العامة، ومن الحكمة إلاّ تنالها يد الإنسان؛ لأن الله تعالى يريد للكون البقاء، ولم يأْتِ أوان انتهائه، لذلك الحق سبحانه يجعل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى حين، إلى أن يصل إلى درجة التشبُّع، فتتفجر الأوضاع.
فقوله: } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ... { [الروم: 41] نتيجة لدعوته صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة (ظهر) تدل على أن شيئاً وقع، فكأنه يقول لنا: إنْ كررتم الفساد والغفلة تكرَّر ظهور الفساد، فهو يعطينا مُلخصاً لما حدث بالفعل من عداوتهم لرسول الله، ومقاطعته وعزله وإغراء السفهاء منهم للتحرش به، ثم عداوة أصحابه وإجبارهم على الهجرة إلى الحبشة حتى لا يستقر لهم قرار بمكة.
لذلك دعا عليهم رسول الله: " اللهم اشْدُد وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " فأصابهم الجَدْب والقحط، حتى رُوِي أنهم كانوا يذهبون للبحر لصيد السمك، فيبتعد عنهم ولا يستقيم لهم فيعودون كما أتوا.
وهذا معنى } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... { [الروم: 41].
ثم يوضح الحق سبحانه سبب هذا الفساد: } بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ... { [الروم: 41] فتلحظ هنا أن الحق سبانه لما يذكرالرحمة لا يذكر عِلَّتها، لكن يذكر عِلَّة الفساد؛ لأن الرحمة من الله سبحانه أولاً وأخيراً تفضُّل، أما الأخذ والعذاب فبَعدله تعالى؛ لذلك يُبِّين لك أنك فعلت كذا، وتستحق كذا، فالعلَّة واضحة.
هناك قضية أخرى أحب أن أوضحها لكم، وهي أن الحق سبحانه يعامل خَلْقه معاملته في الجزاء، فالله يقول:{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... }[الأنعام: 160].
إذن: فالحسنة الواحدة تستر عشر سيئات، وكذلك في جسم الإنسان، فيقول بعض علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن الكلية بها مليون خلية يعمل منها العُشْر بالتبادل، فمجموعة تعمل، والباقي يرتاح وهكذا. فانظر كم ترتاح الخلية حتى يأتي عليها الدور في العمل.
فكأن ربنا - سبحانه وتعالى - خلق لها العشر يقوم مقام المليون؛ لذلك قالوا لو أن في أحد الدواوين عشرة موظفين، منهم واحد واحد محسن، يستر إساءة الباقين، وكثيراً ما تلاحظ هذه الظاهرة في دواوين الحكومة، فترى غالبية الموظفين منشغلين: هذا يقرأ الجرائد، وهذا يشرب الشاي، وآخر لم يأْتِ أصلاً.
وخلف كومة من الملفات تجد موظفاً نحيلاً غارقاً في العمل، يقصده الجميع، ويتحمل هو تقصير الآخرين، ويؤدي عنهم، وبه تسير دفَّة الأمور، لكن إنْ فقدنا هذا أيضاً، فلا بُدَّ أن تأتي } ظَهَرَ الْفَسَادُ... { [الروم: 41] إذن: إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود.
وما دام الحق سبحانه قال: } بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ... { [الروم: 41] فلا بُدّ أن الفساد جاء من ناحيتهم، وبالله هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلاً؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبتْ أيدي الناس، أمّا حين نذهب إلى الخلاء حيث لا يوجد الإنسان، نجد الهواء نقياً كما خلقه الله.
الحق سبحانه تكفَّل لنا بالغذاء فقال:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 10] لكنا نشتكي أزمة طعام، لماذا؟ لأن الطعام يحتاج إلى عمل، ونحن تكاسلنا، وأسأنا التصرُّف في الكون، إما بالكسل والخمول عن استخراج خيرات الأرض وأقواتها، وإما بالأنانية حيث يضنُّ الواجد على غير الواجد.
وقد قرأنا مثلاً أن أمريكا تسكب اللبن في البحر، وتعدم الكثير من المحصولات، وفي العالم أُناس يموتون جوعاً، إذن: هذه أنانية، أما التكاسل فقد حدث منا في الماضي.
وانظر الآن إلى صحرائنا التي كانت جرداء قاحلة، كيف اخضرت الآن، وصارت مصدراً للخيرات لما اهتممنا بها ويسَّرنا ملكيتها للناس، فإنْ ضنَّتْ الأرض في منقطة ما فقد جعل الله لنا سعة في غيرها، فالخالق سبحانه لم يجعل الأرض لجنس ولا لوطن، إنما جعلها مشاعاً لخَلْق الله جميعاً.
واقرأ قوله تعالى:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97].
ولذلك قلت في هيئة الأمم: إن في القرآن آية واحدة، لو أخذ العالم بها لضمنت له الرخاء والاستقرار والأمان، إنها قوله تعالى:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10] فالأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، لكن الواقع خلاف ذلك، فقد وضعوا للأرض حدوداً، وأقاموا عليها الحواجز والأسوار، فإنْ أردتَ التنقّل من قطر إلى آخر تجشَّمت في سبيل ذلك كثيراً من المشاق في إجراءات وتأشيرات.. إلخ.
وكانت نتيجة ذلك أن يوجد في الكون رجال ازدحموا بلا أرض، وفي موضع آخر أرض بلا رجال، ولو حدث التكامل بين هذه وتلك لاستقامت الأمور.
إذن: الذين وضعوا الحدود والحواجز في أرض الله أخذوها لأنفسهم، فلم تَعُدْ أرض الله الواسعة التي تستقبل خَلْق الله من أي مكان آخر، إنما جعلوها أرضهم، وأخضعوها لقوانينهم هم، وتعجب حين تتأمل حدود الدول على الخريطة، فهي متداخلة، فترى جزءاً من هذه الدولة يدخل في نطاق دولة أخرى، على شكل مثلث مثلاً، أو تمتد أرض دولة في دولة أخرى على شكل لسان أو مناطق متعرجة، فماذ دُمْتم قد وضعتم بينكم حدوداً، فلماذا لا تجعلونها مستقيمة؟
وكأن واضعي هذه الحدود أرادوها بُؤراً للخلاف بين الدول، ولا يخلو هذا التقسيم من الهوى والعصبيات القبلية والجنسية والقومية والدينية، لكن لو أخذنا بقول ربنا:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10] لما عانينا كل هذه المعاناة.
وقوله تعالى: } كَسَبَتْ... { [الروم: 41] عندنا: كسب واكتسب، الغالب أن تكون كسب للحسنة، واكتسب للسيئة؛ لأن الحسنة تأتي من المؤمن طبيعة بدون تكلُّف أو افتعال، فدلَّ عليها بالفعل المجرد (كسب).
أما السيئة، فعلى خلاف الطبيعة، فتحتاج منك إلى تكلُّف وافتعال، فدلَّ عليها بالفعل المزيد الدال على الافتعال (اكتسب).
أَلاَ ترى أنك في بيتك تنظر إلى زوجتك وبناتك كما تشاء، أما الأجنبية فإنك تختلس النظرات إليها وتحتال لذلك؟ فكل حركاتك مفتعلة، لماذا؟ لأنك تفعل شيئاً محرماً وممنوعاً، أما الخير فتصنعه تلقائياً وطبيعياً بلا تكلُّف.
كما أن الحسنة لا تحتاج منك إلى مجهود، أمّا السيئة فتحتاج إلى أنْ تٌجنَّد لها كل قواك، وأن تحتاط، كالذي يسرق مثلاً، فيحتاج إلى مجهود، وإلى محاربة لجوارحه؛ لأنها على الحقيقة تأبى ما يفعل.
ومع ذلك نلحظ قوله تعالى:{ بَلَىا مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ... }[البقرة: 81].
فجعل السيئة كَسْباً لا اكتساباً. قالوا: لأن السيئة هنا صارت عادة عنده، وسهلت عليه حتى صارت أمراً طبيعياً يفعله ولا يبالي كالذي يفعل الحسنة، وهذا النوع والعياذ بالله أحب السيئة وعشقها، حتى أصبح يتباهى بها ولا يسترها ويتبجح بفعلها.
وهذا نسميه (فاقد)، فقد أصبح الشر والفساد حرفة له، فلا يتأثر به، ولا يخجل منه كالذي يقبل الرِّشْوة، ويفرح لاستقبالها، فإن سألته قال لك: وماذا فيها؟ أنا لا أسرق الناس.
وقوله تعالى: } لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ... { [الروم: 41] الإذاقة هنا عقوبة، لكنها عقوبة الإصلاح كما تعاقب ولدك وتضر به حرصاً عليه، وسبق أن قلنا: إنه لا ينبغي أن نفصل الحدث عن فاعله، فقد يعتدي ولد على ولدك، فيجرحه فتذهب به للطبيب، فيجرحه جرحاً أبلغ، لكن هذا جرح المعتدي، وهذا جرح المداوي.
وحين يُذيق الله الإنسانَ بعض ما قدَّمت يداه يوقظه من غفلته، ويُنبِّه فيه الفطرة الإيمانية، فيحتاط للأمر ولا يهمل ولا يقصر، وتظل عنده هذه اليقظة الإيمانية بمقدار وَعْيه الإيماني، فواحد يظلّ يقظاً شهراً، ثم يعود إلى ما كان عليه، وآخر يظل سنة، وآخر يظل عمره كله لا تنتابه غفلة.
وقد أذاق اللهُ أهلَ مكة عاقبة كفرهم حتى جاعوا ولم يجدوا ما يأكلونه إلا دَمَ الإبل المخلوط بوبرها، وهو العِلْهِز.
وقوله: } لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [الروم: 41] لأن الكلام هنا في الدنيا، وهي ليستْ دار جزاء، فالحق يُذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه سبحانه، ويتوبوا ويعودوا إلى حظيرة الإيمان؛ لأنهم عبيدة، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها.
والحق سبحانه ساعة يقول } ظَهَرَ الْفَسَادُ... { [الروم: 41] أي: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبيِّن لنا أن الرسل إنما جاءوا لإنقاذ البشرية من هذا الفساد، لكن ما دام الأمر عُلِّل فالأمر يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فكلما ظهر الفساد حلَّتْ العقوبة، فخذوها في الكون آية من آيات الله إلى قيام الساعة.
فظهر الفساد قديماً{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
[العنكبوت: 40]
لكن هذا الأخْذ كان قبل سيدنا رسول الله في الأمم السابقة، وكان هلاك استئصال؛ لأن الرسل السابقين لم يُكلَّفوا بالمحاربة لأجل نَشْر دعوتهم، فما عليهم إلا نشر الدين وتبليغه، مع التأييد بالمعجزات، فإنْ تأبَّى عليهم أقوامهم تولَّى الحق سبحانه عقابهم، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أكرمهم الله بألاَّ يعاقبها بعذاب الاستئصال.{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].
ثم سيظهر الفساد حديثاً وسيحدث العقاب. إذن: ليست الأمة الإسلامية بِدَعاً في هذه المسألة.
ثم يقول الحق سبحانه: } قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ.... {.
(/3375)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
السير: الانتقال من حيز مكاني إلى حيز آخر، وسبق أنْ قلنا: إن النظرة السطحية في ظاهر الأمر أن السير يكون على الأرض لا فيها؛ لأننا نسكن على الأرض لا فيها، لكن الحق سبحانه يُبصرنا بقوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [الروم: 42] أن الأرض ليست هي اليابسة والماء على سطح الكرة الأرضية، أما الأرض فتشمل غلافها الجوي لذلك يدور معها وهو إكسير الحياة فيها؛ فلا حياة لها إلا به.
إذن: فهواء الأرض من الأرض، وهو أهم الأقوات للأحياء عليها، فحين يقول تعالى:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 10] فالهواء داخل فيها، لذلك قال { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [الروم: 42].
وقلنا: لو أنك استقرأتَ أجناس الوجود لوجدت أنك الجنس الأعلى في الكون، وكل الأجناس تحتك تخدمك، فأنت تنتفع بالحيوان وبالنبات وبالجماد، فأدنى الأجناس في الكون وهو الجماد له مهمة يؤديها.
فأنت أيها الإنسان الذي كرَّمك الله على كل أجناس الوجود إذا لم تبحث لك عن مهمة تؤديها في الحياة، ودور تقوم به، فأنت أقل منزلةً من أدنى الأجناس وهو الجماد، إذا لم تبحث بعقلك عن شيء ترتبط به يناسب سيادتك على مَنْ دونك، فأنت أتفه من الحجر؛ لأن الحجر له مهمة يؤديها، وأنت لا مهمةَ لك.
لكن هذا الجنس الأدنى إنْ أراد سبحانه أعطاه عزة فوق السيد المخدوم وهو الإنسان، ففي فَرْض الحج يُسَنُّ لك أن تُقبِّل هذا الحجر، وتسعى جاهداً لكي تُقبِّله، وتأمل الإنسان - وهو سيد هذا الوجود - وهو يحاول أنْ يُقبِّل الحجر، ويغضب إنْ لم يتمكن من ذلك.
وتأمل الردَّ من دولة الأحجار على مَنْ عبدها من دون الله:عَبَدُونَا ونَحْنُ أعبَدُ لله منَ القائمين بالأسْحارِتَخِذُوا صَمْتنَا عَليْنَا دَليلاً فَغدوْنَا لَهُم وقُودَ النارِقَدْ تجنَّوا جَهْلاً كما قَدْ تجنَّوْه علَى ابْن مريم والحَوارِيَللمغَالِي جَزَاؤه والمغَالَي فيهِ تُنجِيهِ رَحْمةُ الغفَّارِثم يقول سبحانه: { فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ... } [الروم: 42] فالسير في الأرض يكون إما للسياحة والتأمل في آيات الله في كونه، لذلك يستخدم فيها الفاء { فَانْظُرُواْ... } [الروم: 42] أو يسير في الأرض لطلب الرزق.
وفي آية أخرى:{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ... }[الأنعام: 11] والمعنى: سيروا في الأرض للاستثمار، وطلب القوت، وقضاء المصالح، لكن لا يفوتكم النظر والتأمل في آيات الله وفي مخلوقاته لتأخذوا منها العبرة والعظة.
ومعنى: { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ... } [الروم: 42] أي الذين ظهر الفساد بينهم، فأذاقهم الله الألم بما كسبتْ أيديهم، فهذه ليست عندك وحدك، إنما حدثتْ في الأمم السابقة، كما قال سبحانه:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137].
فهناك مدائن صالح والأحقاف وعاد وثمود والفراعنة.. إلخ انظر ما حلَّ بهم بعد الحضارة والنضارة، بعد ما توصلوا إليه من علم التحنيط الذي لم يعرف العلم أسراره حتى الآن، ويضعون مع جثث الموتى حبوب القمح أو الشعير، فتظل على حالها، بحيث إذا زُرِعت بعد آلاف السنين تنبت.
إنها قدرة علمية فائقة، ومع ذلك ما استطاعت هذه الحضارة أن تحمي نفسها من الاندثار، وإذا كان القرآن قد قال عن الحضارة الفرعونية{ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 10] فقد قال عن إرم{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 8].
فأيُّ حضارة هذه؟ وأين هي الآن؟ طمرتها رمال الأحقاف، ودفنتها تحت أطباق الثرى، ولا تعجب من ذلك، ففي هذه المنطقة إنْ هبَّتْ عاصفة واحدة، فإنها تغطي قافلة كاملة بجمالها ورجالها تحت الأرض، فما بالك بالعواصف منذ قرون طوال؛ لذلك نجد كل الآثار يتم التنقيب عنها حَفْراً.
إذن: فالحضارات مع عظمها لم تستطع أنْ تحمي نفسها من الزوال، وهذا دليل على وجود قوة أعلى منها تزيلها وتقضي عليها.
وقوله تعالى: } كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ { [الروم: 42] أي: أن القليل منهم لم يكُنْ مشركاً، قالوا: هذه القِلّة هم الصبيان والمجانين، ومن ليس له إرادة حرة، وإن أخذت هذه القلة مع الكثرة المشركة، فإن الله إنما أراد بهم خيراً؛ لأن مثواهم إلى الجنة بغير حساب.
لذلك لما تكلمنا عن موسى والعبد الصالح في سورة الكهف: لما قتل الخضر الغلام تعجَّب موسى، ففي المرة الأولى خرق السفينة واعتدى على ملْك، أما في هذه المرة فقد أزهق روحاً؛ لذلك قال في الأولى{ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }[الكهف: 71] أي: عجيباً، أما في الثانية فقال:{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }[الكهف: 74].
ثم بيَّن الخضر الحكمة من قتل الغلام فقال: إن له أبوين صالحين، وفي علم الله تعالى أنه سيفسد عليهما دينهما؛ لأن الفتنة تأتي الإنسان غالباً من الزوجة أو من الولد، كما قال سبحانه:{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ... }[التغابن: 14] لماذا؟ لأنهما يحملانك على ما لا تطيق، ويضطرانك ربما للسرقة أو للرشوة لتوفر لهما ما يلزمهما، ولأن الفساد يأتي من ناحيتهما قال سبحانه:{ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3] يعني: طمئنوا عبادي، فلا أحد يؤثر على إرادتي.
إذن: فالخضر صنع الجميل بالوالدين، حيث أنقذهما من هذا الابن، وصنع أيضاً جميلاً بالغلام حيث قتله قبل سِنِّ التكليف، وجعل مصيره إلى الجنة، وربما لو تركه لكان كافراً بالله عاقاً لوالديه، وهذا كله إنما جرى بأمر الله وحكمه: } وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي... { [الكهف: 82].
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنبيه في هذه المسألة بداية من{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ... }[الروم: 41] ثم إنزال العقاب بهم جزاء ما عملتْ أيديهم وأجبتُك في دعوتك عليهم.
كل ذلك إنما يعني أنني أقوِّي مركزك، ولن أتخلى عنك، وما دام الأمر كذلك فإياك أن يُؤثِّر فيك مكرهم أو تركن إلى أحد منهم ممَّنْ قالوا لك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، لكن يقول الحق سبحانه: } فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ... {.
(/3376)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
قوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ... } [الروم: 43] يعني اطمئن يا محمد، وتفرغ لعبادة الله لأنني وعدتُك بالنصر، وأجبتُك حين قُلْت: " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسنيِّ يوسف ". { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77] يعني: مَنْ لم تَنَلْهُ عقوبة الدنيا نالته عقوبة الآخرة.
وقال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ... } [الروم: 43] لأن الوجه محلُّ التكريم، وسيد الكائن الإنساني، وموضع العزة فيه، بدليل أن السجود والضراعة لله تعالى تكون بوضع هذا الوجه على الأرض؛ لذلك حين ترسل شخصاً برسالة أو تُكلِّفه أمراً يقضيه برِجْله، أو بيده، أو بلسانه، أو بأيِّ جارحة من جوارحه تقول له: أرجو أنْ تُبيِّض وجهي؛ لأن الوجه هو السيد.
ومن ذلك قوله تعالى:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88] لأنك لا تعرف سمة الناس إلا بوجوههم، ومَنْ أراد أنْ يتنكر أو يُخفي شخصيته يستر مجرد عينيه، فما بالك إنْ ستر كل وجهه، وأنت لا تعرف الشخص من قفاه، ولا من كتفه، ولا من رجله، إنما تعرفه بوجهه، ويقولون: فلان وجيه القوم، أو له وجاهته في القوم، كلها من ناحية الوجه.
وما دام قد خصَّ الوجه، وهو أشرف شيء فيك، فكُلُّ الجوارح مقصودة من باب أَوْلَى فهي تابعة للوجه، فالمعنى: أقِم يدك فيما أمرك الله أن تفعل ورجلك فيما أمرك الله أنْ تسعى، وقلبك فيما أمرك الله أن تشغل به، وعينك فيما أمرك الله أن تنظر فيه.. الخ.
يعني: انتهز فرصة حياتك { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ... } [الروم: 43] هو يوم القيامة { لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ... } [الروم: 43] المعنى: أن الله حين يأتي به لا يستطيع أحد أنْ يسترده من الله، أو يأخذه من يده، أو يمنعه أنْ يأتي به، أو أنه سبحانه إذا قضي الأمر لا يعود ولا يرجع فيه.
فكلمة { مِنَ اللَّهِ... } [الروم: 43] تعطينا المعنيين، كما في قوله تعالى:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.. }[الرعد: 11] فكيف تحفظه المعقِّبات من أمر الله؟ قالوا: كونهم مُعقِّبات للحفظ أمر صادر من الله أصلاً، وبناءً على أمره تعالى بالحفظ.
وقوله: { يَوْمَئِذٍ... } [الروم: 43] يعني: في اليوم الذي لا مردَّ له من الله { يَصَّدَّعُونَ } [الروم: 43] أي: هؤلاء الذين تكاتفوا على حربك وعلى عداوتك وإيذائك، وتعصَّبوا ضدك { يَصَّدَّعُونَ } [الروم: 43] أي: ينشقُّون بعضهم على بعض، ويتفرقون، وقد وردت هذه المسألة في آيات كثيرة.
والتفريق إما إيمان وكفر أي: أشقياء وسعداء، وإما أن يكون التفريق في القوم الذين عاندوا واتبعوا أتباعهم على الشرك، فيتبرأ كل منهم من الآخر، كما قال سبحانه:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ... }[البقرة: 166].
ثم قال الحق ليبين لنا ذلك التفريق في الآخرة بعلّته، وعِلَّته ما حدث في الدنيا، فالله تعالى لا يظلم أحداً، فقال بعد ذلك: { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ... }.
(/3377)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
ما دامت القيامة أمراً لا مردَّ له من الله، فلننتبه للعواقب، ولنحسب لها حساباً، فمَنْ كفر فعليه كفره، عليه لا له، وهذه قضية تقتضي أن نقول في مقابلها: ومَنْ آمن فله إيمانه.
بعد أن بيَّن الدلائل الواضحة على واحديته في الكون، وأحديته في ذاته سبحانه، وبيَّن الأدلة الكونية بكُلِّ صورها برهاناً وحجةً، وضرب أمثالاً وتفصيلاً بعد ذلك قال: سأقول لكم أنكم أصبحتم مختارين أي: خلقتُ فيكم الاختيار في التكليف حتى لا أقهر أحداً على الإيمان بي.
وخَلْق الاختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدلُّ على أن الله تعالى لا يريد من عباده قوالب تأتمر بأمر القهر، ولكنه يريد أنْ يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الأحد.
وإلا فكان من الممكن أن يخلقهم جميعاً مهتدين، وأنْ يخلقهم على هيئة لا تتمكّن من الكفر، وتسير إلى الطاعة مرغمة، كما قال سبحانه حكاية عن السماء والأرض:{ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }[فصلت: 11] وذلك يُفسِّر لنا أمانة خَلْق الاختيار في الناس.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا... }[الأحزاب: 72] والإباء هنا ليس إباء تكبُّر على مراد الله، إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي، فقالوا: لا لحمل الأمانة؛ لأننا لا نأمن أنفسنا ولا نضمنها عند الأداء.
والإنسان كذلك ابن أغيار، فقد يحمل الأمانة، ويضمن أداءها في وقت التحمل، لكنه لا يضمن نفسه عند الأداء، وسبق أن مثَّلْنا لذلك بمَنْ يقبل الأمانة، ويرحب بها عند التحمل، ثم تطرأ عليه من أحداث الحياة ما يضطره لأنْ يمدَّ يده إلى هذه الأمانة وإنْ كان في نيته الأداء، لكن يأتي وقته فلا يستطيع، وآخر يُقدِّر هذه المسئولية ويرفض تحمل الأمانة، وهذا هو العاقل الذي يُقدِّر الظروف وتغيّر الأحوال.
ومعلوم أن الأمانة لا تُوثَّق، فإنْ كتبتَ وشهد عليها فإنها لم تَعُدْ أمانة، فالأمانة إذن مردُّها لاختيار المؤتمن إنْ شاء أقرَّ بها، وإنْ شاء أنكرها.
فالحق سبحانه قال حكاية عن السماوات والأرض والجبال{ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا.. }[الأحزاب: 72] لأنهم يُقدِّرون مسئوليتها، أما الإنسان فقد تعرَّض لحملها وقال: عندي عقل أفكر به، وأختار بين البدائل، وسوف أؤدي، فضمن وقت التحمل، لكنهن لا يضمن وقت الأداء، فظلم نفسه وجهل حقائق الأمور.
{ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72] ظلوماً لنفسه، جهولاً بما يمكن أنْ يطرأ عليه من الأغيار.
وما دام الإنسان ابن أغيار، فإنه لا يثبت على حال؛ لذلك قلنا: إذا صعد الإنسان الجبل إلى قمته وهو ابن أغيار فليس أمامه إلا أنْ ينزل، والعقلاء يخافون أنْ تتم لهم النعمة؛ لأنه ليس بعد التمام إلا النقصان، كما قال الشاعر:
إِذَا تَمَّ شيء بَدا نَقْصُه ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمّفإذا قلت: لماذا خلق الله الاختيار في الإنسان ولم يخلقه في الأجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان؟ نقول: كُنْ دقيقاً، وافهم أنها أيضاً خُيّرت بقوله تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ... }[الأحزاب: 72].
إذن: هذه الأجناس أيضاً خُيِّرت، لكنها اختارت اختياراً واحداً يكفيها كل الاختيارات، فقالت: نريد يا رب أنْ نكون مقهورين لكل ما تريد.
ولما كنا مختارين أعطانا الله تعالى هذه القضية: } مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ... { [الروم: 44] وكلمة (عَلَيْه) تفيد الدَّيْن والوِزْر، و (له) تفيد النفع، فإذا جئنا بالمقابل بقول: ومَنْ آمن فله إيمانه، كما في:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13-14].
لكن القرآن لم يَأْت بهذا المقابل، إنما عَدَل إلى مسألة أخرى: } وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] فلماذا؟ قالوا: لأن فائدة الإيمان أن تعتقد بوجود إله قادر واحد هو الله فتؤمن به، فإذا ما أمرك تطيع، فعِلَّة الإيمان التكليف؛ لذلك حين تبحث أيَّ تكليف إياك أنْ تنظر إلى عِلَّته فتقول: كلفني بكذا لكذا، فعِلَّة التكليف وحكمته عنده تعالى.
فإذا قلنا مثلاً: حكمة الصيام أنْ يشعر الغنيُّ ويذوق ألم الجزع فيعطف على الفقير، فهل يعني هذا أن الفقير المعدَم لا يصوم؟ إذن: ليست هذه حكمة الصيام، والأصوب أنْ تقول: أصوم؛ لأن الله أراد مني أن أصوم، وحكمة الصيام عنده هو.
ومثَّلنا لذلك ولله تعالى المثل الأعلى: أنت حين تشكو مرضاً أو ألماً تسأل عن الطبيب الماهر والمتخصص حتى تنتهي إليه، وعندها تنتهي مهمة عقلك، فتضع نفسك بين يديه يفحصك ويُشخِّص مرضك، ويكتب لك الدواء، فلا تعارضه في شيء، ولا تسأله لماذا كتب هذا الدواء.
فإذا سألك زائر مثلاً: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ لا تقول: لأن من خصائصه كذا، ومن تفاعلاته كذا، إنما تقول: لأن الطبيب وصفه لي، مع أن الطبيب بشر قد يخطيء، وقد يكتب لك دواءً، أو يعطيك حقنة ترديك، ومع ذلك تُسلِّم له بما يراه مناسباً لك، فإذا كنت لا تناقش الطبيب وهو خطأ، فكيف تناقش الله فيما فرضه عليك وتطلب علَّة لكل شيء؟
ولا يناقش في عِلَل الأشياء إلا المساوي، فلا يناقش الطبيبَ إلى طبيبٌ مثله، كذلك يجب أنْ نُسلِّم لله تعالى بعلل الأشياء وحكمتها إلى أنْ يوجد مُسَاوٍ له سبحانه يمكن أنْ يناقشه.
والحق سبحانه يُبيِّن لنا عِلَّة الإيمان - لا الإيمان في ذاته - إنما ما يترتب عليه من طاعة أوامر هذا الإله، وعلى طاعة هذه الأوامر الأوامر يترتب صلاح الكون، بدليل أن الله يطلب من المؤمنين أنْ ينشروا الدعوة، وأن يُبلِّغوها، وأن يحاربوا مَنْ يعارضها ويمنعهم من نشرها.
فما شُهر السيف في الإسلام إلا لحماية بلاغ الدعوة، فإنْ تركوك وشأنك فدَعْهم، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام ظل بها أصحاب ديانات أخرى على دياناتهم، وهذا دليل على أن الإسلام لم يُرغِم أحداً على اعتناقه.
لكن ما دام الإسلام قد فتح البلاد فلا بُدَّ أنْ تكون له الغَلَبة، وأنْ يسير الجميع معه في ظِلِّ منهج الله، فيكون للكافرِ ولغير ذي الدين ما لصاحب الدين.
فكأن الحق سبحانه يريد لقوانينه أنْ تحكم آمنت به أو لم تؤمن؛ لأن صلاح الكون لا يكون إلا بهذه القوانين.
إذن: فأنت حُرٌّ، تؤمن أو لا تؤمن، لكن مطلوب ممَّنْ آمن أنْ يحمي الدعوة في البلاغ، ثم يترك الناس أحراراً، مَنْ آمن فبها ونعمت، ومَنْ أبى نقول له: لك ما لنا، وعليك ما علينا.
إذن: فأصل الإيمان لصلاح الخلافة، ولا يهتم الله سبحانه بأنك تؤمن أو لا تؤمن، ما دام منهج الخلافة قائماً، وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر، فإذا كان الإيمان يُربِّي الإنسان على ألاّ يفعل إلا خيراً وصلاحاً، فالكافر لا بُدَّ وأن يستفيد من هذا الصلاح. وهل قال الشرع للمؤمن: لا تسرق من المؤمن؟ لا إنما أيضاً لا تسرق من الكافر.. الخ، فالكل أمام منهج الله سواء.
وفي القرآن آية ينبغي أنْ نتنبه لها، ونعرف غير المؤمنين بها، ليعلموا أن الإيمان إنما يحمي مصلحة الناس جميعاً، إنها قوله تعالى:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ... }[النساء: 105-106] يعني: إنْ خطر لك أن تكون لصالح الخائن، استغفر الله من هذا{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }[النساء: 107] ولو كان مؤمناً به.
ولهذه الآية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين، وقد جاءت طعمة بن أبيريق - وكان مؤمناً - وقال: يا زيد خُذْ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد، وإذا بالدرع مسروق قد سرقه ابن أبيريق من قتادة بن النعمان ووضعه في جوال من الدقيق، فكان على الدرع آثار الدقيق، فلما بحث ابن النعمان عن دِرْعه دَلّه أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته.
ثم جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم في أمره، فقصَّ عليه ما كان من أمر ابن أبيريق، وأنه وضعه عنده على سبيل الأمانة.
وعندها عَزَّ على المسلمين أن يسرق واحد منهم، وأن يأخذها اليهود ذِلّة في حَقِّهم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدير الأمر في رأسه، فإنْ حكم على المسلم أخذها اليهود حجة، وإنْ حكم للمسلم كانت عيباً وسُبَّة في الدين، فأسعفه ربه بهذه الآية:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] فقال: بين الناس لا بين المؤمنين فحسب.
ومعنى{ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] البعض يقولون: لا تخاصم الخائن حتى لا يضطهدك، إنما المراد: لا تكُنْ خصيماً لصالحه.{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ... }[النساء: 106] إنْ طرأتْ عليك مسألة الإسلام وصورته بين غير المسلمين؛ لأن الله في مبدأ الإصلاح لا يحب كل خوَّان أثيم.
ولو أن غير المسلمين تنبهوا إلى هذه القضية، وعلموا أن الله تعالى عدل الحكم للمؤمنين، وأعلنه لرسول الله، وقرر أن الحق هو الحق، والكل أمامه سواء المؤمن وغير المؤمن لعلموا أن الإسلام هو الدين الحق ولأقبلوا عليه، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عادى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة ".
لأنك إنْ عاديتَه واضطهدته أو هددتْه في حياته، أو في عِرْضه، أو في ماله لصارتْ حجة له في ألاَّ يؤمن، وله أنْ يقول: إذا كان هذا هو حال المؤمنين، فما الميزة في الإسلام حتى أعتنقه؟ بل من مصلحتي أنْ أبتعد عنه، لكن إنْ عاملتَه بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى الإسلام، وجعلته يُؤنِّب نفسه ألاَّ يكون مسلماً.
لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن سيدنا إبراهيم - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - جاءه رجل فاشتمَّ منه أنه غير مسلم، فلما سأله قال: أنا مجوسي فردَّ الباب في وجهه، فانصرف الرجل، وإذا بإبراهيم - عليه السلام - يتلقى الوحي من الله: يا إبراهيم لم تقبل أنْ تُضيِّفه لأنه على غير دينك، وأنا قبلته طوال عمره في مُلْكي وهو كافر بي.
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه، فقال الرجل: وماذا جرى لقد طردتني ونهرتني منذ قليل؟ فقال: إن ربي عاتبني في أمرك، فقال الرجل: إنَّ رباً يعاتب أنبياءه بشأن إعدائه لحقيق أن يُعبد. لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله.
إذن: نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب الإيمان، وإذا آمنتَ بإله لتأخذ الحكم منه وأنت مطمئن أنه إله حق، فلا يهم بعد ذلك أنْ تؤمن أو لا تؤمن المهم قاعدة الصلاح في الكون وفي حركة الحياة؛ لذلك لم يقل ومَنْ آمن فله إيمانه، كأن المراد بالإيمان العمل } وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] لأنه لا يعمل صالحاً إلا إذا كان مؤمناً.
ونلحظ هنا أن الآية تتحدث عن صيغة المفرد: } مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً... { [الروم: 44] ثم يتحول إلى صيغة الجمع } فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] ولم يقُلْ: فهو يمهد لنفسه، فلماذا؟
قالوا: لأن الذي يعمل الصالح لا يعمله لذاته، إنما له ولذريته من بعده، كما جاء في قوله سبحانه:{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... }[الطور: 21] إذن: ساعةَ تكلم عن الإيمان جاء بالمفرد، وساعةَ تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع.
كما أن العمل الصالح يأتي من ذات الإنسان، ويستقبله هو من غيره، وكلمة (مَنْ) هنا تصلح للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعية، وتحل محلَّ جميع الأسماء الموصولة تقول: من جاءك فأكرمه، ومَنْ جاءتك فأكرمها، ومَنْ جاءاك فأكرمهما، ومَنْ جاءوك فأكرمهم.
. الخ. كذلك في هذه الآية استعمل مَنْ للدلالة على المفرد، وعلى الجمع.
وتأمَّل قوله تعالى:{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ... }[النور: 61] وهل يُسلِّم الإنسان على نفسه؟ قالوا: نعم لأن المؤمنين شيء واحد، إذا سلَّمْتَ على أحدهم فكأنك سلَّمت على الجميع، وأيضاً إذا قُلْت لصاحبك السلام عليكم يردُّ عليك: وعليكم السلام، فكأنك سلَّمْتَ على نفسك.
ومعنى } يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] مأخوذة من المهْد، وهو فراش الطفل، والطفل لا يُمَهده ولا يُسوّيه ويُهيِّئه، ولا بُدَّ له من صدر حنون يُسوِّي له مهده، ويفرشه ويُعده، فكأن الذي يعمل الصالح في الدنيا يُمهِّد لنفسه فراشاً في الآخرة، كما يحكي أبو منصور بن حازم عن أبي عبد الله بن الحسين يقول: العمل الصالح يسبق صاحبه إلى الجنة ليمهد له فراشه، كما يمهد الخادم لأحدكم فراشه.
لذلك سبق أن قلنا: إن الذين يؤثرون على أنفسهم يؤثرون من الفانية ليُدِّخر لهم في الباقية، و " سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أُهديت له الشاة، وعاد ليسأل أم المؤمنين عائشة عنها فقال لها: " ماذا صنعت بالشاة؟ " فقالت: ذهبتْ كلُّها إلا كتفها، يعني: تصدَّقَتْ بها إلا كتفها، فقال سيدنا رسول الله: " بل، بقيت كلها إلا كتفها ".
وفي حديث آخر: " يا بْن آدم، تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما لبسْتَ فأبليتَ، أو أكلتَ فأفنيتَ، أو تصدَّقْتَ فأبقيت ".
والإمام علي رضي الله عنه يسأله أحدهم: أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ فقال الإمام: الجواب عندك أنت، فقال: كيف؟ قال: هَبْ أنه دخل عليك شخص بهدية، وآخر يطلب منك صدقة فلأيِّهما تبشُّ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة فأنت من أهل الآخرة.
ذلك لأن الإنسان يحب ما يعمر له محبوبه، فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له، وإنْ كان من أهل الآخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته.
ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لأنفسهم: } لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ... {.
(/3378)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
وذكر هنا الإيمان فقال { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ... } [الروم: 45] ثم { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... } [الروم: 45] حتى لا يظن أحد أن العمل الصالح ربما يُغني عن الإيمان. وهذه مسألة شغلتْ كثيراً من الفلاسفة، يقولون: كيف أن الرجل الكافر الذي يعمل الصالحات لا يُجازى عليها؟
نقول له: أُجر ويُجازى على عمله الصالح لكن في الدنيا؛ لأنه لم يعمل لله، بل عمل للشهرة وللصيت، وقد أخذ منها تكريماً وشهوة وتخليداً لِذكْراه وأقيمت لهم التماثيل.. إلخ، أما جزاء الآخرة فلمَنْ عمل العمل لوجه الله خالصاً.
والقرآن يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يقول: إياكم أنْ تُغَشُّوا بمن يعمل الأعمال للدنيا:{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }[الفرقان: 23].
وجاء في الحديث: " فعلتَ ليُقال وقد قيل " نعم بنيت مسجداً، لكن كتبت عليه: بناه فلان، وشرَّف الافتتاح فلان.. الخ فماذا تنتظر بعد ذلك، إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى، كما جاء في الحديث " ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه ".
فقوله تعالى: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ... } [الروم: 45] يدل على أن العمل الصالح إنْ كان صالحاً بحقٍّ يفيد صاحبه في الدنيا، لكن لا يفيده في الآخرة إلا أن يكون صادراً عن إيمان بالله، ثم يربط الإيمان بالعمل الصالح حيث لا يغني أحدهما عن الآخر.
وقوله تعالى: { مِن فَضْلِهِ... } [الروم: 45] أي: تفضُّلاً من الله، حتى لا ينخدع أحد بعمله، ويظن أنه نجا به، وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون: مرة يقول القرآن { مِن فَضْلِهِ... } [الروم: 45] ومرة يقول:{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[النحل: 32] أي: أنها حق لكم بما قدَّمتم من عمل، فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من الله؟
ونقول: العمل الذي يطلبه الله تكليفاً من المؤمنين به يعود على مَنْ؟ يعود على الإنسان، ولا يستفيد الله منه بشيء؛ لأن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق.
لذلك قال في الحديث القدسي: " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلْكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له: كُنْ فيكون ".
ويقول سبحانه:{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ... }
[النحل: 96].
إذن: فالأعمال التكليفية لخير الإنسان نفسه، وإنْ كانت في الظاهر تقييداً لحريته، فهو مثلاً يريد أنْ يسرق ليزيد ماله، فنأخذ على يديه، ونمنعه ونقول له: تنبَّه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد، ومنعنا الناس جميعاً أنْ يسرقوا منك، فأنت إذن المستفيد من منهج الله، فلا تنظر إلى ما أخذه منك التكليف، ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير.
وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت، فإنْ أثابك الله عليه بعد ذلك فهو فضل من الله عليك، كما تقول لولدك مثلاً؛ إنْ تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق، فتكون الجائزة بعد ذلك فضلاً.
كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أنْ يتقن عمله، وأن يجتهد فيه؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع أننا المستفيدون منه.
ويقول سبحانه:{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ... }[النور: 25] فجعله حقاً عليه سبحانه، كما قال:{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ }[الروم: 47].
ولو بحثنا كلمة " حق " فلسفياً لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك، فلا يكون حقاً لك إلا إذا كان واجباً على غيرك، فحقُّك هنا واجب إذن على الله تعالى، لكن الواجب يقتضي مُوجباً فمَنْ أوجب على الله؟ لا أحد؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه.
إذن: فالحق الذي جعله لك تفضُّلاً منه سبحانه، والحق في أنه جعل لك حقاً، كالذي ليس له حق في الميراث، فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له، فتصير حقاً واجباً، له أن يطالب الورثة به شرعاً؛ لأن المورِّث تفضَّل وجعله حقاً له.
ثم يقول سبحانه: } إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ { [الروم: 45] نلحظ في الآية أنها تتحدث عن جزاء المؤمنين، فما مناسبة ذِكْر الكافرين هنا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يلفت نظر عبده الكافر إلى الإيمان ومزاياه، كأنه يقول له: تعال إلى الإيمان لتنال هذا الجزاء.
ومثال ذلك - ولله المثَل الأعلى - رجل عنده ثلاثة أولاد وَعَدهم بهدية لكل مَنْ ينجح في دراسته، فجاء آخر العام ونجح اثنان، وأخذ كل منهما هديته، وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان مثل أخويْه.
وكذلك الحق سبحانه لا يحب الكافرين؛ لأنه يحب أن يكون الخَلْق جميعاً مؤمنين لينالوا جزاء الإيمان؛ لأن الجميع عباده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها، وهم خِلْقته وصَنْعته، وهل رأيتم صانعاً حطم صنعته وكسرها، إذن: فالله تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم.
وجاء في الحديث القدسي: " قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم، فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم، فقط طَعِم خيرك ومنع شكرك. فماذا قال الرب الخالق للجميع؟ قال: " دعوني ومن خلقتُ، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
لذلك يفرح الله تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض، ويضرب لنا سيدنا رسول الله مثلاً لتوضيح هذه المسألة فيقول: " لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره، وقد أضله في فلاة ".
فالله لا يحب الكافرين لأنهم لم يكونوا أهلاً لتناول هذا الفضل، وما ذاك إلا لأنه سبحانه مُحِبٌّ لهم حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ... {.
(/3379)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
هذه نِعَم خمس من نِعَم الله على عباده.
فإرسال الرياح وحدها نعمة، وتبشيرها بالمطر نعمة، وإجراء الفُلْك نعمة، والابتغاء من فضل الله نعمة، ثم الشُّكْر على هذا كله نعمة أخرى.
والآيات: جمع آية، وهي كما قلنا: الشيء العجيب الذي يجب أنْ يلفت الأنظار، وألاَّ يغفل الإنسان عنه طرفة عَيْن، ومن ذلك قولنا: فلان آية في الفصاحة، أو آية في الجمال.. إلخ.
وتُطلق الآيات ويراد بها معَان ثلاثة: آيات كونية تلفت إلى المكوِّن سبحانه، وتثبت قدرة الخالق.{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ... }[فصلت: 37].
وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.
وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.
وهنا يتكلم الحق سبحانه عن الآيات الكونية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ... } [الروم: 46] كلمة الرياح جمع ريح، والرياح هنا بالمعنى العام: الهواء، وهو أنواع: هواء ساكن{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ... }[الشورى: 33].
والهواء الساكن يضايق الإنسان، حيث يُصعِّب عليه عملية التنفس، فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو بمروحة. لماذا؟ ليجدد الأكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس، والهواء يأتي مرة ساخناً يلفح الوجوه، ومرة نسيماً مُنعِشاً عليلاً، ويأتي عاصفاً مدمراً.. الخ.
والحق سبحانه - كما سبق أنْ بينَّا - رتَّب مقومات حياة الخليقة في الأرض على: الهواء، ثم الماء، ثم الطعام على هذا الترتيب، وحَسْب أهمية هذه المقومات. فالهواء هو أهم مُقوِّم في حياة الكائن الحي، حيث لا يصبر عليه الإنسان إلا لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حُبس عنه لمات. ثم الماء ويصبر عليه الإنسان إلى عشرة أيام. ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر.
لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد، ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك، أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس، أما الطعام فكثيراً ما يملك؛ لأن الإنسان يصبر عليه فترة طويلة تُمكِّنه أن يكتسبه، ويحتال عليه، أو لعل مالكَ الطعام يرقُّ قلبه ويعطيك.
لذلك نسمع من عبارات التهديد: والله لأكتم أنفاسه، كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن فِعْله؛ لأنك قد تمنع عنه الماء أو الطعام ولا يموت، لكن إنْ منعتَ عنهَ الهواء فهي نهايته، وهي أسرع وسائل الإبادة للإنسان وأيسرها وأقلّها أثراً، فلا يترتب عليها دم ولا جروح مجرد منديل مبلل بالماء. إذن: الهواء مُقوِّم هام حياة وإماتة.
وقلنا: إذا حُبِس الهواء أو سكن لا يتجدد فيه الأكسوجين فيتضايق الإنسان؛ لأن أنفاسه تكتم، أما إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج: افتحوا النوافذ، لماذا؟ ليتجدد الهواء.
إذن: إرسال الرياح في ذاتها نعمة، فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تُبشِّرك بالمطر؛ لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويُقدِّر مسافة السحابة التي ستمطره، إذن: فالتبشير بالمطر نعمة أخرى.
وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر، لا دخلَ للإنسان فيهما } وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ... { [الروم: 46] أي: بالمطر أما في آية الفلك } وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ... { [الروم: 46] فنسب الجريان إلى الفُلْك لأن للإنسان يداً فيها وعملاً، فهو صانعها ومُسيِّرها بأمر الله } وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [الروم: 46] أي: تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق، أو حتى للنزهة والسياحة.
إذن: الآية التي لا دخلَ للإنسان فيها تُنسَب إلى الله وحده، وإنْ كان للإنسان فيها عمل نسبها إليه، كما في قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[الواقعة: 58-61].
فأعطانا نعمة الحياة، ثم ذكر ما ينقضها، حتى لا نستقبل الحياة بغرور، ولما كانت آية الحياة وآية الموت لا دخلَ للإنسان فيها اكتفى بهذا الاستفهام{ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ }[الواقعة: 59] ولا أحدَ يستطيع أنْ يقول أنا خلقتُ.
أما في آية الحَرْث، فنسب الحرث إلى الإنسان؛ لأن عمله كثير في هذه الآية، حيث يحرث ويبذر ويروي.. إلخ لذلك قال في نَقْض هذه النعمة{ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً... }[الواقعة: 65] وأكدَ الفعل باللام حتى لا تغترّ بعملك في الزرع.
أما في الماء، فلم يذكر هذا التوكيد؛ لأن الماء نعمة لا يدَ للإنسان فيها؛ لذلك قال في نقضها{ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً... }[الواقعة: 70] بدون توكيد.
النعمة الخامسة: } وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [الروم: 46] وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها، فإنْ شكرتَ لله نعمة عليك زادك منها:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ... }[إبراهيم: 7].
وبعد ذلك يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم: } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىا قَوْمِهِمْ... {.
(/3380)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يعني: يا محمد، إنْ كنتَ تعبت في الدعوة، ولقيت من صناديد قريش عنتاً وعناداً وإيذاءً ومكراً وتبييتاً، فنحن مع ذلك نصرناك، وخُذْ لك أسوة في إخوانك من الرسل السابقين، فقد تعرَّضوا لمثل ما تعرضتَ له، فهل أسلمنا رسولنا لأعدائه؟ إذن: اطمئن، فلن ينال هؤلاء منك شيئاً.
ومعنى { فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ... } [الروم: 47] أي: الآيات الواضحات التي تثبت صدقهم في البلاغ عن الله، ومع ذلك لم يؤمنوا وكذَّبوا { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ... } [الروم: 47] وهنا إيجاز لأمر يُفهم من السياق، فلم يقُل القرآن أنهم كذبوا، إنما جاء بعاقبة التكذيب { فَانتَقَمْنَا... } [الروم: 47].
وهذا الإيجاز واضح في قصة هدهد سليمان، في قوله تعالى:{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }[النمل: 28] وحذف ما بين العبارتين من أحداث تُفهَم من السياق، وهذا مظهر من مظاهر بلاغة القرآن الكريم.
وتكذيب الأمم السابقة للآيات التي جاءتهم على أيدي الرسل دليل على أنهم أهل فساد، ويريدون أن ينتفعوا بهذا الفساد، فشيء طبيعي أنْ يعاندوا الرسل الذين جاءوا للقضاء على هذا الفساد، وأنْ يضطهدوهم، فيغار الله تعالى على رسله { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ... } [الروم: 47].
ثم يقرر هذه القضية: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] وما كان الله تعالى ليرسل رسولاً، ثم يُسلِمه لأعدائه، أو يتخلى عنه؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171-173].
وسبق أنْ قُلْنا: لا ينبغي أن تبحث في هذه الجندية: أصادق هذا الجندي في الدفاع عن الإسلام أم غير صادق؟ إنما انظر في النتائج، إنْ كانت له الغلبة فاعلم أن طاقة الإيمان فيه كانت مخلصة، وإنْ كانت الأخرى فعليه هو أن يراجع نفسه ويبحث عن معنى الانهزام الذي كان ضد الإسلام في نفسه، لأنه لو كان من جٌنْد الله بحق لتحقق فيه{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173] ولا يُغلب جند الله إلا حين تنحلّ عنهم صفة من صفات الجندية.
وتأمل مثلاً ما حدث في غزوة أحد، حيث انهزم المسلمون - وإنْ كانت كلمة الهزيمة هنا ليست على سبيل التحقيق لأن المعركة كانت سجالاً، وقد انتصروا في أولها، لكن النهاية لم تكُنْ في صالحهم؛ لأن الرماة خالفوا أمر رسول الله، والهزيمة بعد هذه المخالفة أمر طبيعي.
وهل كان يسرُّك أيها المسلم أنْ ينتصر المسلمون بعد مخالفتهم أمر رسولهم؟ والله لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر رسولهم لهانَ كل أمر لرسول الله بعدها، ولقالوا: لقد خالفنا أمره وانتصرنا. إذاً فمعنى ذلك أن المسلمين لم ينهزموا، إنما انهزمت الانهزامية فيهم، وانتصر الإسلام بصِدْق مبادئه.
كذلك في يوم حنين الذي يقول الله فيه{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ... }[التوبة: 25] حتى أن الصِّديق نفسه يقول: لن نُغلَب اليوم عن قلة، فبدأت المسألة بالهزيمة، لكن الأمر كما تقول (صعبوا على ربنا) فأنزل السكينة عليهم، وشاء سبحانه أن يسامحهم في هذه الزلَّة مراعاة لخاطر أبي بكر.
فقوله تعالى { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] نعم، نصر المؤمنين حَقٌّ على الله، أوجبه سبحانه على نفسه، فهو تفضُّل منه سبحانه، كما يتفضل الموصِي بماله على الموصى له.
ثم يقول الحق سبحانه: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ... }.
(/3381)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
الحق سبحانه يعطينا هنا مذكرة تفصيلية لعملية حركة الرياح، وسَوْق السحاب، وإنزال المطر، وكلمة الرياح إذا جُمعَتْ دلَّتْ على الخير كما في قوله تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... }[الحجر: 22].
أي: تُلقِّح النباتات فتأخذ من الذكَر، وتضع في الأنثى، فيحدث الإثمار، ومن عجيب هذه العملية أن ترى الذكر والأنثى في العود الواحد كما في نبات الذرة مثلاً، ففي (الشُّوشة) أعلى العود حبات اللقاح الذكر، وفي الشعيرات التي تخرج من الكوز متصلة بالحبات توجد أعضاء الأنوثة، ومع حركة الرياح تتناثر حبات اللقاح من أعلى وتنزل على هذه الشعيرات، فتجد الشعيرة التي لُقحت تنمو الحبة المتصلة بها، أما الأخرى التي لا يصلها اللقاح فتموت.
ولذلك نلحظ أن العيدان التي في مهبِّ الريح أو ناحية بحري أقلّ محصولاً من التي تليها، لماذا؟ لأن الرياح تحمل حبَّات لقاحها إلى العيدان الأخرى التي تليها، فيزداد محصولها.
فإذا كانت بعض النباتات نعرف فيها الذكر من الأنثى كالنخيل، والجميز مثلاً، فأين الذكر والأنثى في القمح، أو في الجوافة، أو في الموز.
ولما درسوا حبوب اللقاح هذه وجدوا أن كل حبة مهما صَغُرت فيها أهداب دقيقة مثل القطيفة تتناثر مع الرياح، ويحملها الهواء إلى أماكن بعيدة؛ لذلك ترى الجبال والصحراء تخضرّ بعد نزول المطر، فمَنْ بذر فيها هذه البذور؟ إنها الرياح اللواقح بقدرة الخالق عز وجل.
ولنا وَقْفة عند قوله تعالى:{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىا ظَهْرِهِ... }[الشورى: 33] أي: السفن التي تسير بقوة الرياح تظل راكدة على صفحة الماء لا يحركها شيء، فإنْ قُلْت: كيف نفهم هذا المعنى الآن مع تقدم العلم الذي سيَّر السفن بقوة البخار والديزل أو الكهرباء، واستغنى عن الرياح؟
ونقول: الرياح من معانيها الهواء، وهي أيضاً تعني القوة مطلقاً، كما في قوله تعالى:{ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ... }[الأنفال: 46] أي: قوتكم، فالريح تعني القوة على أيِّ وضع، سواء أسارتْ بالرياح أو بالآلة، فهو سبحانه قادر على أنْ يُسكنها.
لذلك تجد أن الرياح بمعنى القوة لها قوة آنية، وقوة آتية، آنية يعني الآن، وآتية تأتي فيما بعد، وكذلك كل إنسان وكل شيء في الكون له نَفَس وريح وكيماوية خاصة به تميزه عن غيره وهذه مهمة كلاب البوليس التي تشم رائحة المتهمين والمجرمين في قضايا المخدرات مثلاً، فالشخص له رائحة الآن وهو موجود، وله رائحة تظلّ في المكان حتى بعد أنْ يفارقه.
لذلك يُعلِّمنا القرآن أن الريح هو أثبت الآثار في الإنسان، واقرأ في ذلك قوله تعالى عن يوسف ويعقوب عليهما السلام:{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىا وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً... }[يوسف: 93].
وكان يوسف في مصر، ويعقوب في أرض فلسطين، فلما فصلت العير بقميص يوسف، وخرج من نطاق المباني التي ربما حجزتْ الرياح، قال يعقوب
{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ... }[يوسف: 94] على بُعْد ما بينهما من المسافات.
وإذا أفردت الرياح دلَّتْ على الشر، ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا.. فتأتيك بالأكسوجين أينما كان، وتحمل إليك عبير العطور في الكون، فهي إذن تأتيك بالفائدة.
وإذا أُفردت الرياح دلَّتْ على الشر، ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا.. فتأتيك بالأكسوجين أينما كان، وتحمل إليك عبير العطور في الكون، فهي إذن تأتيك بالفائدة.
وقلنا: إن الأشياء الثابتة اكتسبتْ الثبات من وجود الهواء في كُلِّ نواحيها وجهاتها، ولو فرَّغْتَ الهواء من ناحية من نواحي إحدى العمارات لانهارتْ في الحال، كذلك الريح إنْ جاءت مفردة فهي مدمرة، وفيها العطب كما في قوله تعالى:{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ }[الذاريات: 41].
وقال:{ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6].
فقوله تعالى: } اللَّهُ ال