فوائد من كتاب الكلم الطيب في بر الوالدين
حكمة
قال ابن الجوزى: الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقت وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته، وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها، وقدمته على نفسها في كل حال. وقد ضم الأب إلى التسبب في إيجاده محبته بعد وجوده، وشفقته، وتربيته بالكسب له والإنفاق عليه. والعاقل يعرف حق المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخس صفاته، لا سيما إذا أضاف إلى جحد الحق المقابلة بسوء المنقلب. وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يف بشكرهما
عن زرعة بن إبراهيم، أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إن لي أماً بلغ بها الكبر، وأنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا. قال: أليس قد حملتها على ظهري، وحبست نفي عليها؟ قال: (إنها كانت تصنع ذلك بك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تتمنى فراقها).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأى عمر - رضي الله عنه - رجلاً يحمل أمه، وقد جعل لها مثل الحوية على ظهره، يطوف بها حول البيت وهو يقول: أَحمِلُ أُمي وَهِيَ الحَمالَة ... تُرضِعُني الدِرَةَ وَالعَلالَة فقال عمر: (الآن أكون أدركت أمي، فوليت منها مثل ما وليت أحب إلي من حمر النعم). وقال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها؟ قال: (لا، ولا طلقة من طلقاتها). ويقاس على قرب الوالدين من الولد قرب ذوي الرجل والقرابة. فينبغي ألا يقصر الإنسان في رعاية حقه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله تبارك وتعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ وَقُل رَبِّ اِرحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً). قال أبو بكر بن الأنباري: (هذا القضاء ليس من باب الحكم، إنما هو من باب الأمر والفرض. وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام وإتقان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى (وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً) هو: البر والإكرام قال ابن عباس: (لا تنفض ثوبك أمامهما فيصيبها الغبار). (فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ) في معنى أف خمسة أقوال: أحدهما: وسخ الظفر، قاله الخليل. والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي. والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب. والرابع: الاحتقار والاستصغار، من الأفي، والأفي عند العرب: القلة، ذكره ابن الأنباري. والخامس: ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن معنى الأف: النتن، وأصله نفخك الشيء يسقط عليك من تراب وغيره، فقيل لكل ما يستقل. وقوله: (وَلا تَنهَرهُما) أي: لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجههما. وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى (وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً) أي: لطيفاً، أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ. (وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ)، من رحمتك إياهما. ومن بيان حق الوالدين قوله تعالى: (أَنِ اشَكُر لي وَلِوَالِدَيكَ). فقرن شكره بشكرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تعق والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك). قال أحمد: حدثني يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث، عن ضمرة، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: (كانت تحتي امرأة كان عمر يكرهها، فقال: طلقها، فأبيت. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أطع أباك).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعص والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج منها). وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم). وقال زيد بن علي بن الحسين لابنه يحيى: (أن الله تبارك وتعالى لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصيني بك
قال ابن الجوزى: برهما يكو بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة، والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما، والتوخي لشهواتهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما، فلا يرفع الولد صوته، ولا يحدق إليهما، ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما، ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما
عن أبي غسان الضبي أنه خرج يمشي بظهر الحرة وأبوه يمشي خلفه، فلحقه أبو هريرة، فقال: من هذا الذي يمشي خلفك؟ قلت: أبي قال:(أخطأت الحق ولم توافق السنة، لا تمش بين يدي أبيك، ولكن أمشي خلفه أو عن يمينه، ولا تدع أحداً يقطع بينك وبينه، ولا تأخذ عرقاً (أي: لحماً مختلطاً بعظم) نظر إليه أبوك، فلعله قد اشتهاه، ولا تحد النظر إلى أبيك، ولا تقعد حتى يقعد، ولا تنم حتى ينام
عن أبي هريرة، أنه أبصر رجلين، فقال لأحدهما: هذا منك؟ قال: أبي قال: (لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجل س قبله). وعن طيلة، قال: قلت لابن عمر: عندي أمي، قال: (والله لو ألفت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر).
عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله تعالى: (وَاَخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ). قال: لا تمتنع من شيء أحباه. وعن الحسن أنه سئل عن بر الوالدين فقال: (أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما ما لم يكن معصية).
عن عمر رضي الله عنه، قال: (إبكاء الوالدين من العقوق). وعن سلام بن مسكين، قال: سألت الحسن، قلت: الرجل يأمر والديه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؟ قال: (إن قبلا، وإن كرها فدعهما).
عن العوام، قال: قلت لمجاهد: ينادي المنادي بالصلاة، ويناديني رسول أبي. قال: (أحب أباك) وعن ابن المنكدر، قال: (إذا دعاك أبوك وأنت تصلي فأجب). وعن عبد الصمد، قال: سمعت وهب يقول: (في الإنجيل: رأس البر للوالدين أن توفر عليهما أموالهما. وأن تطعمهما من مالك). عن عبد الله بن عون، قال: (النظر إلى الوالدين عبادة).
عن الأوزاعي، عن مكحول، قال: (إذا دعتك والدتك وأنت في الصلاة فأجبها، وإن دعاك أبوك فلا تجبه حتى تفرغ). عن ابن عباس رضى الله عنهما : أنه أتاه رجل، فقال: أني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: (أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت. فقال رجل لابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ قال: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة).
عن أبي نوفل، قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال: أني قتلت نفساً، فقال: (ويحك، خطأ أم عمد؟) قال: خطأ. قال: هل من والديك أحد؟). قال: نعم، قال: (أمك). قال: أنه أبي. قال: (انطلق فبره وأحسن إليه). فلما انطلق، قال عمر:(والذي نفسي بيده لو كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها، رجوت ألا تطعمه النار أبداً).
عن ابن عباس، قال: بينهما استسقى في حوضه، إذا راكب قد جاء ظمآن، فقال: رد وأورد. قال: فنزل قريباً وعقل ناقته، فلما رأت الماء دنت إلى الحوض حتى فجرته، فقام الرجل فأخذ سيفاً فضربه حتى قتله، ثم خرج يسأل فلقي رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم، فكلهم يوئسه، حتى أتى رجلاً منهم كان يعني نفسه فقال: هل تستطيع أن تصدره كما أوردته؟ قال: لا. قال: تستطيع أن تبغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء؟ قال: لا. قال تستطيع أن تحيا ولا تموت؟ فقام الرجل فمشى غير بعيد، فقال: هل لك والدين؟ قال: أمي حية. قال: (فاحملها وبرها، فإن دخل الآخر النار فأبعد الله من أبعد).
عن الحسن، قال: (للوالدة الثلثان من البر، وللوالد الثلث). وعن يعقوب العجلي، قال: قلت لعطاء: تحبسني أمي في الليلة المطيرة عن الصلاة في الجماعة، فقال: (أطعها).
عن عطاء أن رجلاً أقسمت عليه أمه ألا يصلي إلا الفريضة، ولا يصوم إلا شهر رمضان. قال: (يطيعها). وسئل الحسن في رجل حلف عليه أبوه بكذا، وحلفت عليه أمه بكذا - بخلافه؟ قال: (يطيع أمه).
عن رفاعة بن إياس، قال: رأيت الحارس العكلي في جنازة أمه يبكي، فقيل له: تبكي؟ قال: (ولم لا أبكي وقد أغلق عن باب من أبواب الجنة)؟ وعن رفاعة بن أياس، قال: لما ماتت أم أياس بن معاوية بكى، فقيل: ما بيكيك؟ قال: (يا رب أوصني. قال: أوصيتك بأمك، فإنها حملتك وهناً على وهن. قال: ثم بمن؟ قال: بأمك ثم بمن؟ قال: بأمك ثم بأبيك)
قال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرأن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: (تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً). وعن الحسن بن عمرو، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: (الولد بالقرب من أمه حيث تسمع أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله عز وجل، والنظر إليها أفضل من كل شيء). وعن أبي حازم، قال: قال عمارة: سمعت أبي يقول: (ويحك، أما شعرت أن نظرك إلى والدتك عبادة، فكيف البر بها؟).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر من كانا في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان رضي الله عنهما. فأما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت. وأما حارثة فأنه كان يفلي رأس أمه ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ما أرادت أمي؟
عن أبي هريرة أنه كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: (السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً). وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك. عن أبي أمامة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يلي حمل أمه إلى المرفق وينزلها عنه، وكانت مكفوفة
عن ابن سيرين، قال: (بلغت النخلة ألف درهم، فنقرت نخلة من جمارها. فقيل لي: عقرت نخلة تبلغ كذا، وجماره بدرهمين؟ قلت: (قد سألتني أمي، ولو سألتني أكثر من ذلك لفعلت). وعن إسماعيل بن عون، قال: دخل رجل على ابن سيرين وعنده أمه، فقال: ما شأن محمد يشتكي؟ قالوا: لا، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أمه.
عن سفيان الثوري، قال: (كان ابن الحنفية يغسل رأس أمه بالخطمى ويمشطها ويخضبها). وعن الزهري، قال: كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه، وكان أبر الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: (أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها). وفي رواية: (أخاف أن تسبق يدي يدها).
عن هشام، قال: كانت حفصة تترحم على هذيل، وتقول: كان يعمد إلى القصب فيقشره ويجففه في الصيف، لئلا يكون له دخان، فإذا كان الشتاء جاء حتى قعد خلفي وأنا أصلي، فيوقد وقوداً رفيقاً ينالني حره ولا يؤذيني دخانه، وكنت أقول له: يا بني، الليلة اذهب إلى أهلك، فيقول: يا أماه أنا أعلم ما يريدون، فأدعه فربما كان ذلك حتى يصبح. وكان يبعث إلي بحلبة الغداة، فأقول، يا بني تعلم أني لا أشرب نهاراً فيقول: أطيب اللبن ما بات في الضرع، فلا أحب أن أؤثر عليك، فابعثي به إلى من أحببت. فمات هذيل، فوجدت عليه وجداً شديداً، وكنت أجد مع ذلك حرارة في صدري لا تكاد تسكن. قالت: فقمت ليلة أصلي، فاستفتحت النحل، فأتيت إلى قوله تعالى: (ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ اللَهِ باقٍ وَلنَجزِيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلُون). فذهب عن ما كنت أجد.
عن أنس بن النضر الأشجعي: استقت أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي، فذهب فجاءها بشربة، فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح. وعن ظبيان بن علي الثوري - وكان من أبر الناس بأمه - قال: (لقد نامت لليلة وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه يكره أن يوقظها، ويكره، أن يقعد، حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه، فما زال معتمداً عليهما حتى استيقظت). وكان يسافر بها إلى مكة، فإذا كان يوم حار حفر بئراً، ثم جاء بنطع فصب فيه الماء، ثم يقول لها: (أدخلي تبردي في هذا الماء).
عن محمد بن عمر، قال: كان محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد باراً بأمه، وكان أبوه، يقول: يا محمد. فلا يجيبه حتى يشب فيقوم على رأسه فيلبيه، فيأمره بحاجته، فلا يستفهمه هيبة له حتى يسأل من فهم ذلك عنه
عن عون بن عبد الله، أنه نادته أمه فأجابها، فعلا صوته، فأعتق رقبتين. وعن بكر بن عباس، قال: ربما كنت مع منصور في مجلسه جالساً فتصيح به أمه، وكان فظة غليظة، فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟ وهو واضع لحيته على صدره، ما يرفع طرفه إليها
قال سيفان بن عيينة: قدم رجل من سفر، فصادف أمه قائمة تصلي، فكره أن يقعد وأمه قائمة، فعلمت ما أراد، فطولت ليؤجر. وبلغنا عن عمر بن ذر أنه لما مات ابنه قيل له: كيف كان بره بك؟ قال: ما مشي معي نهاراً إلا كان خلفي، ولا ليلاً إلا كان أمامي، ولا رقد على سطح أنا تحته.
عن المعلي بن أوب، قال: سمعت المأمون يقول: لم أر أبر من الفضل بن يحيى البرمكي بأبيه، بلغ من بره بأبيه أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بالماء الحار، وكانا في السجن معاً، فمنعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم كان بالسجن، فملأه بالماء وأدناه من المصباح، فلم يزل قائماً وهو في يده حتى أصبح. وحكى غير المأمون أن السجان فطن لارتفاقه بالمصباح في تسخين الماء، فمنعهم من الاستصباح في الليلة القابلة، فعمد الفضل إلى القمقم مملوءاً، فأخذه معه في فراشه وألصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء.
عن كعب الأحبار، قال: اجتمع ثلاثة من بني إسرائيل، فقالوا: تعالوا يذكر كل منا أعظم ذنب عمله. فقال أحدهم: (أما أنا فلا أذكر من ذنب أعظم من أني كنت إذا أصاب أحدنا بول من ثوبه قطعه، فأصابني بول فقطعته ولم أبالغ في قطعه، فهذا أعظم ذنب عملته). وقال الآخر: (كنت مع صاحبي لي فعرضت لنا شجرة، فخرجت عليه ففزغ مني، فقال: الله بيني وبينك). وقال الثالث: كانت لي والدة فدعتني من قبل شمال الريح، فأجبتها فلم تسمع، فجاءتني مغضبة فجعلت ترميني بالحجارة، فأخذت عصا وجئت لأقعد بين يديها لتضربني بها، ففزعت مني فأصابت وجهها شجرة فشجتها، فهذا أعظم ذنب عملته).
عن أبي الطفيل، قال: سئل علي رضي الله عنه: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس؟ قال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس إلا ما في قراب سيفي، ثم أخرج صحيفة فإذا فيها: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من سرق منار الأرض، لعن الله من عق والديه). عن بعض الحكماء: (لا تصادق عاقاً، فإنه لمن يبرك، وقد عق من هو أوجب منك حقاً).
عن عمر بن الزبير، قال: (ما بر أبويه من أحد النظر إليهما). وعن محمد بن سيرين، قال: (من مشى بين يدي أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي يميط الأذى عن طريقه. ومن دعا أباه باسمه فقد عقه، إلا أن يقول: يا أبت).
عن مالك بن دينار، قال: بينما أنا أطوف بالبيت الحرام إذ أعجبني كثرة الحجاج والمعتمرين، فقلت: ليت شعري من المقبول منهم فأهنئه، ومن المردود منهم فأعزيه. فلما كان الليل رأيت في منامي قائلاً، يقول: مالك بن دينار يسأل عن الحاج والمعتمرين؟ قد غفر الله لهم أجمعين، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الأسود والأحمر، إلا رجلاً واحداً فإن الله تعالى عليه غضبان، وقد رد الله حجه، وضرب به في وجهه. قال مالك: فنمت بليلة لا يعملها إلا الله عز وجل وخشيت أن أكون ذلك الرجل، فلما كانت الليلة الثانية، رأيت في منامي مثل ذلك، غير أنه قيل لي: ولست أنت ذلك الرجل، بل هو من خراسان من مدينة بلخ، يقال له: محمد بن هارون البلخي. فلما أصبحت أتيت قبائل خراسان، فقلت: أخيكم محمد بن هارون؟ قالوا: بخ بخ، تسأل عن رجل ليس بخراسان أعبد ولا أزهد منه ولا أقرأ منه. فعجبت من جميل ثناء الناس عليه وما رأيت في منامي. فقلت: أرشدوني إليه. قالوا: أنه منذ أربعين سنة يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يأوي إلا الخراب، ونظنه في خرائب مكة. فجعلت أجول في الخرابات، فإذا هو قائم خلف جدار، وإذا يده اليمنى معلقة في عنقه وقد شدها بقيدين عظيمين إلى قدميه، وهو راكع وساجد. فلما أحس بهمس قدمي، قال: من تكون؟ قلت: مالك بن دينار، قال: يا مالك ما جاء بك إليَّ؟ إن كنت رأيت رؤيا فاقصصها علي. قال: أستحي أن أقولها. قال: بل قل. فقصصتها عليه، فبكى طويلاً، وقال: كنت رجل أكثر شرب المسكر، فشربت يوماً عند خدن لي حتى ثملت وزال عقلي، فأتيت منزلي فدخلت، فإذا بأمي توقد تنوراً لنا، فلما رأتني أتمايل بسكري، أقبلت تطعمني، وتقول: هذا آخر يوم من شعبان وأول ليلة من رمضان، يصبح الناس صواماً، وتصبح سكران!! أما تستحي من الله؟ فرفعت يدي فلكزتها. فقالت: تعست. فغضبت لقولها وحملتها بسكري ورميت بها في التنور فلما رأتني امرأتي، أدخلتني بيتاً وأغلقت علي. فلما كان آخر الليل ذهب سكري، دعوت زوجتي لفتح الباب، فأجابتني بجواب فيه جفاء، فقلت: ويحك ما هذا الجفاء؟ قالت: تستأهل ألا أرحمك. قلت: لم؟ قالت: قتلت أمك، رميت بها في التنور فاحترقت. فخرجت إلى التنور فإذا هي كالرغيف المحروق. فخرجت وتصدقت بمالي، وأعتقت عبيدي، وأنا مذ أربعين سنة أصوم النهار وأقوم الليل، وأحج كل سنة، ويرى لي كل سنة عابد مثلك هذه الرؤيا. فنفضت يدي في وجهه، وقلت: يا مشؤوم، كدت تحرق الأرض وما عليها بنارك، وغبت عنه بحيث أسمع حسه ولا أرى شخصه فرفع يديه إلى السماء، وقال: يا فارج الهم وكاشف الغم، يجيب دعوة المضطرين، أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ولاتقطع رجائي، وتخيب دعائي. فذهبت إلى منزلي ونمت، فرأيت في المنام قائلاً يقول: يا مالك لا تقنط الناس من رحمة الله. إن الله اطلع من الملأ الأعلى إلى محمد بن هارون فاستجاب دعوته، وأقال عثرته، أعذ إليه وقل له: أن الله يجمع الخلائق يوم القيامة، ويقتص للجماء من القرناء، ويجمع بينك وبين والدتك، فيحكم لها عليك، ويذيقك النار، ثم يهبك لأمك.
عن مجاهد، قال: (لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما). وقال الحسن البصري: (منتهى القطيعة أن يجالس الرجل أباه عند السلطان).
قال فرقد: قرأت في بعض الكتب: (ما بر ولد حر بصره إلى والديه، وأن النظر إليهما عبادة، ولا ينبغي للولد أن يمشي بين يدي والده ولا يتكلم إذا شهد، ولا يمشي عن يمينهما، ولا عن يسارهما، إلا أن يدعواه فيجيبهما، أو يأمراه فيطيعهما، ولكن يمشي خلفهما كالعبد الذليل). وقال يزيد بن أبي حبيب: (إيجاب الحجة على الوالدين عقوق). يعني الانتصار عليهما في الكلام. وسئل كعب الأحبار، عن العقوق، فقال: (إذا أمرك والدك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله).
عن عبد الله بن مسعود، قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الوالد والمظلوم والمسافر). وكان الحسن يقول: (دعاء الوالدين ينبت المال والولد). وسئل الحسن: ما دعاء الوالد للولد؟ قال: (نجاة).
عن مجاهد: (ثلاثة لا تحجب دعوتهم عن الله عز وجل: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد لولده، وشهادة ألا إله إلا الله). وعنه أيضاً: (دعوة الوالد لا تحجب عن الله عز وجل).
عن عبد الرحمن بن أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبي يقول: جاءت امرأة إلى مخلد بن الحسين، فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويدة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار.فأطرق الشيخ ملياً، ودعا بدعوات، فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، وأخذت تدعو له، وقالت: حديثك يحدثك الشاب. فقال الشاب: ِ(كنت في يد بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، فبينما نحن نجيء من العمل بعد المغرب انفتح القيد من رجلي، فوقع على الأرض). ووصف للشيخ اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت فيه أمه للشيخ ودعاؤهما له. (فنهض الذي كان يحفظني فصاح علي وقال: كسرت القيد فقلت: لا، إنه سقط). قال: (فتحير وأخبر صاحبه، فأحضر الحداد وقيدوني، فما مشيت إلا خطوات حتى سقط القيد، فتحيروا ودعوا رهبانهم، فقالوا لي: لك والدة؟ قلت: نعم. قالوا: قد وافق دعاؤها الإجابة، أطلقك أن فلا تقيدك، وزودوني واصطحبوني إلى ناحية المسلمين).
عن إبراهيم التميمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فقال: من زعم أن عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة - صحيفة فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات - فقد كذب قال: وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً).
عن
ابن عمر، أنه مر به أعرابي في سفره، وكان الأعرابي صديقاً لعمر، فقال الأعرابي:
ألست فلان بن فلان؟ قال: بلى. فأمر له ابن عمر بحمار يستعقب به، ونزع عمامته عن
رأسه فأعطاه إياها، فقال بعض من حضر: أما يكفيه درهما؟ فقال ابن عمر: قال النبي
صلى الله عليه وسلم، قال: (احفظ ود أبيك، لا تقطعه فيطفئ الله نورك).
عن نافع، قال: قدم أبو بردة المدينة، فأتاه ابن عمر رضي الله عنه، فسلم عليه، فدخل عليه فسأله؟ فلما أراد أن يقوم، قال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن من أبر البر من بر أباه بعد موته بصلة ود أبيه) وأن أبي كان لأبيك واداً، فأردت أن أبرك بصلتي إياك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من أراد أن يبر أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده).
عن عثمان بن سودة، وكانت أمه من العابدات يقال لها: راهبة، قال: فلما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء، فقالت: يا ذخري وذخيرتي عند الموت، لا توحشني في قبري.
قال
أبو أوفى: (إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق