ج16وج17وج18.كتاب الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
قد استعار الله عزّ وجلّ النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذاك . والمعنى : { وَأَشْرَقَتِ الأرض } بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه؛ لأنه هو الحق العدل . وإضافة اسمه إلى الأرض؛ لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ، ولا أعمر لها منه . وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها ، وإنما يجوز فيها غير ربها ، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور . وترى الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما تقول : أظلمت البلاد بجور فلان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 975 ) " الظلم ظلمات يوم القيامة " وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم . وقرىء : «واشرقت» على البناء للمفعول ، من شرقت بالضوء تشرق : إذا امتلأت به واغتصت . وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلاً وطبقها عدلاً و { الكتاب } صحائف الأعمال ، ولكنها اكتفى باسم الجنس ، وقيل : اللوح المحفوظ { والشهدآء } الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار . وقيل : المستشهدون في سبيل الله .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
الزمر : الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض ، وقد تزمروا ، قال :
حَتَى احزألت زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ ... وقيل في زمر الذين اتقوا : هي الطبقات المختلفة : الشهداء ، والزهاد ، والعلماء ، والقرّاء وغيرهم . وقرىء : «نذر منكم» فإن قلت : لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت : أرادوا لقاء وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة . وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدّة { قَالُواْ بلى } أتونا وتلوا علينا ، ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأنّ جهنم ، لسوء أعمالنا ، كما قالوا : غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين . فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال . واللام في المتكبرين للجنس؛ لأنّ { مَثْوَى المتكبرين } فاعل بئس ، وبئس فاعلها : اسم معرف بلام الجنس . أو مضاف إلى مثله ، والمخصوص بالذم محذوف ، تقديره : فبئس مثوى المتكبرين جهنم .
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
{ حتى } هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية ، إلاّ أنّ جزاءها محذوف ، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدلّ بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد خالدين . وقيل : حتى إذا جاؤوها ، جاؤوها وفتحت أبوابها ، أي : مع فتح أبوابها . وقيل : أبواب جهنم لا تفتح إلاّ عند دخول أهلها فيها . وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها ، بدليل قوله : { جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] فلذلك جيء بالواو ، كأنه قيل : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها . فإن قلت : كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعاً بلفظ السوق؟ قلت : المراد بسوق أهل النار : طردهم إليها بالهوان والعنف ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل . والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم ، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، وحثها إسراعاً بهم إلى دار الكرامة والرضوان ، كما يفعل بمن يشرف ويكرّم من الوافدين على بعض الملوك ، فشتان ما بين السوقين { طِبْتُمْ } من دنس المعاصي . وطهرتم من خبث الخطايا { فادخلوها } جعل دخول الجنة مسبباً عن الطيب والطهارة ، فما هي إلاّ دار الطيبين ومثوى الطاهرين؛ لأنها دار طهرها الله من كل دنس ، وطيبها من كل قذر ، فلا يدخلها إلاّ مناسب لها موصوف بصفتها ، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة ، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة ، إلاّ أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً ، تنقّي أنفسنا من درن الذنوب ، وتميط وضر هذه القلوب { خالدين } مقدرين الخلود { والأرض } عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوا مقراً ومتبوّأ وقد أورثوها أي ملكوها وجعلوا ملوكها وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون ، تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه ، وذهابه في إنفاقه طولاً وعرضاً . فإن قلت : ما معنى قوله : { حَيْثُ نَشَاءُ } وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت : يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره .
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{ حَآفِّينَ } محدقين من حوله { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } يقولون : سبحان الله والحمد لله ، متلذذين لا متعبدين . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } ؟ قلت : يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم ، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلاّ قضاء بينهم بالحق والعدل ، وأن يرجع إلى الملائكة ، على أن ثوابهم - وإن كانوا معصومين جميعاً - لا يكون على سنن واحد ، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم ، فهو القضاء بينهم بالحق . فإن قلت : قوله : { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ } من القائل ذلك؟ قلت : المقضي بينهم إما جميع العباد وإما الملائكة ، كأنه قيل : وقضى بينهم بالحق ، وقالوا : الحمد لله على قضائه بيننا بالحق ، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه .
( 976 ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين الذي خافوا » وعن عائشة رضي الله عنها :
( 976 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قرىء بإمالة ألف «حا» وتفخيمها ، وبتسكين الميم وفتحها . ووجه الفتح : التحريك لالتقاء الساكنين ، وإيثار أخف الحركات ، نحو أين وكيف أو النصب بإضمار اقرأ ومنع الصرف للتأنيث والتعريف أو للتعريف وأنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل . التوب والثوب والأوب : أخوات في معنى الرجوع والطول : الفضل والزيادة . يقال : لفلان على فلان طول ، والإفضال . يقال : طال عليه وتطوّل ، إذا تفضل . فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً ، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟ قلت : { أمّا غافر الذنب وقابل التوب } فمعرفتان؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين ، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن . أو غداً حتى يكونا في تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش . وأما شديد العقاب فأمره مشكل ، لأنه في تقدير : شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير ، وقد جعله الزجاج بدلاً . وفي كونه بدلاً وحده بين الصفات نبوّ ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ولقائل أن يقول : هي صفات ، وإنما الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظاً ، فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه ، من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع؛ على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل كذا أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف . ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره ، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار . ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال . فإن قلت : ما بال الواو في قوله : ( وقابل التوب ) ؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات . وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . وروى أنّ عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب ، من عمر إلى فلان : سلام عليك ، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو : بسم الله الرحمن الرحيم : حم إلى قوله إليه المصير . وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة . فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلّة فسدّدوه ووقفوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه .
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر : والمراد : الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله ، وقد دلَّ على ذلك في قوله { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحلّ مشكلها ، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله ، وقوله صلى الله عليه وسلم :
( 977 ) " إنّ جدالاً في القرآن كفر " وإيراده منكراً ، وإن لم يقل : إنّ الجدال ، تمييز منه بين جدال وجدال . فإن قلت : من أين تسبب لقوله : { فَلاَ يَغْرُرْكَ } ما قبله؟ قلت : من حيث إنهم لما كانوا مشهوداً عليهم من قبل الله بالكفر ، والكافر لا أحد أشقى منه عند الله : وجب على من تحقق ذلك أن لا ترجح أحوالهم في عينه ، ولا يغره إقبالهم في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة ، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون ، فإنّ مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال ، ووراءه شقاوة الأبد . ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادّخر لهم من سوء العاقبة مثلاً : ما كان من نحو ذلك من الأمم ، وما أخذهم به من عقابه وأحله بساحتهم من انتقامه . وقرىء : «فلا يغرّك» .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
{ والأحزاب } الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب { بِرَسُولِهِمْ } وقرىء : «برسولها» { لِيَأْخُذُوهُ } ليتمكنوا منه ، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل . ويقال للأسير : أخيذ { فَأَخَذَتْهُمْ } يعني أنهم قصدوا أخذه ، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينو أثر ذلك . وهذا تقرير فيه معنى التعجيب .
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{ أَنَّهُمْ أصحاب النار } في محل الرفع بدل من { كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي : مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار . ومعناه : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل ، كذلك وجب هلاكهم بعذاب النار في الآخرة ، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل . والذين كفروا : قريش ، ومعناه ، كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار . وقرىء : «كلمات» .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
روي : أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 978 ) " لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل : زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سموات ، وأنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع " وفي الحديث :
( 979 ) " إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا يروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة " وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام . وقيل : حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة ، يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وقرأ ابن عباس : «العرش» بضم العين . فإن قلت : ما فائدة قوله : { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله ، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] فأبان بذلك فضل الإيمان . وفائدة أخرى : وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان؛ لأنه إنما يوصف بالإيمان ، الغائب فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء : في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلاّ هذا ، وهو منزه عن صفات الإجرام . وقد روعي التناسب في قوله : { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ، { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم . وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن . فإنه لا تجالس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماوي وأرضي قط ، ثم لما جاء الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض . قال الله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض } [ الشورى : 5 ] . أي : يقولون : { رَبَّنَا } وهذا المضمر يحتمل أن يكون بياناً ليستغفرون مرفوع المحل مثله ، وأن يكون حالاً .
فإن قلت : تعالى الله عن المكان ، فكيف صحّ أن يقال : وسع كل شيء؟ قلت : الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى . والأصل : وسع كل شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم ، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء . فإن قلت : قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملاً على حديثهما جميعاً ، وما ذكر إلاّ الغفران وحده؟ قلت : معناه فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك . وسبيل الله : سبيل الحق التي نهجها لعباده ودعا إليها { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي : الملك الذي لا يغلب ، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً إلاّ بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك { وَقِهِمُ السيئات } أي : العقوبات . أو جزاء السيئات . فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها . والوقاية منها : التكفير أو قبول التوبة . فإن قلت : ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد؟ قلت : هذا بمنزلة الشفاعة ، وفائدته زيادة الكرامة والثواب . وقرىء : «جنة عدن» «وصلَح» ، بضم اللام ، والفتح أفصح . يقال : صلح فهو صالح ، وصلح فهو صليح ، و«ذريتهم» .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
أي : ينادون يوم القيامة ، فيقال لهم : { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ } والتقدير : لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة . و { إِذْ تُدْعَوْنَ } منصوب بالمقت الأوّل . والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر ، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان ، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشدّ مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ . وعن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم ، فنودوا لمقت الله . وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى : { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] و { إِذْ تُدْعَوْنَ } : تعليل ، والمقت : أشدّ البغض ، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشدّه { اثنتين } إماتتين وإحياءتين . أو موتتين وحياتين . وأراد بالإماتتين : خلقهم أمواتاً أوّلاً ، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وبالإحيائتين الإحياءة الأولى وإحياءة البعث . وناهيك تفسيراً لذلك قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما . فإن قلت : كيف صحّ أن يسمى خلقهم أمواتاً : إماتة؟ قلت : كما صحّ أن تقول : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ! وقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق ، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معاً على المصنوع الواحد ، من غير ترجح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة . فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه ، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه ثلاث إثبات إحياءات ، وهو خلاف ما في القرآن ، إلاّ أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها ، أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور ، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها ، ويعدّهم في المستثنيين من الصعقة في قوله تعالى { إِلاَّ مَن شَاء الله } [ النمل : 78 ] . فإن قلت : كيف تسبب هذا لقوله تعالى : { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } ؟ قلت : قد أنكروا البعث فكفروا ، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى؛ لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي ، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم ، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ } أي : إلى نوع من الخروج سريع أو بطىء { مّن سَبِيلٍ } قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه . وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً؛ ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك ، وهو قوله : { ذَلِكُم } أي؛ ذلكم الذي أنتم فيه ، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به { فالحكم للَّهِ } حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد : وقوله : { العلى الكبير } دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلاّ كذلك ، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته . وقيل : كأن الحرورية أخذوا قولهم : لا حكم إلاّ لله ، من هذا .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{ يُرِيكُمْ ءاياته } من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها . والرزق : المطر ، لأنه سببه { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلاّ من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله ، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه ، ثم قال للمنيبين { فادعوا الله } أي : اعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من الشرك ، وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم . { رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح } ثلاثة أخبار ، لقوله : «هو» مترتبة على قوله : { الذى يُرِيكُمُ } أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً . وقرىء : «رفيع الدرجات» بالنصب على المدح . ورفيع الدرجات ، كقوله تعالى : { ذِي المعارج } [ المعارج : 3 ] وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، وهي دليل على عزّته وملكوته . وعن ابن جبير : سماء فوق سماء . والعرش فوقهن . ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه ، كما أنّ ذا العرش عبارة عن ملكه . وقيل : هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة { الروح مِنْ أَمْرِهِ } الذي هو سبب الحياة من أمره ، يريد : الوحي الذي هو أمر بالخير وبعث عليه ، فاستعار له الروح ، كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { لّيُنذِرَ } الله . أو الملقى عليه : وهو الرسول أو الروح . وقرىء : «لتنذر» أي : لتنذر الروح لأنها تؤنث ، أو على خطاب الرسول . وقرىء : «لينذر يوم التلاق» على البناء للمفعول { يَوْمَ التلاق } يوم القيامة ، لأن الخلائق تلتقي فيه . وقيل : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض . وقيل : المعبود والعابد { يَوْمَ هُم بارزون } ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأنّ الأرض بارزة قاع صفصف ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما جاء في الحديث :
( 980 ) " تحشرون عراة حفاة غرلاً " { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ } . أي : من أعمالهم وأحوالهم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لا يخفى عليه منهم شيء . فإن قلت : قوله : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ } بيان وتقرير لبروزهم ، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا ، فما معناه؟ قلت : معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب : أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم ، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه . قال الله تعالى : { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } [ فصلت : 22 ] . وقال تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } [ النساء : 108 ] وذلك لعلمهم أنّ الناس يبصرونهم؛ وظنهم أنّ الله لا يبصرهم ، وهو معنى قوله : { وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] ، { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به . ومعناه : أنه ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهار . وقيل : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يُعْصَ اللهُ فيها قط «فأوّل ما يتكلم به أن ينادي منادٍ : ( لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس . . . ) الآية . فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب .
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
لما قرّر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك ، وهي أنّ كل نفس تجزى ما كسبت وأن الظلم مأمون ، لأن الله ليس بظلام للعبيد ، وأن الحساب لا يبطىء ، لأن الله لا يشغله حساب على حساب ، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أخذ في حسابهم لم يَقِلْ أهل الجنة إلاّ فيها ولا أهل النار إلاّ فيها .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
الآزفة : القيامة ، سميت بذلك لأزوفها ، أي : لقربها . ويجوز أن يريد بيوم الآزفة : وقت الخطة الآزفة ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم ، فلا هي تخرج فيموتوا ، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا ، ولكنها معترضة كالشجا ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] . فإن قلت : { كاظمين } بما انتصب؟ قلت : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، لأن المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها . ويجوز أن يكون حالاً عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غمّ وكرب فيها مع بلوغها الحناجر ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وقال : { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خَضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] وتعضده قراءة من قرأ : «كاظمون» ويجوز أن يكون حالاً عن قوله : وأنذرهم ، أي : وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] الحميم : المحب المشفق . والمطاع : مجاز في المشفع ، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلاّ لمن فوقك . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ؟ قلت : يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معاً ، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة ، كما تقول : ما عندي كتاب يباع ، فهو محتمل نفي البيع وحده ، وأن عندك كتاباً إلا أنك لا تبيعه ، ونفيهما جميعاً ، وأن لا كتاب عندك ، ولا كونه مبيعاً . ونحوه :
وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ ... يريد : نفي الضب وانجحاره . فإن قلت : فعلى أي الاحتمالين يجب حمله؟ قلت : على نفي الأمرين جميعاً ، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله ، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلاّ من أحبه الله ورضيه ، وأنّ الله لا يحبّ الظالمين ، فلا يحبونهم ، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم . قال الله تعالى : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } [ البقرة : 270 ] وقال : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ولأن الشفاعة لا تكون إلاّ في زيادة التفضل ، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب ، بدليل قوله تعالى : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [ النساء : 174 ] وعن الحسن رضي الله عنه : والله ما يكون لهم شفيع البتة ، فإن قلت : الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه ، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت : في ذكرها فائدة جليلة ، وهي أنها ضمت إليه ، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة ، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها ، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف ، بيانه : أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت : ما لي فرس أركبه ، ولا معي سلاح أحارب به ، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة ، كأنك تقول : كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي ، فكذلك قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } معناه : كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع ، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع : وضعاً لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه .
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
الخائنة : صفة للنظرة . أو مصدر بمعنى الخيانة ، كالعافية بمعنى المعافاة ، والمراد : استراق النظر إلى ما لا يحل ، كما يفعل أهل الريب ، ولا يحسن أن تراد الخائنة من الأعين ، لأن قوله : { وَمَا تُخْفِى الصدور } لا يساعد عليه . فإن قلت : بم اتصل قوله : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين } ؟ قلت : هو خبر من أخبار هو في قوله : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ } [ غافر : 13 ] مثل { يُلْقِى الروح } ولكن يلقي الروح قد علل بقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } فبعد لذلك عن أخواته .
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{ والله يَقْضِى بالحق } يعني : والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضي إلاّ بالحق والعدل . لاستغنائه عن الظلم . وآلهتكم لا يقضون بشيء . وهذا تهكم بهم ، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه : يقضي ، أو لا يقضي { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } تقرير لقوله : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين وَمَا تُخْفِى الصدور } ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه وتعريض بما يدعون من دون الله ، وأنها لا تسمع ولا تبصر ، وقرىء : «يدعون» بالتاء والياء .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
( هم ) في { كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ } فصل . فإن قلت : من حق الفصل أن لا يقع إلاّ بين معرفتين فما باله واقعاً بين معرفة وغير معرفة؟ وهو أشدّ منهم . قلت : قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام ، فأجري مجراها . وقرىء : «منكم» وهي في مصاحف أهل الشام { وَءَاثَاراً } يريد حصونهم وقصورهم وعددهم ، وما يوصف بالشدّة من آثارهم . أو : أراد وأكثر آثاراً ، كقوله :
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً ...
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{ وسلطان مُّبِينٍ } وحجة ظاهرة وهي المعجزات ، فقالوا : هو ساحر كذاب ، فسموا السلطان المبين سحراً وكذباً { فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق } بالنبوّة ، فإن قلت : أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أو يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت : قد كان ذلك القتل حينئذ ، وهذا قتل آخر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { قَالُواْ اقتلوا } أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً ، يريد : أن هذا قتل غير القتل الأول { فِى ضلال } في ضياع وذهاب ، باطلاً لم يجد عليهم ، يعني : أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه ، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني ، وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى وأحسّ بأنه قد وقع : أعاده عليهم غيظاً وحنقاً ، وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى ، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعاً .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه ، وهو أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة ، ومثله لا يقاوم إلاّ ساحراً مثله ، ويقولون : إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس ، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر أنّ فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيّ ، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر ، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة ، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك . وقوله : { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، وكان قوله : { ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } تمويهاً على قومه ، وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه ، وما كان يكفه إلاّ ما في نفسه من هول الفزع { أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } أن يغير ما أنتم عليه ، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام ، بدليل قوله : { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] والفساد في الأرض : التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ، ويهلك الناس قتلاً وضياعاً ، كأنه قال : إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه . أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه . وفي مصاحف أهل الحجاز «وأن يظهر» بالواو ، ومعناه . إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معاً . وقرىء : «يُظْهِرُ» من أظهر ، والفساد منصوب : أي : يظهر موسى الفساد . وقرىء : «يَظَّهَّر» بتشديد الظاء والهاء ، من تظهر بمعنى تظاهر ، أي : تتابع وتعاون .
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله : قال لقومه { إِنّى عُذْتُ } بالله الذي هو ربي وربكم ، وقوله : { وَرَبِّكُمْ } فيه بعث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال : { مّن كُلِّ مُتَكَبّرٍ } لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض؛ فيكون أبلغ ، وأراد بالتكبر : الاستكبار عن الإذعان للحق ، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه ، وعلى فرط ظلمه وعسفه ، وقال : { لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك عظيمة إلاّ ارتكبها : وعذت ولذت : أخوان . وقرىء : «عت» بالإدغام .
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ } وقرىء : «رجل» بسكون الجيم كما يقال : عضد ، في عضد وكان قبطيا ابن عم لفرعون : آمن بموسى سراً وقيل : كان إسرائيلياً و { مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } صفة لرجل . و صلة ليكتم ، أي : يكتم إيمانه من آل فرعون ، واسمه سمعان أو حبيب وقيل خربيل أو حزبيل والظاهر أنه كان من آل فرعون فإنّ المؤمنين من بني إسرائيل لم يقلّوا ولم يعزُّوا . والدليل عليه قول فرعون : { أبناء الذين آمنوا معه } [ غافر : 25 ] . وقول المؤمن : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا } [ غافر : 29 ] دليل ظاهر على أنه يتنصَّح لقومه { أَن يَقُولَ } لأن يقول ، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط في ارتكابها إلاّ كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله : { رَبّىَ الله } مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة ، ولكن بينات عدّة من عند من نسب إليه الربوبية ، وهو ربكم لا ربه وحده ، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به ، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم ، ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً ، أي : وقت أن يقول . والمعنى : أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذالقول من غير روية ولا فكر في أمره . وقوله : { بالبينات } يريد : بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها ، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً ، { فإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } أي : يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره ، { وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ } ما يعدكم إن تعرّضتم له . فإن قلت : لم قال : بعض { الذى يَعِدُكُمْ } وهو نبيّ صادق ، لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه قلت : لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول ، ويأتيهم من وجهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال : { وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردّوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ، ولكنه أردفه { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً ، فضلاً أن يتعصب له ، أو يرمي بالحصا من ورائه ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضاً من هذا القبيل ، وكذلك قوله : { إِنَّ الله يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } . فإن قلت : فعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل ، وأنشد بيت لبيد :
تَرَّاكُ امْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامَهَا
قلت : إن صحت الرواية عنه ، فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي : كان أجفى من أن يفقه ما أقول له : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } يحتمل أنه إن كان مسرفاً كذاباً خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر ، فيتخلصون منه ، وأنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله للنبوّة ، ولما عضده بالبينات . وقيل : ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشدّ من ذلك :
( 981 ) طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت ، فلقوه حين فرغ ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا ، فقال : أنا ذاك ، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فالتزمه من ورائه : وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، رافعاً صوته بذلك ، وعيناه تسفحان ، حتى أرسلوه . وعن جعفر الصادق : إنّ مؤمن آل فرعون قال ذلك سراً ، وأبو بكر قاله ظاهراً .
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{ ظاهرين فِى الأرض } في أرض مصر عالين فيها على بني إسرائيل ، يعني : أنّ لكم ملك مصر ، وقد علوتم الناس ، وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه ، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم ، ولا يمنعكم منه أحد . وقال : { يَنصُرُنَا } و { جاءنا } لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى } أي : ما أشير عليكم برأي إلاّ بما أرى من قتله ، يعني : لا أستصوب إلاّ قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب { وَمَا أَهْدِيكُمْ } بهذا الرأي { إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } يريد : سبيل الصواب والصلاح . أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ، ولا أدّخر منه شيئاً ، ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر يعني أنّ لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب؛ فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى ، ولكنه كان يتجلد ، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة . وقرىء : «الرشاد» فعال من رشد بالكسر ، كعلام . أو من رشد بالفتح كعباد ، وقيل : هو من أرشد كجبار من أجبر ، وليس بذلك؛ لأنّ فعالاً من أفعل لم يجيء إلاّ في عدّة أحرف ، نحو : درّاك وسآرا وقصار وحبّار ، ولا يصحّ القياس على القليل . ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد ، كعوّاج وبتات ، غير منظور فيه إلى فعل .
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
{ مِّثْلَ يَوْمِ الاحزاب } مثل أيامهم ، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود ، ولم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار ، اقتصر على الواحد من الجمع؛ لأنّ المضاف إليه أغنى عن ذلك كقوله :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِفُّوا ... وقال الزجاج : مثل يوم حزب حزب ، ودأب هؤلاء : دؤبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي ، وكون ذلك دائباً دائماً منهم لا يفترون عنه ، ولا بدَّ من حذف مضاف ، يريد : مثل جزاء دأبهم . فإن قلت : بم انتصب مثل الثاني؟ قلت : بأنه عطف بيان لمثل الأوّل؛ لأنّ آخر ما تناوله الإضافة قوم نوح ، ولو قلت أهلك الله الأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود ، لم يكن إلاّ عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام ، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } يعني : أن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً ، لأنهم استوجبوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] حيث جعل المنفى إرادة الظلم؛ لأنّ من كان عن أرادة الظلم بعيداً ، كان عن الظلم أبعد . وحيث نكر الظلم ، كأنه نفى أن يريد ظلماً ما لعباده . ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } [ الزمر : 7 ] أي : لا يريد لهم أن يظلموا؛ يعني أنه دمّرهم لأنهم كانوا ظالمين .
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
«التنادي» ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف من قوله : { وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } [ الأعراف : 50 ] ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور . وقرىء بالتشديد : وهو أن يندّ بعضهم من بعض؛ كقوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندّوا هرباً ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلاّ وجدوا ملائكة صفوفاً ، فبيناهم يموج بعضهم في بعض ، إذ سمعوا منادياً : أقبلوا إلى الحساب { تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار . وعن مجاهد : فارّين عن النار غير معجزين .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام . وقيل : هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب : أقام فيهم نبياً عشرين سنة . وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف ، عمر إلى زمنه ، وقيل : هو فرعون آخر . وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين { حتى إِذَا } قبض { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } حكماً من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل ، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أستسموه ، وليس قولهم : { لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } بتصديق لرسالة يوسف ، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها ، وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته . وقرىء : «ألن يبعث الله» على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي ، كأن بعضهم يقرّر بعضاً بنفي البعث . ثم قال : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله } أي مثل هذا الخذلان المبين يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه { الذين يجادلون } بدل من { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } فإن قلت : كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت : لأنه لا يريد مسرفاً واحداً ، فكأنه قال : كل مسرف . فإن قلت : فما فاعل { كَبُرَ } ؟ قلت : ضمير من هو مسرف . فإن قلت : أما قلت هو جمع ، ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت : بلى هو جمع في المعنى . وأما اللفظ فموحد ، فحمل البدل على معناه ، والضمير الراجع إليه على لفظه ، وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى ، وله نظائر ، ويجوز أن يرفع الذين يجادلون على الابتداء ، ولا بدّ في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر ، تقديره : جدال الذين يجادلون كبر مقتاً ، ويحتمل أن يكون { الذين يجادلون } مبتدأ؛ و { بِغَيْرِ سلطان أتاهم } خبراً ، وفاعل كبر قوله : { وكذلك } أي كبر مقتاً مثل ذلك الجدال ، و { يَطْبَعُ الله } كلام مستأنف ، ومن قال : كبر مقتاً عند الله جدالهم ، فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصحّ حذفه . وفي { كَبُرَ مَقْتاً } : ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم ، والشهادة على خروجه من حدِّ إشكاله من الكبائر . وقرىء : «سلطان» بضم اللام . وقرىء : «قلب» بالتنوين ، ووصف القلب بالتكبر والتجبر ، لأنه مركزهما ومنبعهما ، كما تقول : رأت العين ، وسمعت الأذن . ونحوه قوله عزّ وجل { فإنه آثم قلبه } [ البقرة : 283 ] وإن كان الآثم هو الجملة . ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي : على كل ذي قلب متكبر ، تجعل الصفة لصاحب القلب .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
قيل : الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر ، و { أسباب السماوات } طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها ، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه ، كالرشاء ونحوه ، فإن قلت : ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل : لعلي أبلغ أسباب السموات لأجزأ؟ قلت : إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها ، ولأنه لما كان بلوغها أمراً عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه ، ليعطيه السامع حقه من التعجب ، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان ، ثم أوضحه . وقرىء : «فأطلع» بالنصب على جواب الترجي ، تشبيهاً للترجي بالتمني . ومثل ذلك التزيين وذلك الصدّ { زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل } والمزين : إما الشيطان بوسوسته ، كقوله تعالى : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } [ النمل : 34 ] أو الله تعالى على وجه التسبيب ، لأنه مكن الشيطان وأمهله . ومثله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [ النمل : 4 ] . وقرىء : «وزين لهم سوء عمله» على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ ، دلّ عليه قوله : { إلى إله موسى } وصدّ ، بفتح الصاد وضمها وكسرها ، على نقل حركة العين إلى الفاء ، كما قيل : قيل . والتباب : الخسران والهلاك . وصدّ : مصدر معطوف على سوء عمله وصدّوا هو وقومه .
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
قال : { أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } فأجمل لهم ، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها؛ لأنّ الإخلاد إليها هو أصل الشرّ كله ، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة . وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها ، وأنها هي الوطن والمستقرّ . وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ، ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف ، ثم وازن بين الدعوتين : دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار ، وحذر ، وأنذر ، واجتهد في ذلك واحتشد ، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون ، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين ، وهو قوله تعالى : { فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء العذاب } وفي هذا أيضاً دليل بيّن على أن الرجل كان من آل فرعون . والرشاد نقيض الغي . وفيه تعريض شبيه بالتصريح أنّ ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي .
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{ فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } لأنّ الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة ، لأنها ظلم . وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة؛ لأنها فضل . قرىء : «يدخلون» و«يدخلون» { بِغَيْرِ حِسَابٍ } واقع في مقابلة إلاّ مثلها ، يعني : أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب ، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة .
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
فإن قلت : لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت : أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة . وفيه : أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم ، وهو يعلم وجه خلاصهم ، ونصيحتهم عليه واجبة ، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم ، ويستدعي بذلك ، أن لا يتهموه ، فإنّ سرورهم سروره ، وغمهم غمه ، وينزلوا على تنصيحه لهم ، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه : { يا أبت } . وأما المجيء بالواو العاطفة ، فلأن الثاني داخل على كلام وهو بيان للمجمل وتفسير له ، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو ، وأما الثالث : فداخل على كلام ليس بتلك المثابة . يقال : دعاه إلى كذا ودعاه له ، كما تقول : هداه إلى الطريق وهداه له { مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي : بربوبيته ، والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها .
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
{ لاَ جَرَمَ } سياقه على مذهب البصريين : أن يجعل ( لا ) ردّاً لما دعاه إليه قومه . وجرم : فعل بمعنى حق ، وأنّ مع ما في حيزه فاعله ، أي : حق ووجب بطلان دعوته . أو بمعنى : كسب ، من قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنئَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } [ المائدة : 2 ] أي : كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته ، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلاّ ظهور بطلان دعوته . ويجوز أن يقال : أن لا جرم ، نظير : لا بدّ ، فعل من ا لجرم ، وهو القطع ، كما أن بدّاً فعل من التبديد وهو التفريق ، فكما أن معنى : لا بد أنك تفعل كذا ، بمعنى : لا بعد لك من فعله ، فكذلك لا جرم أن لهم النار ، أي : لا قطع لذلك ، بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع ، لبطلان دعوة الأصنام ، أي : لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقاً . وروي عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء ، بزنة بد ، وفعل وفعل : أخوان . كرشد ورشد ، وعدم وعدم { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ } معناه : أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، أي : من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته ، ثم يدعو العباد إليها إظهاراً لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته ، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدّعي الربوبية ، ولو كان حيواناً ناطقاً لضجّ من دعائكم . وقوله : { فِى الدنيا وَلاَ فِى الاخرة } يعني أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئاً من دعاء غيره ، وفي الآخرة : إذا أنشأه الله حيواناً ، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته . وقيل : معناه ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة . أو دعوة مستجابة ، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة فيها كلا دعوة . أو سميت الاستجابة باسم الدعوة ، كما سمى الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم : كما تدين تدان . قال الله تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الحق والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } [ الرعد : 14 ] . { المسرفين } عن قتادة : المشركين . وعن مجاهد : السفاكين للدماء بغير حلها . وقيل : الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون . وقرىء : «فستذكرون» . أي : فسيذكر بعضكم بعضاً { وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى الله } لأنهم توعدوه .
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{ فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم . وقيل : نجا مع موسى { وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ } ما هموا به من تعذيب المسلمين ، ورجع عليهم كيدهم { النار } بدل من سوء العذاب . أو خبر مبتدأ محذوف ، كأن قائلاً قال : ما سوء العذاب؟ فقيل : هو النار . أو مبتدأ خبره { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها ، وعرضهم عليها : إحراقهم بها . يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به ، وقرىء : «النار» بالنصب ، وهي تعضد الوجه الأخير . وتقديره : يدخلون النار يعرضون عليها ، ويجوز أن ينتصب على الاختصاص { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } في هذين الوقتين يعذبون بالنار ، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم ، فأمّا أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب ، أو ينفس عنهم . ويجوز أن يكون { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } : عبارة عن الدوام ، هذا ما دامت الدنيا ، فإذا قامت الساعة قيل لهم : { أَدْخِلُواْ } يا { ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ } عذاب جهنم . وقرىء : «أدخلوا آل فرعون» أي : يقال لخزنة جهنم : أدخلوهم . فإن قلت : قوله : ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب ) معناه : أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين ، كقول العرب : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً ، فإذا فسر سوء العذاب بنار جهنم : لم يكن مكرهم راجعاً عليهم ، لأنهم لا يعذبون بجهنم . قلت : يجوز أن يهم الإنسان بأن يغرق قوماً فيحرق بالنار ، ويسمى ذلك حيقاً؛ لأنه همّ بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء . ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه ، ويجوز أن يهمّ فرعون - لما سمع إنذار المسلمين بالنار ، وقول المؤمن : { وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار } [ غافر : 43 ] - فيفعل نحو ما فعل نمرود ويعذبهم بالنار ، فحاق به مثل ما أضمره وهمَّ بفعله . ويستدلّ بهذه الآية على إثبات عذاب القبر .
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
واذكر وقت يتحاجون { تَبَعًا } تباعاً ، كخدم في جمع خادم . أو ذوي تبع ، أي : أتباع ، أو وصفاً بالمصدر .
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
وقرىء : «كلا» على التأكيد لاسم إن ، وهو معرفة ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كلنا ، أو كلنا فيها . فإن قلت : هل يجوز أن يكون «كلا» حالاً قد عمل ( فيها ) فيها؟ قلت : لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدماً تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائماً في الدار زيد { قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } للقوّام بتعذيب أهلها . فإن قلت : هلا قيل : الذين في النار لخزنتها؟ قلت : لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعراً ، من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر ، وقولهم في النابغة : جهنام ، تسمية بها ، لزعمهم أنه يلقي الشعر على لسان المنتسب إليه ، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر ، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر :
قُلَيْذَمٌ مِنَ الْعَيَالِيمِ الْخُسُفْ ... وفيها أعتى الكفار وأطغاهم ، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى ، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ } إلزام للحجة وتوبيخ ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع ، وعطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات { قَالُواْ فادعوا } أنتم ، فإنا لا نجترىء على ذلك ولا نشفع إلاّ بشرطين : كون المشفوع له غير ظالم ، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها ، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين ، وليس قولهم { فادعوا } لرجاء المنفعة ، ولكن للدلالة على الخيبة؛ فإن الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه ، فكيف يسمع دعاء الكافر .
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
{ فِى الحياوة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } أي : في الدنيا والآخرة ، يعني : أنه يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم ، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله ، فالعاقبة لهم ، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين . والأشهاد : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، يريد : الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] . واليوم الثاني بدل من الأوّل ، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة ، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، { وَلَهُمُ اللعنة } البعد من رحمة الله { وَلَهُمْ سُوء الدار } أي : سوء دار الآخرة وهو عذابها . وقرىء : «تقوم» ، و «لا تنفع» بالتاء والياء .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
يريد بالهدى : جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع { وَأَوْرَثَنَا } وتركنا على بني إسرائيل من بعده { الكتاب } أي : التوراة { هُدًى وذكرى } إرشاداً وتذكرة ، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال . وأولوا الألباب : المؤمنون به العاملون بما فيه .
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
{ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني أن نصرة الرسل في ضمان الله؛ وضمان الله لا يخلف ، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده ، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل ، والله ناصرك كما نصرهم ، ومظهرك على الدين كله ، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها ، فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص ، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق ، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار؛ ودم على عبادة ربك والثناء عليه { بالعشى والإبكار } وقيل : هما صلاتا العصر والفجر .
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
{ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } إلا تكبر وتعظم ، وهو إرادة التقدّم والرياسة ، وأن لا يكون أحد فوقهم ، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدّمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك ، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة . أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك حسداً وبغياً . ويدلّ عليه قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] أو إرادة دفع الآيات بالجدال { مَّا هُم ببالغيه } أي : ببالغي موجب الكبر ومقتضيه ، وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوّة أو دفع الآيات . وقيل : المجادلون هم اليهود ، وكانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود ، يريدون الدّجال ، ويبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك ، فسمى الله تمنيهم ذلك كبراً ، ونفى أن يبلغوا متمناهم { فاستعذ بالله } فالتجيء إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك { إِنَّهُ هُوَ السميع } لما تقول ويقولون { البصير } بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرّهم .
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
فإن قلت : كيف اتصل قوله : { لَخَلْقُ السماوات والارض } بما قبله؟ قلت : إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث ، وهو أصل المجادلة ومدارها ، فحجوا بخلق السموات والأرض لأنهم كانوا مقرّين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره ، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين ، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر ، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله ، { لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم .
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
ضرب الأعمى والبصير مثلاً للمحسن والمسيىء . وقرىء : «يتذكرون» بالياء والتاء ، والتاء أعم .
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{ لاَ رَيْبَ فِيهَا } لا بد من مجيئها ولا محالة ، وليس بمرتاب فيها ، لأنه لا بد من جزاء { لاَ يُؤْمِنُونَ } لا يصدقون بها .
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{ ادعونى } اعبدوني ، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ، ويدلّ عليه قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } والاستجابة : الإثابة؛ وفي تفسير مجاهد : اعبدوني أثبكم . وعن الحسن - وقد سئل عنها - : اعملوا وأبشروا ، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله . وعن الثوري أنه قيل له : ادع الله ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء . وفي الحديث :
( 982 ) « إذا شغل عبدي طاعتي عن الدعاء ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الدعاء هو العبادة » وقرأ هذه الآية . ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويريد بعبادتي : دعائي ، لأن الدعاء باب من العبادة ومن أفضل أبوابها ، يصدقه قول ابن عباس رضي الله عنهما : أفضل العبادة الدعاء . وعن كعب : أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلاّ نبياً مرسلاً : كان يقول لكل نبيّ أنت شاهدي على خلقي وقال لهذه الأمة : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] ؛ وكان يقول : ما عليك من حرج ، وقال لنا : { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] وكان يقول : أدعني أستجب لك؛ وقال لنا : { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } . وعن ابن عباس : وحدوني أغفر لكم ، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ، ثم للعبادة بالتوحيد { داخرين } صاغرين .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
{ مُبْصِراً } من الإسناد المجازي ، لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار . فإن قلت : لم قرن الليل بالمفعول له . والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولاً لهما فيراعي حق المقابلة؟ قلت : هما متقابلان من حيث المعنى ، لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، لأنه لو قيل : لتبصروا فيه ، فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي ، ولو قيل : ساكناً - والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج ، وساكن لا ريح فيه - لم تتميز الحقيقة من المجاز . فإن قلت : فهلا قيل : لمفضل ، أو لمتفضل؟ قلت : لأن الغرض تنكير الفضل ، وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل ، وذلك إنما يستوي بالإضافة . فإن قلت : فلو قيل : ولكن أكثرهم ، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت : في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم ، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه ، كقوله : { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } [ الزخرف : 15 ] { إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } [ العاديات : 6 ] ، { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] .
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
{ ذَلِكُمُ } المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو { الله رَبُّكُمْ خالق كُلِ شَىْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أخبار مترادفة ، أي : هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء ، وإنشائه لا يمتنع عليه شيء ، والوحدانية : لا ثاني له { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف ومن أي : وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان . ثم ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة : أفك كما أفكوا . وقرىء : «خالق كل شيء» نصباً على الاختصاص . وتؤفكون : بالتاء والياء .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
هذه أيضاً دلالة أخرى على تميزه بأفعال خاصة ، وهي أنه جعل الأرض مستقراً { والسمآء بِنَآءً } أي : قبة . ومنه : أبنية العرب لمضاربهم؛ لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } وقرىء : بكسر الصاد والمعنى واحد . قيل : لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان . وقيل : لم يخلقهم منكوسين كالبهائم ، كقوله تعالى : { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] { فادعوه } فاعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي : الطاعة من الشرك والرياء ، قائلين : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال : لا إله إلاّ الله ، فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين .
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
فإن قلت : أما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت : بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل كان ذكر البينات ذكراً لأدلة أدلة العقل والسمع جميعاً ، وإنما ذكر ما يدلّ على الأمرين جميعاً؛ لأن ذكر تناصر أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } متعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا . وكذلك لتكونوا . وأما { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } فمعناه : ونفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى ، وهو وقت الموت . وقيل : يوم القيامة . وقرىء : «شيوخاً» بكسر الشين . وشيخاً ، على التوحيد ، كقوله : { طِفْلاً } [ الحج : 5 ] والمعنى : كل واحد منكم . أو اقتصر على الواحد؛ لأنّ الغرض بيان الجنس { مِن قَبْلُ } من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ما في ذلك في العبر والحجج .
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا } يكوّنه من غير كلفة ولا معاناة . جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة ، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدوراً لا يمتنع عليه ، كأنه قال : فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمراً كان أهون شيء وأسرعه .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
{ بالكتاب } بالقرآن { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } من الكتب . فإن قلت : وهل قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاغلال فِى أعناقهم } إلى مثل قولك : سوف أصوم أمس؟ قلت : المعنى على إذا : إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعاً بها : عبر عنها بلفظ ما كان ووجد ، والمعنى على الاستقبال . وعن ابن عباس : والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء ، على عطف الجملة الفعلية على الإسمية . وعنه : والسلاسل يسحبون بجر السلاسل . ووجهه أنه لو قيل : إذْ أعناقهم في الأغلال مكان قوله : { إِذِ الاغلال فِى أعناقهم } لكان صحيحاً مستقيماً ، فلما كانتا عبارتين معتقبتين : حمل قوله : { والسلاسل } على العبارة الأخرى . ونظيره :
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
كأنه قيل : بمصلحين . وقرىء : «وبالسلاسل يسحبون» { فِى النار يُسْجَرُونَ } من سجر التنور إذا ملأه بالوقود . ومنه : السجير ، كأنه سجر بالحب ، أي : ملىء . ومعناه : أنهم في النار فهي محيطة بهم ، وهم مسجورون بالنار مملوؤة بها أجوافهم . ومنه قوله تعالى : { نَارُ الله الموقدة التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } [ الهمزة : 7 ] اللهم أجرنا من نارك فإنا عائذون بجوارك { ضَلُّواْ عَنَّا } غابوا عن عيوننا ، فلا نراهم ولا ننتفع بهم . فإن قلت : أما ذكرت في تفسير قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] : أنهم مقرونون بآلهتهم ، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت : يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم : إينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم ، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات ، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم؛ إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي : تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئاً ، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول : حسبت أنّ فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيراً { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم . ، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا { ذلكم } الإضلال بسبب ما كنا لكم من الفرح والمرح { بِغَيْرِ الحق } وهو الشرك وعبادة الأوثان { ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ } السبعة المقسومة لكم . قال الله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] . { خالدين } مقدّرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } عن الحق المستخفين به مثواكم أو جهنم . فإن قلت : أليس قياس النظم أن يقال : فبئس مدخل المتكبرين ، كما تقول : زر بيت الله فنعم المزار ، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت : الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء .
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أصله : فإن نرك . و ( ما ) مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل ألا تراك لا تقول : إن تكرمني أكرمك ، ولكن : إما تكرمني أكرمك . فإن قلت : لا يخلو إما أن تعطف { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } على نرينك وتشركهما في جزاء واحد وهو قوله تعالى : { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } فقولك : فإمّانرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون : غير صحيح ، وإن جعلت { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } مختصاً بالمعطوف الذي هو نتوفينك ، بقي المعطوف عليه بغير جزاء . قلت : { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } متعلق بنتوفينك ، وجزاء { نُرِيَنَّكَ } محذوف ، تقديره : فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك . أو أن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام ونحوه قوله تعالى : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وَعَدناهم فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } [ الزخرف : 41 -42 ] .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } قيل : بعث الله ثمانية آلاف نبيّ : أربعة آلاف من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس . وعن عليّ رضي الله عنه : إنّ الله تعالى بعث نبياً أسود ، فهو ممن لم يقصص عليه . وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً ، يعني : إنا قد أرسلنا كثيراً من الرسل وما كان لواحد منهم { أن يأتي بآية إلا بإذن الله } فمن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلاّ إن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله } وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات . وأمر الله : القيامة { المبطلون } هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات وقد اتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحراً .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
الأنعام : الإبل خاصة . فإن قلت : لم قال : { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا } ولتبلغوا عليها ، ولم يقل ، لتأكلوا منها ، ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال : منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون عليها حاجة في صدوركم؟ قلت : في الركوب : الركوب في الحج والغزو ، وفي بلوغ الحاجة : الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم ، وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم . وأما الأكل وإصابة المنافع : فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته ، ومعنى قوله : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } وعلى الأنعام وحدها لا تحملون ، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر . فإن قلت : هلا قيل : وفي الفلك ، كما قال : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } ؟ [ هود : 40 ] قلت : معنى الإيعاء ومعنى الاستعلاء : كلاهما مستقيم؛ لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها ، فلما صحّ المعنيان صحت العبارتان . وأيضاً فليطابق قوله : ( وعليها ) ويزاوجه { فَأَىَّ ءايات الله } جاءت على اللغة المستفيضة . وقولك : فأية آيات الله قليل ، لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب . وهي في ( أي ) أغرب لإبهامه .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
{ وَءَاثَاراً } قصورهم ومصانعهم . وقيل : مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم { فَمَا أغنى عَنْهُمْ } ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ، ومحلها النصب ، والثانية : موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع ، يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } فيه وجوه : منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة } [ النمل : 66 ] : وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون : لا نبعث ولا نعذب ، { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء ، كما قال عزّ وجلّ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 32 ] ومنها : أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان ، وكانوا إذ سمعوا بوحي الله : دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم . وعن سقراط : أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه ، وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا . ومنها : أن يوضع قوله { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } [ غافر : 83 ] ولا علم عندهم البتة ، موضع قوله : لم يفرحوا بما جاءهم من العلم ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة ، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء . ومنها أن يراد : فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال : استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين . ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } ومنها : أن يجعل الفرح للرسل . ومعناه : أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادي واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم : فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه . وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون } [ الروم : 7 ] ، { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } [ النجم : 30 ] فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات - وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات - لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به .
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
البأس : شدّة العذاب . ومنه قوله تعالى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] . فإن قلت : أي فرق بين قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم } وبينه لو قيل : فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت : هو من كان في نحو قوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] والمعنى : فلم يصحّ ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم . فإن قلت : كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت : أما قوله تعالى : { فَمَا أغنى عَنْهُمْ } [ غافر : 82 ] فهو نتيجة قوله : { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ } [ غافر : 82 ] وأما قوله : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } [ غافر : 83 ] فجار مجرى البيان والتفسير ، لقوله تعالى : { فَمَا أغنى عَنْهُمْ } [ غافر : 82 ] كقولك : رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء . وقوله : { لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } تابع لقوله : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ } [ غافر : 83 ] كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، وكذلك : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم } تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله { سُنَّةَ الله } بمنزلة { وَعَدَ الله } [ النساء : 95 ] وما أشبهه من المصادر المؤكدة . و { هُنَالِكَ } مكان مستعار للزمان ، أي : وخسروا وقت رؤية البأس ، وكذلك قوله : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } [ غافر : 78 ] بعد قوله : { فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله قُضِىَ بالحق } [ غافر : 78 ] أي : وخسروا وقت مجيء أمر الله ، أو وقت القضاء بالحق .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 984 ) « من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلاّ صلّى عليه واستغفر له » .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
إن جعلت { حم} اسماً للسورة كانت في موضع المبتدأ . و { تَنزِيلٌ } خبره . وإن جعلتها تعديداً للحروف وكان { تَنزِيلٌ } خبراً لمبتدأ محذوف و { كِتَابٌ } بدل من تنزيل . أو خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف ، وجوّز الزجاج أن يكون { تَنزِيلٌ } مبتدأ ، و { كِتَابٌ } خبره . ووجهه أن تنزيلاً تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ { فُصّلَتْ ءاياته } ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة : من أحكام وأمثال ومواعظ ، ووعد ووعيد ، وغير ذلك ، وقرىء : «فصلت» ، أي : فرقت بين الحق والباطل . أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها ، من قولك : فصل من البلد { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } نصب على الاختصاص والمدح ، أي : أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت . وقيل : هو نصب على الحال ، أي : فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين ، لا يلتبس عليهم شيء منه . فإن قلت : بم يتعلق قوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفصلت ، أي : تنزيل من الله لأجلهم . أو فصلت آياته لهم . والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب ، لئلا يفرق بين الصّلات والصفات . وقرىء : «بشير ونذير» صفة ل ( لكتاب ) . أو خبر مبتدأ محذوف { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } لا يقبلون ولا يطيعون ، من قولك : تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه ، فكأنه لم يسمعه .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
والأكنة : جمع كنان . وهو الغطاء و«الوقر» بالفتح - الثقل . وقرىء : بالكسر . وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده ، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ، كقوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [ البقرة : 88 ] ومج أسماعهم له كأن بها صمماً عنه ، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه : حجاباً ساتراً وحاجزاً منيعاً من جبل أو نحوه ، فلا تلاقي ولا ترائي { فاعمل } على دينك { إِنَّنَا عاملون } على ديننا ، أو فاعمل في إبطال أمرنا ، إننا عاملون في إبطال أمرك . وقرىء : «إنا عاملون» فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فائدة؟ قلت : نعم ، لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب : لكان المعنى : أن حجاباً حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة ( من ) فالمعنى : أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها . فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : وفي آذاننا وقر؛ ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت : هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قلوبنا في أكنة . وعلى قلوبنا أكنة . والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة : لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلاّ في المعاني .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
فإن قلت : من أين كان قوله : { إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ } جواباً لقولهم : { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } ؟ قلت : من حيث إنه قال لهم : إني لست بملك ، وإنما أنا بشر مثلكم ، وقد أوحي إليَّ دونكم فصحت - بالوحي إليّ وأنا بشر - نبوّتي ، وإذا صحت نبوّتي : وجب عليكم اتباعي ، وفيما يوحى إليَّ : أن إلهكم إله واحد { فاستقيموا إِلَيْهِ } فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يميناً وشمالاً ، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء ، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك { واستغفروه } . وقرىء : «قال إنما أنا بشر» . فإن قلت : لم خصّ من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة ، قلت : لأن أحبّ شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته . ألا ترى إلى قوله عزّ وجلّ : { وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } [ البقرة : 265 ] أي : يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرّت عصبيتهم ولانت شكيمتهم وأهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلاّ بمنع الزكاة ، فنصبت لهم الحرب ، وجوهدوا . وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة ، وتخويف شديد من منعها ، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين ، وقرن بالكفر بالآخرة . وقيل : كانت قريش يطعمون الحاج ، ويحرمون من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
الممنون : المقطوع . وقيل : لا يمنّ عليهم لأنه إنما يمن التفضل . فأما الأجر فحقّ أداؤه . وقيل : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى : إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر ، كأصحّ ما كانوا يعملون .
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{ أَئِنَّكُمْ } بهمزتين : الثانية بين بين . و «ءائنكم» بألف وبين همزتين { ذَلِكَ } الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين . هو { رَبُّ العالمين } . . . رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت . فإن قلت : ما معنى قوله : { مِنْ فَوْقِهَا } وهل اقتصر على قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات } [ المرسلات : 27 ] ، { وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ } [ الأنبياء : 31 ] ، { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ } [ النمل : 61 ] ؟ قلت : لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها ، أو مركوزة فيها كالمسامير : لمنعت من الميدان أيضاً ، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض ، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها ، حاضرة محصليها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه ، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته { وبارك فِيهَا } وأكثر خيرها وأنماه { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم . وفي قراءة ابن مسعود . وقسم فيها أقواتها { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء } فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها ، كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان . قيل : خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الإثنين ، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء . وقال الزجاج : في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين . وقرىء : «سواء» بالحركات الثلاث : الجر على الوصف والنصب على : استوت سواء ، أي : استواء : والرفع على : هي سواء . فإن قلت : بم تعلق قوله { لّلسَّائِلِينَ } ؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر : أي : قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين . وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج . فإن قلت : هلا قيل في يومين؟ وأي فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت : إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين ، علم أن ما فيها خلق في يومين ، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء ، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين ، وهي الدلالة على أنها كانت أياماً كاملة بغير زيادة ولا نقصان . ولو قال : في يومين - وقد يطلق اليومان على أكثرهما -لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } من قولك : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على شيء ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونحوه قولهم : استقام إليه وامتد إليه . ومنه قوله تعالى : { فاستقيموا إِلَيْهِ } [ فصلت : 6 ] والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك . قيل : كان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء ، فأخرج من الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء وعلا عليه ، فأيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ، ثم فتقها فجعلها أرضين ، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع .
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما : أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الأمر المطاع ، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل . ويجوز أن يكون تخييلاً ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه ، فقالتا : أتينا على الطوع لا على الكره . والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير؛ من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب . ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني؟ قال الوتد : اسأل من يدقني ، فلم يتركني ، ورائي الحجر الذي ورائي . فإن قلت : لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوّة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف : ائتي يا أرض مدحوّة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفاً لهم . ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما تقول : أتى عمله مرضياً ، وجاء مقبولاً . ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة والتدبير : من كون الأرض قراراً للسماء ، وكون السماء سقفاً للأرض . وتنصره قراءة من قرأ : «آتيا» وآتينا : من المؤاتاة وهي الموافقة : أي : لتؤات كل واحدة أختها ولتوافقها . قالتا : واقفنا وساعدنا . ويحتمل وافقاً أمري ومشيئتي ولا تمتنعا . فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً؟ قلت : هو مثل للزوم وتأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال؛ كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً . وانتصابهما على الحال ، بمعنى : طائعتين أو مكرهتين . فإن قلت : هلا قيل : طائعتين على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى؟ لأنها سموات وأرضون . قلت : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ، ووصفن بالطوع والكره قيل : طائعين ، في موضع : طائعات . نحو قوله : ( ساجدين ) . { فقضاهن } يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال : { طَائِعِينَ } ونحوه : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات ، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال ، والثاني : على التمييز ، قيل : خلق الله السموات وما فيها في يومين : في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة . وفي هذا دليل على ما ذكرت لك ، من أنه لو قيل : في يومين في موضع أربعة أيام سواء ، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان . فإن قلت : فلو قيل : خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين . أو قيل : بعد ذكر اليومين : تلك أربعة سواء؟ قلت : الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقاً لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك الركب ، ليتميز الفاضل من الناقص ، والمتقدم من الناكص ، وترتفع الدرجات ، ويتضاعف الثواب ، { أَمْرِهَا } ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك . أو شأنها وما يصلحها { وَحِفْظاً } وحفظناها حفظاً ، يعني من المسترقة بالثواقب . ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى ، كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته ، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة ، أي : عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة . وقرىء : «صعقة» ( مثل ) صعقة عاد وثمود : وهي المرة من الصعق أو الصعق . يقال : صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً ، وهو من باب : فعلته ففعل { مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي : أتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلاّ العتوّ والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان : { لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [ الأعراف : 17 ] يعني لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة ، وتقول : استدرت بفلان من كل جانب ، فلم يكن لي فيه حيلة . وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة؛ لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم . وقيل : معناه إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم . فإن قلت : الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاؤهم ، وكيف يخاطبونهم بقولهم : ( إنا بما أرسلتم به كافرون ) ؟ قلت : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم ، أي : من قبلهم وممن يجيء من خلفهم ، أي : من بعدهم؛ فكان الرسل جميعاً قد جاؤهم . وقولهم : ( إنا بما أرسلتم به كافرون ) خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم . أن في { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } بمعنى أي ، أو مخففة من الثقيلة ، أصله : بأنه لا تعبدوا ، أي : بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم : لا تعبدوا ، ومفعول شاء محذوف أي : { لَوْ شَاء رَبُّنَا } إرسال الرسل { لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } معناه : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة ، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به ، وقولهم : { أُرْسِلْتُمْ بِهِ } ليس بإقرار بالإرسال ، وإنما هو على كلام الرسل ، وفيه تهكم ، كما قال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] . روى : [ 985 ] أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً ، وما يخفى عليّ ، فأتاه فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضلّلنا ، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن تك بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت؛ فلما فرغ قال : بسم الله الرحمن الرحيم { حم} إلى قوله :
{ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 13 ] فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلاّ قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلاّ أنك قد صبأت ، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء و الله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود : أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب .
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{ فاستكبروا فِى الأرض } أي : تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوّة وعظم الأَجرام . أو استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم ، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده . فإن قلت : القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية ، وهي نقيضة الضعف . وأما القدرة فما لأجله يصحّ الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنيه وهي نقيضة العجز والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلاّ على معنى القدرة ، فكيف صحّ قوله : { هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وإنما يصحّ إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد؟ قلت : القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية ، وحقيقتها : زيادة القدرة ، فكما صحّ أن يقال : الله أقدر منهم ، جاز أن يقال : أقوى منهم ، على معنى : أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم { يَجْحَدُونَ } كانوا يعرفون أنها حق ، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة ، وهو معطوف على فاستكبروا ، أي : كانوا كفرة فسقة . الصرصر : العاصفة التي تصرصر ، أي : تصوّت في هبوبها . وقيل : الباردة التي تحرق بشدّة بردها ، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أي : يجمع ويقبض «نحسات» قرىء بكسر الحاء وسكونها . ونحس نحساً : نقيض سعد سعداً ، وهو نحس . وأما نحس ، فإمّا مخفف نحس ، أو صفة على فعل ، كالضخم وشبهه . أو وصف بمصدر . وقرىء : «لتذيقهم» على أنّ الإذاقة للريح أو للأيام النحسات . وأضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال : عذاب خزي ، كما تقول : فعل السوء ، تريد : الفعل السيء ، والدليل عليه قوله تعالى : { وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى } وهو من الإسناد المجازي ، ووصف العذاب بالخزي : أبلغ من وصفهم به . ألا ترى إلى البون بين قوليك : هو شاعر ، وله شعر شاعر .
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
وقرىء : «ثمود» بالرفع والنصب منوّناً وغير متنون ، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء . وقرىء بضم الثاء { فهديناهم } فدللناهم على طريق الضلالة والرشد ، كقوله تعالى : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] . { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد . فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه الهدى ، والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى ، بمعنى : تحصيل البغية وحصولها ، كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يُبق له عذراً ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها { صاعقة العذاب } داهية العذاب وقارعة العذاب . و { الهون } الهوان ، وصف به العذاب مبالغة ، أو أبدله منه ، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم - وكفى به شاهداً - إلاّ هذه الآية ، لكفى بها حجة .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
قرىء : «يحشر» على البناء للمفعول . ونحشر بالنون وضم الشين وكسرها ، ويحشر : على البناء للفاعل ، أيّ : يحشر الله عزّ وجلّ { أَعْدَاء الله } الكفار من الأوّلين والآخرين { يُوزَعُونَ } أي : يحبس أوّلهم على آخرهم ، أي : يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم ، وهي عبارة عن كثرة أهل النار ، نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته؛ فإن قلت : ( ما ) في قوله : { حتى إِذَا مَا جَاءوهَا } ما هي؟ قلت : مزيدة للتأكيد ، ومعنى التأكيد فيها : أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها . ومثله قوله تعالى : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } [ يونس : 51 ] أي : لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به شهادة الجلود بالملامسة للحرام ، وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات . فإن قلت : كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت : الله عزّ وجلّ ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً . وقيل : المراد بالجلود : الجوارح . وقيل : هي كناية عن الفروج ، أراد بكل شيء : كل شيء ، من الحيوان ، كما أراد به في قوله تعالى : { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] كل شيء من المقدورات ، والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه - وإنما قالوا لهم : { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم .
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
والمعنى : أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش ، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم؛ لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم ، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً ، ولكنكم إنما استترتم لظنكم { أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا } كنتم { تَعْمَلُونَ } وهو الخفيات من أعمالكم ، وذلك الظنّ هو الذي أهلككم . وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ، ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله عيناً كالئة ورقيباً مهيمناً ، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاماً وأوفر تحفظاً وتصوناً منه مع الملأ ، ولا يتبسط في سره مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين . وقرىء : «ولكن زعمتم» { وَذَلِكُمْ } رفع بالابتداء ، و { ظَنُّكُمُ } و { أَرْدَاكُمْ } خبران ، ويجوز أن يكون { ظَنُّكُمُ } بدلاً من { وَذَلِكُمْ } و { أرادكم } الخبر .
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
{ فَإِن يَصْبِرُواْ } لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثواء في النار ، { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } وإن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه : لم يعتبوا : لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ، ونحوه قوله عزّ وعلا : { أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] وقرىء : «وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين» أي : إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ، أي : لا سبيل لهم إلى ذلك { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ } وقدّرنا لهم ، يعني لمشركي مكة : يقال : هذان ثوبان قيضان : إذا كانا متكافئين . والمقايضة : المعاوضة { قُرَنَاء } أخداناً من الشياطين جمع قرين ، كقوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين . والدليل عليه ( ومن يعش ) نقيض { ما بين أيديهم وما خلفهم } ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها . أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات ، وما خلفهم : من أمر العاقبة ، وأن لا بعث ولا حساب { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول } يعني كلمة العذاب { فِى أُمَمٍ } في جملة أمم . ومثل في هذه ما في قوله :
إنّ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْ ... فُوكاً فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
يريد : فأنت في جملة آخرين ، وأنت في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد . فإن قلت : { فِى أُمَمٍ } ما محله؟ قلت : محله النصب على الحال من الضمير في عليهم أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم { إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين } تعليل لاستحقاقهم العذاب . والضمير لهم وللأمم .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
قرىء : «والغوا فيه» بفتح الغين وضمها . ويقال : لغى يلغى ، ولغا يلغو : واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته . قال : من اللغا ورفث التكلم . والمعنى : لا تسمعوا له إذا قرىء ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والهذيان والزمل ، وما أشبه ذلك ، حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوه على قراءته . كانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ } يجوز أن يريد بالذين كفروا : هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة ، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم . قد ذكرنا إضافة أسوأ بما أغنى عن إعادته . وعن ابن عباس { عَذَاباً شَدِيداً } يوم بدر . و { أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الآخرة { ذلك } إشارة إلى الأسوأ ، ويجب أن يكون التقدير : أسوأ جزاء الذين كانوا يعملون ، حتى تستقيم هذه الإشارة . و { النار } عطف بيان للجزاء . أو خبر مبتدأ محذوف . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } ؟ قلت : معناه أن النار في نفسها دار الخلد ، كقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، وتقول لك في هذه الدار دار السرور . وأنت تعنى الدار بعينها { جَزَاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } أي : جزاء بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي سبب اللغو .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{ الذين أَضَلاَّنَا } أي : الشيطانين اللذين أضلانا { مّنَ الجن والإنس } لأنّ الشيطان على ضربين : جني وإنسي . قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] وقال تعالى : { الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس ( 5 ) مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 5-6 ] وقيل : هما إبليس وقابيل؛ لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق . وقرىء : «أرنا» بسكون الراء لثقل الكسرة ، كما قالوا في فخذ : فخذ . وقيل : معناه أعطنا للذين أضلانا . وحكوا عن الخليل : أنك إذا قلت : أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه . وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء ، معناه : أعطني ثوبك : ونظيره : اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء . وأصله : الإحضار .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{ ثُمَّ } لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة . وفضلها عليه : لأنّ الاستقامة لها الشأن كله . ونحوه قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } [ الحجرات : 15 ] والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً . وعنه : أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا . قال حملتم الأمر على أشدّه . قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان . وعن عمر رضي الله عنه : استقاموا على الطريقة لم يروغوا روغان الثعالب . وعن عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل . وعن علي رضي الله عنه : أدّوا الفرائض . وقال سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه :
( 986 ) قلت : يا رسول الله ، أخبرني بأمر أعتصم به . قال : " قل ربّي الله ، ثم استقم " قال فقلت : ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال : «هذا» { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } عند الموت بالبشرى . وقيل : البشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وإذا قاموا من قبورهم { أَلاَّ تَخَافُواْ } أن بمعنى أي . أو مخففة من الثقيلة . وأصله : بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : لا تخافوا ، أي : يقولون : لا تخافوا؛ والخوف : غمّ يلحق لتوقع المكروه ، والحزن : غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضارّ . والمعنى : أنّ الله كتب لكم الأمن من كل غمّ ، فلن تذوقوه أبداً . وقيل : لا تخافوا ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم . كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين { تَدْعُونَآ } تتمنون : والنزل : رزق التنزيل وهو الضيف ، وانتصابه على الحال .
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
{ مِّمَّن دَعآ إِلَى الله } عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإسلام { وَعَمِلَ صالحا } فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة له . وعنه : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن عائشة رضي الله عنها : ما كنا نشك أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين ، وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث : أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام ، عاملاً بالخير داعياً إليه؛ وما هم إلاّ طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد ، الدعاة إلى دين الله وقوله : { وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين } ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده ، كما تقول : هذا قول أبي حنيفة ، تريد مذهبه .
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
يعني : أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ الحسنة التي هي أحسن من أختها - إذا اعترضتك حسنتان - فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك . ومثال ذلك : رجل أساء إليك إساءة ، فالحسنة : أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن : أن تحسن إليه مكان إساءته إليك ، مثل أن يذمك فتمدحه ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه ، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك . ثم قال : وما يلقى هذه الخليقة أو السجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلاّ أهل الصبر ، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير . فإن قلت : فهلا قيل : فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت : هو على تقدير قائل قال : فكيف أصنع؟ فقيل : ادفع بالتي هي أحسن . وقيل : ( لا ) مزيدة . والمعنى : ولا تستوي الحسنة والسيئة . فإن قلت : فكان القياس على هذا التفسير أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة ، قلت : أجل ، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة ، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : { بالتى هِىَ أَحْسَنُ } الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، وفسر الحظ بالثواب . وعن الحسن رحمه الله : والله ما عظم حظ دون الجنة ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار ولياً مصافياً .
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
النزغ والنسغ بمعنى : وهو شبه النخس . والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي . وجعل النزغ نازغاً ، كما قيل : جد جدّه . أو أريد : وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر . أو لتسويله . والمعنى : وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن { فاستعذ بالله } من شرّه ، وامض على شأنك ولا تطعه .
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
الضمير في { خَلَقَهُنَّ } لليل والنهار والشمس والقمر؛ لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث . يقال : الأقلام بريتها وبريتهنّ : أو لما قال { وَمِنْ ءاياته } كن في معنى الآيات ، فقيل : خلقهنّ . فإن قلت : أين موضع السجدة؟ قلت : عند الشافعي رحمه الله تعالى : { تَعْبُدُونَ } وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها . وعند أبي حنيفة رحمه الله : يسأمون؛ لأنها تمام المعنى ، وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب : لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن هذه الواسطة ، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصاً ، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين { فَإِنِ استكبروا } ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن الله عز سلطانه لا يعدم عابداً ولا ساجداً بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد ، وقوله : { عِندَ رَبِّكَ } عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة وهم لا يسأمون . وقرىء : «لا يسأمون» بكسر الياء .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
الخشوع : التذلل والتصاغر ، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } [ الحج : 5 ] وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربوّ وهو الانتفاخ : إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال في زيه ، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة . وقرىء «وربأت» أي ارتفعت لأن النبت إذا همّ أن يظهر : ارتفعت له الأرض .
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
يقال : ألحد الحافر ولحد ، إذا مال عن الاستقامة ، فحفر في شق ، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة ، وقرىء «يلحدون ويلحدون» على اللغتين . وقوله : { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } وعيد لهم على التحريف .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
فإن قلت : بم اتصل قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } ؟ قلت : هو بدل من قوله : { إنّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا } [ فصلت : 40 ] والذكر : القرآن ، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله { وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ } أي منيع محمى بحماية الله تعالى { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } مثل كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به . فإن قلت : أما طعن فيه الطاعنون ، وتأوّله المبطلون؟ قلت : بلى ، ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به : بأن قيض قوماً عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم ، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقاً ، ولا قول مبطل إلا مضمحلاً . ونحوه قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ الحجر : 9 ] .
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{ ما يقال لك } أي : ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } ورحمة لأنبيائه { وَذُو عِقَابٍ } لأعدائهم . ويجوز أن يكون : ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والمقول : هو قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته ، والغرض : تخويف العصاة .
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم «فقيل : لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا : { لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته } أي بينت ولخصت بلسان نفقهه { ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } الهمزة همزة الإنكار ، يعني : لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقرىء «أعجمي» والأعجمي : الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أي جنس كان ، والعجمي : منسوب إلى أمّة العجم . وفي قراءة الحسن ( أعجمي ) بغير همزة الاستفهام على الإخبار بأن القرآن أعجمي ، والمرسل أو المرسل إليه عربي . والمعنى : أنّ آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً؛ لأنّ القوم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم . ويجوز في قراءة الحسن : هلا فصلت آياته تفصيلاً ، فجعل بعضها بياناً للعجم ، وبعضها بياناً للعرب . فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً أعجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول : كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي ، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة ، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض ، ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر . ألا تراك تقول - وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة : - اللباس طويل واللابس قصير . ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكنة وفضول قول ، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءهما { هُوَ } أي القرآن { هُدًى وَشِفَاءٌ } إرشاد إلى الحق وشفاء { لِمَا فِى الصدور } من الظن والشك . فإن قلت : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ } منقطع عن ذكر القرآن ، فما وجه اتصاله به؟ قلت : لا يخلو إما أن يكون ( الذين لا يؤمنون ) في موضع الجر معطوفاً على قوله تعالى : ( للذين آمنوا ) على معنى قولك : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر؛ إلا أنّ فيه عطفاً على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه . وإمّا أن يكون مرفوعاً على تقدير : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المتبدأ . أو في آذانهم منه وقر وهو عليهم عمى . وقرىء «وهو عليهم عم»«وعمى» ، كقوله تعالى : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } [ هود : 28 ] { يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني : أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم ، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{ فاختلف فِيهِ } فقال بعضهم : هو حق ، وقال بعضهم : هو باطل . والكلمة السابقة : هي العدة بالقيامة ، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم ، ولولا ذلك لقضى بينهم في الدنيا . قال الله تعالى : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } [ القمر : 46 ] ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
{ فَلِنَفْسِهِ } فنفسه نفع { فَعَلَيْهَا } فنفسه ضرّ { وَمَا رَبُّكَ بظلام } فيعذب غير المسيء .
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } أي إذا سئل عنها قيل : الله يعلم . أو لا يعلمها إلا الله . وقرىء «من ثمرات من أكمامهن» . والكم - بكسر الكاف - وعاء الثمرة ، كجف الطلعة ، أي : وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به . يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله : من الخداج والتمام ، والذكورة والأنوثة ، والحسن والقبح وغير ذلك { أَيْنَ شُرَكَآءِى } أضافهم إليه تعالى على زعمهم ، وبيانه في قوله تعالى : { أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ] وفيه تهكم وتقريع { ءاذَنَّاكَ } أعلمناك { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي ما منا أحد اليوم - وقد أبصرنا وسمعنا - يشهد بأنهم شركاؤك ، أي : ما منا إلا من هو موحدلك : أو ما منا من أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم ، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل : هو كلام الشركاء ، أي : ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة . ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير : أنهم لا ينفعونهم ، فكأنهم ضلوا عنهم { وَظَنُّواْ } وأيقنوا ما لهم من محيص . والمحيص : المهرب . فإن قلت : { ءاذَنَّاكَ } إخبار بإيذان كان منهم ، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت : يجوز أن يعاد عليهم ( أين شركائي ) ؟ إعادة للتوبيخ ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية : دليل على إعادة المحكى . ويجوز أن يكون المعنى : أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة ، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه . ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخباراً بإيذان قد كان ، كما تقول : أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت .
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
{ مِن دُعَاءِ الخير } من طلب السعة في المال والنعمة . وقرأ ابن مسعود : من دعاء بالخير { وَإِن مَّسَّهُ الشر } أي الضيقة والفقر { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، أي : يقطع الرجاء من فضل الله وروحه ، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال : { هذا لِى } أي هذا حق وصل إلي؛ لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ . أو هذا لي لا يزول عني ، ونحوه قوله تعالى : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه } [ الأعراف : 131 ] ونحوه قوله تعالى : { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] يريد : وما أظنها تكون ، فإن كانت على طريق التوهم { أَنَّ لِى } عند الله الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا . وعن بعضهم : للكافر أمنيتان ، يقول في الدنيا : ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى . ويقول في الآخرة : يا ليتني كنت تراباً . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة . فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب . ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلباً للافتخار والاستكبار لا غير ، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة ، وأنهم محقوقون بذلك .
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
هذا أيضاً ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ، وكأنه لم يلق بؤساً قط فنسى المنعم وأعرض عن شكرة { وَنَئَا بِجَانِبِهِ } أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم . وإن مسه الضرّ والفقر : أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع . وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام ويستعار له الطويل أيضاً كما استعير الغلظ بشدّة العذاب . وقرىء «ونأى بجانبه» بإمالة الألف وكسر النون للإتباع . وناء على القلب ، كما قالوا : راء في رأي . فإن قلت : حقق لي معنى قوله تعالى : { وَنَئَا بِجَانِبِهِ } قلت : فيه وجهان : أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى : { على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } [ الزمر : 56 ] أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه ، ومنه قوله :
. . . . . . . . . وَنَفَيْتُ عَنْه ... مَقَامَ الذِّئْبِ . . . . . . . . .
يريد : ونفيت عنه الذئب . ومنه : { ولمن خاف مقام ربه } [ الرحمن : 46 ] . ومنه قول الكتاب : حضرة فلان ومجلسه ، وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز ، يريدون نفسه وذاته ، فكأنه قال : ونأى بنفسه ، كقولهم في المتكبر ذهب بنفسه ، وذهبت به الخيلاء كل مذهب ، وعصفت به الخيلاء؛ وأن يراد بجانبه : عطفه ، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار؛ كما قالوا : ثنى عطفه ، وتولى بركنه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
{ أَرَءيْتُمْ } أخبروني { إِن كَانَ } القرآن { مِنْ عِندِ الله } يعني أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج الصدور ، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر متحمل ، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده ، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا ، فما أنكرتم أن يكون حقاً وقد كفرتم به . فأخبروني من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله تعالى : { مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } موضوع موضع منكم ، بياناً لحالهم وصفتهم .
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{ سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ } يعني ما يسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموماً وفي باحة العرب خصوصاً : من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة من المعهود خارقة للعادات؛ ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها ، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم : على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله وآية من آياته ، يقوى معها اليقين ، ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه مغالط نفسه؛ وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق ، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور؛ وأن للباطل ريحاً تخفق ثم تسكن ، ودولة تظهر ثم تضمحل { بِرَبّكَ } في موضع الرفع على أنه فاعل كفى . و { أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } بدل منه ، تقديره . أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد . ومعناه : أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه ، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد ، أي : مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلاً على أنه حق وأنه من عنده ، ولو لم يكن كذلك لما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة . وقرىء «في مرية» بالضم وهي الشك { مُحِيطٌ } عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها ، فلا تخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 987 ) " من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات " .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما «حم سق» { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ } أي مثل ذلك الوحي . أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك وإلى الرسل { مِن قَبْلِكَ الله } يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور ، وأوحاه من قبلك إلى رسله ، على معنى : أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية ، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين ، ولم يقل : أوحي إليك؛ ولكن على لفظ المضارع ، ليدل على أن إيحاء مثله عادته . وقرىء «يوحى إليك» على البناء للمفعول . فإن قلت : فما رافع اسم الله على هذه القراءة؟ قلت : ما دلّ عليه يوحي ، كأن قائلاً قال : من الموحى؟ فقيل : الله ، كقراءة السلمى : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } [ الأنعام : 137 ] على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم ، على معنى : زينه لهم شركاؤهم . فإن قلت : فما رافعه فيمن قرأ نوحى بالنون؟ قلت : يرتفع بالابتداء . والعزيز وما بعده : أخبار ، أو العزيز الحكيم : صفتان؛ والظرف خبر . قرىء «تكاد» بالتاء والياء . وينفطرن ، ويتفطرن . وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة «تتفطرن» بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تشممن . ومعناه : يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته ، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم . وقيل : من دعائهم له ولداً ، كقوله تعالى : { تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [ مريم : 90 ] . فإن قلت : لم قال : { مِن فَوْقِهِنَّ } ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة : فوق السموات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : { يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية . أو : لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السموات ، فكان القياس أن يقال : ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } [ الحج : 19-20 ] فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة . وقيل : من فوقهنّ : من فوق الأرضين . فإن قلت : كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله؟ وقد قال الله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملئكة } [ البقرة : 161 ] فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت : قوله : { لِمَن فِى الارض } يدل على جنس أهل الأرض ، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم؛ فيجوز أن يراد به هذا وهذا .
وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون ، فما أراد الله إلا إياهم . ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ غافر : 7 ] وحكايته عنهم { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعاً في استغفارهم ، فكيف للكفرة . ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار : طلب الحلم والغفران في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والارض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] إلى أن قال : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] والمراد : الحلم عنهم وأن لا يعالجهم بالانتقام فيكون عاماً . فإن قلت : قد فسرت قوله تعالى : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ } بتفسيرين . فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت : أما على أحدهما فكأنه قيل : تكاد السموات ينفطرن هيبة من جلاله واحتشاماً من كبريائه ، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفاً بعد صفوف يداومون - خضوعاً لعظمته - على عبادته وتسبيحه وتحميده ، ويستغفرون لمن في الأرض خوفاً عليهم من سطواته . وأما على الثاني فكأنه قيل : يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء ، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون ، مختارين غير ملجئين ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرؤوا من تلك الكلمة ومن أهلها . أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم ، لما عرفوا في ذلك من المصالح ، وحرصاً على نجاة الخلق ، وطمعاً في توبة الكفار والفساق منهم .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
{ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } جعلوا له شركاء وأنداداً { الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } رقيبت على أحوالهم وأعمالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم لا رقيب عليهم إلا هو وحده { وَمَا أَنتَ } يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان . إنما أنت منذر فحسب .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
ومثل ذلك { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها : من أنّ الله تعالى هو الرقيب عليهم ، وما أنت برقيب عليهم ، ولكن نذير لهم؛ لأنّ هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة ، والكاف مفعول به لأوحينا . و { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } حال من المفعول به ، أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بين ، لا لبس فيه عليك ، لتفهم ما يقال لك ، ولا تتجاوز حدّ الإنذار . ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ، أي : ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآناً عربياً بلسانك { لّتُنذِرَ } يقال : أنذرته كذا وأنذرته بكذا . وقد عدى الأوّل ، أعني : لتنذر أمّ القرى ، إلى المفعول الأول والثاني وهو قوله وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني { أُمَّ القرى } أهل أمّ القرى كقوله تعالى : { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] . { وَمَنْ حَوْلَهَا } من العرب . وقرىء «لينذر» بالياء والفعل للقرآن { يَوْمَ الجمع } يوم القيامة ، لأنّ الخلائق تجمع فيه . قال الله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } [ التغابن : 9 ] وقيل : يجمع بين الأرواح والأجساد . وقيل : يجمع بين كل عامل وعمله . و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراض لا محل له . قرىء «فريق» وفريق؛ بالرفع والنصب ، فالرفع على : منهم فريق ، ومنهم فريق . والضمير للمجموعين؛ لأن المعنى : يوم جمع الخلائق . والنصب على الحال منهم ، أي : متفرّقين ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] . فإن قلت : كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة؟ قلت : هم مجموعون في ذلك اليوم مع افتراقهم في داري البؤس والنعيم ، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين . وإن أريد بالجمع : جمعهم في الموقف ، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
{ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] وقوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [ يونس : 99 ] والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان . قوله : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] وقوله تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ } [ يونس : 99 ] بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله . دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره . والمعنى : ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعاً على الإيمان ، ولكنه شاء مشيئة حكمة ، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء . ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
معنى الهمزة في { أَمِ } الإنكار { فالله هُوَ الولى } هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد ، فالفاء في قوله : { فالله هُوَ الولى } جواب شرط مقدّر ، كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه : إن أرادوا ولياً بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا وليّ سواه { وَهُوَ يُحْىِ } أي : ومن شأن هذا الولي أنه يحيى { الموتى وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء .
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
{ وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْءٍ } حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين . أي : ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله تعالى ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين { ذلكم } الحاكم بينكم هو { الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في ردّ كيد أعداء الدين { وَإِلَيْهِ } أرجع في كفاية شرهم . وقيل : وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ] وقيل : وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكلفيكم ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح . قال الله تعالى : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } [ الإسراء : 85 ] : فإن قلت : هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت : لا ، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
{ فَاطِرُ السماوات } قرىء بالرفع والجر ، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم . أو خبر مبتدأ محذوف ، والجرّ على : فحكمه إلى الله فاطر السموات ، و { ذلكم } إلى { أُنِيبُ } اعتراض بين الصفة والموصوف { جَعَلَ لَكُم } خلق لكم { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم من الناس { أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا } أي : وخلق من الأنعام أزواجاً . ومعناه : وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً { يَذْرَؤُكُمْ } يكثركم ، يقال : ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم . والذر ، والذرو ، والذرء : أخوات { فِيهِ } في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل . والضمير في { يَذْرَؤُكُمْ } يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين ، فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل : يذرؤكم به؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير؛ ألا تراك تقول : للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة } [ البقرة : 179 ] قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه . ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر . ومنه قولهم : قد أيفعت لداته وبلغت أترابه ، يريدون : إيفاعه وبلوغه . وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته والقصد إلى طهارته وطيبه ، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله : ليس كالله شيء ، وبين قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها ، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد : وهو نفي المماثلة عن ذاته ، ونحوه قوله عز وجل : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] فإن معناه : بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها : لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئاً آخر ، حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له ، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد ، كما كرّرها من قال :
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْن ... ومن قال :
فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ...
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
وقرىء «ويقدّر» { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } فإذا علم أنّ الغني خير للعبد أغناه ، وإلا أفقره .
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{ شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين } دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء ، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } والمراد : إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه ، وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً ، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة . قال الله تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } [ المائدة : 48 ] ومحل { أَنْ أَقِيمُواْ } إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، وإما رفع على الاستئناف ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين ، ونحوه قوله تعالى : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ] { كَبُرَ عَلَى المشركين } عظم عليهم وشق عليهم { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من إقامة دين الله والتوحيد { يَجْتَبِى إِلَيْهِ } يجتلب إليه ويجمع . والضمير للدين بالتوفيق والتسديد { مَن يَشَآءُ } من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفاً .
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
{ وَمَا تَفَرَّقُواْ } يعني أهل الكتاب بعد أنبيائهم { إِلاَّ مِن بَعْدِ } أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد ، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } حين افترقوا لعظم ما اقترفوا { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ } وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { لَفِى شَكٍّ } من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان . وقيل : كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان ، فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم ، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم . وإنما اختلفوا للبغي بينهم . وقيل : وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] { وإنّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } هم المشركون : أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل . وقرىء «ورّثوا» وورثوا .
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{ فَلِذَلِكَ } فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً { فادع } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة { واستقم } عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } المختلفة الباطنة بما أنزل الله من كتاب ، أيّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة؛ لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، كقوله تعالى : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [ النساء : 150 ] إلى قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 151 ] { لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا خصومة : لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة . ومعناه : لا إيراد حجة بيننا؛ لأنّ المتحاجين : يورد هذا حجته وهذا حجته { الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا } يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم؛ وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام . فإن قلت : كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت : المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة .
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
{ يُحَاجُّونَ فِى الله } يخاصمون في دينه { مِن بَعْدِ } ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ، ليردّوهم إلى دين الجاهلية ، كقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا } [ البقرة : 109 ] كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم وأولى بالحق . وقيل : من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام { دَاحِضَةٌ } باطلة زالة .
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{ أَنزَلَ الكتاب } أي جنس الكتاب { والميزان } والعدل والتسوية . ومعنى إنزال العدل : أنه أنزله في كتبه المنزلة . وقيل : الذي يوزن به . بالحق : ملتبساً بالحق ، مقترناً به ، بعيداً من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة . أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك { الساعة } في تأويل البعث ، فلذلك قيل : { قَرِيبٌ } أو لعل مجيء الساعة قريب . فإن قلت : كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت : لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم ، ويوفي لمن أوفى ويطفف لمن طفف . المماراة : الملاجة لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه { لَفِى ضلال بَعِيدٍ } من الحق : لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله ، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها ، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء .
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
{ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } برّ بليغ البرّ بهم ، قد توصل برّه إلى جميعهم ، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه ، وهم أحد من كلياته وجزئياته . فإن قلت : فما معنى قوله : { يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت : كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه ، إلا أنّ البرّ أصناف ، وله أوصاف . والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير ، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر ، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه ، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه ، وهو الذي أراد بقوله : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء } [ البقرة : 212 ] كما يرزق أحد الأخوين ولداً دون الآخر ، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد { وَهُوَ القوى } الباهر القدرة ، الغالب على كل شيء { العزيز } المنيع الذي لا يغلب .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثاً على المجاز . وفرق بين عملي العاملين : بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته ، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه . وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة ، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب ، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة ، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب .
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
معنى الهمزة في { أَمْ } التقرير والتقريع . وشركاؤهم : شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا؛ لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين ، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم : أوثانهم . وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة . وتارة إلى الله؛ ولما كانت سبباً لضلالتهم وافتتانهم : جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه : { أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } [ ابراهيم : 36 ] { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل } أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء . أو : ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي بين الكافرين والمؤمنين . أو بين المشركين وشركائهم . وقرأ مسلم بن جندب «وأنّ الظالمين» بالفتح عطفاً له على كلمة الفصل ، يعني : ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة . لقضي بينهم في الدنيا .
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{ تَرَى الظالمين } في الآخرة { مُشْفِقِينَ } خائفين خوفاً شديداً أرق قلوبهم { مِمَّا كَسَبُواْ } من السيئات { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } يريد : ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بدّ لهم منه ، أشفقوا أو لم يشفقوا . كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها { عِندَ رَبِّهِمْ } منصوب بالظرف لا بيشاؤون قرىء «يبشر» من بشره . ويبشر من أبشره . ويبشر ، من بشره . والأصل : ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده ، فحذف الجار ، كقوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ثم حذف الراجع إلى الموصول ، كقوله تعالى : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده . روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أترون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ فنزلت الآية : { إِلاَّ المودة فِى القربى } يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، أي : لا أسألكم أجراً إلا هذا ، وهو أن تودوا أهل قرابتي؛ ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة؛ لأنّ قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة . ويجوز أن يكون منقطعاً ، أي : لا أسألكم أجراً قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم . فإن قلت : هلا قيل : إلا مودّة القربى : أو إلا المودة للقربى . وما معنى قوله : { إِلاَّ المودة فِى القربى } [ الشورى : 23 ] ؟ قلت : جلعوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة . ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله ، وليست ( في ) بصلة للمودَّة ، كاللام إذا قلت : إلا المودّة للقربى . إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس . وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها . والقربى : مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى : قرابة . والمراد في أهل القربى . وروى أنها لما نزلت قيل :
( 988 ) يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : " عليّ وفاطمة وابناهما " ويدل عليه ما روى عن علي رضي الله عنه :
( 989 ) شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي . فقال : «أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريتنا خلف أزواجنا» وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 990 ) " حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي . ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة " وروي : أنّ الأنصار قالوا :
( 991 ) فعلنا وفعلنا ، كأنهم افتخروا ، فقال عباس أو ابن عباس رضي الله عنهما : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم في مجالسهم فقال : «يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي»؟ قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : «ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي»؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : «أفلا تجيبونني»؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال : «ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ، أو لم يكذبوك فصدقناك ، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله . فنزلت الآية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 992 ) " من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة " وقيل : لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى ، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت . والمعنى : إلا أن تودوني في القربى ، أي : في حق القربى أو من أجلها ، كما تقول : الحب في الله والبغض في الله ، بمعنى : في حقه ومن أجله ، يعني : أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني ، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا عليّ . وقيل :
( 993 ) أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك ، فنزلت وردّه . وقيل { القربى } : التقرب إلى الله تعالى ، أي : إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح . وقرىء : «إلا مودّة في القربى» { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } عن السدّي أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودّته فيهم . والظاهر : العموم في أي حسنة كانت؛ إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى : دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولاً أوّلياً ، كأنّ سائر الحسنات لها توابع . وقرىء «يزد» أي : يزد الله . وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها ، كقوله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقرىء «حسنى» وهي مصدر كالبشرى ، الشكور في صفة الله : مجاز للاعتداد بالطاعة ، وتوفيه ثوابها ، والتفضل على المثاب .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{ أَمْ } منقطعة . ومعنى الهمزة فيه التوبيخ ، كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم . ومثال هذا : أن يخوّن بعض الأمناء فيقول لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب . وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم ، ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق { بكلماته } بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] يعني : لو كان مفترياً كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه . ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، يثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم ، إنّ الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك . وعن قتادة { يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } : ينسك القرآن ويقطع عنك الوحي ، يعني : لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك ، وقيل { يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } : يربط عليه بالصبر ، حتى لا يشق عليك أذاهم . فإن قلت : إن كان قوله : { وَيَمْحُ الله الباطل } كلاماً مبتدأ غير معطوف على يختم ، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت : كما سقطت في قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر } [ الإسراء : 11 ] وقوله تعالى : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] على أنها مثبتة على في بعض المصاحف .
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
يقال : قبلت منه الشيء ، وقبلته عنه . فمعنى قبلته منه : أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه . ومعنى : قبلته عنه : عزلته وأبنته عنه . والتوبة : أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود؛ لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب . وإن كان فيه لعبد حق : لم يكن بد من التفصي على طريقه ، وروى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللَّهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى التوبة . فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } عن الكبائر إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر «ويعلم ما تفعلون» . قرىء بالتاء والياء : أي : يعلمه فيثيب على حسناته ، ويعاقب على سيئاته .
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
{ وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ } أي يستجيب لهم ، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] أي يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلاً ، أو إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم . وقيل : الاستجابة : فعلهم ، أي يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها { وَيَزِيدُهُمْ } هو { مِن فَضْلِهِ } على ثوابهم . وعن سعيد بن جبير : هذا من فعلهم : يجيبونه إذا دعاهم . وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : { والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام } [ يونس : 25 ] ، ( ويستجيب الذين آمنوا ) .
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{ لَبَغَوْاْ } من البغي وهو الظلم ، أي : لبغى هذا على ذاك ، وذاك على هذا ، لأنّ الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون عبرة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 994 ) « أخوف ما أخاف على أمّتي زهرة الدنيا وكثرتها » ولبعض العرب :
وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيَّ يَنْبُتُ بَيْنَنَا ... وَبَيْنَ بني رُومَانَ نَبْعاً وَشَوْحَطَا
يعني : أنهم أحيوا فحدّثوا أنفسهم بالبغي والتفانن . أو من البغي وهو البذخ والكبر ، أي : لتكبروا في الأرض ، وفعلوا ما يتبع الكبر من العلو فيها والفساد . وقيل : نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى . قال خباب بن الأرت : فينا نزلت ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها { بِقَدَرٍ } بتقدير . يقال قدره قدراً وقدرا . { خَبِيرُ بَصِيرٌ } يعرف ما يؤول إليه أحوالهم ، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم ، فيفقر ويغنى ، ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط كما توجبه الحكمة الربانية . ولو أغناهم جميعاً لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا . فإن قلت : قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض ، ومنهم مبسوط لهم ، ومنهم مقبوض عنهم؛ فإن كان المبسوط لهم لم يبغون ، فلم بسط لهم : وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط ، فلم شرطه؟ قلت : لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب ، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه ، فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن .
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
قرىء : «قنطوا» بفتح النون وكسرها { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي : بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب . وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له : اشتدّ القحط وقنط الناس فقال : مطروا إذاً أراد هذه الآية . ويجوز أن يريد رحمته في كل شيء ، كأنه قال : ينزل الرحمة التي هي الغيث ، وينشر غيرها من رحمته الواسعة { الولى } الذي يتولى عباده بإحسانه { الحميد } المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته .
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
{ وَمَا بَثَّ } يجوز أن يكون مرفوعاً ومجروراً يحمل على المضاف إليه أو المضاف . فإن قلت : لم جاز { فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } والدواب في الأرض وحدها؟ قلت : يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبساً ببعضه ، كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد أو شجاع بطل ، وإنما هو في فخذ من أفخاذهم أو فصيلة من فصائلهم ، وبنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعلوا نويس منهم . ومنه قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وإنما يخرج من الملح ، ويجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشي مع الطيران . فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي . ولا يبعد أن يخلق في السموات حيواناً يمشي فيها مشي الأناسي على الأرض ، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق . { إِذَا } ومنه يدخل على المضارع كما يدخل على الماضي قال الله تعالى : { واليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { إِذَا يَشَآءُ } وقال الشاعر :
وَإِذَا مَا أَشَاءُ أَبْعَثُ مِنْهَا ... آخِرَ اللَّيْلِ نَاشِطاً مَذْعُورَا
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
في مصاحف أهل العراق { فَبِمَا كَسَبَتْ } بإثبات الفاء على تضمين «ما» معنى الشرط . وفي مصاحف أهل المدينة { بِمَا كَسَبَتْ } بغير فاء ، على أنّ ( ما ) مبتدأة ، وبما كسبت : خبرها من غير تضمين معنى الشرط . والآية مخصوصة بالمجرمين ولا يمتنع أن يستوفي الله بعض عقاب المجرم ويعفو عن بعض . فأمّا من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فللعوض الموفى والمصلحة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 995 ) " ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفو الله عنه أكثر " وعن بعضهم : من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه . وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر : كان قليل النظر في إحسان ربه إليه . وعن آخر : العبد ملازم للجنايات في كل أوان؛ وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه ، لأنّ جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه ، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة ، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أوّل خطوة ، وعن علي رضي الله عنه وقد رفعه :
( 996 ) «من عفي عنه في الدنيا عفي عنه في الآخرة ومن عوقب في الدنيا لم تثن عليه العقوبة في الآخرة» وعنه رضي الله عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن { بِمُعْجِزِينَ } بفائتين ما قضي عليكم من المصائب { مِن وَلِىٍّ } من متول بالرحمة .
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
{ الجوار } السفن . وقرىء «الجوار» { كالاعلام } كالجبال . قالت الخنساء :
كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ ... وقرىء «الرياح فيظللن» بفتح اللام وكسرها؛ من ظل يظل ويظل ، نحو : ضل يضل ويضل { رَوَاكِدَ } ثوابت لا تجري { على ظَهْرِهِ } على ظهر البحر { لّكُلِّ صَبَّارٍ } على بلاء الله { شَكُورٍ } لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن المخلص ، فجعلهما كناية عنه ، وهو الذي وكل همته بالنظر في آيات الله ، فهو يستملي منها العبر { يُوبِقْهُنَّ } يهلكهن . والمعنى : أنه إن يشأ يبتلي المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر ويمنعهن من الجري ، وإما أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهن إغراقاً بسبب ما كسبوا من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } منها ، فإن قلت : علام عطف يوبقهن؟ قلت : على يسكن ، لأنّ المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن . أو يعصفها فيغرقن بعصفها . فإن قلت : فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه؟ قلت : معناه : أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم . فإن قلت : فمن قرأ «ويعفو»؟ قلت : قد استأنف الكلام .
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
فإن قلت : فما وجوه القراءات الثلاث في { وَيَعْلَمَ } ؟ قلت : أما الجزم فعلى ظاهر العطف وأما الرفع فعلى الاستئناف . وأما النصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، منه قوله تعالى : { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وقوله تعالى : { وَخَلَقَ الله السماوات والارض بالحق ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الجاثية : 22 ] ، وأما قول الزجاج : النصب على إضمار أن ، لأنّ قبلها جزاء ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وأكرمك وإن شئت وأكرمك ، على : وأنا أكرمك . وإن شئت وأكرمك جزماً ، ففيه نظر لما أورده سيبويه في كتابه . قال : واعلم أنّ النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك : ضعيف ، وهو نحو من قوله :
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا ... فهذا يجوز ، وليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل ، إلا أن يكون من الأوّل فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه : أجازوا فيه هذا على ضعفه ا ه . ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة . فإن قلت : فكيف يصح المعنى على جزم { وَيَعْلَمَ } ؟ قلت : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين { مِن مَّحِيصٍ } من محيد عن عقابه .
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
{ ما } الأولى ضمنت معنى الشرط ، فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية . عن علي رضي الله عنه : اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت .
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
{ والذين يَجْتَنِبُونَ } عطف على الذين آمنوا ، وكذلك ما بعده . ومعنى { كبائر الإثم } الكبائر من هذا الجنس . وقرىء «كبير الإثم» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه : كبير الإثم هو الشرك { هُمْ يَغْفِرُونَ } أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب ، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس ، والمجيء بهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد { يَغْفِرُونَ } إليه لهذه الفائدة ، ومثله : { هُمْ يَنتَصِرُونَ } [ الشورى : 39 ] .
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
{ والذين استجابوا لِرَبّهِمْ } نزلت في الأنصار : دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته ، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه { وَأَقَامُواْ الصلاة } وأتموا الصلوات الخمس . وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، أي : لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه . وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم والشورى : مصدر كالفتيا ، بمعنى التشاور . ومعنى قوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي ذو شورى ، وكذلك قولهم : ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة شورى .
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا . وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق . فإن قلت : أهم محمودون على الانتصار؟ قلت : نعم؛ لأنّ من أخذ حقه غير متعد حدّ الله وما أمر به فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم أورد على سفيه ، محاماة على عرضه وردعا له ، فهو مطيع . وكل مطيع محمود .
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة ، لأنها تسوء من تنزل به . قال الله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] : يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا . والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة ، فإذا قال أخزاك الله قال : أخزاك الله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء . كما قال تعالى : { فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ، { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم . وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء خصوصاً في حال الحرد والتهاب الحمية فربما كان المجازي من الظالمين وهو لا يشعر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 997 ) « وإذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم . قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله » .
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
{ بَعْدَ ظُلْمِهِ } من إضافة المصدر إلى المفعول ، وتفسره قراءة من قرأ «بعد ما ظلم» { فأولئك } إشارة إلى معنى ( من ) دون لفظه { مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } للمعاقب ولا للعاتب والعائب { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } يبتدئونهم بالظلم { وَيَبْغُونَ فِى الارض } يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون .
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{ وَلَمَن صَبَرَ } على الظلم والأذى { وَغَفَرَ } ولم ينتصر وفوّض أمره إلى الله { إِنَّ ذلك } منه { لَمِنْ عَزْمِ الامور } وحذف الراجع لأنه مفهوم ، كما حذف من قولهم : السمن مَنَوانِ بدرهم . ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله ، فكان المسبوب يكظم ، ويعرق فيمسح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون . وقالوا : العفو مندوب إليه ، ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال ، فيرجع ترك العفو مندوباً إليه ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى . وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه وهو :
( 998 ) أن زينب أسمعت عائشة بحضرته ، وكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة : « دونك فانتصري » .
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{ وَمَن يُضْلِلِ الله } ومن يخذله الله { فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مّن بَعْدِهِ } فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه .
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
{ خاشعين } متضائلين متقاصرين مما يلحقهم { مِنَ الذل } وقد يعلق من الذل بينظرون ، ويوقف على خاشعين { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف . وهكذا نظر الناظر إلى المكاره : لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها ، كما يفعل في نظره إلى المحاب . وقيل : يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا بقلوبهم . وذلك نظر من طرف خفي . وفيه تعسف { يَوْمَ القيامة } إما أن يتعلق بخسروا ، ويكون قول المؤمنين واقعاً في الدنيا ، وإما أن يتعلق بقال ، أي : يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة .
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{ مِنَ الله } من صلة لا مردّ ، أي : لا يرده الله بعدما حكم به . أو من صلة يأتي ، أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه . والنكير : الإنكار ، أي : ما لكم من مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
أراد بالإنسان الجمع لا الواحد . لقوله : ( وإن تصبهم سيئة ) ولم يرد إلا المجرمين؛ لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم . والرحمة : النعمة من الصحة والغني والأمن . والسيئة : البلاء من المرض والفقر والمخاوف . والكفور : البليغ الكفران ، ولم يقل : فإنه كفور؛ ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] ، { إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } [ العاديات : 6 ] والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها .
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها : أتبع ذلك أنّ له الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته ، فيخص بعضاً بالإناث وبعضاً بالذكور ، وبعضاً بالصنفين جميعاً ، ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولداً قط . فإن قلت : لم قدّم الإناث أوّلاً على الذكور مع تقدّمهم عليهنّ ، ثم رجع فقدّمهم ، ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟ قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده ، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث لأنّ سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم واجب التقديم ، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء ، وأخر الذكور فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم؛ لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرّف أن تقديمهنّ لم يكن لتقدمهنّ ، ولكن لمقتض آخر فقال : { ذُكْرَاناً وإناثا } كما قال : { إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] ، { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى } [ القيامة : 39 ] وقيل : نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً ، ولإبراهيم ذكوراً ، ولمحمد ذكوراً وإناثاً ، وجعل يحيى وعيسى عقيمين { إِنَّهُ عَلِيمٌ } بمصالح العباد { قَدِيرٌ } على تكوين ما يصلحهم .
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } وما صح لأحد من البشر { أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ } على ثلاثة أوجه : إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده . وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره . قال عبيد بن الأبرص :
وَأَوْحَى إِليَّ اللَّهُ أَنْ قَدْ تَأَمَّرُوا ... بِإِبْلِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ
أي : ألهمني وقذف في قلبي . وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام ، من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي . وقوله : { مِن وَرآىءِ حِجَابٍ } مثل أي ، كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة . وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى . وقيل : وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي نبيناً كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم . ووحيا ، وأن يرسل : مصدران واقعان موقع الحال؛ لأنّ أن يرسل ، في معنى إرسالاً . ومن وراء حجاب : ظرف واقع موقع الحال أيضاً ، كقوله تعالى : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً ، أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً . ويجوز أن يكون : وحياً ، موضوعاً موضع : كلاماً؛ لأنّ الوحي كلام خفي في سرعة ، كما تقول : لا أكلمه إلا جهراً وإلا خفاتا؛ لأنّ الجهر والخفات ضربان من الكلام ، وكذلك : رسالآ جعل الكلام على لسان الرسول بغير واسطة تقول : قلت لفلان كذا ، وإنما قاله وكيلك أو رسولك . وقوله : { أَوْ مِن وَرَآىءِ حِجَابٍ } معناه : أو إسماعاً من وراء حجاب؛ ومن جعل ( وحيا ) في معنى : أن يوحي ، وعطف يرسل عليه ، على معنى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } أي : إلا بأن يوحي . أو بأن يرسل ، فعليه أن يقدر قوله : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } تقديراً يطابقهما عليه ، نحو : أو أن يسمع من وراء حجاب . وقرىء «أو يرسل رسولاً فيوحى» بالرفع ، على : أو هو رسل . أو بمعنى مرسلاً عطفاً على وحيا في معنى موحياً . وروى أنّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم :
( 999 ) ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله ، فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1000 ) من زعم أنّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قالت : أو لم تسمعوا ربكم يقول : فتلت هذه الآية : { إِنَّهُ عَلِىٌّ } عن صفات المخلوقين { حَكِيمٌ } يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بغير واسطة : إما إلهاماً ، وإما خطاباً .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } يريد : ما أوحي إليه ، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيى الجسد بالروح . فإن قلت : قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه؛ فما معنى قوله : { وَلاَ الإيمان } والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده ، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده ، فكيف لا يعصمون من الكفر؟ قلت : الإيمان اسم يتناول أشياء : بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل؛ وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي . ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] بالصلاة؛ لأنها بعض ما يتناوله الإيمان { مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } من له لطف ومن لا لطف له ، فلا هداية تجدي عليه { صراط الله } بدل . وقرىء «لتهدى» أي : يهديك الله . وقرىء «لتدعو» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1001 ) " من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له " .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله : { إِنَّا جعلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً } جواباً للقسم وهو من الأيمان الحسنة البديعة ، لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد . ونظيره قول أبي تمام :
وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضُ ... ;لْمُبِينِ } البين للذين أنزل عليهم؛ لأنه بلغتهم وأساليهم . وقيل : الواضح للمتدبرين . وقيل : ( المبين ) الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة ، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة { جعلناه } بمعنى صيرناه معدّى إلى مفعولين . أو بمعنى خلقناه معدّى إلى واحد ، كقوله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] . و { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } حال . ولعل : مستعار لمعنى الإرادة؛ لتلاحظ معناها ومعنى الترجي ، أي : خلقناه عربياً غير عجمي : إرادة أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته ، وقرىء «أمّ الكتاب» بالكسر وهو اللوح ، كقوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21- 22 ] سمي بأم الكتاب؛ لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتنتسخ . على رفيع الشأن في الكتب؛ لكونه معجزاً من بينها { حَكِيمٌ } ذو حكمة بالغة ، أي : منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه ، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا .
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } يعني : أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض . ومنه قول الحجاج : ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل . وقال طرفة :
اضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِفَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ
والفاء للعطف على محذوف ، تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر ، إنكاراً لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم على إنزاله الكتاب . وخلقه قرآناً عربياً؛ ليعقلوه ويعملوا بمواجبه . وصفحاً على وجهين . إما مصدر من صفح عنه : إذا أعرض ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم . وإمّا بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه ، على معنى : أفننحيه عنكم جانباً ، فينتصب على الظرف كما تقول : ضعه جانباً ، وامش جانباً . وتعضده قراءة من قرأ «صفحاً» بالضم . وفي هذه القراءة وجه آخر : وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ، وينتصب على الحال ، أي : صافحين معرضين { إِن كُنتُمْ } أي : لأن كنتم . وقرىء «أَن كنتم» وإذ كنتم . فإن قلت : كيف استقام معنى إن الشرطية ، وقد كانوا مسرفين على البتّ؟ قلت : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر ، المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك؛ ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق : فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه استجهالاً له .
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{ وَمَا يَأْتِيهِم } حكاية حال ماضية مستمرة ، أي : كانوا على ذلك . وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه . الضمير في { أَشَدَّ مِنْهُم } للقوم المسرفين ، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عنهم { ومضى مَثَلُ الاولين } أي سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووعيد لهم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
فإن قلت : قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم ، فما تصنع بقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ الزخرف : 11 ] وإن كان من قول الله ، فما وجهه؟ قلت : هو من قول الله لا من قولهم . ومعنى قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } الذي من صفته كيت وكيت ، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه . { بِقَدَرٍ } بمقدار يسلم معه البلاد والعباد ، ولم يكن طوفاناً .
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
و { الأزواج } الأصناف { مَا تَرْكَبُونَ } أي تركبونه . فإن قلت : يقال : ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك . وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه؟ قلت : غلب المتعدّي بغير واسطة ، لقوّته على المتعدّي بواسطة ، فقيل : تركبونه { على ظُهُورِهِ } على ظهور ما تركبونه وهو الفلك والأنعام . ومعنى ذكر نعمة الله عليهم : أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها ، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم ، وهو ما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1002 ) أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : " بسم الله " فإذا استوى على الدابة قال : " الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا . . . إلى قوله لمنقلبون " وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً . وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا . فقال : أبهذا أمرتم؟ فقال : وبم أمرنا؟ قال : أن تذكروا نعمة ربكم ، كان قد أغفل التحميد فنبهه عليه . وهذا من حسن مراعاتهم لأداب الله ومحافظتهم على دقيقها وجليلها . جعلنا الله من المقتدين بهم ، والسائرين بسيرتهم ، فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات ، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟ { مُقْرِنِينَ } مطيقين . يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه . قال ابن هرمة :
وَأَقْرَنْتُ مَا حَمَّلَتْنِي وَلَقَلَّمَا ... يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ وَالْهَجْرُ
وحقيقة «أقرنه» : وجده قرينته وما يقرن به؛ لأنّ الصعب لا يكون قرينة للضعيف . ألا ترى إلى قولهم في الضعيف : لا يقرن به الصعبة . وقرىء «مقرنين» والمعنى واحد . فإن قلت : كيف اتصل بذلك قوله : { وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ؟ قلت : كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح من ظهرها فهلك ، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا؛ فلما كان الركوب مباشرة أمر مخطر ، واتصالاً بسبب من أسباب التلف : كان من حق الراكب وقد اتصل بسبب من أسباب التلف أن لا ينسى عند اتصاله به يومه ، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه ، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعداً للقاء الله بإصلاحه من نفسه ، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه ، ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه : تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق؛ فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف ، فلا يزالون يسقون حتى تميل طلاهم وهم على ظهور الدواب ، أو في بطون السفن وهي تجري بهم ، لا يذكرون إلا الشيطان ، ولا يمتثلون إلا أوامره . وقد بلغني أنّ بعض السلاطين ركب وهو يشرب من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر ، فلم يصح إلا بعدما اطمأنت به الدار ، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به ، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر الله به في هذه الآية . وقيل : يذكرون عند الركوب ركوب الجنازة .
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } متصل بقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم } [ الزخرف : 9 ] أي : ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به ، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءاً فوصفوه بصفات المخلوقين . ومعنى { مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } أن قالوا الملائكة بنات الله ، فجعلوهم جزءاً له وبعضاً منه ، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءاً له . ومن بدع التفاسير : تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أنّ الجزء في لغة العرب : اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه : أجزأت المرأة ، ثم صنعوا بيتاً وبيتاً :
إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْماً فَلاَ عَجَب ... زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً
وقرىء «جزؤوا» بضمتين { لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } لجحود للنعمة ظاهر جحوده؛ لأنّ نسبة الولد إليه كفر ، والكفر أصل الكفران كله { أَمِ اتخذ } بل اتخذ ، والهمزة للإنكار : تجهيلاً لهم وتعجيباً من شأنهم ، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً ، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين : وهو الإناث دون الذكور ، على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهنّ ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأودهنّ ، كأنه قيل : هبوا أنّ إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضاً وتمثيلاً ، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير { بَنَاتٍ } وتعريف { البنين } وتقديمهنّ في الذكر عليهم لما ذكرت في قوله تعالى : { يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور } [ الشورى : 49 ] { بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } بالجنس الذي جعله له مثلاً ، أي : شبهاً لأنه إذا جعل الملائكة جزءاً لله وبعضاً منه فقد جعله من جنسه ومماثلاً له؛ لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ، يعني : أنهم نسبوا إليه هذا الجنس . ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له : قد ولدت لك بنت اغتم واربدّ وجهه غيظاً وتأسفاً وهو مملوء من الكرب . وعن بعض العرب : أن امرأته وضعت أنثى ، فهجر البيت الذي فيه المرأة ، فقالت :
مَا لأَبِي حَمْزَةَ لاَ يَأْتِينَا ... يَظَلُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانُ أَنْ لاَ نَلِدَ الْبَنِينَا ... لَيْسَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مَاشِينَا
وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا ... والظلول بمعنى الصيرورة ، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها . وقرىء «مسودّ ومسوادّ» على أن في { ظَلَّ } ضمير المبشر ، و { وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } جملة واقعة موقع الخبر ، ثم قال : أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته . وهو أنه { يُنَشَّأُ فِى الحلية } أي يتربى في الزينة والنعمة ، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال ، كان غير مبين ، ليس عنده بيان ، ولا يأتي ببرهان يحجُّ به من يخاصمه وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهنّ عن فطرة الرجال ، يقال : قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها . وفيه : أنه جعل النشىء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام ، وأنه من صفة ربات الحجال ، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ، ويربأ بنفسه عنه ، ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه : اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا . وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى . وقرىء «ينشأ» ، وينشأ ويناشأ . ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء : المغالاة بمعنى الإغلاء .
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
قد جمعوا في كفرة ثلاث كفرات ، وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد ، ونسبوا إليه أحسّ النوعين؛ وجعلوه من الملائكة الذين هم أكرم عباد الله على الله ، فاستخفوا بهم واحتقروهم . وقرىء «عباد الرحمن» وعبيد الرحمن ، وعبد الرحمن ، وهو مثل لزلفاهم واختصاصهم . وإناثاً ، وأنثا : جمع الجمع . ومعنى جعلوا : سموا وقالوا إنهم إناث . وقرىء «أَأُشْهدوا» وأشهدوا ، بهمزتين مفتوحة ومضمومة . وآأشهدوا بألف بينهما ، وهذا تهكم بهم ، بمعنى أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم ، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك ، ولا تطرّقوا إليه باستدلال ، ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم ، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خلقهم ، فأخبروا عن هذه المشاهدة { سَتُكْتَبُ شهادتهم } التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم { وَيُسْئَلُونَ } وهذا وعيد . وقرىء «سيكتب» وسنكتب : بالياء والنون . وشهادتهم ، وشهاداتهم . ويساءلون على ما يفاعلون .
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
{ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عبدناهم } هما كفرتان أيضاً مضمومتان إلى الكفرات الثلاث ، وهما : عبادتهم الملائكة من دون الله ، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله ، كما يقول إخوانهم المجبرة ، فإن قلت : ما أنكرت على من يقول : قالوا ذلك على وجه الاستهزاء ، ولو قالوه جادين لكانوا مؤمنين؟ قلت : لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين ، وادعاء ما لا دليل عليه باطل ، على أن الله تعالى قد حكى عنه ذلك على سبيل الذم والشهادة بالكفر : أنهم جعلوا له من عباده جزءاً ، وأنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين ، وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثاً . وأنهم عبدوهم وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء : لكان النطق بالمحكيات - قبل هذا المحكى الذي هو إيمان عنده لو جدّوا في النطق به - مدحاً لهم ، من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء؛ فبقي أن يكونوا جادين ، وتشترك كلها في أنها كلمات كفر ، فإن قالوا : نجعل هذا الأخير وحده مقولاً على وجه الهزء دون ما قبله ، فما بهم إلا تعويج كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لتسوية مذهبهم الباطل . ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزءاً لم يكن لقوله تعالى : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الزخرف : 20 ] معنى ، لأنّ من قال لا إله إلا الله على طريق الهزء : كان الواجب أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب ، لأنه لا يجوز تكذيب الناطق بالحق جادّاً كان أو هازئاً . فإن قلت : ما قولك فيمن يفسر ما لهم - بقولهم : إن الملائكة بنات الله - من علم إن هم إلا يخرصون في ذلك القول لا في تعليق عبادتهم بمشيئة الله؟ قلت : تمحل مبطل وتحريف مكابر . ونحوه قوله تعالى : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ الأنعام : 148 ] .
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
الضمير في { مِن قَبْلِهِ } للقرآن أو الرسول . والمعنى : أنهم ألصقوا عبادة غير الله بمشيئة الله : قولاً قالوه غير مستند إلى علم ، ثم قال : أم آتيناهم كتاباً قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا ، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحي ، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به . بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَاعَلَى أُمَّةٍ } على دين . وقرىء «على إمة» بالكسر ، وكلتاهما من الأمّ وهو القصد ، فالأمة : الطريقة التي تؤم ، أي : تقصد ، كالرحلة للمرحولة إليه . والأمة : الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد . وقيل : على نعمة وحالة حسنة { على ءاثا رِهِم مُّهْتَدوُنَ } خبر إن . أو الظرف صلة لمهتدون .
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
{ مُتْرَفُوهَا } الذين أترفتهم النعمة ، أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويعافون مشاق الدين وتكاليفه .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قرىء «قل» وقال : وجئتكم ، وجئناكم ، يعني ، أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ قالوا : إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ، وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
قرىء «براء» بفتح الباء وضمها . وبرىء ، فبرىء وبراء ، نحو كريم وكرام؛ وبراء : مصدر كظماء ، ولذلك استوى فيه الواحد والاثنان والجماعة ، والمذكر والمؤنث . يقال : نحن البراء منك ، والخلاء منك { الذى فَطَرَنِى } فيه غير وجه : أن يكون منصوباً على أنه استثناء منقطع ، كأنه قال : لكن الذي فطرني فإنه سيهدين ، وأن يكون مجروراً بدلاً من المجرور بمن؛ كأنه قال : إنني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني . فإن قلت : كيف تجعله بدلاً وليس من جنس ما يعبدون من وجهين ، أحدهما : أن ذات الله مخالفة لجميع الذوات ، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون . والثاني ، أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة؟ قلت : قالوا : كانوا يعبدون الله مع أوثانهم ، وأن تكون { إِلاَّ } صفة بمعنى غير ، على أن { مَا } في ما تعبدون موصوفة . تقديره : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] . فإن قلت : ما معنى قوله : { سَيَهْدِينِ } على التسويف؟ قلت : قال مرة : { فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ومرة { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } فاجمع بينهما وقدّر ، كأنه قال . فهو يهدين وسيهدين ، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال { وَجَعَلَهَا } وجعل إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله : ( إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ) { كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ } في ذريته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده ، لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم . ونحوه { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } [ البقرة : 132 ] وقيل : وجعلها الله . وقرىء «كلمة» على التخفيف وفي عقبه كذلك ، وفي عاقبه ، أي : فيمن عقبه ، أي : خلفه .
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
{ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ } يعني : أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمدّ في العمر والنعمة ، فاغتروا بالمهلة ، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد { حتى جَاءَهُمُ الحق } وهو القرآن { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة ، فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم . وقرىء «بل متعنا» فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ «متعت» بفتح التاء؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 28 ] فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد . وأراد بذلك الإطناب في تعبيرهم؛ لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً ، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بها الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله .
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع ، ثم أردفه قوله : { وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ } فما طريقه هذا النظم ومؤداه؟ قلت : المراد بالتمتيع ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته ، فقال : بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه ، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : ولما جاءهم الحق جاؤوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها : وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ، ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه بقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم ، قرىء «على رجل» بسكون الجيم من القريتين : من إحدى القريتين ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما . والقريتان : مكة والطائف . وقيل : من رجلي القريتين ، وهما : الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، عن ابن عباس . وعن مجاهد : عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل . وعن قتادة : الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ، وكان الوليد يقول : لو كان حقاً ما يقول محمد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي ، وأبو مسعود : كنية عروة بن مسعود ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشراً رسولاً ، فلما علموا بتكرير الله الحجج أن الرسل لم يكونوا إلا رجالاً من أهل القرى ، جاؤوا بالإنكار من وجه آخر ، وهو تحكمهم أن يكون أحد هذين ، وقولهم : هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة به ، وأرادوا بعظم الرجل : رياسته وتقدّمه في الدنيا ، وعزب عن عقولهم أن العظيم من كان عند الله عظيماً .
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم ، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها ، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته ، ثم ضرب لهم مثلاً فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم ، وأنّ الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها ، فلم يسوِّ بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش ، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدماً ، ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدمون في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم ، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم؛ ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم ، لضاعوا وهلكوا . وإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة ، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام؟ ثم قال : { وَرَحْمَةُ رَبّكَ } يريد : وهذه الرحمة وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب : خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا . فإن قلت : معيشتهم ما يعيشون به من المنافع ، ومنهم من يعيش بالحلال ، ومنهم من يعيش بالحرام؛ فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال . قلت : الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها ، ولكن شرط عليه وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها؛ فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالاً ، وسماها رزق الله؛ وإذا لم يسلكها تناولها حراماً ، وليس له أن يسميها رزق الله؛ فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع ، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم ، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعهم .
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{ لِبُيُوتِهِمْ } بدل اشتمال من قوله : { لِمَن يَكْفُرُ } ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوباً لقميصه . وقرىء «سقفاً» بفتح السين وسكون القاف . وبضمها وسكون القاف وبضمها : جمع سقف ، كرهن ورهن ورهن . وعن الفراء : جمع سقيفة وسقفاً بفتحتين ، كأنه لغة في سقف وسقوفاً ، ومعارج ومعاريج . والمعارج : جمع معرج ، أو اسم جمع لمعراج : وهي المصاعد إلى العلالي { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي على المعارج ، يظهرون السطوح يعلونها ، فما اسطاعوا أن يظهروه . وسرراً ، بفتح الراء لاستثقال الضمتين مع حرفي التضعيف { لَمَّا متاع الحياة } اللام هي الفارقة بين إن المحففة والنافية . وقرىء بكسر اللام ، أي : للذي هو متاع الحياة ، كقوله تعالى : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ البقرة : 26 ] ولما بالتشديد بمعنى إلا ، وإن نافية . وقرىء «إلا» وقرىء : وما كل ذلك إلا . لما قال : { خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 32 ] فقلل أمر الدنيا وصغرها : أردفه ما يقرّر قلة الدنيا عنده من قوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة } أي : ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه ، لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا عندنا للكفار سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً كلها من فضة وزخرف ، وجعلنا لهم زخرفاً ، أي : زينة من كل شيء . والزخرف : الزينة والذهب . ويجوز أن يكون الأصل : سقفاً من فضة وزخرف ، يعني : بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، فنصب عطفاً على محل { مِن فِضَّةٍ } وفي معناه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1003 ) " لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " فإن قلت : فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدّي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها ، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ قلت : التوسعة عليهم مفسدة أيضاً لما تؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا ، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين ، فكانت الحكمة فيما دبر : حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء ، وغلب الفقر على الغنى .
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قرىء «ومن يعش» بضم الشين وفتحها . والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل : عش . وإذا نظر نظر العشى ولا آفة به قيل عشا . ونظيره : عرج ، لمن به الآفة . وعرج ، لمن مشى مشية العرجان من غير عرج . قال الحطيئة :
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... أي : تنظر إليها نظر العشيّ لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء . وهو بَيِّنٌ في قول حاتم :
أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَت ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخُدْرُ
وقرىء «يعشوا» على أنّ من موصولة غير مضمنة معنى الشرط . وحق هذا القارىء أن يرفع نقيض . ومعنى القراءة بالفتح : ومن يعم { عَن ذِكْرِ الرحمن } وهو القرآن ، كقوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [ البقرة : 18 ] وأما القراءة بالضم فمعناها : ومن يتعام عن ذكره ، أي : يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى ، كقوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } نخذله ونخل بينه وبين الشياطين ، كقوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } [ فصلت : 25 ] ، { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } [ مريم : 83 ] وقرىء «نقيض» أي : يقيض له الرحمن ويقيض له الشيطان . فإن قلت : لم جمع ضمير من وضمير الشيطان في قوله : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ } ؟ قلت : لأنّ ( من ) مبهم في جنس العاشي ، وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه ، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحدين : جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعاً { حتى إِذَا جَاءَنَا } العاشي . وقرىء «جاآنا» على أنّ الفعل له ولشيطانه . { قَالَ } لشيطانه { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } يريد المشرق والمغرب ، فغلب كما قيل : العمران والقمران . فإن قلت : فما بعد المشرقين؟ قلت : تباعدهما ، والأصل : بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق . فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية : أضاف البعد إليهما { أَنَّكُمْ } في محل الرفع على الفاعلية ، يعني : ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه ، لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدّته وعنائه ، وذلك أنّ كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته ، ولك أن تجعل الفعل للتمني في قوله : ( يا ليت بيني وبينك ) على معنى : ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين . وقوله : { أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } تعليل ، أي : لن ينفعكم تمنيكم؛ لأنّ حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركون في سببه وهو الكفر . وتقوّيه قراءة من قرأ «إنكم » بالكسر وقيل : إذا رأى الممنوّ بشدّة من منى بمثلها : روّحه ذلك ونفس بعض كربه ، وهو التأسي الذي ذكرته الخنساء :
أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي ... فهؤلاء لا يؤسيهم اشتراكهم ولا يروّحهم؛ لعظم ما هم فيه . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { إِذ ظَّلَمْتُمْ } ؟ قلت : معناه : إذ صح ظلمكم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، وذلك يوم القيامة . وإذ : بدل من اليوم . ونظيره :
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَة ... أي : تبين أني ولد كريمة .
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد ويجتهد ويكدّ روحه في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون على دعائه إلا تصميماً على الكفر وتمادياً في الغيّ ، فأنكر عليه بقوله : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم ، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده على سبيل الإلجاء والقسر ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور } [ فاطر : 22 ] .
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
( ما ) في قوله : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } بمنزلة لام القسم : في أنها إذا دخلت دخلت معها النون المؤكدة ، والمعنى : فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أشد الانتقام في الآخرة ، كقوله تعالى : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] وإن أردنا أن ننجز في حياتك ما وعدناهم من العذاب النازل بهم وهو يوم بدر ، فهم تحت ملكتنا وقدرتنا لا يفوتوننا ، وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال ثم أتبعه شدة الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة . وقرىء «نرينك» بالنون الخفيفة . وقرىء «بالذي أوحى إليك» على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل والمعنى : وسواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر . فكن مستمسكاً بما أوحينا إليك وبالعمل به فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضالُ شقي ، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله ، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك ، ولكن كما يفعل الثابت الذي لا ينشطه تعجيل ظفر ، ولا يثبطه تأخيره .
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{ وَإِنَّهُ } وإنّ الذي أوحى إليك { لِذِكْرِ } لشرف { لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ل { سوف تسئلون } عنه يوم القيامة ، وعن قيامكم بحقه ، وعن تعظيمكم له ، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين ، ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته ، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم ، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظراً وفحصاً : نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه ، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً . وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها ، والسؤال الواقع مجازاً عن النظر ، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة : كثير منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال . وقول من قال : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجني ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم . وقيل له : سلهم ، فلم يشكك ولم يسأل . وقيل : معناه سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل . وعن الفراء : إنما هم يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
ما أجابوه به عند قوله : { إِنّى رَسُولُ رَبِّ العالمين } محذوف ، دل عليه قوله : { فَلَمَّا جَآءَهُم بئاياتنا } وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية { إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ } أي يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحراً . وإذا للمفاجأة . فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لَمّا بإذا المفاجأة؟ قلت : لأنّ فعل المفاجأة معها مقدّر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم .
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها . وهذه صفة كل واحدة منها فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات على سبيل التفصيل والاستقراء واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته . تريد : تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قروتهم رجلاً رجلاً ، فإن قلت : هو كلام متناقض ، لأنّ معناه : ما من آية من التسع إلا هي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة . قلت : الغرض من هذا الكلام أنهنّ موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير التي تختلف آراء الناس في تفضيلها ، فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى ذلك بني الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك . ومنه بيت الحماسة :
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاَقَيْتُ سَيِّدَهُم ... مِثْلُ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ، ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت . ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، وهم كالحلقة المفرّغة لا يدرى أين طرفاها { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان . فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان ، قلت : إرادته فعل غيره ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على حسب اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع لأنّ الإرادة لم تكن قسراً ولم يختاروه . والمراد بالعذاب : السنون ، والطوفان ، والجراد ، وغير ذلك .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وقرىء «يا أيه الساحر» بضم الهاء ، وقد سبق وجهه . فإن قلت : كيف سموه بالساحر مع قولهم { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } ؟ قلت : قولهم { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } : وعد منوي إخلافه ، وعهد معزوم على نكثه ، معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم : ( إننا لمهتدون ) وقيل : كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر : { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } بعهده عندك : من أن دعوتك مستجابة . أو بعهده عندك وهو النبوّة . أو بما عهد عندك فوفيت به وهو الإيمان والطاعة . أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى .
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
{ ونادى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ } جعلهم محلاً لندائه وموقعاً له . والمعنى : أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم من نادى فيها بذلك ، فأسند النداء إليه ، كقولك : قطع الأمير اللص ، إذا أمر بقطعه . ويجوز أن يكون عنده عظماء القبط ، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم ، ثم ينشر عنه في جموع القبط ، فكأنه نودي به بينهم فقال : { أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الانهار } يعني أنهار النيل ومعظمهما أربعة : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس : قيل : كانت تجري تحت قصره . وقيل : تحت سريره لارتفاعه . وقيل : بين يدي في جناني وبساتيني . ويجوز أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر . وتجري : نصب على الحال منها ، وأن تكون الواو للحال ، واسم الإشارة مبتدأ ، والأنهار صفة لاسم الإشارة ، وتجري خبر للمبتدأ وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوة الربوبية همة من تعظم بملك مصر ، وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها؛ لئلا تخفى تلك الأَبَّهَة والجلالة على صغير ولا كبير وحتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته . وعن الرشيد : أنه لما قرأها قال : لأولينها أخس عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه . وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها ، فخرج إليها فلما شارفها وقع عليها بصره قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : أليس لي ملك مصر ، والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه { أَمْ أَنَا خَيْرٌ } أم هذه متصلة ، لأنّ المعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون ، إلا أنه وضع قوله : { أَنَا خَيْرٌ } موضع : تبصرون؛ لأنهم إذا قالوا له : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب . ويجوز أن تكون منقطعة على : بل أأنا خير ، والهمزة للتقرير ، وذلك أنه قدم تعديد أسباب الفضل والتقدّم عليهم من ملك مصر وجرى الأنهار تحته ، ونادى بذلك وملأ به مسامعهم ، ثم قال : أنا خير كأنه يقول : أثبت عندكم واستقر أني أنا خير وهذه حالي { مِّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ } أي ضعيف حقير . وقرىء «أما أنا خير» { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } الكلام لما به من الرُّتة يريد : أنه ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به ، وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن والفصاحة ، وكانت الأنبياء كلهم أبيناء بلغاء . وأراد بإلقاء الأسورة عليه : إلقاء مقاليد الملك إليه ، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق من ذهب { مُقْتَرِنِينَ } إما مقترنين به من قولك : قرنته فاقترن به ، وإما من : اقترنوا ، بمعنى تقارنوا : لما وصف نفسه بالملك والعزة ووازن بينه وبين موسى صلوات الله عليه ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد اعترض فقال : هلا إن كان صادقاً ملكه ربه وسوّده وسوّره ، وجعل الملائكة أعضاده وأنصاره . وقرىء «أساور جمع أسورة» وأساوير جمع أسوار وهو السوار ، وأساورة على تعويض التاء من ياء أساوير . وقرىء «ألقي عليه أسورة» وأساور ، على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل .
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
{ فاستخف قَوْمَهُ } فاستفزهم . وحقيقته : حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم ، وكذلك : استفز ، من قولهم للخفيف : فز .
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
{ ءَاسَفُونَا } منقول من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه . ومنه الحديث في موت الفجأة :
( 1004 ) " رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر " ومعناه : أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم ، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا ، وأن لا نحلم عنهم . وقرىء «سلفا» جمع سالف ، كخادم وخدم . وسلفا - بضمتين - جمع سليف ، أي : فريق قد سلف . وسلفا : جمع سلفة ، أي : ثلة قد سلفت . ومعناه : فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار ، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم ، لإتيانهم بمثل أفعالهم ، وحديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل ، يحدثون به ويقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
( 1005 ) لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد الله بن الزبعرىُ : يا محمد ، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " ، فقال : خصمتك ورب الكعبة ، ألست تزعم أنّ عيسى ابن مريم نبيّ وتثنى عليه خيراً وعلى أمه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما . وعزير يعبد . والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا ، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى ) ونزلت هذه الآية . والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً ، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه { إِذَا قَوْمُكَ } قريش من هذا المثل { يَصِدُّونَ } ترتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وجزلاً وضحكاً بما سمعوا منه من إسكات رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيّوا بحجة ثم فتحت عليهم . وأمّا من قرأ «يصدّون» بالضم فمن الصدود ، أي : من أجل هذا المثل يصدّون عن الحق ويعرضون عنه . وقيل : من الصديد وهو الجلبة ، وأنهما لغتان نحو : يعكف ويعكف ونظائر لهما { وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، إذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيناً { مَا ضَرَبُوهُ } أي ما ضربوا هذا المثل { لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } إلا لأجل الجدل والغلبة في القول ، لا لطلب الميز بين الحق والباطل { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج ، كقوله تعالى : { قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] وذلك أنّ قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 98 ] ما أريد به إلا الأصنام ، وكذلك قوله عليه السلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " إنما قصد به الأصنام ، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة ، إلا أن ابن الزبعري بخبه وخداعه وخُبْثِ دُخْلَتِه لما رأى كلام الله ورسوله محتملاً لفظه وجه العموم ، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير ، وجد للحيلة مساغاً ، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة ، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] فدل به على أنّ الآية خاصة في الأصنام ، على أنّ ظاهر قوله : ( وما تعبدون ) لغير العقلاء . وقيل : لما سمعوا قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ }
[ آل عمران : 59 ] قالوا : نحن أهدى من النصارى؛ لأنهم عبدوا آدامياً ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت . وقوله : { ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } على هذا القول : تفضيل لآلهتهم على عيسى؛ لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلاً . معناه : وما قالوا هذا القول ، يعني : ءآلهتنا خير أم هو . إلا للجدال ، وقرىء : «أآلهتنا خير» بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها ، لدلالة أم العديلة عليها . وفي حرف ابن مسعود : خير أم هذا . ويجوز أن يكون جدلاً حالاً ، أي : جدلين . وقيل : لما نزلت { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله } [ آل عمران : 59 ] قالوا : ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشراً ، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر . ومعنى { يَصِدُّونَ } يضجون ويضجرون . والضمير في { أَمْ هُوَ } لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم : السخرية به والاستهزاء . ويجوز أن يقولوا لما أنكر عليهم قولهم : الملائكة بنات الله وعبدوهم ما قلنا بدعا من القول ، ولما فعلنا نكراً من الفعل؛ فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه ، ونحن أشف منهم قولاً وفعلاً ، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسي ، فقيل لهم : مذهب النصارى شرك بالله ، ومذهبكم شرك مثله ، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل ، وما عيسى { إِلاَّ عَبْدٌ } كسائر العبيد { أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } حيث جعلناه آية : بأن خلقناه من غير سبب ، كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنيَ إسرائيل .
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
{ وَلَوْ نَشآءُ } لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ } لولدنا منكم يا رجال { مَلَئِكَةٌ } يخلفونكم في الأرض كما يلخفكم أولادكم ، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك .
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{ وَإِنَّهُ } وإن عيسى عليه السلام { لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى الشرط علماً لحصول العلم به . وقرأ ابن عباس : لعلم ، وهو العلامة . وقرىء «للعلم» وقرأ : أبيّ : لذكر ، على تسمية ما يذكر به ذكراً ، كما سمي ما يعلم به علماً . وفي الحديث :
( 1006 ) " أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة : يقال لها أفيق وعليه ممصرتان ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة ، وبها يقتل الدجال ، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم ، فيتأخر الإمام فيقدِّمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن به " وعن الحسن : أن الضمير للقرآن ، وأن القرآن به تعلم الساعة ، لأن فيه الإعلان بها { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } من المرية وهي الشك { واتبعون } واتبعوا هداي وشرعي . أو رسولي . وقيل : هذا أمر لرسول الله أن يقوله : { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي أدعوكم إليه . أو هذا القرآن إن جعل الضمير في { وَإِنَّهُ } للقرآن .
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
{ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } قد بانت عداوته لكم : إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور .
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
{ بالبينات } بالمعجزات . أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات { بالحكمة } يعني الإنجيل والشرائع . فإن قلت : هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه؟ قلت : كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه ، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم { الأحزاب } الفرق المتحزبة بعد عيسى . وقيل : اليهود والنصارى { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وعيد للأحزاب . فإن قلت : { مِن بَيْنِهِمْ } إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت : إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله : { قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } وهم قومه المبعوث إليهم .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
{ أَن تَأْتِيَهُم } بدل من الساعة . والمعنى : هل ينظرون إلا إتيان الساعة . فإن قلت : أما أدى قوله : { بَغْتَةً } مؤدّى قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } فيستغني عنه؟ قلت : لا ، لأنّ معنى قوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } : وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم ، كقوله تعالى : { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ } [ يس : 49 ] ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون { يَوْمَئِذٍ } منصوب بعدوّ ، أي : تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله ، وتنقلب عداوة ومقتا ، إلا خلة المتصادقين في الله ، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوّة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغض في الله . وقيل : { إِلاَّ المتقين } إلا المجتنبين أخلاء السوء . وقيل : نزلت في أبيّ بن خلف ، وعقبه بن أبي معيط { ياعباد } حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذٍ ، و { الذين ءَامَنُواْ } منصوب المحل صفة لعبادي ، لأنه منادى مضاف ، أي : الذين صدّقوا { بئاياتنا وكَانُواْ مُسْلِمِينَ } مخلصين وجوههم لنا ، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا . وقيل : إذا بعث الله الناس فزع كل أحد ، فينادي مناد ، يا عبادي فيرجوها الناس كلهم ، ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين . وقرىء «يا عباد» { تُحْبَرُونَ } تسرون سروراً يظهر حباره - أي : أثره -على وجوهكم ، كقوله تعالى : { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } [ المطففين : 24 ] وقال الزجاج : تكرمون إكراماً يبالغ فيه . والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل . والكوب : الكوز لا عروة له { وَفِيهَا } الضمير للجنة . وقرىء «تشتهي» وتشتهيه . وهذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، وإما مستلذة في العيون . { وَتِلْكَ } إشارة إلى الجنة المذكورة . وهي مبتدأ ، و { الجنة } خبر . و { التى أُورِثْتُمُوهَا } صفة الجنة . أو الجنة صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة . والتي أورثتموها : خبر المبتدأ . أو التي أورثتموها : صفة ، و { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } الخبر ، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار . وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها . وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة . وقرىء «ورّثتموها» { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } من للتبعيض ، أي : لا تأكلون إلا بعضها ، وأعقابها باقية في شجرها ، فهي مزينة بالثمار أبداً موقرة بها ، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1007 ) " لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها " .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
{ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى إذا سكنت عنه قليلاً ونقص حرّها . والمبلس : اليائس الساكت سكوت يأس من فرج . وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت في نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالداً : لا يرى ولا يرى { هُمُ } فصل عند البصريين ، عماد عند الكوفيين . وقرىء «وهم فيها» أي : في النار وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما : «با مال» بحذف الكاف للترخيم ، كقول القائل :
وَالْحَقُّ يَا مَالِ غَيْرَ مَا تَصِفُ ... وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ «ونادوا يا مال» فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم : حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه . وقرأ أبو السّرار الغنوي «يا مال» بالرفع كما يقال : يا حار { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } من قضى عليه إذا أماته { فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } [ القصص : 15 ] والمعنى : سل ربك أن يقضي علينا . فإن قلت : كيف قال : { وَنَادَوْاْ يامالك } بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت : تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة ، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ، وعلمهم أنه لا فرج لهم ، ويغوّثون أوقاتاً لشدّة ما بهم { ماكثون } لابثون . وفيه استهزاء . والمراد : خالدون . عن ابن عباس رضي الله عنهما : إنما يجيبهم بعد ألف سنة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم
( 1008 ) " يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيقولون : ادعوا مالكاً ، فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك " { لَقَدْ جئناكم بالحق } كلام الله عز وجل : بدليل قراءة من قرأ : «لقد جئتكم» ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل . لما سألوا مالكاً أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم : أجابهم الله بذلك { كارهون } لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه؛ لأنّ مع الباطل الدعة ، ومع الحق التعب .
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
{ أَمْ } أبرم مشركو مكة { أَمْراً } من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } كيدنا كما أبرموا كيدهم؛ كقوله تعالى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون } [ الطور : 42 ] ؟ وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : ما المراد بالسر والنجوى؟ قلت : السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال . والنجوى : ما تكلموا به فيما بينهم { بلى } نسمعهما ونطلع عليهما { وَرُسُلُنَا } يريد الحفظة عندهم { يَكْتُبُونَ } ذلك . وعن يحيى بن معاذ الرازي : من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق .
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
{ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها { فَأَنَاْ أَوَّلُ } من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالاً مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها . ونظيره أن يقول العدلى للمجبر ، إن كان الله تعالى خالقاً للكفر في القلوب ومعذباً عليه عذاباً سرمداً ، فأنا أول من يقول : هو شيطان وليس بإله؛ فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله تعالى خالقاً للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه . ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له - : أما والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك . وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم ، فأنا أول العابدين الموحدين لله ، المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه . وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد : إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد . وقرأ بعضهم : «العبدين» وقيل : هي إن النافية ، أي : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد . وروي : أنّ النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني . فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال : ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة : أن لا ولد له . وقرىء «ولد» بضم الواو . ثم نزه ذاته موصوفة بربوبيته السموات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد ، ليدل على أنه من صفة الأجسام . ولو كان جسماً لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره .
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ } في باطلهم { وَيَلْعَبُواْ } في دنياهم { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ } وهذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب ، وإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة ، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول ، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان ، كقوله تبارك وتعالى : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] وإيعاد بالشقاء في العاقبة .
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
ضمن اسمه تعالى معنى وصف ، فلذلك علق به الظرف في قوله : ( في السماء ) ( وفي الأرض ) كما تقول ، هو حاتم في طيّ حاتم في تغلب ، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به ، كأنك قلت : هو جواد في طي جواد في تغلب . وقرىء «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» ومثله قوله تعالى : { وَهُوَ الله فِى السموات وَفِى الأرض } [ الأنعام : 3 ] كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً ، وزاده طولاً أنّ المعطوف داخل في حيّز الصلة . ويحتمل أن يكون { فِى السمآء } صلة الذي وإله خبر مبتدأ محذوف ، على أنّ الجملة بيان للصلة . وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهية والربوبية ، لا على معنى الاستقرار . وفيه نفي الآلهة التي كانت تعبد في الأرض «ترجعون» قرىء بضم التاء وفتحها . و«يرجعون» بياء مضمومة . وقرىء «تحشرون» بالتاء .
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
ولا يملك آلهتهم الذين يدعون من دون الله الشفاعة ، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ، ولكن من { شَهِدَ بالحق } وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان وإخلاص : هو الذي يملك الشفاعة ، وهو استثناء منقطع . ويجوز أن يكون متصلاً؛ لأنّ في جملة الذين يدعون من دون الله : الملائكة ، وقرىء «تدعون» بالتاء وتدّعون بالتاء وتشديد الدال .
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{ وَقِيلِهِ } قرىء بالحركات الثلاث ، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله : وعنه : وقال قيله . وعطفه الزجاج على محل الساعة ، كما تقول : عجبت من ضرب زيد وعمراً ، وحمل الجرّ على لفظ الساعة ، والرفع على الابتداء ، والخبر ما بعده وجوّز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف . معناه : وعنده علم الساعة وعلم قيله . والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ، ومع تنافر النظم . وأقوى من ذلك وأوجه : أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك ، ويكون قوله : { إِنَّ هَؤلآَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } جواب القسم ، كأنه قيل : وأقسم بقيله يا رب . أو وقيله يا رب قسمي إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون { فاصفح عَنْهُمْ } فأعرض عن دعوتهم يائساً عن إيمانهم ، وودعهم وتاركهم ، { وَقُلْ } لهم { سلام } أي تسلم منكم ومتاركة { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم . والضمير في { وَقِيلِهِ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه .
عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1109 ) « من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، ادخلوا الجنة بغير حساب » .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
الواو في { والكتاب } واو القسم ، إن جعلت حم تعديداً للحروف أو اسماً للسورة ، مرفوعاً على خبر الابتداء المحذوف وواو العطف إن كانت حم مقسماً بها . وقوله : { إِنَّا أنزلناه } جواب القسم ، والكتاب المبين للقرآن . والليلة المباركة : ليلة القدر . وقيل : ليلة النصف من شعبان ، ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة الرحمة وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة . وقيل في تسميتها : ليلة البراءة والصكّ : أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة ، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة . وقيل : هي مختصة بخمس خصال : تفريق كل أمر حكيم وفضيلة العبادة فيها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1010 ) « من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك : ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا . وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان » ونزول الرحمة قال عليه الصلاة والسلام :
( 1011 ) « إنّ الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب » وحصول المغفرة : قال عليه الصلاة والسلام :
( 1012 ) « إنّ الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين ، أو مصرّ على الزنا » وما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام الشفاعة ، وذلك
( 1013 ) أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته . فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع ، إلا من شرد عن الله شراد البعير . ومن عادة الله في هذه الليلة : أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة . والقول الأكثر أنّ المراد بالليلة المباركة : ليلة القدر ، لقوله تعالى : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ولمطابقة قوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) } لقوله : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ( 4 ) } وقول تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان . فإن قلت : ما معنى إنزال القرآن في هذه الليلة؟ قلت : قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا ، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر ، وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً . فإن قلت : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان . فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة }
[ الدخان : 3 ] كأنه قيل : أنزلنا؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً؛ لأنّ إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم . والمباركة : الكثيرة الخير لما يتيح الله فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة ، ومعنى { يُفْرَقُ } يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم منها إلى الأخرى القابلة . وقيل : يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبريل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت . وعن بعضهم : يعطى كل عامل بركات أعماله ، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته . وقرىء «يفرق» بالتشديد و { يُفْرَقُ } كل على بنائه للفاعل ونصب كل ، والفارق : الله عزّ وجلّ ، وقرأ زيد بن عليّ رضي الله عنه «نفرق» بالنون ، كل أمر حكيم : كل شأن ذي حكمة ، أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازى؛ لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجاز { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَا } نصب على الاختصاص . جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، كائناً من لدنا ، كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا . ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي ، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق ، لأنّ معنى الأمر والفرقان واحد ، من حيث إنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه . أو يكون حالاً من أحد الضميرين في أنزلناه : إما من ضمير الفاعل ، أي : أنزلناه آمرين أمراً . أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل فإن قلت : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبِّكَ } بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يكون بدلاً من قوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } و { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } مفعولاً له ، على معنى : إنا أنزلنا القرآن؛ لأنّ من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلاً ليفرق . أو لقوله : { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنآ } ورحمة : مفعولاً به ، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله تعالى : { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] أي يفصل في هذه الليلة كل أمر . أو تصدر الأوامر من عندنا؛ لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا . وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة؛ وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا؛ لأنّ الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع .
والأصل : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وفي قراءة زيد بن عليّ «أمر من عندنا» على : هو أمر وهي تنصر انتصابه على الاختصاص . وقرأ الحسن : «رحمة من ربك» ، على : تلك رحمة ، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } وما بعده تحقيق لربوبيته ، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه . وقرىء «رب السموات . . . ربكم ورب آبائكم» بالجر بدلاً من ربك . فإن قلت : ما معنى الشرط الذي هو قوله : { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ؟ قلت : كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً ، فقيل لهم : إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ، ثم قيل : إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان ، كما تقول : إنّ هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله : { بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) } وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن ، ولا عن جدّ وحقيقة : بل قول مخلوط بهزء ولعب { يَوْمَ تَأْتِى السمآء } مفعول به مرتقب . يقال : رقبته وارتقبته . نحو : نظرته وانتظرته . واختلف في الدخان؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه أخذ الحسن : أنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة ، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
( 1014 ) « أوّل الآيات : الدخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر » قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ، وقال : « يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره » وعن ابن مسعود رضي الله عنه : خمس قد مضت : الروم ، والدخان ، والقمر ، والبطشة ، واللزام . ويروى أنه قيل لابن مسعود :
( 1015 ) إن قاصاً عند أبواب كندة يقول : إنه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق ، فقال : من علم علماً فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه : الله أعلم ، ثم قال : ألا وسأحدّثكم أنّ قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : « اللَّهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدّث الرجلُ الرجلَ فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان ، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا ، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم { بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان { يَغْشَى الناس } يشملهم ويلبسهم ، وهو في محل الجر صفة لدخان . و { هذا عَذَابٌ } إلى قوله : { مُؤْمِنُونَ } منصوب المحل بفعل مضمر ، وهو : يقولون ، ويقولون : منصوب على الحال ، أي : قائلين ذلك . { إِنَّا مْؤْمِنُونَ } موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب .
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{ أنى لَهُمُ الذكرى } كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب { وَقَدْ جَآءَهُمْ } ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلكم يذكروا وتولوا عنه ، وبهتوه بأن عداساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون ، ثم قال : { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عآئِدُونَ } أي ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال . فإن قلت : كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله : { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً } قلت : إذا أتت السماء بالدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين . وغوثوا وقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون منيبون ، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوماً ، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون ، ثم قال : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } يريد يوم القيامة ، كقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى } [ النازعات : 34 ] . { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي ننتقم منهم في ذلك اليوم . فإن قلت : بم انتصب يوم نبطش؟ قلت : بما دل عليه { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } وهو ننتقم . ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون ، لأن «إن» تحجب عن ذلك . وقرىء «نبطش» بضم الطاء . وقرأ الحسن «نبطش» بضم النون ، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى . أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم . وقيل : { البطشة الكبرى } : يوم بدر .
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
وقرىء «ولقد فتنا» بالتشديد للتأكيد . أو لوقوعه على القوم . ومعنى الفتنة : أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق؛ فكان ذلك سبباً في ارتكابهم المعاصي واقتراقهم الآثام . أو ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا ، فاختاروا الكفر على الإيمان ، أو سلبهم ملكهم وأغرقهم { كَرِيمٌ } على الله وعلى عباده المؤمنين . أو كريم في نفسه ، لأنّ الله لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم { أَنْ أدوا إِلَىَّ } هي أن المفسرة ، لأن مجيء الرسول من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله . أو المخففة من الثقيلة ومعناه : وجاءهم بأن الشأن والحديث أدّوا إليّ { عِبَادَ الله } مفعول به وهم بنو إسرائيل ، يقول : أدوهم إليّ وأرسلوهم معي ، كقوله تعالى : { أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } [ طه : 47 ] ويجوز أن يكون نداء لهم على : أدوا إليّ يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي ، وعلل ذلك بأنه { رَسُولٌ أَمِينٌ } غير ظنين قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ } أن هذه مثل الأولى في وجهيها ، أي : لا تستكبروا { عَلَى الله } بالاستهانة برسوله ووحيه . أو لا تستكبروا على نبيّ الله { بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة { أَن تَرْجُمُونِ } أن تقتلون . وقرىء «عت» بالإدغام . ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم ، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونهُ به من الرجم والقتل { فاعتزلون } يريد : إن لم يؤمن لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا ، فتنحوا عني واقطعوا أسباب الوصلة عني ، أي : فخلوني كفافاً لا لي ولا عليّ ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم؛ فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك .
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
{ أَنَّ هاؤلآء } بأن هؤلاء ، أي : دعا ربه بذلك . قيل : كان دعاؤه : اللَّهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم : وقيل هو قوله : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين } [ يونس : 85 ] وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك ، وهو كونهم مجرمين . وقرىء «إنّ هؤلاء» بالكسر على إضمار القول ، أي : فدعا ربه فقال : إن هؤلاء { فَأَسْرِ } قرىء بقطع الهمزة من أسرى ، ووصلها من سرى . وفيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي . وأن يكون جواب شرط محذوف ، كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول فأسر { بِعِبَادِى } يعني : فأسر ببني إسرائيل ، فقد دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده ، فينجي المتقدمين ويغرق التابعين . الرهو فيه وجهان ، أحدهما : أنه الساكن . قال الأعشى :
يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَاذِلَةٌ ... وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ أي مشياً ساكناً على هينة . أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق ، كما ضربه فانفلق ، فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته ، قارّاً على حاله : من انتصاب الماء ، وكون الطريق يبساً لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم . والثاني : أن الرهو الفجوة الواسعة . وعن بعض العرب : أنه رأى جملاً فالجاً فقال : سبحان الله ، رهوٌ بين سنامين ، أي : اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } وقرىء بالفتح ، بمعنى : لأنهم .
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
والمقام الكريم : ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة . وقيل : المنابر . والنعمة - بالفتح - من التنعم ، وبالكسر - من الإنعام . وقرىء : «فاكهين» وفكهين .
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
{ كذلك } الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها { وأورثناها } أو في موضع الرفع على الأمر كذلك { قَوْماً ءَاخَرِينَ } ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل : كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم ، فأهلكهم الله على أيديهم ، وأورثهم ملكهم وديارهم . إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكة : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1016 ) « ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض » وقال جرير :
تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا ... وقالت الخارجية :
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَالَكَ مُورِقا ... كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : من بكاء مصلي المؤمن ، وآثاره في الأرض ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه في السماء تمثيل ، ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض } فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده : فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض . وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين ، يعني : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر ، ولم يمهلوا إلى الآخرة ، بل عجل لهم في الدنيا .
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
{ مِن فِرْعَوْنَ } بدل من العذاب المهين ، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً ، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم . ويجوز أن يكون المعنى : من العذاب المهين واقعاً من جهة فرعون . وقرىء : «من عذاب المهين» ووجهه أن يكون تقدير قوله : { مِن فِرْعَوْنَ } : من عذاب فرعون ، حتى يكون المهين هو فرعون . وفي قراءة ابن عباس : من فرعون ، لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون ، على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوّه وشيطنته ، ثم عرف حاله في ذلك بقوله : { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين } أي كبيراً رفيع الطبقة ، ومن بينهم فائقاً لهم ، بليغاً في إسرافه . أو عالياً متكبراً ، كقوله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الارض } [ القصص : 4 ] . و { مِّنَ المسرفين } خبر ثان ، كأنه قيل : إنه كان متكبراً مسرفاً .
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
الضمير في { اخترناهم } لبني إسرائيل . و { على عِلْمٍ } في موضع الحال ، أي : عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا . ويجوز أن يكون المعنى : مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال { عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم . وقيل : على الناس جميعاً لكثرة الأنبياء منهم { مِنَ الأيات } من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها { بلاؤا مُّبِينٌ } نعمة ظاهرة؛ لأنّ الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة . أو اختبار ظاهر لننظر كيف تعملون ، كقوله تعالى : { وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } [ البقرة : 49 ] .
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
{ هاؤلاء } إشارة إلى كفار قريش ، فإن قلت : كان الكلام واقعاً في الحياة الثانية لا في الموت ، فهلا قيل : إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ كما قيل : { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } [ الأنعام : 29 ] ؟ وما معنى قوله : { إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاولى } ؟ وما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى؟ قلت : معناه والله الموفق للصواب - : أنه قيل لهم : إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة ، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة ، وذلك قوله عزّ وجل : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] فقالوا : ( إن هي إلا موتتنا الأولى ) يريدون : ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية ، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة ، فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله : { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } في المعنى . يقال : أنشر الله الموتى ونشرهم : إذا بعثهم { فَأْتُواْ بِئَابَآئِنَآ } هذا خطاب للذين كانوا يعدونهم النشور : من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق ، وقيل كانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله فينشر لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه ، فإنه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشؤون .
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
هو تبع الحميري : كان مؤمناً وقومه كافرين؛ ولذلك ذمّ الله قومه ولم يذمه ، وهو الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبني سمرقند . وقيل : هدمها وكان إذا كتب قال : بسم الله الذي ملك برّاً وبحراً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1017 ) " لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1018 ) " ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان نبياً . وقيل : نظر إلى قبرين بناحية حمير قال : هذا قبر رضوي وقبر حبى بنتيّ تبع لا تشركان بالله شيئاً . وقيل : هو الذي كسا البيت . وقيل لملوك اليمن : التبابعة ، لأنهم يتبعون ، كما قيل : الأقيال ، لأنهم يُتَقيلون وسمي الظل «تبعاً» لأنه يتبع الشمس . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { أَهُمْ خَيْرٌ } ولا خير في الفريقين؟ قلت : معناه أهم خير في القوّة والمنعة ، كقوله تعالى : { أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } [ القمر : 43 ] بعد ذكر آل فرعون . وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما : أهم أشدّ أم قوم تبع .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
{ وَمَا بَيْنَهُمَا } وما بين الجنسين . وقرأ عبيد بن عمير : وما بينهن . وقرأ «ميقاتهم» بالنصب على أنه اسم إن ، ويوم الفصل؛ خبرها ، أي : إنّ ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل { لاَ يُغْنِى مَوْلًى } أيّ مولى كان من قرابة أو غيرها { عَن مَّوْلًى } عن أي مولى كان { شَيْئاً } من إغناء . أي : قليلاً منه { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } الضمير للموالي؛ لأنهم في المعنى كثير ، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } في محل الرفع على البدل من الواو في { يُنصَرُونَ } أي : لا يمنع من العذاب إلا من رحمهُ الله . ويجوز أن ينتصب على الاستثناء { إِنَّهُ هُوَ العزيز } لا ينصر منه من عصاه { الرحيم } لمن أطاعه .
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قرىء : «إنّ شجرت الزقوم» بكسر الشين ، وفيها ثلاث لغات : شجرة ، بفتح الشين وكسرها وشيرة ، بالياء . وروى أنه لما نزل { أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 62 ] قال ابن الزبعرى : إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر : التزقم ، فدعا أبو جهل بتمر وزبد فقال : تزقموا فإنّ هذا هو الذي يخوّفكم به محمد ، فنزل { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم ( 43 ) طَعَامُ الأثيم ( 44 ) } [ الدخان : 44 ] وهو الفاجر الكثير الآثام . وعن أبي الدرداء أنه كان يقرىء رجلاً فكان يقول طعام اليثيم ، فقال : قل طعام الفاجر يا هذا . وبهذا يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها . ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة ، وهي : أن يؤدي القارىء المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً . قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة؛ لأنّ في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها ، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية ، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر ، وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية { كالمهل } قرىء : بضم الميم وفتحها ، وهو دردي الزيت . ويدل عليه قوله تعالى : { يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل } [ المعارج : 8 ] مع قوله : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } [ الرحمن : 37 ] وقيل : هو ذائب الفضة والنحاس ، والكاف رفع خبر بعد خبر ، وكذلك { يَغْلِى } وقرىء : بالتاء للشجرة ، وبالياء للطعام . و { الحميم } الماء الحار الذي انتهى غليانه : يقال للزبانية { خُذُوهُ فاعتلوه } فقودوه بعنف وغلظة ، وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل فيجر إلى حبس أو قتل . ومنه «العتلّ» وهو الغليظ الجافي . وقرىء : بكسر التاء وضمها { إلى سَوَآءِ الجحيم } إلى وسطها ومعظمها . فإن قلت : هلا قيل : صبوا فوق رأسه من الحميم ، كقوله تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم } [ الحج : 19 ] لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه؟ قلت : إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته ، إلا أنّ صب العذاب طريقة الاستعارة ، كقوله :
صُبَّتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ الدَّهْرِ مِنْ صَبَبِ ... وكقوله تعالى : { أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } [ البقرة : 250 ] فذكر العذاب معلقاً به الصب ، مستعاراً له ، ليكون أهول وأهيب يقال : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ( 49 ) } على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه . وروي أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً . وقرىء : «إنك» بمعنى : لأنك . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قرأ به على المنبر { إِنَّ هذا } العذاب . أو إن هذا الأمر هو { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } أي تشكون . أو تتمارون وتتلاجون .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
قرىء : «في مقام» بالفتح : وهو موضع القيام ، والمراد المكان ، وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم . وبالضم : وهو موضع الإقامة . و { الأمين } من قولك : أمن الرجل أمانة فهو أمين . وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة؛ لأنّ المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره . قيل : السندس : ما رق من الديباج . والإستبرق : ما غلظ منه وهو تعريب استبر . فإن قلت : كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي؟ قلت : إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً؛ لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه ، وتغييره عن منهاجه ، وإجرائه على أوجه الإعراب { كذلك } الكاف مرفوع على الأمر كذلك . أو منصوب على : مثل ذلك أثبناهم { وزوجناهم } وقرأ عكرمة «بحور عين» على الإضافة : والمعنى : بالحور من العين؛ لأن العين إما أن تكون حوراً أو غير حور ، فهؤلاء من الحور العين لا من شهلهن مثلاً . وفي قراءة عبد الله : «بعيس عين» والعيساء : البيضاء تعلوها حمرة وقرأ عبيد بن عمير «لا يذاقون فيها الموت» وقرأ عبد الله «لا يذوقون فيها طعم الموت» ، فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى - المذوقة قبل دخول الجنة - من الموت المنفي ذوقه فيها؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : { إِلاَّ الموتة الأولى } موضع ذلك؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها . وقرىء : «ووقاهم» بالتشديد { فَضْلاً مّن رَّبِّكَ } عطاء من ربك وثواباً ، يعني : كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار . وقرىء : «فضل» أي : ذلك فضل .
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{ فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ } فذلكة للسورة . ومعناها : ذكرهم بالكتاب المبين ( فإنما يسرناه ) أي : سهلناه ، حيث أنزلناه عربياً بلسانك بلغتك إرادة أن يفهمه قومك فيتذكروا { فارتقب } فانتظر ما يحل بهم { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } ما يحل بك متربصون بك الدوائر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1019 ) « من قرأ سورة حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك » وعنه عليه السلام :
( 1020 ) « من قرأ سورة حم التي ذكر فيها الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفوراً له » .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
{ حم} إن جعلتها اسماً مبتدأ مخبراً عنه ب { تَنزِيلُ الكتاب } لم يكن بدّمن حذف مضاف ، تقديره : تنزيل حم تنزيل الكتاب . و { مِنَ الله } صلة للتنزيل ، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان ( تنزيل الكتاب ) مبتدأ ، والظرف خبراً { إِنَّ فىلسماوات والارض } يجوزأن يكون على ظاهره ، وأن يكون المعنى؛ إنّ في خلق السموات لقوله : { وَفِى خَلْقِكُمْ } فإن قلت : علام عطف { وَمَا يَبُثُّ } أعلى الخلق المضاف؟ أم على الضمير المضاف إليه؟ قلت : بل على المضاف ، لأنّ المضاف إليه ضمير متصل مجرور يقبح العطف عليه ، استقبحوا أن يقال : مررت بك وزيد ، وهذا أبوك وعمرو ، وكذلك إن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد . قرىء «آيات لقوم يوقنون» بالنصب والرفع ، على قولك : إنّ زيداً في الدار وعمراً في السوق . أو عمرو في السوق . وأمّا قوله : ( آيات لقوم يعقلون ) فمن العطف على عاملين ، سواء نصبت أو رفعت ، فالعاملان إذا نصبت هما : إن ، وفي ، أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر في ( واختلاف الليل والنهار ) ، والنصب في { ءايات } . وإذا رفعت فالعاملان : الابتداء وفي عملت الرفع في { لأيات } ، والجر في { واختلاف } وقرأ ابن مسعود «وفي اختلاف الليل والنهار» فإن قلت : العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه . وقد أباه سيبويه ، فما وجه تخريج الآية عنده؟ قلت : فيه وجهان عنده . أحدهما : أن يكون على إضمار في . والذي حسنه تقدّم ذكره في الآيتين قبلها . ويعضده قراءة ابن مسعود . والثاني : أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفاً على ما قبله أو على التكرير ، ورفعها بإضمار هي : وقرىء : «واختلاف الليل والنهار» بالرفع . وقرىء «آية» وكذلك وما يبث من دابة آية . وقرىء «وتصريف الريح» والمعنى : إنّ المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بدّ لها من صانع ، فآمنوا بالله وأقرّوا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان : ازدادوا إيماناً ، وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس؛ فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها . { وَتَصْرِيفِ الرياح } جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً : عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم ، وسُمّيَ المطر رزقاً؛ لأنه سبب الرزق { تِلْكَ } إشارة إلى الآيات المتقدّمة ، أي : تلك الآيات آيات الله . و { نَتْلُوهَا } في محل الحال ، أي : متلوة { عَلَيْكَ بالحق } والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة . ونحوه : { هذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] وقرىء «يتلوها» بالياء { بَعْدَ الله وءاياته } أي بعد آيات الله كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد . ويجوز أن يراد : بعد حديث الله ، وهو كتابه وقرآنه ، كقوله تعالى؛ { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] . وقرىء { يُؤْمِنُونَ } بالتاء والياء .
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
الأفاك : الكذاب ، والأثيم : المتبالغ في اقتراف الآثام { يُصِرُّ } يقبل على كفره ويقيم عليه . وأصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحى عليها صارّاً أذنيه { مُسْتَكْبِراً } عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق ، مزدرياً لها معجباً بما عنده . قيل : نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن . والآية عامّة في كل ما كان مضارّاً لدين الله . فإن قلت : ما معنى ثم في قوله : { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } ؟ قلت : كمعناه في قول القائل :
يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها ... وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة ، بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها . وأمّا زيارتها والإقدام على مزاولتها . فأمر مستبعد ، فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدّم عليها بعدما رآها وعاينها؛ شيء يستعبد في العادات والطباع ، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق ، من تليت عليه وسمعها : كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها { كَأَن } مخففة ، والأصل كأنه لم يسمعها : والضمير ضمير الشأن ، كما في قوله :
كَأَنْ ظَبْيَةً تعطو إِلَى نَاضِرِ السَّلَمْ ... ومحل الجملة النصب على الحال . أي : يصر مثل غير السامع { وَإِذَا } بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها { اتخذها } أي اتخذ الآيات { هُزُواً } ولم يقل : اتخذه ، للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم : خاض في الاستهزاء بجميع الآيات . ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، ويحتمل : وإذا علم من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة : افترصه واتخذ آيات الله هزواً ، وذلك نحو افتراص ابن الزبعري قوله عز وجل : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : خصتمك . ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء؛ لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :
نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ ... أللَّهُ وَالْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ يَكْفِيَهَا
حيث أراد عتبة . وقرىء : «علم أولئك» إشارة إلى كل أفاك أثيم ، لشموله الأفاكين . والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام . قال :
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... أَدِبُّ مَعَ الْوِلْدَانِ أَزْحَفُ كَالنَّسْرِ
ومنه قوله عز وجل : { مِّن وَرَائِهِمْ } أي من قدّامهم { مَّا كَسَبُواْ } من الأموال في رحلهم ومتاجرهم { وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله } من الأوثان .
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{ هذا } إشارة إلى القرآن ، يدل عليه قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ بأايات رَبِّهِمْ } لأنّ آيات ربهم هي القرآن ، أي هذا القرآن كامل في الهداية ، كما تقول : زيد رجل ، تريد كامل في الرجولية . وأيما رجل . والرجز : أشد العذاب . وقرىء بجر «أليم» ورفعه .
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
{ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر . فإن قلت : ما معنى { مِّنْهُ } في قوله : { جَمِيعاً مِّنْهُ } وما موقعها من الإعراب ، قلت : هي واقعة موقع الحال ، والمعنى : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده ، يعني : أنه مكوّنها وموجدها بقدرته وحكمته ، ثم مسخرها لخلقه . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي جميعاً منه ، وأن يكون { وَسَخَّرَ لَكُمُ } تأكيداً لقوله تعالى : { سَخَّرَ لَكُم } ثم ابتدىء قوله : { مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض جَمِيعاً مِّنْهُ } وأن يكون { وَمَا فِى الأرض } مبتدأ ، و { مِّنْهُ } خبره . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما «منة» وقرأ سلمة بن محارب : منه ، على أن يكون منه فاعل سخر على الإسناد المجازي . أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ذلك . أو هو منه .
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
حذف المقول لأنّ الجواب دال عليه . والمعنى : قل لهم اغفروا يغفروا { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه ، من قولهم لوقائع العرب : أيام العرب . وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها . قيل : نزلت قبل آية القتال ، ثم نسخ حكمها . وقيل : نزولها في عمر رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار فهمّ أن يبطش به وعن سعيد بن المسيب : كنا بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ قارىء هذه الآية ، فقال عمر : ليجزى عمر بما صنع { لِيَجْزِىَ } تعليل للأمر بالمغفرة ، أي : إنما أمروا بأن يغفروا لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة . فإن قلت : قوله : { قَوْماً } ما وجه تنكيره وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف؟ قلت : هو مدح لهم وثناء عليهم ، كأنه قيل : ليجزي أيما قوم وقوماً مخصوصين ، لصبرهم وإغضائهم على أذى أعدائهم من الكفار ، وعلى ما كانوا يجرعونهم من الغصص { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ومعنى قول عمر : ليجزى عمر بما صنع : ليجزى بصبره واحتماله . وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية :
( 1021 ) والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي . وقرىء «ليجزى قوماً» أي : الله عز وجل . وليجزي قوم . وليجزى قوماً ، على معنى : وليجزي الجزاء قوماً .
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
{ الكتاب } التوراة { والحكم } الحكمة والفقه . أو فصل الخصومات بين الناس؛ لأنّ الملك كان فيهم والنبوّة { مِّنَ الطيبات } مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق { وفضلناهم عَلَى العالمين } حيث لم نؤت غيرهم مثل ما آتيناهم { بينات } آيات ومعجزات { مِنَ الأمر } من أمر الدين ، فما وقع بينهم الخلاف في الدين { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ } ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم . وإنما اختلفوا لبغى حدث بينهم ، أو لعداوة وحسد .
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
{ على شَرِيعَةٍ } على طريقة ومنهاج { مِنَ الأمر } من أمر الدين ، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والحجج ، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ، ودينهم المبنى على هوى وبدعة ، وهم رؤساء قريش حين قالوا : ارجع إلى دين أبائك . ولا توالهم ، إنما يوالي الظالمين من هو ظالم مثلهم ، وأما المتقون : فوليهم الله وهم موالوه . وما أبين الفصل بين الولايتين .
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
{ هذا } القرآن { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب . كما جعل روحاً وحياة وهو هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن . وقرىء «هذه بصائر» أي : هذه الآيات .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
{ أَمْ } منقطعة . ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . والاجتراح : الاكتساب . ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله ، أي : كاسبهم { أَن نَّجْعَلَهُمْ } أي نصيرهم . وهو من جعل المتعدي إلى مفعولين فأوّلهما الضمير ، والثاني : الكاف ، والجملة التي هي { سَوآءً محياهم ومماتهم } بدل من الكاف؛ لأنَّ الجملة تقع مفعولاً ثانياً ، فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً ، كما تقول : ظننت زيداً أبوه منطلق . ومن قرأ «سواء» بالنصب : أجرى سواء مجرى مستوياً ، وارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية ، وكان مفرداً غير جملة . ومن قرأ : «ومماتهم» بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم : ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم . أي سواء : سواء في محياهم وفي مماتهم . والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا ، وأن يستووا مماتاً؛ لافتراق أحوالهم أحياء . حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على ركوب المعاصي . ومماتاً ، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه ، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدَّ لهم . وقيل : معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، لأنّ المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة ، وإنما يفترقون في الممات ، وقيل : سواء محياهم ومماتهم : كلام مستأنف على معنى : أن محيا المسيئين ومماتهم سواء ، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم : كل يموت على حسب ما عاش عليه . وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردّد إلى الصباح : ساء ما يحكمون . وعن الفضيل : أنه بلغها فجعل يردّدها ويبكي ويقول : يا فضيل ، ليت شعري من أي الفرقين أنت .
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
{ ولتجزى } معطوف على بالحق ، لأنّ فيه معنى التعليل . أو على معلل محذوف تقديره : خلق الله السموات والأرض ، ليدل به على قدرته ولتجزى كل نفس .
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
أي : هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه . وقرىء : «آلهة هواه» ، لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده ، فإذا رأى ما هو أحسن رفضه إليه ، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى : يعبد كل وقت واحداً منها { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } وتركه عن الهداية واللطف وخذله على علم ، عالماً بأنّ ذلك لا يجدى عليه ، وأنه ممن لا لطف له . أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقرّبة { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ } إضلال { الله } وقرىء «غشاوة» بالحركات الثلاث . وغشوة ، بالكسر والفتح . وقرىء «تتذكرون» .
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{ نَمُوتُ وَنَحْيَا } نموت نحن ويحيا أولادنا . أو يموت بعض ويحيا بعض . أو نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب ، ونحيا بعد ذلك . أو يصيبنا الأمران : الموت والحياة ، يريدون : الحياة في الدنيا والموت بعدها ، وليس وراء ذلك حياة . وقرىء : «نحيا» بضم النون . وقرىء «إلا دهر يمرّ» ما يقولون ذلك عن علم ، ولكن عن ظنّ وتخمين : كانوا يزعمون أنّ مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1022 ) " لا تسبوا الدهر ، فإنّ الله هو الدهر " أي : فإنّ الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
وقرىء «حجتهم» بالنصب والرفع ، على تقديم خبر كان وتأخيره . فإن قلت : لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت : لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته وساقوه مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم . أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة . أو لأنه في أسلوب قوله :
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة . والمراد : نفي أن تكون لهم حجة البتة . فإن قلت : كيف وقع قوله : { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ } جواباً لقولهم : { ائتوا بِئابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صادقين } ؟ قلت : لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل ، وحسبوا أنّ ما قالوه قول مبكت . ألزموا ما هم مقرّون به : من أنّ الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم ، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق ، وهو جمعهم إلى يوم القيامة ، ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإيتان بآبائهم ، وكان أهون شيء عليهم .
=================================================
ج17. كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
عامل النصب في { ويَوْمَ تَقُومُ } يخسر ، و { يَوْمَئِذٍ } بدل من ( يوم تقول ) { جَاثِيَةً } باركة مستوفزة على الركب . وقرىء «جاذية» والجذّو : أشد استيفازاً من الجثوّ : لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه : وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاثية مجتمعة . وعن قتادة جماعات من الجثوة ، وهي الجماعة ، وجمعها : جثى . وفي الحديث :
( 1023 ) " من جثى جهنم " وقرىء : { كُلَّ أُمَّةٍ } على الابتداء ، وكل أمة : على الإبدال من كل أمة { إلى كتابها } إلى صحائف أعمالها ، فاكتفى باسم الجنس ، كقوله تعالى : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ] . { اليوم تُجْزَوْنَ } محمول على القول . فإن قلت : كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله عزَّ وجل؟ قلت : الإضافة تكون للملابسة ، وقد لابسهم ولابسه ، أما ملابسته إياهم ، فلأن أعمالهم مثبتة فيه . وأما ملابسته إياه؛ فلأنه مالكه ، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده { يَنطِقُ عَلَيْكُم } يشهد عليكم بما عملتم { بالحق } من غير زيادة ولا نقصان { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } الملائكة { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي نستكتبهم أعمالكم { فِى رَحْمَتِهِ } في جنته . وجواب أما محذوف تقديره : وأما الذين كفروا فيقال لهم { أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ } والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه .
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
وقرىء : «والساعة» بالنصب عطفاً على الوعد ، وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها { مَا الساعة } أيّ شيء الساعة؟ فإن قلت : ما معنى ( إن نظن إلا ظناً ) ؟ قلت : أصله نظن ظناً . ومعناه : إثبات الظن فحسب ، فأدخل حرفا النفي والاستثناء ، ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه وزيد نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ . . . سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي قبائح أعمالهم . أو عقوبات أعمالهم السيئات ، كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 45 ] .
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
{ نَنسَاكُمْ } نترككم في العذاب كما تركتم عدة { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } وهي الطاعة ، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به ، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تخطروه ببال ، كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً . فإن قلت : فما معنى إضافة اللقاء إلى اليوم؟ قلت : كمعنى إضافة المكر في قوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي نسيتم لقاء اليوم في يومكم هذا ولقاء جزائه . وقرىء «لا يخرجون» بفتح الياء { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه .
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ فَلِلَّهِ الحمد } فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السموات والأرض والعالمين ، فإن مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب . وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته { فِى السماوات والأرض } وحق مثله أن يكبر ويعظم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1024 ) « من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب » .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
{ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحكمة والغرض الصحيح ( و ) بتقدير { أَجَلٍ مُّسَمًّى } ينتهى إليه وهو يوم القيامة { والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ } من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه { مُعْرِضُونَ } لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له . ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : عن إنذارهم ذلك اليوم .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
{ بكتاب مّن قَبْلِ هاذآ } أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن ، يعني : أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك . وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله { أَوْ أثارة مِّنْ عِلْمٍ } أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أي : على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب . وقرىء «أثرة» أي : من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم . وقرىء «أثرة» بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء ، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة . وأما الأثرة فالمرّة من مصدر : أثر الحديث إذا رواه . وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر ، كالخطبة : اسم ما يخطب به .
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
{ وَمَنْ أَضَلُّ } معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأصنام ، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر عل تحصيل كلّ بغية ومرام ، ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس : كانوا لهم أعداء ، وكانوا عليهم ضداً ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة ، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة؛ وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم . وإنما قيل : { مَن } و ( هم ) لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة ، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلاً وغباوة . ويجوز أن يريد : كل معبود من دون الله من الجن والإنس والأوثان ، فغلب غير الأوثان عليها . قرى : «ما لا يستجيب» وقرىء : «يدعو غير الله من لا يستجيب» ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها . ونحوه قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] .
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ بينات } جمع بينة : وهي الحجة والشاهد . أو واضحات مبينات . واللام في { لِلْحَقِّ } مثلها في قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً } [ الأحقاف : 11 ] أي لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا . والمراد بالحق : الآيات ، وبالذين كفروا : المتلو عليهم ، فوضع الظاهران موضع الضميرين؛ للتسجيل عليهم بالكفر ، وللمتلوّ بالحق { لَمَّا جَآءَهُمْ } أي : بادهوه بالجحود ساعة أتاهم ، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر . ومن عنادهم وظلمهم : أنهم سموه سحراً مبيناً ظاهراً أمره في البطلان لا شبهة فيه .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
{ أَمْ يَقُولُونَ افتراه } إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم : إن محمداً افتراه . ومعنى الهمزة في أم : الإنكار والتعجيب ، كأنه قيل : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المفضى منه العجب ، وذلك أن محمداً كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله ، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كانت تصديقاً من الله له ، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفترياً . والضمير للحق؛ والمراد به الآيات { قُلْ إِنِ افتريته } على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه . فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عني ، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه . يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صمم ، ومثله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 17 ] ، { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ومنه قوله عليه الصلاة السلام :
( 1025 ) « لا أملك لكم من الله شيئاً » ، ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى ، والطعن في آياته ، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى { كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يشهد لي بالصدق والبلاغ ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود . ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم { وَهُوَ الغفور الرحيم } موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا ، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا . فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إليهم في قوله تعالى : { فلا تملكون لي } ؟ قلت : كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والأشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم ، فكأنه قال لهم : إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله ، فما تغنون عني أيها المنصوحون إن أخذني الله بعقوبة الافتراء عليه .
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
البدع ، بمعنى : البديع ، كالخف بمعنى الخفيف . وقرىء «بدعا» بفتح الدال ، أي : ذا بدع ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ، ولحم زيم : كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب . فقيل له : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } فآتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات؛ فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم من آياته ، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم . ولقد أجاب موسى صلوات الله وسلام عليه عن قول فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) ؟ بقوله : { علمها عند ربي } [ طه : 52 ] { وَمَآ أَدْرِى } لأنه لا علم لي بالغيب ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله ، ويقدّر لي ولكم من قضاياه { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } وعن الحسن : وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب . وعن الكلبي : قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجر؟ وعن ابن عباس : ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وقال : هي منسوخة بقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ويجوز أن يكون نفياً للدراية المفصلة . وقرىء «ما يفعل» بفتح الياء ، أي : يفعل الله عز وجل . فإن قلت : إنّ ( يفعل ) مثبت غير منفي ، فكان وجه الكلام : ما يفعل بي وبكم . قلت : أجل ، ولكن النفي في { وَمَآ أَدْرِى } لما كان مشتملاً عليه لتناوله { مَا } وما في حيزه : صح ذلك وحسن . ألا ترى إلى قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السماوات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] كيف دخلت الباء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها . و ( ما ) في ( ما يفعل ) يجوز أن تكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة . وقرىء : «يوحي» أي الله عز وجل .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين . ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } والشاهد من بني إسرائيل : عبد الله بن سلام ، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب . وتأمّله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له :
( 1026 ) إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ : ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « أما أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب . وأما أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته » فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإن علموا باسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك . فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا انتقصوه . قال : هذا ما كنت أخاف عليه يا رسول الله وأحذر . قال سعد بن أبي وقاص :
( 1027 ) ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزل : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ } الضمير للقرآن ، أي : على مثله في المعنى ، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك . ويدل عليه قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين } [ الشعراء : 196 ] ، { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الاولى } [ الأعلى : 18 ] ، { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } [ الشورى : 3 ] ويجوز أن يكون المعنى : إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك ، يعني كونه من عند الله . فإن قلت : أخبرني عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة النظم . قلت : الواو الأولى عاطفة لكفرتم على فعل الشرط ، كما عطفته ( ثم ) في قوله تعالى : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } [ فصلت : 52 ] وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد ، وأما الواو في ( وشهد شاهد ) فقد عطفت جملة قوله . { شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } على جملة قوله : ( كان من عند الله وكفرتم به ) ونظيره قولك : إن أحسنت إليك وأسأت ، وأقبلت عليك وأعرضت عني ، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما ، والمعنى : قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به ، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الإيمان في قوله : { فَئَامَنَ } مسبباً عن الشهادة على مثله : لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه ، وأنه من جنس الوحي وليس من كلام البشر ، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
{ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } لأجلهم وهو كلام كفار مكة ، قالوا : عامّة من يتبع محمداً السقاط ، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود ، فلو كان ما جاء به خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء . وقيل : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار : قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان خيراً ما سبقنا إليه رعاء البهم . وقيل : إن أمة لعمر أسلمت ، فكان عمر يضربها حتى يفتر ثم يقول لولا أني فترت لزدتك ضرباً ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان ما يدعو إليه محمد حقاً ما سبقتنا إليه فلانة . وقيل : كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه . فإن قلت : لا بدّ من عامل في الظرف في قوله : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } ومن متعلق لقوله : { فَسَيَقُولُونَ } وغير مستقيم أن يكون { فَسَيَقُولُونَ } هو العامل في الظرف ، لتدافع دلالتي المضي والاستقبال ، فما وجه هذا الكلام؟ قلت : العامل في إذ محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، كما حذف في قوله : { فلما ذهبوا به } [ يوسف : 15 ] وقولهم : حينئذٍ الآن ، وتقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، فسيقولون هذا إفك قديم ، فهذا المضمر صحّ به الكلام ، حيث انتصب به الظرف وكان قوله : { فَسَيَقُولُونَ } مسبباً عنه كما صحَّ بإضمار أنّ قوله : { حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة : 214 ] لمصادفة ( حتى ) مجرورها ، والمضارع ناصبه . وقولهم : { إِفْكٌ قَدِيمٌ } كقولهم : أساطير الأوّلين { كتاب موسى } مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبراً مقدماً عليه ، وهو ناصب { إِمَاماً } على الحال ، كقولك : في الدار زيد قائماً . وقرىء : ومن قبله كتاب موسى ، على : وآتينا الذين قبله التوراة . ومعنى { إِمَاماً } : قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتم بالإمام { وَرَحْمَةً } لمن آمن به وعمل بما فيه { وهذا } القرآن { كتاب مُّصَدِّقٌ } لكتاب موسى . أو لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب . وقرىء «مصدق لما بين يديه» { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } حال من ضمير الكتاب في مصدق ، والعامل فيه ( مصدق ) ويجوز أن ينتصب حالاً عن كتاب لتخصصه بالصفة ، ويعمل فيه معنى الإشارة . وجوّز أن يكون مفعولاً لمصدق ، أي : يصدق ذا لسان عربي وهو الرسول . وقرىء : «لينذر» بالياء والتاء ، ولينذر : من نذر ينذر إذا حذر { وبشرى } في محل النصب معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
قرىء : «حسناً» بضم الحاء وسكون السين . وبضمهما ، وبفتحهما . وإحساناً ، وكرهاً ، بالفتح والضم ، وهما لغتان في معنى المشقة ، كالفقر والفقر . وانتصابه على الحال : أي : ذات كره . أو على أنه صفة للمصدر ، أي : حملاً ذا كُرهٍ { وَحَمْلُهُ وفصاله } ومدّة حمله وفصاله { ثلاثون شَهْراً } وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] بقيت للحمل ستة أشهر . وقرىء : «وفصله» والفصل والفصال : كالفطم والفطام . بناء ومعنى . فإن قلت : المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهي به ويتم : سمى فصالاً ، كما سمي المدّة بالأمد من قال :
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْ ... رِ وَمُودٍ إِذَا انتهى أَمَدُهْ
وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته . وقرىء : «حتى إذا استوى وبلغ أشدّه» وبلوغ الأشد : أن يكتهل ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه ، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين . وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ، ووجهه أن يكون ذلك أوّل الأشد ، وغايته الأربعين . وقيل : لم يبعث نبيّ قط إلا بعد أربعين سنة . والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها : نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه . وقيل في العمل المرضي : هو الصلوات الخمس . فإن قلت : ما معنى ( في ) في قوله : { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذريتى } ؟ قلت : معناه : أن يجعل ذريّته موقعاً للصلاح ومظنة له كأنه قال : هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم ونحوه :
يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي ... { مِنَ المسلمين } من المخلصين . وقرىء : «يتقبل» ويتجاوز ، بفتح الياء ، والضمير فيهما لله عز وجل . وقرئا بالنون . فإن قلت : ما معنى قوله : { فِى أصحاب الجنة } ؟ قلت : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، تريد : أكرمني في جملة من أكرم منهم ، ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال ، على معنى : كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم { وَعْدَ الصدق } مصدر مؤكد؛ لأن قوله : يتقبل ، ويتجاوز : وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز . وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمّه أم الخير وفي أولاده ، واستجابة دعائه فيهم . وقيل : لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو وولداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنه .
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
{ والذى قَالَ لوالديه } مبتدأ خبره : أولئك الذين حق عليهم القول . والمراد بالذي قال : الجنس القائل ذلك القول ، ولذلك وقع الخبر مجموعاً . وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وعن قتادة : هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه . وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام ، فأفف بهما وقال : ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو ، وهما من أجداده حتى أسألهما عما يقول محمد ، ويشهد لبطلانه أن المراد بالذي قال : جنس القائلين ذلك ، وأنّ قوله الذين حق عليهم القول : هم أصحاب النار ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم . وعن عائشة رضي الله عنها إنكار نزولها فيه ، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن :
( 1028 ) لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيها الناس ، هو الذي قال الله فيه : { والذى قَالَ لوالديه أُفٍّ لَّكُمَآ } فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله . وقرىء : «أف» بالكسر والفتح بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال : حس ، علم منه أنه متوجع ، واللام للبيان ، معناه : هذا التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غيركما . وقرىء «أتعدانني» بنونين . وأتعداني : بأحدهما . وأتعداني : بالإدغام . وقد قرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون ، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء ، ففتح الأولى تحرياً للتخفيف ، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما { أَنْ أُخْرَجَ } أن أُبعث وأخرج من الأرض . وقرىء : «أخرج» { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } يعني : ولم يبعث منهم أحد { يَسْتَغِيثَانِ الله } يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : { وَيْلَكَ } دعاء عليه بالثبور : والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك { فِى أُمَمٍ } نحو قوله : { فِى أصحاب الجنة } [ الأحقاف : 16 ] وقرىء : «أن» بالفتح ، على معنى : آمن بأن وعد الله حق .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
{ وَلِكُلٍّ } من الجنسين المذكورين { درجات مّمَّا عَمِلُواْ } أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أومن أجل ما عملوا منهما . فإن قلت : كيف قيل : درجات ، وقد جاء : الجنة درجات والنار دركات؟ قلت : يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب ، لاشتمال كل على الفريقين { وَلِيُوَفّيَهُمْ } وقرىء : بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه ، كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
ناصب الظرف هو القول المضمر قبل { أَذْهَبْتُمْ } وعرضهم على النار : تعذيبهم بها ، من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به ومنه قوله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [ غافر : 46 ] ويجوز أن يراد : عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها فقلبوا . ويدل عليه تفسير ابن عباس رضي الله عنه : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم } أي : ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم ، وقد ذهبتم به وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها . وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسمنة ، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا . وعنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي : وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1029 ) أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً ، فقال : " أأنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة . قالوا : نحن يومئذٍ خير . قال : بل أنتم اليوم خير " وقرىء : «أأذهبتم» بهمزة الاستفهام . و«آأذهبتم» بألف بين همزتين : «الهون» و«الهوان» وقرىء «عذاب الهوان» ، وقرىء : «يفسقون» بضم السين وكسرها .
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
الأحقاف : جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن . وقيل : بين عمان ومهرة . و { النذر } جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } من قبله { وَمِنْ خَلْفِهِ } ومن بعده . وقرىء : «من بين يديه ومن بعده» والمعنى : أنّ هوداً عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم : لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب؛ وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضي الله عنه : يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه . ومعنى { وَمِنْ خَلْفِهِ } على هذا التفسير ومن بعد إنذاره ، هذا إذا علقت ، وقد خلت النذر بقوله : أنذر قومه ، ولك أن تجعل قوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } اعتراضاً بين أنذر قومه وبين { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } ويكون المعنى : واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم؛ وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم .
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
الإفك : الصرف . يقال أفكه عن رأيه { عَنْ ءَالِهَتِنَا } عن عبادتها { بِمَا تَعِدُنَآ } من معاجلة العذاب على الشرك { إِن كُنتَ } صادقاً في وعدك .
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
فإن قلت : من أين طابق قوله تعالى : { إِنَّمَا العلم عِندَ الله } جواباً لقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } ؟ قلت : من حيث إنّ قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } فقال لهم : لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصواباً ، إنما علم ذلك عند الله ، فكيف ادعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم؟ ومعنى : «وأبلغكم» { مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } وقرىء بالتخفيف : أن الذي هو شأني وشرطي : أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي ، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين ، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه .
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ } في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهماً قد وضح أمره بقوله : { عَارِضًا } إما تمييزاً وإما حالاً . وهذا الوجه أعرب وأفصح . والعارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء . ومثله : الحبى والعنان ، من حبا وعنّ : إذا عرض . وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معروفة؛ بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة { بَلْ هُوَ } القول قبله مضمر ، والقائل : هود عليه السلام ، والدليل عليه قراءة من قرأ : «قال هود ، بل هو» وقرىء : «قل بل ما استعجلتم به هي ريح» ، أي قال الله تعالى : قل { تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ } تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبر عن الكثرة بالكلية . وقرىء يدمر كل شيء من دمر دماراً إذا هلك { لاَّ ترى } الخطاب للرائي من كان . وقرىء : «لا يرى» ، على البناء للمفعول بالياء والتاء ، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضي الله عنه : لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنم . ومنه بيت ذي الرمّة :
وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ ... وليست بالقوية . وقرىء : «لا ترى إلا مسكنهم» ، و«لا يرى إلا مسكنهم» . وروى أنّ الريح كانت كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة . وقيل : أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار . وروي : أوّل ما عرفوا به أنه عذاب : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم؛ فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنه ، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر . وروى أنّ هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس . وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء وتدمغهم بالحجارة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال :
( 1030 ) " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به وإذا رأى مخيلة : قام وقعد ، وجاء وذهب ، وتغير لونه ، فيقال له : يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول : إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : هذا عارض ممطرنا " فإن قلت : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح؟ قلت : الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده . وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل يعضد ذلك ويقوّيه .
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
{ إِن } نافية ، أي : فيما ما مكناكم فيه ، إلا أنّ { إِن } أحسن في اللفظ؛ لما فيه مجامعة ( ما ) مثلها من التكرير المستبشع . ومثله مجتنب ، ألا ترى أن الأصل في «مهما» : ( ماما ) فلبشاعة التكرير : قلبوا الألف هاء . ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
لَعَمْرُكَ مامَا بَانَ مِنْكَ لِضَارِبِ ... وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : لعمرك ما إن بان منك لضارب وقد جعلت إنْ صلة ، مثلها فيما أنشده الأخفش :
يُرَجّى الْمَرْءُ مَا إنْ لاَ يَرَاهُ ... وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الْخُطُوبُ
وتؤوّل بإنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه ، والوجه هو الأوّل ، ولقد جاء عليه غير آية في القرآن { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } ، [ مريم : 74 ] { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً } [ غافر : 82 ] وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحث على الاعتبار { مِّن شَىْءٍ } أي من شيء من الإغناء ، وهو القليل منه . فإن قلت بم انتصب { إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ } ؟ قلت : بقوله تعالى : { فَمَا أغنى } . فإن قلت : لم جرى مجرى التعليل؟ قلت : لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك : ضريته لإساءته وضربته إذا أساء؛ لأنك إذا ضربته في وقت إساءته؛ فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه؛ إلا أن «إذ» ، وحيث ، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك» .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
{ مَا حَوْلَكُمْ } يا أهل مكة { مِّنَ القرى } من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما . والمراد : أهل القرى . ولذلك قال : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
القربان : ما تقرب به إلى الله تعالى ، أي : اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله ، حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف ، والثاني : آلهة . وقرباناً : حال ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدلاً منه لفساد المعنى . وقرىء «قربانا» بضم الراء . والمعنى : فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } أي غابوا عن نصرتهم { وَذَلِكَ } إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء . وقرىء «إفكهم» ، والأفك والإفك : كالحذر والحذر . وقرىء : «وذلك إفكهم» أي : وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق . وقرىء : «أفكهم» على التشديد للمبالغة . وآفكهم : جعلهم آفكين . وآفكهم ، أي : قولهم الآفك ذو الإفك ، كما تقول قول كاذب ، وذلك إفك مما كانوا يفترون ، أي : بعض ما كانوا يفترون من الإفك .
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
« وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى صرط مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين »
« صرفنا إليك نفرا » أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك . وقرئ : صرفنا بالتشديد لأنهم جماعة . والنفر : دون العشرة . ويجمع أنفارا . وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه : لو كان ههنا أحد من أنفارنا « فلما حضروه » الضمير للقرآن . أي : فلما كان بمسمع منهم . أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وتعضده قراءة من قرأ فلما قضى أي أتم قراءته وفرغ منها « قالوا » قال بعضهم لبعض « أنصتوا » اسكتوا مستمعين . يقال : أنصت لكذا واسنتصت له . روى : أن الجن كانت تسترق السمع فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى : منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم . وقيل : بل أمر الله رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني : قالها ثلاثا فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت شيئا ؟ قلت : نعم رجالا سودا مستثفري ثياب بيض فقال : اولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفاً والسورة التي قرأها عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) فإن قلت كيف قالوا مِن بَعْدِ مُوسَى قلت عن عطاء رضي الله عنه أنهم كانوا على اليهودية وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنّ الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذلك قالت مِن بَعْدِ مُوسَى فإن قلت لم بعَّض في قوله مّن ذُنُوبِكُمْ قلت لأن من الذنوب مالا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم ونحوها ونحوه قوله عزّ وجل أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 3 4 ) فإن قلت هل للجن ثواب كما للإنس قلت اختلف فيه فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لقوله تعالى وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله والصحيح أنهم في حكم بني آدم لأنهم مكلفون مثلهم فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ونحوه قوله تعالى وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( الجن 12 )
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
{ بقادر } محله الرفع؛ لأنه خبر أن ، يدل عليه قراءة عبد الله «قادر» وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية على أن وما في حيزها . وقال الزجاج : لو قلت : ما ظننت أنّ زيداً يقائم : جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر . ألا ترى إلى وقوع بلى مقرّره للقدرة على كل شيء من البعث وغيره ، لا لرؤيتهم . وقرىء : «يقدر» ، ويقال : عييت بالأمر ، إذا لم تعرف وجهه . ومنه : { أَفَعَيِينَا بالخلق الاول } [ ق : 15 ] .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
{ أَلَيْسَ هذا بالحق } محكى بعد قول مضمر ، وهذا المضمر هو ناصب الظرف . وهذا إشارة إلى العذاب ، بدليل قوله تعالى : { فَذُوقُواْ العذاب } والمعنى : التهكم بهم ، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده ، وقولهم : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 138 ] .
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{ أُوْلُواْ العزم } أولوا الجد والثبات والصبر . و { مِنْ } يجوز أن تكون للتبعيض ، ويراد بأولى العزم : بعض الأنبياء . قيل : هم نوح ، صبر على أذى قومه : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده ، وإسحاق على ا لذبح ، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضرّ ، وموسى قال له قومه : إنا لمدركون ، قال : كلا إنّ معي ربي سيهدين ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها . وقال الله تعالى في آدم : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وفي يونس : { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] ويجوز أن تكون للبيان ، فيكون أولو العز صفة الرسل كلهم { وَلاَ تَسْتَعْجِل } لكفار قريش بالعذاب ، أي : لا تدع لهم بتعجيله؛ فإنه نازل بهم لا محالة ، وإن تأخر ، وأنهم مستقصرون حينئذٍ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها { سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ } أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة . أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام { فَهَلْ يُهْلَكُ } إلا الخارجون عن الاتعاظ به ، والعمل بموجبه . ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ : بلغ فهل يهلك : وقرىء «بلاغاً» ، أي بلغوا بلاغاً : وقرىء «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وفتحها ، من هلك وهلك . ونهلك بالنون { إِلاَّ القوم الفاسقون } .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1035 ) " من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا " .
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
{ وَصُدُّواْ } وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام : أو صدّوا غيرهم عنه . قال ابن عباس رضي الله عنه : هم المطعمون يوم بدر . وعن مقاتل : كانوا اثني عشر رجلاً من أهل الشرك يصدّون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر . وقيل : هم أهل الكتاب الذين كفروا وصدّوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام . وقيل : هو عامّ في كل من كفر وصدّ { أَضَلَّ أعمالهم } أبطلها وأحبطها . وحقيقته : جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها . أو جعلها ضالة في كفرهم معاصيهم ومغلوبة بها ، كما يضل الماء في اللبن . وأعمالهم : ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم : من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار . وقيل : أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصدّ عن سبيل الله : بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله .
{ والذين ءامَنُواْ } قال مقاتل : هم ناس من قريش . وقيل : من الأنصار . وقيل : هم مؤمنوا أهل الكتاب . وقيل : هو عام . وقوله : { وَءامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما يجب به الإيمان تعظيماً لشأنه وتعليماً ، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به . وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله : { وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ } وقيل : معناها إنّ دين محمد هو الحق ، إذ لا يرد عليه النسخ ، وهو ناسخ لغيره . وقرىء : «نزل وأنزل» ، على البناء للمفعول . ونزّل على البناء للفاعل ، ونزل بالتخفيف { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد .
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
{ ذَلِكَ } مبتدأ وما بعده خبره ، أي : ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني : كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق . ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً على هذا ، ومرفوعاً على الأوّل و { الباطل } ما لا ينتفع به . وعن مجاهد : الباطل الشيطان ، وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير { كذلك } مثل ذلك الضرب { يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم } والضمير راجع إلى الناس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم . فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين . أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السسيئات مثلاً لفوز المؤمنين .
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
{ لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وقدّم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول . وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد؛ لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه . وضرب الرقاب عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته من المقاتل ، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، وذلك أنهم كانوا يقولون : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته ، وضرب ما فيه عيناه إذا قتله ، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل كما ذكرنا في قوله : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم } [ الشورى : 30 ] على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه . ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الاعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] . { أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه ، من الشيء الثخين : وهو الغليظ . أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض { فَشُدُّواْ الوثاق } فأسروهم . والوثاق بالفتح والكسر : اسم ما يوثق به ( منا ) و ( فداء ) منصوبان بفعليهما مضمرين ، أي : فإمّا تمنون منا ، وإما تفدون فداء . والمعنى : التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يفادوهم . فإن قلت : كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت : أمّا عند أبي حنيفة وأصحابه فأحد أمرين : إمّا قتلهم وإمّا استرقاقهم ، أيهما رأى الإمام ، ويقولون في المنّ والفداء المذكورين في الآية : نزل ذلك في يوم بدر ثم نسخ . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء ، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق . ويجوز أن يراد بالمنّ : أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا . أو يمنّ عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية ، وكونهم من أهل الذمّة . وبالفداء أن يفادى بأساراهم أسارى المسلمين ، فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره ، خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين ، وأما الشافعي فيقول : للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين ، وهو : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمن . ويحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عروة الحجبي ، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي ، وفادى رجلاً برجلين من المشركين . وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأي . وقرىء : «فدى» بالقصر مع فتح الفاء . أو زار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع . قال الأعشى .
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراً
وسميت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بد من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت فكأنها وضعتها .
وقيل : أوزارها آثامها ، يعني : حتى يترك أهل الحرب . وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا . فإن قلت : ( حتى ) بم تعلقت؟ قلت : لا تخلو إما أن تتعلق بالضرب والشد : أو بالمن والفداء؛ فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رضي الله عنه : أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين . وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام . وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد؛ فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل { ذلك } أي الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك { لانتصر منهم } لا نتقم منهم ببعض أسباب الهلك : من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق . أو موت جارف ، { ولكن } أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين : بأن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب . وقرىء : «قتلوا» بالتخفيف والتشديد : وقتلوا . وقاتلوا . وقرىء : «فلن يضل أعمالهم» ، وتضل أعمالهم : على البناء للمفعول . ويضل أعمالهم من ضل . وعن قتادة : أنها نزلت في يوم أحد { عَرَّفَهَا لَهُمْ } أعلمها لهم وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة . قال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون ، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها . وعن مقاتل : إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله ، أو طيبها لهم ، من العرف : وهو طيب الرائحة . وفي كلام بعضهم : عزف كنوح القماري وعرف كفوح القماري . أو حددها لهم؛ فجنة كل أحد محدودة مفرزة عن غيرها ، من : عرف الدار وارفها . والعرف والأَرف ، الحدود .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
{ إِن تَنصُرُواْ } دين { الله } ورسوله { يَنصُرْكُمْ } على عدوكم ويفتح لكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
{ والذين كَفَرُواْ } يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره { فَتَعْساً لَّهُمْ } كأنه قال : أتعس الذين كفروا . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَضَلَّ أعمالهم } ؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعساً؛ لأنّ المعنى فقال : تعسا لهم ، أو فقضى تعسا لهم . وتعسا له : نقيض «لَعَاَّلَهُ» قال الأعشى :
فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا ... يريد : فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار { كَرِهُواْ } القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام ، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
دمره أهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به والمعنى دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة لأن التدمير يدل عليها أو للسنة لقوله عزّ وعلا : سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ ( الأحزاب 38 )
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
{ مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ } وليهم وناصرهم . وفي قراءة ابن مسعود «ولي الذين آمنوا» ويروى :
( 1036 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الشعب يوم أحد وقد فشت فيهم الجراحات ، وفيه نزلت ، فنادى المشركون : اعل هبل : فنادى المسلمون : الله أعلى وأجل ، فنادى المشركون : يوم بيوم والحرب سجال ، إن لنا عزى ولا عزى لكم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ، إن القتلى مختلفة أما قتلانا ففي الجنة أحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون " فإن قلت : قوله تعالى : { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } [ يونس : 30 ] مناقض لهذه الآية . قلت : لا تناقض بينهما ، لأن الله مولى عباده جميعاً على معنى أنه ربهم ومالك أمرهم؛ وأما على معنى الناصر فهو مول المؤمنين خاصة .
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
{ يَتَمَتَّعُونَ } ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل { وَيَأْكُلُونَ } غافلين غير مفكرين في العاقبة { كَمَا تَأْكُلُ الانعام } في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح { مَثْوًى لَّهُمْ } منزل ومقام .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
وقرىء : «وكائن» بوزن كاعن . وأراد بالقرية أهلها ، ولذلك قال : { أهلكناهم } كأنه قال : وكم من قوم هم أشد قوّة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم . ومعنى أخرجوك : كانوا سبب خروجك . فإن قلت : كيف قال : { فَلاَ ناصر لَهُمْ } ؟ وإنما هو أمر قد مضى . قلت : مجراه مجرى الحال المحكية ، كأنه قال : أهلكناهم فهم لا ينصرون .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
من زين له : هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله ، ومن كان على بينة من ربه أي على حجة من عنده وبرهان : وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرىء : «أمن كان على بينة من ربه» وقال تعالى : { سواء عَمَلِهِ واتبعوا } للحمل على لفظ { مِّن } ومعناه .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ } [ كمن هو خالد في النار ] ؟ قلت : هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في سلكه ، وهو قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِه } فكأنه قيل : أمثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار . فإن قلت : فلم عرّى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم . ونظيره قول القائل :
أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الْكِرَامَ وَأَنْ ... أُورَثَ ذُوداً شَصَائِصاً نَبلاً
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال : أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله ، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما أزنّ به فكأنه قال له : نعم مثلى يفرح بمرزأة الكرام وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائلةُ وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار ، ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبره : كمن هو خالد . وقوله : فيها أنهار ، داخل في حكم الصلة كالتكرير لها . ألا ترى إلى صحة قولك : التي فيها أنهار . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها أنهار ، وكأن قائلاً قال : وما مثلها؟ فقيل : فيها أنهار ، وأن يكون في موضع الحال ، أي : مستقرّة فيها أنهار ، وفي قراءة علي رضي الله عنه «أمثال الجنة» أي : ما صفاتها كصفات النار . وقرىء : «أسن» يقال : أسن الماء وأجن : إذا تغير طعمه وريحه . وأنشد ليزيد بن معاوية :
لَقَدْ سَقَتْنِي رُضَاباً غَيْرَ ذِي أَسنٍ ... كَالمِسْكِ فُتَّ عَلَى مَاءِ الْعَنَاقِيدِ
{ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } كما تتغير ألبان الدنيا ، فلا يعود قارصاً ولا حاذراً . ولا ما يكره من الطعوم «لذة» تأنيث لذّ ، وهو اللذيذ ، أو وصف بمصدر . وقرىء بالحركات الثلاث ، فالجر على صفة الخمر ، والرفع على صفة الأنهار ، والنصب على العلة ، أي : لأجل لذة الشاربين . والمعنى : ما هو إلا التلذذ الخالص ، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ، ولا آفة من آفات الخمر { مُّصَفًّى } لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره { مَآءً حَمِيماً } قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وانمازت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
هم المنافقون : كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولى العلم من الصحابة ، ماذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء . وقيل : كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء . وقيل : قالوه لعبد الله بن مسعود . وعن ابن عباس : أنا منهم ، وقد سميت فيمن سئل { ءانِفاً } وقرىء : «أنفاً» على فعل ، نصب على الظرف قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء : إذا ابتدأته . والمعنى : ماذا قال في أوّل وقت يقرب منا .
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
{ زَادَهُمْ } الله { هُدًى } بالتوفيق { وَءَاتَ اهم تقواهم } أعانهم عليها . أو أتاهم جزاء تقواهم . وعن السدي : بين لهم ما يتقون . وقرىء : «وأعطاهم» وقيل : الضمير في زادهم ، لقول الرسول أو لاستهزاء المنافقين .
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
{ أَن تَأْتِيَهُم } بدل اشتمال من الساعة ، نحو : { أن تطؤهم } من قوله : { رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات } [ الفتح : 25 ] ، وقرىء : «أن تأتهم» بالوقف على الساعة واستئناف الشرط ، وهي في مصاحف أهل مكة كذلك : فإن قلت : فما جزاء الشرط؟ قلت : قوله [ فأنى لهم ] . ومعناه : إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة ، يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذٍ ، كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] . فإن قلت : بم يتصل قوله : { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } على القراءتين؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول ، كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه . والأشراط : العلامات . قال أبو الأسود :
فَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جَعَلَتْ أَشْرَاط أَوَّلِهِ تَبْدُو
وقيل : مبعث محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم منها ، وانشقاق القمر ، والدخان . وعن الكلبي : كثرة المال والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام . وقرىء : «بَغِتَة» بوزن جَرِبَةَ ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو ، وأن يكون الصواب : بغتة ، بفتح العين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين قال : إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله ، وعلى التواضع وهضم النفس : باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك . والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم ، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور . أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار . ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى ، وأن يستغفر ويسترحم . وعن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به فقال : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله واستغفر لِذَنبِكَ } فأمر بالعمل بعد العلم وقال : { اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ الحديد : 20 ] إلى قوله : { سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } [ الحديد : 21 ] وقال : { واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } ثم قال بعد : { فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] وقال : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] ثم أمر بالعمل بعد .
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون : { لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } في معنى الجهاد { فَإِذآ أُنزِلَتْ } وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم ، وسقطوا في أيديهم ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس } [ النساء : 77 ] . { مُّحْكَمَةٌ } مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال . وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين . وقيل لها «محكمة» لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . وقيل : هي المحدثة؛ لأنها حين يحدث نزولها لا يتناولها النسخ ، ثم تنسخ بعد ذلك أو تبقى غير منسوخة . وفي قراءة عبد الله «سورة محدثة» وقرىء : «فإذا نزلت سورة و ذَكَرَ فيها القتالُ» على البناء للفاعل ونصب القتال { الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام { نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً وغيظاً ، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فأولى لَهُمْ } وعيد بمعنى : فويل لهم . وهو أفعل : من الولي وهو القرب . ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف ، أي : طاعة وقول معروف خير لهم . وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا ( طاعةٌ وقول ) وقول معروف ، بمعنى : أمرنا طاعة وقول معروف . وتشهد له قراءة أبيّ : يقولون طاعة وقول معروف { فَإِذَا عَزَمَ الامر } أي جدّ . والعزم والجد لأصحاب الأمر . وإنما يسندان إلى الأمر إسناداً مجازياً . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور } [ الشورى : 43 ] . { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } فيما زعموا من الحرص على الجهاد . أو : فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم .
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
عسيت وعسيتم : لغة أهل الحجاز . وأما بنو تميم فيقولون : عسى أن تفعل ، وعسى أن تفعلوا ، ولا يلحقون الضمائر ، وقرأ نافع بكسر السين وهو غريب ، وقد نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات؛ ليكون أبلغ في التوكيد . فإن قلت : ما معنى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ . . . . أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض } ؟ قلت : معناه : هل يتوقع منكم الإفساد؟ فإن قلت : فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا وهو عالم بما كان وبما يكون؟ قلت : معناه إنكم لما عهد منكم أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان : يا هؤلاء ، ما ترون؟ هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين منكم من الشواهد ولاح من المخايل { أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا؟ وقيل : إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض : بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام : بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات؟ وقرىء : «وليتم» . وفي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «تُوِلِّتُم» أي : إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم؟ وقرىء : «وتَقْطَعُوا» «وتقطعوا» من التقطيع والتقطع { أولائك } إشارة إلى المذكورين { لَّعَنَهُمُ الله } لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه وخذلهم ، حتى صموا عن استماع الموعظة ، وعموا عن إبصار طريق الهدى . ويجوز أن يريد بالذين آمنوا : المؤمنين الخلص الثابتين ، وأنهم يتشوفون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم ، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } ويتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، حتى لا يجسروا على المعاصي ، ثم قال : { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وأم بمعنى بل وهمزة التقرير ، للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر . وعن قتادة : إذاً والله يجدوا في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبروه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا . فإن قلت : لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها؟ قلت : أما التنكير ففيه وجهان : أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك . أو يراد على بعض القلوب : وهي قلوب المنافقين . وأما إضافة الأقفال؛ فلأنه يريد الأقفال المختصة بها ، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح . وقرىء : «إقفالها» على المصدر .
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
{ الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً لأنّ ، كقولك : إنّ زيداً عمرو مرّ به . سوّل لهم : سهل لهم ركوب العظائم ، من السول وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً { وأملى لَهُمْ } ومدّ لهم في الآمال والأماني . وقرىء : «وأملى لهم» يعني : إنّ الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم ، كقوله تعالى : { إنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } [ آل عمران : 178 ] وقرىء : «وأملى لهم» على البناء للمفعول ، أي : أمهلوا ومدّ في عمرهم . وقرىء : «سوّل لهم» ، ومعناه : كيد الشيطان زين لهم على تقدير حذف المضاف . فإن قلت : من هؤلاء؟ قلت : اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين لهم الهدى ، وهو نعته في التوراة . وقيل : هم المنافقون . الذين قالوا : هم اليهود ، والذين كرهوا ما نزل الله : المنافقون . وقيل عكسه ، وأنه قول المنافقين لقريظة والنضير : لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم . وقيل : { بَعْضِ الأمر } : التكذيب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه . وقيل : هو قول أحد الفريقين للمشركين : سنطيعكم في التظافر على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد معه . ومعنى : { فِى بَعْضِ الأمر } في بعض ما تأمرون به . أو في بعض الأمر الذي يهمكم { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } وقرىء : «إسرارهم» على المصدر ، قالوا ذلك سراً فيما بينهم ، فأفشاه الله عليهم . فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذٍ؟ وقرىء : «توفاهم» ويحتمل أن يكون ماضياً ، ومضارعاً قد حذفت إحدى تاءيه ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } [ النساء : 97 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية الله إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره { ذَلِكَ } إشارة إلى التوفي الموصوف { مَآ أَسْخَطَ الله } من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . و { رِضْوَانَهُ } : الإيمان برسول الله .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
{ أضغانهم } أحقادهم وإخراجها : إبرازها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين . وإظهارهم على نفاقهم وعداوتهم لهم ، وكانت صدورهم تغلى حنقاً عليهم { لاريناكهم } لعرفناكهم ودللناك عليهم . حتى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك { بسيماهم } بعلامتهم : وهو أن يسمهم الله تعالى بعلامة يُعلمون بها . وعن أنس رضي الله عنه :
( 1037 ) ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين : كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق . فإن قلت : أي فرق بين اللامين في { فَلَعَرَفْتَهُم } و { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } ؟ قلت : الأولى هي الداخلة في جواب ( لو ) كالتي في { لأريناكهم } كررت في المعطوف ، وأما اللام في { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف { فِى لَحْنِ القول } في نحوه وأسلوبه . وعن ابن عباس : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب؟ ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب . وقيل : اللحن : أن تلحن بكلامك ، أي : تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية . قال :
وَلَقَدْ لَحَنْتُ لَكُم لِكَيْمَا تَفْقَهُوا ... وَاللَّحْنُ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ
وقيل للمخطىء : لاحن؛ لأنه يعدل بالكلام عن الصواب .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
{ أخباركم } ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم ، ليعلم حسنها من قبيحها؛ لأن الخبر على حسب المخبر عنه : إن حسناً فحسن ، وإن قبيحاً فقبيح ، وقرأ يعقوب : ونبلو ، بسكون الواو على معنى : ونحن نبلو أخباركم . وقرىء : «وليبلونكم ويعلم» ويبلو بالياء . وعن الفضيل : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللَّهم لا تبلنا ، فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
{ وَسَيُحْبِطُ أعمالهم } التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب؛ لأنها مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم باطلة ، وهم قريظة والنضير . أو سيحبط أعمالهم التي عملوها ، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول ، أي : سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم ، بل يستنصرون بها ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم . وقيل : هم رؤساء قريش ، والمطعمون يوم بدر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
{ وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } أي لا تحبطوا الطاعات بالكبائر ، كقوله تعالى : { لا تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } [ الحجرات : 2 ] إلى أن قال : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } [ الحجرات : 20 ] وعن أبي العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزلت { وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم . وعن حذيفة : فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم . وعن ابن عمر : كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً ، حتى نزل { وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزل { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها . وعن قتادة رحمه الله : رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء . وقيل : لا تبطلوها بمعصيتهما . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشك والنفاق ، وقيل : بالعجب؛ فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب . وقيل : ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
{ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } قيل : هم أصحاب القليب ، والظاهر العموم .
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
{ فَلاَ تَهِنُواْ } ولا تضعفوا ولا تذلوا للعدوّ ( و ) لا { تَدْعُواْ إِلَى السلم } وقرىء : «السلم» وهم المسالمة { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي الأغلبون الأقهرون { والله مَعَكُمْ } أي ناصركم . وعن قتادة : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها بالموادعة . وقرىء : «لا تدّعوا من ادّعى القوم وتداعوا : إذا دعوا . نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموه . وتدعوا : مجزوم لدخوله في حكم النهى . أو منصوب لإضمار أنْ . ونحو قوله تعالى : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } : قوله تعالى : { إِنَّكَ أَنتَ الاعلى } [ طه : 68 ] . { وَلَن يَتِرَكُمْ } من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم ، أو حربته ، وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله ، من الوتر وهو الفرد؛ فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1038 ) " من فاتته صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله " أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً .
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } ثواب إيمانكم وتقواكم { وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أمْوَالَكُمْ } أي ولا يسألكم جميعها ، إنما يقتصر منكم على ربع العشر ، ثم قال : { إِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } أي يجهدكم ويطلبه كله ، والإحفاء : المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح . وأحفى شاربه : إذا استأصله { تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أضغانكم } أي تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتضيق صدوركم لذلك ، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم ، والضمير في { يُخْرِجَ } لله عز وجل ، أي يضغنكم بطلب أموالكم . أو للبخل؛ لأنه سبب الاضطغان ، وقرىء «تخرج» بالنون . ويخرج ، بالياء والتاء مع فتحهما ورفع أضغانكم { هؤلاءآء } موصول بمعنى الذين صلته { تُدْعَوْنَ } أي أنتم الذين تدعون . أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفهم ، كأنهم قالوا : وما وصفنا؟ فقيل : تدعون { لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } قيل : هي النفقة في الغزو . وقيل : الزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، فمنكم ناس يبخلون به ، ثم قال : { وَمَن يَبْخَلْ } بالصدقة وأداء الفريضة . فلا يتعداه ضرر بخله ، وإنما { يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } يقال بخلت عليه وعنه ، وكذلك ضننت عليه وعنه . ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه ، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } معطوف على : وإن تؤمنوا وتتقوا { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كقوله تعالى : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] وقيل : هم الملائكة . وقيل : الأنصار . وعن ابن عباس : كندة والنخع . وعن الحسن : العجم . وعن عكرمة : فارس والروم .
( 1039 ) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه وقال : " هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس "
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( 1040 ) " من قرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم كان حقاً على الله أن يسقيه من أنهار الجنة "
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
هو فتح مكة ، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح ، وجيء به على لفظ الماضي على عادة ربّ العزة سبحانه في أخباره؛ لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخْبِر ما لا يخفى . فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة : وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن يكون فتح مكة - من حيث إنه جهاد للعدوّ - سبباً للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح . وقيل : هو فتح الحديبية ، ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم . وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح . فإن قلت : كيف يكون فتحاً وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبيناً . وعن موسى بن عقبة :
( 1041 ) أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحابه : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت وصد هدينا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا » ، وعن الشعبي :
( 1042 ) نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب : أن بويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس؛ وبلغ الهدى محله ، وأطعموا نخل خيبر ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة . وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد - وقيل : هو فتح خيبر ، وقيل : فتح الروم . وقيل : فتح الله له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه . وقيل : معناه قضينا لك قضاء بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل؛ لتطوفوا بالبيت : من الفتاحة وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } يريد : جميع ما فرط منك . وعن مقاتل : ما تقدم في الجاهلية وما بعدها . وقيل : ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد { نَصْراً عَزِيزاً } فيه عز ومنعة - أو وصف بصفة المنصور إسناداً مجازياً أو عزيزاً صاحبه .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
{ السكينة } السكون كالبهيتة للبهتان ، أي : أنزل الله في قلوبهم السكون ، والطمأنينة بسبب الصلح والأمن ، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة غب القتال ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم ، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع { لِيَزْدَادُواْ إيمانا } بالشرائع مقروناً إلى إيمانهم وهو التوحيد . عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن أوّل ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثم الحج ، ثم الجهاد ، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم . أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عزّ وجل ولرسوله ، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيماناً إلى إيمانهم . وقيل : أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه . وقع السوء : عبارة عن رداءة الشيء وفساده؛ والصدق عن جودته وصلاحه ، فقيل في المرضى الصالح من الأفعال : فعل صدق ، وفي المسخوط الفاسد منها : فعل سوء . ومعنى { ظَنَّ السوء } ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهراً { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم - والسوء : الهلاك والدمار . وقرىء : «دائرة السوء» بالفتح ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها ، فهي عندهم دائر سوء ، وعند المؤمنين دائرة صدق . فإن قلت : هل من فرق بين السُّوء والسَّوء؟ قلت : هما كالكُره والكَره والضُّعْف والضَّعْف ، من ساء ، إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء . وأما السُّوء بالضم فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير . يقال : أراد به السوء وأراد به الخير؛ ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموماً؛ وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا وأما دائرة السوء بالضم ، فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة ، فصح أن يقع عليه اسم السوء ، كقوله عزّ وعلا : { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [ الأحزاب : 17 ] .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
{ شاهدا } تشهد على أمّتك ، كقوله تعالى : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] . { لّتُؤْمِنُواْ } الضمير للناس { وَتُعَزّرُوهُ } ويقووه بالنصرة { وَتُوَقّرُوهُ } ويعظموه { وَتُسَبّحُوهُ } من التسبيح . أو من السبحة ، والضمائر لله عز وجلّ والمراد بتعزيز الله : تعزيز دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم . ومن فرق الضمائر فقد أبعد . وقرىء : «لتؤمنوا» «وتعزروه» «وتوقروه» «وتسبحوه» بالتاء . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته . وقرىء : «وتعزروه» بضم الزاي وكسرها . وتعزروه بضم التاء والتخفيف ، وتعززوه بالزايين . وتوقروه من أوقره بمعنى وقره . وتسبحوا الله { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } عن ابن عباس رضي الله عنهما : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر .
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
لما قال { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على طريق التخييل فقال : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين : هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] والمراد : بيعة الرضوان { فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
( 1043 ) بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت ، وعلى أن لا نفرّ ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً ، اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع القوم . وقرىء : «إنما يبايعون لله» أي : لأجل الله ولوجهه ، وقرىء : «ينكث» بضم الكاف وكسرها ، وبما عاهد وعهد { فَسَيُؤْتِيهِ } بالنون والياء ، يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ، وهي لغة تهامة . ومنها قوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { والموفون بِعَهْدِهِمْ } [ البقرة : 177 ] .
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
هم الذين خلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل . وذلك
( 1044 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ، ليعلم أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عُقْرِ داره بالمدينة وقتلوا أصحابه ، فيقاتلهم ، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم . وقرىء : «شغلتنا» بالتشديد { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } تكذيب لهم في اعتذارهم . وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق؛ وطلبهم للاستغفار أيضاً ليس بصادر عن حقيقة { فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ } فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ } ما يضركم من قتل أو هزيمة { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } من ظفر وغنيمة وقرىء : «ضراً» بالفتح والضم . الأهلون : جمع أهل . ويقال : أهلات ، على تقدير تاء التأنيث . كأرض وأرضات ، وقد جاء أهلة . وأمّا أهال ، فاسم جمع ، كليال .
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
وقرىء : «إلى أهلهم» «وَزَيَّنَ» ، على البناء للفاعل وهو الشيطان ، أو الله عز وجل ، وكلاهما جاء في القرآن { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] ، { وزينا لهم أعمالهم } [ النمل : 4 ] والبور : من بار ، كالهلك : من هلك ، بناء ومعنى؛ ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ . والمعنى : وكنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم . أو هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه .
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)
{ للكافرين } مقام مقام لهم ، للإيذان بأنّ من لم يجمع بين الإيمانين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر ، ونكر { سَعِيراً } لأنها نار مخصوصة ، كما نكر { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض } يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } رحمته سابقة لغضبه ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر ، ويغفر الكبائر بالتوبة .
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
{ سَيَقُولُ المخلفون } الذين تخلفوا عن الحديبية { إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ } إلى غنائم خيبر { أَن يُبَدّلُواْ كلام الله } وقرىء : «كلم الله» أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً . وقيل : هو قوله تعالى : { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } [ التوبة : 83 ] «تحسدوننا» أن نصيب معكم من الغنائم . قرىء : بضم السين وكسرها { لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يفهمون إلا فهماً { قَلِيلاً } وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] فإن قلت : ما الفرق بين حرفي الإضراب؟ قلت : الأوّل إضراب معناه : ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد . والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين ، إلى وصفهم بما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه .
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ } هم الذين تخلفوا عن الحديبية { إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني بني حنيفة قوم مسيلمة ، وأهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عند أبي حنيفة ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب . والمجوس تقبل منهم الجزية ، وعن الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب . وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد وفاته . وكيف يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى : { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } [ التوبة : 83 ] وقيل : هم فارس والروم . ومعنى { يُسْلِمُونَ } ينقادون ، لأنّ الروم نصارى ، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية . فإن قلت : عن قتادة أنهم ثقيف وهوازن ، وكان ذلك في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : إن صح ذلك فالمعنى : لن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين . أو على قول مجاهد : كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم { كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ } يريد في غزوة الحديبية . أو يسلمون . معطوف على تقاتلونهم ، أي : يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة ، أو الإسلام ، لا ثالث لهما . وفي قراءة أبيّ : «أو يسلموا» بمعنى : إلى أن يسلموا .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
نفى الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو . وقرىء : «ندخله» «ونعذبه» بالنون .
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
هي بيعة الرضوان ، سميت بهذه الآية ، وقصتها :
( 1045 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث خِراش بن أمّية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر رضي الله عنه ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي ، لما عرف من عداوتي إياهم وما بمكة عدويّ يمنعني ، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم : عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت بحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته ، فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة . قال جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها . وقيل :
( 1046 ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها . قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه . فرفعت الغصن عن ظهره ، فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وقيل : ألفاً وأربعمائة ، وقيل : ألفاً وثلثمائة { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه { فَأنزَلَ السكينة } أي : الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم { وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً } وقرىء : «وآتاهم» وهو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة . وعن الحسن : فتح هجر ، وهو أجلّ فتح : اتسعوا بثمرها زماناً { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } هي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليهم ، ثم أتاه عثمان بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق .
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
{ وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً } وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } المغانم يعني مغانم خيبر { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } يعني أيدي أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا . وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح { وَلِتَكُونَ } هذه الكفة { ءَايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه تعالى ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } ويزيدكم بصيرة ويقيناً ، وثقة بفضل الله .
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
{ وأخرى } معطوفة على هذه ، أي : فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وقال : لم تقدروا عليها لما كان فيها من الجوالة { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها وغنمكموها . ويجوز في { أخرى } النصب بفعل مضمر ، يفسره { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها . وأما { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } فصفة لأخرى ، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا ، وقد أحاط بها : خبر المبتدأ ، والجرّ بإضمار رُبّ . فإن قلت : قوله تعالى : { وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } [ الفتح : 20 ] كيف موقعه؟ قلت : هو كلام معترض . ومعناه : ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك . ويجوز أن يكون المعنى : وعدكم المغانم ، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها ، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد الله بها صادقاً ، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية ، ويزيدكم بذلك هداية وإيقاناً .
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
{ وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ } من أهل مكة ولم يصالحوا . وقيل : من حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا { سُنَّةَ الله } في موضع المصدر المؤكد ، أي : سن الله غلبة أنبيائه سنة ، وهو قوله تعالى : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] .
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{ أَيْدِيهِمْ } أيدي أهل مكة ، أي : قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله ، على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى
( 1047 ) أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . وقرىء : «تعملون» بالتاء والياء .
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
وقرىء : «والهدي» والهدي : بتخفيف الياء وتشديدها ، وهو ما يهدى إلى الكعبة : بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في صدّوكم . أي : صدّوكم وصدّوا الهدي وبالجر عطفاً على المسجد الحرام ، بمعنى : وصدّوكم عن نحر الهدى { مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } محبوساً عن أن يباع ، وبالرفع على : وصدّ الهدي . ومحله : مكانه الذي يحل فيه نحره ، أي يجب . وهذا دليل لأبي حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم . فإن قلت : فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وإنما نحر هديهم بالحديبية؟ قلت : بعض الحديبية من الحرم . وروى أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ، ومصلاه في الحرم . فإن قلت : فإذن قد نحر في الحرم ، فلم قيل : { مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } ؟ قلت : المراد المحل المعهود وهو منى { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة للرجال والنساء جميعاً . و { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم . والمعرة : مفعلة ، من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه . و { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق بأن تطؤهم ، يعني : أن تطئوهم غير عالمين بهم . والوطء والدوس : عبارة عن الإيقاع والإبادة . قال :
وَوَطِئْتَنَا وَطْأَ عَلَى حَنَقٍ ... وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1048 ) " وإن آخر وطأة وطئها الله بِوَجٍّ " والمعنى : أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفي الأماكن : فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة : لما كف أيديكم عنهم ، وحذف جواب «لولا» لدلالة الكلام عليه . ويجوز أن يكون { لَوْ تَزَيَّلُواْ } كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون { لَعَذَّبْنَا } هو الجواب . فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون . قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير . فإن قلت : قوله تعالى : { لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشآءُ } تعليل لماذا؟ قلت : لما دلت عليه الآية وسيقت له : من كف الأيدي عن أهل مكة ، والمنع من قتلهم؛ صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، كأنه قال : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته؛ أي : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم . أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم { لَوْ تَزَيَّلُواْ } لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض : من زاله يزيله . وقرىء : «لو تزايلوا» .
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
{ إِذْ } يجوز أن يعمل فيه ما قبله . أي : لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام في ذلك الوقت ، وأن ينتصب بإضمار اذكر . والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة المؤمنين - والحمية الأنفة والسكينة والوقار - ما روى
( 1049 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف ، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتبوا بينهم كتاباً ، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللَّهم ، ثم قال : «اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة» فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، فهمَّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه ، فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا . و { كَلِمَةَ التقوى } بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله : قد اختارها الله لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم أولى بالهداية من غيرهم . وقيل : هي كلمة الشهادة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد . ومعنى إضافتها إلى التقوى : أنها سبب التقوى وأساسها . وقيل : كلمة أهل التقوى . وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله : «وكانوا أهلها وأحق بها» ، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج .
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
( 1050 ) رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت . ومعنى : { صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا } صدقه في رؤياه ولم يكذبه - تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علواً كبيراً - فحذف الجارّ وأوصل الفعل ، كقوله تعالى : { صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] . فإن قلت : بم تعلق { بالحق } ؟ قلت : إمّا بصدق ، أي : صدقه فيما رأى ، وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق : أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص ، وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يتعلق بالرؤيا حالاً منها أي : صدقه الرؤيا ملتبساً بالحق ، على معنى أنها لم تكن من أضغاث الأحلام . ويجوز أن يكون { بالحق } قسماً : إمّا بالحق الذي هو نقيض الباطل . أو بالحق الذي هو من أسمائه . و { لَتَدْخُلُنَّ } جوابه . وعلى الأوّل هو جواب قسم محذوف أي والله لتدخلن . فإن قلت : ما وجه دخول { إِن شَاءَ الله } في أخبار الله عز وجل؟ قلت : فيه وجوه : أن يعلق عدته بالمشيئة تعليماً لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك ، متأدّبين بأدب الله ، ومقتدين بسنته . وأن يريد : لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله ولم يمت منكم أحداً ، أو كان ذلك على لسان ملك ، فأدخل الملك إن شاء الله . أو هي حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقصّ عليهم . وقيل : هو متعلق بآمنين { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من دون فتح مكة { فَتْحاً قَرِيباً } وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
{ بالهدى وَدِينِ الحق } بدين الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على جنس الدين كله ، يريد : الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب : وقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة . وقيل : هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات . وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه من فتح مكة { وكفى بالله شَهِيداً } على أنّ ما وعده كائن . وعن الحسن رضي الله عنه : شهد على نفسه أنه سيظهر دينك .
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{ مُحَمَّدٌ } إما خبر مبتدأ ، أي : هو محمد لتقدّم قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } [ الفتح : 28 ] وإما مبتدأ ، ورسول الله : عطف بيان . وعن ابن عامر أنه قرأ : رسول الله ، بالنصب على المدح { والذين مَعَهُ } أصحابه { أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } جمع شديد ورحيم . ونحوه { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] ، { واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] ، { بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وعن الحسن رضي الله عنه : بلغ من تشدّدهم على الكفار : أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم؛ وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه ، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء . وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله ، وكذلك التقبيل . قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئاً من جسده . وقد رخص أبو يوسف في المعانقة . ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدّد وهذا التعطف : فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه ، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة . وكف الأذى . والمعونة ، والاحتمال ، والأخلاق السجيحة ووجه من قرأ : «أشداء ، ورحماء» بالنصب - : أن ينصبهما على المدح ، أو على الحال بالمقدّر في { مَعَهُ } ، ويجعل { تَرَاهُمْ } الخبر { سيماهم } علامتهم . وقرىء : «سيماؤهم» وفيها ثلاث لغات : هاتان . والسيمياء ، والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود ، وقوله تعالى : { مِّنْ أَثَرِ السجود } يفسرها ، أي : من التأثير الذي يؤثره السجود ، وكان كل من العليين : عليّ بن الحسين زين العابدين ، وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك ، يقال له : ذو الثفنات؛ لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير . وقرىء : «من أثر السجود» و«من آثار السجود» ، وكذا عن سعيد بن جبير : هي السمة في الوجه . فإن قلت : فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1051 ) " لا تعلبوا صوركم " ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك ، فلا تعلب وجهك ، ولا تشن صورتك . قلت : ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة . وذلك رياء ونفاق يستعاذ بالله منه ، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصاً لوجه الله تعالى . وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ، ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير ، فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق . وقيل : هو صفرة الوجه من خشية الله . وعن الضحاك : ليس بالندب في الوجوه ، ولكنه صفرة .
وعن سعيد بن المسيب : ندى الطهور وتراب الأرض . وعن عطاء رحمه الله : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل ، كقوله :
( 1052 ) «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» { ذَلِكَ } الوصف { مَثَلُهُمْ } أي وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعاً ، ثم ابتدأ فقال : { كَزَرْعٍ } يريد : هم كزرع . وقيل : تم الكلام عند قوله : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } ثم ابتديء : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرىء : «الأنجيل» بفتح الهمزة { شَطْأَهُ } فراخه . يقال : أشطا الزرع إذا فرّخ . وقرىء : «شطأه» بفتح الطاء . وشطاه ، بتخفيف الهمزة : وشطاءه بالمدّ . وشطه ، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها . وشطوه ، بقلبها واواً { فَآزَرَهُ } من المؤازرة وهي المعاونة . وعن الأخفش : أنه أفعل . وقرىء : «فأزره» بالتخفيف والتشديد ، أي : فشدّ أزره وقوّاه . ومن جعل { آزَرَ } أفعل ، فهو في معنى القراءتين { فاستغلظ } فصار من الدقة إلى الغلظ { فاستوى على سُوقِهِ } فاستقام على قصبه جمع ساق . وقيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعليّ . وهذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، قام وحده . ثم قوّاه الله بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . فإن قلت : قوله : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لماذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ } لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك . ومعنى { مِنْهُم } البيان ، كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1053 ) " من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قدّمه وأقدمه : منقولان بتثقيل الحشو والهمزة ، مِنْ قَدَمَهُ إذا تقدّمه ، في قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } [ هود : 98 ] ونظيرهما معنى ونقلاً : سلفه وأسلفه . وفي قوله تعالى : { لاَ تُقَدّمُواْ } من غير ذلك مفعول : وجهان ، أحدهما : أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم . والثاني : أن لا يقصد قصد مفعول ولا حذفه ، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة ، كأنه قيل : لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ، ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى : { هُوَ الذى * لاَ إله } [ غافر : 68 ] ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم ، كوجه وبين . ومنه مقدّمة الجيش خلاف ساقته ، وهي الجماعة المتقدّمة منه . وتعضده قراءة من قرأ : «لا تقدموا» بحذف إحدى تاءي تتقدموا ، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه ، وأشدّ ملاءمة لبلاغة القرآن ، والعلماء له أقبل . وقرىء : «لا تقدموا» من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليهما . وحقيقة قولهم : جلست بين يدي فلان ، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً ، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز ، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً . ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان : وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة : والمعنى : أن لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل . وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعليه يدور تفسير ابن عباس رضي الله عنه . وعن مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه على لسان رسوله . ويجوز أن يجري مجرى قولك : سرني زيد وحسن حاله ، وأعجبت بعمرو وكرمه . وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوّة الاختصاص ، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى : سلك له ذلك المسلك . وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم فيما يتولوه من رفع أصواتهم فوق صوته : لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص القوي : كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت ، ويخافت لديه بالكلام . وقيل :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل . إلا الثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة ، فاعتزيا لهم إلى بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم ، فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
« بئسما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما » فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت ، أي : لا تعملوا شيئاً من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن مسروق :
دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه ، فقالت للجارية : اسقه عسلاً ، فقلت : إني صائم ، فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم . وفيه نزلت . وعن الحسن :
أنّ أناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر . وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن تزول الشمس . وعند الشافعي : يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن الحسن أيضاً : لما استقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتديء وعن قتادة : ذكر لنا أنّ ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيه كذا لكان كذا ، فكره الله ذلك منهم وأنزلها . وقيل : هي عامة في كل قول وفعل؛ ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب ، وأن لا يمشي بين يديه إلا لحاجة ، وأن يستأني في الافتتاح بالطعام { واتقوا } فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهى عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه ، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه ، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار . فتنهاه أوّلاً عن عين ما قارفه ، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لما تقولون { عَلِيمٌ } بما تعملون ، وحق مثله أن يتقى ويراقب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
إعادة النداء عليهم : استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل ، وتحريك منهم لئلا يفترقوا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم . وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به ، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملاً بما يحدوه عليه . وارتداعاً عما يصده عنه ، وانتهاء إلى كل خير ، والمراد بقوله : { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوت ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم . وبقوله : ولا تجهروا له بالقول : إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت ، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللبين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم ، عاملين بقوله عز اسمه : { وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ } [ الفتح : 9 ] وقيل معنى : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } لا تقولوا له : يا محمد ، يا أحمد ، وخاطبوه بالنبوّة . قال ابن عباس :
لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله ، وعن عمر رضي الله عنه :
أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار لا يسمعه حتى يستفهمه
وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد : أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر : ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأنّ ذلك كفر ، والمخاطبون مؤمنون ، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير ، ولم يتناول النهى أيضاً رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث ، أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين :
«اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتاً .
يروى : أنّ غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه ، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته . وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه ، وفي قراءة ابن مسعود «لا ترفعوا بأصواتكم» والباء مزيدة محذوّ بها حذر التشديد في قول الأعلم الهذلي :
رَفَعْتُ عَيْنِي بِالْحِجَا ... زِ إِلى أُنَاسٍ بِالمَنَاقِبْ
وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد ، تخيلاً أن يكون ما دون الشديد مسوغاً لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة ، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون . وعن ابن عباس :
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جمهوري الصوت ، فكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته . وعن أنس
أن هذه الآية لما نزلت : فقد ثابت ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بشأنه ، فدعاه ، فسأله فقال : يا رسول الله ، لقد أنزلت إليك هذه الآية ، وإني رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة " . وأمّا ما يروى عن الحسن : أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمحمله والخطاب للمؤمنين : على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهي ، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم ، فيقتدي بهم ضعفة المسلمين . وكان التشبيه في محل النصب ، أي : لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا : أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً ، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني : الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } منصوب الموضع ، على أنه مفعول له ، وفي متعلقه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمعنى النهي ، فيكون المعنى : انتهوا عما نهيتهم عنه لحبوط أعمالكم ، أي : لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف ، كقوله تعالى : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] والثاني : أن يتعلق بنفس الفعل ، ويكون المعنى : أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط ، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط : جعل كأنه فعل لأجله ، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] فإن قلت : لخص الفرق بين الوجهين . قلت : تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له ، كأنهما شيء واحد ، ثم يصب النهي عليهما جميعاً صباً .
وفي الأوّل يقدر النهي موجهاً على الفعل على حياله ، ثم يعلل له منهياً عنه . فإن قلت : بأي النهيين تعلق المفعول له؟ قلت : بالثاني عند البصريين ، مقدراً إضماره عند الأوّل ، كقوله تعالى : { اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] وبالعكس عند الكوفيين ، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل : وقراءة ابن مسعود : «فتحبط أعمالكم» أظهر نصاً بذلك؛ لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسبباً عما قبله ، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } [ طه : 81 ] والحبوط من حبطت الإبل : إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها ، وربما هلكت . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حَبَطاً أو يُلِمُ ومن أخواته ، حبجت الإبل» إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك . وأحبض عمله : مثله أحبطه . وحبط الجرح وحبر : إذا غفر ، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد : جعل العمل السيء في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرص لمن يصاب به ، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال . وقد دلت الآية على أمرين هائلين ، أحدهما : أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله . والثاني : أن في آثامه ما لا يدري أنه محبط ، ولعله عند الله كذلك؛ فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ .
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
{ امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } من قولك : امتحن فلان لأملا كذا وجرب له ، ودرب للنهوض به . فهو مضطلع به غير وان عنه . والمعنى أنهم صبر على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها . أو وضع الامتحان موضع المعرفة؛ لأنّ تحقق الشيء باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى ، وتكون اللام متعلقة بمحذوف ، واللام هي التي في قولك : أنت لهذا الأمر ، أي كائن له ومختص به قال :
أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَر ... أَعَدَّاءٌ مَنْ لِلْيَعْمُلاَتِ عَلَى الْوَجَى
وهي مع معمولها منصوبة على الحال . أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها ، ويعلم أنهم متقون؛ لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها . وقيل أخلصها للتقوى . من قولهم : امتحن الذهب وفتنه ، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبشه ونقاه . وعن عمر رضي الله عنه : أذهب الشهوات عنها . والامتحان : افتعال ، من محنه ، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد . قال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته . وأنشد :
أَتَتْ رَذَايَا بَادِياً كِلاَلُهَا ... قَدْ مَحَنَتْ واضطربت آطَالُهَا
قيل : أنزلت في الشيخين رضي الله عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار . وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً لأنّ المؤكدة . وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً . والمبتدأ : اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة : مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم ، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء .
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام . ومن لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان . فإن قلت : فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما أنّ المنادي والمنادى في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني : لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية . ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد ، والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار . لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها الظاهرة كان مطلقاً بغير تعيين واختصاص ، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه من البرّ والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة . والحجرة : الرقعة والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة . والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وحظيرة الإبل تسمى الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة ، وجمعها : الحجرات بضمتين ، «والحجرات» بفتح الجيم ، والحجرات بسكينها . وقرىء بهنّ جميعاً ، والمراد : حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة . ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه ، وبعض من وراء تلك ، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان حرمته . والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم تولوه جميعاً ، فقد ذكر الأصم : أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس . والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون : يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة . ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإنَّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم . وروي :
أن وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد ، فجعلوا ينادونه : محمد اخرج إلينا ، فاستيقظ فخرج ونزلت :
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال : «هم جفاة بني تميم ، لولا أنهم من أشدّ الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» فورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر : من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله : منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه .
ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته . ومقيله مع بعض نسائه . ومنها : المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم . ومنها : التعريف باللام دون الإضافة . ومنها : أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم ، وهلم جرا : من أوّل السورة إلى آخرها هذه الآية ، فتأمّل كيف ابتدىء بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى ا لله ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر . كأن الأوّل بساط للثاني ووطأه لذكره ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله ، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم : من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه؛ لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً؛ ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبي عبيد ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج من وقت خروجه { أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } في موضع الرفع على الفاعلية؛ لأنّ المعنى : ولو ثبت صبرهم . والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها . قال الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] وقولهم : صبر عن كذا ، محذوف منه المفعول ، وهو النفس ، وهو حبس فيه شدَّة ومشقة على المحبوس ، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل : صبر . وفي كلام بعضهم : الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ . فإن قلت : هل من فرق بين { حتى تَخْرُجَ } وإلى أن تخرج؟ قلت : إنّ «حتى» مختصة بالغاية المضروبة . تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها : لم يجز ، و«إلى» عامّة في كل غاية ، فقد أفادت «حتى» بوضعها : أنّ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه . فإن قلت : فأي فائدة في قوله : { إِلَيْهِمْ } ؟ قلت : فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } في ( كان ) إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو ، وإما ضمير مصدر { صَبَرُواْ } ، كقولهم : من كذب كان شراً له { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بليغ الغفران والرحمة واسعهما ، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ، ثم قال : هل أزيدكم ، فعزله عثمان عنهم مصدّقاً إلى بني المصطلق ، وكانت بينه وبينهم إحنة ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له ، فحسبهم مقاتليه ، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم . فبلغ القوم فوردوا وقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم فقال : «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه . وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين ، فسلموا إليه الصدقات ، فرجع . وفي تنكير الفاسق والنبأ : شياع في الفساق والأنباء ، كأنه قال : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ . فتوقفوا فيه وتطلبوا الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا قول الفاسق «لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه . والفسوق : الخروج من الشيء والانسلاخ منه . يقال : فسقت الرطبة عن قشرها . ومن مقلوبه : فقست البيضة ، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها . ومن مقلوبه أيضاً : قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق . قال رؤبة :
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا ... وقرأ ابن مسعود : «فتثبتوا» والتثبت والتبين : متقاربان ، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف ، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب ، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة . قيل : إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة ، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور { ءانٍ } مفعول له ، أي : كراهة إصابتكم { تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } حال ، كقوله تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } [ الأحزاب : 25 ] يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة . والإصباح : بمعنى الصيرورة . والندم : ضرب من الغم ، وهو : أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام ، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام : وهو لزام الشريب ودوام صحبته . ومن مقلوباته : أدمن الأمر أدامه . ومدن بالمكان : أقام به . ومنه : المدينة وقد تراهم يجعلون الهم صاحباً ونجياً وسميراً وضجيعاً ، وموصوفاً بأنه لا يفارق صاحبه . الجملة المصدّرة بلولا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور .
وكلاهما مذهب سديد . والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها . أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها : وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى ، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتثيه ، المحتذى على أمثلته؛ ولو فعل ذلك { لَعَنِتُّمْ } أي لوقعتم في العنت والهلاك . يقال : فلان يتعنت فلاناً ، أي : يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك . وقد أعنت العظم : إذا هيض بعد الجبر . وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد . وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان } أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض : صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة ، التي لا يفطن لها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وقوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته . فإن قلت : ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها؟ قلت : القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لارائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . فإن قلت : فلم قيل { يُطِيعُكُمْ } دون : أطاعكم؟ قلت : للدلالة على أنه كان في أرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه . وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولاً عليه ، بدليل قوله : { فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر } كقولك : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد : أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرّاً . فإن قلت : كيف موقع { ولكن } وشريطتها مفقودة : من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً؟ قلت : هي مفقودة من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى؛ لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم ، فوقعت ، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك . ومعنى تحبيب الله وتكريهه للطف والإمداد بالتوفيق ، وسبيله الكتابة كما سبق ، وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبي عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله؛ وحمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] فإن قلت : فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ، وذلك فعل الله ، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود . قلت : الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب ، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا : أحسن ما في الدميم وجهه ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره ، على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به ، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير : وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة ، وما يتشعب منها ويرجع إليها ، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس للإنسان فيه عمل غلطاً ومخالفة عن المعقول و { الكفر } تغطية نعم الله تعالى وغمطها بالجحود .
و { الفسوق } الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر { والعصيان } ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع . والعرق العاصي : العاند . واعتصت النواة : اشتدّت . والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة . قال أبو الوازع : كل صخرة وشادة . وأنشد :
وَغَيْرُ مُقَلَّدٍ وَمُوَشَّمَات ... صَلينَ الضَّوْءَ مِنْ صُمِّ الرَّشَادِ
و { فَضْلاً } مفعول له ، أو مصدر من غير فعله فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل . قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه ، مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه : صار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى ، والجملة التي هي { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } اعتراض . أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من الله . وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً؛ لأنّ رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام { والله عَلِيمٌ } بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل { حَكِيمٌ } حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم .
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار ، فأمسك عبد الله بن أبيّ بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال عبد الله بن رواحة : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك وروى : حماره أفضل منك ، وبول حماره أطيب من مسكك؛ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالعصي ، وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، ونزلت . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . والبغي : الاستطالة والظلم وإباء الصلح . والفيء : الرجوع ، وقد سمى به الظل والغنيمة؛ لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة : ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وعن أبي عمرو : «حتى تفيء» بغير همز؛ ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة فظنه قد طرحها . فإن قلت : ما وجه قوله : { اقتتلوا } والقياس اقتتلتا ، كما قرأ ابن أبي عبلة «أو اقتتلا» كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت : هو مما حمل على المعنى دون اللفظ؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة عبد الله «حتى يفيئوا إلى أمر الله» فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط . وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ما قاتلت . وعن ابن عمر : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل . قاله بعد أن اعتزل ، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت اعمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا ابن أم عبد ، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة؟ " قال : الله ورسوله أعلم قال : " لا يجهر على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها " ولا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على سبيل البغى منهما جميعاً ، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما . وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، وإطلاعهما على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى؛ فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جئت؛ وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله؛ فإن كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت .
وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط . فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما : إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية ، ونفي الشبهة؛ إلا إذا أصرتا ، فحينئذٍ تجب المقاتلة . وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت إحداهما؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين { وَأَقْسِطُواْ } أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه ، والقسط بالفتح : الجور من القسط : وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط : يابس . وأقسطته الرياح . وأمّا القسط بمعنى العدل ، فالفعل منه : أقسط ، وهمزته للسلب ، أي : أزال القسط وهو الجور .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق : ما إن لم يفضل الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها . ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد ، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشياً بالصلح وبثاً للسفراء بينهما ، إلى أن يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه ، وما استشن من الوصال من يبله؛ فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشدّ منه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره " ثم قال : " احفظوا ، ولا يحفظ منكم إلا قليل " . فإن قلت : فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلت : لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان؛ فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم؛ لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين ، وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرىء : «بين إخوتكم وإخوانكم» والمعنى : ليس المؤمنون إلا إخوة ، وأنهم خلص لذلك متمحضون ، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية ، وأبي لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع ، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه { واتقوا الله } فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف ، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه ، وكان فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم ، واشتمال رأفته عليكم حقيقاً بأن تعقدوا به رجاءكم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
القوم : الرجال خاصة؛ لأنهم القوّام بأمور النساء . قال الله تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } [ النساء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام :
( 1069 ) " النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه " والذابون هم الرجال ، وهو في الأصل جمع قائم ، كصوّم وزوّر : في جمع صائم وزائر . أو تسمية بالمصدر . عن بعض العرب : إذا أكلت طعاماً أحببت نوماً وأبغضت قوماً . أي قياماً ، واختصاص القوم بالرجال : صريح في الآية وفي قول زهير :
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ ... وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن ، وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض؛ وأن تقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل : رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة على التوحيد ، إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله ، ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار ، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر ، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدي ذلك - وإن أوجده واحد - إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوماً . وقول تعالى : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء . والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر ، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات ، وإنما الذي يزن عند الله؛ خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك بمعزل ، فينبغي أن لا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضدّ صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شرحبيل : لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه : خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه . وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً . وفي قراءة عبد الله : «عسوا أن يكونوا» وعسين أن يكن ، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في قوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] وعلى الأولى هي التي لا خبر لها كقوله تعالى :
{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } [ البقرة : 216 ] . واللمز : الطعن والضرب باللسان . وقرىء : «ولا تلمزوا» بالضم . والمعنى : وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء من عيبها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1070 ) " اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج : أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ، وقال لما مات : اللَّهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل ، هيهات دون ذلك السيف والسوط . وقيل : معناه لا يعب بعضكم بعضاً ، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه . وقيل : معناه لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة . والتنابز بالألقاب : التداعي بها : تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال : النبز والنزب : لقب السوء والتلقيب المنهي عنه ، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة لكونه تقصيراً به وذمّاً له وشيئاً ، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1071 ) " من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه " ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن . قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكنى فإنها منبهة . ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله ، وقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . روي عن الضحاك أن قوماً من بني تميم استهزؤوا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبي ذرّ وسالم مولى حذيفة . فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة . وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها بسبنيّة وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه ، فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنه لسان كلب . وعن أنس : عيرت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بالقصر . وعن عكرمة عن ابن عباس
( 1072 ) أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« هلا قلت إن أبي هرون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد » ، روي :
( 1073 ) أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر ، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع؛ فأتى يوماً وهو يقول : تفسحوا لي ، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقال لرجل : تنح ، فلم يفعل ، فقال : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان ، فقال : بل أنت ابن فلانة ، يريد : أمّاً كان يعير بها في الجاهلية ، فخجل الرجل فنزلت ، فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً { الاسم } هاهنا بمعنى الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته : ما سما من ذكره وارتفع بين الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره؛ كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : { بَعْدَ الايمان } ثلاثة أوجه : أحدها استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودي يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه ، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز . والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته : جعله منه في جانب ، فيعدى إلى مفعولين . قال الله عز وجل : { واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام } [ إبراهيم : 35 ] ثم يقال في مطاوعه : اجتنب الشر فتنقص المطاوعة مفعولاً . والمأمور باجتنابه هو بعض الظن ، وذلك البعض موصوف بالكثرة : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } ؟ فإن قلت : بَيِّن الفصل بيْنَ { كَثِيراً } ، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة . قلت : مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية ، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين . لئلا يجترىء أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل ، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة ، مع استشعار للتقوى والحذر؛ ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطاً بما يكثر من دون ما يقل ، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنباً ، وما اتصف منه بالقلة مرخصاً في تظننه . والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها : أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر : كان حراماً واجب الاجتناب؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1074 ) " إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء " وعن الحسن : كنا في زمان الظنُّ بالناس حرام ، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت ، وظنّ بالناس ما شئت . وعنه : لا حرمة لفاجر . وعنه : إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله ، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب . وقد روي :
( 1075 ) من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب . ومنه قيل لعقوبته : الأثام ، فعال منه : كالنكال والعذاب والوبال ، قال :
لَقَدْ فَعَلَتْ هاذي النَّوَى بِيَ فَعْلَة ... أَصَابَ النَّوَى قَبْلَ المَمَاتِ أَثَامُهَا
والهمزة فيه عن الواو ، كأنه يثم الأعمال : أي يكسرها بإحباطه . وقرىء : «ولا تحسسوا» بالحاء والمعنيان متقاربان . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه : تفعل من الجس ، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس ، لما في اللمس من الطلب . وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء } [ الجن : 8 ] والتحسس : التعرّف من الحس ، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان : الحواس بالحاء والجيم ، والمراد النهي عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وعن مجاهد . خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1076 ) أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ . قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين : فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته "
وعن زيد بن وهب : قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط تقطر لحيته خمراً؟ فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . غابه واغتابه : كغاله واغتاله . والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال : وهي ذكر السوء في الغيبة
( 1077 ) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال : " أن تذكر أخاك بما يكره . فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الغيبة إدام كلاب الناس { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه . وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذي معناه التقرير . ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك . ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخاً . ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي . وانتصب { مَيْتًا } على الحال من اللحم . ويجوز أن ينتصب عن الأخ . وقرىء : «ميِّتا» ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله تعالى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } معناه : فقد كرهتموه واستقرّ ذلك . وفيه معنى الشرط ، أي : إن صحّ هذا فكرهتموه ، وهي الفاء الفصيحة ، أي : فتحققت - بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره : لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه - كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين . وقرىء : «فكرهتموه» أي : جبلتم على كراهته . فإن قلت : هلا عدّى بإلى كما عدّى في قوله : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر } وأيهما القياس؟ قلت : القياس تعدّيه بنفسه ، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه ، تقول : كرهت الشيء ، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول . وأما تعدّيه بإلى ، فتأوّل وإجراء لكره مجرى بغض ، لأنّ بعض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه ، كقولك : حب إليه الشيء فهو حبيب إليه . والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده ، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفواً عنه بالتوبة . أو لأنه بليغ في قبول التوبة ، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط ، لسعة كرمه . والمعنى : واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه ، فإنكم إن اتقتيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليك بثواب المتقين التائبين . وعن ابن عباس :
( 1078 ) أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما ، فنام عن شأنه يوماً ، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً ، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء ، فأخبرهما سلمان بذلك ، فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، فقالا : ما تناولنا لحماً فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
{ مّن ذَكَرٍ وأنثى } من آدم وحوّاء . وقيل : خلقنا كل واحد منكم من أب وأمّ ، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب . والشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب ، وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة؛ فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصى بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب؛ لأنّ القبائل تشعبت منها . وقرىء : «لتتعارفوا» ولتعارفوا بالإدغام . ولتعرفوا ، أي لتعلموا كيف تتناسبون . ولتتعرفوا . والمعنى : أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض . فلا يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب . ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } وقرىء : «أنّ» بالفتح ، كأنه قيل : لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل : لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1079 ) أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها ، يا أيها الناس ، إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقيّ هين على الله " ثم قرأ الآية . وعنه عليه السلام :
( 1080 ) " من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله " وعن ابن عباس : كرم الدنيا الغني ، وكرم الآخرة التقوى . وعو يزيد بن شجرة :
( 1081 ) مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يراه عند كل صلاة ، ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم ، فعاده ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في ذمائه . فتولى غسله ودفنه ، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم ، فنزلت .
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
الإيمان : هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس . والإسلام : الدخول في السلم . والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان . فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } والذي يقتضه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا . أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلاً ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا . وروعى في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه ، فل يقل : كذبتم ، ووضع { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه ، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } [ الحجرات : 15 ] تعريضاً بأن هؤلاء هم الكاذبون ، ورب تعريض لا يقاومه التصريح ، واستغنى بالجملة التي هي لم : { تُؤْمِنُواْ } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهي عن القول بالإيمان ، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم : { ءَامَنَّا } كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم ، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به . فإن قلت : قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } بعد قوله تعالى : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة . قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } هو تكذيب دعواهم ، وقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في { قُولُواْ } وما في ( لما ) من معنى التوقع : دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد { لاَ يَلِتْكُمْ } لا ينقصكم ولا يظلمكم . يقال : ألته السلطان حقه أشدّ الألت ، وهي لغة غطفان . ولغة أسد وأهل الحجاز : لاته ليتا . وحكى الأصمعي عن أمّ هشام السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات . وقرىء باللغتين «لا يلتكم» ولا يألتكم . ونحوه في المعنى { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] . ومعنى طاعة الله ورسوله : أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته ، فإن فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم ، ووهب لهم مغفرته . وأنعم عليهم بجزيل ثوابه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والذراري ، يريد الصدقة ويمنون عليه ، فنزلت .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
ارتاب : مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة . والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه . فإن قلت : ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت : الجواب على طريقين ، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه ، أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكباً رأسه لا يطلب له مخرجاً ، فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] والثاني : أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الإيمان ، تنبيهاً على مكانه؛ وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً . { وجاهدوا } يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى . وأن يكون جاهد مبالغة في جهد . ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس : الغزو ، وأن يتناول العبادات بأجمعها ، وبالمجاهدة بالمال : نحو ما صنع عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } الذين صدقوا في قولهم آمنا ، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد ، أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات .
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
يقال : ما علمت بقدومك ، أي : ما شعرت به ولا أحطت به . ومنه قوله تعالى : { أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } وفيه تجهيل لهم .
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
يقال : منّ عليه بيد أسداها إليه ، كقولك : أنعم عليه وأفضل عليه . والمنة : النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه؛ واشتقاقها من المنّ الذي هو القطع ، لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة . ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً . وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة ، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاماً ، ونفى أن يكون كما زعموا إيماناً؛ فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام : إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديراً بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام . فقل لهم : لا تعتدّوا على إسلامكم ، أي حدثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً . ثم قال : بل الله يعتد عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم ، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه . وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف : ما لا يخفى على المتأمل ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان ، فللَّه المنة عليكم . وقرىء : «إن هداكم» بكسر الهمزة . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : إذ هداكم . وقرىء : «تعلمون» بالتاء والياء ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم ، يعني أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم ، وذلك أنّ خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1082 ) " من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه " .
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
الكلام في { ق والقرءان المجيد بَلْ عجبوا } نحوه في { ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 1 - 2 ] سواء بسواء ، لالتقائهما في أسلوب واحد . والمجيد : ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه : مجد عند الله وعند الناس ، وهو بسبب من الله المجيد ، فجاز اتصافه بصفته . قوله بل عجبوا : { أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالتهم وأمانته ، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحاً لقومه مترفرفاً عليهم ، خائفاً أن ينالهم سوء ويحل بهم مكروه ، وإذا علم أنّ مخوفاً أظلهم ، لزمه أن ينذرهم ويحذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير ، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث ، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء . ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله تعالى : { فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا } دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار ، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم . وهذا إشارة إلى الرجع؛ وإذا منصوب بمضمر؛ معناه : أحين نموت ونبلى نرجع؟ { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } مستبعد مستنكر ، كقولك : هذا قول بعيد . وقد أبعد فلان في قوله . ومعناه : بعيد من الوهم والعادة . ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع . وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . وقرىء : «إذا متنا» على لفظ الخبر ، ومعناه : إذا متنا بعد أن نرجع ، والدال عليه { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } . فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث .
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
{ قَدْ عَلِمْنَا } ردّ لاستبعادهم الرجع ، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم ، كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1083 ) « كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب » ، وعن السدي : { مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } ما يموت فيدفن في الأرض منهم { كتاب حَفِيظٌ } محفوظ من الشياطين ومن التغير ، وهو اللوح المحفوظ . أو حافظ لما أودعه وكتب فيه .
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
{ بَلْ كَذَّبُواْ } إضراب أتبع الإضراب الأوّل ، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم؛ وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل وهلة من غير تفكر ولا تدبر { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } مضطرب . يقال : مرج الخاتم في أصبعه وجرج؛ فيقولون تارة : شاعر ، وتارة : ساحر ، وتارة : كاهن ، لا يثبتون على شيء واحد : وقرىء : «لما جاءهم» بكسر اللام وما المصدرية ، واللام هي التي في قولهم لخمس خلون ، أي : عند مجيئه إياهم ، وقيل : { الحق } : القرآن . وقيل : الإخبار بالبعث .
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
{ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ } حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم { بنيناها } رفعناها بغير عمد { مِن فُرُوجٍ } من فتوق : يعني أنها ملساء سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل ، كقوله تعالى : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] .
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
{ مددناها } دحوناها { رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت لولا هي لتكفأت { مِن كُلّ زَوْجٍ } من كل صنف { بَهِيجٍ } يبتهج به لحسنه { تَبْصِرَةً وذكرى } لتبصر به وتذكر كل { عَبْدٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى ربه ، مفكر في بدائع خلقه . وقرىء : «تبصرة وذكرى» بالرفع ، أي : خلقها تبصرة .
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{ مَاء مباركا } كثير المنافع { وَحَبَّ الحصيد } وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد ، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما { باسقات } طوالاً في السماء : وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : باصقات ، بإبدال السين صاداً لأجل القاف { نَّضِيدٌ } منضود بعضه فوق بعض : إما أن يراد كثرة الطلع وتراكمه؛ أو كثرة ما فيه من الثمر { رِزْقاً } على أنبتناها رزقاً ، لأنّ الإنبات في معنى الرزق . أو على أنه مفعول له ، أي : أنبتناها لنرزقهم { كذلك الخروج } كما حييت هذه البلدة الميتة ، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، والكاف في محل الرفع على الابتداء .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
أراد بفرعون قومه كقوله تعالى : { مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [ يونس : 83 ] لأنّ المعطوف عليه قوم نوح ، والمعطوفات جماعات { كُلٌّ } يجوز أن يراد به كل واحد منهم ، وأن يراد جميعهم ، إلا أنه وحد الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى { فَحَقَّ وَعِيدِ } فوجب وحل وعيدي ، وهو كلمة العذاب . وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديد لهم .
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله ، والهمزة للإنكار . والمعنى : أنا لم نعجز كما علموا عن الخلق الأول ، حتى نعجز عن الثاني ، ثم قال : هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل ، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ } أي في خلط وشبهة . قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم . ومنه قول علي رضي الله عنه : يا حار ، إنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله . ولبس الشيطان عليهم : تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة ، فتركوا لذلك القياس الصحيح : أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر . فإن قلت : لم نكر الخلق الجديد ، وهلا عرّف الخلق الأول؟ قلت : قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد . حق من سمع به أن يهتم به ويخاف ، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
الوسوسة : الصوت الخفي . ومنها : وسواس الحلى . ووسوسة النفس : ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس . والباء مثلها في قولك : صوت بكذا وهمس به . ويجوز أن تكون للتعدية والضمير للإنسان ، أي : ما تجعله موسوساً ، وما مصدرية ، لأنهم يقولون : حدّث نفسه بكذا ، كما يقولون : حدثته به نفسه . قال :
وَاكْذِبِ النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا ... { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } مجاز ، والمراد : قرب علمه منه ، وأنه يتعلق بمعلومه منه ومن أحواله تعلقاً لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأنه ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، وقد جل عن الأمكنة . وحبل الوريد : مثل في فرط القرب ، كقولهم : هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار . وقال ذو الرمة :
وَالْمَوْتُ أَدْنَى لي مِنَ الْوَرِيدِ ... والحبل : العرق ، شبه بواحد الحبال ، ألا ترى إلى قوله :
كَأَنْ وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلُبِ ... والوريدان : عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين ، يردان من الرأس إليه . وقيل : سمي وريداً لأنّ الروح ترده . فإن قلت : ما وجه إضافة الحبل إلى الوريد ، والشيء لا يضاف إلى نفسه؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون الإضافة للبيان ، كقولهم : بعير سانية . والثاني : أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد» كما لو قيل : حبل العلياء مثلاً .
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
{ إِذْ } منصوب بأقرب ، وساغ ذلك لأنّ المعاني تعمل في الظرف متقدّمة ومتأخرة ، والمعنى : أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه ، وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به ، إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه؛ وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة اقتضت ذلك : وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما ، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد . وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله . من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1084 ) " إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله تعالى ولا منهما " ويجوز أن يكون تلقي الملكين بياناً للقرب ، يعني : ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه ، إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به ، والتلقي : التلقن بالحفظ والكتبة . والقعيد : القاعد ، كالجليس بمعنى الجالس ، وتقديره : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين ، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه ، كقوله :
. . . كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيَّا . . . . . . . . .
{ رَقِيبٌ } ملك يرقب عمله { عَتِيدٌ } حاضر ، واختلف فيما يكتب الملكان ، فقيل : يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به . ويدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام :
( 1085 ) " كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " وقيل : إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه . وقرىء : «ما يلفظ» على البناء للمفعول .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي . وهو قوله : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } { وَنُفِخَ فِى الصور } ، وسكرة الموت : شدّته الذاهبة بالعقل . والباء في بالحق للتعدية ، يعني : وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله . أو حقيقة الأمر وجلية الحال : من سعادة الميت وشقاوته . وقيل : الحق الذي خلق له الإنسان ، أن كل نفس ذائقة الموت . ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي وجاءت ملتبسة بالحق ، أي : بحقيقة الأمر . أو بالحكمة والغرض الصحيح ، كقوله تعالى : { خَلَقَ السموات والأرض بالحق } [ الأنعام : 73 ] وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما «سكرة الحق بالموت» على إضافة السكرة إلى الحق والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على الإنسان وأوجبت له ، وأنها حكمة . والباء للتعدية؛ لأنها سبب زهوق الروح لشدتها ، أو لأنّ الموت يعقبها؛ فكأنها جاءت به . ويجوز أن يكون المعنى : جاءت ومعها الموت . وقيل سكرة الحق سكرة الله ، أضيفت إليه تفظيعاً لشأنها وتهويلاً . وقرىء : «سكرات الموت» { ذَلِكَ } إشارة إلى الموت ، والخطاب للإنسان في قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } [ الحجر : 26 ] على طريق الالتفات . أو إلى الحق والخطاب للفاجر { تَحِيدُ } تنفر وتهرب . وعن بعضهم : أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فحكاه لصالح بن كيسان فقال : والله ما سنّ عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب ، هو للكافر . ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال : أخالفهما جميعاً : هو للبر والفاجر { ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد } على تقدير حذف المضاف ، أي : وقت ذلك يوم الوعيد ، والإشارة إلى مصدر نفخ { سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ملكان : أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله . أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : معها ملك يسوقها ويشهد عليها؛ ومحل { مَّعَهَا سَائِقٌ } النصب على الحال من كل لتعرّفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة . قرىء : «لقد كنت» عنكِ غطائكِ فبصركِ ، بالكسر على خطاب النفس ، أي : يقال لها لقد كنتِ . جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً؛ فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق . ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته : حديداً لتيقظه .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } هو الشيطان الذي قيض له في قوله : { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] يشهد له قوله تعالى : { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } [ ق : 27 ] . { هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه وآخر يشهد عليه ، وشيطاناً مقروناً به ، يقول : قد أعتدته لجهنم وهيئته لها بإغوائي وإضلالي . فإن قلت : كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت : إن جعلت { مَا } موصوفة ، فعتيد : صفة لها : وإن جعلتها موصولة ، فهو بدل ، أو خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف .
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
{ أَلْقِيَا } خطاب من الله تعالى للملكين السابقين : السائق والشهيد : ويجوز أن يكون خطاباً للواحد على وجهين : أحدهما قول المبرد : أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما ، كأنه قيل : ألق ألق : للتأكيد . والثاني : أنّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان ، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا : خليليّ وصاحبيّ ، وقفا وأسعدا ، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسيّ ، اضربا عنقه . وقرأ الحسن «ألقين» بالنون الخفيفة . ويجوز أن تكون الألف في { أَلْقِيَا } بدلاً من النون : إجراء للوصل مجرى الوقف { عَنِيدٍ } معاند مجانب للحق معاد لأهله { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } كثير المنع للمال على حقوقه ، جعل ذلك عادة له لا يبذل منه شيئاً قط . أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم . قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يمنع بني أخيه من الإسلام ، وكان يقول : من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت { مُعْتَدٍ } ظالم متخط للحق { مُرِيبٍ } شاك في الله وفي دينه { الذى جَعَلَ } مبتدأ مضمن معنى الشرط ، ولذلك أجيب بالفاء . ويجوز أن يكون { الذى جَعَلَ } منصوباً بدلاً من { كُلَّ كَفَّارٍ } ويكون { فألقياه } تكريراً للتوكيد .
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى؟ قلت : لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون . فإن قلت : فأين التقاول هاهنا؟ قلت : لما قال قرينه : { هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } وتبعه قوله : { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } وتلاه : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } [ ق : 28 ] : علم أنّ ثم مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت لما يدل عليها ، كأنه قال : رب هو أطغاني ، فقال قرينه : ربنا ما أطغيته . وأمّا الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين : وقول قرينه ما قال له : { مَا أَطْغَيْتُهُ } ما جعلته طاغياً ، وما أوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى } [ إبراهيم : 22 ] .
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
{ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ } استئناف مثل قوله : { قَالَ قرِينُهُ } [ ق : 27 ] كأن قائلاً قال : فماذا قال الله؟ فقيل : قال لا تختصموا . والمعنى : لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب ، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته ، وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي ، فما تركت لكم حجة عليَّ ، ثم قال : لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي فأعفيكم عما أوعدتكم به { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب . والباء في { بالوعيد } مزيدة مثلها في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } أو معدية ، على أن «قدّم» مطاوع بمعنى «تقدّم» ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بظلام لِّلْعَبِيدِ } ولأن { بالوعيد } حالاً ، أي : قدّمت إليكم هذا ملتبساً بالوعيد مقترناً به . أو قدّمته إليكم موعداً لكم به . فإن قلت : إنّ قوله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم } واقع موقع الحال من { لاَ تَخْتَصِمُواْ } والتقديم بالوعيد في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب . قلت : معناه ولا تختصموا وقد صح عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد ، وصحة ذلك عندهم في الآخرة ، فإن قلت : كيف قال : { بظلام } على لفظ المبالغة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون من قولك : هو ظالم لعبده ، وظلام لعبيده . والثاني : أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاماً مفرط الظلم . فنفى ذلك .
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
قرىء : «نقول» بالنون والياء . وعن سعيد بن جبير : يوم يقول الله لجهنم . وعن ابن مسعود والحسن : يقال . وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر . نحو : أذكر وأنذر . ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم . وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم نقول ، ولا يقدّر حذف المضاف . وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته ، وفيه معنيان ، أحدهما : أنها تمتلىء مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء ولا يزاد على امتلائها ، لقوله تعالى : { لأَ مْلاَنَّ جَهَنَّمَ } [ السجدة : 13 ] والثاني : أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد . ويجوز أن يكون { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } استكثاراً للداخلين فيها واستبداعاً للزيادة عليهم لفرط كثرتهم . أو طلباً للزيادة غيظاً على العصاة . والمزيد : إما مصدر كالمحيد والمميد ، وإما اسم مفعول كالمبيع .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
{ غَيْرَ بَعِيدٍ } نصب على الظرف ، أي : مكاناً غير بعيد . أو على الحال ، وتذكيره لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل؛ والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث . أو على حذف الموصوف ، أي : شيئاً غير بعيد ، ومعناه التوكيد ، كما تقول : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل . وقرىء : { تُوعَدُونَ } بالتاء والياء ، وهي جملة اعتراضية . و { لِكُلّ أَوَّابٍ } بدل من قوله للمتقين ، بتكرير الجارّ كقوله تعالى : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ، وهذا إشارة إلى الثواب . أو إلى مصدر أزلفت . والأوّاب : الرجاع إلى ذكر الله تعالى ، والحفيظ : الحافظ لحدوده تعالى . و { مَّنْ خَشِىَ } بدل بعد بدل تابع لكل . ويجوز أن يكون بدلاً عن موصوف أوّاب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أوّاب وحفيظ؛ لأنّ من لا يوصف به ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي وحده . ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : يقال لهم ادخلوها بسلام ، لأنّ { مَّنْ } في معنى الجمع . ويجوز أن يكون منادى كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب { بالغيب } حال من المفعول ، أي : خشيه وهو غائب لم يعرفه ، وكونه معاقباً إلا بطريق الاستدلال . أو صفة لمصدر خشى ، أي خشية خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشية بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه ، وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد . فإن قلت : كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ قلت : للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته ، مع علمه أنه الواسع الرحمة . كما أثنى عليه بأنه خاش ، مع أنّ المخشى منه غائب ، ونحوه : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات . وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى؛ لأنّ الاعتبار بما ثبت منها في القلب . يقال لهم : { ادخلوها بِسَلامٍ } أي سالمين من العذاب وزوال النعم . أو مسلماً عليكم يسلم عليكم الله وملائكته { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } أي يوم تقدير الخلود ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] أي مقدرين الخلود { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } هو ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم ، حتى يشاؤه . وقيل : إن السحاب تمرّ بأهل الجنة فتمطرهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال الله عز وجل : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
«فنقبوا» وقرىء بالتخفيف : فخرقوا في البلاد ودوّخوا . والتنقيب : التنقير عن الأمر والبحث والطلب . قال الحارث بن حلزة :
نَقَّبُوا فِي الْبِلاَد مِنْ حَذَرِ الْمَو ... تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله : { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : شدّة بطشهم أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه . ويجوز أن يراد : فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ، والدليل على صحته قراءة من قرأ : «فنقبوا» على الأمر ، كقوله : { فَسِيحُواْ فِى الأرض } [ التوبة : 2 ] وقرىء بكسر القاف مخففة من النقب وهو أن يتنقب خف البعير . قال :
مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلاَ دَبَرْ ... والمعنى : فنقبت أخفاف إبلهم . أو : حفيت أقدامهم ونقبت ، كما تنقب أخفاف الإبل لكثرة طوفهم في البلاد { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } من الله ، أو من الموت .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
{ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي قلب واع؛ لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له . وإلقاء السمع : الإصغاء { وَهُوَ شَهِيدٌ } أي حاضر بفطنته . لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب ، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه :
مَا شِئْتَ مِنْ زَهْزَهَةٍ وَالْفَتَى ... بِمُصْقِلاَبَاذٍ لِسَقْيِ الزُّرُوعِ
أو : وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله ، أو وهو بعض الشهداء في قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده وقرأ السدي وجماعة «ألقى السمع» على البناء للمفعول . ومعناه : لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه فحسب ولم يحضر ذهنه وهو حاضر الذهن متفطن . وقيل : ألقى سمعه أو السمع منه . اللغوب الإعياء . وقرىء بالفتح بزنة القبول والولوع ، قيل نزلت في اليهود - لعنت - تكذيبا لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلق على العرش وقالوا ان الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة انما وقع من اليهود ، ومنهم أخذ .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
{ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه . وقيل : فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث؛ فإنّ من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقيل : الصبر مأمور به في كل حال { بِحَمْدِ رَبّكَ } حامداً ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة ، فالصلاة { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } الفجر { وَقَبْلَ الغروب } الظهر والعصر { وَمِنَ اليل } العشاآن . وقيل التهجد { وأدبار السجود } التسبيح في آثار الصلوات ، والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة . وقيل النوافل بعد المكتوبات . وعن علي رضي الله عنه : الركعتان بعد المغرب . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1086 ) " من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الوتر بعد العشاء . والأدبار : جمع دبر . وقرىء : «وأدبار» من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت . ومعناه : ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم { واستمع } يعني واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة . وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه ، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
( 1087 ) أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : " يا معاذاً اسمع ما أقول لك " ، ثم حدّثه بعد ذلك . فإن قلت : بم انتصب اليوم؟ قلت : بما دل عليه { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي : يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . ويوم يسمعون : بدل من { يَوْمَ يُنَادِ } و { المناد } إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من صخرة بيت المقدس ، وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض . وقيل : من تحت أقدامهم . وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة : أيتها العظام البالية ، و { الصيحة } النفخة الثانية { بالحق } متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر للجزاء .
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
وقرىء : «تشقق» وتشقق بإدغام التاء في الشين ، وتشقق على البناء للمفعول ، وتنشق { سِرَاعاً } حال من المجرور { عَلَيْنَا يَسِيرٌ } تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني : لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } [ لقمان : 28 ] .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم { بِجَبَّارٍ } كقوله تعالى : { بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] حتى تقسرهم على الإيمان ، إنما أنت داع وباعث . وقيل : أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم . ويجوز أن يكون من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه ، أي : ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان . وعلى بمنزلته في قولك : هو عليهم ، إذا كان واليهم ومالك أمرهم { مَن يَخَافُ وَعِيدِ } كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } [ النازعات : 45 ] لأنه لا ينفع إلا فيه دون المصرّ على الكفر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1088 ) « من قرأ سورة ق هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته » .
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
{ والذاريات } الرياح لأنها تذور التراب وغيره . قال الله تعالى : { تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] وقرىء بإدغام التاء في الذال { فالحاملات وِقْراً } السحاب ، لأنها تحمل المطر . وقرىء : «وقراً» بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر . أو على إيقاعه موقع حملاً { فالجاريات يُسْراً } الفلك . ومعنى ( يسراً ) : جريا ذا يسر ، أي ذا سهولة { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها . أوتفعل التقسيم مأمورة بذلك . وعن مجاهد : تتولى تقسيم أمر العباد : جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة . وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر : سلوني قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، فقام ابن الكوّاء فقال : ما الذريات ذروا؟ قال : الرياح . قال : فالحاملات وقرا؟ قال السحاب . قال : فالجاريات يسراً؟ قال : الفلك . قال فالمقسمات أمراً؟ قال : الملائكة وكذا عن ابن عباس . وعن الحسن ( المقسمات ) السحاب ، يقسم الله بها أرزاق العباد ، وقد حملت على الكواكب السبعة ، ويجوز أن يراد : الرياح لا غير؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه ، وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب . فإن قلت : ما معنى الفاء على التفسيرين؟ قلت : أمّا على الأوّل فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح ، فبالسحاب الذي تسوقه ، فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه . وأمّا على الثاني ، فلأنها تبتدىء بالهبوب ، فتذرو التراب والحصباء ، فتنقل السحاب ، فتجري في الجوّ باسطة له فتقسم المطر { إِنّمَا تُوعَدُونَ } جواب القسم ، وما موصولة أو مصدرية ، والموعود : البعث . ووعد صادق : كعيشة راضية . والدين : الجزاء . والواقع : الحاصل .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
{ الحبك } الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء : إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر : آثار تثنيه وتكسره . قال زهير : يصف غديراً
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ
والدرع محبوكة : لأنّ حلقها مطرق طرائق . ويقال : إنّ خلقه السماء كذلك . وعن الحسن : حبكها نجومها . والمعنى : أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي . وقيل : حبكها صفاتها وإحكامها ، من قولهم : فرس محبوك المعاقم؛ أي محكمها . وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا : ما أحسن حبكه ، وهو جمع حباك ، كمثال ومثل . أو حبيكة ، كطريقة وطرق . وقرىء : «الحبك» بوزن القفل . والحبك ، بوزن السلك . والحبك ، بوزن الجبل . والحبك بوزن البرق . والحبك بوزن النعم . والحبك بوزن الإبل { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } قولهم في الرسول : ساحر وشاعر ومجنون ، وفي القرآن : شعر وسحر وأساطير الأوّلين . وعن الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما هو متناقض مختلف . وعن قتادة : منكم مصدّق ومكذب ، ومقرّ ومنكر { يُؤْفَكُ عَنْهُ } الضمير للقرآن أوللرسول ، أي : يصرف عنه ، من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم؛ كقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : يصرف عنه من صرف في سابق علم الله ، أي : علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوى . ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين : أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاكّ ، ومنهم جاحد . ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك . ووجه آخر : وهو أن يرجع الضمير إلى قول مختلف وعن مثله في قوله :
يَنْهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وَعَنْ شُرْبِ ... أي : يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب . وحقيقته : يصدر تناهيهم في السمن عنهما ، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف . وقرأ سعيد بن جبير «يؤفك عنه» من أفك» ، على البناء للفاعل . أي : من أفك الناس عنه وهم قريش ، وذلك أنّ الحيّ كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأي ليسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون له : احذره ، فيرجع فيخبرهم . وعن زيد بن عليّ : يأفك عنه من أفك ، أي : يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك؛ أي : يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب . وقرىء : «يؤفن عنه من أفن» أي : يحرمه من رحم ، من أفن الضرع إذا نهكه حلباً .
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{ قُتِلَ الخراصون } دعاء عليهم ، كقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ، ثم جرى مجرى : لعن وقبح . والخرّاصون : الكذابون المقدرون ما لا يصح ، وهم أصحاب القول المختلف ، واللام إشارة إليهم ، كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون . وقرىء : «قتل الخراصين» أي : قتل الله { فِى غَمْرَةٍ } في جهل يغمرهم { سَاهُونَ } غافلون عما أمروا به { يَسْئَلُونَ } فيقولون : «أيان يوم الدين» أي متى يوم الجزاء؟ وقرىء بكسر الهمزة وهي لغة . فإن قلت : كيف وقع أيان ظرفاً لليوم ، وإنما تقع الأحيان ظروفاً للحدثان؟ قلت : معناه : أيان وقوع يوم الدين . فإن قلت : فيم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟ قلت : بفعل مضمر دلّ عليه السؤال ، أي : يقع يوم هم على النار يفتنون ، ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة . فإن قلت : فما محله مفتوحاً؟ قلت : يجوز أن يكون محله نصباً بالمضمر الذي هو يقع؛ ورفعا على هو يوم هم على النار يفتنون . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع { يُفْتَنُونَ } يحرقون ويعذبون . ومنه الفتين : وهي الحرّة؛ لأن حجارتها كأنها محرقة { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } في محل الحال ، أي : مقولاً لهم هذا القول { هذا } مبتدأ ، و { الذى } خبره ، أي : هذا العذاب هو الذي { كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم؛ أي : ذوقوا هذا العذاب .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
{ ءَاخِذِينَ مآ ءاتاهم رَبُّهُمْ } قابلين لكل ما أعطاهم راضين به ، يعني أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو ملتقي بالقبول مرضي غير مسخوط ، لأن جميعه حسن طيب . ومنه قوله تعالى : { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ويرضاها { مُحْسِنِينَ } قد أحسنوا أعمالهم ، وتفسير إحسانهم ما بعده { مَا } مزيدة . والمعنى : كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلاً ظرفاً ، ولك أن تجعله صفة للمصدر ، أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً . ويجوز أن تكون { مَا } مصدرية أو موصولة؛ على : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ، وارتفاعه بقليلاً على الفاعلية . وفيه مبالغات لفظ الهجوع ، وهو الفرار من النوم . قال :
قَدْ حَصَتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْجَاعِ
وقوله : { قَلِيلاً } و { مِّنَ اليل } لأن الليل وقت السبات والراحة ، وزيادة { مَا } المؤكدة لذلك : وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم . وقوله : { هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرّين ، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه . فإن قلت : هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم ، وأن يكون المعنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ، ويحيونه كله؟ قلت : لا ، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . تقول : زيداً لم أضرب ، ولا تقول : زيداً ما ضربت : السائل : الذي يستجدي { والمحروم } الذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1089 ) " ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان " قالوا : فما هو؟ قال : «الذي لا يجد ولا يتصدق عليه» وقيل : الذي لا ينمى له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب .
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
{ وَفِى الأرض ءايات } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوّة كالبساط لما فوقها كما قال : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً } [ طه : 53 ] وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها ، وهي مجزأة : فمن سهل وجبل وبر وبحر : وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وعذاة وسبخة؛ وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } [ الرعد : 4 ] وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم ، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدّواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال : من الوحشي والإنسي والهوام ، وغير ذلك { لِّلْمُوقِنِينَ } الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة ، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة ، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها ، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، وإيقاناً إلى إيقانهم { وَفِى أَنفُسِكُمْ } في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق : ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني ، وبالألسن ، والنطق ، ومخارج الحروف ، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها : من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر ، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوّى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثنى . فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
{ وَفِى السمآء رِزْقُكُمْ } هو المطر؛ لأنه سبب الأقوات . وعن سعيد بن جبير : هو الثلج وكل عين دائمة منه . وعن الحسن : أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه والله رزقكم ، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم { وَمَا تُوعَدُونَ } الجنة : هي على ظهر السماء السابعة تحت العرش . أو أراد : أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به في العقبى كله مقدّر مكتوب في السماء . قرىء : «مثل ما» بالرفع صفة للحق ، أي حق مثل نطقكم ، وبالنصب على : إنه لحق حقاً مثل نطقكم . ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى غير متمكن . وما مزيدة بنص الخليل ، وهذا كقول الناس : إن هذا لحق ، كما أنك ترى وتسمع ، ومثل ما إنك ههنا . وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أو إلى ما توعدون . وعن الأصمعي : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع . قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل عليّ ، فتلوت { والذاريات } فلما بلغت قوله تعالى : { وَفِى السمآء رِزْقُكُمْ } قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : فوربّ السماء والأرض إنه لحق ، فصاح وقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؛ قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
{ هَلْ أتاك } تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي . والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم؛ لأنه في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً . وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وقيل ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وملك معهما . وجعلهم ضيفاً؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف : حيث أضافهم إبراهيم . أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك . وإكرامهم : أنّ إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القِرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون . قال الله تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] . { إِذْ دَخَلُواْ } نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم؛ وإلا فبما في ضيف من معنى الفعل . أو بإضمار أذكر { سلاما } مصدر سادّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه . وأصله : نسلم عليكم سلاماً ، وأمّا { سلام } فمعدول به إلى الرفع على الابتداء . وخبره محذوف ، معناه : عليكم سلام ، للدلالة على ثبات السلام ، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به ، أخذا بأدب الله تعالى . وهذا أيضاً من إكرامه لهم . وقرئا مرفوعين . وقرىء : «سلاما» قال «سلما» والسلم : السلام . وقرىء «سلاما قال سلم» { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام . أو أراد : أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم ، كما لو أبصر العرب قوماً من الخزر أو رأى لهم حالاً وشكلاً خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالاً لهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم { فَرَاغَ إلى اأهله } فذهب إليهم في خفية من ضيوفه؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يكفه ويعذره . قال قتادة : كان عامة مال نبي الله إبراهيم : البقر { فَجآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } . والهمزة في { أَلا تَأْكُلُونَ } للإنكار : أنكر عليهم ترك الأكل . أو حثهم عليه { فَأَوْجَسَ } فأضمر . وإنما خافهم لأنهم لم يتحرّموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءاً . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعن عون بن شداد : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمّه { بغلام عَلِيمٍ } أي يبلغ ويعلم . وعن الحسن : عليم : نبيّ ، والمبشر به إسحاق ، وهو أكثر الأقاويل وأصحها؛ لأن الصفة صفة سارّة لا هاجر ، وهي امرأة إبراهيم وهو بِعلها . وعن مجاهد : هو إسماعيل { فِى صَرَّةٍ } في صيحة ، من : صر الجندب ، وصرّ القلم و صرّ الباب ، ومحله النصب على الحال ، أي : فجاءت صارّة . قال الحسن : أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء ، وقيل : فأخذت في صرة ، كما تقول : أقبل يشتمني . وقيل : صرتها قولها : أوه . وقيل : يا ويلتا . وعن عكرمة : رنتها { فَصَكَّتْ } فلطمت ببسط يديها . وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب { عَجُوزٌ } أنا عجوز ، فكيف ألد { كَذَلِكِ } مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قَالَ رَبُّكِ } أي إنما نخبرك عن الله ، والله قادر على ما تستبعدين . وروى أنّ جبريل قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلاً في بعض الأمور { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } أي : فما شأنكم وما طلبكم { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } إلى قوم لوط { حِجَارَةً مّن طِينٍ } يريد : السجيل ، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر ، حتى صار في صلابة الحجارة { مُّسَوَّمَةً } معلمة ، من السومة ، وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به . وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب . وقيل : بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا . سماهم مسرفين ، كما سماهم عادين ، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم : حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم . الضمير في { فِيهَا } للقرية ، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة . وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام واحد ، وأنهما صفتا مدح . قيل : هم لوط وابنتاه . وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشرة . وعن قتادة : لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم ، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله { ءَايَةً } علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم . قال ابن جريج : هي صخر منضود فيها . وقيل : ماء أسود منتن .
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
{ وَفِى موسى } عطف على { وَفِى الأرض ءايات } أو على قوله : { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } على معنى : وجعلنا في موسى آية كقوله :
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... { فتولى بِرُكْنِهِ } فأزورّ ، وأعرض ، كقوله تعالى : { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [ فصلت : 51 ] وقيل : فتولى بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه . وقرىء : «بركنه» ، بضم الكاف { وَقَالَ ساحر } أي هو ساحر { مُلِيمٌ } آت بما يلام عليه من كفره وعناده ، والجملة مع الواو حال من الضمير في فأخذناه . فإن قلت : كيف وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في قوله تعالى : { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] ؟ قلت : موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافهما تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة . ألا ترى إلى قوله تعالى { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } [ هود : 59 ] ، { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ } [ طه : 121 ] لأنّ الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة .
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
{ العقيم } التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر ، وهي ريح الهلاك . واختلف فيها : فعن علي رضي الله عنه : النكباء . وعن ابن عباس : الدبور . وعن ابن المسيب : الجنوب . الرميم : كل ما رم أي بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك .
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
{ حتى حِينٍ } تفسيره قوله : { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } فاستكبروا عن امتثاله . وقرىء : «الصعقة» وهي المرّة ، من مصدر صعقتهم الصاعقة : والصاعقة النازلة نفسها { وَهُمْ يَنظُرُونَ } كانت نهاراً يعاينونها . وروى أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرَّتهم { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } كقوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } [ العنكبوت : 37 ] وقيل : هو من قولهم : ما يقوم به ، إذا عجز من دفعه { مُنتَصِرِينَ } ممتنعين من العذاب .
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
{ وَقَوْمَ } قرىء : بالجر على معنى : وفي قوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله : وفي قوم نوح . وبالنصب على معنى : وأهلكنا قوم نوح؛ لأنّ ما قبله يدل عليه . أو واذكر قوم نوح .
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
{ بِأَيْدٍ } بقوّة . والأيد والآد . القوّة . وقد آد يئيد وهو أيد { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لقادرون ، من الوسع وهو الطاقة . والموسع : القوى على الإنفاق . وعن الحسن : لموسعون الرزق بالمطر . وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة { فَنِعْمَ الماهدون } فنعم الماهدون نحن .
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
{ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ } أي من كل شيء من الحيوان { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ذكراً وأنثى . وعن الحسن : السماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبرّ والبحر ، والموت والحياة؛ فعدّد أشياء وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه .
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
{ ففروا إِلَى الله } أي إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وكرّر قوله : { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أنّ العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا ترى إلى قوله تعالى : { لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إيمانها لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فى إيمانها خَيْرًا } [ الأنعام : 158 ] والمعنى : قل يا محمد : ففرّوا إلى الله .
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
{ كذلك } الأمر ، أي مثل ذلك ، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتسميته ساحراً ومجنوناً ، ثم فسر ماأجمل بقوله { مَآ أَتَى } ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة يأتي؛ لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . ولو قيل : لم يأتى ، لكان صحيحاً ، على معنى : مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } الضمير للقول ، يعنى : أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان ، والطغيان هو الحامل عليه .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا ، وعرفت عنهم العناد واللجاج ، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة ، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله { فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } أي تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان . أو يزيد الداخلين فيه إيماناً . وروى أنه لما نزلت { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه ، ورأوا أنّ الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله . وذكر .
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
أي : وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً؟ قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم .
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
يريد : أنّ شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، فإنّ ملاّك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا . أو مرتب في فلاحة ليعتلّ أرضاً . أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته . أو محتطب . أو محتش . أو طابخ . أو خابز ، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق ، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غنيّ عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي «المتين» الشديد القوة . قرىء بالرفع صفة لذو وبالجر صفة للقوّة على تأويل الإقتدار والمعنى في صفة بالقوّة المتانة أنه القادر البليغ الإقتدار على كل شيء . وقرىء : «الرازق» وفي :
( 1090 ) قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أنا الرازق . "
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
الذنوب : الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل ، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب . قال :
لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوب ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ
ولما قال عمرو بن شاس :
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
قال الملك : نعم وأذنبة . والمعنى : فإنّ الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم { مِن يَوْمِهِمُ } من يوم القيامة . وقيل : من يوم بدر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1091 ) « من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا . »
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
{ والطور } : الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين . والكتاب المسطور في الرق المنشور ، والرق : الصحيفة . وقيل : الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال . قال الله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] وقيل : هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم . وقيل : اللوح المحفوظ . وقيل القرآن ، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب ، كقوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 7 ] . { والبيت المعمور } الضراح في السماء الرابعة . وعمرانه : كثرة غاشيته من الملائكة . وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين { والسقف المرفوع } السماء { والبحر المسجور } المملوء . وقيل : الموقد ، من قوله تعالى : { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } [ التكوير : 6 ] وروى أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها ناراً تسجر بها نار جهنم . وعن علي رضي الله عنه أنه سأل يهودياً : أين موضع النار في كتابكم؟ قال : في البحر . قال علي : ما أراه إلا صادقاً ، لقوله تعالى { والبحر المسجور } . { لَوَاقِعٌ } لنازل . قال جبير بن مطعم :
( 1092 ) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور ، فلما بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ } أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { تَمُورُ السماء } تضطرب وتجيء وتذهب . وقيل : المور تحرك في تموّج ، وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة .
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب . ومنه قوله تعالى : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } [ المدثر : 45 ] ، { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] الدع : الدفع العنيف ، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم . وقرأ زيد بن عليّ «يدعون» من الدعاء أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوا النار { دَعًّا } مدعوعين ، يقال لهم : هذه النار { أَفَسِحْرٌ هذا } يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر ، أفسحر هذا؟ يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر ، وهذا تقريع وتهكم { سَوَآءٌ } خبر محذوف ، أي : سواء عليكم الأمران : الصبر وعدمه ، فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؟ قلت : لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
{ فِى جنات وَنَعِيمٍ } في آية جنات وأي نعيم ، بمعنى الكمال في هذه الصفة . أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة . وقرىء : «فاكهين فكهين وفاكهون» : من نصبه حالاً جعل الظرف مستقراً ، ومن رفعه خبراً جعل الظرف لغواً ، أي : متلذذين { بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } . فإن قلت : علام عطف قوله؟ { ووقاهم رَبُّهُمْ } ؟ قلت : على قوله : { فِي جنات } أو على { ءاتاهم رَبُّهُمْ } على أن تجعل ما مصدرية؛ والمعنى : فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم . ويجوز أن تكون الواو للحال وقد بعدها مضمرة . يقال لهم : { كُلُواْ واشربوا } أكلا وشرباً { هَنِيئَاً } أو طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعاً به ما استحلت كما يرتفع بالفعل ، ، كأنه قيل : هناء عزة المستحل من أعراضنا ، وكذلك معنى { هَنِيئَاً } ههنا : هناءكم الأكل والشرب . أو هناءكم ما كنتم تعملون؛ أي : جزاء ما كنتم تعملون . والباء مزيدة كما في { كفى بالله } [ الرعد : 43 ] والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . وقرىء : «بعيس عين» .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
{ والذين ءامَنُواْ } معطوف على { بِحُورٍ عِينٍ } أي : قرناهم بالحور وبالذين آمنوا ، أي : بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : { إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } [ الحجر : 47 ] فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين { واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1093 ) " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّبهم عينه " ثم تلا هذه الآية . فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، ومزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم . ثم قال : { بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم . فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة . ويجوزأن يراد : إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . وقرىء : «وأتبعتهم ذريتهم وأتبعتهم ذريتهم» . وذرياتهم : وقرىء : «ذرياتهم» بكسر الذال . ووجه آخر : وهو أن يكون { والذين ءامَنُواْ } مبتدأ خبره { بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } وما بينهما اعتراض { وَمَا ألتناهم } وما نقصناهم . يعني : وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل ، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء . وقيل معناه : وما نقصناهم من ثوابهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم ، إنما ألحقناهم بهم على سبيل التفضل . قرىء : «ألتناهم» وهو من بابين : من ألت يألت ، ومن ألات يليت ، كأمات يميت . وآلتناهم ، من آلت يؤلت ، كآمن يؤمن . ولتناهم ، من لات يليت . وولتناهم ، من ولت يلت . ومعناهنّ واحد { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي مرهون ، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به ، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها ، وإلا أوبقها { وأمددناهم } وزدناهم في وقت بعد وقت { يتنازعون } يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم { كَأْساً } خمراً { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في شربها { وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم ، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله ، أي : ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش ، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك ، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة ، وهم حكماء علماء . وقرىء : «لا لغو فيها ولا تأثيم» { غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي مملوكون لهم مخصوصون بهم { مَّكْنُونٌ } في الصدف ، لأنه رطباً أحسن وأصفى . أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة . وقيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1094 ) " والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " ، وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1095 ) " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه : لبيك لبيك " .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
{ يَتَسَآءَلُونَ } يتحادثون ويسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استوجب به نيل ما عند الله { مُشْفِقِينَ } أرقاء القلوب من خشية الله . وقرىء : «ووقانا» بالتشديد { عَذَابَ السموم } عذاب النار ووهجها ولفحها . والسموم : الريح الحارّة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة { مِن قَبْلُ } من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا { نَدْعُوهُ } نعبده ونسأله الوقاية { إِنَّهُ هُوَ البر } المحسن { الرحيم } العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب . وقرىء : «أنه» بالفتح ، بمعنى : لأنه .
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
{ فَذَكِّرْ } فأثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم : كاهن أو مجنون ، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله . وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة ورجاحة العقل أحد هذين .
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
وقرىء : «يتربص به ريب المنون» ، على البناء للمفعول . وريب المنون . ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر . قال :
أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تتَوَجَّعُ ... وقيل : المنون الموت ، وهو في الأصل فعول؛ من منه إذا قطعه؛ لأن الموت قطوع؛ ولذلك سميت شعوب قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة { مّنَ المتربصين } أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي { أحلامهم } عقولهم وألبابهم . ومنه قولهم : أحلام عاد . والمعنى : أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول ، وهو قولهم : كاهن وشاعر ، مع قولهم مجنون . وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق لهم . فإن قلت : ما معنى كون الأحلام آمرة؟ قلت : هو مجاز لأدائها إلى ذلك ، كقوله تعالى : { أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } [ هود : 87 ] وقرىء : «بل هم قوم طاغون» { تَقَوَّلَهُ } اختلقه من تلقاء نفسه { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن ، مع علمهم ببطلان قولهم ، وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه ، وما محمد إلا واحد من العرب . وقرىء ( بحديث مثله ) على الإضافة ، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب ، فإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادراً عليه ، فليأتوا بحديث ذلك المثل : { أَمْ خُلِقُواْ } أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم { مِنْ غَيْرِ شَىْء } من غير مقدّر { أَمْ هُمُ } الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق { بل لا يوقنون } أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون ، لا يوقنون . وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل : أخلقوا من غير أب وأم؟ { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ } الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاؤا . أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ { أَمْ هُمُ المسيطرون } الأرباب الغالبون ، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرىء «المصيطرون» بالصاد { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } منصوب إلى السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟ { بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم . المغرم : أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه ، أي : لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في أتباعك؟ { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح المحفوظ { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ، وإن بعثنا لم نعذب { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين { فالذين كَفَرُواْ } إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله { هُمُ المكيدون } هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم . وذلك أنهم قتلوا يوم بدر . أو المغلوبون في الكيد ، من كايدته فكدته .
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
الكسف : القطعة ، وهو جواب قولهم : { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } [ الإسراء : 92 ] يريد : أنهم لشدّة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب . وقرىء : «حتى يلقوا» ويلقوا { يُصْعَقُونَ } يموتون . وقرىء : «يصعقون» . يقال . صعقه فصعق ، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وإن . لهؤلاء الظلمة { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } دون يوم القيامة : وهو القتل ببدر ، والقحط سبع سنين ، وعذاب القبر . وفي مصحف عبد الله : دون ذلك تقريباً .
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{ لِحُكْمِ رَبّكَ } بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } مثل ، أي : بحيث نراك ونكلؤك . وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ ضمير الجماعة . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } [ طه : 39 ] . وقرىء : «بأعينا» ، بالإدغام { حِينَ تَقُومُ } من أي مكان قمت . وقيل : من منامك { وإدبار النجوم } وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل . وقرىء : «وأدبار » ، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول : سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات . وقيل التسبيح : الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل : صلاة العشاءين ، وأدبار النجوم : صلاة الفجر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1096 ) " من قرأ سورة الطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته " .
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
( النجم ) : الثريا ، وهو اسم غالب لها . قال :
إذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَ ... إبْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَ
أو جنس النجوم . قال :
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... يريد النجوم { إِذَا هوى } إذا غرب أو انتثر يوم القيامة . أو النجم الذي يرجم به إذا هوى : إذا انفض . أو النجم من نجوم القرآن ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة ، إذا هوى : إذا نزل . أو النبات إذا هوى : إذا سقط على الأرض . وعن عروة بن الزبير :
( 1098 ) أنّ عتبة بن أبي لهب وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام ، فقال : لآتينّ محمداً فلأوذينه؛ فأتاه فقال : يا محمد ، وهو كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ، وكان أبو طالب حاضراً ، فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة! فرجع عتبة إلى أبيه ، فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ، فإني أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم؛ وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمم وجوههم ، حتى ضرب عتبة فقتله . وقال حسان :
مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ
{ مَا ضَلَّ صاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم : والخطاب لقريش ، وهو جواب القسم ، والضلال : نقيض الهدى ، والغيّ نقيض الرشد ، أي : هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي ، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه ، وإنما هو وحي من عند الله يوحى إليه . ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى { شَدِيدُ القوى } ملك شديد قواه ، والإضافة غير حقيقية ، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه السلام ، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف ، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة ، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند { ذُو مِرَّةٍ } ذو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه { فاستوى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقة دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي؛ وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك :
( 1098 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق .
وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة في الأرض ، ومرة في السماء { ثُمَّ دَنَا } من رسول الله صلى الله عليه وسلم { فتدلى } فتعلق عليه في الهواء . ومنه : تدلت الثمرة ، ودلى رجليه من السرير . والدوالي : الثمر المعلق . قال :
تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخِيطَةٍ ... ويقال : هو مثل القرليّ : إن رأى خيراً تدلى ، وإن لم يره تولى { قَابَ قَوْسَيْنِ } مقدار قوسين عربيتين : والقاب والقيب؛ والقاد والقيد ، والقيس : المقدار . وقرأ زيد بن علي : قاد . وقرىء : «قيد» وقدر . وقد جاء التقدير بالقوس والرمح ، والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة ، والشبر ، والفتر ، والأصبع . ومنه :
( 1099 ) " لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين " وفي الحديث :
( 1100 ) " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها " والقدّ : السوط . ويقال : بينهما خطوات يسيرة . وقال :
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حَزِيمَةَ أَصْبُعَا ... فإن قلت : كيف تقدير قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } ؟ قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا ... أي : ذا مقدار مسافة أصبع { أَوْ أدنى } أي على تقديركم ، كقوله تعالى : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] . { إلى عَبْدِهِ } إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر ، لأنه لا يلبس؛ كقوله : { على ظَهْرِهَا } [ فاطر : 45 ] . { مَا أوحى } تفخيم للوحي الذي أوحي إليه : قيل أوحي إليه «إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» { مَا كَذَبَ } فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام ، أي : ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً ، لأنه عرفه ، يعني : أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أنّ ما رآه حق وقرىء : «ما كذب» أي صدّقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته { أفتمارونه } من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة ، كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه . وقرىء : «أفتمرونه» أفتغلبونه في المراء ، من ماريته فمريته ، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا : وقيل : أفتمرونه : أفتجحدونه . وأنشدوا :
لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَاً صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً مَا كَانَ يَمْرِيكاً
وقالوا : يقال مريته حقه إذا جحدته ، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين { نَزْلَةً أخرى } مرة أخرى من النزول ، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة ، لأنّ الفعلة اسم للمرّة من الفعل ، فكانت في حكمها ، أي : نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج عند سدرة المنتهى .
قيل : في سدرة المنتهى : هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش : ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيول ، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى : بمعنى موضع الانتهاء ، أو الانتهاء ، كأنها في منتهى الجنة وآخرها . وقيل : لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ، ولا يعلم أحد ما وراءها . وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء { جَنَّةُ المأوى } الجنة التي يصير إليها المتقون : عن الحسن . وقيل : تأوى إليها أرواح الشهداء . وقرأ علي وابن الزبير وجماعة «جنة المأوى» أي سترة بظلاله ودخل فيه . وعن عائشة : أنها أنكرته وقالت : من قرأ به فأجنه الله { مَا يغشى } تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله : أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف . وقد قيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1101 ) " رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1102 )
يغشاها رفرف من طير خضر ... وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش من ذهب [ ما زاغ ] بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وما طغى ] أي أثبت ما رآه اثباتا مستقيماً صحيحاً ، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، وما طغى : وما جاوز ما أمر برؤيته { لَقَدْ رأى } والله لقد رأى { مِنْ ءايات رَبِّهِ } الآيات التي هي كبراها وعظماها ، يعني : حين رقى به إلى السماء فأري عجائب الملكوت .
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
{ اللات والعزى ومناة } أصنام كانت لهم ، وهي مؤنثات؛ فاللات كانت لثقيف بالطائف . وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة . أو يلتوون عليها : أي يطوفون . وقرىء «اللات» بالتشديد . وزعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالسويق ويطعمه الحاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً ، والعزى كانت لغطفان وهي سمرة ، وأصلها تأنيث الأعز .
( 1103 ) وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك ... إني رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهانَكَ
ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام تلك العزى ولن تعبد أبداً . ومناة : صخرة كانت لهذيل وخزاعة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لثقيف . وقرىء : «ومناءة» وكأنها سميت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها ، أي : تراق ، ومناءة مفعلة من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها . و { الأخرى ا } ذمّ ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : { وقالت أخراهم لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون الأوّلية والتقدّم عندهم للات والعزى . كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات ، فقيل لهم { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى ( 21 ) } ويجوز أن يراد : أنّ اللات والعزى ومناة إناث ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمونهنّ آلهة { قِسْمَةٌ ضيزى } جائرة ، من ضازه يضيزه إذا ضامه ، والأصل : ضوزى . ففعل بها ما فعل ببيض؛ لتسلم الياء . وقرىء : «ضئزى» من ضأزه بالهمز . وضيزى : بفتح الضاد { هِىَ } ضمير الأصنام ، أي ما هي { إِلاَّ أَسْمَاءٌ } ليس تحتها في الحقيقة مسميات ، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّه منافاة لها . ونحوه قوله تعالى : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : 40 ] أو ضمير الأسماء وهي قولهم ، اللات والعزى ومناة ، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة ، يعني : ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم ، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به . ومعنى { سَمَّيْتُمُوهَا } سميتم بها ، يقال : سميته زيداً ، وسميته بزيد [ إن يتبعون ] وقرىء بالتاء { إِلاَّ الظن } إلا توهم أنّ ما هم عليه حق ، وأنّ آلهتهم شفعاؤهم ، وما تشتهيه أنفسهم ، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أنّ دينهم باطل .
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
{ أَمْ للإنسان مَا تمنى ( 24 ) } هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي : ليس للإنسان ما تمنى ، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة ، وهو تمنّ على الله في غاية البعد ، وقيل : هو قولهم : { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] وقيل : هو قول الوليد بن المغيرة «لأوتين مالاً وولدا» وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم فللَّه الآخرة والأولى أي هو مالكهما ، فهو يعطي منهما من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما .
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
يعني : أنّ أمر الشفاعة ضيق وذلك أنّ الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السموات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً قط ولم تنفع ، إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلاً لأن يشفع له ، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
{ لَيُسَمُّونَ الملائكة } أي كل واحد منهم { تَسْمِيَةَ الأنثى } لأنهم إذا قالوا : الملائكة بنات الله ، فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى { بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بذلك وبما يقولون . وفي قراءة أبيّ : «بها» ، أي : بالملائكة . أو التسمية { لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } يعني إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظنّ والتوهم { فَأَعْرِضْ } عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله وعن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا ، ولا تتهالك على إسلامه ، ثم قال : { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب ، وأنت لا تعلم ، فخفض على نفسك ولا تتعبها ، فإنك لا تهدي من أحببت ، وما عليك إلا البلاغ . وقوله تعالى : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله ، إنّ ربك هو أعلم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قرىء : «ليجزي» ويجزى ، بالياء والنون فيهما . ومعناه : أنّ الله عز وجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت لهذا الغرض : وهو أن يجازي المحسن من الملكفين والمسيء منهم . ويجوز أن يتعلق بقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي جزاؤهما { بِمَا عَمِلُواْ } بعقاب ما عملوا من السوء . و { بالحسنى } بالمثوبة الحسنى وهي الجنة . أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى { كبائر الإثم } أي الكبائر من الإثم؛ لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر ، والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . وقيل : التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها { والفواحش } مافحش من الكبائر ، كأنه قال : والفواحش منها خاصة : وقرىء : «كبير الإثم» أي : النوع الكبير منه وقيل : هو الشرك بالله . واللمم : ما قل وصغر . ومنه : اللمم المس من الجنون ، واللوثة منه . وألمّ بالمكان إذا قل فيه لبثه . وألمّ بالطعام : قل منه أكله : ومنه :
لِقَاءُ أَخِلاَّءِ الصَّفَاِ لِمَامُ ... والمراد الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله تعالى : { إِلاَّ اللمم } من أن يكون استثناء منقطعاً أو صفة ، كقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله } [ الأنبياء : 22 ] كأنه قيل : كبائر الإثم غير اللمم ، وآلهة غير الله : وعن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة ، والغمزة ، والقبلة ، وعند السدّي : الخطرة من الذنب ، وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّاً ولا عذاباً ، وعن عطاء : عادة النفس الحين بعد الحين { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، والكبائر بالتوبة { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات : أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله الزكي منكم والتقي أوّلاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم . وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فنزلت : وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء : فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح : لم يكن من المزكين أنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
{ وأكدى } قطع عطيته وأمسك ، وأصله : من إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية : وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر ، ونحوه : أجبل الحافر ، ثم استعير فقيل : أجبل الشاعر إذا أفحم . روى :
( 1104 ) أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ما له في الخير ، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقي لك شيء ، فقال عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء . فنزلت . ومعنى { تولى } ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل { فَهُوَ يرى } فهو يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أو زاره حق { وفى } قرىء مخففاً ومشدّداً ، والتشديد مبالغة في الوفاء . أو بمعنى : وفر وأتم ، كقوله تعالى : { فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية ، من ذلك : تبليغه الرسالة ، واستقلاله بأعباء النبوّة ، والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه ، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن الهزيل بن شرحبيل : كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده؛ فأوّل من خالفهم إبراهيم . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً ، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة؟ فقال . أمّا إليكما فلا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1105 ) " وفّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ، وهي صلاة الضحى " وروى :
( 1106 ) ألا أخبركم لم سمى الله خليله { الذى وفى } ؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ . . . } إلى { . . . حِين تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17 ] وقيل : وفي سهام الإسلام : وهي ثلاثون : عشرة في التوبة ( التائبون . . ) وعشرة في الأحزاب : { إِنَّ المسلمين . . . } وعشرة في المؤمنين { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون . . } وقرىء : «في صحف» ، بالتخفيف { أَلاَّ تَزِرُ } أن مخففة من الثقيلة . والمعنى : أنه لا تزر ، والضمير ضمير الشأن ، ومحل أن وما بعدها : الجر بدلاً من ما في صحف موسى . أو الرفع على : هو أن لا تزر ، كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم ، فقيل : أن لا تزر { إِلاَّ مَا سعى } إلا سعيه . فإن قلت : أما صح في الأخبار : الصدقة عن الميت ، والحج عنه ، وله الإضعاف؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً وكذلك الإضعاف كأن سعى غيره كأنه سعى نفسه ، لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه .
والثاني؛ أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه { ثُمَّ يُجْزَاهُ } ثم يجزى العبد سعيه ، يقال : أجزاه الله عمله وجزاه على عمله ، بحذف الجار وإيصال الفعل . ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : { الجزاء الأوفى } أو أبدله عنه ، كقوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] ، { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ( 42 ) } قرىء بالفتح على معنى : أن هذا كله في الصحف ، وبالكسر على الابتداء ، وكذلك ما بعده . والمنتهى : مصدر بمعنى الانتهاء ، أي : ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه ، كقوله تعالى : { إِلَى الله المصير } [ فاطر : 18 ] . { أَضْحَكَ وأبكى } خلق قوتي الضحك والبكاء { إِذَا تمنى } إذا تدفق في الرحم ، يقال : منى وأمنى . وعن الأخفش : تخلق من منى الماني ، أي قدر المقدّر : قرىء : «النشأة»« النشاءة» بالمد . وقال : ( عليه ) لأنهاواجبة عليه في الحكمة ، ليجازى على الإحسان والإساءة { وأقنى } وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك { الشعرى } مرزم الجوزاء : وهي التي تطلع وراءها ، وتسمى كلب الجبار ، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور . وكانت خزاعة تعبدها ، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو كبشة ، تشبيهاً له به لمخالفته إياهم في دينهم ، يريد : أنه رب معبودهم هذا . عاد الأولى : قوم هود ، وعاد الأخرى : إرم . وقيل : الأولى القدماء؛ لأنهم أوّل الأمم هلاكاً بعد قوم نوح ، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف . وقرىء : «عاد لولي» وعاد لولى ، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف ( وثمودا ) وقرىء : وثمود { أَظْلَمَ وأطغى } لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، وما أثر فيهم دعاؤه قريباً من ألف سنة { والمؤتفكة } والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت ، وهم قوم لوط ، يقال : أفكه فائتفك : وقرىء : «والمؤتفكات» { أهوى } رفعها إلى السماء على جناج جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض أي : أسقطها { مَا غشى } تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
{ فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكَ تتمارى ( 55 ) } تتشكك ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو للإنسان على الإطلاق ، وقد عدد نعماً ونقماً وسماها كلها آلاء من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين { هذا } القرآن { نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى } أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم . أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين ، وقال : الأولى على تأويل الجماعة { أَزِفَتِ الأزفة ( 57 ) } قربت الموصوفة بالقرب من قوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ، { لَيْسَ لَهَا } نفس { كَاشِفَةٌ } أي مبينة متى تقوم ، كقوله تعالى : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] أو ليس لها نفس كاشفة ، أي : قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، غير أنه لا يكشفها . أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف : كالعافية . وقرأ طلحة «ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة وهي على الظالمين ساءت الغاشية» .
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{ أَفَمِنْ هذا الحديث } وهو القرآن { تَعْجَبُونَ } إنكاراً { وَتَضْحَكُونَ } استهزاء { وَلاَ تَبْكُونَ } والبكاء والخشوع حق عليكم . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1107 ) " أنه لم ير ضاحكاً بعد نزولها " وقرىء : «تعجبون تضحكون» ، بغير واو { وَأَنتُمْ سامدون } شامخون مبرطمون . وقيل : لاهون لاعبون . وقال بعضهم لجاريته : اسمدي لنا ، أي غني لنا { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } ولا تعبدوا الآلهة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1108 ) " من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة " .
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته النيرة . عن أنس بن مالك رضي الله عنه :
( 1109 ) أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين . وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ، قال ابن عباس :
( 1110 ) انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت وقال ابن مسعود :
( 1111 ) رأيت حراء بين فلقتي القمر . وعن بعض الناس : أن معناه ينشق يوم القيامة . وقوله : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } يردّه ، وكفى به رادّاً ، وفي قراءة حذيفة «وقد انشق القمر» أي : اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال :
( 1112 ) ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم . مستمر : دائم مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله ، قيل فيه : قد استمرّ . لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات : قالوا : هذا سحر مستمرّ . وقيل : مستمرّ قوي محكم ، من قولهم : استمر مريره . وقيل : هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته ، أي : مستبشع عندنا ، مرّ على لهواتنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر . وقيل : مستمر مارّ ، ذاهب يزول ولا يبقى ، تمنية لأنفسهم وتعليلاً . وقرىء : «وإن يروا» { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقرّ عليها ، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق ، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته . أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر ، أي : سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة . وقرىء : بفتح القاف ، يعني «كل أمر ذو مستقرّ» أي : ذو استقرار . أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار . وعن أبي جعفر؛« مستقر» ، بكسر القاف والجرّ عطفاً على الساعة ، أي : اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله .
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
{ مّنَ الأنباء } من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة ، وما وصف من عذاب الكفار { مُزْدَجَرٌ } ازدجار أو موضع ازدجار . والمعنى : هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له ، كقوله تعالى : { لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] أي هو أسوة . وقرىء : «مزجر» بقلب تاء الإفتعال زايا وإدغام الزاي فيها { حِكْمَةٌ بالغة } بدل من ما . أو على : هو حكمة . وقرىء بالنصب حالاً من ما . فإن قلت : إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا ، فكيف تعمل إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب كلمة حالاً ، فكيف تعمل إن كانت موصوفة؟ وهو الظاهر . قلت : تخصصها الصفة؛ فيحسن نصب الحال عنها { فَمَا تُغْنِى النذر } نفي أو إنكار . وما منصوبة ، أي فأي غناء تغني النذر { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم . نصب { يَوْمَ يَدْعُو الداعى } بيخرجون ، أو بإضمار اذكر . وقرىء : بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها ، والداعي إسرافيل أو جبريل ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يُنَادِ المناد } [ ق : 41 ] { إلى شَىْء نُّكُرٍ } منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة . وقرىء : «نكر» بالتخفيف؛ ونكر بمعنى أنكر { خُشَّعاً أبصارهم } حال من الخارجين فعل للأبصار وذكر ، كماتقول : يخشع أبصارهم . وقرى : «خاشعة» على : تخشع أبصارهم . وخشعاً ، على : يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . ويجوز أن يكون في { خُشَّعاً } ضميرهم ، وتقع { أبصارهم } بدلاً عنه . وقرىء «خشع أبصارهم» ، على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال . كقوله :
وَجَدْتُهُ حاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ... وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والانخزال ، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما . وقرىء : «يخرجون من الأجداث» من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } الجراد مثل في الكثرة والتموّج . يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض : جاؤا كالجراد ، وكالدبا منتشر في كل مكان لكثرته { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } مسرعين مادّي أعناقهم إليه . وقيل : ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم . قال :
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدِ وَقَدْ أَرَى ... وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
{ قَبْلَهُمْ } قبل أهل مكة { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } يعني نوحاً . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ } بعد قوله : { كَذَّبَتْ } ؟ قلت : معناه : كذبوا فكذبوا عبدنا أي : كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب . أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ، أي : لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوّة رأساً ، كذبوا نوحًا؛ لأنه من جملة الرسل { مَّجْنُونٍ } هو مجنون { وازدجر } وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم { لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } [ الشعراء : 116 ] وقيل : هو من جملة قيلهم ، أي : قالوا هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه . قرىء : «أني» بمعنى : فدعا بأني مغلوب ، وإني : على إرادة القول ، فدعا فقال : إني مغلوب غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي { فانتصر } فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمروبلغ السيل الزُّبا ، فقد روى : أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخرّ مغشياً عليه . فيفيق وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وقرىء : «ففتحنا» مخففاً ومشدّداً ، وكذلك وفجرنا { مُّنْهَمِرٍ } منصبّ في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً { وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً } وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] . { فَالْتَقَى الماء } يعني مياه السماء والأرض . وقرىء : «الماآن» ، أي : النوعان من الماء السماوي والأرضي . ونحوه قولك : عندي تمران ، تريد : ضربان من التمر : برني ومعقلي . قال :
لَنَا إبْلاَنِ فِيهِمَا مَا علمْتُمُ ... وقرأ الحسن «الماوان» ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان { على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } على حال قدرها الله كيف شاء . وقيل : على حال جاءت مقدّرة مستوية : وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء . وقيل : على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان { على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ } أراد السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودي مؤداها . بحيث لا يفصل بينها وبينها . ونحوه :
. . . . . . . . . وَلَكِنْ ... قمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدِ
أراد : ولكن قميصي درع ، وكذلك :
وَلَوْ فِي عُيُونِ النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ ... أراد : ولو في عيون الجراد . ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة ، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين : لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . والدسر : جمع دسار : وهو المسمار ، فعال من دسره إذا دفعه؛ لأنه يدسر به منفذه { جَزآءً } مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده ، أي فعلنا ذلك جزاء ، { لّمَن كَانَ كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفوراً لأنّ النبي نعمة من الله ورحمة .
قال الله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة ، ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال : ما معنى هذا الكلام؟ قال : أنت نعمة حمدت الله عليها . ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل . وقرأ قتادة «كفر» أي جزاء للكافرين . وقرأ الحسن «جزاء» ، بالكسر : أي مجازاة . الضمير في { تركناها } للسفينة . أو للفعلة ، أي : جعلناها آية يعتبر بها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة . وقيل : على الجودى دهراً طويلاً ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة . والمدّكر : المعتبر . وقرىء : «مذتكر» على الأصل . ومذكر ، بقلب التاء ذالاً وإدغام الذال فيها . وهذا نحو : مذجر . والنذر : جمع نذير وهو الإنذار { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } أي سهلناه للادكار والاتعاظ ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد { فَهَلْ مِن } متعظ . وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه . ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر ، من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو ، إذا أسرجه فألجمه . قال :
وَقمت إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسِّراً ... هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
ويروى : أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا يحفظونها ظاهراً كما القرآن .
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
{ وَنُذُرِ } وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله . أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } في يوم شؤم . وقرىء : «في يوم نحس» كقوله : { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] . { مُّسْتَمِرٌّ } قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم . أو استمر عليهم جميعاً كبيرهم وصغيرهم ، حتى لم يبق منهم نسمة ، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور . ويجوز أن يريد بالمستمر : الشديد المرارة والبشاعة { تَنزِعُ الناس } تقلعهم عن أماكنهم ، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدي بعض . ويتدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } يعني أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتاً وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولهابلا فروع ، منقعر : منقلع : عن مغارسه . وقيل : شبهوا بأعجاز النخل ، لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رؤوس . وذكر صفة { نَخْلٍ } على اللفظ ، ولو حملها على المعنى لأنث ، كما قال : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] .
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
{ أَبَشَراً مّنَّا واحدا } نصب بفعل مضمر يفسره { نَّتَّبِعُهُ } وقرىء : «أبشر منا واحد» على الابتداء . ونتبعه خبره ، والأوّل أوجه للاستفهام . كان يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق ، وسعر : ونيران ، جمع سعير ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول . وقيل : الضلال : الخطأ والبعد عن الصواب . والسعر : الجنون . يقال : ناقة مسعورة . قال :
كَأَنَّ بِهَا سُعْرًا إذَا الْعِيسُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً؟ قلت : قالوا أبشراً : إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة ، وقالوا : { مِّنَّا } لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا : { واحدا } إنكاراً لأن تتبع الأمّة رجلاً واحداً . أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم : { أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي أنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوّة { أَشِرٌ } بطر متكبر ، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك { سَيَعْلَمُونَ غَداً } عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة { مَّنِ الكذاب الاشر } أصالح أم من كذبه . وقرىء : «ستعلمون» بالتاء على حكاية ما قال لهم صالح مجيباً لهم . أو هو كلام الله تعالى على سبيل الالتفات . وقرىء : «الأشر» بضم الشين ، كقولهم حدث وحدث . وحذر وحذر ، وأخوات لها . وقرىء : «الأشر» وهو الأبلغ في الشرارة . والأخير والأشر : أصل قولهم : هو خير منه وشر منه ، وهو أصل مرفوض ، وقد حكى ابن الأنباري قول العرب : هو أخير وأشر ، وما أخيره وما أشره { مُرْسِلُواْ الناقة } باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا { فِتْنَةً لَّهُمْ } امتحاناً لهم وابتلاء { فارتقبهم } فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون { واصطبر } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري { قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } مقسوم بينهم : لها شرب يوم ولهم شرب يوم . وإنما قال : بينهم ، تغليباً للعقلاء «محتضر» محضور لهم أو للناقة . وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها { صاحبهم } قدار بن سالف أحيمر ثمود { فتعاطى } فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له ، فأحدث العقر بالناقة . وقيل فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف { صَيْحَةً واحدة } صيحة جبريل . والهشيم؛ الشجر اليابس المتهشم المتكسر «والمحتظر» الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم . وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار ، أي «الحظيرة» .
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
{ حاصبا } ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي : ترميهم { بِسَحَرٍ } بقطع من الليل ، وهو السدس الأخير منه . وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه ، وأنشد :
مَرَّتْ بِأَعْلَى السَّحَرَيْنِ تَذْأَلُ ... وصرف لأنه نكرة . ويقال : لقيته سحر أذا لقيته في سحر يومه { نِّعْمَةًَ } إنعاماً ، مفعول له { مَن شَكَرَ } نعمة الله بإيمانه وطاعته { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ } لوط عليه السلام { بَطْشَتَنَا } أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْاْ } فكذبوا { بالنذر } متشاكين { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق . روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة خلهم يدخلوا ، { إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } [ هود : 81 ] فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط { فَذُوقُواْ } فقلت لهم : ذوقوا على ألسنة الملائكة { بُكْرَةً } أوّل النهار وباكره ، كقوله : ( مشرقين ) ، و ( مصبحين ) . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : «بكرة» ، غير منصرفة ، وتقول : أتيته بكرة وغدوة بالتنوين . إذا أردت التنكير ، وبغيره إذا عرّفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته { عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضى بهم إلى عذاب الآخرة . فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟ قلت : فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبإ من أنباء الأوّلين ادكاراً واتعاظاً ، وأن يستأفنوا تنبهاً واستيقاظاً ، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ، يقعقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير ، كقوله : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] عند كل نعمة عدّها في سورة الرحمن ، وقوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب . مصورة للأذهان ، مذكورة غير منسية في كل أوان .
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
{ النذر } موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون . أو جمع نذير وهو الإنذار { بأاياتنا كُلِّهَا } بالآيات التسع { أَخْذَ عِزِيزٍ } لا يغالب { مُّقْتَدِرٍ } لا يعجزه شيء .
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
{ أكفاركم } يا أهل مكة { خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } الكفار المعدودين : قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، أي أهم خير قوّة وآلة ومكانة في الدنيا . أو أقل كفراً وعناداً يعني : أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم { أَمْ } أنزلت عليكم يا أهل مكة { بَرَاءةٌ } في الكتب المتقدّمة . أنّ من كفر منكم وكذب الرسل كان آمناً من عذاب الله ، فأمنتم بتلك البراءة { نَحْنُ جَمِيعٌ } جماعة أمرنا مجتمع { مُّنتَصِرٌ } ممتنع لا نرام ولا نضام . وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر ، فتقدَّم في الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت { سَيُهْزَمُ الجمع } عن عكرمة :
( 1113 ) لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : «سيهزم الجمع» عرف تأولها { وَيُوَلُّونَ الدبر } أي الأدبار كما قال :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... وقرىء : «الأدبار» { أدهى } أشدّ وأفظع . والداهية : الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه { وَأَمَرُّ } من الهزيمة والقتل والأسر . وقرىء : «سنهزم الجمع» .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
{ فِى ضلال وَسُعُرٍ } في هلاك ونيران . أو في ضلال عن الحق في الدنيا ، ونيران في الآخرة { مَسَّ سَقَرَ } كقولك : وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب؛ لأنّ النار إذا أصابتهم بحرهاولفحتهم بإيلامها ، فكأنها تمسهم مساً بذلك ، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذى ويؤلم . وذوقوا : على إرادة القول . وسقر : علم لجهنم . من سقرته النار وصقرته إذا لوحته . قال ذو الرمّة :
إذَا ذَابَتِ الشَّمْسُ اتقى صَقَرَاتِهَا ... بِأَفْنَانِ مَرْبُوعِ الصَّرِيمَةِ مُعْبِلِ
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث { كُلَّ شَىْءٍ } منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرىء : «كل شيء» بالرفع «والقدر والقدر» التقدير . وقرىء بهما ، أي : خلقنا كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة . أو مقدّراً مكتوباً في اللوح . معلوماً قبل كونه ، قد علمنا حاله وزمانه { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة } إلا كلمة واحدة سريعة التكوين { كَلَمْحٍ بالبصر } أراد قوله كن ، يعني أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
{ أشياعكم } أشباهكم في الكفر من الأمم { فِى الزبر } في دواوين الحفظة { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } من الأعمال ومن كل ما هو كائن { مُّسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
«ونهر» وأنهار ، اكتفى باسم الجنس . وقيل : هو السعة والضياء من النهار . وقرىء : بسكون الهاء . «ونهَر» جمع نهر ، كأسد وأسد { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } في مكان مرضيّ . وقرىء : «في مقاعد صدق» { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } مقرّبين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته ، فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1114 ) " من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر " .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
عدّد الله عز وعلا آلاءه ، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها : وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحي الله رتبة ، وأعلاه منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه : ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، وليحيط علماً بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله ، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدّماً عليه وسابقاً له ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ، { الرحمن } مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟ { بِحُسْبَانٍ } بحساب معلوم وتقدير سويّ { يجريان } في بروجهما ومنازلهما . وفي ذلك منافع للناس عظيمة : منها علم السنين والحساب { والنجم } والنبات الذي لا ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول { والشجر } الذي له ساق . وسجودهما : انقيادههما لله فيما خلقا له ، وأنهما لا يمتنعان ، تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده . فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ قلت : استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي ، لما علم أن الحسبان حسبانه ، والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له ، فإن قلت : كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ، ثم جيء به بعد؟ قلت : بَكَّت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التمديد ، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه ، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدّمته ، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف . فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ قلت : إنّ الشمس والقمر سماويان ، والنجم والشجر أرضيان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل ، وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ، وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر وقيل : { عَلَّمَ القرءان ( 2 ) } جعله علامة وآية . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الإنسان آدم . وعنه أيضاً : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن مجاهد النجم : نجوم السماء { والسمآء رَفَعَهَا } خلقها مرفوعة مسموكة ، حيث جعلها منشأ أحكامه ، ومصدر قضاياه ، ومتنزل أوامره ونواهيه ، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه؛ ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه { وَوَضَعَ الميزان } وفي قراءة عبد الله «وخفض الميزان» .
وأراد به كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس ، أي خلقه موضوعاً مخفوضاً على الأرض : حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } لئلا تطغوا . أو هي أن المفسرة . وقرأ عبد الله «لا تطغوا» بغير أن ، على إرادة القول { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } وقوّموا وزنكم بالعدل { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } ولا تنقصوه : أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان . وكرّر لفظ الميزان : تشديداً للتوصية به ، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه . وقرىء : «والسماء» بالرفع . «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها . يقال : خسر الميزان يخسره ويخسره ، وأمّا الفتح فعلى أن الأصل : ولا تخسروا في الميزان ، فحذف الجار وأوصل الفعل . { وَضَعَهَا } خفضها مدحوّة على الماء { لِلأَنَامِ } للخلق ، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة . وعن الحسن : الإنس والجنّ ، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها { فاكهة } ضروب مما يتفكه به ، و { الأكمام } كل ما يكم أي يغطى من ليفة وسعفة وكفّراة وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه . وقيل الأكمام أوعية التمر-الواحد كِم بكسر الكاف و { العصف } ورق الزرع وقيل التبن { والريحان } الرزق وهو اللب : أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل ، وما يتغذى به وهو الحب . وقرىء : «والريحان» ، بالكسر . ومعناه : والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام ، والريحان الذي هو مطعم الناس . وبالضم على ، وذو الريحان ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم ، وفي مصاحف أهل الشأم : ( والحب ذو العصف والريحان ) أي : وخلق الحب والريحان ، أو وأخص الحب والريحان . ويجوز أن يراد : وذا الريحان ، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه ، والخطاب في { رَبِّكُمَا تُكَذّبَانِ } للثقلين بدلالة الأنام عليهما . وقوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمن : 31 ] .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
الصلصال : الطين اليابس له صلصلة . والفخار : الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف . فإن قلت : قد اختلف التنزيل في هذا ، وذلك قوله عزّ وجلّ : { مّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 - 28 - 33 ] ، { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] { مّن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] . قلت : هو متفق في المعنى ، ومفيد أنه خلقه من تراب : جعله طيناً ، ثم حمأ مسنون ، ثم صلصالا . و { الجآن } أبو الجن . وقيل : هو إبليس . والمارج : اللهب الصافي الذي لا دخان فيه . وقيل : المختلط بسواد النار ، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط . فإن قلت : فما معنى قوله : { مِّن نَّارٍ } ؟ قلت : هو بيان لمارج ، كأنه قيل : من صاف من نار . أو مختلط من نار أو أراد من نار مخصوصة ، كقوله تعالى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] .
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
قرىء : «رب المشرقين ورب المغربين» بالجر بدلاً من ( ربكما ) وأراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما .
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)
{ مَرَجَ البحرين } أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين ، لا فصل بين الماءين في مرأى العين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } حاجز من قدرة الله تعالى { لاَّ يَبْغِيَانِ } لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة . قرىء : «يُخرَج» ويَخْرُج من أُخرج . وخرج . ويُخرِج : أي الله عز وجل اللؤلؤَ والمرجانَ بالنصب . ونخرج بالنون . واللؤلؤ : الدرّ . والمرجان : هذا الخرز الأحمر وهو البسذ . وقيل : اللؤلؤ كبار الدرّ . والمرجان : صغاره . فإن قلت : لم قال : ( منهما ) وإنما يخرجان من الملح؟ قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد : جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه . وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله ، بل من دار واحدة من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب .
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
{ الجوار } السفن . وقرىء : «الجوار» بحذف الياء ورفع الراء ، ونحوه :
لَهَا ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَانٌ ... وَأَرْبَعٌ فَكُلُّهَا ثَمَانُ
و { المنشئات } المرفوعات الشُّرّع . وقرىء : بكسر الشين : وهي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ . والأعلام : جمع علم ، وهو الجبل الطويل .
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
{ عَلَيْهَا } على الأرض { وَجْهُ رَبّكَ } ذاته ، والوجه يعبر به عن الجملة والذات ، ومساكين مكة يقولون : أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان ، و { ذُو الجلال والإكرام } صفة الوجه . وقرأ عبد الله : «ذي» على : صفة ربك . ومعناه : الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم . أو الذي يقال له : ما أجلك وأكرمك . أو من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله؛ ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1115 ) " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1116 ) أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : " قد استجيب لك " فإن قلت : ما النعمة في ذلك؟ قلت : أعظم النعمة وهي مجيء وقت الجزاء عقيب ذلك .
============
ج18..كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه ، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم ، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدّد أحوالاً ، كما روى :
( 1117 ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : « من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوماً ويضع آخرين » وعن ابن عيينه : الدهر عند الله تعالى يومان ، أحدهما : اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع . والآخر : يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئاً . وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها ، فقال غلام له أسود : يا مولاي ، أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي ، فأخبره فقال له : أنا أفسرها للملك فأعلمه ، فقال : أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلى معافاً ويعافى مبتلى ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ويفقر غنياً ويغني فقيراً؛ فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله . وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت على ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } [ المائدة : 31 ] وقد صح أنّ الندم توبة وقوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } وقد صح أنّ القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة . وقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمّة . ويكون توبة في هذه الأمّة؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأمّة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم ، وقيل إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله ، وأما قوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فمعناه : ليس له إلا ما سعى عدلاً ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً ، وأما قوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها ، فقام عبد الله وقبل رأسه وسوّغ خراجه .
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، يريد : سأتجرّد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك ، حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد : التوفر على النكاية فيه والانتقام منه ، ويجوز أن يراد : ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل ، وقرىء : «سيفرغ لكم» ، أي : الله تعالى ، «وسأفرغ لكم» و«سنفرغ» بالنون ، مفتوحاً مكسوراً وفتح الراء ، و«سيفرَغ» بالياء مفتوحاً ومضموماً مع فتح الراء ، وفي قراءة أبيّ «سنفرغ إليكم» بمعنى : سنقصد إليكم ، والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
{ يامعشر الجن والإنس } كالترجمة لقوله : أيها الثقلان { إِنِ استطعتم } أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي ، فافعلوا ، ثم قال : لا تقدرون على النفوذ { إِلاَّ بسلطان } يعني بقوّة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَلاَ فِى السماء } [ العنكبوت : 22 ] وروى : أنّ الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع الخلائق ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به . قرىء : «شواظ ونحاس» ، كلاهما بالضم والكسر؛ والشواظ : اللهب الخالص . والنحاس : الدخان؛ وأنشد :
تُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا
وقيل : الصفر المذاب يصب على رؤوسهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر . وقرىء : «ونحاس» ، مرفوعاً عطفاً على شواظ . ومجروراً عطفاً على نار . وقرىء : «ونحس» جمع نحاس ، وهو الدخان ، نحو لحاف ولحف . وقرىء : «ونحس» أي : ونقتل بالعذاب . وقرىء : «نرسل عليكم شواظاً من نار ونحاساً» { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } فلا تمتنعان .
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
{ وَرْدَةً } حمراء { كالدهان } كدهن الزيت ، كما قال : ( كالمهل ) ، وهو درديّ الزيت ، وهو جمع دهن . أو اسم ما يدهن به كالخزام والإدام . قال :
كَأَنَّهُمَا مَزَادَتَا مُتَعَجِّل ... فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنَا بِدِهَانِ
وقيل : الدهان الأديم الأحمر . وقرأ عمرو بن عبيد «وردة» بالرفع ، بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله :
فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَة ... تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَو يَمْوتَ كَرِيمُ
{ إِنسٌ } بعض من الإنس { وَلاَ جَانٌّ } أريد به : ولا جن : أي : ولا بعض من الجن ، فوضع الجانّ الذي هو أبو الجن موضع الجن ، كما يقال : هاشم ، ويراد ولده . وإنما وحد ضمير الإنس في قوله : { عَن ذَنبِهِ } لكونه في معنى البعض . والمعنى : لا يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون . فإن قلت : هذا خلاف قوله تعالى : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله : { وقفوهم إنهم مسؤلون } [ الصافات : 24 ] . قلت : ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر : قال قتادة : قد كانت مسألة ، ثم ختم على أفواه القوم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وقيل لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته ، ولكن يسأل سؤال توبيخ . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «ولا جأَنٌّ» فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان على حده .
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
{ فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام } عن الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة : تارة تأخذ بالنواصي؛ وتارة تأخذ بالأقدام { حَمِيمٍ ءانٍ } ماء حار قد انتهى حرّه ونضجه ، أي : يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم . وقيل : إن وادياً من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال ، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم؛ ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرىء : «يطوّفون» من التطويف . ويطوّفون ، أي : يتطوّفون ويطافون . وفي قراءة عبد الله : «هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليان لا تموتان فيها ولا تحييان يطوفون بينهما» ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب : نجاة الناجي منه برحمته وفضله ، وما في الإنذار به من اللطف .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
{ مَقَامَ رَبّهِ } موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } [ المطففين : 6 ] ونحوه : { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } [ إبراهيم : 14 ] ويجوز أن يراد بمقام ربه : أن الله قائم عليه؛ أي : حافظ مهيمن من قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] فهو يراقب ذلك فلا يجسر على معصيته . وقيل : هو مقحم كما تقول : أخاف جانب فلان ، وفعلت هذا لمكانك . وأنشد :
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
يريد : ونفيت عنه الذئب . فإن قلت : لم قال : { جَنَّتَانِ } ؟ قلت : الخطاب للثقلين؛ فكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف الجني . ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي؛ لأن التكليف دائر عليهما وأن يقال : جنة يثاب بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل ، كقوله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] خص الأفنان بالذكر : وهي الغصنة التي تتشعب من فروع الشجرة : لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتنى الثمار . وقيل : الأفنان ألوان النعم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين . قال :
وَمِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللَّذَاذَةِ وَالصَّبَا ... لَهَوْتُ لَهَوْتُ بِهِ وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ نَاضِرُ
{ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } حيث شاءوا في الأعالي والأسافل . وقيل : تجريان من جبل من مسك . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال : إحداهما التسنيم ، والأخرى : السلسبيل { زَوْجَانِ } صنفان : قيل : صنف معروف وصنف غريب { مُتَّكِئِينَ } نصب على المدح للخائفين . أو حال منهم ، لأنّ من خاف في معنى الجمع { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } من ديباج ثخين ، وإذا كانت البطائن من الإستبرق ، فما ظنك بالظهائر؟ وقيل : ظهائرها من سندس . وقيل : من نور { دَانٍ } قريب يناله القائم والقاعد والنائم . وقرىء : «وجنى» ، بكسر الجيم .
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
{ فِيهِنَّ } في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى . أو في الجنتين ، لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس { قاصرات الطرف } نساء قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ : لا ينظرن إلى غيرهم . لم يطمث الإنسيات منهنّ أحد من الإنس ، ولا الجنيات أحد من الجن وهذا دليل عى أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس ، وقرىء : «لم يطمثهنّ» بضم الميم . قيل : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان وصغار الدر : أنصع بياضاً . قيل : إنّ الحوراء تلبس سبعين حلة ، فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء { هَلْ جَزَآءُ الإحسان } في العمل { إِلاَّ الإحسان } في الثواب . وعن محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر . أي : مرسلة ، يعني : أنّ كل من أحسن أُحسن إليه ، وكل من أَساء أسيء إليه .
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
{ وَمِن دُونِهِمَا } ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين { جَنَّتَانِ } لمن دونهم من أصحاب اليمين { مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) } قد ادهامّتا من شدّة الخضرة { نَضَّاخَتَانِ } فوّارتان بالماء . والنضخ أكثر من النضح ، لأنّ النضح غير معجمة مثل الرش ، فإن قلت : لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت : اختصاصاً لهما وبياناً لفضلهما ، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران ، كقوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] أو لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه . ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباً : لم يحنث ، وخالفه صاحباه .
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ خيرات } خيرات فخففت ، كقوله عليه السلام :
( 1118 ) " هينون لينون " وأما «خير» الذي هو بمعنى أخير ، فلا يقال فيه خيرون ولا خيرات . وقرىء : «خيرات» على الأصل . والمعنى : فاضلات الأخلاق حسان الخلق { مقصورات } قصرن في خدورهنّ . يقال : امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة مخدرة . وقيل : إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة { قَبْلَهُمْ } قبل أصحاب الجنتين ، دل عليهم ذكر الجنتين { مُتَّكِئِينَ } نصب على الاختصاص . والرفرف : ضرب من البسط . وقيل البسط وقيل الوسائد ، وقيل كل ثوب عريض رفرف . ويقال لأطراف البسط فضول الفسطاط : رفارف . ورفرف السحاب : هيدبه والعبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد الجن؛ فينسبون إليه كل شيء عجيب . وقرىء : «رفارف خضر» بضمتين . وعباقرى ، كمدائني : نسبة إلى عباقري في اسم البلد : وروى أبو حاتم : عباقرى ، بفتح القاف ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . فإن قلت : كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل : ومن دونهما؟ قلت : مدهامّتان ، دون ذواتا أفنان . ونضاختان دون : تجريان . وفاكهة دون : كل فاكهة . وكذلك صفة الحور والمتكأ . وقرىء : «ذو الجلال» صفة ، للاسم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1119 ) " من قرأ سورة الرحمن أدّى شكر ما أنعم الله عليه " .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
{ وَقَعَتِ الواقعة } كقولك : كانت الكائنة ، وحدثت الحادثة ، والمراد القيامة : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها ، ووقوع الأمر : نزوله . يقال : وقع ما كنت أتوقعه ، أي : نزل ما كنت أترقب نزوله . فإن قلت : بم انتصب إذا؟ قلت : بليس . كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل . أو بمحذوف ، يعني : إذا وقعت كان كيت وكيت ، أو بإضمار اذكر { كَاذِبَةٌ } نفس كاذبة ، أي : لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب؛ لأنّ كل نفس حينئذٍ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] ، { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } [ الشعراء : 201 ] ، { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } [ الحج : 55 ] واللام مثلها في قوله تعالى : { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] أو : ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها ، يقلن لها : لن تكوني . أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه فتعرّض له ولا تبال به ، على معنى : أنها وقعة لا تطاق شدّة وفظاعة . وأن لا نفس حينئذٍ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذٍ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى : { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] والفراش مثل في الضعف . وقيل : { كَاذِبَةٌ } مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب ، من قولك : حمل على قرنه فما كذب ، أي : فما جبن وماتثبط . وحقيقته : فما كذب نفسه فيما حدثته به . من إطاقته له وإقدامه عليه . قال زهير :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . إذَا ... مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا
أي : إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( 3 ) } على : هي خافضة رافعة ، ترفع أقواماً وتضع آخرين : إما وصفاً لها بالشدّة؛ لأنّ الواقعات العظام كذلك ، يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ، وإما لأنّ الأشقياء يحطون إلى الدركات ، والسعداء يرفعون إلى الدرجات؛ وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارّها ، فتخفض بعضاً وترفع بعضاً : حيث تسقط السماء كسفاً وتنتثر الكواكب وتنكدر وتسير الجبال فتمرّ في الجوّ مرّ السحاب ، وقرىء : «خافضة رافعة» بالنصب على الحال { رُجَّتِ } حرّكت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء { وَبُسَّتِ الجبال } وفتت حتى تعود كالسويق ، أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها . كقوله : { وَسُيّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] ، «منبثاً» متفرقاً . وقرىء بالتاء أي : منقطعاً . وقرىء : «رجت وبست» أي : ارتجت وذهبت . وفي كلام بنت الخس : عينها هاج ، وصلاها راج . وهي تمشي تفاج . فإن قلت : بم انتصب إذا رجت؟ قلت : هو بدل من إذا وقعت . ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة . أي : تخفض وترفع وقت رج الأرض ، وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض { أزواجا } أصنافاً ، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج .
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
{ فأصحاب الميمنة } الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم { وأصحاب المشئمة } الذي يؤتونها بشمائلهم . أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية ، من قولك : وفلان مني باليمين ، فلان مني بالشمال : إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة؛ وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، ولتفاؤلهم بالسانح وتطيّرهم من البارح ، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن ، وسموا الشمائل الشؤمى . وقيل : أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة : أصحاب اليمن والشؤم؛ لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم ، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم . وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال .
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
{ والسابقون } المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا السابق المقرَّب ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ، ثم تراجع بتوبة؛ فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ، ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا صاحب الشمال ( ما أصحاب الميمنة ) . ( ما أصحاب المشأمة ) تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة . والمعنى : أي شيء هم؟ والسابقون السابقون ، يريد : والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم ، كقوله وعبد الله عبد الله . وقول أبي النجم :
وشعري شعري ... كأنه قال : وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته ، وقد جعل السابقون تأكيداً . وأولئك المقرّبون : خبراً وليس بذاك : ووقف بعضهم على : والسابقون؛ وابتدأ السابقون أولئك المقرّبون ، والصواب أن يوقف على الثاني ، لأنه تمام الجملة ، وهو في مقابلة : ما أصحاب الميمنة ، وما أصحاب المشأمة { المقربون فِى جنات النعيم ( 12 ) } الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم . وقرىء : «في جنة النعيم» والثلة : الأمة من الناس الكثيرة . قال :
وَجَاءَتْ إلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّة ... بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِن السَّيّلِ مُزْبِدِ
وقوله عز وجل : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخرين ( 14 ) } كفى به دليلاً على الكثرة ، وهي من الثل وهو الكسر ، كما أنّ الأمّة من الأمّ وهو الشج ، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم . والمعنى : أنّ السابقين من الأوّلين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم { وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخرين ( 14 ) } وهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : { مِّنَ الأولين } من متقدّمي هذه الأمة ، و { مِّنَ الأخرين } من متأخريها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1120 ) " الثلتان جميعاً من أمّتي " فإن قلت : كيف قال : { وقليل من الآخرين } ، ثم قال : { وَثُلَّةٌ مّنَ الأخرين ( 40 ) } ؟ قلت : هذا في السابقين وذلك في أصحاب اليمين؛ وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً . فإن قلت : فقد روى أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت { ثَلة من الأولين وثلة من الأخرين } [ الواقعة : 39 - 40 ] . قلت : هذا لا يصح لأمرين ، أحدهما : أنّ هذه الآية واردة في السابقين وروداً ظاهراً ، وكذلك الثانية في أصحاب اليمين . ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم ، على السابقين ووعدهم ، والثاني : أنّ النسخ في الأخبار غير جائز وعن الحسن رضي الله عنه : سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا ، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمّة . وثلة : خبر مبتدإ محذوف ، أي : هم ثلة { مَّوْضُونَةٍ } مرمولة بالذهب ، مشبكة بالدرّ والياقوت ، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع .
قال الأعشى :
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَة ... وقيل : متواصلة ، أدنى بعضها من بعض . { مُتَّكِئِينَ } حال من الضمير في على ، وهو العامل فيها ، أي : استقرّوا عليها متكئين { متقابلين } لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض . وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب { مُّخَلَّدُونَ } مبقون أبداً على شكل الولدان وحدّ الوصافة لا يتحوّلون عنه . وقيل : مقرّطون ، والخلدة : القرط . وقيل : هم أولاد أهل الدنيا : لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات فيعاقبوا عليها . روى عن علي رضي الله عنه وعن الحسن . وفي الحديث :
( 1121 ) " أولاد الكفار خدّام أهل الجنة " الأكواب : أوان بلا عرى وخراطيم ، والأباريق ، ذوات الخراطيم { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي بسببها ، وحقيقته : لا يصدر صداعهم عنها . أو لا يفرّقون عنها . وقرأ مجاهد : «لا يصدعون» ، بمعنى : لا يتصدعون لا يتفرقون ، كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ويصدعون ، أي : لا يصدع بعضهم بعضاً ، لا يفرّقونهم { يَتَخَيَّرُونَ } يأخذون خيره وأفضله { يَشْتَهُونَ } يتمنون . وقرىء : «ولحوم طير» قرىء : «وحور عين» بالرفع على : وفيها حور عين ، كبيت الكتاب :
إِلاَّ رَوَاكِدُ جَمْرُهُنَّ هَبَاء ... وَمُشَجَّجٌ . . . . . . . . . . . .
أو للعطف على ولدان ، وبالجر : عطفاً على جنات النعيم ، كأنه قال : هم في جنات النعيم ، وفاكهة ولحم وحور . أو على أكواب ، لأن معنى { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ ( 17 ) { بِأَكْوَابٍ } ينعمون بأكواب ، وبالنصب على : ويؤتون حورا { جَزَآءً } مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم { سلاما سلاما } إما بدل من { قِيلاً } بدليل قوله { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سلاما } [ مريم : 62 ] وإما مفعول به لقيلا ، بمعنى : لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما . والمعنى : أنهم يفشون السلام بينهم ، فيسلمون سلاماً بعد سلام . وقرىء : «سلام سلام» ، على الحكاية .
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
السدر : شجر النبق . والمخضود : الذي لا شوك له ، كأنما خضد شوكه . وعن مجاهد : الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب . والطلح : شجر الموز . وقيل : هو شجر أم غيلان ، وله نوار كثير طيب الرائحة . وعن السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ : «وطلع» ( فقال ) ، وما شأن الطلح ، وقرأ قوله : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] فقيل له : أَوَ تُحوِّلها؟ فقال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل . وعن ابن عباس نحوه . والمنضود : الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه؛ فليست له ساق بارزة { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ( 30 ) } ممتدّ منبسط لا يتقلص ، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس { مَّسْكُوبٍ } يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا لا يتعنون فيه . وقيل : دائم الجرية لا ينقطع . وقيل : مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } لا تمنع عن متناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا . وقرىء : «فاكهة كثيرة» ، بالرفع على : وهناك فاكهة ، كقوله : { وحور عين } [ الواقعة : 22 ] { وَفُرُشٍ } جمع فراش . وقرىء : «وفرش» بالتخفيف { مَّرْفُوعَةٍ } نضدت حتى ارتفعت . أو مرفوعة على الأسرة . وقيل : هي النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك . قال الله تعالى : { هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّا أنشأناهن إِنشآءَ ( 35 ) } وعلى التفسير الأول أضمر لهنّ ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن { أنشأناهن إِنشَاء } أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة ، فإما أن يراد . اللاتي ابتدىء إنشاؤهن؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1122 ) أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى : { إِنَّا أنشأناهن } فقال : " يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا ، جعلهنّ الله بعد الكبر " { أَتْرَاباً } على ميلاد واحد في الاستواء ، كلما أتاهنَّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا؛ فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : واوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هناك وجع "
( 1123 ) وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : " إنّ الجنة لا تدخلها العجائز " ، فولت وهي تبكي ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز " وقرأ الآية { عُرُباً } وقرىء : «عربا» بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أَتْرَاباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين ، وأزواجهنّ أيضاً كذلك . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1124 ) " يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين " واللام في { لأصحاب اليمين ( 38 ) } من صلة أنشأنا وجعلنا .
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{ فِى سَمُومٍ } في حر نار ينفذ في المسام { وَحَمِيمٍ } وماء حار متناه في الحرارة { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } من دخان أسود بهيم { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( 44 ) } نفي لصفتي الظل عنه ، يريد : أنه ظل ، ولكن لا كسائر الظلال : سماه ظلاً ، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه . والمعنى أنه ظلّ حارّ ضارّ إلا أنّ للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات . وفيه تهكم بأصحاب المشأمة ، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة . وقرىء : «لا بارد ولا كريم» بالرفع ، أي : لا هو كذلك و { الحنث } الذنب العظيم . ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث ، أي : الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم . ومنه : حنث في يمينه ، خلاف برّ فيها . ويقال : تحنث إذا تأثم وتحرج { أَوَ ءَابَآؤُنَا } دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف . فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في { لَمَبْعُوثُونَ } من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله تعالى : { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } لفصل ( لا ) المؤكدة للنفي . وقرىء : «أو آباؤنا» وقرىء : «لمجمعون» { إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة بمعنى من ، كخاتم فضة . والميقات : ماوقت به الشيء ، أي : حدّ . ومنه مواقيت الإحرام : وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً { أَيُّهَا الضآلون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث ، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم { مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ } من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية لبيان الشجر وتفسيره . وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في قوله : ( منها ) و ( عليه ) ومن قرأ : «من شجرة من زقوم» فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ، لأنه تفسيرها وهي في معناه «شرب الهيم» وقرىء : بالحركات الثلاث ، فالفتح والضم مصدران . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أيام أكل وشرب ، بفتح الشين . وأما المكسور فبمعنى المشروب ، أي : ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام ، وهو داء تشرب منه فلا تروى : جمع أهيم وهيماء . قال ذو الرمّة :
فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْرِدٌ ... صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا
وقيل الهيم : الرمال . ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك ، جمع على فعل كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض . والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل؛ فإذا ملؤا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ، فيشربونه شرب الهيم . فإن قلت : كيف صحّ عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ قلت : ليستا بمتفقتين ، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه : من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين . النزل : الرزق الذي يعدّ للنازل تكرماً له . وفيه تهكم ، كما في قوله تعالى : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وكقول أبي الشعر الضبي .
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالمُرْهِفَاتِ لَهُ نُزْلاَ
وقرىء : «نزلهم» بالتخفيف .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
{ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } تحضيض على التصديق : إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدّقين به ، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق ، فكأنهم مكذبون به . وإما بالبعث؛ لأنّ من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً «ما تمنون» ما تمنونه ، أي : تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ أبو السّمّال بفتح التاء يقال : أمنى النطفة ومناها . قال الله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } [ النجم : 46 ] . { تَخْلُقُونَهُ } تقدرونه تصوّرونه { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } تقديراً وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا ، فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط . وقرىء : «قدرنا» بالتخفيف . سبقته على الشيء : إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أمثالكم } أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه ، وأمثالكم جمع مثل : أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق ، وعلى أن ( ننشأكم ) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يعني : أنا نقدر على الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم ، وما لا يماثلكم؛ فكيف نعجز عن إعادتكم . ويجوز أن يكون { أمثالكم } جمع مثل ، أي : على أن نبدّل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم في صفات لا تعلمونها . قرىء : «النشأة» والنشاءة . وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهَّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
( أفرأيتم ما تحرثون ) ه من الطعام ، أي : تبذرون حبه وتعملون في أرضه { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } تنبتونه وتردونه نباتاً ، يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1125 ) " لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت " قال أبو هريرة : أرأيتم إلى قوله : { أَفَرَءَيْتُم . . . } الآية . والحطام : من حطم ، كالفتات والجذاذ من فت وجذ : وهو ما صار هشيماً وتحطم { فَظَلْتُمْ } وقرىء بالكسر ( فظللتم ) على الأصل { تَفَكَّهُونَ } تعجبون . وعن الحسن رضي الله عنه : تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه . أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها . وقرىء : «تفكنون» ومنه الحديث :
( 1126 ) " مثل العالم كمثل الحمة يأيتها البعدآء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون " أي : يتندمون { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 ) } لملزمون غرامة ما أنفقنا . أومهلكون لهلاك رزقنا ، من الغرام : وهو الهلاك { بَلْ نَحْنُ } قوم { مَحْرُومُونَ } محارفون محدودون ، لا حظ لنا ولا بخت لنا؛ ولو كنا مجدودين ، لما جرى علينا هذا . وقرىء : «أئنا» .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
{ المآء الذى تَشْرَبُونَ } يريد : الماء العذب الصالح للشرب . و { المزن } السحاب : الواحدة مزنة . وقيل : هو السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء { أُجَاجاً } ملحاً زعاقاً لا يقدر على شربه . فإن قلت : لم أدخلت اللام على جواب ( لو ) في قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حطاما } [ الواقعة : 65 ] ونزعت منه ههنا؟ قلت : إنّ «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ، ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما صارت علماً مشهوراً مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفاً ومأنوساً به : لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ، استغناء بمعرفة السامع . ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول : خير ، لمن قال له : كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه . وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره . وناهيك بقول أوس :
حَتى إذَا الْكلاَّبُ قَالَ لَهَا ... كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا
وحذفه «لم أر» فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه . ويجوز أن يقال : إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب ، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب ، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم . ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء :
إذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضاً ... سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبَماً زَلاَلاَ
وسقى بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة؛ ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب .
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
{ تُورُونَ } تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ، ويسمون الأعلى : الزند ، والأسفل : الزندة؛ شبهوهما بالفحل والطروقة { شَجَرَتَهَآ } التي منها الزناد { تَذْكِرَةً } تذكيراً لنار جهنهم ، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها ، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به . أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم ، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1127 ) « ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم » { ومتاعا } ومنفعة { لّلْمُقْوِينَ } للذين ينزلون القواء وهي القفر . أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام . يقال : أقويت من أيام ، أي لم آكل شيئاً { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ } فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك ، أو أراد بالاسم : الذكر ، أي : بذكر ربك . و { العظيم } صفة للمضاف أو للمضاف إليه . والمعنى : أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال : فأحدث التسبيح وهو أن يقول : سبحان الله ، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته ، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة ، وإما شكراً لله على النعم التي عدّها ونبه عليها .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
{ فَلاَ أُقْسِمُ } معناه فأقسم . ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] وقرأ الحسن : «فلأقسم» . ومعناه : فلأنا أقسم : اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر ، وهي : أنا أقسم ، كقولك : «لزيد منطلق» ثم حذف المبتدأ ، ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح . والثاني : أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال { بمواقع النجوم } بمساقطها ومغاربها ، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ، ونزول الرحمة والرضوان عليهم؛ فلذلك أقسم بمواقعها ، واستعظم ذلك بقوله { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) } أو أراد بمواقعها : منازلها ومسايرها ، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف . وقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) } اعتراض في اعتراض؛ لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم عليه ، وهو قوله : { إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ ( 77 ) } واعترض ب { لَّوْ تَعْلَمُونَ } بين الموصوف وصفته . وقيل : مواقع النجوم : أوقات وقوع نجوم القرآن ، أي : أوقات نزولها كريم حسن مرضي في جنسه من الكتب . أو نفاع جم المنافع . أو كريم على الله { فِى كتاب مَّكْنُونٍ ( 78 ) } مصون من غير المقربين من الملائكة ، لا يطلع عليه من سواهم ، وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها : إن جعلت الجملة صفة لكتاب مكنون وهو اللوح . وإن جعلتها صفة للقرآن؛ فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس ، يعني مس المكتوب منه ، ومن الناس من حمله على القراءة أيضاً ، وعن ابن عمر أحب إليَّ أن لا يقرأ إلا وهو طاهر ، وعن ابن عباس في رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1128 ) " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " أي لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه . وقرىء : «المتطهرون» و«المطهرون» بالإدغام . و«المطهرون» ، من أطهره بمعنى طهره . والمطهرون بمعنى : يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحي الذي ينزلونه { تَنزِيلٌ } صفة رابعة للقرآن ، أي : منزل من رب العالمين . أو وصف بالمصدر؛ لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل؛ ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل . أو هو تنزيل على المبتدأ . وقرىء : «تنزيلاً» على : نزل تنزيلاً .
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{ أفبهذا الحديث } يعني القرآن { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي : متهاونون به ، كمن يدهن في الأمر ، أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ( 82 ) } على حذف المضاف ، يعني : وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ، أي : وضعتم التكذيب موضع الشكر . وقرأ علي رضي الله عنه : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها . والرزق : المطر ، يعني : وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم . وقرىء : «تكذبون» وهو قولهم في القرآن : شعر وسحر وافتراء . وفي المطر : وهو من الأنواء ، ولأنّ كل مكذب بالحق كاذب .
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين . و ( فلولا ) الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في { تَرْجِعُونَهَا } للنفس وهي الروح ، وفي { أَقْرَبُ إِلَيْهِ } للمحتضر { غَيْرَ مَدِينِينَ } غير مربوبين ، من دان السلطان الرعية إذا ساسهم . { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا ، أو بملائكة الموت . والمعنى : إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم : سحر وافتراء . وإن أرسل إليكم رسولاً قلتم : ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد { فَأَمَّا إِن كَانَ } المتوفى { مِنَ المقربين } من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة { فَرَوْحٌ } فله استراحة .
( 1129 ) وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فَرُوح» ، بالضم . وقرأ به الحسن وقال : الروح الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقيل : البقاء ، أي : فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق والنعيم . والريحان : الرزق { فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين ( 91 ) } فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليك . كقوله تعالى : { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ( 93 ) } كقوله تعالى : { هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين } [ الواقعة : 56 ] وقرىء بالتخفيف { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( 94 ) } قرئت بالرفع والجر عطفاً على نزل وحميم { إِنَّ هذا } الذي أنزل في هذه السورة { لَهُوَ حَقُّ اليقين } أي الحق الثابت من اليقين .
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم :
( 1130 ) " من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً " .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
جاء في بعض الفواتح { سَبِّحَ } على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وكل واحد منهما معناه : أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه ، وذلك هجيراه وديدنه ، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى : { وتسبحوه } [ الفتح : 9 ] وأصله : التعدي بنفسه ، لأنّ معنى سبحته : بعدته عن السوء ، منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ، ونصحت له ، وإما أن يراد بسبح لله : أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً ، { مَا فِى السماوات والارض } ما يتأتى منه التسبيح ويصح . فإن قلت : ما محل { يُحْىِ } ؟ قلت : يجوز أن لا يكون له محل ، ويكون جملة برأسها؛ كقوله : { لَّهُ مُلْكُ السموات } [ البقرة : 107 ] وأن يكون مرفوعاً على : هو يحيي ويميتُ ، ومنصوباً حالاً من المجرور في ( له ) والجار عاملاً فيها . ومعناه : يحيي النطف والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء { هُوَ الاول } هو القديم الذي كان قبل كل شيء { والاخر } الذي يبقى بعد هلاك كل شيء { والظاهر } بالأدلة الدالة عليه { والباطن } لكونه غير مدرك بالحواس . فإن قلت : فما معنى الواو؟ قلت الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء . وأما الوسطى ، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين ، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن : جامع للظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس . وفي هذا حجة على من جوّز إدراكه في الآخرة بالحاسة . وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له ، من ظهر عليه إذا علاه وغلبهُ . والباطن الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه : وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم .
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{ مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها ، وخوّلكم الاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة . وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب ، فأنفقوا منها في حقوق الله ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه . أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم : بتوريثه إياكم ، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم ، وسينقل منكم إلى من بعدكم؛ فلا تبخلوا به ، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم { لاَ تُؤْمِنُونَ } حال من معنى الفعل في مالكم ، كما تقول : مالك قائماً ، بمعنى : ما تصنع قائماً ، أي : وما لكم كافرين بالله . والواو في { والرسول يَدْعُوكُمْ } واو الحال ، فهما حالان متداخلتان . وقرىء : «وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله والرسول يدعوكم» والمعنى : وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج ، وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان : حيث ركب فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلة ، ومكنكم من النظر ، وأزاح عللكم ، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول ، فما لكم لا تؤمنون { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لموجب مّا؛ فإن هذا الموجب لا مزيد عليه . وقرىء : «أخذ ميثاقكم» على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل .
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
{ لِيُخْرِجَكُمْ } الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . أو ليخرجكم الرسول بدعوته { لَرَءُوفٌ } وقرىء : «لرؤُف» .
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } في أن لا تنفقوا { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض } يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ، يعني : وأيّ غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله . ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة { أولئك } الذي أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1131 ) " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه " أعظم درجة وقرىء : «قبل الفتح» { وَكُلاًّ } وكل واحد من الفريقين { وَعَدَ الله الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . وقرىء : بالرفع على «وكل وعده الله» وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله . القرض الحسن : الإنفاق في سبيله . شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز ، لأنه إذاأعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً { أَضْعَافًا } من فضله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني : وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه : وقرىء : «فيضعفه» وقرئا منصوبين على جواب الاستفهام والرفع عطف على { يُقْرِضُ } ، أو على : فهو يضاعفه .
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{ يَوْمَ تَرَى } ظرف لقوله : { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيماً لذلك اليوم . وإنما قال : { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين؛ كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم ، فجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية؛ لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون : سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدماً . ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة : { بُشْرَاكُمُ اليوم } . وقرىء : «ذلك الفوز» .
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{ يَوْمَ يَقُولُ } بدل من يوم ترى { انظرونا } انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم . وهؤلاء مشاة . وانظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . وقرىء : «أنظرونا» من النظرة وهي الإمهال : جعل اتئادهم في المضيّ إلى أن يلحقوا بهم أنظاراً لهم { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } نصب منه؛ وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به { قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً } طرد لهم وتهكم بهم ، أي : ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك ، فمن ثم يقتبس . أو ارجعوا إلى الدنيا ، فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان . أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا ، فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور وراءهم؛ وإنما هو تخييب وإقناط لهم { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شقّ الجنة وشق النار . وقيل : هو الأعراف لذلك السور { بَابٌ } لأهل الجنة يدخلون منه { بَاطِنُهُ } باطن السور أو الباب ، وهو الشق الذي يلى الجنة { وظاهره } ما ظهر لأهل النار { مِن قِبَلِهِ } من عنده ومن جهته { العذاب } وهو الظلمة والنار . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : «فضرب بينهم» على البناء للفاعل { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يريدون موافقتهم في الظاهر { فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنين الدوائر { وَغرَّتْكُمُ الامانى } طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار { حتى جَاءَ أَمْرُ الله } وهو الموت { وَغَرَّكُم بالله الغرور } وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفوّ كريم لا يعذبكم . وقرىء : «الغرور» بالضم { فِدْيَةٌ } ما يفتدى به { هِىَ مولاكم } قيل : هي أولى بكم ، وأنشد قول لبيد :
فَغَدَتْ كِلاَ الْفَرَجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّهُ ... مُولِي المَخَافَةَ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا
وحقيقة مولاكم : محراكم ومقمنكم . أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما قيل : هو مئنة للكرم ، أي مكان؛ لقول القائل : إنه الكريم . ويجوز أن يراد : هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد : نفي الناصر على البتات . ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع . ومنه قوله تعالى : { يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 9 ] وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
{ أَلَمْ يَأْنِ } من أنى الأمر يأني ، إذا جاء إناه ، أي : وقته . وقرىء : «ألم يئن» من آن يئين بمعنى : أنى يأنى ، وألما يأن ، قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت . وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبتا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن . وعن الحسن رضي الله عنه : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون . فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق . وعن أبي بكر رضي الله عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاءً شديداً ، فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب . وقرىء : «نزّل ونزل» وأنزل { وَلاَ يَكُونُواْ } عطف على تخشع ، وقرىء بالتاء على الالتفات ، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أنّ بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره . فإن قلت : ما معنى : { لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } ؟ قلت : يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق : القرآن؛ لأنه جامع للأمرين : للذكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى : { إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] أراد بالأمد : الأجل ، كقوله :
. . . . . . إذَا انْتَهَى أَمَدُهْ ... وقرىء : «الأمدّ» ، أي : الوقت الأطول { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين .
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
{ اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض .
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
{ المصدقين } المتصدّقين . وقرىء على الأصل «والمصدّقين» . من صدق ، وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين . فإن قلت : علام عطف قوله { وَأَقْرِضُواُ } ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين؛ لأنّ اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى أصدّقوا ، كأنه قيل : إنّ الذين أصدّقوا وأقرضوا . والقرض الحسن : أنّ يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة . وقرىء : «يضعف» ويضاعف ، بكسر العين ، أي : يضاعف الله .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء؛ وهم الذي سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم . فإن قلت : كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت : المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله ، حتى يساوى أجرهم مع إضعافه أجر أولئك . ويجوز أن يكون { والشهدآء } مبتدأ ، و { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبره .
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر . وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام ، وهي : العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله . وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . وقيل : { الكفار } الزراع . وقرىء : «مصفارّاً» .
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{ سَابِقُواْ } سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، إلى جنة { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } قال السدي : كعرض سبع السموات وسبع الأرضين ، وذكر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة : عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ . ويجوز أن يراد بالعرض : البسطة ، كقوله تعالى : { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة : بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك : وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة { ذلك } الموعود من المغفرة والجنة { فضلا للَّهِ } عطاؤه { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } وهم المؤمنون .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
المصيبة في الأرض : نحو الجدب وآفات الزروع والثمار . وفي الأنفس : نحو الأدواء والموت { فِى كتاب } في اللوح { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } يعني الأنفس أو المصائب { إِنَّ ذَلِكَ } إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب { عَلَى الله يَسِيرٌ } وإن كان عسيراً على العباد ، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ . . . . . } يعني أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي؛ لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة : لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال : لم يعظم فرحه عند نيله { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه : اختال وافتخر به وتكبر على الناس . قرىء : «بما آتاكم» وأتاكم ، من الإيتاء والإتيان . وفي قراءة ابن مسعود «بما أوتيتم» فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغى الملهى عن الشكر؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام ، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر : فلا بأس بهما { الذين يَبْخَلُونَ } بدل من قوله : { كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } كأنه قال : لا يحب الذين يبخلون ، يريد : الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم : يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم ، وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته { وَمَن يَتَوَلَّ } عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي : فإنّ الله غني عنه . وقرىء : «بالبخل» وقرأ نافع : «فإنّ الله الغني» ، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } يعني الملائكة إلى الأنبياء { بالبينات } بالحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } أي الوحي { والميزان } روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به { وَأَنزْلْنَا الحديد } قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان ، والكلبتان ، والميقعة والمطرقة ، والإبرة . وروى : ومعه المرّ والمسحاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1132 ) « أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد ، والنار ، والماء ، والملح » وعن الحسن { وَأَنزَلْنَا الحديد } : خلقناه ، كقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام } [ الزمر : 60 ] وذلك أنّ أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وهو القتال به { ومنافع لِلنَّاسِ } في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها؛ أو ما يعمل بالحديد { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين { بالغيب } غائباً عنهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه { إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } غني بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم ، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
{ والكتاب } والوحي . وعن ابن عباس : الخط بالقلم ، يقال : كتب كتاباً وكتابة { فَمِنْهُم } فمن الذرية أو من المرسل إليهم ، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين . وهذا تفصيل لحالهم ، أي : فمنهم مهتد ومنهم فاسق ، والغلبة للفساق .
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
قرأ الحسن : «الأنجيل» بفتح الهمزة ، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء ، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب . وقرىء : «رآفة» على : فعالة ، أي : وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم . ونحوه في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى ، فقاتلوهم ثلاث مرات ، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم ، فاختاروا الرهبانية : ومعناه الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف : فعلان من رهب ، كخشيان من خشى . وقرىء : «ورهبانية» بالضم ، كأنها نسبة إلى الرهبان : وهو جمع راهب كراكب وركبان ، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر : تقديره . وابتدعوا رهبانية { ابتدعوها } يعني : وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } لم نفرضها نحن عليهم { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه { فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ } يريد : أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } الذين لم يحافظوا على نذرهم . ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها ، وابتدعوها : صفة لها في محل النصب ، أي : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم ، بمعنى : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها ، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه ، فما رعوها جميعاً حق رعايتها؛ ولكن بعضهم ، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم ، وكثير منهم فاسقون . وهم الذين لم يرعوها .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ } يجوز أن يكون خطاباً للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم ، فإن كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب . فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد { يُؤْتِكُمْ } الله { كِفْلَيْنِ } أي نصيبين { مّن رَّحْمَتِهِ } لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله { وَيَجْعَل لَّكُمْ } يوم القيامة { نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } وهو النور المذكور في قوله : { يسعى نُورُهُم } [ الحديد : 12 ] . { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ما أسلفتم من الكفر والمعاصي .
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ لّئَلاَّ يَعْلَمَ } ليعلم { أَهْلُ الكتاب } الذين لم يسلموا . ولا مزيدة { أَلاَّ يَقْدِرُونَ } أن مخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يقدرون ، يعني : أنّ الشأن لا يقدرون { على شَىْءٍ مّن فَضْلِ الله } أي : لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين : والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإن كان خطاباً لغيرهم ، فالمعنى : اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] ولا ينقصكم من مثل أجرهم ، لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله . روى :
( 1133 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جعفراً رضي الله عنه في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه ، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له ، فقال ناس ممن آمن من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً . ائذن لنا في الوفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لهم فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد ، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة : استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجعوا وقدموا بأموال لهم فآسوا بها المسلمين ، فأنزل الله { الذين ءاتيناهم الكتاب . . . . } [ البقرة : 121 ] إلى قوله : { . . . . وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله : { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] فخروا على المسلمين وقالوا : أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرّتين ، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم ، فما فضلكم علينا؟ فنزلت . وروي أنّ مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرّتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقرىء : «لكي يعلم» و«لكيلا يعلم» . و«ليعلم» . و«لأن يعلم»؛ بإدغام النون في الياء . و«لين يعلم» . بقلب الهمزة ياء وإدغام النون في الياء . وعن الحسن : «ليلا يعلم» ، بفتح اللام وسكون الياء . ورواه قطرب بكسر اللام . وقيل : في وجهها : حذفت همزة أن ، وأدغمت نونها في لام لا؛ فصار «للا» ثم أبدلت من اللام المدغمة ياء ، كقولهم : ديوان ، وقيراط . ومن فتح اللام فعلى أن أصل لأم الجرّ الفتح ، كما أنشد :
أُرِيدُ لِأنْسَى ذِكْرَهَا . . . ... وقرىء : «أن لا يقدروا» { بِيَدِ الله } في ملكه وتصرفه . واليد مثل { يُؤْتِيهِ مَن يَشآءُ } ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1134 ) " من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله " .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{ قَدْ سَمِعَ الله } .
( 1135 ) قالت عائشة رضي الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات : لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع ، وقد سمع لها . وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها . وقرىء : «تحاورك» أي : تراجعك الكلام . وتحاولك ، أي : تسائلك ، وهو خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة :
( 1136 ) رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت ، فغضب وكان به خفة ولمم ، فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سني ونثرت بطني أي : كثر ولدي جعلني عليه كأمّه . وروى :
( 1137 ) أنها قالت له : إنّ لي صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فقال : ما عندي في أمرك شيء . وروى :
( 1138 ) أنه قال لها : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ ، فقال : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتى ووجدي ، كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، هتفت وشكت إلى الله ، فنزلت { فِى زَوْجِهَا } في شأنه ومعناه { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يصح أن يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله : ( قد سمع ) ؟ قلت : معناه التوقع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها .
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{ الذين يظاهرون مِنكُمْ } في { مِنكُمْ } توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار ، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم { مَّا هُنَّ أمهاتهم } وقرىء : بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية . وفي قراءة ابن مسعود : «بأمّهاتهم» وزيادة الباء في لغة من ينصب . والمعنى أن من يقول لامرأته أنت عليّ كظهر أمي : ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم ، وجاعلها مثلها . وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين { إِنْ أمهاتهم إِلاَّ الا®ئى وَلَدْنَهُمْ } يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ ، فالمرضعات أمّهات؛ لأنهنّ لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات ، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؛ لأن الله حرّم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات . وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن بأمّهات على الحقيقة . ولا بداخلات في حكم الأمهات ، فكان قول المظاهر : منكراً من القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزوراً وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } لما سلف منه إذا تيب منه ولم يعد إليه ، ثم قال : { والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني : والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة . ووجه آخر : ثم يعودون لما قالوا : ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه . ومنه المثل : عاد غيث على ما أفسد ، أي : تداركه بالإصلاح . والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار . ووجه ثالث : وهو أن يراد بما قالوا : ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكرنا في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] ويكون المعنى : ثم يريدون العود للتماس . والمماسة : الاستمتاع بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها لشهوة { ذَلِكُمْ } الحكم { تُوعَظُونَ بِهِ } لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه . فإن قلت : هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ؟ قلت : نعم إذا وضع مكان أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة كالرأس والوجه والرقبة والفرج ، أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ . ومكان الأمّ ذات رحم محرم منه من نسب أو رضاع أو صهر أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علي كظهر أختي من الرضاع أو عمتي من النسب أو امرأة ابني أو أبي أو أمّ امرأتي أو بنتها ، فهو مظاهر .
وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه . وعن الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وغيرهم نحوه . وقال الشافعي : لا يكون الظهار إلا بالأمّ وحدها وهو قول قتادة والشعبي . وعن الشعبي : لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات والعمات والخالات؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمّهات الوالدات دون المرضعات . وعن بعضهم : لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهاراً . فإن قلت : فإذا امتنع المظاهر من الكفارة ، هل للمرأة أن ترافعه؟ قلت : لها ذلك . وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر ، وأن يحبسه؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فيلزم إيفاء حقها . فإن قلت : فإن مسّ قبل أن يكفر؟ قلت : عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر ، لما روى :
( 1139 ) أن سلمة بن صخر البياض قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : « استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر » فإن قلت : أي رقبة تجزىء في كفارة الظهار؟ قلت : المسلمة والكافرة جميعاً ، لأنها في الآية مطلقة . وعند الشافعي لا تجزي إلا المؤمنة . لقوله تعالى في كفارة القتل : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] ولا تجزى أمّ الولد والمدبر والمكاتب الذي أدّى شيئاً ، فإن لم يؤدّ شيئاً جاز . وعند الشافعي : لا يجوز : فإن قلت : فإن أعتق بعض الرقبة أو صام بعض الصيام ثم مس؟ قلت : عليه أن يستأنف - نهاراً مس - أو ليلاً - ناسياً أو عامداً - عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد : عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزيه ، وإن كان المسّ يفسد الصوم استقبل ، وإلا بنى . فإن قلت : كم يعطي المسكين في الإطعام؟ قلت : نصف صاع من برّ أو صاعاً من غيره عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي مدّاً من طعام بلده الذي يقتات فيه . فإن قلت : ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة بالإطعام كما ذكره عند الكفارتين؟ قلت : اختلف في ذلك ، فعند أبي حنيفة : أنه لا فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس ، وإنما ترك ذكره عند الإطعام دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في خلاله . وعند غيره : لم يذكر للدلالة على أن التكفير قبله وبعده سواء . فإن قلت : الضمير في أن يتماسا إلام يرجع؟ قلت : إلى ما دلّ عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها { ذَلِكَ } البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا { بالله وَرَسُولِهِ } في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } التي لا يجوز تعدّيها { وللكافرين } الذي لا يتبعونها ولا يعملون عليها { عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
{ يُحَآدُّونَ } يعادون ويشاقون { كُبِتُواْ } أخزوا وأهلكوا { كَمَا كُبِتَ } من قبلهم من أعداء الرسل . قيل : أريد كبتهم يوم الخندق { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به { وللكافرين } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزهم وكبرهم { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } منصوب بلهم . أو بمهين . أو بإضمار اذكر تعظيماً لليوم { جَمِيعاً } كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث . أو مجتمعين في حال واحدة ، كما تقول : حي جميع { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم ، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار ، لما يلحقهم من الخزى على رؤوس الأشهاد { أحصاه الله } أحاط به عدداً لم يفته منه شيء { وَنَسُوهُ } لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه لم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي ، وإنما تحفظ معظمات الأمور .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{ مَا يَكُونُ } من كان التامة . وقرىء بالياء والتاء ، والياء على أنّ النجوى تأنيثها غير حقيقي ومن فاصله . أو على أنّ المعنى ما يكون شيء من النجوى . والنجوى : التناجي ، فلا تخلو إما أن تكون مضافة إلى ثلاثة ، أي : من نجوى ثلاثة نفر . أو موصوفة بها ، أي : من أهل نجوى ثلاثة ، فحذف الأهل . أو جعلوا نجوا في أنفسهم مبالغة ، كقوله تعالى : { خَلَصُواْ نَجِيّا } [ يوسف : 80 ] وقرأ ابن أبي عبلة : «ثلاثة وخمسة» ، بالنصب على الحال بإضمار يتناجون؛ لأن نجوى يدل عليه . أو على تأويل نجوى بمتناجين ، ونصبها من المستكن فيه . فإن قلت : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن قوما من المنافقين تحلقوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين : ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك { وَلاَ أدنى مِن } عدديهم { وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ } والله معهم يسمع ما يقولون ، فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية : كانوا يوماً يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً . وقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله؛ وصدق . لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني : أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولى النهى والأحلام ، ورهط من أهل الرأي والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم الاستصواب . ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } فدلّ على الاثنين والأربعة وقال { وَلاَ أَكْثَرَ } فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه . وفي مصحف عبد الله : إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا . وقرىء : «ولا أدنى من ذلك ولا أكثر» ، بالنصب على أن لا لنفي الجنس . ويجوز أن يكون : ولا أكثر ، بالرفع معطوفاً على محل مع أدنى ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوّة . ويجوز أن يكون مرفوعين على الابتداء ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، وأن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل ( لا ) { مِن نجوى } كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . ويجوز أن يكونا مجرورين عطفاً على نجوى ، كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . وقرىء : «ولا أكبر» بالباء . ومعنى كونه معهم : أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه ، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة . وقرىء «ثم ينبئهم» على التخفيف .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم ، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته . وقرىء : «ينتجون بالإثم والعدوان» بكسر العين ، ومعصيات الرسول { حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد؛ والسام : الموت؛ والله تعالى يقول : { وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] و { يا أيها الرسول } [ المائدة : 41/67 ] و { يا أيها النبي } [ الأنفال : 64 ] { لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } كانوا يقولون : ماله إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول ، فقال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } عذاباً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
{ ياأيها الذين ءامنوا } خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم . ويجوز أن يكون للمؤمنين ، أي : إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر { وتناجوا بالبر والتقوى } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1140 ) " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه " وروى : «دون الثالث» . وقرىء : «فلا تناجوا» وعن ابن مسعود : إذا انتجيتم فلا تنتجوا { إِنَّمَا النجوى } اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان ، بدليل قوله تعالى : { لِيَحْزُنَ الذين ءَامَنُواْ } والمعنى : أنّ الشيطان يزينها لهم ، فكأنها منه ليغيظ الذين آمنوا ويحزنهم { وَلَيْسَ } الشيطان أو الحزن { بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } . فإن قلت : كيف لا يضرهم الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله؟ قلت : كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا ، فقال : لا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك الموهم إلا بإذن الله ، أي : بمشيئته ، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة . وقرىء : «ليحزن» و«ليحزن» .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
{ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : أفسح عني ، أي : تنحّ؛ ولا تتضامّوا . وقرى : «تفاسحوا» والمراد : مجلس رسول الله ، وكانوا يتضامّون فيه تنافساً على القرب منه ، وحرصاً على استماع كلامه ، وقيل : هو المجلس من مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] وقرىء : «في المجالس» قيل : كان الرجل يأتي الصف فيقول : تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة . وقرىء : «في المجلس» بفتح اللام : وهو الجلوس ، أي : توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك { انشزوا } انهضوا للتوسعة على المقبلين . أو انهضوا عن مجلس رسول الله إذا أمرتم بالنهوض عنه ، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه : أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم ، ولا تثبطوا ولا تفرطوا { يَرْفَعِ الله } المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة { درجات والله بِمَا تَعْمَلُونَ } قرىء : بالتاء والياء . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1141 ) " بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة " وعنه عليه السلام :
( 1142 ) " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وعنه عليه السلام :
( 1143 ) " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ، ثم الشهداء " فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوّة والشهادة بشهادة رسول الله . وعن ابن عباس : خيّر سليمان بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطى المال والملك معه . وقال عليه السلام :
( 1144 ) " أوحى الله إلى إبراهيم ، يا إبراهيم ، إني عليم أحب كل عليم " وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم ، وعن الأحنف : كاد العلماء يكونون أرباباً ، وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير . وعن الزبيري العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
{ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم } استعارة ممن له يدان . والمعنى : قبل نجواكم كقول عمر : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر ، يقدِّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم ، يريد : قبل حاجته ( ذلكم ) التقديم { خَيْرٌ لَّكُمْ } في دينكم { وَأَطْهَرُ } لأنّ الصدقة طهرة . روى أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريدون حتى أملوه وأبرموه ، فأريد أن يكفوا عن ذلك ، فأمروا بأن من أراد يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة . قال علي رضي الله عنه :
( 1145 ) لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه . قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة؛ قال : إنك لزهيد . فلما رأوا ذلك : اشتدّ عليهم فارتدعوا وكفوا . أما الفقير فلعسرته ، وأما الغنيّ فلشحه . وقيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار . وعن علي رضي الله عنه :
( 1146 ) إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي : كان لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عمر : كان لعليّ ثلاث : لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزوجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى . قال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها ، وقيل : هي منسوخة بالزكاة { ءَأَشْفَقْتُمْ } أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه ، وأنّ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ما أمرتم به وشق عليكم ، و { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه ، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات { بِمَا تَعْمَلُونَ } قرىء بالتاء والياء .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى : { من لعنه الله وغضب عليه } [ المائدة : 60 ] ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين { مَّا هُم مِّنكُمْ } يا مسلمون { وَلاَ مِنْهُمْ } ولا من اليهود ، كقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] ، { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب } أي يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن المحلوف عليه كذب بحت . فإن قلت : فما فائدة قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : الكذب : أن يكون الخبر لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أو لم يعلم ، فالمعنى : أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك متعمدون له ، كمن يحلف بالغموس وقيل :
( 1147 ) كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه السلام : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت { عَذَاباً شَدِيداً } نوعاً من العذاب متفاقماً { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني أنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه . أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة . وقرىء : «إيمانهم» بالكسر ، أي : اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها . أو إيمانهم الذي أظهروه { جُنَّةً } أي سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم { فَصَدُّواْ } الناس في خلال أمنهم وسلامتهم { عَن سَبِيلِ الله } وكانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم . وإنما وعدهم الله العذاب المهين المخزي لكفرهم وصدهم ، كقوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] . { مِنَ الله } من عذاب الله { شَيْئاً } قليلاً من الإغناء . وروي أنّ رجلاً منهم قال : لنننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا { فَيَحْلِفُونَ } لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } في الدنيا على ذلك { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْءٍ } من النفع ، يعني : ليس العجب من حلفهم لكم ، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، وأن لهم نفعاً في ذلك دفعاً عن أرواحهم واستجرار فوائد دنيوية ، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والإضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل ، والمراد : وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل ، كما قال :
{ وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة ، والقرآن ناطق بثباته نطقاً مكشوفاً . كما ترى في هذه الآية وفي قوله تعالى : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 23 - 24 ] ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من نورهم ، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم . وقيل عند ذلك : يختم على أفواههم { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في قول الكذب ، حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة { استحوذ عَلَيْهِمُ } استولى عليهم ، من حاذ الحمار العانة إذا جمعها وساقها غالباً لها . ومنه : كان أحوذياً نسيج وحده ، وهو أحد ما جاء على الأصل ، نحو : استصوب واستنوق ، أي : ملكهم { الشيطان } لطاعتهم له في كل ما يريده منهم ، حتى جعلهم رعيته وحزبه { فأنساهم } أن يذكروا الله أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم . قال أبو عبيدة : حزب الشيطان جنده .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
{ فِى الأذلين } في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحداً أذل منهم .
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
{ كَتَبَ الله } في اللوح { لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } بالحجة والسيف . أو بأحدهما .
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً } من باب التخييل . خيل أن من الممتنع المحال : أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله : { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءَهُمْ } وبقوله : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } وبمقابلة قوله : { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } [ المجادلة : 99 ] بقوله : ( أولئك حزب الله ) فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو الإخلاص بعينه { كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } بلطف من عنده حييت به قلوبهم . ويجوز أن يكون الضمير للإيمان ، أي : بروح من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان . وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول :
( 1148 ) " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ : « لا تجد قوماً . . . " الآية . وروى :
( 1149 ) أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنّ أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكه صكة سقط منها ، فقال له رسول الله : «أو فعلته»؟ قال : نعم ، قال : لا تعد» قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل في أبي عبيدة بن الجراح : قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد .
( 1150 ) وفي أبي بكر : دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول الله : دعني أكرّ في الرعلة الأولى : قال : «متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» . وفي مصعب بن عمير : قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد . وفي عمر : قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر . وفي علي وحمزة وعبيد بن الحرث : قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1151 ) " من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة " .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
( 1152 ) صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : أخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك ، فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه إليهم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين : طلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة . اللام في { لأَوَّلِ الحشر } تتعلق بأخرج ، وهي اللام في قوله تعالى : { يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] وقولك : جئته لوقت كذا . والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر . ومعنى أوّل الحشر : أن هذا أوّل حشرهم إلى الشأم ، وكانوامن سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . أو هذا أوّل حشرهم؛ وآخر حشرهم : إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة؛ لأنّ المحشر يكون بالشام . وعن عكرمة : من شك أنّ المحشر ههنا - يعني الشام -فليقرأ هذه الآية . وقيل : معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم : لأنه أوّل قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } لشدة بأسهم ومنعتهم ، ووثاقة حصونهم ، وكثرة عددهم وعدتهم ، وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله { فأتاهم } أمر الله { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم : وهو قتل رئيسهم كعب ابن الأشرف غرّة على يد أخيه ، وذلك مما أضعف قوتهم وفل من شوكتهم ، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب ، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم ، وثبط المنافقين الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم . وهذا كله لم يكن في حسبانهم . ومنه أتاهم الهلاك . فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم؛ وفي تصيير ضميرهم إسماً لأن وإسناد الجملة إليه : دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعه لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم؛ وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم .
وقرىء : «فآتاهم الله» أي : فآتاهم الهلاك . والرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أي يملؤه؛ وقذفه : إثباته وركزه . ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه . وقرىء : «يخرّبون ويخربون» ، مثقلاً ومخففاً . والتخريب والإخراب : الإفساد بالنقض والهدم . والخربة : الفساد ، كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها : لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار ، والذي دعاهم إلى التخريب : حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقة . وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جد الخشب والساج المليح . وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم . وأن يتسع لهم مجال الحرب . فإن قلت : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمينن؟ قلت : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه { فاعتبروا } بما دبر الله ويسر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال . وقيل : وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما قال .
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
يعني : أنّ الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم ، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت { لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا } بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة { وَلَهُمْ } سواء أجلوا أو قتلوا { عَذَابَ النار } يعني : إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة .
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ مّن لّينَةٍ } بيان لما قطعتم . ومحل ( ما ) نصب بقطعتم ، كأنه قال : أي شيء قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله : { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } لأنه في معنى اللينة . واللينة : النخلة من الألوان ، وهي ضروب النخل ما خلا العجوة . والبرنية ، وهما أجود النخيل ، وياؤها عن واو ، قلبت لكسرة ما قبلها ، كالديمة . وقيل : «اللينة» النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين . قال ذو الرمّة :
كَأَنَّ قُتُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِرٍ ... عَلَى لِينَةٍ سَوْقَاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
وجمعها لين . وقرىء : «قوّما» على أصلها . وفيه وجهان : أنه جمع أصل كرهن ورهن . أو اكتفى فيه بالضمة عن الواو . وقرىء : «قائماً على أصوله» ذهاباً إلى لفظ ما { فَبِإِذْنِ الله } فقطعها بإذن الله وأمره { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } وليذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها ، وذلك :
( 1153 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء . فنزلت ، يعني : أنّ الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظاً ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها ما شاؤوا . واتفق العلماء أنّ حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق . وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة . وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعا للقتال . فإن قلت : لم خصت اللينة بالقطع؟ قلت : إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد وأشق . وروى :
( 1154 ) أن رجلين كانا يقطعان : أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار . وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب .
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{ أَفَاء الله على رَسُولِهِ } جعله له فيئاً خاصة . والإيجاف من الوجيف . وهو السير السريع . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات .
( 1155 ) " ليس البرّ بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل على هينتكم " ومعنى { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ } فما أوجفتم على تحصيله وتغنمه خيلاً ولا ركاباً ، ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم . والمعنى : أنّ ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء ، يعني : أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً ، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت . لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة «والدولة والدولة» - بالفتح والضم - وقد قرىء : بهما ما يدول للإنسان ، أي يدور من الجد . يقال : دالت له الدولة . وأديل لفلان . ومعنى قوله تعالى : { كي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ } كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به . أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم . ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة ، وكانوا يقولون من عزّ بزّ . والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية . ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ، ومال الله دولاً ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به . وقيل : «الدولة» ما يتداول ، كالغرفة : اسم ما يغترف ، يعني : كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه ، فلا يصيب الفقراء ، والدولة - بالفتح - : بمعنى التداول ، أي : كيلا يكون ذا تداول بينهم . أو كيلا يكون إمساكه تداولاً بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء ، وقرىء : «دولة» بالرفع على «كان» التامة كقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] يعني كيلا يقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها أو كيلا يكون تداول له بينهم . أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء { وَمَا ءاتاكم الرسول } من قسمة غنيمة أو فيء { فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم } عن أخذه منها { فانتهوا } عنه ولا تتبعه أنفسكم { واتقوا الله } أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه { إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن خالف رسوله ، والأجود أن يكون عاماً في كل ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه ، وأمر الفيء داخل في عمومه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أنه لقي رجلاً محرماً وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا فقال الرجل : اقرأ عليّ في هذا آية من كتاب الله . قال : نعم ، فقرأها عليه .
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
{ لِلْفُقَرَاء } بدل من قوله : { لذي القربى } والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من : لله وللرسول والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ أخرج رسوله من الفقراء في قوله : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزّ وجل { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } في إيمانهم وجهادهم .
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
{ والذين تَبَوَّءُو } معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوّؤا الإيمان؟ قلت : معناه تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان ، كقوله :
عَلَفْتُها تَيْنَاً وَمَاءً بَارِدَا ... أو : وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك . أو : أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه . أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان { مِن قَبْلِهِمُ } من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوّىء دار الهجرة والإيمان . وقيل : من قبل هجرتهم { وَلاَ يَجِدُونَ } ولا يعلمون في أنفسهم { حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ } أي طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة؛ يقال : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته ، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي خلة ، وأصلها : خصاص البيت ، وهي فروجه؛ والجملة في موضع الحال ، أي : مفروضة خصاصتهم :
( 1156 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين : أبادجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة . وقال لهم : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فنزلت» «الشح» بالضم والكسر ، وقد قرىء بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، كما قال :
يُمَارِسُ نَفْساً بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ... إذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلاَ
وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها . وأما البخل فهو المنع نفسه . ومنه قوله تعالى : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } [ النساء : 128 ] . { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ومن غلب ما أمرته به منه وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الظافرون بما أرادوا . وقرىء : «ومن يوقَّ» .
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{ والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } عطف أيضاً على المهاجرين : وهم الذين هاجروا من بعد . وقيل : التابعون بإحسان { غِلاًّ } وقرىء : «غمرا» وهما الحقد .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
{ لإِخْوَانِهِمُ } الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر ، ولأنهم كانوا يوالونهم ويواخونهم ، وكانوا معهم على المؤمنين في السر { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } في قتالكم أحداً من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه . أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة { لكاذبون } أي في مواعيدهم لليهود . وفيه دليل على صحة النبوّة : لأنه إخبار بالغيوب . فإن قلت : كيف قيل { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم؟ قلت : معناه : ولئن نصروهم على الفرض والتقدير ، كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وكما يعلم ما يكون ، فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . والمعنى : ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك ، أي : يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم . أو لينهزمنَّ اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين .
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{ رَهْبَةً } مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية . وقوله : { فِى صُدُورِهِمْ } دلالة على نفاقهم ، يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله . فإن قلت : كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشدّ . قلت : معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم - وكانو يظهرون لهم رهبة شديدة من الله - ويجوز أن يريد أنّ اليهود يخافونكم في صدورهم أشدّ من خوفهم من الله؛ لأنهم كانوا قوماً أولى بأس ونجدة ، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم { لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته { لاَ يقاتلونكم } لا يقدرون على مقاتلتكم { جَمِيعاً } مجتمعين متساندين ، يعني اليهود والمنافقين { إِلاَّ } كائنين { فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدروب { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم ، لقذف الله الرعب في قلوبهم ، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم . وقرىء : «جدر» ، بالتخفيف . وجدار . وجدر وجدر ، وهما : الجدار { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } يعني أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا؛ ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة؛ لأنّ الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } مجتمعين ذوي ألفة واتحاد { وَقُلُوبُهُمْ شتى } متفرقة لا ألفة بينها ، يعني . أنّ بينهم إحنا وعداوات ، فلا يتعاضدون حق التعاضد ، ولا يرمون عن قوس واحدة . وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم { قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب . فإن قلت : بم انتصب { قَرِيبًا } ؟ قلت : بمثل ، على : كوجود مثل أهل بدر قريباً { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من قولهم كلأ وبيل : وخيم سيء العاقبة ، يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا { وَلَهُمْ } في الآخرة عذاب النار . مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم { كَمَثَلِ الشيطان } إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة ، والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر؛ وقوله لهم : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } إلى قوله { إِنِّى برىء مِّنكَ } [ الأنفال : 48 ] وقرأ ابن مسعود : «خالدان فيها» ، على أنه خبر أنّ ، و { فِى النار } لغو ، وعلى القراءة المشهورة : الظرف مستقر ، وخالدين فيها : حال . وقرىء : «أنا بريء» وعاقبتهما بالرفع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
كرر الأمر بالتقوى تأكيداً : واتقوا الله في أداء الواجبات؛ لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد . والغد : يوم القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له وعن الحسن : لم يزل يقربه حتى جعله كالغد . ونحوه قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } [ يونس : 24 ] يريد : تقريب الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران : يوم وغد . فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قد مْنَ للآخرة ، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك . وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه . وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا . خسرنا ما خلفنا { نَسُواْ الله } نسوا حقه ، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان ، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده . أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ] .
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات : كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما ، وأن الفوز مع أصحاب الجنة؛ فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه ، كما تقول لمن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف . وقد استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
هذا تمثيل وتخييل ، كما مرّ في قوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] وقد دل عليه قوله : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره . وقرىء : «مصدّعاً» على الإدغام { وَتِلْكَ الأمثال } إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل .
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{ الغيب } المعدوم { والشهادة } الموجود المدرك كأنه يشاهده . وقيل : ما غاب عن العباد وما شاهدوه . وقيل : السر والعلانية . وقيل : الدنيا والآخرة { القدوس } بالضم والفتح - وقد قرىء بهما - البليغ في النزاهة عما يستقبح . ونظيره : السبوح ، وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح . و { السلام } بمعنى السلامة . ومنه { دَارُ السلام } [ يونس : 25 ] { وسلام عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص . أو في إعطائه السلامة «والمؤمن» واهب الأمن . وقرىء بفتح الميم بمعنى المؤمن به على حذف الجار ، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون بلفظ صفة السبعين . و { المهيمن } الرقيب على كل شيء ، الحافظ له ، مفيعل من الأمن؛ إلا أن همزته قلبت هاء . و { الجبار } القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد ، أي أجبره ، و { المتكبر } البليغ الكبرياء والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده . و { الخالق } المقدر لما يوجده «والبارىء» المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة . و { المصور } الممثل . وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ : «البارىء المصوّر» ، بفتح الواو ونصب الراء ، أي : الذي يبرأ المصوّر أي : يميز ما يصوّره بتفاوت الهيئات . وقرأ ابن مسعود : «وما في الأرض» .
عن أبي هريرة رضي الله عنه :
( 1157 ) «سألت حبيبي صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال : " عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته " فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1158 ) " من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
روي :
( 1159 ) أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت؟ قالت : لا . قال : أفمهاجرة جئت؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي ، تعني : قتلوا يوم بدر ، فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً ، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد - وكانوا فرساناً - وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت ، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله ، وسلّ سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها . وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم ، فاستحضر رسول الله حاطباً وقال : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم؛ ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش . وروى : عزيزاً فيهم ، أي : غريباً ، ولم أكن من أنفسها ، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه . وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال : «وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، فنزلت ، عدّى «اتخذ» إلى مفعوليه ، وهما عدوي ، وأولياء . والعدوّ : فعول ، من عدا؛ كعفوّ من عفا؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد . فإن قلت : { تُلْقُونَ } بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره؛ وبأولياء صفة له . ويجوز أن يكون استئنافاً . فإن قلت : إذا جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله ، فأين الضمير البارز وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ قلت : ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ، لو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف .
لما كان بد من الضمير البارز؛ والإلقاء عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم : يقال ألقى إليه خراشي صدره ، وأفضى إليه بقشوره . والباء في { بالمودة } إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف ، معناه : تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة التي بينكم وبينهم . وكذلك قوله : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } أي : تفضون إليهم بمودتكم سراً . أو تسرّون إليهم إسرار رسول الله بسبب المودّة . التي بينكم وبينهم فإن قلت : { وَقَدْ كَفَرُواْ } حال مماذا؟ قلت : إما من { لاَ تَتَّخِذُواْ } وإما من { تُلْقُونَ } أي : لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم . و { يُخْرِجُونَ } استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم . أو حال من كفروا . و { أَن تُؤْمِنُواْ } تعليل ليخرجون ، أي يخرجونكم لإيمانكم ، و { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق بلا تتخذوا ، يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي . وقول النحويين في مثله : هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . و { تُسِرُّونَ } استئناف ، ومعناه : أيّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما ، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون { وَمَن يَفْعَلْهُ } ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب . وقرأ الجحدري «لما جاءكم» أي : كفروا لأجل ما جاءكم ، بمعنى : أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سبباً لكفرهم . { إِن يَثْقَفُوكُمْ } إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً } خالصي العداوة ، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء } بالقتال والشتم ، وتمنوا لو ترتدّون عن دينكم ، فإذن مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ثم قال { وَوَدُّواْ } بلفظ الماضي؟ قلت : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني : أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعاً : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفاراً أسبق المضارّ عندهم وأوّلها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذَّالون لها دونه ، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه .
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{ لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم } أي قراباتكم { وَلاَ أولادكم } الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ، ثم قال : { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } وبين أقاربكم وأولادكم { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ . . . } [ عبس : 34 ] الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً : خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً ، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً . قرىء : «يُفصَل ويُفصَّل» ، على البناء للمفعول . ويَفصِل ويُفصِّل ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل . ونفصل ونفصل ، بالنون .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
وقرىء : «أسوة وإسوة» وهو اسم المؤتسى به ، أي كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى به ويتبع أثره ، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا ، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا ، وأظهروا البغضاء والمقت ، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله؛ ومادام هذا السبب قائماً كانت العداوة قائمة ، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاة ، والبغضاء محبة ، والمقت مقة ، فأفصحوا عن محض الإخلاص . ومعنى { كَفَرْنَا بِكُمْ } وبما تعبدون من دون الله : أنا لا نعتدّ بشأنكم ولا بشأن آلهتكم ، وما أنتم عندنا على شيء . فإن قلت : مم استثني قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم } ؟ قلت : من قوله : { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } لأنه أراد بالأسوة الحسنة : قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها . فإن قلت : فإن كان قوله { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة ، فما بال قوله : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء . ألا ترى إلى قوله { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 17 ] قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبنيّ عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . فإن قلت : بم اتصل قوله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } ؟ قلت : بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة . ويجوز أن يكون المعنى : قولوا ربنا ، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه ، وتعليماً منه لهم تتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار ، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم ، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر ، والاستغفار مما فرط منهم . وقرى : «برآء» كشركاء . وبراء كظراف . وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . وبراء على الوصف بالمصدر . والبراء والبراءة كالظماء والظماءة .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذلك جاء به مصدّراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل عن قوله : { لَكُمْ } قوله : { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر } وعقبه بقوله : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به .
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
ولما نزلت هذه الآيات : تشدَّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم ، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة . رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم ، فأسلم قومهم ، وتمّ بينهم من التحاب والتصافي ما تمّ . وقيل :
( 1160 ) تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة ، فتنصر وأرادها على النصرانية ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه ، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يُقْدَعُ أنفه . و { عَسَى } وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج : عسى أو لعل : فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك . أو قصد به إطماع المؤمنين ، والله قدير على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أسلم من المشركين .
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{ أَن تَبَرُّوهُمْ } بدل من الذين لم يقاتلوكم . وكذلك { أَن تَوَلَّوْهُمْ } من الذين قاتلوكم : والمعنى : لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء . وهذا أيضاً رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم ، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم . وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه . وعن مجاهد : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا . وقيل : هم النساء والصبيان . وقيل :
( 1161 ) قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول ، فنزلت ، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها . وعن قتادة : نسختها آية القتال { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم . وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم ، مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات } سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك . أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهم بالامتحان { فامتحنوهن } فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن .
( 1162 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة : « بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله » { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } منكم لأنكم لا تكسبون فيه علماً تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين ، لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك { وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } وأعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور ، وذلك :
( 1163 ) أن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم ، ومن أتى منكم مكة لم يردّ إليكم؛ وكتبوا بذلك كتاباً وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي . وقيل صيفي بن الراهب فقال : يا محمد ، أردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وعن الضحاك : كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد : أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك . وعن قتادة : ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد براءة ، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر . فإن قلت : كيف سمى الظنّ علماً في قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ } ؟ قلت : إيذاناً بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] فإن قلت : فما فائدة قوله : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } وذلك معلوم لا شبهة فيه؟ قلت : فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن . فإنّ ذلك مما استأثر به علام الغيوب ، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك ، وأن تكليفكم لا يعدوه؛ ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ ، لأن المهر أجر البضع ، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه ، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس ، وإما أن يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق ، وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً : وقعت الفرقة ، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملاً { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب ، يعني : إياكم وإياهنّ ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية .
قال ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه ، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر . وعن مجاهد : أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن { وَسْئَلُواْ مَآ أَنْفَقْتُم } من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار { وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } من مهور نسائهم المهاجرات . وقرىء : «ولا تمسكوا» بالتخفيف . ولا تمسكوا بالتثقيل . ولا تمسكوا . أي : ولا تتمسكوا { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } يعني جميع ما ذكر في هذه الآية { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } كلام مستأنف . أو حال من حكم الله على حذف الضمير ، أي : يحكمه الله . أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة . روى أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين ، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله : { وَإِن فَاتَكُمْ } وإن سبقكم وانفلت منكم { شَىْءٌ } من أزواجكم : أحد منهن إلى الكفار ، وهو في قراءة ابن مسعود : أحد . فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه : أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه { فعاقبتم } من العقبة وهي التوبة : شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره . ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر ، فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا تؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري : يعطي من صداق من لحق بهم . وقرىء : «فأعقبتم» فعقبتم بالتشديد . فعقبتم بالتخفيف ، بفتح القاف وكسرها ، فمعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم : من عقبه إذا قفاه ، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه .
وعقبتم نحو تبعتم . وقال الزجاج : فعاقبتم فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، والذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر ، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم ، أي : فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم . وقيل : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص . وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } وقرىء : «يقتلن» ، بالتشديد ، يريد : وأد البنات { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات . وقيل : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف . فإن قلت : لو اقتصر على قوله : { وَلاَ يَعْصِينَكَ } فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف؟ قلت : نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب . وروي :
( 1164 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال : أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فرفعت هند رأسها وقالت : والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد ، فقال عليه الصلاة والسلام : و«لا يسرقن» فقالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصبت من ماله هنات ، فما أدري ، أتحل لي أم لا . فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك ، فقال : «ولا يزنين» : فقالت : أو تزني الحرة وفي رواية : ما زنت منهن امرأة قط ، فقال عليه الصلاة والسلام «ولا يقتلن أولادهن» فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «لا يأتين ببهتان» فقالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : «ولا يعصينك في معروف» فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء .
وقيل في كيفية المبايعة :
( 1165 ) دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ، ثم غمسن أيديهن . وقيل :
( 1166 ) صافحهن وكان على يده ثوب قطري . وقيل :
( 1167 ) كان عمر يصافحهن عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
روي أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم . فقيل لهم { لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً } مغضوباً عليهم { قَدْ يَئِسُواْ } من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة { كَمَا يَئِسَ الكفار } من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء . وقيل : { مِنْ أصحاب القبور } بيان للكفار ، أي : كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة؛ لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1168 ) « من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة » .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
{ لِمَ } هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام . وإنما حذفت الألف؛ لأنّ ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم؛ وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان . ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف ، كما سمع : ثلاثة ، أربعة ، بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ، وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد . وروي أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله ، فولوا يوم أحد فعيرهم . وقيل : لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد ولم يفوا . وقيل : كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر . وقيل :
( 1169 ) كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته ، فقال : إنما قتلته لله ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم ، فنزلت في المنتحل . وعن الحسن : نزلت في المنافقين . ونداؤهم بالإيمان : تهكم بهم وبإيمانهم؛ هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه قصد في { كَبُرَ } التعجب من غير لفظه كقوله :
غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاءُهَا ... ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، وأسند إلى أن تقولوا . ونصب { مَقْتاً } على تفسيره ، دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه؛ واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه . ومنه قيل : نكاح المقت ، للعقد على الرابة ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً ، حتى جعل أشده وأفحشه . و { عَندَ الله } أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك . وعن بعض السلف أنه قيل له : حدّثنا ، فسكت ثم قيل له حدثنا؛ فقال : تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله . في قوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ } عقيب ذكر مقت المخلف : دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا . وقرأ زيد بن علي «يقاتلون» بفتح التاء . وقرىء : «يقتلون» { صَفّاً } صافين أنفسهم أو مصفوفين { كَأَنَّهُم } في تراصهم من غير فرجة ولا خلل { بنيان } رص بعضه إلى بعض ورصف . وقيل : يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . وعن بعضهم : فيه دليل على فضل القتال راجلاً؛ لأنّ الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة . وقوله : { صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان } حالان متداخلتان .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ وَإِذْ } منصوب بإضمار اذكر . أو : وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا { تُؤْذُونَنِى } كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه ، وجحود آياته ، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه { وَقَد تَّعْلَمُونَ } في موضع الحال ، أي : تؤذونني عالمين علماً يقيناً { أَنِّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله ، علماً بأن تعظيمه في تعظيم رسوله ، ولأنّ من آذاه كان وعيد الله لاحقاً به { فَلَمَّا زَاغُواْ } عن الحق { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } بأن منع ألطافه عنهم { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله { قَدْ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علماً يقيناً لا شبهة لكم فيه .
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قيل : إنما قال : ( يا بني إسرائيل ) ولم يقل : يا قوم كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه . والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني { مِنَ التوراة } وفي حال تبشيري { بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى } يعني : أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر . وقرىء : «من بعدي» ، بسكون الياء وفتحها ، والخليل وسيبويه يختاران الفتح . وعن كعب : أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمّة؟ قال : نعم أمّة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل . فإن قلت : بم انتصب مصدقاً ومبشراً؟ أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت : بل بمعنى الإرسال؛ لأن { إِلَيْكُم } صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل؛ فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل ، فمن أين تعمل؟ وقرىء : «هذا ساحر مبين» .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
وأي الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق : هذا سحر ، لأنّ السحر كذب وتمويه . وقرأ طلحة بن مصرف : «وهو يدعي» ، بمعنى دعاه وادّعاه ، نحو : لمسه والتمسه . وعنه : يدّعي ، بمعنى يدعو ، وهو الله عز وجل .
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
أصله ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ) كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له ، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما زيدت اللام في : لا أبالك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أباك ، وإطفاء نور الله بأفواههم : تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه «والله متمّ نوره» أي متمّ الحق ومبلغه غايته . وقرىء : بالإضافة .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{ وَدِينِ الحق } الملة الحنفية { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على جميع الأديان المخالفة له؛ ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام . وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام . وقرىء : «أرسل نبيه» .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
{ تُنجِيكُم } قرىء مخففاً ومثقلاً . و { تُؤْمِنُونَ } استئناف ، كأنهم قالوا : كيف : نعمل؟ فقال : تؤمنون ، وهو خبر في معنى الأمر؛ ولهذا أجيب بقوله : { يغفر لكم } وتدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا . فإن قلت : لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت : للإيذان بوجوب الامتثال ، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين . ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ، ويغفر الله لك : جعلت المغفرة لقوّة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . فإن قلت : هل لقول الفراء أنه جواب { هَلْ أَدُلُّكُمْ } وجه؟ قلت : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد؛ فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ فإن قلت : فما وجه قراءة زيد بن علي رضي الله عنهما : ( تؤمنوا . . . وتجاهدوا ) ؟ قلت : وجهها أن تكون على إضمار لام الأمر ، كقوله :
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خفت مِنْ أَمْرٍ تَبَالاَ
وعن ابن عباس أنهم قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت هذه الآية ، فمكثوا ما شاء الله يقولون : ليتنا نعلم ما هي ، فدلهم الله عليها بقوله : { تُؤْمِنُونَ } وهذا دليل على أن { تُؤْمِنُونَ } كلام مستأنف ، وعلى أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه : أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به { ذَلِكُمْ } يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أموالكم وأنفسكم . فإن قلت : ما معنى قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم حينئذٍ؛ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم ، فتخلصون وتفلحون { وأخرى تُحِبُّونَهَا } ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله : { نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي عاجل وهو فتح مكة . وقال الحسن : فتح فارس والروم . وفي { تُحِبُّونَهَا } شيء من التوبيخ على محبة العاجل . فإن قلت : علام عطف قوله { وَبَشِّرِ المؤمنين } ؟ قلت : على { تُؤْمِنُونَ } لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك . فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص . أو على تنصرون نصراً ، ويفتح لكم فتحاً . أو على : يغفر لكم ويدخلكم جنات ، ويؤتكم أخرى نصراً من الله وفتحاً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قرىء : «كونوا أنصار الله وأنصاراً لله» . وقرأ ابن مسعود : «كونوا أنتم أنصار الله» . وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم . فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صلوات الله عليه : { مَنْ أنصارى إِلَى الله } ؟ قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح . والمراد : كونوا أنصار الله كما الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } . فإن قلت : ما معنى قوله : { مَنْ أنصارى إِلَى الله } ؟ قلت : يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } والذي يطابقه أن يكون المعنى : من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ، وإضافة { أنصارى } خلاف إضافة { أَنْصَارَ الله } فإنّ معنى { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } : نحن الذين ينصرون الله . ومعنى { مَنْ أنصارى } من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله؛ ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب . والدليل عليه : قراءة من قرأ : «من أنصار الله» . والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به وكانوا اثنى عشر رجلاً؛ وحواري الرجل : صفيه وخلصانه من الحوار وهو البياض الخالص . والموارى : الدرمك . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1170 ) " الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي " وقيل : كانوا قصارين يحوّرون الثياب يبيضونها . ونظير الحواري في زنته : الحوالي : الكثير الحيل { فَئَامَنَت طَّآئِفَةٌ } منهم بعيسى { وَكَفَرَت } به { طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا } مؤمنيهم على كفارهم ، فظهروا عليهم . وعن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1171 ) " من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه " .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قرئت صفات الله عزّ وعلا بالرفع على المدح ، كأنه قيل : هو الملك القدوس ، ولو قرئت منصوبة لكان وجها ، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد . الأمي : منسوب إلى أمّة العرب ، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم . وقيل : بدأت الكتابة بالطائف ، أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار . ومعنى { بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ } بعث رجلاً أمياً في قوم أميين ، كما جاء في حديث شعياء : أني أبعث أعمى في عميان ، وأميّاً في أميين وقيل { منهم } ، كقوله تعالى : { مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] يعلمون نسبه وأحواله . وقرىء : «في الأمين» ، بحذف ياءي النسب { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته } يقرؤها عليهم مع كونه أميّاً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم ، وقراءة أمي بغير تعلم أية بينة { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } القرآن والسنة . وإن في { وَإِن كَانُواْ } هي المخففة من الثقيلة واللام دليل عليها ، أي : كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه { وَءاخَرِينَ } مجرور عطف على الأميين ، يعني : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم . وقيل : [ 1172 ] لما نزلت قيل : من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : " لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء " وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة ، ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في { وَيُعَلّمُهُمُ } أي : يعلمهم ويعلم آخرين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوّله ، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه { وَهُوَ العزيز الحكيم } في تمكينه رجلاً أميّاً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده عليه ، واختياره إياه من بين كافة البشر { ذَلِكَ } الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ، ونبي أبناء العصور الغوابر . هو { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } إعطاءه وتقتضيه حكمته .
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
شبه اليهود - في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به - بالحمار حمل أسفاراً ، أي كتباً كباراً من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب . وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ، وبئس المثل { بِئْسَ } مثلاً { مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله } وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى : { حُمّلُواْ التوراة } : كلفوا علمها والعمل بها ، { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ثم لم يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها . وقرىء : «حملوا التوراة» ، أي حملوها ثم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل . وقرىء : «يحمل الأسفار» فإن قلت : ( يحمل ) ما محله؟ قلت : النصب على الحال ، أو الجر على الوصف؛ لأنّ الحمار كاللئيم في قوله :
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ...
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
هاد يهود : إذا تهود { أَوْلِيَاء لِلَّهِ } كانوا يقولون . نحن أبناء الله وأحباؤه ، أي : إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة { فَتَمَنَّوُاْ } على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، ثم قال : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً } بسبب ما قدّموا من الكفر ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1172 ) " والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه " فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا ، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى؛ وهي إحدى المعجزات . وقرىء : «فتمنوا الموت» بكسر الواو ، تشبيهاً بلو استطعنا . ولا فرق بين «لا» و«لن» في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتى مرّة بلفظ التأكيد { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ } [ البقرة : 95 ] ومرّة بغير لفظه { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ } [ الجمعة : 7 ] ثم قيل لهم { إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ } ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم؛ لا تفوتونه وهو ملاقيكم لا محالة { ثُمَّ تُرَدُّونَ } إلى الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه : إنه ملاقيكم . وفي قراءة ابن مسعود : تفرون منه ملاقيكم ، وهي ظاهرة . وأما التي بالفاء ، فلتضمن الذي معنى الشرط ، وقد جعل { إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ } كلاماً برأسه في قراءة زيد ، أي : إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه ، ثم استؤنف : إنه ملاقيكم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
«يوم الجمعة» يوم الفوج المجموع ، كقولهم : ضحكة ، للمضحوك منه . و«يوم الجمعة» ، بفتح الميم : يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ، ولعنة ، ولعبة؛ ويوم الجمعة تثقيل للجمعة ، كما قيل : عسرة في عسر . وقرىء : بهن جميعاً . فإن قلت : من في قوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } ما هي؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . والنداء : الأذان . وقالوا : المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر ، وقد :
( 1173 ) كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد ، فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد؛ فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر ، فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمى زوراء ، فإذا جلس على المنبر : أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة ، فلم يعب ذلك عليه . وقيل : أول من سماها «جمعة» كعب بن لؤي ، وكان يقال لها : العروبة . وقيل :
( 1174 ) إنّ الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك؛ فهلموا نجعل لنا يوم نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى . فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أوّل جمعة ، كانت في الإسلام وأما أوّل جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي :
( 1175 ) أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة . وعن بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين } وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1176 ) " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد " وعنه عليه السلام :
( 1177 ) " أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد " وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 1178 ) " إنّ لله تعالى في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار "
وعن كعب : إنّ الله فضل من البلدان : مكة ، ومن الشهور : رمضان ، ومن الأيام : الجمعة . وقال عليه الصلاة والسلام :
( 1179 ) " من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووقي فتنة القبر " وفي الحديث : ( 1180 ) " إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب ، يكتبون الأوِّل فالأوَّل على مراتبهم " وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أوّل بدعة أحدثت في الإسلام : ترك البكور إلى الجمعة . وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه ، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول : أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد . ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع ، لقوله عليه السلام :
( 1181 ) " لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " والمصر الجامع : ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام ، ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام :
( 1182 ) " فمن تركها وله إمام عادل أو جائر . . . الحديث " وقوله صلى الله عليه وسلم :
( 1183 ) " أربع إلى الولاة : الفيء ، والصدقات ، والحدود ، والجمعات " فإن أمّ رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة : لم يجز؛ فإن لم يكن الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم : جاز ، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام . وعند الشافعي بأربعين . ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمنى ، ولا على الأعمى عند أبي حنيفة ، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد . وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم : «فامضوا» . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ : «فاسعوا» . فقال : من أقرأك هذا؟ قال أبيّ بن كعب ، فقال : لا يزال يقرأ بالمنسوخ ، لو كانت { فاسعوا } لسعيت حتى يسقط ردائي . وقيل : المراد بالسعي القصد دون العدو ، والسعي : التصرف في كل عمل . ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } [ الصافات : 102 ] ، { وأن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] وعن الحسن : ليس السعي على الأقدام ، ولكنه على النيات والقلوب . وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في موطئه : أن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي . قال محمد : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه { إلى ذِكْرِ الله } إلى الخطبة والصلاة ، ولتسمية الله الخطبة ذكراً له قال أبو حنيفة رحمه الله : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله : الحمد لله ، سبحان الله : جاز . وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله وأرتج عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوّال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد .
وعند صاحبيه والشافعي : لا بد من كلام يسمى خطبة . فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله؟ قلت : ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، فأمّا ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك؛ فمن ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على مراحل ، وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه «صه» فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغياً ، نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام . أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم ، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة ، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد ، قيل لهم : بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح { وَذَرُواْ البيع } الذي نفعه يسير وربحه مقارب . فإن قلت : فإذا كان البيع في هذا الوقت مأموراً بتركه محرماً ، فهل هو فاسد؟ قلت : عامّة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع . قالوا : لأنّ البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس : أنه فاسد . ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح ، مع التوصية بإكثار الذكر ، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه ، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه ، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط به ، وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله : وعن الحسن وسعيد بن المسيب : طلب العلم ، وقيل : صلاة التطوّع : وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً في هذه الآية .
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
روي :
( 1184 ) أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة؛ فقاموا إليه ، خشوا أن يسبقوا إليه ، فما بقي معه إلا يسير . قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ، وأربعون ، فقال عليه السلام : " والذي نفس محمد بيده ، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً " وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فهو المراد باللهو ، وعن قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير . فإن قلت : فإن افتق تفرق الناس عن الإمام في صلاة الجمعة كيف يصنع؟ قلت : إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة ، فعند أبي حنيفة : يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع . وعند صاحبيه : إذا كبر وهم معه مضى فيها . وعند زفر : إذا نفروا قبل التشهد بطلت . فإن قلت : كيف قال : { إِلَيْهَا } وقد ذكر شيئين؟ قلت : تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه؛ فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : «انفضوا إليه» . وقراءة من قرأ : «لهوا أو تجارة انفضوا إليها» وقرىء : «إليهما» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1185 ) " من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين " .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
أرادوا بقولهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم . فقال الله عزّ وجلّ : قالوا ذلك { والله يَعْلَمُ } أن الأمر كما يدل عليه قولهم : إنك لرسول الله ، والله يشهد أنهم لكاذبون في قولهم : نشهد؛ وادعائهم فيه المواطأة . أو إنهم لكاذبون فيه ، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة؛ فهم كاذبون في تسميته شهادة . أو أراد : والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم : لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه . فإن قلت : أي فائدة في قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون ، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب؛ فوسط بينهما قوله : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ؟ ليميط هذا الإيهام { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } يجوز أن يراد أنّ قولهم نشهد إنك لرسول الله يمين من أيمانهم الكاذبة ، لأنّ الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد ، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله ، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن «أشهد» يمين . ويجوز أن يكون وصفاً للمنافقين في استجنانهم بالأيمان . وقرأ الحسن البصري : إيمانهم ، أي : ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم . ويعضده قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا } . { سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله . وفي { سَآءَ } معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين { ذلك } إشارة إلى قوله : { سَآء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا ( ب ) سبب ( أنهم آمنوا ثم كفروا ) أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أي : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } فجسروا على كل عظيمة . فإن قلت : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله : { ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : آمنوا ، أي : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات . ونحوه قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } [ التوبة : 74 ] أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا . ونحوه قوله تعالى : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم } [ التوبة : 66 ] والثاني آمنوا : أي نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ } [ البقرة : 14 ] إلى قوله تعالى : { إِنَّمَا نَحْنُ مستهزؤون } [ البقرة : 14 ] والثالث : أن يراد أهل الردة منهم . وقرىء : «فطبع على قلوبهم» ، وقرأ زيد بن علي : «فطبع الله» .
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
كان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً ، فصيحاً ، ذلق اللسان وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم . فإن قلت : ما معنى قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } ؟ قلت : شبهوا في استنادهم - وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير - بالخشب المسندة إلى الحائط؛ ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع . ويجوز أن يراد بالخشب المسندة : الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان؛ شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم؛ والخطاب في { رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ } لرسول الله ، أو لكل من يخاطب . وقرىء : «يُسمع» على البناء للمفعول ، وموضع { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } رفع على هم كأنهم خشب . أو هو كلام مستأنف لا محل له . وقرىء : «خشب» جمع خشبة ، كبدنة وبدن . وخشب ، كثمرة وثمر . وخشب ، كمدرة ومدر ، وهي في قراءة ابن عباس . وعن اليزيدي أنه قال في { خُشُبٌ } : جمع خشباء ، والخشباء : الخشبة التي دعر جوفها : شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم { عَلَيْهِمْ } ثاني مفعولي يحسبون ، أي : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم ، لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة : ظنوه إيقاعاً بهم . وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم . ومنه أخذ الأخطل :
مَا زِلْتَ تَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُم ... خَيْلاَ تَكِرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالاَ
يوقف على { عَلَيْهِمْ } ويبتدأ { هُمُ العدو } أي الكاملون في العداوة : لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجي ، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي { فاحذرهم } ولا تغترر بظاهرهم . ويجوز أن يكون { هُمُ العدو } المفعول الثاني ، كما لو طرحت الضمير . فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدوّ . قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في { هذا رَبّى } [ الأنعام : 76 ] وأن يقدر مضاف محذوف على : يحسبون كل أهل صحية { قاتلهم الله } دعاء عليهم ، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم . أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } عطفوها وأما لوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً . وقرىء بالتخفيف والتشديد للتكثير .
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
روى :
( 1186 ) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم : ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ، واقتتلا ، فصرخ جهجاه يا للمهاجرين : وسنان : يا للأنصار؛ فأعان جهجاها جعَّال من فقراء المهاجرين ولطم سنانا . فقال عبد الله لجعال . وأنت هناك ، وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز : نفسه ، وبالأذل ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب؛ فأخبر زيد رسول الله فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري . فأمر به أنصارياً فقال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه؛ وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك ، وإن زيداً لكاذب ، وهو قوله تعالى : { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } [ المنافقون : 2 ] فقال الحاضرون : يا رسول الله : شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم . وروى أن رسول الله قال له : لعلك غضبت عليه؛ قال : لا؛ قال : فلعله أخطأ سمعك؛ قال : لا؛ قال : فلعله شبه عليك؛ قال : لا . فلما نزلت : لحق رسول الله زيداً من خلفه فعرك أذنه وقال : وفت أذنك يا غلام ، إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين . ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة : اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه ، وقال : إنّ حباباً اسم شيطان . وكان مخلصاً وقال : وراءك ، والله؛ لا تدخلها حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله بتخليته . وروي أنه قال له : لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك ، فقال : ويحك ، أفاعل أنت؟ قال : نعم . فلما رأى منه الجدّ قال : أشهد أنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله لابنه : « جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً »
؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزلت : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات { سَوآءً عَلَيْهِمْ } الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم . أو لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء : «استغفرت» على حذف حرف الاستفهام؛ لأنّ «أم» المعادلة تدل عليه . وقرأ أبو جعفر «آستغفرت» ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلبا لهمزة الوصل ألفاً ، كما في : آلسحر ، وآلله { يَنفَضُّواْ } يتفرقوا . وقرىء : «ينفضوا» من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم . وحقيقته : حان لهم أن ينفضوا مزاودهم { وَلِلَّهِ خَزآئِنُ السماوات والأرض } وبيده الأرزاق والقسم ، وهو رازقهم منها؛ وإن أبي أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ، ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون { لاَّ يَفْقَهُونَ } ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان . وقرىء : «ليخرجنّ الأعز منها الأذل» بفتح الياء . وليخرجنّ ، على البناء للمفعول . قرأ الحسن وابن أبي عبلة : لنخرجنّ ، بالنون ونسب الأعز والأذل . ومعناه : خروج الأذل . أو إخراج الأذل . أو مثل الأذل { وَلِلَّهِ العزة } الغلبة والقوّة ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات - وكانت في هيئة رثة - ألست على الإسلام؟ وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنّ رجلاً قال له : إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيهاً؛ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{ لاَ تُلْهِكُمْ } لا تشغلكم { أموالكم } والتصرف فيها : والسعي في تدبير أمرها : والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال ، وابتغاء النتاج والتلذذ بها؛ والاستمتاع بمنافعها { وَلاَ أولادكم } وسروركم بهم ، وشفقتكم عليهم ، والقيام بمؤنهم ، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم ، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد ، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله { عَن ذِكْرِ الله } وإيثاره عليها { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يريد الشغل بالدنيا عن الدين { فأولائك هُمُ الخاسرون } في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني . وقيل : ذكر الله الصلوات الخمس . وعن الحسن : جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله . وقيل : القرآن . وعن الكلبي : الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ مِن } في { مَّا رزقناكم } للتبعيض ، والمراد : الإنفاق الواجب { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } من قبل أن يرى دلائل الموت ، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ، ويضيق به الخناق ، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول ، فيتحسر على المنع ، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكناً منه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليك سلطان الموت ، فلا تقبل متمكناً منه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ، ولا ينفع عمل . وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي ، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها . وعنه : أنها نزلت في ما نعى الزكاة ، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله ، يسأل المؤمنون الكرة؟ قال : نعم ، أنا أقرأ عليكم به قرآنا ، يعني : أنها نزلت في المؤمنين وهم المخاطبون بها ، وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة . وعن عكرمة أنها نزلت في أهل القبلة { لَوْلا أَخَّرْتَنِىَ } . وقرىء : «أخرتن» ، يريد : هلا أخرت موتى { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } إلى زمان قليل { فَأَصَّدَّقَ } وقرأ أُبي« فأتصدق» على الأصل . وقرى : «وأكن» ، عطفاً على محل { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتني أصدّق وأكن . ومن قرأ : «وأكون» على النصب ، فعلى اللفظ . وقرأ عبيد بن عمير : «وأكون» ، على «وأنا أكون» عدة منه بالصلاح { وَلَن يُؤَخّرَ الله } نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة . والمعنى : إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه . وأنه هاجم لا محالة ، وأنّ الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها ، من منع واجب وغيره : لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله . وقرىء : «تعملون»؛ بالتاء والياء . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1187 ) " من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق " .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنه مبديء كل شيء ومبدعه ، والقائم به ، والمهيمن عليه؛ وكذلك الحمد ، لأنّ أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } يعني : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : { وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } [ الحديد : 26 ] والدليل عليه قوله تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم . والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم ، بل تشعبتم شعباً ، وتفرقتم أمماً؛ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به . فإن قلت : نعم ، إن العباد هم الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت : قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسناً ، وأن يكون له وجه حسن؛ وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها { بالحق } بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } وقرىء : «صوركم» بالكسر ، لتشكروا . وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه . فإن قلت : كيف أحسن صوركم؟ قلت : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه ، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور . ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب ، كما قال عز وجل : { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . فإن قلت : فكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت : لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح ، وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه .
ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك ، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها . وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال ، والبيان . نبه بعلمه ما في السموات والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور : أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقه أن يتقي ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه . وتكوير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته ، والخلق : أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر : أعظم كفران من العباد لربهم .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } الخطاب لكفار مكة . { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة { بِأَنَّهُ } بأنّ الشأن والحديث { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم . . . . أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أنكروا أن تكون الرسل بشراً ، ولم ينكروا أن يكون الله حجراً { واستغنى الله } أطلق ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم . فإن قلت : قوله : { وَتَوَلَّواْ واستغنى الله } يوهم وجود التولي والاستغناء معاً ، والله تعالى لم يزل غنياً . قلت : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك .
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
الزعم : ادعاء العلم : ومنه قوله عليهالصلاة والسلام :
( 1188 ) " زعموا مطية الكذب " وعن شريح : لكل شيء كنية وكنية الكذب «زعموا» ويتعدّى إلى المفعولين تعدّي العلم . قال :
. . . وَلَمْ أَزْعُمكِ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلاَ ... و ( أن ) مع ما في حيزه قائم مقامهما . والذين كفروا . أهل مكة . و { بلى } إثبات لما بعد لن ، وهو البعث { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي لا يصرفه عنه صارف . وعنى برسوله والنور : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن .
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
وقرىء : «نجمعكم» ونكفر . وندخله ، بالياء والنون . فإن قلت : بم انتصب الظرف؟ قلت : بقوله : لتنبؤن ، أو بخبير ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قيل : والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار «اذكر» { لِيَوْمِ الجمع } ليوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون . التغابن : مستعار من تغابن القوم في التجارة؛ وهو أن يغبن بعضهم بعضاً ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء . وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1189 ) " ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً . وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ، ليزداد حسرة " ومعنى { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } - وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم - : استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة ، لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت { صالحا } صفة للمصدر ، أي : عملاً صالحاً .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } إلا بتقديره ومشيئته ، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه { يَهْدِ قَلْبَهُ } يلطف به ويشرحه للإزدياد من الطاعة والخير . وقيل : هو الاسترجاع عند المصيبة . وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه . وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وعن مجاهد : إن ابتلى صبر ، وإن أعطى شكر ، وإن ظلم غفر . وقرىء : «يهد قلبه» ، على البناء للمفعول ، والقلب : مرفوع أو منصوب . ووجه النصب : أن يكون مثل سفه نفسه ، أي : يهد في قلبه . ويجوز أن يكون المعنى : أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه ، كقوله تعالى : { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] وقرىء : «نهد قلبه» ، بالنون . ويهدّ قلبه ، بمعنى : يهتد . ويهدأ قلبه : يطمئن . ويهد . ويهدا على التخفيف { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعلم ما يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{ فَإِن تَولَّيْتُمْ } فلا عليه إذا توليتم ، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم ، إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوى به في أمره ، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
إنّ من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهنّ ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ، ومن الأولاد أولاداً يعادون آبائهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى { فاحذروهم } الضمير للعدوّ أو للأزواج والأولاد جميعاً ، أي : لما علمتم أنّ هؤلاء لا يخلون من عدوّ ، فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم { وَإِن تَعْفُواْ } عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها ، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم . وقيل : إنّ ناساً أرادوا الهجرة عن مكة ، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا : تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين : أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فزين لهم العفو . وقيل : قالوا لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ، فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير ، فلما هاجروا منعوهم الخير ، فحثوا أن يعفوا عنهم ويردّوا إليهم البر والصلة . وقيل : كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل وولد ، فإذا أراد أن يغزو أو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه ، فكأنه همّ بأذاهم ، فنزلت . { فِتْنَةٌ } بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما؛ ألا ترى إلى قوله : { والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وفي الحديث :
( 1190 ) " يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته " وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1191 ) " أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال : «صدق الله { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما " ثم أخذ في خطبته . وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما .
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{ مَّا استطعتم } جهدكم ووسعكم ، أي : ابذلوا فيها استطاعتكم { واسمعوا } ما توعظون به { وَأَطِيعُواْ } فيما تأمرون به وتنهون عنه { وَأَنْفِقُواْ } في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها { خَيْراً لاِنفُسِكُمْ } نصب بمحذوف ، تقديره : ائتوا خيراً لأنفسكم ، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع؛ وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر ، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا .
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
وذكرُ القرض : تلطف في الاستدعاء { يضاعفه لَكُمْ } يكتب لكم بالواحدة عشراً ، أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة . وقرىء : «يضعفه» { شَكُورٌ } مجاز ، أي : يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب ، وكذلك { حَلِيمٌ } يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء ، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1192 ) " من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب؛ لأنّ النبي إمام أمّته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً لتقدّمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدرهُ قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادّاً مسدّ جميعهم . ومعنى { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه : كقوله عليه السلام :
( 1193 ) « من قتل قتيلاً فله سلبه » ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم ، أي : مستقبلاً لها . وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قُبلِ عدتهنّ ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من أقرائها ، فقد طلقت مستقبلة لعدتها . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضى عدّتهن . وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدّة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار . وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة . وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض :
( 1194 ) « ما هكذا أمرك الله ، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً ، وتطلقها لكل قرء تطليقة » وروى أنه قال لعمر :
( 1195 ) « مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء؛ فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » . وعند الشافعي رضي الله عنه : لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح . فما لك تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت؛ والشافعي يراعي الوقت وحده . فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت : نعم ، وهو آثم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1196 ) أنّ رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه ، فقال لا « أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم » وفي حديث ابن عمر أنه قال :
( 1197 ) يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، فقال له :
" إذن عصيت وبانت منك امرأتك " وعن عمر رضي الله عنه :
( 1198 ) أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً . وأجاز ذلك عليه . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين : أنّ من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف . فإن قلت : كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها؟ قلت : الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ، وخالفما محمد وزفر في الحامل فقالا : لا تطلق للسنة إلا واحدة . وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعي الوقت . فإن قلت : هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟ قلت : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا . والظاهر الكراهة . فإن قلت : قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟ قلت : لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذاوذاك ، فلما قيل : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من المعتدات بالحيض { وَأَحْصُواْ العدة } واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } حتى تنقضي عدتهنّ { مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج؛ وأضيفت إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى . فإن قلت : ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن؟ قلت : معنى الإخراج : أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن ، أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك ، إيذاناً بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قرىء : بفتح للياء وكسرها . قيل : هي الزنا ، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل : إلا أن يطلقن على النشوز ، والنشوز يسقط حقهن في السكنى . وقيل : إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهنّ؛ وتؤكده قراءة أبي «إلا أن يفحش عليكم» وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه . الأمر الذي يحدثه الله : أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها . ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها . والمعنى : فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة ، لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } وهو آخر العدة وشارفته ، فأنتم بالخيار : إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها { وَأَشْهِدُواْ } يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً .
وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله : { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] وعند الشافعي : هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة . وقيل : فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث { مِّنكُمْ } قال الحسن : من المسلمين . وعن قتادة : من أحراركم { لِلَّهِ } لوجهه خالصاً ، وذلك أن تقيموها لا للشهود له ولا للمشهود عليه ، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم ، كقوله تعالى : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] أي : { ذَلِكُمْ } الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط ، { يُوعَظُ بِهِ . . . وَمَن يَتَّقِ الله } يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم ، ويكون المعنى : ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يَجْعَلْ } الله { لَّهُ مَخْرَجاً } مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص { وَيَرْزُقْهُ } من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1199 ) " أنه سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً ، هل له من مخرج؟ فتلاها " وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا ، بانت منك بثلاث والزيادة إثم في عنقك . ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } يعني : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1200 ) أنه قرأها فقال : " مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة " وقال عليه السلام :
( 1201 ) " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم { وَمَن يَتَّقِ الله } فما زال يقرؤها ويعيدها " وروى :
( 1202 ) أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً . فأتى رسول الله فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة؛ فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها ، فنزلت هذه الآية { بالغ أَمْرِهِ } أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب . وقرىء : «بالغ أمره» بالإضافة «وبالغ أمره» بالرفع ، أيّ : نافذ أمره وقرأ المفضل : «بالغاً أمره» ، على أنّ قوله : { قَدْ جَعَلَ الله } خبر إن ، وبالغاً حال { قَدْراً } تقديراً وتوقيتاً . وهذا بيان لوجوب التوكل على الله ، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته : لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل .
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
روي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء ، فما عدة اللائي لا يحضن؛ فنزلت : فمعنى { إِنِ ارتبتم } : إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهنّ ، وقيل : إن ارتبتم في ذم البالغات مبلغ اليأس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين ، أهو دم حيض أو استحاضة؟ { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك { والائى لَمْ يَحِضْنَ } هن الصغائر . والمعنى : فعدتهن ثلاثة أشهر ، فحذف لدلالة المذكور عليه . اللفظ مطلق في أولات الأحمال ، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن . وكان ابن مسعود وأبيّ وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون . وعن علي وابن عباس : عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين . وعن عبد الله : من شاء لاعنته أنّ سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة ، يعني : أنّ هذا اللفظ مطلق في الحوامل . وروت أم سلمة :
( 1203 ) أنّ سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها : « قد حللت فانكحي » { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ييسر له من أمره ويحلل له من عقده بسبب التقوى { ذَلِكَ أَمْرُ الله } يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات . والمعنى : ومن يتق الله في العمل بما أنزل الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك : استوجب تكفير السيئات والأجر العظيم .
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{ أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده : بيان لما شرط من التقوى في قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله } كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل : اسكنوهن . فإن قلت : من في { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ما هي؟ قلت : هي من التبعيضية مبعضها محذوف معناه : أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم ، أي بعض مكان سكناكم ، كقوله تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم } [ النور : 30 ] أي بعض أبصارهم . قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه . فإن قلت : فقوله : «من وجدكم»؟ قلت : هو عطف بيان لقوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه . والوجد : الوسع والطاقة . وقرىء بالحركات الثلاث . والسكنى والنفقة : واجبتان لكل مطلقة . وعند مالك والشافعي : ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها . وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحديث فاطمة بنت قيس :
( 1204 ) أن زوجها أبتّ طلاقها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سكنى لك ولا نفقة " . وعن عمر رضي الله عنه :
( 1205 ) لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم : " لها السكنى والنفقة " { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } ولا تستعملوا معهن الضرار { لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } في المسكن ببعض الأسباب : من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ذلك ، حتى تضطروهن إلى الخروج . وقيل : هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها . وقيل : هو أن يلجئها إلى أن تفتدي منه . فإن قلت : فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة ، فما فائدة الشرط في قوله : { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ } قلت : فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل ، فنفى ذلك الوهم . فإن قلت : فما تقول في الحامل المتوفى عنها؟ قلت : مختلف فيها؛ فأكثرهم على أنه لا نفقة لها ، لوقوع الإجماع على أنّ من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته ، فكذلك الحامل . وعن علي وعبد الله وجماعة : أنهم أوجبوا نفقتها { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من غيرهنّ أو منهنّ بعد انقطاع عصمة الزوجية { فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } حكمهن في ذلك حكم الأظار ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهم ما لم يبنّ . ويجوز عند الشافعي . الائتمار بمعنى التآمر ، كالاشتوار بمعنى التشاور . يقال : ائتمر القوم وتآمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً .
والمعنى : وليأمر بعضكم بعضاً ، والخطاب للآباء والأمهات { بِمَعْرُوفٍ } بجميل وهو المسامحة ، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم؛ لأنه ولدهما معا ، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه؛ وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم ، وقوله : { لَهُ } أي للأب ، أي : سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه { لِيُنفِقْ } كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد : ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، كما قال : { وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } [ البقرة : 236 ] وقرىء : «لينفق» بالنصب ، أي شرعنا ذلك لينفق . وقرأ ابن أبي عبلة «قدّر» { سَيَجْعَلُ الله } موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم ، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
{ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد { حِسَاباً شَدِيداً } بالاستقصاء والمناقشة { عَذَاباً نُّكْراً } وقرىء : «نكرا» منكراً عظيماً ، والمراد : حساب الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله تعالى : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] ونحو ذلك؛ لأنّ المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة ، وما هو كائن فكأن قد كان . وقوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك { ياأولي الألباب } من المؤمنين لطفاً في تقوى الله وحذر عقابه . ويجوز أن يراد إحصاء السيئات ، واستقصاؤها عليهم في الدنيا ، وإثباتها في صحائف الحفظة ، وما أصيبوا به من العذاب في العاجل؛ وأن يكون { عَتَتْ } وما عطف عليه : صفة للقرية . وأعد الله لهم : جواباً لكأين { رَسُولاً } هو جبريل صلوات الله عليه : أبدل من ذكرا ، لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه . أو أريد بالذكر : الشرف ، من قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] فأبدل منه ، كأنه في نفسه شرف : إما لأنه شرف للمنزل عليه ، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ، كقوله تعالى : { عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] أو جعل لكثرة ذكره لله وعبادته كأنه ذكر . أو أريد : ذا ذكر ، أي ملكاً مذكوراً في السموات وفي الأمم كلها . أو دل قوله : { أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } [ الطلاق : 10 ] على : أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولا؛ أو أعمل ذكراً في رسولا إعمال المصدر في المفاعيل ، أي : أنزل الله أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا . وقرىء : «رسول» ، على : هو رسول . أنزله { لّيُخْرِجَ الذين ءَامَنُواْ } بعد إنزاله ، أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح : لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ . أو ليخرج الذين عرف منهم أنهم يؤمنون . قرىء : «يدخله» ، بالياء والنون { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } فيه معنى التعجب والتعظيم ، لما رزق المؤمن من الثواب .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ الله الذى خَلَقَ } مبتدأ وخبر . وقرىء : «مثلهنّ» بالنصب ، عطفاً على سبع سموات؛ وبالرفع على الابتداء ، وخبره : من الأرض . قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه . وقيل : بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السموات { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } أي يجري أمر الله وحكمه بينهن ، وملكه ينفذ فيهن . وعن قتادة : في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه . وقيل : هو ما يدبر فيهنّ من عجائب تدبيره . وقرىء : «ينزل الأمر» ، وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال : نعم . قال : فما الخلق؟ قال : إما ملائكة أو جنّ «لتعلموا» قرىء بالتاء والياء .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1206 ) " من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
روي :
( 1207 ) " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة ، وعلمت بذلك حفصة ، فقال لها : اكتمي عليّ ، وقد حرمت مارية على نفسي ، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتيّ ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين . وقيل : خلا بها في يوم حفصة ، فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم ، فطلقها واعتزل نساءه؛ ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية " وروى :
( 1208 ) أن عمر قال لها : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة ، وإنها لمن نسائك في الجنة . وروي :
( 1209 ) " أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل ، فحرّم العسل " ، فمعناه { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } من ملك اليمين أو العسل . و { تَبْتَغِى } إما تفسير لتحرم . أو حال : أو استئناف ، وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله لأن الله عزّ وجل إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله ، فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة { والله غَفُورٌ } قد غفر لك ما زللت فيه { رَّحِيمٌ } قد رحمك فلم يؤاخذك به { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } فيه معنيان ، أحدهما : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم ، من قولك : حلل فلان في يمينه ، إذا استثنى فيها . ومنه : حلا أبيت اللعن ، بمعنى : استثن في يمينك إذا أطلقها؛ وذلك أن يقول : «إن شاء الله» عقيبها ، حتى لا يحنث . والثاني : قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1210 ) " لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم " وقول ذي الرمّة :
قَلِيلاً كَتَحْلِيلِ الأُلِيِّ ... فإن قلت : ما حكم تحريم الحلال؟ قلت : قد اختلف فيه ، فأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرّمه؛ فإذا حرّم طعاماً فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية؛ وإن نوى الظهار فظهار؛ وإن نوى الطلاق فطلاق بائن «وكذلك إن نوى ثنتين وإن نوى ثلاثاً فكما نوى ، وإن قال : نويت الكذب ديِّن فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء . وإن قال : كل حلال عليّ حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يميناً . ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحده وحدهنّ ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده .
وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم : أنّ الحرام يمين وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي رضي الله عنه : ثلاث . وعن زيد : واحدة بائنة . وعن عثمان : ظهار . وكان مسروق لا يراه شيئاً ويقول : ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد ، وكذلك عن الشعبي قال : ليس بشيء ، محتجاً بقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] وقوله تعالى : { لا تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] وما لم يحرمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرّمه ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليّ ، وإن امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله عليه الصلاة و السلام : والله لا أقربها بعد اليوم ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم على ما حلفت عليه ، وكفر عن يمينك . ونحوه قوله تعالى : { وحرّمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] أي؛ منعناه منها . وظاهر قوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } أنه كانت منه يمين . فإن قلت : هل كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؟ قلت : عن الحسن : أنه لم يُكَفِّر؛ لأنه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم { وَهُوَ العليم } بما يصلحكم فيشرعه لكم { الحكيم } فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة . وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم .
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
{ بَعْضِ أزواجه } حفصة . والحديث الذي أسر إليها : حديث مارية وإمامة الشيخين { نَبَّأَتْ بِهِ } أفشته إلى عائشة . وقرىء : «أنبأت» به { وَأَظْهَرَهُ } وأطلع النبي عليه السلام { عَلَيْهِ } على الحديث ، أي : على إفشائه على لسان جبريل . وقيل : أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم من الظهور { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أعلم ببعض الحديث تكرماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام . وقرىء : «عرف بعضه» ، أي : جاز عليه ، من قولك للمسيء : لأعرفن لك ذلك ، وقد عرفت ما صنعت . ومنه : أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، وهو كثير في القرآن؛ وكان جزاؤه تطليقه إياها . وقيل : المعرف : حديث الإمامة ، والمعرض عنه : حديث مارية : وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ ، قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها . فإن قلت : هلا قيل : فلما نبأت به بعضهن وعرفها بعضه؟ قلت : ليس الغرض بيان من المذاع إليه ومن المعرف ، وإنما هو ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به وإفشائه من قبلها ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه ، لم يوجد منه إلا الإعلام ببعضه ، وهو حديث الإمامة . ألا ترى أنه لما كان المقصود في قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا } ذكر المنبأ . كيف أتى بضميره .
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
{ إِن تَتُوبَا } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ، ليكون أبلغ في معاتبتهما . وعن ابن عباس :
( 1211 ) لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة ، فسكبت الماء على يده فتوضأ ، فقلت : من هما؟ فقال : عجباً يا ابن عباس كأنه كره ما سألته عنه ثم قال : هما حفصة وعائشة { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه . وقرأ ابن مسعود : «فقد زاغت» { وَإِن تَظَاهَرَا } وإن تعاونا { عَلَيْهِ } بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره ، فلن يعدم هو من يظاهره ، وكيف يعدم المظاهر من الله [ مولاه ] أي وليه وناصره؛ وزيادة { هُوَ } إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه ، وأنه يتولى ذلك بذاته { وَجِبْرِيلُ } رأس الكروبيين؛ وقرن ذكره بذكره مفرداً له من بين الملائكة تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عنده { وصالح اْلمُؤْمِنِينَ } ومن صلح من المؤمنين ، يعني : كل من آمن وعمل صالحاً . وعن سعيد بن جبير : من برىء منهم من النفاق . وقيل : الأنبياء وقيل : الصحابة . وقيل : الخلفاء منهم . فإن قلت : صالح المؤمنين واحد أم جمع؟ قلت : هو واحد أريد به الجمع ، كقولك : لا يفعل هذا الصالح من الناس ، تريد الجنس ، كقولك : لا يفعله من صلح منهم . ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر . ويجوز أن يكون أصله : صالحوا المؤمنين بالواو ، فكتب بغير واو على اللفظ؛ لأنّ لفظ الواحد والجمع واحد فيه ، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط { والملئكة } على تكاثر عددهم ، وامتلاء السموات من جموعهم { بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٌ } فوج مظاهر له ، كأنهم يد واحدة على من يعاديه ، فما يبلغ تظاهر امرأتين علي من هؤلاء ظهراؤه؟ فإن قلت : قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } تعظيم للملائكة ومظاهرتهم . وقد تقدّمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم . قلت : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى ، لفضلهم على جميع خلقه . وقرىء : «تظاهرا» وتتظاهرا . وتظهرا .
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قرىء : «يبدله» ، بالتخفيف والتشديد للكثرة { مسلمات مؤمنات } مقرّات مخلصات { سائحات } صائمات . وقرىء : «سيحات» ، وهي أبلغ . وقيل للصائم : سائح؛ لأنّ السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه ، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره . وقيل : سائحات مهاجرات ، وعن زيد بن أسلم : لم تكن في هذه الأمّة سياحة إلى الهجرة . فإن قلت : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين؟ قلت : إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه ، لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيراً منهن ، وقد عرض بذلك في قوله : { قانتات } لأنّ القنوت هو القيام بطاعة الله ، وطاعة الله في طاعة رسوله . فإن قلت : لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت : لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات ، فلم يكن بدّ من الواو .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
{ قُواْ أَنفُسَكُمْ } بترك المعاصي وفعل الطاعات { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم . وفي الحديث :
( 1212 ) " رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة " وقيل : إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله . وقرىء : «وأهلوكم» ، عطفاً على واو { قوا } وحسن العطف للفاصل . فإن قلت : أليس التقدير : قوا أنفسكم ، وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة ، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حراً إذا أوقد عليها . وقرىء : «وقودها» بالضم ، أي ذو وقودها { عليها } يلي أمرها وتعذيب أهلها { ملائكة } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غِلاَظٌ شِدَادٌ } في أجرامهم غلظة وشدّة ، أي : جفاء وقوّة . أو في أفعالهم جفاء وخشونة ، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه { مَا أَمَرَهُمْ } في محل النصب على البدل ، أي : لا يعصون ما أمر الله . أي : أمره ، كقوله تعالى : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [ طه : 93 ] أو لا يعصونه فيما أمرهم . فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت : لا ، فإنّ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثافلون عنه ولا يتوانون فيه . فإن قلت : قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] وقال : { أُعِدَّتْ للكافرين } [ البقرة : 24 ] فجعلها معدّة للكافرين ، فما معنى مخاطبته به بالمؤمنين؟ قلت : الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار ، فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا : قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة . ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد ، والندم على الدخول في الإسلام ، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون؛ ويعضد ذلك قوله تعالى على أثره { ياأيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 ) } أي : يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا ، لأنه لا عذر لكم . أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{ تَوْبَةً نَّصُوحاً } وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازى؛ والنصح : صفة التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات ، وذلك : أن يتوبوا عن القبائح لقبحها ، نادمين عليها ، مغتمين أشدّ الاغتمام لارتكابها ، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع ، موطنين أنفسهم على ذلك . وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنه سمع أعرابياً يقول : اللهم إني استغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين . قال : وما التوبة؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب : الندامة ، وللفرائض : الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله ، كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه . وعن شهر بن حوشب : أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار . وعن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك . وقيل : توبة لا يتاب منها . وعن السدي : لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين ، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله . وقيل : نصوحاً من نصاحة الثوب ، أي : توبة ترفو خروقك في دينك ، وترمّ خَلّك . وقيل : خالصة ، من قولهم : عسل ناصح إذا خلص من الشمع . ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها . وقرأ زيد بن علي «توبا نصوحا» وقرىء : «نصوحا» بالضم ، وهو مصدر نصح . والنصح والنصوح ، كالشكر والشكور ، والكفر والكفور أي : ذات نصوح . أو تنصح نصوحاً . أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له { عسى رَبُّكُمْ } إطماع من الله لعباده ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل . ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت . والثاني : أن يجيء به تعليماً للعباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء ، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت : قراءة ابن أبي عبلة : «ويدخلكم بالجزم» ، عطفاً على محل ( عسى أن يكفر ) كأنه قيل : توبوا يوجب لكم تكفير سيآتكم ويدخلكم { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله } نصب بيدخلكم ، ولا يخزي : تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق ، واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم { يسعىنورهم } على الصراط { أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } قال ابن عباس : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين إشفاقاً . وعن الحسن : الله متممه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله ، كقوله تعالى :
{ واستغفر لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] وهو مغفور له . وقيل : يقوله أدناهم منزلة ، لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطىء أقدامهم ، لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً . وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم حبوا وزحفاً؛ فأولئك الذين يقولون : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } فإن قلت : كيف يشفقون والمؤمنون آمنون ، { أم من يأتي آمنا يوم القيامة } [ فصلت : 40 ] . { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ يونس : 62 ] ، { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر } [ الأنبياء : 103 ] أو كيف يتقربون وليست الدار دار تقرّب؟ قلت : أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن . وأما التقرّب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة : سماه تقرّبا .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{ جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالاحتجاج؛ واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة . وعن قتادة : مجاهدة المنافقين لإقامة الحدود عليهم . وعن مجاهد : بالوعيد . وقيل : بإفشاء أسرارهم .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا من أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط : لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله { وَقِيلَ } لهما عند موتهما أو يوم القيامة : { ادخلا النار مَعَ } سائر { الداخلين } الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء . أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط . ومثل حال المؤمنين في أنّ وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى ، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أنّ قومها كانوا كفاراً . وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأميّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشد ، لما في التمثيل من ذكر الكفر . ونحوه في التغليظ قوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله ، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين ، والتعريض بحفصة أرجح ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ، وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . فإن قلت ، ما فائدة قوله : { مِّنْ عِبَادِنَا } ؟ قلت : لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائناً من كان ، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما عند الله : قال عبدين من عبادنا صالحين ، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما عبدان لم يكونا إلا كسائر عبادنا ، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده إظهاراً وإبانة ، لأن عبداً من العباد لا يرجح عنده إلا بالصلاح لا غير ، وأن ما سواه مما يرجح به الناس عند الناس ليس بسبب للرجحان عنده . فإن قلت : ما كانت خيانتهما؟ قلت : نفاقهما وإبطانهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ، فامرأة نوح قالت لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه . ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر فإن الكفار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمونه حقاً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما بغت امرأة نبي قط .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
وامرأة فرعون : آسية بنت مزاحم . وقيل : هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى الإفك ، فعذبها فرعون . عن أبي هريرة : أن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس؛ وأضجعها على ظهرها ، ووضع رحى على صدرها . وقيل : أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقي بروحها ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه . وعن الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة؛ فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها . وقيل : لما قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة : أريت بيتها في الجنة يبنى . وقيل : إنه من درة . وقيل : كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة . فإن قلت : ما معنى الجمع بين عندك وفي الجنة؟ قلت طلبت القرب من رحمة الله والبعد من عذاب أعدائه ، ثم بينت مكان القرب بقولها : { فِى الجنة } أو أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى ، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها : { عِندَكَ } . { مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } من عمل فرعون . أو من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم ، وخصوصاً من عمله وهو : الكفر ، وعبادة الأصنام ، والظلم ، والتعذيب بغير جرم { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } من القبط كلهم . وفيه دليل على أنّ الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل : من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين : { فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنين } ، [ الشعراء : 118 ] { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } [ يونس : 86 ] . { فِيهِ } في الفرج . وقرأ ابن مسعود : فيها ، كما قرىء في سورة الأنبياء ، والضمير للجملة ، وقد مرّ لي في هذا الظرف كلام . ومن بدع التفاسير : أنّ الفرج هو جيب الدرع ، ومعنى أحصنته : منعته جبربل ، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها ، تسلية للأرامل وتطييباً لأنفسهنّ { وَصَدَّقَتْ } قرىء بالتشديد والتخفيف على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة ، يعني : وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه . فإن قلت : فما في كلمات الله وكتبه؟ قلت : يجوز أن يراد بكلماته : صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ، سماها كلمات لقصرها ، وبكتبه : الكتب الأربعة ، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم ، وجميع ما كتبه في اللوح وغيره . وقرىء : «بكلمة الله وكتابه» ، أي : بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل . فإن قلت : لم قيل { مِنَ القانتين } على التذكير؟ قلت : لأنّ القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين ، فغلب ذكوره على إناثه . و { مِنَ } للتبعيض ويجوز أن يكون لابتداء الغاية ، على أنهاولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هرون أخي موسى صلوات الله عليهما .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1213 ) " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد . وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وأما ما روي أنّ عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سمى الله المسلمة؟ تعني مريم ، ولم يسم الكافرة؟ فقال : بغضاً لها : قالت : وما اسمها؟ قال : اسم امرأة نوح «واعلة» واسم امرأة لوط «واهلة» فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين ، ولقد سمى الله تعالى جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم ، ولو كانت التسمية للحب وتركها للبغض لسمى آسية ، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين ، وأبى الله إلا أن يجعل للمصنوع أمارة تنم عليه ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم وأسلم من ذلك .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1214 ) " من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً " .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
{ تبارك } تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين { الذى بِيَدِهِ الملك } على كل موجود { وَهُوَ على كُلِّ } ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة { قَدِيرٌ } وذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه . والحياة : ما يصح بوجوده الإحساس . وقيل : ما يوجب كون الشيء حياً ، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر . والموت عدم ذلك فيه ، ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه . والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون { لِيَبْلُوَكُمْ } وسمى علم الواقع منهم باختيارهم «بلوى» وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر . ونحوه قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ } [ محمد : 31 ] . فإن قلت : من أين تعلق قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعل البلوى؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا؛ وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا . فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الإستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق . وعلمت زيداً منطلقاً : { أَحْسَنُ عَمَلاً } . قيل : أخلصه وأصوبه؛ لأنه إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص؛ فالخالص : أن يكون لوجه الله تعالى؛ والصواب : أن يكون على السنة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها ، فلما بلغ قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } قال :
( 1215 ) " أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " يعني : أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه؛ والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه ، وسلط علكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه . وقدم الموت على الحياة ، لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم { وَهُوَ العزيز } الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } لمن تاب من أهل الإساءة { طِبَاقاً } مطابقة بعضها فوق بعض ، من طابق النعل : إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر . أو على ذات طباق ، أو على : طوبقت طباقاً { مِن تفاوت } وقرىء : «من تفوت» ، ومعنى البناءين واحد ، كقولهم : تظاهروا من نسائهم . وتظهروا . وتعاهدته وتعهدته ، أي : من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض؛ إنما هي مستوية مستقيمة .
وحقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه . ومنه قولهم : خلق متفاوت . وفي نقيضه : متناصف . فإن قلت : كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت : هي صفة مشايعة لقوله : { طِبَاقاً } وأصلها : ما ترى فيهنّ من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : { خَلْقِ الرحمن } تعظيماً لخلقهنّ ، وتنبيهاً على سبب سلامتهنّ من التفاوت : وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب ، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب . وقوله تعالى : { فارجع البصر } متعلق به على معنى التسبيب؛ أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهنّ ، ثم قال : { فارجع البصر } حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ، ولا تبقى معك شبهة فيه { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } من صدوع وشقوق : جمع فطر وهو الشق . يقال : فطره فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شق وبزل . ومعناه : شق اللحم فطلع . وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحاً ومتتبعاً يلتمسُ عيباً وخللاً { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ } أي إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور ، أي : بالبعد عن إصابة الملتمس ، كأنه يطرد عن ذلك طرداً بالصغار والقماءة ، وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والترديد . فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرّتين اثنتين؟ قلت : معنى التثنية التكرير بكثرة ، كقولك : لبيك وسعديك ، تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض ، وقولهم في المثل : دهدرّين سعد القين من ذلك ، أي : باطلاً بعد باطل . فإن قلت : فما معنى ثم ارجع؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء ، وأن يتوقف بعدها ويجم بصره ، ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من فطور .
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{ الدنيا } القربى؛ لأنها أقرب السموات إلى الناس ، ومعناها : السماء الدنيا منكم . والمصابيح السرج ، سميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب المصابيح ، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها { بمصابيح } أي بأي مصابيح لا توازيهامصابيحكم إضاءة ، وضممنا إلى ذلك منافع أخر : أنا ( جعلنا رجوما ) لأعدائكم : ( للشياطين ) الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر . قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها . فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلف مالا علم له به وعن محمد بن كعب : في السماء والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة . والرجوم : جمع رجم : وهو مصدر سمي به ما يرجم به . ومعنى كونها مراجم للشياطين : أنّ الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة من نار الكواكب ، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها؛ لأنها قارة في الفلك على حالها . وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار ، والنار ثابتة كاملة لا تنقص . وقيل : من الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب . ومنهم من يخبله . وقيل : معناه وجعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون . { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا .
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أي : ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم { عَذَابُ جَهَنَّمَ } ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك . وقرىء : «عذاب جهنم» بالنصب عطفاً على عذاب السعير { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا } أي طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، ويرمى به . ومثله قوله تعالى : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] . { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا } إمّا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها . أو من أنفسهم ، كقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] وإما للنار تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق { وَهِىَ تَفُورُ } تغلي بهم غليان المرجل بما فيه . وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ويقولون : فلان يتميز غيظاً ويتقصف غضباً ، وغضب فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء : إذا وصفوه بالإفراط فيه . ويجوز أن يراد : غيظ الزبانية { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } توبيخ يزدادون به عذاباً إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم . وخزنتها : مالك وأعوانه من الزبانية { قَالُواْ بلى } اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثه الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة؛ وإنما أتوا من قبل أنفسهم ، واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده . فإن قلت : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } من المخاطبون به؟ قلت : هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين ، على أنّ النذير بمعنى الإنذار . والمعنى : ألم يأتكم أهل نذير . أو وصف منذروهم لغلوهم في الإنذار ، كأنهم ليسوا إلا إنذاراً؛ وكذلك { قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] أي حاملاً رسالته . ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول : أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا . أو أرادوا بالضلال؛ الهلاك . أو سموا عقاب الضلال باسمه . أو من كلام الرسل لهم حكوه الخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } الإنذار سماع طالبين للحق . أي نعقله عقل متأمّلين . وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل . ومن بدع التفاسير : أنّ المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ، كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة؛ وعدّة المبشرين من الصحابة : عشرة ، لم يضم إليهم حادي عشر ، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين { بِذَنبِهِمْ } بكفرهم في تكذيبهم الرسل { فَسُحْقًا } قرىء بالتخفيف والتثقيل ، أي : فبعداً لهم ، اعترفوا أو جحدوا؛ فإنّ ذلك لا ينفعهم .
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار . ومعناه : ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما ، ثم أنه علله ب ( بإنه عليم بذات الصدور ) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها ، فكيف لا يعلم ما تكلم به . ثم أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر { مَنْ خَلَقَ } الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير ، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن . ويجوز أن يكون { مَنْ خَلَقَ } منصوباً بمعنى : ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله . وروي أنّ المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء ، فيظهر الله رسوله عليها ، فيقولون : أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد ، فنبه الله على جهلهم . فإن قلت : قدرت في { أَلاَ يَعْلَمُ } مفعولاً على معنى : ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق ، فهلا جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع؛ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأنّ الخلق لا يصح إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير : لم يكن معنى صحيحاً؛ لأنّ ألا يعلم معتمد على الحال . والشيء لا يوقت بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
المشي في مناكبها : مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية؛ لأنّ المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك . وقيل : مناكبها جبالها . قال الزجاج : معناه سهل لكم السلوك في جبالها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ التذليل . وقيل : جوانبها . والمعنى : وإليه نشوركم ، فهو مسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم .
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
{ مَّن فِى السمآء } فيه وجهان : أحدهما من ملكوته في السماء؛ لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه . والثاني : أنهم كانوا يعتقدون التشبيه ، وأنه في السماء ، وأنّ الرحمة والعذاب ينزلان منه ، وكانوا يدعونه من جهتها ، فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ، وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب ، كما تقول لبعض المشبهة : أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل ، إذا رأيته يركب بعض المعاصي { فَسَتَعْلَمُونَ } قرىء : بالتاء والياء { كَيْفَ نَذِيرِ } أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم { صافات } باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً { وَيَقْبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . فإن قلت : لم قيل : ويقبضن ، ولم يقل : وقابضات؟ قلت : لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } بقدرته وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبني الأجسام على شكل وخصائص قد تأتى منها الجري في الجو { إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ } يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب .
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
{ أَمَّنْ } يشار إليه من الجموع ويقال { هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الله } إن أرسل عليكم عذابه { أَمَّنْ } يشار إليه ويقال { هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } وهذا على التقدير . ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم ، فكأنهم الجند الناصر والرازق . ونحوه قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] . { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق لثقله عليهم فلم يتبعوه .
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
يجعل «أكب» مطاوع «كبه» يقال : كببته فأكب ، من الغرائب والشواذ . ونحوه : قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك؛ ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه؛ وإنما «أكب» من باب «انفض ، وألأم» ومعناه : دخل في الكب ، وصار ذا كب؛ وكذلك أقشع السحاب : دخل في القشع . ومطاوع كب وقشع : انكب وانقشع . فإن قلت ما معنى { يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ } ؟ وكيف قابل { يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ } ؟ قلت : معناه : يمشي معتسفاً في مكان معتاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع ، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكباً ، فحاله نقيض حال من يمشي سوياً ، أي : قائماً سالماً من العثور والخرور . أو مستوي الجهة قليل الانحراف خلاف المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على طريق مستو . ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف ، فلا يزال ينكب على وجهه ، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المهتدي له ، وهو مثل للمؤمن والكافر . وعن قتادة : الكافر أكب على معاصي الله تعالى فحشره الله يوم القيامة على وجهه . وعن الكلبي : عنى به أبو جهل بن هشام . وبالسويّ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ } الضمير للوعد . والزلفة : القرب ، وانتصابها على الحال أو الظرف ، أي : رأوه ذا زلفة أو مكاناً ذا زلفة { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي ساءت رؤية الوعد وجوههم : بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة ، وكلحوا ، وكما يكون وجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب { وَقِيلَ } القائلون : الزبانية { تَدَّعُونَ } تفتعلون من الدعاء ، أي : تطلبون وتستعجلون به . وقيل : هو من الدعوى ، أي : كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون . وقرىء : «تدعون» ، وعن بعض الزهاد : أنه تلاها في أول الليل في صلاته ، فبقي يكررها وهو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر ، ولعمري إنها لوقاذة لمن تصور تلك الحالة وتأملها .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين : إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون؟ من يجيركم - وأنتم كافرون - من عذاب النار؟ لا بدّ لكم منه ، يعني : إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده ، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه . أو إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم ، والآخذين بحجزكم من النار ، وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم؛ فإنّ المقتول على أيدينا هالك . أو إن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون ، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم؛ وإن رحمنا بالإيمان فيمن يجير من لا إيمان له .
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
فإن قلت لم أخر مفعول آمنا وقدم مفعول توكلنا؟ قلت : لوقوع آمنا تعريضاً بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم ، كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، ثم قال : وعليه توكلنا خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ غوراً } غائراً ذاهباً في الأرض . وعن الكلبي لا تناله الدلاء ، وهو وصف بالمصدر كعدل ورضا . وعن بعض الشطار أنها تليت عنده فقال : تجيء به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه؛ نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1216 ) « من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر » .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قرىء : «ن والقلم» بالبيان والإدغام ، وبسكون النون وفتحها وكسرها ، كما في ص . والمراد هذا الحرف من حروف المعجم : وأمّا قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ، وإنّ كان علماً فأين الإعراب ، وأيهما كان فلا بد له من موقف في تأليف الكلام . فإن قلت : هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجرّه وتنوّنه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علماً أن تصرفه وتجرّه ، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير بالحوت : إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون ، والتفسير باللوح من نور أو ذهب ، والنهر في الجنة نحو ذلك ، وأقسم بالقلم : تعظيماً له ، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف { وَمَا يَسْطُرُونَ } وما يكتب من كتب وقيل ما يسطره الحفظة وما موصولة أو مصدرية ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في { يَسْطُرُونَ } لهم كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم . أو وسطورهم ، ويراد بهم كل ما يسطر ، أو الحفظة .
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
فإن قلت : بم يتعلق الباء في { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } وما محله؟ قلت : يتعلق بمجنون منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً : تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً؛ ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك؛ ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي . والمعنى؛ استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوّة ، بمنزلة { وَإِنَّ لَكَ } على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه { لأجْرًا } لثواباً { غَيْرَ مَمْنُونٍ } غير مقطوع كقوله : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] أو غير ممنون عليك به ، لأنّه ثواب تستوجبه على عملك ، وليس بتفضل ابتداء؛ وإنما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال .
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم . وقيل : هو الخلق الذي أمره الله تعالى به في قوله تعالى : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1217 ) أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن : قد أفلح المؤمنون .
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
{ المفتون } المجنون ، لأنه فتن : أي محن بالجنون . أو لأن العرب يزعمون أنه من تخبيل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم ، والباء مزيدة . أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود ، أي : بأيكم الجنون ، أو بأي الفريقين منكم الجنون ، أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين؟ أي : في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم : وهو تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما ، وهذا كقوله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } [ القمر : 26 ] .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
{ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } بالمجانين على الحقيقة ، وهم الذين ضلوا عن سبيله { وَهُوَ أَعْلَمُ } بالعقلاء وهم المهتدون . أو يكون وعيداً ووعداً ، وأنه أعلم بجزاء الفريقين { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم ، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة ، وآلهتهم مدة ، ويكفوا عنه غوائلهم { لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين وتصانع { فَيُدْهِنُونَ } فإن قلت : لم رفع { فَيُدْهِنُونَ } ولم ينصب بإضمار ( أن ) وهو جواب التمني؟ قلت : قد عدل به إلى طريق آخر : وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون ، كقوله تعالى : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } [ الجن : 13 ] على معنى : ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذٍ . أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون؛ لطمعهم في إدهانك . قال سيبويه : وزعم هرون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا .
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{ حَلاَّفٍ } كثير الحلف في الحق والباطل ، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف . ومثله قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عرضةلأيمانكم } [ البقرة : 224 ] . { مُّهِينٍ } من المهانة وهي القلة والحقارة ، يريد القلة في الرأي والتمييز . أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس { هَمَّازٍ } عياب طعان . وعن الحسن . يلوى شدقيه في أقفية الناس { مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } مضرب نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم . والنميم والنميمة : السعاية ، وأنشدني بعض العرب :
تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّمِيمَهْ ... تَمْشِي بِهَا زَهْرَا إِلَى تَمِيمَهْ
{ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } بخيل . والخير : المال . أو مناع أهه الخير وهو الإسلام ، فذكر الممنوع منه دون الممنوع ، كأنه قال : مناع من الخير . قيل : هو الوليد بن المغيرة المخزومي : كان موسراً ، وكان له عشرة من البنين ، فكان يقول لهم وللحمته : من أسلم منكم منعته رفدي عن ابن عباس . وعنه : أنه أبو جهل . وعن مجاهد : الأسود بن عبد يغوث . وعن السدي : الأخنس بن شريق ، أصله في ثقيف وعداده في زهرة ، ولذلك قيل : زنيم { مُعْتَدٍ } مجاوز في الظلم حده { أَثِيمٍ } كثير الآثام { عُتُلٍّ } غليظ جاف ، من عتله : إذا قاده بعنف وغلظة { بَعْدَ ذَلِكَ } بعدما عدّ له من المثالب والنقائص { زَنِيمٍ } دعي . قال حسان :
وَأنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي ءَالِ هَاشِم ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده . وقيل : بغت أمّه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1218 ) " لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده " و { بَعْدَ ذَلِكَ } نظير ( ثم ) في قوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] وقرأ الحسن : «عتل» رفعاً على الذم وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك . والزنيم : من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلقة في حلقها ، لأنه زيادة معلقة بغير أهله { أَن كَانَ ذَا مَالٍ } متعلق بقوله : { وَلاَ تُطِعْ } يعني ولا تطعه مع هذه المثالب ، لأن كل ذا مال . أي : ليساره وحظه من الدنيا . ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى : لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين كذب آياتنا ولا يعمل فيه { قَالَ } الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب . وقرىء : «أأن كان»؟ على الاستفهام على : إلا لأن كان ذا مال وبنين ، كذب .
أو أتطيعه لأن كان ذا مال . وروى الزبيري عن نافع : إن كان ، بالكسر والشرط للمخاطب ، أي : لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] الوجه : أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة . وقالوا الأنف في الأنف ، وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين وإذالة ، فكيف بها على أكرم موضع منه ، ولقد :
( 1219 ) وسم العباس أباعره في وجوهها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكرموا الوجوه " فوسمها في جواعرها وفي لفظ «الخرطوم» استخفاف به واستهانة . وقيل معناه : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة ، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بأن بها عنهم . وقيل : خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمة على خرطومه . وقيل : سنشهره بهذه الشتيمة في الدارين جميعاً ، فلا تخفى ، كما لا تخفى السمة على الخرطوم . وعن النضر بن شميل : أن الخرطوم الخمر ، وأن معناه : سنحده على شربها وهو تعسف . وقيل للخمر : الخرطوم ، كما قيل لها : السلافة . وهي ما سلف من عصير العنب . أو لأنها تطير في الخياشيم .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم { كَمَا بلونا أصحاب الجنة } وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين ، فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي ، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب ، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خفية عن المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ، فأحرق الله جنتهم . وقيل : كانوا من بني إسرائيل { مُصْبِحِينَ } داخلين في الصبح مبكرين { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ( 18 ) } ولا يقولون إن شاء الله . فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء ، من حيث إن معنى قولك : لأخرجنّ إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله . واحد { فَطَافَ عَلَيْهَا } بلاء أو هلاك { طَآئِفٌ } كقوله تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] وقرىء : «طيف» { فَأَصْبَحَتْ كالصريم ( 20 ) } كالمصرومة لهلاك ثمرها . وقيل : الصريم الليل ، أي . احترقت فاسودت . وقيل : النهار أي : يبست وذهبت خضرتها . أو لم يبق شيء فيها ، من قولهم : بيض الإناء ، إذا فرغه . وقيل الصريم الرمال { صارمين } حاصدين . فإن قلت : هلا قيل : اغدوا إلى حرثكم؛ وما معنى ( على ) ؟ قلت : لما كان الغدوّ إليه ليصرموه ويقطعوه : كان غدوّا عليه ، كما تقول : غداً عليهم العدوّ . ويجوز أن يضمن الغدوّ معنى الإقبال ، كقولهم : يفدى عليه بالجفنة ويراح ، أي : فأقبلوا على حرثكم باكرين { يتخافتون } يتسارّون فيما بينهم . وخفى ، وخفت ، وخفد : ثلاثتها في معنى الكتم؛ ومنه الخفدود للخفاش { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } أن مفسرة . وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول ، أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها؛ والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك : لا أرينك ههنا . الحرد : من حردت السنة إذا منعت خيرها؛ وحردت الإبل إذا منعت درّها . والمعنىّ : وغدوا قادرين على نكد ، لا غير عاجزين عن النفع ، يعني أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم ، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان ، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة . أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين ، بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها ، أي : غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع ، أو لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم : عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها ، فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد .
و { قادرين } من عكس الكلام للتهكم ، أي : قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين ، وعلى حرد ليس بصلة قادرين ، وقيل : الحرد بمعنى الحرد . وقرىء : «على حرد» ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : { يتلاومون } [ القلم : 30 ] وقيل : الحرد القصد والسرعة؛ يقال : حردت حردك . وقال :
أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ أمرِ اللَّهْ ... يَحْرُدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ اْلمُغْلَّةْ
وقطا حراد : سراع ، يعني : وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط ، قادرين عند أنفسهم ، يقولون : نحن نقدر على صرامها وزيّ منفعتها عن المساكين . وقيل : { حَرْدٍ } علم للجنة ، أي غدواً على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم . أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان { قَالُواْ } في بديهة وصولهم { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي ضللنا جنتنا ، وما هي بها لما رأوا من هلاكها؛ فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا { أَوْسَطُهُمْ } أعدلهم وخيرهم ، من قولهم : هو من سطة قومه ، وأعطني من سطات مالك . ومنه قوله تعالى : { أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] . { لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين ، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم ، وسارعواإلى حسم شرها قبل حلول النقمة ، فعصوه فعيرهم . والدليل عليه قولهم : { سبحان رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين } فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ، ولكن بعد خراب البصرة . وقيل : المراد بالتسبيح . الاستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأنّ الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له؛ وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم . وعن الحسن : هو الصلاة ، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة؛ وإلاّ لنهتهم عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت لهم لطفاً في أن يستثنوا ولا يحرموا { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } سبحوا الله ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح ، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء { يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً؛ لأنّ منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف وعذر ومنهم من عصى الأمر ، ومنهم من سكت وهو راض { أَن يُبْدِلَنَا } قرىء بالتشديد والتخفيف { إلى رَبّنَا راغبون } طالبون منه الخير راجون لعفوه { كَذَلِكَ العذاب } مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا { وَلَعَذَابُ الأخرة } أشد وأعظم منه ، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال : لقد كلفتني تعباً . وعن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيراً منها . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان : فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
{ عِندَ رَبِّهِمْ } أي في الآخرة { جنات النعيم } ليس فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا .
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها ، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا ، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا ، وأقصى أمرهم أن يساوونا ، فقيل : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين . ثم قيل لهم على طريقة الالتفات { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 36 ) } هذا الحكم الأعوج؟ كأنّ أمر الجزاء مفوّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كتاب } من السماء { تَدْرُسُونَ } في ذلك الكتاب أنّ ما تختارونه وتشتهونه لكم ، كقوله تعالى : { أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ ( 156 ) } فأتوا بكتابكم والأصل تدرسون أنّ لكم ما تخيرون ، بفتح أنّ؛ لأنه مدروس؛ فلما جاءت اللام كسرت . ويجوز أن تكون حكاية للدروس ، كما هو ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين ( 78 ) سلام على نُوحٍ فِى العالمين ( 79 ) } [ الصافات : 78-79 ] . وتخير الشيء واختاره : أخذ خيره ، ونحوه : تنخله وانتخله : إذا أخذ منخوله . لفلان عليّ يمين بكذا : إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به ، يعني : أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد فإن قلت : بم يتعلق { إلى يَوْمِ القيامة } ؟ قلت : بالقدر في الظرف ، أي : هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذٍ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون . ويجوز أن يتعلق ببالغة ، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم . وقرأ الحسن «بالغة» بالنصب على الحال من الضمير في الظرف { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جواب القسم؛ لأنّ معنى { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم .
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{ أَيُّهُم بذلك } الحكم { زَعِيمٌ } أي قائم به وبالاحتجاج لصحته ، كما يقوم الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه { فَلْيَأْتُواْ } بهم { إِن كَانُواْ صادقين } في دعواهم ، يعني : أنّ أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا زعيم لهم يقوم به .
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام : مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب ، وإبداء خدامهن عند ذلك . قال حاتم :
أَخُو الْحَرْبِ إنْ غَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا
وقال ابن الرقيات :
تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ الْعَقِيلَةِ الْعَذْرَاءِ
فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } في معنى : يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم ، ولا كشف ثم ولا ساق ، كماتقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثم ولا غل؛ وإنما هو مثل في البخل . وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه :
( 1220 ) " يكشف الرحمن عن ساقه؛ فأمّا المؤمنون فيخرّون سجداً ، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كأنّ فيها سفافيد " ومعناه : يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله ، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة ، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه ، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن . فإن قلت : فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت : للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف ، كقوله : { يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شَىْء نُّكُرٍ } [ القمر : 6 ] كأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل؛ ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل : وعن أبي عبيدة : خرج من خراسان رجلان ، أحدهما : شبه حتى مثل ، وهو مقاتل بن سليمان ، والآخر نفي حتى عطل وهو جهم بن صفوان؛ ومن أحس بعظم مضارّ فقد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه . وقرىء : «يوم نكشف» بالنون . وتكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً ، والفعل للساعة أو للحال ، أي : يوم تشتدّ الحال أو الساعة ، كما تقول : كشفت الحرب عن ساقها ، على المجاز . وقرىء : «تكشف» بالتاء المضمومة و كسر الشين ، من أكشف : إذا دخل في الكشف . ومنه . أكشف الرجل فهو مكشف ، إذا انقلبت شفته العليا . وناصب الظرف : فليأتوا . أو إضمار «اذكر» أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، فحذف للتهويل البليغ . وإن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه . عن ابن مسعود رضي الله عنه : تعقم أصلابهم واحداً ، أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض . وفي الحديث : وتبقى أصلابهم طبقا واحدا ، أيّ ، فقارة واحدة . فإن قلت : لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت : لا يدعون إليه تعبداً وتكليفاً ، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ، مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيراً لهم وتنديماً على ما فرّطوا فيه حين دعوا إلى السجود ، وهم سالمون الأصلاب والمفاصل يمكنون مزاحو العلل فيما تعبدوا به .
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
يقال : ذرني وإياه ، يريدون كله إليّ ، فإني أكفيكه ، كأنه يقول : حسبك إيقاعاً به أن تكل أمره إليّ وتخلي بيني وبينه ، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له ، والمراد : حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن ، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديداً للمكذبين . استدرجه إلى كذا : إذا استنزله إليه درجة فدرجة ، حتى يورّطه فيه . واستدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة ، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقاً إلى ازدياد الكفر والمعاصي { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم ، لأنهم يحسبونه إيثاراً لهم وتفضيلاً على المؤمنين ، وهو سبب لهلاكهم { وَأُمْلِى لَهُمْ } وأمهلهم ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] والصحة والرزق والمدّ في العمر : إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة ، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم ، فلما تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج . وقيل : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه . وسمي إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً ، لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للتورّط في الهلكة ، ووصفه بالمتانة لقوّة أثر إحسانه في التسبب للهلاك .
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
المغرم : الغرامة ، أي لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً ، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } منه ما يحكمون به .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
{ لِحُكْمِ رَبِّكَ } وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } يعني : يونس عليه السلام { إِذْ نادى } في بطن الحوت { وَهُوَ مَكْظُومٌ } مملوء غيظاً ، من كظم السقاء إذا ملأه ، والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه ، حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «تداركته» . وقرأ الحسن : «تداركه» ، أي تتداركه على حكاية الحال الماضية ، بمعنى : لو أن كان يقال فيه تتداركه ، كما يقال : كان زيد سيقوم فمنعه فلان ، أي كان يقال فيه سيقوم . والمعنى : كان متوقعاً منه القيام . ونعمة ربه : أن أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وتاب عليه . وقد اعتمد في جواب «لولا» على الحال ، أعني قوله : { وَهُوَ مَذْمُومٌ } يعني أنّ حاله كانت على خلاف الذمّ حين نبذ بالعراء ، ولولا توبته لكانت حاله على الذمّ . روى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل به ، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف . وقرىء : «رحمة من ربه» { فاجتباه رَبُّهُ } فجمعه إليه ، وقربه بالتوبة عليه ، كما قال : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } [ طه : 122 ] { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } أي من الأنبياء . وعن ابن عباس : ردّ الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه .
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
إن مخففة من الثقيلة واللام علمها . وقرأ« ليزلقونك» بضم الياء وفتحها . وزلقه وأزلقه بمعنى : ويقال : زلق الرأس وأزلقه : حلقه ، وقرأ« ليزهقونك » من زهقت نفسه وأزهقها ، يعني : أنهم من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلون قدمك أويهلكونك ، من قولهم نظر إلى نظرا يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصراع أو الأكل لفعله ، قال :
يتقارضون إذا التقوا في مَوْطِنٍ ... نظرا يزّل مواطىء الأقدامْ
وقيل كانت العين في بنى أسد ، فكان الرجل منهم يتجوّع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه ، فأريد بعض العيانين على أن يقول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فقال : لم أر كاليوم رجلا فعصمه لله . وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية { لما سمعوا الذكر } أي القرآن لم يملكوا أنفسهم حسدا على ما أوتيت من النبوة { ويقولون إنه لمجنون } حيرة فى أمره وتنفيرا عنه؛ وإلا فقد علموا أنه أعقلهم . والمعنى : أنهم جننوه لأجل القرآن { وماهو إلا ذكر } وموعظة { للعالمين } فكيف يجنن من جاء بمثله .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم "
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
{ الحاقة } الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء ، التي هي آتية لا ريب فيها . أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب . أو التي تحق فيها الأمور ، أي : تعرف على الحقيقة ، من قولك لا أحق هذا ، أي : لا أعرف حقيقته . جعل الفعل لها وهو لأهلها وارتفاعها على الابتداء وخبرها { مَا الحآقة ( 2 ) } والأصل : الحاقة ما هي ، أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أهول لها { وَمَآ أَدْرَاكَ } وأيّ شيء أعلمك ما الحاقة ، يعني : أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، عى أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه ، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك ، و ( ما ) في موضع الرفع على الابتداء . و { أَدْرَاكَ } معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام . ( القارعة ) التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والإنفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار . ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع . في الحاقة : زيادة في وصف شدتها؛ ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم { بالطاغية } بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة . واختلف فيها ، فقيل : الرجفة . وعن ابن عباس : الصاعقة . وعن قتادة : بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم . وقيل : الطاغية مصدر كالعافية ، أي : بطغيانهم؛ وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } والصرصر : الشديدة الصوت لها صرصرة . وقيل : الباردة من الصر ، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر : فهي تحرق لشدة بردها { عَاتِيَةٍ } شديدة العصف والعتو استعارة . أو عتت على عاد ، فما قدروا على ردّها بحيلة ، من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء في حفرة؛ فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم . وقيل : عتت على خزانها ، فخرجت بلا كيل ولا وزن : وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1222 ) « ما أرسل الله سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح ، فإنّ الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه السبيل » ، ثم قرأ : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حملناكم فِى الجارية } [ الحاقة : 11 ] « وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل » ثم قرأ { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها . الحسوم : لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود . أو مصدراً كالشكور والكفور؛ فإن كان جمعاً فمعنى قوله : { حُسُوماً } نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة . أو متتابعة هبوب الرياح : ماخفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء ، مرة بعد أخرى حتى ينحسم .==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق