ج3. تفسير الشعراوي
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
الأهلة
جمع هلال، وسمى هلالاً لأن الإنسان ساعة يراه يهل، أي يرفع صوته بالتهليل، ويجيب
الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر، وهو الكوكب الذي خضع
لنشاطات العقل حتى يكتشفه، والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئاً عن ذلك القمر،
ولكنهم كانوا يؤرخون به، وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به. ولم يصلوا إلى
الترف العقلي الذي يتأملون به آيات الله في الكون، فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم
ينشط العقل بعد ذلك، فنعرف السبب، وقد لا ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة.
وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام، وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من الآيات
الكونية مثل القمر، لا يكفي ظهوره واختفاؤه، وتغير حجمه، لأن هذه لن يتسع لها
العقل، بل نستفيد منه كميقات، ونستخدمه لقياس الزمن. فإذا كنا ونحن نعيش في القرن
العشرين، لم يعرف العلماء سبباً لظواهر القمر، فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ
أربعة عشر قرناً؟
قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلاً: إن الشمس مثل حجم الأرض مليونا وربع
مليون مرة، والقمر أصغر من الأرض، وعندما تأتي الأرض بين الشمس والقمر برغم حجم
الشمس الهائل فإن الأرض تحجب جزءاً من القمر، هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس
المحجوب من الأرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلماً.
إن القمر وجوده ثابت لكن الأرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء
الشمس، ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الأرض بعيداً عنه. وعندما تنزاح الأرض بعيداً
عنه كلية يظهر في السماء بدراً كاملاً، ثم تعود الأرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءاً من
الشمس، ويزداد ذلك يوماً بعد يوم، فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعاً لذلك، فيقل
تدريجياً حتى تأتي الأرض بينه وبين الشمس فلا يظهر منه شيء.
ونقول نحن: إننا عندما لا نرى القمر لا في الليل ولا في النهار برغم أنه موجود في
مكانه، نقول: إنه مستور في ظل الأرض، لذلك لا نراه. وهذه الظاهرة لا تحدث للشمس
لأن جرم الشمس كبير جداً. وعندما يحدث فإن الأثر يكون قليلا، ويسمى بالكسوف.
وعندما التفت العرب للكون قالوا: ما بال الهلال يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدراً،
فقال الحق عز وجل: { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } إنهم هم يسألون
عن الأهلة ودورتها، فقطع الله عليهم خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلاصة والنتيجة، فقال:
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }. إن هذا الأمر هو الذي يستطيع
العقل في ذلك الزمان أن يعرفه، أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن عنه،
وجهلكم به لا يقلل من نفعكم.
لقد كانت كل إجابة لأي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لإدراكه ساعة
التشريع، أما بقية الإجابة فالحق يتركها للزمن.
ولا يعطينا إلا ما يفيد التشريع، مثال ذلك: كانوا قديما يقولون: الأرض كرة وأثبت
لنا العلم أنها كذلك، ورأيناها بالأقمار الصناعية وانتهت القضية.
وعندما سأل العرب عن الأهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت، والمواقيت جمع ميقات،
والميقات من الوقت، والوقت هو الزمن، ونعرف أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمن
وإلى مكان. إذن فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فلا يوجد زمان ولا مكان إلا إذا
وجد حدث.
والذي يقول: كيف كان الزمن قبل أن يخلق الله الخلق؟. نقول له: الزمن وُجد للحادث
وهو المخلوقات والله قديم، وما دام الله قديما وليس حادثا فلا زمان ولا مكان، لا
تقل متى ولا أين؛ لأن متى وأين مخلوقة. وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه
مقدار من الزمن، لمقدار من الحركة ولمقدار من الفعل.
وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحياناً في المكان، فيقول الزمان هو
الأصل، والمكان طارئ عليه، ومرة أخرى يكون المكان هو الأصل، والزمان هو الطارئ
عليه، ومرة ثالثة يتلازم الاثنان الزمان والمكان.
ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الإحرام عند رابغ، ونُسمي رابغ ميقات أهل
مصر أي هي المكان الذي لا يتجاوزه من مر عليه إلا وهو محرم.
إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ، ومن فور وصول الإنسان المصري إلى رابغ
بغية الحج يحرم، سواء كان الوقت صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً.
ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الأصل في صومك في أي مكان تذهب إليه،
إن الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم: في طنطا أو لندن أو في طوكيو، وهكذا نعرف
كيف يكون الزمن ميقاتاً.
إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه، ومرة يكون المكان
هو الذي يتحكم في الميقات، والزمن طارئ عليه، ومرة يتحكم الزمان والمكان معاً في
الفعل مثل يوم عرفة.
وهكذا نعرف معنى } مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ { ، فنحن بالهلال نعرف بدء شهر رمضان،
ونعرف به عيد الفطر، وكذلك موسم الحج وعدة المرأة، والأشهر الحرم، إن كل هذه
الأمور إنما نعرفها بالمواقيت. وشاء الحق أن يجعل الهلال هو أسلوب تعريفنا تلك
الأمور وجعل الشمس لتدلنا على اليوم فقط، وإن كان لها عمل آخر في البروج التي
يتعلق بها حالة الطقس والجو، والزراعة، ولذلك قال:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً }[يونس: 5]
وانظر إلى الدقة في الأداء وكيف يشرح الحق للإنسان ماهية النور، وماهية الضوء. إن
الشمس مضيئة بذاتها، أما القمر فهو منير؛ لأن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر
اللامعة التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نوراً.
إن القمر منير بضوء غيره، ولذلك يقول الحق في آية أخرى:{ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً
وَقَمَراً مُّنِيراً }[الفرقان: 61]
والسراج في هذه الآية هو الشمس التي فيها حرارة، وجعلها الحق ذات بروج، أما القمر
فله منازل وهو منير بضوء غيره؛ وفي ذلك يقول الحق:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ }[يونس: 5]
إذن، فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر، وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا
المعايير الزمنية فهم يقيمونها بحساب القمر؛ فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أضبط من
الحساب بالشمس؛ فالحساب بالشمس يختل يوماً كل عدد من السنين.
ولنفهم الفرق بين منازل القمر وبروج الشمس. إن البروج هي أسماء من اللغة
السريانية، وهو: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والعذراء، والأسد،
والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وعددها اثنا عشر برجا هذه هي
أبراج الشمس، ويتعلق بها مواعيد الزرع والطقس والجو، ويحب أن نفهم أن لله في
البروج أسراراً، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعلها قسماً حين يقول: }
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ {.
ولذلك تجد أن التوقيت في الشمس لا يختلف؛ فالشهور التي تأتي في البرد، والتي تأتي
في الحر هي هي، وكذلك التي تأتي في الخريف، والربيع، وبين السنة الشمسية والسنة
القمرية أحد عشر يوما، والسنة القمرية هي التي تستخدم في التحديد التاريخي للشهور
العربية ونعرف بداية كل شهر بالهلال:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْراً }[التوبة: 36]
ولذلك كانت تكاليف العبادة محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج
الشمسية، فيأتي التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة، فلا تصوم رمضان في صيف
دائم، ولا في شتاء دائم، ولكن يُقَلِّبُ الله مواعيد العبادات على سائر أيام
السنة، والذين يعيشون في المناطق الباردة مثلاً لو كان الحج ثابتا في موسم الصيف
لما استطاعوا أن يؤدوا الفريضة، ولكن يدور موسم الحج في سائر الشهور فعندما يأتي
الحج في الشتاء ييسر لهم مهمة أداء الفريضة في مناخ قريب من مناخ بلادهم.
وهكذا نجد أن حكمة الله اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى
يستطيع كل الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بلا مشقة. إذن فالمنازل
شائعة في البروج، وهذا سبب قول بعض العلماء: إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي
السنة، وذلك حسب سياحة المنازل في البروج.
إذن فهناك بروج للشمس، ومنازل للقمر، ومواقع للنجوم، ومواقع النجوم التي يقسم بها
الله سبحانه في قوله:{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }[الواقعة: 75-76]
ولعل وقتا يأتي يكشف الله فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك
عندما تتهيأ النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه.
إذن كل شيء في الكون له نظام: للشمس بروج، وللقمر منازل، وللنجوم مواقع. وكل أسرار
الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت
للناس والحج. وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به؛ فقد
كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس، هؤلاء الحمس كانوا متشددين في دينهم
ومتحمسين له، ومنهم كانت قريش، وكنانة، وخثعم، وجشم، وبنو صعصاع بن عامر. وكان إذا
حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج.
ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته، لذلك كان يدخل من ظهر البيت، وكان ذلك تشدداً
منهم، لم يرد الله أن يُشرَعه. حتى لا يطلع على شيء يكرهه في زوجه أو أهله. وأراد
سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي المناسك من هذه العادة المألوفة
عند العرب فقال: } وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا
وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىا وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { أي لا تجعلوا المسائل شكلية، فنحن
نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع.
والملاحظ أن كلمة " البر " في هذه الآية جاءت مرفوعة، لأن موقعها من
الإعراب هو " اسم ليس " وهي تختلف عن كلمة " البر " التي جاءت
من قبل في قوله تعالى: } لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب { التي جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو "
خبر مقدم لليس ". حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف في الرفع والنصب
على القرآن الكريم. ونقول لهم: أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية، فماذا
نفعل لكم؟. يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول: " زيد مجتهد " ، هذا إذا كنا
نعلم زيداً ونجهل صفته، فجعلنا زيداً مبتدأ، ومجتهداً خبراً. لكن إذا كنا نعرف
إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو؛ فإننا نقول: " المجتهد زيد ".
إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف
فتلحق الاسم بالوصف. وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة " البر " في
كل من الآيتين. ونقول للمستشرقين: إن لكل كلمة في القرآن ترتيباً ومعنى، فلا
تتناولوا القرآن بالجهل، ثم تثيروا الإشكالات التي لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها
تكشف جهلكم.
ثم ما هو " البر "؟ قلنا: إن البر هو الشيء الحسن النافع. ولو ترك الله
لنا تحديد " البر " لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف
عقولنا؛ فأنت ترى هذا " حسناً "؛ وذاك يرى شيئا آخر، وثالث يرى عكس ما
تراه، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن
النافع، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع،
ولذلك يقول الحق: } وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىا وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا {.
إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها، فاذهب إلى الغاية من الطريق
الذي يوصل إليها. ويتبع الحق قوله عن البر: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ {. لا تزال كلمة التقوى هي الشائعة في هذه السورة، وكل حكم يعقبه
السبب من تشريعه وهو التقوى.
ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلات الحياة، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله.
وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات، أما من يعرض عن تقوى الله فإن
الحق يقول عن مصيره:{ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً }[طه: 124]
ولا يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات
والمخاطر التي تنشأ من مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة منهج الله.
وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه
المخالفة كما ارتكبها في غيره، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب
المخالفات في غيره.
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى، وهذه القضية الأخرى هي التي تميز الأمة
الإسلامية بخصوصية فريدة؛ لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم
تظفر به أمة من قبل، وهذه الخصوصية هي أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب
الخارجين على منهج الله؛ فقديماً كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلاء الخارجين عن
المنهج. كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم،
إما بصاعقة، وإما بعذاب، وإما بفيضان، وإما بأي وسيلة. ولم يكن الرسل مكلفين بحمل
وقسر الناس على المنهج. وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا، لم يكن قتالهم من
أجل الدين مصداقاً للآية الكريمة:{ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }[البقرة: 246]
علة القتال ـ إذن ـ أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولادهم، فهم عندما
سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة، وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم
وأولادهم.
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي التي أمنها الله على أن يكون في يدها
الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط، وإنما هو ميزان يحمي كرامة الإنسان بأن
يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله، فلا إكراه في الإيمان بالله. وقد شرع
الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا، ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين
الذي ترتضيه. وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أن تكون حراً مختاراً في
أن تقبل التكليف.
ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم: إن
حججهم ساقطة واهية، وكذلك قولهم: إن الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية
الأموال، نقول لهؤلاء: جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن، ومادام قد فُرضت عليه
جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن يكون غير مؤمن، لو كان الإسلام يُكره الناس على
اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية.
إذن فالإسلام لم يُكرهه، وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يُكرهه أحد
على ترك دينه، وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو لا يسلم. وكأن الذين ينتقدون الإسلام
يدافعون عنه؛ فسهامهم قد ارتدت إليهم.
وهنا تساؤل قد يثور: إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول: إن حروب
الإسلام كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم، وجاء الإسلام ليقول
لهؤلاء: ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحراراً في أن يختاروا الدين المناسب.
ولماذا تركهم الإسلام أحراراً؟ لأنه واثق أن الإنسان مادام على حريته في أن يختار
فلا يمكن أن يجد إلا الحق واضحاً في الإسلام. ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون
قوله تعالى:{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.. }[البقرة: 256]
لا يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله ـ سبحانه ـ من الآية نفسها } قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ {. إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم
الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع
أن تُكره القالب، لكن لا تستطيع أن تُكره القلب. ونحن نريد أن ينبع الإيمان من
القلب، ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ
مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3-4]
إن الله لا يريد أعناقاً، لو كان يريد أعناقاً لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره ـ
سبحانه ـ من يُريد الله أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره. إن الحق يريد
إيمان قلوب لا رضوخ قوالب. فالذي يجبر الآخرين على الإيمان بالكرباج لن يتبعه أحد،
وهو نفسه غير مؤمن بما يفرضه على الناس. ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس
بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلاح
حياتهم.
ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط
تباعاً، فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك
الأفكار. والقرآن هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال،
الأمر الذي اختص به الحق أمة الإسلام. وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلال فترة
الدعوة المكية التي استمرت ثلاثة عشر عاماً، ثم أذن به بعد الهجرة إلى المدينة.
وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لأن الحق أراد أولاً أن يلتفت المسلمون
إلى اتباع المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة، ويروا فيهم أسوة حسنة، لذلك قال الحق:{
فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىا يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }[البقرة: 109]
وقال سبحانه أيضاً:{ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ
أَذَاهُمْ }[الأحزاب: 48]
لماذا كل هذا التدرج؟ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للإسلام ستدخل البيوت
العربية، فسيضم البيت الواحد كافراً بالله ومؤمناً بالله، ولو أنه سبحانه وتعالى
شرع القتال من البداية لصار في كل بيت معركة.
ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛
وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت
اشتعلت الحرب أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة والغضب:قـوم إذا الشـر
أبـدى ـ ناجـذيـه لـهـم ـ طـاروا إلـيـه زرافـات ووحـدانـاوالثاني يقول:لا يسـألـون
أخـاهـم حـين يندبهـم في النـائبـات عـلى مـا قـال بـرهـاناأي أنهم لا يسألون
أخاهم: " لماذا نحارب؟ " ، وإنما يحاربون بلا سبب ولأي سبب، فالحمية
الرعناء تدفعهم للقتال بلا سبب. وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق، فعندما يرون
شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة، ويأخذون على يد الظالم، وأراد الحق سبحانه
وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف من المسلمين مستضعفين، وقد عزلهم بعض
من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة
وقالوا: " كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم وبنو المطلب
محصورون في الشعب لا يأكلون ولا يشربون ولا يتبايعون ".
لقد كانوا كفاراً، وبرغم ذلك وقفوا موقفاً عظيماً وقالوا: هاتوا الصحيفة التي
تعاهدنا فيها على أن نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك. وكانوا
خمسة من سادات مكة هم: هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية، وأبو البحتري بن هاشم،
وزمعة ابن الأسود، والمطعم بن عدي. وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين.
هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق.
ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمراً سهلاً، لذلك
أخذهم برفق الهَوَادة. والذين يقولون: لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول
وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد الكفر في مكة؟
نقول لهم: إن كثيراً من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة الإسلامية هم
الذين نشروا راية الإسلام من بعد ذلك، ومثال ذلك خالد بن الوليد، الذي كان قائداً
مغواراً في صفوف المشركين، وقاتل المسلمين في أول حياته، ثم هداه الله للإسلام
وأصبح سيف الله المسلول، ماذا لو قتل هذا القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل
هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته، تلك الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات
الإسلامية في الشام والعراق.
إذن شاءت حكمة الله أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للإسلام في بدء الدعوة لأن الله
قد أعد لهم دوراً يخدمون به الإسلام. والذين نالوا من الإسلام أولا هم الذين ستبقى
عندهم الحرارة حتى يعملوا عملاً يغفر الله لهم به ما قد سبق.
انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة، ثم أسلم
وأبلى بلاء حسناً، ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر
إلى قائده خالد بن الوليد وقال: أهذه ميتة تُرضى عني رسول الله؟. كأنه كان يعلم أن
رسول الله كان قد غضب عليه قبل أن يسلم.
وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لولاه ما فُتحت مصر. فقد كسب بدهائه أهل مصر
فامتنعوا عن قتاله، وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين، وأبان لهم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موصياتهم " استوصوا بالقبطيين خير لأن لهم
رحما وذمة " وفوق هذا فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض العرب
يستقرهم إلى الإسلام.
إذن فمن رحمة الله أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من
قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية فيما بعد، وكل إنسان
استقاه الإسلام وهو خصم وعدو للإسلام، قدر الله له بعد الإسلام دورا يخدم به الدين
الخاتم.
ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في الإسلام، لأن الله أراد أن يمحص ويختبر،
وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعب هذا الدين، ومشاقه لأنه سيكون مأموناً على
مجد أمة، وعلى منهج سماء، وتلك أمور لا يصلح لها أي واحد من الناس.
وقد كان من الممكن أن ينصر الله دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين، وكان معنى
ذلك أن الناس سيتساوون في الإيمان أولهم وآخرهم، ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى
أن يجعل لهذا الدين رجالاً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى
مصاف النبيين. لذلك جاء الأمر بالقتال متأخراً وبالتدريج؛ لقد جاء الأمر بالقتال
في أول مرحلة بقول الله تعالى: } وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ... {
(/193)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتاق هو وصحابته إلى البيت
الحرام، وأرادوا أن يعتمروا، فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة.
وأرادوا أن يؤدوا العمرة. فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية، ووقفت أمامهم
قريش وقالت: لا يمكن أن يدخل محمدٌ وأصحابه مكة.
وقامت مفاوضات بين الطرفين، ورضي رسول الله بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي
في العام القادم، وتُخلى لهم مكة ثلاثة أيام في شهر ذي القعدة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين
ومقصرين، وشاع ذلك الخبر، وفرح به المسلمون وسعدوا، ثم فوجئوا بمفاوضات رسول الله
ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو متراً من مكة وحزن الصحابة. حتى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه غضب وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست رسول الله؟ ألست على الحق؟ فرد
عليه سيدنا أبو بكر قائلا: الزم غرزك يا عمر إنه لرسول الله.
وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وهو موقف يعبر
عن الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة. فحينما دخل عليها رسول الله وقال لها:
هلك المسلمون يا أم سلمة، أمرتهم فلم يمتثلوا.
فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموماً، هنا تتجلى وظيفتها في
السكن، قالت أم سلمة: اعذرهم يا رسول الله؛ إنهم مكروبون. كانت نفوسهم مشتاقة لأن
يدخلوا بيت الله الحرام محلقين ومقصرين، ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها،
اعمد إلى ما أمرك الله فافعله ولا تُكلم أحداً، فإن رأوك فعلت، علموا أن ذلك
عزيمة.
وأخذ رسول الله بنصيحة أم سلمة، وصنع ما أمره به الله، وتبعه كل المسلمين، وانتهت
المسألة. وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ الله أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف
حتى لا يظل الشرخ في نفوس المؤمنين، وتلك عملية نفسية شاقة، لذلك لم يُطل الله
عليهم السبب، وجاء بالعلة قائلا لهم: ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم
لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم مندسون بين الكفار، فلو أنكم
دخلتم، وقاتلوكم، ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين، فتقتلون إخوانا لكم، فلو كان
هؤلاء الإخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لأذنت لكم بقتال المشركين؛ كما
تريدون. واقرأ قول الله تعالى:{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ
رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي
رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ
مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }[الفتح: 25]
بعد نزول الآية عرف المسلمون أن الامتناع كان لعلة ولحكمة، فلما جاءوا في العام
التالي قال الله لهم:{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }[البقرة:194]
وكان الحق يطمئنهم، فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون
في ذي القعدة من العام القادم. وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض
قريش العهد وتقاتلهم، ونزل قول الحق:
} وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ { [البقرة: 190]
وعندما نتأمل قوله تعالى: } وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { فإننا نجد أن الحق
سبحانه يؤكد على كلمة } فِي سَبِيلِ اللَّهِ { لأنه يريد أن يضع حداً لجبروت
البشر، ولابد أن تكون نية القتال في سبيل الله لا أن يكون القتال بنية الاستعلاء
والجبروت والطغيان فلا قتال من أجل الحياة، أو المال أو لضمان سوق اقتصادي، وإنما
القتال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دين الله، هذا هو غرض القتال في الإسلام.
} وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ { والحق ينهى عن الاعتداء، أي لا يقاتل
مسلم من لم يقاتله ولا يعتدي.
وهب أن قريشا هي التي قاتلت، ولكن أناساً كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا
المسلمين مع أنهم في جانب من قاتل، لذلك لا يجوز قتالهم، نعم على قدر الفعل يكون
رد الفعل. ماذا؟ لأن في قتال النساء والعجزة اعتداء، وهو سبحانه لا يحب المعتدين.
لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد العدوان، ولا بداية عدوان.
ويقول الحق من بعد ذلك: } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ
مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ... {
(/194)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
ونحن نسمع كلمة " ثقافة " ، وكلمة " ثقاف " ، والثقافة هي يسر
التعلم، أو أن تلم بطرف من الأشياء المتعددة، وبذلك يصبح فلان مثقفاً أي لديه كمٌّ
من المعلومات، ويعرف بعض الشيء عن كل شيء، ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف
كل شيء عن شيء واحد.
كل هذه المعاني مأخوذة من الأمور المحسة، والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن، فقد
كان العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحاً وعصياً، والغصن قد يكون معوجاً أو
به نتوء، فكان العربي يثقفه، أي يزيل زوائده واعوجاجه، ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة
من الحديد المعقوف ليقوِّم بها المعوج من الأغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد
البناء.
كأن المُثَقِّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون؛ فهو يعرف هذه وتلك، وأصبح ذا
تقويم سليم. وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا. وقوله:
{ ثَقِفْتُمُوهُم } أي " وجدتموهم " ، فثقف الشيء أي وجده.
والحق يقول:{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم }[الأنفال:
57]
أي شردهم حيث تجدهم. ويقول الحق: { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } أي لا
تقولوا إنهم أخرجوكم من هنا، وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم، أي من أي مكان أنتم
فيه، وعن ذلك لن تكونوا معتدين. وقوله تعالى: { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ } يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى منها قوله تعالى:{ وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }[النحل: 126]
وقوله تعالى:{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40]
وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }
" قد يرد هذا الخاطر " أخذت حقي ممن أساء إلي، وانتقمت منه بعمل يماثل
العمل الذي فعله معي، هل يقال: إنني فعلت سيئة؟
وحتى نفهم المسألة نقول: الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الأحايين بلفظ "
المشاكلة " وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته، ومثل ذلك قوله: {
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } ، إن الله لا يمكر، وإنما اللفظ جاء للمشاكلة، أو
أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة { سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } لينبهك إلى
أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن المسيء،
يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الآية بقوله: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وبمثل ذلك كان ختام الآية
السابقة { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }.
ويقول الحق: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } ، والفتنة مأخوذة من الأمر
الحسي، فصائغ الذهب يأخذ قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر، فإذا ما كان يشوبها
معدن غريب عن الذهب فهو يخرج ويبقى الذهب خالصا، فكأن الفتنة ابتلاء واختبار، وقد
فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل، فقد حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم
بالتعذيب، فخرج المؤمنون فراراً بدينهم.
والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام، فلا
ينتهكوها بالقتال إلا إذا قاتلهم أهل الشرك.
وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن
يسقط من أيدي خصوم الإسلام ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين، فهم يعلمون أن
المؤمنين بالإسلام سيحترمون الأشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الإحرام
فلا يقاتلون؛ وربما أغرى ذلك خصوم الإسلام ألا يقاتلوا المسلمين إلا في الأشهر
الحرم، ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون أن يقاتلوهم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن
يشرع لهم ما يناسب مثل هذا الأمر فأذن لهم في القتال، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام
فقاتلوهم في الشهر الحرام، وإن قاتلوكم في المكان الحرام فقاتلوهم في المكان
الحرام، وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم؛ لأن الحرمات قصاص.
إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين. إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن
كان القتال في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الإحرام صعباً وشديداً
فالفتنة في دين الله أشد من القتل، لأن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس
دينهم، صحيح أنها لا تعوق الناس عن أن يتدينوا، ولكنها تفتن الذين تدينوا، وقد
حاولوا إجبار المسلمين الأوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين، وكان ذلك أشد من
القتل لأنها فتنة في الدين.
إن الله هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين الله ويُحملون على
الشرك به ثم تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراماً
إلا لأن الله هو الذي حرمه، فالفتنة في الله شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر
الحرام، ولذلك فلا داعي أن يتحرج أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في
دينه. وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعاً.
وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعاً كما يريد خصوم الإسلام أن يجعلوه دفاعاً عَمّن آمن
فقط؟ أو كما يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام أنه دين قتال ويقولون: لا،
الإسلام إنما جاء بقتال الدفاع فقط. نقول لهؤلاء: قتال الدفاع عَمَّن؟ هل دفاع
عَمَّن آمن فقط؟ أم عن مطلق إنسان نريد أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه؟
هو دفاع أيضاً، وسنسميه دفاعاً، ولكنه دفاع عَمَّن آمن، ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه،
وأيضاً عَمَّن لم يؤمن ندفع عنه من يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره، لا
لنحمله على الدين، ولكن لنجعله حراً في الاختيار؛ فالقوى التي تفرض على الناس
ديناً نزيحها من الطريق، ونعلن دعوة الإسلام، فمَنْ وقف أمام هذه الدعوة نحاربه؛
لأنه يفسد على الناس اختيار دينهم، وفي هذا أيضاً دفاع.
} وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىا يُقَاتِلُوكُمْ
فِيهِ { لأنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم الله للمسجد الحرام، لكن إذا هم
اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها المسلمون أن
تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه. } فَإِن قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {. وما أسمى هذا الدين.
إننا لا نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى الإيمان بما قدمت أيديهم من الاجتراء على أهل
الإيمان ما داموا قد آمنوا، ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن
الخطاب: وأشار رجل وقال: هذا قاتل زيد. فقال عمر: وماذا أصنع به وقد أسلم؟ لقد عصم
الإسلام دمه.
لقد انتهت المسألة بإسلامه، فالإيمان بالله أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه وحين
يؤمن فقد انتهت الخصومة. وهذا وحشي قاتل حمزة، يقابله رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكل ما يصنعه رسول الله هو أن يزوي وجهه عنه، لكنه لا يقتله ولا يثأر منه.
وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت كبد حمزة، أسلمت وانتهت فعلتها بإسلامها. إذن،
فالإسلام ليس دين حقد ولا ثأر ولا تصفية حسابات، فإذا كان الدم يغلي في مواجهة
الكفر، فإن إيمان الكافر بالإسلام يعطيه السلامة، هذا هو الدين.
(/195)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
أي ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بالله وَزُجِروا بالدين
الآمر فانزجروا عن الكفر، بعدها لا شيء لنا عندهم؛ لأن الله غفور رحيم، فلا يصح أن
يشيع في نفوسنا الحقد على ما فعلوه بنا قديما، بل نحتسب ذلك عند الله، وما داموا
قد آمنوا فذلك يكفينا. والحق سبحانه وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه
قال: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىا لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ...
}
(/196)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
وعرفنا أن الفتنة ابتلاء واختبار والحق يقول:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ
أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2]
إن الحق يختبر الإيمان بالفتنة، ويرى الذين يُعلنون الإيمان هل يصبرون على ما فيه
من ابتلاءآت أم لا؟ فلو كان دخول الإسلام لا يترتب عليه دخول في حرب أو قتال ولا
يترتب عليه استشهاد بعض المؤمنين لكان الأمر مغريا لكثير من الناس بالدخول في
الإسلام، لكن الله جعل لهم الفتنة في أن يُهزَموا ويُقتل منهم عدد من الشهداء،
وذلك حتى لا يدخل الدين إلا الصفوة التي تحمل كرامة الدعوة، وتتولى حماية الأرض من
الفساد، فلا بد أن يكون المؤمنون هم خلاصة الناس.
لذلك قال سبحانه: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىا لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }. معنى أن يكون
الدين لله، أي تخرجوهم من ديانة أنفسهم أو من الديانات التي فرضها الطغيان عليهم،
وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان، ومن الديانات التي زينها الناس إلى ديانات
الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم، وتلك مهمة سامية. كأنك بهذه المهمة السامية
تريد أن ترشد العقل الإنساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ لمساو له؛ إلى أن يدين
لمن خلقه. وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا الصواب. ولذلك يُجلى
الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسول:{ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىا رَبِّهِ سَبِيلاً
}[الفرقان: 57]
فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار الاقتصاد لوجب أن يكون له
أجر، لأنه يقدم المنفعة لنا، وبرغم ما قدمه من منفعة فهو لا يأخذ أجراً؛ لأنه زاهد
في الأجر؛ فإنه يعلم أن الأجر من المساوي له قليل مهما عظم وهو يريد الأجر ممن
خلقه، وهذا طمع في الأعلى؛ لأنه لا يعطي الأجر على الإيمان إلا الله سبحانه
وتعالى، وهو الذي يعطي بلا حدود.
ويختتم الحق هذه الآية الكريمة بقوله: { فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ
عَلَى الظَّالِمِينَ } أي أنهم إذا انتهوا إلى عدم قتالكم، فأنتم لن تعتدوا عليهم،
بل ستردون عدوان الظالم منهم. والظالم حين يعتدي يظن أنه لن يقدر عليه أحد، والحق
يطلب منا أن نقول له: بل نقدر عليك، ونعتدي عليك بمثل ما اعتديت علينا. ويعطينا
الحق حيثية ذلك فيقول: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ... }
(/197)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
والمقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، فإذا
ما اعتدوا على حرمة زمان فالقصاص يكون في زمان مثله، وإن اعتدوا في حرمة مكان يكن
القصاص بحرمة مكان مثله، وإذا كان الاعتداء بحرمة إحرام، يكون الرد بحرمة إحرام
مثله؛ لأن القصاص هو أن تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يخفف وقع الأمر على المؤمنين الذين رُدوا عام
الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة، فاقتص الله
منهم بأن أعادهم في ذي القعدة في العام القابل في السنة السابعة من الهجرة، فإن
كانوا قد مُنعوا في الشهر الحرام فقد أراد الله أن يعودوا لزيارة البيت في الشهر
الحرام في الزمان نفسه.
وقوله الحق: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } يقتضي منا أن نسأل: كيف يكون ذلك؟ وما هو
الشيء الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه، والشيء الحلال هو المُطلق
والمأذون فيه. فهل يعني ذلك أن الذي يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟
هل إذا زنى رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزنى فيك؟ لا. إن القصاص في الحرمات لا
يكون إلا في المأذون به وكذلك إذا سرق مني إنسان مالاً وليس لدي بينة، لكني مقتنع
بأنه هو الذي سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ لا، إن القصاص إنما يكون في الأمر
المعروف الواضح، أما الأمر المختفي فلا يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل.
لكن هب أن أحد الأقارب ممَّنْ تجب نفقتهم عليك وامتنعت أنت عن النفقة على هذا
الإنسان، وهذا أمر محرم عليك، وما دام الأمر علنياً فله أن يأخذ من مالك فيأكل
وتكون المسألة قصاصاً. وهب أن زوجتك تشتكي من بخلك وتقصيرك، كما " اشتكت هند
زوجة أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بخل زوجها فقال لها: خذي من ماله
بالمعروف ما يكفيك وولدك ".
ومثال آخر، هب أن ضيفا بمنزلك ورفضت أن تكرمه، وانتهز فرصة بعدك عن المكان الذي
يجلس فيه ثم تناول شيئا وأكله. لا يكون تعديا عليك ما لم يكن داخلا في محرم آخر،
وبعد ذلك يترك الحق لولي الأمر تنظيم هذه الأمور حتى لا تصير المسائل إلى الفوضى.
وقوله الحق: { فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ } يدعونا إلى اليقظة حتى لا يخدعنا أحد ويدعي الإيمان وهو
يريد الانتقام. ويجب أن نتمثل قول الشاعر:إن عـادت العقـرب عـدنا لهـا وكـانـت
النـعـل لهـا حـاضرةويختم الحق الآية الكريمة بقوله: { وَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي لا تظنوا أن الله ملّكَكُم
فيهم شيئاً، بل أنتم وهم مملوكون جميعاً لله. ويقول الحق من بعد ذلك: {
وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ... }
(/198)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وهذه الآية جاءت بعد آيات القتال، ومعناها: أعدوا أنفسكم للقتال في سبيل الله.
وقوله الحق: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } تقتضي منا أن
نعرف أن كلمة " تهلكة " على وزن تَفْعُله ولا نظير لها في اللغة العربية
إلا هذا اللفظ، لا يوجد على وزن تَفْعُله في اللغة العربية سوى كلمة "
تهْلُكة " ، والتهلكة هي الهلاك، والهلاك هو خروج الشيء عن حال إصلاحه بحيث
لا يُدرى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج روحه. والحق يقول:{
لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ
}[الأنفال: 42]
فالهلاك ضد الحياة، وعلى الإنسان أن يعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة التي
نراها، إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها، وحياة النبات لها
قانونها، وحياة الجماد لها قانونها، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل " يهلك
" أمام " يحيى " وهو سبحانه القائل:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ }[القصص: 88]
فلسنا نحن فقط الذين يهلكون، ولا الحيوانات، ولا النباتات وإنما كل شيء بما فيه
الجماد، كأن الجماد يهلك مثلنا، وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا،
وإنما حياة بقانونه هو، فكل شيء مخلوق لمهمة يؤديها، فهذه هي حياته.
وقوله الحق: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } يكشف لنا
بعضاً من روائع الأداء البياني في القرآن؛ ففي الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل
الشيء، وهذا أمر لا نجده في أساليب البشر؛ فالحق في هذه الآية يقول لنا: {
وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي أنفقوا في الجهاد، كما يقول بعدها: {
وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } لماذا؟ لأن الإنفاق هو إخراج
المال إلى الغير الذي يؤدي لك مهمة تفيد في الإعداد لسبيل الله، كصناعة الأسلحة أو
الإمدادات التموينية، أو تجهيز مبانٍ وحصون، هذه أوجه أنفاق المال. والحق يقول: {
وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }. وكلمة " ألقى "
تفيد أن هناك شيئا عالياً وشيئاً أسفل منه، فكأن الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى
التهلكة، وهل سيلقي الواحد منا نفسه إلى التهلكة، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين
عدوه؟ لا، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى
التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه، وما دام العدو قد اجترأ على
المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا. إذن فالاستعداد
للحرب أنفى للحرب، وعندما يراك العدو قوياً فهو يهابك ويتراجع عن قتالك.
والحق سبحانه ـ كما يريد منا في تشريع القتال أن نقاتل ـ يأمرنا أن نزن أمر القتال
وزناً دقيقاً بحسم، فلا تأخذنا الأريحية الاكذبة ولا الحمية الرعناء، فيكون
المعنى: ولا تقبلوا على القتال إلا إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون، فحزم الإقدام
قد يطلب منك أن تقيس الأمور بدقة، فالشجاعة قد تقتضي منك أن تحجم وتمتنع عن القتال
في بعض الأحيان، لتنتصر من بعد ذلك ساعة يكمل الإعداد له.
والمعنى الأول يجعلك تنفق في سبيل الله ولا تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال.
والمعنى الثاني أي لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بلا داع أو
بلا إعداد كافٍ. إن الحق يريد من المؤمنين أن يزنوا المسائل وزناً يجعلهم لا
يتركون الجهاد فيهلكوا؛ لأن خصمهم سيجترئ عليهم، ولا يحببهم في أن يلقوا بأيديهم
إلى القتال لمجرد الرغبة في القتال دون الاستعداد له. وهذا هو الحزم الإيماني،
إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: } وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ { الحق يقول: } وَأَحْسِنُواْ {. والإحسان كما علمنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أن تعبد الله ـ أي تطيع أوامره ـ كأنك تراه، فإن لم تكن
تراه فإنه يراك ".
مشكلة الناس هذه الأيام أنهم يتشبهون بـ " فإنه يراك " ، فعملوا الدوائر
التليفزيونية المغلقة في المحلات الكبرى حتى تتم مراقبة سير العمل في أرجاء المحل،
هذه فعل البشر. لكن انظر إلى تسامي الإيمان، إنه يأمرك أنت أن ترى الله، فلا تؤد
العمل أداء شكلياً يرفع عنك العتب، بل عليك أن تؤدي العمل بقصد الإحسان في العمل.
والإحسان في كل شيء هو إتقانه إتقاناً بحيث يصنع الإنسان لغيره ما يحب أن يصنعه
غيره له، ولو تعامل الناس على هذا الأساس لامتازت كل الصناعات، لكن إذا ساد الغش
فأنت تغش غيرك، وغيرك يغشك، وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى، وعلينا إذن أن نحسن في كل
شيء: مثلا نحسن في الإنفاق، ولن نحسن في الإنفاق إلا إذا أحسنا في الكدح الذي يأتي
بثمرة ما ننفق؛ لأن الكدح ثمرته مال، ولا إنفاق إلا بمال، فتخرج من عائد كدحك
لتصرفه في المناسب من الأمور.
ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط، فالأمر هنا عام، ولا تعتقد أنه أمر في
زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم جزئية من جزئيات الحياة، إنما كل زاوية من زوايا
الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن
الإنسان الحركة في الأرض، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي من يعول، ثم يفيض لديه ما يحسن
به.
إذا لم يتوافر المال، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك، والجاه قد قومه الإسلام
أي جعل له قيمة، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على
حقوقهم، وعلى الوجيه أيضا أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي،
وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها.
والوجاهة تعني أن يكون للإنسان احترام أو وزن أو تقدير، وهذه الأشياء لها مسبقات
في إحسان الشخص، لا يأخذها بلا سبب، إنما سبقها عمل جعل له وجاهة عند الناس.
فالناس في العادة لا يحترمون إلا من يكون له لون من الفضل عليهم، فكأنه احترام
مدفوع الثمن، وليس احتراماً مجانيّاً. وقد يكون الإحسان بالعلم. أو بفضل القوة،
بإعانة الضعيف. أو بإكساب الخبرة للآخرين. أو بتفريج كربة عن مسلم.
إذن وجوه الإحسان في الأشياء كثيرة، وكلها تخدم قضية الإيمان. وعندما يرى الكافر
المؤمنين وكل واحد منهم يحسن عمله فإن ذلك يغريه بالإيمان. وإذا سألنا: ما الذي
زهد دنيانا المعاصرة في ديننا؟ فسوف نجد أن العالم ينظر إلى دين الله من خلال حركة
المسلمين، وهي حركة غير إسلامية في غالبيتها. صحيح أن بعضاً من عقلاء الغرب
وفلاسفته لا يأخذون الدين من حركة المسلمين، وهذا منتهى العدالة منهم لأنه ربما
كان بعض المسلمين غير ملتزمين بدينه، فلا يأخذ أحد الإسلام منه لمجرد أنه مسلم.
وأتباع الديانات الأخرى يعرفون أن هناك أفعالاً جرمها دينهم. وما دام هناك أفعال
جرمها الدين وسن لها عقوبة فذلك دليل على أنها قد تقع، فأنت عندما ترى شخصاً ينتسب
إلى الإسلام ويسرق، هل تقول: إن المسلمين لصوص. لا، إن عليك أن تنظر إلى تشريعات
الإسلام هل جرمت السارق أو لم تجرمه؟ فلا يقولن أحد: انظر إلى حال المسلمين، ولكن
لننظر إلى قوانين الإسلام، لأن الله قدر على البشر أن يقوموا بالأفعال حسنها
وسيئها، ولذلك أثاب على العمل الصالح وعاقب على العمل السييء.
والعقلاء والمفكرون يأخذون الدين من مبادئ الدين نفسه، ولا يأخذونه من سلوك الناس،
فقد يجوز أن تقع عين المراقب على مُخالف في مسألة يحرمها الدين. فلا تأخذ الفعل
الخاطئ على أنه الإسلام، وإنما خذه على أنه خارج على الإسلام.
وساعة يرانا العالم محسنين في كل شيء فنحن نعطيهم الأسوة التي كان عليها أجدادنا،
وجعلت الإسلام يمتد ذلك المد الخرافي الأسطوري حتى وصل في نصف قرن إلى آخر الدنيا
في الشرق، وإلى آخرها في الغرب، وبعد ذلك ينحسر سياسياً عن الأرض، ولكن يظل كدين،
وبقى من الإسلام هذا النظام الذي يجذب له الناس. إن الإسلام له مناعة في خميرته
الذاتية إنه يحمل مقومات بقائه وصلاحيته، وهو الذي يجذب غير المسلمين له فيؤمنون
به، وليس المسلمون هم الذين يجذبون الناس للإسلام.
ولذلك أقول: لو أن التمثيل السياسي للأمم الإسلامية في البلاد غير الإسلامية
المتحضرة قد أخذ بمبادئ الإسلام لكان أسوة حسنة. وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم
الدول الغربية تجد فيها أكثر من ثلاث وستين سفارة إسلامية، وكل سفارة يعمل فيها
جهاز يزيد على العشرين، هب أن هؤلاء كانوا أسوة إسلامية في السلوك والمعاملات في
عاصمة غير إسلامية، حينئذ يجد أهل ذلك البلد جالية إسلامية ملتزمة ولم تفتنها
زخارف المدنية: لا يشربون الخمر، ولا يرقصون، ولا يترددون على الأماكن السيئة
السمعة، ولا تتبرج نساؤهم، بالله ألا يلفت النظر سلوكُ هؤلاء؟
لكن ما يحدث ـ للأسف ـ هو أن أهل الغرب ـ على باطلهم ـ غلبوا بني الإسلام ـ على
حقهم ـ وأخذوهم إلى تحللهم، وهذا الاتباع الأعمى يجعل الغربيين يقولون: لو كان في
الإسلام مناعة لحفظ أبناءه من الوقوع فيما وقعنا فيه.
إذن الإحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين الإسلام. إن الحق يقول: } إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { والحب كما نعرفه هو ميل قلب المحب إلى المحبوب،
وذلك الأمر يكون بالنسبة للبشر، لكن بالنسبة للحق هو تودد الخالق بالرحمة والكرامة
على المخلوق، والحق سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يكونوا على خُلقه، فكما أن الله
أحسن كل شيء خلقه } الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ { يريد من عباده وقد
تفضل عليهم بالعقل المفكر فيخطط، وبالطاقات فتبرز التفكير إلى عمل يريد الحق منا
أن يكون رائدنا في كل عمل أن نحسنه، حتى نكون متخلقين بأخلاق الله، فتشيع كلمة
" الله " هذا اللفظ الكريم الذي يستقبل به الإنسان كل جميل في أي صنعة
فيقول: " الله ".
إذن تشيع كلمة " الله " نغمة في الوجود تعليقاً على كل شيء حسن، حتى
الذي لا يؤمن بذلك الإله يقول أيضاً: " الله " ، كأن الفطرة التي فطر
الله الناس عليها تنطق بأن كل حسن يجب أن يُنسب إلى الله سواء كان الله هو الذي
فعل مباشرة كالأسباب والكونيات والنواميس، أو خلق الذي فعل الحسن، فكل الأمور تؤول
إلى الله.
ولو علم الذين لا يحسنون أعمالهم بماذا يحرمون الوجود لتحسروا على أنفسهم، وليتهم
يحرمون الوجود من كلمة " الله " ، ولكنهم يجعلون مكان " الله
" كلمة خبيثة فيشيعون القبح في الوجود، وحين يشيع القبح في الوجود يكون
الإنسان في عمومه هو الخاسر.
فقول الله: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { تشجيع لكل من يلي عملاً أن
يحسنه ليكون على أخلاق الله. وبعد ذلك يقول الحق: } وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ
تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىا يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ... {
(/199)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
والنسق القرآني نسق عجيب، فأنتم تذكرون أنه تكلم عن الصيام. ورمضان يأتي قبل أشهر
الحج، فكان طبيعياً أن يتكلم عن الحج بعد أن تكلم عن رمضان وعن الأهلة وعن جعل
الأهلة مواقيت للناس والحج كما أن هناك شيئاً آخر يستدعي أن يتكلم في الحج وهو
الكلام عن القتال في الأشهر الحرم، وعن البيت الحرام فقد قال سبحانه:{ وَلاَ
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىا يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
}[البقرة: 191]
إذن فالكلام عن الحج يأتي في سياقه الطبيعي. وحين يقول الله: { وَأَتِمُّواْ
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ } نفهم منه أن الأمر بإتمام الشيء لا يكون إلا إذا
جاء الأمر بفرض هذا الفعل، فكأنك بدأت في العمل بعد التشريع به، ويريد منك سبحانه
ألاّ تحج فقط، ولكن يريد منك أن تتمه وتجعله تامّاً مستوفياً لكل مطلوبات المشرع
له.
وساعة يقول الحق: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } لقائل أن يقول: إن الحج
شيء والعمرة شيء آخر، بدليل عطفها عليه، والعطف يقتضي المغايرة كما يقتضي
المشاركة، فإن وجدت مشاركة ولم توجد مغايرة فلا يصح العطف، بل لابد أن يوجد مشاركة
ومغايرة. والمشاركة بين الحج والعمرة أن كليهما نسك وعباده، وأما المغايرة فهي أن
للحج زمناً مخصوصاً ويشترط فيه الوقوف بعرفة، وأما العمرة فلا زمن لها ولا وقفة
فيها بعرفة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في مشروعية الحج:{ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }[آل عمران:97]
ولم يأت في تلك الآية بذكر العمرة، ومنها نعرف أن الحج شيء والعمرة شيء آخر،
والمفروض علينا هو الحج. ولذلك أقول دائما لابد لنا أن نأخذ القرآن جملة واحدة،
ونأتي بكل الآيات التي تتعلق بالموضوع لنفهم المقصود تماماً، فحين يقول الحق في
قرآنه أيضا: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ } نعرف من ذلك أن
العمرة غير الحج، وحين تقرأ قول الله في سورة براءة:{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ }[التوبة: 3]
نعرف أن هناك حجِّا أكبر، وحجِّا ثانيا كبيراً. ولذلك فآية { وَللَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } جاءت بالبيت المحرم، وهو القدر المشترك في الحج
والعمرة. ونعرف أن الحج الأكبر هو الحج الذي يقف فيه المسلم بعرفة؛ لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم قال: " الحج عرفة ". وهو الحج الأكبر؛ لأن الحشد على
عرفة يكون كبيراً، وهو يأتي في زمن مخصوص ويُشترط فيه الوقوف بعرفة.
إذن قوله تعالى: { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } الحج هو القصد إلى
مُعظّم وهو { حِجُّ الْبَيْتِ } ، أما العمرة فهي الحج الكبير وزمانها شائع في كل
السنة، والقاصدون للبيت يتوزعون على العام كله. وذلك قد ثبت بالتشريع بقوله
سبحانه: { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ }.
وما دام جاء بالأمر المشترك في قوله: حج البيت فهو يريد الحج الأكبر والحج الكبير.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب عباده ويعلم أن بعض الناس سيقبلون على العبادات إقبالاً
شكلياً، وقد يقبلون على العبادة لأغراض أخرى غير العبادة، فكان لابد أن يبين القصد
من الحج والعمرة، وأن المطلوب هو إتمامهما، ولابد أن يكون القصد لله لا لشيء آخر،
لا ليقال " الحاج فلان " ، أو ليشتري سلعاً رخيصة ويبيعها بأغلى من
ثمنها بعد عودته.
ونحن نعلم أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يستمر اقترانها بفاعلها، فمثلاً لا
يقال: " المصلى فلان " ولا " المزكي فلان " ، فإن كان الحاج
حريصاً على هذا اللقب، وهو دافعه من وراء عبادته فلا بد ألا يخرج بعبادته عن غرضها
المشروعة من أجله، إن الحق يقول: } وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ {.
وكلمة " لله " تخدمنا في قضايا متعددة، فما هي هذه القضايا؟
إن المسلم عندما يريد أن يحج لله فلا يصح أن يحج إلا بمال شرع الله وسائله. كثير
من الناس حين يسمعون الحديث الشريف: " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم
ولدته أمه ".
يعتقدون أن الإنسان له أن يرتكب ما يشاء من معاص ومظالم، ثم يظن أن حجة واحدة
تُسقط عنه كل ذنوبه، نقول لهؤلاء: أولاً: لابد أن تكون الحجة لله
وثانيا: أن تكون من مال حلال، وما دامت لله ومن مال حلال فلا بد أن تعرف ما هي
الذنوب التي تسقط عنه بعد الحج، فليست كل الذنوب تسقط، وإنما الذنوب المتعلقة بالله
سبحانه وتعالى؛ لأن الذنب المتعلق بالله أنت لم تظلم الله به لكن ظلمت نفسك، ولكن
الذنب المتعلق بالبشر فيه إساءة لهم أو انتقاص من حقوقهم، وبالتالي فإن ظلم العباد
لا يسقط إلا برد حقوق العباد.
ونعرف أن العمرة هي قصد البيت الحرام في مطلق زمان من العام، والحج قصد البيت في
خصوص زمان من العام، ويقول بعض العلماء: إن هذا تكليف وذاك تكليف، فهل يجوز
أداؤهما معاً، أم كل تكليف يؤدى بمعزل عن الآخر؟
وبعضهم تناول ملحظيات الفضل والحسن، فالذي يقول: إن الإفراد بالحج أحسن، فذلك لأنه
خص كل نُسك بسفرة، والذي يقول: يؤديهما معاً ويحرم بالحج والعمرة معاً بإحرام
واحد، فيذهب أولاً ويأتي بنسك العمرة، ثم يظل على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحج،
وفي هذه الحالة يكون قد قرن الأمرين معا؛ أي أداهما بإحرام واحد وهذا ما يفضله بعض
من العلماء؛ لأن الله علم أن العبد قد أدى نسكين بإحرام واحد، وهناك إنسان متمتع
أي يؤدي العمرة، ثم يتحلل منها، وبعد ذلك يأتي قبل الحج ليحرم بالحج، وهذا اسمه
التمتع، وهو متمتع لأنه تحلل من الإحرام، ومن العلماء من يقول: إن التمتع أحسن
لأنه فصل بين أمرين بما أخرجه عن العادة، أحرم ثم تحلل ثم أحرم.
إذن كل عالم له ملحظ، فكأن الله لا يريد أن يضيق على خلقه في أداء نُسك على أي لون
من الألوان. وقد احتاط المشرع سبحانه وتعالى عند التكليف، واحترم كل الظروف سواء
كانت الظروف التي قد تقع من غير غريم وهو القدريات، أو تقع من غريم،وهي التي لها
أسباب أخرى فقال: } فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ {.
وأحصرتم تعني مُنعْتُم. وهناك " حصر " وهي للقدريات، وهناك " أحصر
" وتكون بفعل فاعل مثل تدخل العدو كما حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في
عام الحديبية، وقيل له لا تدخل مكة هذا العام، لذلك فالحق سبحانه وتعالى يخفف عنا
وكأنه يقول لنا: أنا لا أهدر تهيؤ العباد، ولا نيتهم ولا استعدادهم ولا إحرامهم؛
فإن أُحصِروا } فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ { والهدى هو ما يتم ذبحه تقربا
إلى الله، وكفارة عما حَدث.
ثم يقول بعد ذلك: } وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىا يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ { أي إلى أن يبلغ المكان المخصص لذلك، هذا إن كنت سائق الهدى، أما إن لم
تكن سائق الهدى فليس ضروريا أن تذبحه، ويكفي أن تكلف أحداً يذبحه لك، وقوله الحق:
} فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
{ تعني أنه يصح أن يذبح الإنسان الهدي قبل عرفة، ويصح أن نؤخره ليوم النحر، ويصح
أن يذبحه بعد ذلك كله.
} فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ { تعني أيضا إن كان الحصول على الهدى سهلاً،
سواء لسهولة دفع ثمنه، أو لسهولة شرائه، فقد توجد الأثمان ولا يوجد المُثمَّن.
" والهدي " هو ما يُهدى للحرم، أو ما يهدي الإنسان إلى طريق الرشاد،
والمعنى مأخوذ من الهُدى، وهو الغاية الموصلة للمطلوب.
وقوله تعالى: } وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىا يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ { فالمريض الذي لا يستطيع أن يذبح الهدي وعنده أذى من رأسه "
كالصحابي الذي كان في رأسه قمل، وكان يسبب له ألماً، فقال له رسول الله: "
احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة ".
إنها تشريعات متعاقبة وكل تشريع له مناسبة، فكما شرع لمن أحصر ما استيسر من الهدى،
كذلك شرع لمن حلق رأسه لمرض أن كان به أذى من رأسه، شرع له ثلاثة أشياء: صيام أو
صدقة أو نسك.
والمتأمل لهذه الأشياء الثلاثة يجد أنها مرتبة ترتيبا تصاعدياً. فالصيام هو أمر لا
يتعدى النفع المباشر فيه إلى الغير، والصدقة عبادة يتعدى النفع فيها للغير، ولكن
بقدر محدود لأنها إطعام ستة أفراد مثلاً، والنسك هو ذبيحة، ولحمها ينتفع به جمع
كبير من الناس.
فانظر إلى الترقي في النفع، إما صوم ثلاثة أيام، وإما إطعام ستة مساكين، وإما ذبح
ذبيحة أي شاة. إن هذا تصعيد من الأضعف للأقوى كل بحسب طاقته ومقدرته.
والحق سبحانه وتعالى ساعة يشرع كفارات معينة فذلك من أجل مراعاة العمليات المطلوبة
في الحج، والمناسبة لظروف وحالة المسلم، فأباح له في حالة التمتع مثلا أن يقسم
الصوم إلى مرحلتين: ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. إنه الترقي في
التشريعات، واختيار للأيسر الذي يجعل المؤمن يخرج من المأزق الذي هو فيه.
} فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ {.
وكلمة } فَمَن لَّمْ يَجِدْ { معناها أنه لا يملك، وهذا الذي لا يملك نقول له: لا
تفعل كما يفعل كثير من الناس قبل أن يطوفوا، إن بعضهم يذهب للسوق ويشتري الهدايا،
وبعد ذلك ساعة وجوب الهدي عليه يقول: ليس معي ولذلك سأصوم. هنا نقول له: ألم يكن
ثمن تلك الهدايا يصلح لشراء الهدي؟
إنه لأمر غريب أن تجد الحاج يشتري هدايا لا حصر لها؛ ساعات وأجهزة كهربائية ويملأ
حقائبه، ثم يقول لا أجد ما أشتري به الهدي. أليس ذلك غشاً وخداعاً؟ إن من يفعل ذلك
يغش نفسه.
إذن قوله تعالى: } فَمَن لَّمْ يَجِدْ { يعني لا يجد حقاً، لا من تنفذ أمواله في
الهدايا، ثم يصبح صفر اليدين، ولذلك فالذين يحسنون أداء النسك لا يشترون هداياهم
إلا بعد تمام أداء المطلوب في النسك، وإن بقي معهم مال اشتروا على قدر ما معهم.
والذين ينفقون أموالهم في شراء الهدايا ثم يأتون عند } فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ { ويقولون ليس معنا ثمن الهدى وسنصوم، الغريب أنهم لا يتذكرون الصوم إلا
عند عودتهم، ألم يكن الأفضل للواحد منهم أن يصوم من البداية، ومن لحظة أن يعرف أنه
لا يملك ثمن الهدى ويدخل في الإحرام للعمرة؟
إن المفروض أن يبدأ في صوم الثلاثة أيام حتى يكون عذره مسبقاً وليس لاحقاً وبعض
العلماء أباح صوم أيام التشريق، وأيام التشريق الثلاثة هي التي تلي يوم العيد
لأنهم كانوا " يشرقون اللحم " أي يبسطونه في الشمس ليحف ويقدد. وبعد ذلك
عندما ينتهي من أداء المناسك إما أن يصوم السبعة الأيام في الطريق وهو عائد، أو
عندما يصل لمنزله، إن له أن يختار ما يناسبه } فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ { ومعروف أن } ثَلاثَةِ { و } وَسَبْعَةٍ { تساوي } عَشَرَةٌ { ، وذلك
حتى لا يظن الناس أن المقصود إما صوم ثلاثة أيام وإما سبعة أيام، ولذلك قال: }
عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ { حتى لا يلتبس الفهم.
وربما أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أن الصائم سيصوم عشرة أيام فهي كاملة
بالنسبة لأداء النسك. وليس الذابح بأفضل من الصائم، فما دام لم يجد ثمن الهدى وصام
العشرة الأيام، فله الأجر والثواب كمن وجد وذبح. فإياك أن تظن أن الصيام قد يُنقص
الأجر أو هو أقل من الذبح.
ويقول الحق: } ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ {. وهذا التشريع مقصود به من لم يكن أهله مقيمين بمكة. ونعرف أن حدود
المسجد الحرام هي اثنا عشر ميلا، والمقيم داخل هذه المسافة لا يلزمه ذبح ولا صوم،
لماذا؟ بعض العلماء قال: لأن المقيمين حول المسجد الحرام طوافهم دائم فيغنيهم عن
العمرة، فإن حج لا يدخل في هذا التشريع.
ويختم الحق هذه الآية بقوله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ {. كيف يقول الحق: إنه شديد العقاب في التيسيرات التي شرعها؟
أي: إياكم أن تغشوا في هذه التيسيرات، فليس من المعقول أو من المقبول أن ندلس
شيئاً فيها، لذلك حذرنا سبحانه من الغش في هذه المناسك بقوله: } وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {.
ويقول الحق بعد ذلك: } الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ... {
(/200)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصوم: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ } ولم يذكر شهور الحج: شوالاً وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر
رمضان، لأن التشريع في رمضان خاص به فلا بد أن يعين زمنه، لكن الحج كان معروفاً
عند العرب قبل الإسلام، ويعلمون شهوره وكل شيء عنه؛ فالأمر غير محتاج لذكر أسماء
الشهور الخاصة به، والشهور المعلومة هي: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة
وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى، وشهر الحج لا يستغرق منه سوى عشرة أيام، ومع ذلك
ضمه لشوال وذي القعدة، لأن بعض الشهر يدخل في الشهر.
وكلمة { مَّعْلُومَاتٌ } تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج، لأنها كانت
معلومة عندهم.
{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } والفرق ليس من الإنسان إنما الفرض من الله
الذي فرض الحج ركناً، وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلاً، وشرعت ونويت الحج في
الزمن المخصوص للحج تكون قد فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم
لك. وقوله سبحانه: " فرض " يدل على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوباً. أي
غير مفروض.
{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي
الْحَجِّ }. والرفث للسان، وللعين. وللجوارح الأخرى رفث، كلها تلتقي في عملية
الجماع ومقدماته، ورفث اللسان في الحج أن يذكر مسألة الجماع، ورفث العين أن ينظر
إلى المرأة بشهوة. فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع، أو هو الجماع أو ما يتصل به
بالكلمة أو بالنظرة، أو بالفعل.
والرفث وإن أُبيح في غير الحج فهو محرم في الحج، أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي
غير الحج، فكأن الله ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج،
فليس من الأدب أن يكون المسلم في بيت الله ويحدث ذلك الفسوق منه، إنّ الفسوق محرم
في كل وقت، والحق ينبه هنا المسرف على نفسه، وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيداً
عن بيت الله فليستح أن يعصي الله في بيت الله؛ فالذاهب إلى بيت الله يبغي تكفير
الذنوب عن نفسه، فهل يُعقل أن يرتكب فيه ذنوباً؟ لابد أن تستحي أيها المسلم وأنت
في بيت الله، واعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يُحاسب فيه على مجرد
الإرادة.
ويقول الله عز وجل:{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الحج: 25]
إذن الرفث حلال في مواضع، لكنه يَحْرُمُ في البيت الحرام، ولكن الفسوق ممتنع في كل
وقت، وامتناعه أشد في البيت الحرام.
والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فلا يصح أن يوجد في الحج.
ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق، ودون مرتبة العصيان، والرسول قال:
" من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " لم يقل: " ولم
يجادل " إن بشرية الرسول تراعي ظروف المسلمين، فمن المحتمل أن يصدر جدال من
الحاج نتيجة فعل استثاره، فكأن عدم ذكر الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن لا يصح
أن نتمادى فيها. والجدال ممكن في غير الحج بدليل:{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ }[النحل: 125]
إنما الحج لا جدال فيه.
والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه بالحجة. ثم انظر إلى تقدير
الحق لظروف البشر وعواطف البشر والاعتراف بها والتقنين لأمر واقع معترف به، فالحج
يُخرج الإنسانَ من وطنه ومن مكان أهله، ومن ماله، ومما أَلِفَ واعتاد من حياة.
وحين يخرج الإنسان هذا الخروج فقد تضيق أخلاق الناس؛ لأنهم جميعاً يعيشون عيشة غير
طبيعية؛ فهناك من ينام في غرفة مشتركة مع ناس لا يعرفهم، وهناك أسرة تنام في شقة
مشتركة ليس فيها إلا دورة مياه واحدة، ومن الجائز أن يرغب أحد في قضاء حاجته في
وقت قضاء حاجة شخص آخر، وحين تكون هذه المسألة موجودة لا رأي لإنسان، ولذلك يقال:
" لا رأي لحاقن " أي لا رأي لمحصور.. أي لمن يريد قضاء حاجته من بول، وكذلك
الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لأنها مسألة تُخِل توازن الإنسان.
إذن فالحياة في الحج غير طبيعية، وظروف الناس غير طبيعية، لذلك يحذرنا الحق من
الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة
الآخرين، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين. وقد أثبتت
التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً، وإما أعداء
ألداء.
ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج،
وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله،
وليشتغل بأنس الله، وليتحمل في جانبه كل شيء، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته.
والحق سبحانه وتعالى يقول: } وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىا {. فبعد أن نهانا الحق بقوله:
} فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ { وتلك أمور سلبية وهي
أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال
الإيجابية، أفعال الخير التي يعلمها الله.
إن الله يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين، سلب وإيجاب، سلب ما قال عن الرفث
والفسوق والجدال، ويريد أن نوجب ونوجد فعلا. } وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ {.
وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهي عنها، فإذا كان الإنسان لا
يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته
الحلال له، فيمتنع عنها ما دام محرماً ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر
وخير.
وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف
على الناس، هذا هو المقصود بقوله: } وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ {. وكلمة من قوله } مِنْ خَيْرٍ { للابتداء، كأن الله سبحانه وتعالى يريد
منك أن تصنع خيراً وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير؛ ولذلك قال: } يَعْلَمْهُ
اللَّهُ {. فكأنه خير لا يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس؛ والتعبير }
يَعْلَمْهُ اللَّهُ { أي الخير مهما صغر، ومهما قل فإن الله يعلمه، وكثير من
الخيرات تكون هواجس بالنية، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه.
وقول الحق: } وَتَزَوَّدُواْ { والزاد: هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره،
وكان هذا أمراً مألوفا عند العرب قديماً؛ لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه
طعام. وكل هذه الظروف تغيرت الآن، وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى
هناك. كانت الناس قديماً تذهب إلى الحج ومعها أكفانها، ومعها ملح طعامها، ومعها
الخيط والإبرة، فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس، وأصبح الناس يذهبون الآن
إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلانا جاء من الحج
ومعه كذا وكذا. كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه أخبر قديما يوم
كان الوادي غير ذي زرع فقال:{ يُجْبَىا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ..
}[القصص: 57]
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله: } يُجْبَىا { ومعناها يؤخذ بالقوة وليس
باختيار من يذهب به، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب
بها، وهو رزق من عند الله، وليس من يد الناس.
وهذا تصديق لقوله تعالى:{ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ... }[إبراهيم: 37]
وقوله الحق: } وَتَزَوَّدُواْ { مأخوذة ـ كما عرفنا ـ من الزيادة، والزاد هو طعام
المسافر، ومن يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته، ويأخذه حتى يكفيه
مئونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال؛ لأن الحج ذلة عبودية، وذلة العبودية يريدها
الله له وحده. فمن لا يكون عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر، ويطلب منه أن
يعطيه طعاماً، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر
حاجته حتى يكفي نفسه، وتظل ذلته سليمة لربه، فلا يسأل غير ربه، ولا يستشرف للسؤال
من الخلق، ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئاً من ذلته المفروض أن تكون خالصة في
هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس، والله يريدها له خالصة.
وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته، وتتحول
رحلته من قصد البر إلى الشر. وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون:
" نحن متوكلون، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟ ". ثم تضطرهم الظروف لأن
يسرقوا، وهذا سبب وجود النهب والسرقة في الحج. إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن
ينهب ويسرق ليسد حاجته.
ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال: }
وَتَزَوَّدُواْ { إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان
عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه، ويقول سبحانه: } وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىا { ونعرف أن الزاد هو ما تَقي به نفسك من الجوع
والعطش، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية، فما بالك بالحياة
الأبدية التي لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية
يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية.
إذن فقوله: } فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىا { يشمل زاد الدنيا والآخرة.
والله سبحانه وتعالى يذكرنا بالأمور المُحَسّة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية،
ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية. ولذلك
نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى:{ يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ }[الأعراف: 26]
هذا أمر حسي. ويفيدنا ويزيدنا سبحانه " ريشاً " إنه ـ سبحانه ـ لا يواري
السوءة فقط، وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها، وهذه الكماليات هي
الريش، أي ما يتزين به الإنسان، ثم قال الحق:{ وَلِبَاسُ التَّقْوَىا ذالِكَ
خَيْرٌ }[الأعراف: 26]
أي أنعمت عليكم باللباس والريش، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو } لِبَاسُ
التَّقْوَىا {. فإن كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه سَترَ عورتك ووقاك حراً وبرداً
وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسي، ولكن الأمر الأفضل هو لباس التقوى،
لماذا؟ لأن مفضوح الآخرة شر من مفضوح الدنيا. إذن فقوله: } وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىا وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ {. يعني أن الحق
يريد منك أن تتزود للرحلة زاداً يمنعك عن السؤال والاستشراف أو النهب أو الغصب،
وأحذر أن يدخل فيه شيء مما حرم الله، ولكن تزودك في دائرة: } وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي
الأَلْبَابِ { أي يا أصحاب العقول، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من عقل إلا
وهو يريد منهم أن يُحَكِّمُوا عقولهم في القضية، لأنه جل شأنه يريد منك أن
تُحَكِّمَ عقلك، فإن حَكَّمْتَ عقلك في القضية فسيكون حُكْمُ العقل في صف أمر
الله.
ولما كان الله ـ سبحانه ـ بسعة لطفه ورحمته ـ يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة
المباركة أن يتعاون الناس، أذِنَ لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين
تيسيراً لهم. ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يُرخصُ الله لهم في الحج أن
ينفروا قبل غيرهم؟ لأن تلك مصلحة ضرورية. فهب أن الناس جميعاً امتنعوا عن خدمة
بعضهم بعضاً فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة
الحجاج، والله ـ سبحانه وتعالى ـ بين ذلك ووضحه بقوله: } لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ... {
(/201)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي لا إثم عليكم ولا حرج { أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً
مِّن رَّبِّكُمْ } أي أن تتكسبوا في الحج وهو نسك عبادي، والمكسب الذي يأتي فيه هو
فضل من الله. وقديماً كانوا يقولون: فيه " حاج " ، وفيه " داجّ
" ، واحدة بالحاء وواحدة بالدال، " فالداجّ " هو الذي يذهب إلى
الأراضي المقدسة للتجارة فقط، ونقول له: لا مانع أن تذهب لتحج وتتاجر؛ لأنك ستيسر
أمراً؛ لأننا إن منعناه فمن الذي يقوم بأمر الحجيج؟
ولماذا قال الحق: { تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } ولم يقل رزقاً؟. لقد
أوضح الحق في الآية التي قبلها: ألاّ تذهبوا إلاّ ومعكم زادكم. إذن أنت لا تريد
زاداً بعملك هذا، أي لا تذهب إلى الحج لتأكل من التجارة، إنما تذهب ومعك زادك وما
تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلاً من الله سبحانه وتعالى، وهو جل شأنه يريد
منك ألاّ يكون في عملك المباح حرجٌ؛ فنفى الجناح عنه؛ فأنت قد جئت ومعك الأكل
والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول، فلا يكون فيه شائبة ظلم كالاستغلال لحاجة
الحجيج، لذلك أسماه " فضلاً " يعني أمراً زائداً عن الحاجة.
وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل لا يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل، فكله
من عند الله. إياك أن تقول: قوة أسباب، وإياك أن تقول: ذكاء أو احتياط، فلا شيء من
ذلك كله؛ لأن الرزق كله من الله هو فضل من الله. ولا ضرر عليك أن تبتغي الفضل من
الرب؛ لأنه هو الخالق وهو المربي. ونحن مربوبون له، فلا غضاضة أن تطلب الفضل من
الله.
ثم يقول الحق بعد ذلك: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ
عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }. وأنت حين تملأ كأسا عن آخرها فهي تفيض بالزائد
على جوانبها، إذن فالفائض معناه شيء افترق عن الموجود للزيادة.
قوله: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } تدل على أن الله قد حكم بأن عرفات
ستمتلئ امتلاء، وكل من يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها. وهذا حكم من الله
في الحج. وأنت إذا ما شهدت المشهد ـ كتبه الله للمسلمين جميعاً. إن شاء الله ـ
سترى هذه المسألة، فكأن إناءً قد امتلأ، وذلك يفيض منه. ولا تدري من أين يأتي
الحجيج ولا إلى أين يذهبون. ومن ينظر من يطوفون بالبيت يظن أنهم كتل بشرية، وكذلك
إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم أنه لا فارق بينهم؛
ولذلك يقال: سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل.
وقال الشاعر:فسـالت عليه شعـاب الحي حـين دعـا أصـحـابه بـوجـوه كالـدنـانـيروقال
آخر:ولمـا قضـيـنا مـن مـنى كـل حـاجـة ومسـّح بـالأركـان من هـو ماسحأخـذنا
بـأطـراف الأحـاديـث بـينـنـا وسـالـت بأعـناق المـطي الأباطحأي كأنه سيل متدفق،
هكذا تماما تكون الإفاضة من عرفات. وعندما تتأمل الناس المتوجهين إلى " مزدلفة
" تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس والمركبات كأنهم
السيل ولا تستطيع أن تفرق شخصاً من مجموعة، وفي موقف الحجيج إفاضتان: إفاضة من
عرفات، ثم إفاضة ثانية بينتها الآية التي بعدها يقول ـ سبحانه ـ: { ثُمَّ
أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(/202)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
وعرفات ننطقها بمنطوقين: مرة نقول " عرفات " كما وردت في هذه الآية،
ومرة ننطقها " عرفة " كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "
الحج عرفة ". وعرفات جمع، وعرفة مفرد.
هذه الكلمة أصبحت علماً على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي
الحجة، ولا تظن أنها جبل، فإذا سمعت: " جبل عرفات " كما يقول الناس
فافهم أن المقصود هو الجبل المنسوب إلى عرفات. وليس عرفات في ذاتها، ولذلك تجد
أناساً كثيرين يظنون أنهم إن لم يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات
التي وقف عليها رسول الله في حجة الوداع فكأن الإنسان منهم لم يحج. نقول لهم: لا.
الوقوف يكون في الوادي، والجبل المجاور للوادي أسميناه جبل عرفات، فالجبل هو
المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل.
وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة. وهناك فرق بين الاسم يكون وصفا ثم يصير
اسماً. وبين أن يكون عَلَماً من أول الأمر. وقلنا: إنه إذا سميت العَلَم من أول
الأمر فلا ضرورة أن يكون فيه معنى اللفظ؛ فقد تسمى واحداً شقياً بـ " سعيد
" ، وتُسمى زنجية بـ " قمر " ، وهذا لا يُسمى " وصفا "
وإنما يُسمى عَلََماً إلا أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالأصل، فيقال: أُسَمِّي
ابني " سعيداً " تفاؤلا بأن يكون " سعيداً " ، وعندما تكون
بنتاً فقد تعطيها اسماً مخالفاً لحالها، فقد تكون دميمة وتسميها " جميلة
" تفاؤلاً بالاسم. هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل. والعرب عندما كانوا يسمون
الأسماء كانوا يتفاءلون بها. مثلاً كانوا يسمون " صخراً " ليتفاءلوا به
أمام الأعداء. ويسمون " كلباً " حتى لا يجرؤ عليه أحد.
وقيل لعربي: إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون " سعيداً " و "
سعداً " و " فضلاً " وتسيئون أسماء أبنائكم؛ تسمونهم: " مُرة
" ، " كلباً " ، " صخراً " قال العربي: نعم؛ لأننا نسمي
أبناءنا لأعدائنا ليكونوا في نحورهم، ونسمي عبيدنا لنا. وكلمة " عرفة "
هي الآن علم على مكان، لكن سبب تسميتها فيه خلاف: قيل: لأن آدم هبط في مكان وحواء
هبطت في مكان، وظل كلاهما يبحث عن الآخر حتى تلاقيا في هذا المكان، فسُمي "
عرفة ".
والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كلا منهما يبحث عن
الآخر، إذا كان الله عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟. لك أن تتصور حال
آدم وهو مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده، وينظر حوله فلا يجد بشراً مثله، بالله
ألا يشتاق لإنسان يؤنس وحدته؟.
وماذا يكون حاله عندما يرى إنساناً؟. لاشك أنه سيقابله باشتياق شديد. من أجل هذا
فرق الله بينهما وجعل كلاًّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته، ولو ظل كل منهما
بجوار الآخر فربما كان الأمر عادياً. وهكذا أراد الله لكل من آدم وحواء أن يشتاق
كل منهما للآخر، فأبعدهما عن بعضهما ثم تلاقيا بعد طول بعاد، فكان الشوق للقاء.
وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة والألفة والسكن، وهو مطلوب الحياة لزوجين. وهناك
قول آخر بخصوص تسمية عرفات: إن سيدنا آدم قالت له الملائكة وهو في ذلك المكان:
اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال:{ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[الأعراف: 23]
فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب. أو حينما أراد الله أن يُعَلِّم إبراهيم
عليه السلام، وهو الذي دعا ربَّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا
المكان. إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه. وتلك مسألة شاقة من ثلاثة وجوه:
المشقة الأولى أنها رؤيا وليست وحياً. والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد، والمشقة
الثالثة أنه هو الذي سيذبحه.
إنها ثلاث مشقات صعاب، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر
وسهولة، بل لابد أنه تحدّث فيها كثيراً بينه وبين نفسه، وهل هي رؤيا أم ماذا؟. ومن
هنا سُمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية. وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن
رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى. والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا
سُمي عرفة. أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة
تمر، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم. أليس هو القائل:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16]
فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الأولى، ثم عاوده مرة
أخرى فرجمه سبعاً، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعاً، بعدها لم يأت له ثانية، فجرى
إبراهيم مخافة أن يلاحقه، ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة، والمزدلف هو المسرع، ويسمى
" ذا المجاز " أي أنه اجتاز المزدلفة، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة.
أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان، فيقول له: عرفتَ؟ فيرد إبراهيم:
" عرفتُ ". أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل
منا عرف الأركان: هذا عرف، وذاك عرف، وثالث، ورابع، وهكذا فيكون كلنا: عرفات،
ويصبح المكان عبودية لله. اشترك فيها جميع الحجاج.
} فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ {. والمشعر الحرام في مزدلفة: } فَاذْكُرُواْ اللَّهَ { معناها أن الله
يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة، وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت الله الحرام، ثم تعودون
مغفورا لكم، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان.
} وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ {؛ لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى
الخير هو تحية من الله لخلقه، والتحية يجب أن يُرَدّ عليها، فكما هداكم اذكروه. }
وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {؛ لأنهم طالما حجوا كثيراً، في
الجاهلية، فأنتم كنتم تحجون بضلال، والآن تحجون بهدى. } ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ {. قوله: } ثُمَّ { تدل على أنه لابد من الوقوف بعرفة أو
المبيت في مزدلفة؛ لأن } ثُمَّ { تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل.
إذن قوله: " } ثُمَّ أَفِيضُواْ { حجة لمن قال: إنه لابد من المبيت في
مزدلفة. وهذه الآية نزلت لأن قريشاً كانت ترى نفسها أهل الحرم فلا يُطالبون أبداً
بما يُطالب به سائر الناس، ولذلك لا يذهبون مع الناس إلى عرفات، والله يريد بالحج
المساواة بين الناس، ولذلك قال النبي في حجة الوداع: " كلكم بنو آدم وآدم خلق
من تراب، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان "
فلابد أن ينسخ الله مسلك قريش فقال: } ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ { يعني لا تميز لكم ولا تفرقة بين المسلمين.
وبعض المفسرين يقول: إن معنى{ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }المقصود به من حيث
أفاض إبراهيم، بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن
علمها الله له، فالناس وإن كانوا جمعاً إلا أن المراد بكلمة " الناس "
هو " إبراهيم ". ولا نستغرب أن يكون معنى: " الناس " هو
" إبراهيم " لأن الله وصفه بأنه " أمة ". وكلمة الناس تُطلق
على الإنسان الذي يجمع خصائص متعددة؛ ولذلك قال الله عز وجل عن سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم:{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ }[النساء: 54]
لقد وصف الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس. والرجل الذي ذهب للمؤمنين
يخبرهم باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى: } الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ { إنه إنسان واحد ومع ذلك وصفه الله بالناس، كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون
جمع كل صفات الخير في الناس.
} وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { إنّ الحق سبحانه
وتعالى يعلم أن بني آدم لا يمكن لهم أن يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى، فلا بد أن
تفلت منهم أشياء، وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك؛ لأنه خالقهم، فأمرهم ـ جلت حكمته ـ
أن يستغفروه؛ ليكفروا عن سيئاتهم.
} فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ
آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً... {
(/203)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
ونعرف أن " قضى " تأتي بمعان متعددة، والعمدة في هذه المعاني فصل الأمر
بالحكمة، قد يُفصل الأمر بحكمة لأنه فرغ منه أداء { فَإِذَا قَضَيْتُمْ } أي إذا
فرغتم من مناسككم، هذه واحدة. وقد يكون لأنك فصلت الأمر بخبر يقين مثل قوله الحق:{
وَقَضَىا رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ }[الإسراء: 23]
وقد يكون " قضى " بمعنى حكم حكما لازماً كما تقول: قضى القاضي. إذن
فكلها تدور حول معنى: فصل بحكمة. { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُواْ اللَّهَ }. أي إذا فرغتم من مناسككم، والمناسك هي الأماكن لعبادة ما،
فعرفات مكان للموقف، و " مزدلفة " مكان للمشعر الحرام يبيت فيه الحجاج.
و " منى " منسك للمبيت أيضا، إذن كل مكان فيه عبادة يُسمى " منسكا
".
وقوله سبحانه: { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } أي فلا يزال ذكر الله دائما وارداً في
الآيات، كأنك حين توفق إلى أداء شيء إياك أن تغتر، بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم
وفقك وأعانك. وكأن الحق يريد أن يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان
فقديماً كانوا يحجون، فإذا ما اجتمعت القبائل في منى، كانت كل قبيلة تقف بشاعرها
أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثر آبائه، وما كان لهم من مفاخر في الجاهلية ويحملون
الديات، ويحملون الحمالات، ويطعمون الطعام، ويفعلون غير ذلك من العادات، فأراد
الله سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالآباء وبأعمالهم
فقال: { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } والذكر معناه توجيه الفكر
إلى شيء غير موجود ساعة تأتي به، ولا يمكن أن يذكر الإنسان من أحداث الماضي إلا
الحدث الذي له الأثر النافع فيه، وعلى مقدار الأثر النافع يكون الذكر.
وكانوا قديماً يطعمون الطعام، والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلاد
البُدائية ـ أي البدوية ـ وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي
مثلاً كانت له جفنة يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بها ساعة
الهجير. والجفنة هي الوعاء الذي يوضع فيه الطعام، فتأمل الجفنة كيف تكون؟!
ويحملون الحمالات، بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقاً كثيراً
يتطوع منهم ذو الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الآثار في
ماله. والديات هي التي يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلاً، ولا
يقدر على أن يعطي ديته، وكانت كل تلك الأعمال هي المفاخر.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته، فقال لهم: أنتم تذكرون
آباءكم؛ لأنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وآباؤكم يفتخرون بآبائهم، انقلوها وسلسلوها
إلى خالق كل الآباء وكل البشر، فكل ما يجري من خير على يد الآباء مرده إلى الله،
فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير، فاذكروا من أمدهم بذلك الخير.
وهو يريد منهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لأن كل كائن إنما يستحق
من الذكر على مقدار ما قدم من الخير، ولن تجد كل الخير إلا لله، إذن لابد أن نذكر
الله.
وأيضاً فإن الإسلام أراد أن ينهي التفاخر بالآباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس
المؤمن، أي فخراً من عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال
هؤلاء الذين يفخرون بأسلافهم إنهم: " عظاميون " أي منسوبون إلى مجد صنعه
من صاروا عظاما تضمها القبور، والله يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا، أي أن نفخر
بما نفعل نحن، لا بما فعل آباؤنا، فالآباء أفضوا إلى ما قدموا، ويريد الله أن يأخذ
الإنسان ذاتية إيمانية تكليفية. ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه ولذلك يقول
الشاعر:ولا تـكـونـوا عظـامـيـين مـفـخـرة مـاضـيـهـم عـامـر فـي حـاضر خـربلا
يـنـفع الحسـب المـوروث مـن قـدم إلا ذوي هـمـة غـاروا عـلـى الحـسـبوالعـود مـن
مـثمـر إن لـم يلـد ثمـراً عَـدّوه مـهـمـا سَـمَـا أصـلاً مـن الحطبفالنبات الذي
ليس له ثمرة، يعتبره الناس مجرد حطب،ويريد الحق أن ينبه في المؤمن ذاتية تفعل،
وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان، بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر به:لـيـس
الفـتـى مـن يـقـول كان أبي إن الفـتـى مـن يـقـول هـأنـذاوعندما كان العرب يتفاخر
بعضهم على بعض يقول أحدهم للآخر: يا أخي أنت تفتخر عليّ بماذا؟
فيرد عليه الثاني: أفتخر عليك بآبائي وأجدادي.
فيرد الأول: اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك، ومجد آبائي بدأ بي، ولماذا لا أجعل
لآبائي الفخر بأنهم أنجبوني؟
وفي ذلك يقول أحدهم:قـالـوا أبـو الصقر من شيبان قلت لهم كـلا لعـمـري ولـكـن مـنه
شـيـبانُوكـم أبٍ قـد عـلا بـابـن ذُرَا شَرَفٍ كـمـا عَـلـتْ بـرسـول الله
عـدنـانُوما دام القوم يفتخرون بحي منهم، فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا
شيئا باقياً ومؤثراً في الوجود، وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم
الطعام، ويحمل الحمالات ويؤدي الديات، وإنما يكون بحمل رسالة الإنسانية العالمية.
} فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً {. لأن
ذكركم الله سيصلكم بالمدد منه، ويعطيكم المعونة لتكونوا أهلا لقيادة حركة الحياة
في الأرض، فتوطدوا فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل، وهذا هو ما يجب أن يكون
مجالا للفخر.
وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن الإنسان إذا ما قضى المناسك كان أهلا لأن
يضرع إلى الله، ويسأل الله بما يحب أن يسأله، والسؤال لله يختلف باختلاف همة
السائلين، وكانوا لا يسألون الله إلا قائلين: يا رب أعطني إبلاً، يا رب أعطني
غنماً، يا رب أعطني بقراً، ويا رب أعطني حائطاً ـ أي بستاناً ـ، يا رب كما أعطيت
أبي أعطني.
ولم يكن في بالهم إلا الأمور المادية، وأراد الله أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة لله،
وأن يُصَعِّدُوها إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع، ومن هنا تأتي المزية الإيمانية، فإذا
كنتم ستسألون الله متاعا من متاع الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟
ذلك ما نفهمه من قول الله عز وجل في ختام هذه الآية: } فَمِنَ النَّاسِ مَن
يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ {.
فالعبد حين يؤدي مناسكه لله يجد نفسه أهلا لأن يسأل الله، وما دمت قد وجدت نفسك
أهلا لأن تسأل الله فاسأل الله بخير باق؛ لأن الإنسان إنما يُصَعدُ حاجته إلى
المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش، وقد
تذهب لآخر أغنى من الأول فتقول له: أعطني جنيها، ولثالث: تطلب منه عشر جنيهات، إنك
تطلب على قدر همة كل منهم في الإجابة على سؤالك.
إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال لله فليُصَعِّدُوا مسألتهم لله
وليطلبوا منه النافع أبداً، ولا ينحطوا بالسؤال إلى الأمور الدنيوية الفانية
البحتة. } فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ
فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ { إن العبد قد لا يريد من دعائه لله إلا الدنيا، ولا
حظ ولا نصيب له في الآخرة، ومثل هذا الإنسان يكون ساقط الهمة؛ لأنه طلب شيئاً في
الدنيا الفانية، ويريد الله أن نُصَعِّد همتنا الإيمانية. ولذلك يتبعها بقوله
الحق: } وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
(/204)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
ولماذا لم ننس الدنيا هنا؟ لأنها هي المزرعة للآخرة. وقوله سبحانه: { آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً } اختلف فيها العلماء؛ بعضهم ضيقها وقال: إن حسنة الدنيا هي
المرأة الصالحة. وقال عن حسنة الآخرة إنها الجنة. ومنهم من قال: إن حسنة الدنيا هي
العلم؛ لأن عليه يُبْنَي العمل، وفي حسنة الآخرة قال: إنها المغفرة؛ لأنها أم
المطالب.
ومن استعراض أقوال العلماء نجدهم يتفقون على أن حسنة الآخرة هي ما يؤدي إلى الجنة
مغفرة ورحمة، لكنهم اختلفوا في حسنة الدنيا. أقول: لماذا لا نجعل حسنة الدنيا أعم وأشمل
فنقول: يا رب أعطنا كل ما يُحَسِّنُ الدنيا عندك لعبدك.
ويذيل الحق هذه الآية بقول: { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وسبحانه وتعالى حين
يَمْتَنُّ على عباده يمتن عليهم بأن زحزحهم عن النار وأدخلهم الجنة، كأن مجرد
الزحزحة عن النار نعيم، فإذا ما أدخل الجنة بعد الزحزحة عن النار فكأنه أنعم على
الإنسان بنعمتين؛ لأنه سبحانه قال:{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم: 71]
ومعناها أن كل إنسان سيرى النار إما وهو في طريقه للجنة، فيقول: الحمد لله،
الإيمان أنجاني من هذه النار وعذابها. فهو عندما يرى النار وبشاعة منظرها يحمد
الله على نعمة الإسلام. التي أنجته من النار. فإذا ما دخل الجنة ورأى نعيمها يحمد
الله مرة ثانية. وكذلك يرى النار من هو من أهل الأعراف أي لا في النار ولا في
الجنة، يقول الحق:{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ }[آل عمران: 185]
ويقول الحق من بعد ذلك: { أُولَـائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ }
(/205)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
والنصيب هو الحظ، وأما { مِّمَّا كَسَبُواْ } فنعرف من قبل أن فيه " كسب
" وفيه " اكتساب ". والاكتساب فيه افتعال، إنما الكسب هو أمر عادي،
ولذلك تجد أن الاكتساب لا يكون إلا في الشر؛ كأن الذي يفعل الشر يتكلف فيه، لكن من
يفعل الخير فذلك أمر طبيعي من الإنسان. والمقصود بـ { مِّمَّا كَسَبُواْ } هنا هو
الكسب من استيفاء أعمالهم التي فعلوها في الحج إحراماً، وتلبية. وطوافاً، وسعياً،
وذهاباً إلى " منى " ، وذهاباً إلى " عرفات " ووقوفاً بها،
وإفاضة إلى " مزدلفة " ، ورمياً للجمار. في " منى " ، وطواف
إفاضة، وكل هذا كسب للإنسان الذي نال شرف الحج.
وعندما نقرأ: { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فلنفهم أن السرعة هي أن يقل الزمن
عن الحدث، فبدلا من أن يأخذ الحدث منك ساعة، وقد تنهيه في نصف ساعة، وكل حدث له
زمن،والحدث حين يكون له زمن وتريد أن تقلل زمن الحدث فلابد أن تسرع فيه حتى تنجزه
في أقل وقت. وتقليل الزمن يقتضي سرعة الحركة في الفعل، وذلك في الأفعال العلاجية
التي تحتاج مُعَالجة، وعملاً من الإنسان، لكن سبحانه يفعل بـ " كُن "
ولا يحتاج عمله إلى علاج، وبالتالي لا يحتاج إلى زمن، إذن فهو سريع الحساب؛ لأنه
لا يحتاج إلى زمن، ولأنه لا يشغله شأن عن شأن، وهذا هو الفرق بين قدرة الواحد
سبحانه وقدرة الحادث؛ لأن الحادث عندما يؤدي عملاً، فهذا العمل يشغله عن غيره من
الأعمال، فلا يستطيع أن يؤدي عمليتين في وقت واحد، لكن الواحد الأحد لا يشغله فعل
عن فعل، وبالتالي يفعل ما يريد وقتما يريد ولكل من يريد.
ولذلك سُئل الإمام علي بن أبي طالب: كيف يحاسب الله الخلائق جميعاً في لحظة
واحدة؟. فقال: " كما يرزقهم في ساعة واحدة ". فهو سبحانه الذي يرزقهم،
وكما يرزقهم يحاسبهم. ويقول الحق من بعد ذلك: { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ... }
(/206)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
ونلاحظ أن ذكر الله أمر شائع في جميع المناسك، و { فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ }
أي في أيام التشريق. في اليوم التاسع نكون في عرفة وليلة العاشر نبيت فيها بـ
" مزدلفة " ، ثم بعد ذلك نفيض من حيث أفاض الناس، نذهب لرمي جمرة
العقبة، وبعضنا يذهب ليطوف طواف الإفاضة وينهي مناسكه، أو قد يذهب ليذبح ويتحلل
التحلل الأصغر، إن لم يكن معه امرأة، وإن طاف فهو يتحلل التحلل الأكبر. أما الأيام
المعدودات أي أيام التشريق فهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. وقد سميت بذلك نسبة
إلى الشروق، والشروق خاص بالشمس، كانوا قديماً إذا ما ذبحوا ذبائحهم سميت هذه
الأيام بأيام التشريق. وعندما نسمع قوله: { فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } نفهم
منها أنها فوق يومين.
وبعد ذلك يقول الحق: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ
وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىا }. قول الحق سبحانه وتعالى:
{ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } ثم قوله: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } يدل
على أن كلمة " أيام " تطلق على الجمع وهو الأكثر من يومين، أي ثلاثة
أيام، لكن الحق سبحانه وتعالى جعل للقيام بيومين حكم القيام بالثلاثة، فإن تعجلت
في يومين فلا إثم عليك ومن قضى ثلاثة أيام فلا إثم عليه كيف يكون ذلك؟.
لأن المسألة ليست زمناً، ولكنها استحضار نية تعبدية، فقد تجلس ثلاثة أيام وأنت غير
مستحضر النية التعبدية؛ لذلك قال سبحانه: { لِمَنِ اتَّقَىا } ، فإياك أن تقارن
الأفعال بزمنها، وإنما هي بإخلاص النية والتقوى فيها.
ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }. وقد جاء سبحانه وتعالى بكلمة { تُحْشَرُونَ } لتتناسب
زحمة الحج؛ لأنه كما حشركم هذا الحشر وأنتم لكم اختيار، هو سبحانه القادر أن
يحشركم وليس لكم اختيار. فإذا كنت قد ذهبت باختيارك إلى هذا الحشر البشري الكبير
في الحج فاعرف أن الذي كلفك بأن تذهب باختيارك لتشارك في هذا الاجتماع الحشد هو
القادر على أن يأتي بك وقد سلب منك الاختيار. ويقول الحق من بعد ذلك: { وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ
عَلَىا مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
(/207)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية، وهذه القضية الوجودية هي أن
كل عمل له ظاهر وله باطن. ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن،
فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن. فمن مصلحة الإنسان أن ينتمي هو والناس
جميعاً إلى عالم يعرف فيه كل إنسان أن هناك إلهاً حكيماً يعرف كل شيء عنا جميعاً.
فإذا كان عندك شيء لا أعلمه، وأنا عندي شيء أنت لا تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك
فمن ضروريات حياتنا أن نؤمن معا بإله يطلع على سرائرنا جميعاً، وهذا ما يجعلنا
نلزم الأدب. ولذلك قيل: " إن عَمّيْتَ على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء
السماء ".
إذن فقضاء السماء وعلم الله بالغيب مسألة يجب أن نحمده عليها، لأنه هو الذي سيحمي
كل واحد منا من غيره. وعندما ستر الله غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها؛ لأن
النفوس متقلبة. فلو علمت ما في نفسي عليك في لحظة قد لا يسرك.. وقد لا تنساه أبداً
ويظل رأيك فيَّ سيئاً، لكن الظنون والآراء تمر عندي وعندك وتنتهي. ولو اطلع كل منا
على غيب الآخر لكانت الحياة مرهقة، والقول المأثور يذكر ذلك: " لو تكاشفتم ما
تدافنتم ".
إذن فمن رحمة الله ومن أكبر نعمه على خلقه أن ستر غيب خلقه عن خلقه. والحق يحذرنا
ممن قال فيهم: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا } أي الذين يظهرون من خير خلاف ما يبطنون من شر، ولذلك صور الشاعر هذه
المسألة فقال:عـلى الـذم بـتنـا مجـمـعـين وحـالنـا مـن الخـوف حـال المجـمـعين
على الحمدأي لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذماً، إنما كلنا مداحون حين يلقى بعضنا بعضا كل
يقول بلسانه ما ليس في قلبه. و " يعجبك قوله " فهل الممنوع أن يعجبك
القول؟ لا، يعجبني القول ولكن في غير الحياة الدنيا، فالقول الذي يعجب هو ما يتعلق
بأمر الحياة الآخرة الباقية ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير.
وكفى بالذي يسمع من مادح له مدحاً، والمادح نفسه يضمر في قلبه كرهاً له، وكفى بذلك
شهادة تغفيل للممدوح، بأنه يقول بينه وبين نفسه: " إن الممدوح غبي؛ لأني
أمدحه وهو مصدق مدحي له ". إن الله سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون
المسلم يقظا وفطناً، ومن يقول لنا كلاماً يعجبنا في الحياة نتهمه بأن كلامه ليس
حسنا؛ لأن خير الكلام هو ما يكون في الأمر الباقي.
ولذلك عندما أرسل خليفةُ المسلمين للإمام جعفر الصادق يقول له: ـ لماذا لا تغشانا
ـ أي لا تزورنا ـ كما يغشانا الناس؟ فكتب الإمام جعفر الصادق للخليفة يقول: أما
بعد فليس عندي من الدنيا ما أخاف عليه، وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له.
وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا؛ أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك، وأنت لا
تعلم أن أول أناس لهم رأي سيء فيك هم من يمدحونك.
} وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا { وهذه
الآية نزلت في الأخنس ابن شريق الثقفي واسمه أبيّ ولقب بالأخنس لأنه خنس ورجع يوم
بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم بأن العير قد نجت من المسلمين وعادت
إليهم، وكان ساعة يقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر إسلامه ويلين القول
للرسول ويدعي أنه يحبه، ولكنه بعد أن خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مر
بزرع وحُمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر. والآية وإن نزلت في الأخنس
فهي تشمل كل مُنافق.
} وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ { لا
تقولوا: " الله يشهد " ، وإنما هاتوا شهداءكم ليشهدوا على صدق قولكم؛
لأن معنى " الله يشهد " هو إخبار منك بأن الله يشهد لك. وأنت كاذب في
هذه، وتريد أن تضفي المصداقية على كذبك بإقحام الله في المسألة.
وساعة تسمع واحداً يقول لك: أُشْهِدُ الله على أني كذَا، فقل له: هذا إخبار منك بأن
الله يشهد، وأنت قد تكذب في هذا الخبر، أنا أفضل أن يشهد اثنان من البشر ولا نقحم
الله في هذه الشهادة. } وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ { وألد الخصام هو الفاسق في معصيته، ويقال: فلان عنده لدد أي
فسق في خصومته، ويجادل بالباطل. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن
أبغض الرجال إلى الله هو الألد الخصم ".
يعني المجادل بالباطل الذي عنده قسوة في المعصية، فهو عاصٍ وفي الوقت نفسه قاس في
معصيته. ولماذا هو ألد الخصام؟ لأن الذي يجابهك بالأمر يجعلك تحتاط له، أما الذي
يقابلك بنفاق فهو الذي يريد أن يخدعك، وهذا عنف في الخصومة فالخصم الواضح أفضل
لأنه يواجهك بما في باطنه، لكن إذا جابهت الذي يبطن خصومته ويظهر محبته يكون
قاسياً عليك في خصومته؛ لأنه يريد أن يخدعك ويُبَيّتُ لك.
} وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا { و } تَوَلَّىا {:
انصرف أي يقول لك ما يعجبك، فإذا تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان
يخفيه، ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئاً آخر، من الولاية، ففيه } تَوَلَّىا { من
التولي وهو الانصراف والإعراض، وفيه } تَوَلَّىا { من الولاية.
} وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ { كانت الأرض بدون تدخل البشر مخلوقة على هيئة الصلاح، والفساد أمر
طارئ من البشر.
ونعرف أن الفساد لم يطرأ على أي أمر إلا وللإنسان فيه دخل.
لماذا اشتكينا أزمة قوت ولم نشتك أزمة هواء؟ لأن الهواء لا تدخل للإنسان فيه،
وبمقدار تدخل الإنسان يكون الفساد. لقد تدخلنا قليلاً في المياه فجاء في ذلك فساد،
فلم نحسن نقلها في مواسير جيدة فوصلت لنا ملوثة، أو زاد عليها الكلور أو نقص.
وبقدر ما يكون التدخل يكون الإفساد، أما في الزمن القديم فقد كان الإنسان يذهب إلى
مصدر الماء المباشر في الآبار ويأخذ الماء الطبيعي الذي خلقه الله بلا تدخل من
الإنسان ولم يكن تلوث أو غيره.
إذن على مقدار وجود الإنسان في حركة الحياة غير المُرشّدة بالإيمان بالله ينشأ
الفساد، ولذلك كان لابد له من منهج سماوي للإنسان. والكائنات غير الإنسان ليس لها
منهج وهي مخلوقة بالغريزة وتؤدي مهمتها فقط؛ فالدابة لم تمتنع يوماً عن ركوبك
عليها، ولم تمتنع أن تحمل عليها أثقالك، أو تستعين بها في الحرث، أو الري، حتى
عندما تذبحها لا تمتنع عليك، لماذا؟ لأنها مخلوقة بالغريزة التي تؤدي بها الحركة
النافعة بدون اختيار منها. وإذا امتنعت في وقت فإنما يكون ذلك لأمر طارئ كمرض
مثلا.
لكن الذي له اختيار لابد أن يكون له منهج يقول له: افعل هذا ولا تفعل تلك. فإن
استقام مع المنهج في " افعل " و " لا تفعل " سارت حياته بشكل
متوازن، لكن إذا لم يستقم تفسد الحياة. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: } وَإِذَا
تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا { ، كأن الإفساد هو الذي يحتاج
إلى عمل، اترك الطبيعة والمخلوقات كما هي تجدها تعمل في انضباط وكمال على ما يرام.
إذن فالفساد طارئ من الإنسان الذي يحيا بلا منهج لأنه } وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا
فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا { فكأن الأصل في الأرض وما فيها جاء على هيئة
الصلاح، فإن لم تزد الصالح صلاحاً فلا تحاول أن تفسده. قال تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }[البقرة: 11-12]
ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الأرض تحتاج إلى حركتهم لإصلاحها، برغم أن الأرض بدون
حركتهم صالحة؛ لأنهم لا يتحركون بمنهج الله.
إذن هذه الآية نفهم منها أن الإنسان إذا } تَوَلَّىا { بمعنى رجع أو تولى ولاية
سعى في الأرض ليفسد فيها؛ فكأن الفساد في الأرض أمر طارئ وينتج من سعي الإنسان على
غير منهج من الله. وما دام للإنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك
الاختيار، فإن لم يكن له منهج وسار على هواه فهو مفسد لا محالة.
وانظر إلى غباء الذي يفسد في الأرض، هل يظن أنه هو وحده الذي سيستفيد في الأرض،
فأباح لنفسه أن يفسد في الأرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة، فكما يفسد لغيره، فغيره
يُفسد له، فمن الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن.
} وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ... { [البقرة: 205]
والحرث له معنيان: فمرة يُطلق على الزرع، ومرة يُطلق على النساء، المعنى الأول ورد
في قوله تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ }[الأنبياء: 78]
فالحرث في الآية معناه: الزرع، والزرع ناتج عن إثارة الأرض وإهاجتها. وعملك يا
أيها الإنسان أن تهيج الأرض وتثيرها، وتأتي بالبذر الذي خلقه الله في الأرض التي
خلقها الله، وتسقيها بالماء الذي خلقه الله، وتكبر في الهواء الذي خلقه الله،
ولذلك يلفتنا وينبهنا الحق ـ سبحانه ـ فيقول:{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *
أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }[الواقعة: 63-64]
والمعنى الثاني: يُطلق الحرث على المرأة في قوله تعالى:{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ
لَّكُمْ }[البقرة: 223]
وإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الأولاد. ويقول سبحانه
وتعالى:{ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىا شِئْتُمْ }[البقرة: 223]
وأراد المتحللون الإباحيون أن يُطلقوا إتيان المرأة في جميع جسدها، نقول لهم:
لاحظوا قوله: " حرثكم " والحرث محل الإنبات، فالإتيان يكون في محل
الإنبات فقط، لا تفهمها تعميماً وإنما هي تخصيص. ويتابع الحق وصف الذي يقول القول
الحسن، ولكنه يسعى في الأرض بالفساد فيقول: } وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ {.
والنسل هو الأنجال والذرية.
ويذيل الحق الآية: } وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ { أي أن الحق يريد منكم إن
لم تدخلوا بطاقة الله التي خلقها لكم فكراً وعطاء، فعلى الأقل اتركوا المسألة كما
خلقها الله؛ لأن الله لا يحب أن تفسدوا فيما خلقه صالحاً في ذاته.
وما سبق في هذه الآية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة الإسلامية في أول عهدها،
من الذين كانوا ينافقون واقعها القوي، فيأتون بأقوال تُعجب، وبأفعال تُعجب من
ينافق. ونعرف أن النفاق كان دليلا على قوة المسلمين، ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة،
وإنما نشأ في المدينة. فقد قال الحق:{ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى
النِّفَاقِ }[التوبة: 101]
وربما يتساءل إنسان: وكيف تظهر هذه الظاهرة في البيئة الإيمانية القوية في
المدينة؟ ونقول: لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً، والضعيف لا ينافقه أحد، والإسلام
في المدينة أصبح قوياً، والقوي هو الذي ينافقه الناس.
إذن فوجود النفاق في المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن الإيمان أصبح قويا بحيث
يدعيه مَنْ ليس عنده إسلام. وهؤلاء كانوا يقولون قولاً حسناً جميلاً، وقد يفعلون
أمام من ينافقونه فعلاً يُعجب مَنْ يراهم أو يسمعهم، ولكنهم لا يثبتون على الحق،
فإذا ما تولوا، أي اختفوا عن أنظار مَنْ ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفري، أو إذا
ائتمنوا على شيء فهم يسعون في الأرض فساداً.
والآية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين، إن الآية فضحت مَنْ نافق وكان
الأخنس عمدة في النفاق، وفضيحة المنافق بهذه الصورة، تدل على أن وراء محمد صلى
الله عليه وسلم ووراء المؤمنين بمحمد، ربَّاً يخبرهم بمَنْ يدلس عليهم، وأيضاً
ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل قول الحق: } وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ
اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ... {
(/208)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
ولا يقال له اتق الله إلا إذا كان قد عرف أنه منافق، وماداموا قد قالوا له ذلك
فهذا دليل على أن فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق. ونفهم من هذه الآية أن المؤمن
كَيِّس فطن، ولابد أن ينظر إلى الأشياء بمعيار اليقظة العقلية، ولا يدع نفسه لمجرد
الصفاء الرباني ليعطيه القضية، بل يريد الله أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } فكأن المظهر الذي يقول أو يفعل به، وينافي
التقوى؛ لأنه قول معجب لا ينسجم مع باطن غير معجب، صحيح أنه يصلي في الصف الأول،
ويتحمس لقضايا الدين، ويقول القول الجميل الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم
ويعجب المؤمنين، لكنه سلوك وقول صادر عن نية فاسدة. ومعنى " اتق الله "
أي ليكن ظاهرك موافقاً لباطنك، فلا يكفي أن تقول قولاً يُعجب، ولا يكفي أن تفعل
فعلاً يروق الغير؛ لأن الله يحب أن يكون القول منسجماً مع الفعل، وأن يكون فعل
الجوارح منسجماً مع نيات القلب.
إذن، فالمؤمن لابد وأن تكون عنده فطنة، وذكاء، وألْمعِيَّة، ويرى تصرفات المقابل،
فلا يأخذ بظاهر الأمر. ولا بمعسول القول ولا بالفعل، إن لم يصادف فيه انسجام فعل
مع انسجام نية. ولا يكتفي بأن يعرف ذلك وإنما لابد أن يقول للمنافق حقيقة ما يراه
حتى يقصر على المنافق أمد النفاق، لأنه عندما يقول له: " اتق الله "
يفهم المنافق أن نفاقه قد انكشف، ولعله بعد ذلك يرتدع عن النفاق، وفي ذلك رحمة من
المؤمن بالمنافق. وكل مَنْ يرى ويلمح بذكائه نفاقاً من أحد هنا يقول له: "
اتق الله " فالمراد أن يفضح نفاقه ويقول له: " اتق الله ". فإذا
قال له واحد: " اتق الله " وقال له آخر: " اتق الله " ،
وثالث، ورابع، فسيعرف تماما أن نفاقه قد انكشف، ولم يعد كلامه يعجب الناس.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } ، وتقييد
العزة بالإثم هنا يفيد أن العزة قد تكون بغير إثم، ومادام الله قد قال: {
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } ، فهناك إذن عزة بغير إثم. نعم، لأن العزة
مطلوبة للمؤمن والله عز وجل حكم بالعزة لنفسه وللرسول وللمؤمنين:{ ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين }[المنافقون: 8]
وهذه عزة بالحق وليست بالإثم. وما الفرق بين العزة بالحق وبين العزة بالإثم؟
ولنستعرض القرآن الكريم لنعرف الفرق. ألم يقل سحرة فرعون: فيما حكاه الله عنهم:{
بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ }[الشعراء: 44]
هذه عزة بالإثم والكذب. وكذلك قوله تعالى:{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ
وَشِقَاقٍ }[ص: 2]
وهي عزة كاذبة أيضا أما قوله عز وجل:
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }[الصافات: 180]
فتلك هي العزة الحقيقة، إذن فالعزة هي القوة التي تَغْلِبُ، ولا يَغْلِبها أحد.
أما العزة بالإثم فهي أنفة الكبرياء المقرونة بالذنب والمعصية. والحق سبحانه
وتعالى يقول لكل من يريد هذا اللون من العزة بالإثم: إن كانت عندك عزة فلن يقوى
عليك أحد، ولكن يا سحرة فرعون يا من قلتم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، أنتم الذي
خررتم سجداً لموسى وقلتم:{ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ
مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 47-48]
ولم تنفعكم عزة فرعون؛ لأنها عزة بالإثم، لقد جاءت العزة بالحق فغلبت العزة
بالإثم. لذلك يبين لنا الحق سبحانه وتعالى أن العزة حتى لا تكون بالإثم، يجب أن
تكون على الكافر بالله، وتكون ذلة على المؤمن بالله.{ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }[المائدة: 54]
وكذلك قوله الحق:{ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح:
29]
وهذا دليل العزة بالحق، وعلامتها أنها ساعة تغلب تكون في منتهى الانكسار، ولنا
القدوة في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرج من مكة لأنه لم يستطع
أن يحمي الضعفاء من المؤمنين، وبعد ذلك يعود إلى مكة فاتحاً بنصر الله، ويدخل مكة
ورأسه ينحني من التواضع لله حتى يكاد أن يمس قربوس سرج دابته، تلك هي القوة، وهي
على عكس العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى، إنما العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى،
إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع.
} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ { أي أن
الأنفة والكبرياء مقرونة بالإثم، والإثم هو المخالف للمأمور به من الحق سبحانه
وتعالى، } فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {. أي عزة هذه التي تقود في
النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة، ولكنها ذلة، فلا خير في عمل بعده النار، ولا شر
في عمل بعده الجنة. فإن أردت أن تكون عزيزاً فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟
} فَحَسْبُهُ { أي يكفيه هذا فضيحة لعزته بالإثم، وأما كلمة " مهاد "
فمعناها شيء ممهد ومُوطأ، أي مريح في الجلوس والسير والإقامة. ولذلك يسمون فراش
الطفل المهد. وهل المهاد بهذه الصورة يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماماً؛ لأن الذي
يجلس في المهاد لا إرادة له في أن يخرج منه، كالطفل فلا قوة له في أن يغادر فراشه.
إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه. فإن كان المهاد بهذه الصورة في النار فهو
بئس المهاد. هذا لون من الناس وفي المقابل يعطينا ـ سبحانه ـ لوناً آخر من الناس
فيقول سبحانه: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ... {
(/209)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة " يشري " يجب أن نلاحظ أنها من
الأفعال التي تستخدم في الشيء ومقابله، فـ " شرى " يعني أيضا " باع
". إذن، كلمة " شرى " لها معنيان، واقرأ إن شئت في سورة يوسف قوله
تعالى:{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ }[يوسف: 20]
أي باعوه بثمن رخيص. وتأتي أيضا بمعنى اشترى، فالشاعر العربي القديم عنترة ابن
شداد يقول:فخاض غمارها وشرى وباعا .إذن " شرى " لغة، تُستعمل في معنيين:
إما أن تكون بمعنى " باع " ، وإما أن تكون بمعنى " اشترى " ،
والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منهم فقول عنترة: " شرى
وباع " نفهم أن المقصود من " شري " هنا هو " اشترى " ،
لأنها مقابل " باع " ، وقوله تعالى:{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ
}[يوسف: 20]
يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه. وهذا من عظمة اللغة العربية، إنها لغة تريد أناساً
يستقبلون اللفظ بعقل، ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } ونفهم " يشري " هنا بمعنى
يبيع نفسه، والذي يبيع نفسه هو الذي يفقدها بمقابل. والإنسان عندما يفقد نفسه فهو
يضحي بها، وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهي الشهادة في سبيله عز وجل،
كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله. ومثل ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَىا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ }[التوبة: 111]
إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم. إذن فقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } يعني باع نفسه وأخذ الجنة
مقابلاً لها، هذا إذا كان معنى " يشري " هو باع.
وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى
بكل شيء في سبيل أن تسلم نفسه الإيمانية. ومن العجب أن هذه الآية قيل في سبب
نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين، معنى " باع " ومعنى " اشترى
" فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن سنان الرومي كان في مكة، وقد كبر سنه،
وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا
وأنت الآن ذو مال كثير، وتريد أن تهاجر بمالك.
فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟
فقالوا: نعم.
قال: تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟
قالوا: لك هذا.
إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته، فلما ذهب إلى المدينة
لقيه أبو بكر وعمر فقالا له: ربح البيع يا أبا يحيى.
قال: وأربح الله كل تجارتكم.
وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن
جبريل أخبره بقصتك، ويروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ربح البيع أبا
يحيى.
إذن معنى الآية وفق هذه القصة: أنه اشترى نفسه بماله، وسياق الآية يتفق مع المعنى
نفسه. وهذه من فوائد الأداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين.
ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى، ففي غزوة بدر، وهي أول غزوة في
الإسلام، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة، وتمكن
المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد، وأسروا منهم كثيرين أيضا، وكان مِمَّنْ قتلوا
في هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذي قتله هو
صحابي اسمه خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي، وهو من قبيل الأوس بالمدينة، وبعد ذلك
مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله،
إننا قد أسلمنا، ونريد أن ترسل إلينا قوما ليعلمونا الإسلام. فأرسل لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة
فقتلوهم إلا خبيب بن عدي، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة،
لكن خبيباً وقع في الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة الحارث في
غزوة بدر، فباعوه لابن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه
حياً، فلما تركه مصلوباً على الخشبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
المدينة: من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟
قال الزبير: أنا يا رسول الله.
وقال المقداد: وأنا معه يا رسول الله.
فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه،
فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه، فلما أفاق القوم لم
يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه، فرآهم الزبير، فألقى خبيباً
على الأرض، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض. وبعد ذلك التفت إليهم
ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها وقال: أنا الزبير بن العوام، أمي صفية بنت عبد
المطلب، وصاحبي المقداد، فإن شئتم فاضلتكم ـ يعني يفاخر كل منا بنفسه ـ وإن شئتم
نازلتكم ـ يعني قاتلتكم ـ وإن شئتم فانصرفوا، فقالوا: ننصرف، وانصرفوا، فلما ذهب
الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التي صار إليها
خبيب.
إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة. وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبي يحيى
صهيب بن سنان الرومي تكون " شرى " بمعنى اشترى، وإن ذهبت بسبب النزول
إلى خبيب فتكون بمعنى: باع.
وهكذا نجد أن اللفظ الواحد في القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع.
وخبيب بن عدي هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذي اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله
مقابل أبيه، قالت: والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفا من العنب كرأس الإنسان! ووالله
ما في مكة حائط ـ بستان ـ ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له.
ولما جاءوا ليقتلوه قال: أنظروني أصلِّ ركعتين. فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال:
والله لولا أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلاة لكي نبطئ بقتله لزدت. وقال قبل
أن يقتلوه: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم هتف
وقال:ولسـت أبالـي حـين أقـتل مسـلماً عـلى أي جـنـب كـان فـي الله مصـرعـيوكان
ذلك آخر ما قاله.
ويقول الحق: } وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ { وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف
بالعباد؟ مادام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً في كل
مسلم، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية، لأنه لا يريد أن يضحي كل
المسلمين بأنفسهم، وإنما يريد أن يستبقي منا أناساً يحملون الدعوة.
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفراً ونفاقاً،
ومَنْ يقابلهم ممن يستقبلونها إيماناً خالصاً، نادى جميع المؤمنين فقال: }
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ
تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {
(/210)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
تبدأ الآية بنداء الذين آمنوا بالله وكأنه يقول لهم: يا مَنْ آمنتم بي استمعوا
لحديثي. فلم يكلف الله من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به، وماداموا
قد أحبوا الله فلابد أن يتجه كل مؤمن إلى من يحبه؛ لأن الله لن يعطيه إلا ما
يسعده.
إذن فالتكليف من الله إسعادٌ لمن أحب، { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ
فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } ، وكلمة " في " تُفيد الظرفية، ومعنى الظرفية
أن شيئا يحتوي شيئا، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول: " الماء في
الكوب " ، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول: " المصلون في المسجد
".
والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف، ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فلا
جهة يفلت منها المظروف من الظرف. ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من
مسألة الظرفية عندما يقول:{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه: 71]
إن الصلب دائماً يكون على شيء، وتشاء الآية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون
الصلب متمكناً من المصلوب. فأنت إذا أردت أن تصلب شيئاً على شيء فأنت تربطه على
المصلوب عليه، فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه.
ومثال ذلك، هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطا جيداً، ستلاحظ أن
العود قد غاص في جلدك. والحق يقول: { ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً }
والسِّلْم والسَّلْمُ والسَّلَم هو الإسلام، فالمادة كلها واحدة؛ لأن السلم ضد
الحرب، والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح
الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون، وفي سلام مع الناس. وفي سلام مع
نفسك.
قوله: { ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ } معناه حتى يكتنفكم السلم. إن الله هو الإله
الخالق للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه؛ لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً.
فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام؛ لأن الكون الخاضع المقهور
المسخر الذي لا يملك أن يخرج عما رُسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك.
والإنسان حين يكون طائعاً يُسَرّ به كل شيء في الوجود؛ لأن الوجود طائع ومُسبِّح،
فساعة يجد الإنسان مُسبِّحاً مثله يُسَرّ به لأنه في سلام مع الكون. وأنت في سلام
مع نفسك؛ لأن لك إرادة، وهذه الإرادة قَهَرَ اللهُ لها كل جوارحك، والذي تريده من
أي عضو يفعله لك، لكن هل يرضى أي عضو عمّا تأمره به؟ تلك مسألة أخرى، مثلاً، لسانك
ينفعل بإرادتك، فتقول به: " لا إله إلا الله " وقال به غيرنا من
المشركين غير ذلك، وأشركوا مع الله بشراً وغير بشر يعبدونهم وقال الملحدون
بألسنتهم والعياذ بالله: " لا إله في الكون " ولم يعص اللسان أحداً من
هؤلاء لأنه مقهور لإرادتهم.
وتنتهي إرادة الإنسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد
عليه سائر أعضائه: الأرجل، والأيدي، والعيون، والآذان، وكل عضو يقر بما كان يفعل
به، لأنه لا سيطرة للإنسان على تلك الأبعاض في هذا اليوم. إنما السيطرة كلها
للخالق الأعلى.
} لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {. والحق حين ينادي
المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة فالمعنى يحتمل أيضا أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب
المسلمين ألا يأخذوا بعضاً من الدين، ويتركوا البعض الآخر، فيقول لهم: خذوا
الإسلام كُله وطبقوه كاملاً؛ لأن الإسلام يمثل بناء له أسس معلومة، وقواعد واضحة،
فلا يحاول أحد أن يأخذ شيئاً من حكم بعيداً عن حكم آخر، وإلا لحدث الخلل.
وعلى سبيل المثال قد تجد خلافاً بين الزوج والزوجة، وقد يؤدي الخلاف إلى معارك
وطلاق، وبعد ذلك نجد من يتهم الإسلام بأنه أعطى الرجل سيفاً مسلطاً على المرأة.
ونقول لهم: ولماذا تتهمون الإسلام؟ هل دَخَلْتَ على الزواج بمنطق الإسلام؟. إن كنت
قد دخلت على الزواج بمنطق الإسلام فستجد القواعد المنظمة والتي تحفظ للمرأة
كرامتها، ولكن هناك مَنْ يدخل على الزواج بغير منطق الإسلام، فلما وقع في الأزمة
راح ينادي الإسلام. هل اختار الرجل مَنْ تشاركه حياته بمقياس الدين؟ وهل وضع نُصب
عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث الشريف:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تنكح
المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك
".
هل فضّل الرجل ذات الدين على سواها؟ أم فضل مقياساً آخر؟. وعندما جاء رجل ليخطب
ابنة من أبيها هل وضع الأب مقاييس الإسلام في الاعتبار عند موافقته على هذا
الزواج؟ هل فضلتم مَنْ ترضون دينه وخلُقُه؟ أم تركتم تلك القواعد. أنت تركت قواعد
الإسلام فلماذا تلوم الإسلام عند سوء النتائج والعواقب؟.
إنك إن أردت أن تحاسب فلا بد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس الإسلام، ثم تصرف بما يناسب
الإسلام. فإن كنت كذلك فالإسلام يحميك من كل شيء. فالإسلام يساند القوي في الكون
ويساند القُوَى في النفس بحيث تعيش في سلام ولا تتعاند؛ لأن كل ذلك يقابله الحرب.
والحرب إنما تنشأ من تعاند القوي، فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك، وتتعاند قوى
البشر في حرب مع البشر، وتتعاند قواك مع قوى الكون الأخرى، فأنت تعاند الطبيعة
وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى.
إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب، والحرب لا تنشأ إلا إذا اختلفت الأهواء. وأهواء
البشر لا يمكن أن تلتقي إلا عندما تكون محروسة بقيم مَنْ لا هوى له، ولذلك يقول
الله عز وجل:
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ
وَمَن فِيهِنَّ }[المؤمنون: 71]
لماذا؟. دعك من الكون الأصم حولك، أو دعك من الكون الذي لا اختيار له في أن يفعل
أو ينفعل لك؛ فهو فاعل أو منفعل لك بدون اختيار منه، ولكن انظر إلى البشر من جنسك،
فما الذي يجعل هوى إنسان يسيطر على أهواء غيره؟.
ما الذي زاده ذلك الإنسان حتى تكون أنت تابعاً له؟ أو يكون تابعاً لك؟. وفي قانون
التبعية لا يمكن إلا أن يكون التابع مؤمناً بأن المتبوع أعلى منه، ولا يمكن لبشر
أن توجد عنده هذه الفوقية أبداً. لذلك لابد للبشر جميعاً أن يكونوا تبعاً لقوة
آمنوا بأنها فوقهم جميعاً. فحين نؤمن ندخل في السلم، ولا يوجد تعاند بين أي قوى
وقوة أخرى؛ لأني لست خاضعاً لك، وأنت لست خاضعاً لي، وأنا وأنت مسلمون لقوة أعلى
مني ومنك، ويشترط في القوة التي نتبعها طائعين ألا يكون لها مصلحة فيما تشرع.
إن المشرعين من البشر يراعون مصالحهم حين يشرعون، فمشرع الشيوعية يضع تشريعه ضد
الرأسمالية، ومشرع الرأسمالية يضع تشريعه ضد الشيوعية، لكن عندما يكون المشرع غير
منتفع بما يشرع، فهذا هو تشريع الحق سبحانه وتعالى.
وحين ندخل في الإسلام ندخل جميعاً لا يشذ منا أحد، ذلك معنى } ادْخُلُواْ فِي
السِّلْمِ كَآفَّةً { ، هذا معنى وارد، وهناك معنى آخر وارد أيضا وهو ادخلوا في
السلم أي الإسلام بجميع تكاليفه بحيث لا تتركوا تكليفاً يشذ منكم.
وحين يأتي المعنى الأول فلأننا لو لم ندخل في السلم جميعاً لشقي الذين يُسلمون
بالذين لا يُسلمون؛ لأن الذي يُسلم سيهذب سلوكه بالنسبة للآخرين، ويكون نفع المسلم
لسواه، ويشقى المسلم بعد إسلام من لم يسلم، فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون جميعاً
مسلمين. والذين لا يدركون هذه الحقيقة يفسرون قول الله تعالى:{ لاَ يَضُرُّكُمْ
مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }[المائدة: 105]
على غير ظاهرها، فمن ضِمْن هدايتكم أن تُبَصّروُا من لم يؤمن بأن يؤمن؛ لأن
مصلحتكم أن تسلموا جميعاً، فإذا أسلمت أنت فسيعود إسلامك على الغير؛ لأن سلوكك
سيصبح مستقيماً مهذباً، والذي لم يسلم سيصبح سلوكه غير مستقيم وغير مهذب، وستشقى
أنت به. إذن فمن مصلحتك أن تقضي وقتاً طويلاً وتتحمل عناء كبيراً في أن تدعو غيرك
ليدخل في الإسلام. وإياك أن تقول: إن ذلك يضيع عليك فرص الحياة. لا إنه يضمن لك
فرص الحياة، ولن يضيع وقتك لأنك ستحمي نفسك من شرور غير المسلم.
وأذكر جيداً أننا حين تكلمنا في فاتحة الكتاب قلنا: إن الله يُعلمنا أن نقول: }
إياك نعبد { فكلنا يا رب نعبدك وسنسعد جميعا بذلك، واهدنا كلنا يا رب؛ لأنك إن
هديتني وحدي فسيستمتع غيري بهدايتك لي، وأنا سوف أشقى بضلاله.
فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون مهديين جميعاً.
هذا على معنى } ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً { أي جميعاً. أما معنى قوله
تعالى: } لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ { أي لا تتحملون أوزار
ضلالهم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. أما المعنى الثاني فادخلوا في
الإسلام بحيث لا يشذ منكم أحد. ويأخذ شيئا وبعضا من الإسلام ويترك بعضا منه، فأنت
تريد أن تبني حياتك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم شرح أن للإسلام أسساً هي
الأركان الخمسة، وإياك أن تأخذ ثلاثة أركان وتترك ركنين؛ لأن هندسة الإسلام مبنية
على خمسة أركان.
وقد قال لي أحد المهندسين: إننا نستطيع أن ننشئ بنياناً على ثلاثة أركان أو على
أربعة أو على خمسة. فقلت له: ولكن حين تجعل البنيان على أربعة أركان، وتوزيع
الأحمال والأثقال على أربعة أسس، هل يمكنك حين تُنشئ أن تجعلها ثلاثة أركان فقط؟.
قال: لا.
قلت: إذن فالبناء إنما ينشأ من البداية على الأسس التي تريدها، ولذلك فأنت توزع
القوى على ثلاثة أو أربعة أو خمسة من البداية. والله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل
أسس الإسلام خمسة، وبعد ذلك يُبْنَى الإسلام، وحين يبنى الإسلام فإياك أن تأخذ
لبنة من الإسلام دون لبنة، بل يُؤخذ الإسلام كله، فالضرر الواقع في العالم
الإسلامي إنما هو ناتج من التلفيقات التي تحدث في العالم المسلم. تلك التلفيقات
التي تحاول أن تأخذ بعضاً من الإسلام وتترك بعضا، وهذا هو السبب في التعب والضرر؛
لأن الإسلام لابد أن يؤخذ كله مرة واحدة. إذن } ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً
{ يعني إياكم أن تتركوا حكماً من الأحكام. إن الذي يتعب المنتسبين إلى الدين الآن
أننا نريد أن نلفق حياة إسلامية في بلاد تأخذ قوانينها من بلاد غير إسلامية.
إذن حتى ننجح في حياتنا، فلابد أن نأخذ الإسلام كله. وللأسف فإن كثيراً من حكام
البلاد المسلمة لا يأخذون من الإسلام إلا آخر قوله تعالى: } أَطِيعُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ { إنهم يأخذون } وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنْكُمْ { ويتركون } أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ {.
وأقوال: لماذا تأخذون الأخيرة وتتركون ما قبلها؟ إن الله لم يجعل لولي الأمر طاعة
مستقلة بل قال: } أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنْكُمْ { ليدل على أن طاعة ولي الأمر من باطن طاعة الله وطاعة الرسول. فنحن لا
نريد تلفيقاً في الإسلام، خذوه كاملاً، تستريحوا أنتم ونستريح نحن معكم.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد بدعوتنا إلى دخول الإسلام أن يعصم الناس من فتنة
اختلاف أهوائهم فخفف ورفع عن خلقه ما يمكن أن يختلفوا فيه، وتركهم أحراراً في أن
يزاولوا مهمة استنباط أسرار الله في وجوده بالعلم التجريبي كما يحبون، فإن أرادوا
رقياً فليُعْمِلُوا عقولهم المخلوقة لله؛ في الكون المخلوق لله، بالطاقة المخلوقة
لله؛ ليسعدوا أنفسهم ويدفعوها إلى الرقي، وإن انتهى أحد منهم إلى قضية كونية،
واكتشف سراً من الأسرار في الكون فهو لن يقدم للناس جديداً في المنهج، وسيأخذ
الناس هذا الجديد ولا يعارضونه.
إذن فمن الممكن أن يستنبط العلماء بعضاً من أسرار قضايا الكون المادية بوساطة
العلم التجريبي، وهي أمور سيتفق عليها الناس، ولكن البشر يمكن أن يختلفوا في
الأمور النابعة من أهوائهم؛ لأن لكل واحد هوى، وكل واحد يريد أن يتبع هواه ولا
يتبع هوى الآخرين، والحق سبحانه يريد أن يعصمنا من الأهواء لذلك قال لنا: }
ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً { أي ادخلوا في كل صور الإسلام، حتى لا يأتي
تناقض الأهواء في المجتمع.
وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فلا يتناقض لسانك مع ما في قلبك، فلا تكن مؤمن
اللسان كافر القلب. كن منسجماً مع نفسك حتى لا تعاني من صراع الملكات. وأيضاً كن
داخلاً في السلام مع الكون الذي تعيش فيه، مع السماء، مع الأرض، مع الحيوان، مع
النبات. كن في سلم مع كل تلك المخلوقات لأنها مخلوقة مسخرة طائعة لله، فلا تشذ أنت
لتغضبها وتُحْفِظها عليك.
كن منسجماً مع الزمن أيضاً، لأن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج الله
سيلعنك هو والمكان، وإذا أردت أن تشيع سلامك في الكون فعليك كما علمك الرسول صلى
الله عليه وسلم أن تسالم كل الكون، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشيع السلام في
الزمان والمكان، وعلى سبيل المثال كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس صياماً في
شعبان، ولما سأله الصحابة عن هذا أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لأنه بين رجب، ـ
وهو من الأشهر الحرم الأربعة ـ وبين رمضان، فأحب أن يحيى ذلك الشهر الذي يغفل عنه
الناس، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لونا
من العبادة فلا يجعله أقل من الأزمنة الأخرى.
كذلك الأمكنة تريد أن تسعد بك، فكل الأماكن تسعد بذكر الله فيها. والحق ـ سبحانه ـ
بعد أن أمرنا جميعاً بالدخول في السلم بافعل ولا تفعل، حذرنا من اتباع الشيطان
لأنه هو الذي يعمل على إبعادنا عن منهج الله فقال جل شأنه: } وَلاَ تَتَّبِعُواْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ { [البقرة: 208]
ولماذا لا نتبع خطوات الشيطان؟ لأن عداوته للإنسان عداوة مسبقة، وقف من آدم هذا
الموقف، وبعد ذلك أقسم بعزة الله أن يغويكم جميعاً، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى
قد حكى لنا القصة فكأنه أعطانا المناعة، أي أن الشيطان لم يفاجئنا. وإنما وضع الحق
أمامنا قصة الشيطان مع آدم واضحة جلية ليعطينا المناعة، بدليل أننا حين نريد أن
نصون أجسامنا نجعل لأنفسنا مناعة قبل أن يأتي المرض، نُطعم أنفسنا ضد شلل الأطفال،
وضد الكوليرا، وضد كذا، وكذا، فكأن الله سبحانه وتعالى يذكر قصة الشيطان مع أبينا
آدم ليقول لنا: لاحظوا أن عداوته مسبقة.
وما دام له معكم عداوة مسبقة فلن يأخذكم على غرة؛ لأن الله نبهكم لتلك المسألة مع
الخلق الأول. والشيطان عندما يُذكر في القرآن يراد به مرة عاصي الجن، لأن طائع
الجن مثل طائع البشر تماماً، ومرة يريد به شياطين الإنس. إذن من الجن شياطين، ومن
الإنس شياطين.
وحتى تستطيع أن تفرق بين ما يزينه الشيطان وبين ما تزينه لك نفسك، فإن رأيت نفسك
مصراً على معصية من لون واحد فاعلم أن السبب هو نفسك، لأن النفس تريدك عاصياً من
لون يشبع نقصاً فيها فهي تصر عليه: إنسان يحب المال فتتسلط عليه نفسه من جهة
المال، وإنسان آخر يحب الجنس فتتسلط عليه نفسه من جهة النساء، وثالث يحب الفخر
والمديح فتتسلط عليه نفسه من جهة مَنْ ينافقه. لكن الشيطان لا يصر على معصية
بعينها، فإن رآك قد امتنعت عن معصية فهو يزين لك معصية أخرى؛ لأنه يريدك عاصياً
على أية جهة.
والحق يحذرنا } وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُّبِينٌ {. وليس هناك عداوة أوضح من عداوة الشيطان بعد أن وقف من آدم وقال ما
أورده الحق على لسانه:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83]
ويقول الحق من بعد ذلك: } فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {
(/211)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
والزّلة هي المعصية، وهي مأخوذة من " زال " ، وزال الشيء أي خرج عن
استقامته، فكأن كل شيء له استقامة، والخروج عنه يعتبر زللا، والزلل: هو الذنوب
والمعاصي التي تُخالف بها المنهج المستقيم.
{ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } إنه سبحانه يوضح لنا أنه لا عذر
لكم مطلقا في أن تزلوا؛ لأنني بينت لكم كل شيء، ولم أترككم إلى عقولكم، ومن
المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمالا صحيحا لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم
فيه، ومع ذلك، إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل. ولذلك قال سبحانه:{ وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15]
لقد رحم الله الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للإنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج.
والحق سبحانه وتعالى يترك بعض الأشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضي
الإسلام ما جاءوا به ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعيا ومنطقيا فهو قادر على أن
يهتدي إلى الحكم بذاته. وفي تاريخ الإسلام نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح
بعضا من الاقتراحات، ووافق عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل القرآن على
وفق ما قاله عمر، وقد يتساءل أحد قائلا: ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أولى؟
نقول: لو كانت تلك الآراء قد جاءت من النبي صلى الله عليه وسلم لما كان فيها
غرابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ويوحي إليه، لكن الله يريد أن يقول
لنا: أن العقل الفطري عندما يصفو فهو يستطيع أن يهتدي للحكم الصحيح، وإن لم يكن
هناك حكم قد نزل من السماء. ولذلك تستفز أحكام سيدنا عمر عدداً كبيراً من
المستشرقين ويقولون: أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا لا تقولون محمدا؟
نقول لهم: لقد تربى عمر في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، فما يقوله هو، إنما قد
أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقر عمر بذلك وقال: " ما عمر لولا
الإسلام " ، ونحن نستشهد بعمر لأنه بشر وليس رسولاً، ويسري عليه ما يسري على
البشر، فلا يوحى إليه ولم يكن معصوما.
إذن كأن الحق أراد أن يُقَرِّب لنا القدرة على الاستنباط والفهم فنكون جميعا عمر؛
لأن عمر بالفطرة كان يهتدي إلى الصواب، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
" نفعل كذا " ، فينزل الوحي موافقا لرأيه، فكأن الله لم يكلفنا شططا،
إنما جاء تكليفه ليحمي العقول من أهواء النفس التي تطمس العقول، فآفة الرأي الهوى،
ولولا وجود الأهواء لكانت الآراء كلها متفقة.
وقديما أعطوا لنا مثلا بالمرأة التي جمعت الصيف والشتاء في ليلة واحدة، فقد زوجت
ابنها وابنتها، وعاش الأربعة معها في حجرة واحدة، ابنها معه زوجته، وابنتها معها
زوجها، والمرأة معهم، تنام نوما قليلا وتذهب لابنتها توصيها: " دفئي زوجك
وأرضيه " فالجو بارد، وتذهب لابنها وتقول: " ابعد عن زوجتك فالدنيا حر
".
إن المكان واحد، والليل واحد، لكن المرأة جعلته صيفاً وشتاء في وقت واحد والسبب هو
هوى النفس. والله ـ سبحانه ـ يبين لنا ذلك في قوله:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ }[المؤمنون:
71]
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعصمنا حين يُشَرع لنا، فالبشر يضيقون ذرعا بتقنينات
أنفسهم لأنفسهم، فيحاولون أن يخففوا من خطأ التقنين البشري، فيقننوا أشياء يعدلون
بها ما عندهم، ولو نظرت إلى ما عدلوه من قوانين لوجدته تعديلا يلتقي مع الإسلام أو
يقترب من الإسلام.
لقد سألوني في أمريكا: لماذا لم يظهر الإسلام فوق كل العقائد برغم أنكم تقولون: إن
الله يقول في كتابه: } لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ {. ومع ذلك لم يظهر
دينكم على كل الأديان، ولم يزل كثير من الناس غير مسلمين سواء كانوا يهودا أو
نصارى أو بلا دين؟ قلت: لو فطنتم إلى قول الله: } وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { و
} وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { لدلكم ذلك على أن ظهور الإسلام قد تم مع وجود
كفار، وظهوره مع وجود مشركين، وإلا لو ظهر ولا شيء معه فممن يُكرَه؟ إن العقيدة
التي يكرهها أهل الكفر هي التي تعزز وجود الإسلام. إذن } لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { يدل على أن ظهور الإسلام يعني
وجود كافر ووجود مشرك كلاهما سيكون موجودا وسيكرهان انتشار الدين.
وعندما نرى أحداث الحياة تضطر البلاد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن
يعدلوا في التقنيات فلا يجدون تعديلا إلا أن يذهبوا إلى أحكام الإسلام، لكنهم لم
يذهبوا إليه كدين إنما ذهبوا إليه كنظام، إن رجوعهم إلى الإسلام لدليل وتأكيد على
صحة وسلامة أحكام الإسلام، لأنهم لو أخذوا تلك الأحكام كأحكام دين لقال غيرهم: قوم
تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه. ولكنهم برغم كرههم للدين، اضطروا لأن يأخذوا
بتعاليمه، فكأنه لا حل عندهم إلا الأخذ بما ذهب إليه الإسلام.
إذن قول الله: } لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ { قوة لنظام الإسلام، لا لتؤمن به وإنما تضطر أن تلجأ إليه، وكانوا
في إيطاليا ـ على سبيل المثال ـ يعيبون على الإسلام الطلاق ويعتبرونه انتقاما
لحقوق المرأة، ولكن ظروف الحياة والمشكلات الأسرية اضطرتهم لإباحة الطلاق، فهل
قننوه لأن الإسلام قال به؟ لا، ولكن لأنهم وجدوا أن حل مشكلاتهم لا يأتي إلا منه.
وفي أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور، هل حاربوها لأن الإسلام
حرمها؟ لا، ولكن لأن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك. إذن } وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ { ، } وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {: معناهما أنهم سيلجأون إلى
نظام الإسلام ليحل قضاياهم. فإن لم يأخذوه كدين فسوف يأخذونه نظاما.
} فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { أي إياكم أن تظنوا أنكم بزللكم أخذتم حظوظ أنفسكم من
الله، فإن مرجعكم إلى الله وهو عزيز وعزته سبحانه هي أنه يَغلب ولا يُغلب، فهو
يدبر أمورنا برحمة وحكمة. ويقول الحق بعد ذلك: } هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ... {
(/212)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم الأمور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة
فهو يتحول إلى هشيم تذروه الرياح، ويصير الإنسان أمام لحظة الحساب.
وقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ } مأخوذة من النظر. والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق.
وطلب الإدراك لأي شيء بأي شيء يُسمى نظرا. ومثال ذلك أننا نقول لأي إنسان يتكلم في
أي مسألة معنوية: أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الإدراك أم لا؟
إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين، وإن طلبت أن
تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب. وأحيانا يُطلق النظر على الانتظار، وهو طلب
إدراك ما يتوقع.
و { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } ، يعني هل ينتظرون إلا أن
تأتيهم الساعة وتفاجئهم في الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام، فسوف
يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى، أن ذلك دليل على أن
الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من
مغربها.
وساعة نسمع قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ }
نقول: ما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول
لشخص أمامك: ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول في السلم كافة وإلا فماذا
تنظرون؟
و { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ
} ساعة تقول: { يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } أو " جاء ربك " أو يأتي سبحانه
بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من الإتيان والمجيء وكالوجه واليد، فلتأخذه
في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فالله موجود وأنت موجود، فهل وجودك كوجوده؟
لا.
إن الله حي وأنت حي، أحياتك كحياته؟ لا. والله سميع وأنت سميع، أسمعك كسمعه؟ لا.
والله بصير وأنت بصير، أبصرك كبصره؟ لا. وما دمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك،
فتأخذها بالنسبة لله في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }.
ولذلك يقول المحققون: إنك تؤمن بالله كما أعطاك صورة الإيمان به لكن في إطار لا
يختلف عنه عمَّا في أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، وإن أمكن أن تتصور أي شيء
فربك على خلاف ما تتصور، لأن ما خطر ببالك فإن الله سبحانه على خلاف ذلك، فبال
الإنسان لا يخطر عليه إلا الصور المعلومة له، وما دامت صورا معلومة فهي في خلق
الله وهو سبحانه لا يشبه خلقه.
إن ساعة يتجلى الحق، سيفاجئ الذين تصوروا الله على أية صورة، أنه سبحانه على غير
ما تصوروا وسيأتيهم الله بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبداً؛ لأنه لو كانت صورة الحق
في بال البشر لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره، وهو القادر لا ينقلب
مقدوراً عليه أبداً، ومن عظمته أن العقل لا يستطيع أن يتصوره مادياً.
ولذلك ضرب الله لنا مثلاً يقرِّب لنا المسألة، فقال:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21]
إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة، وعاد بعد ذلك
إلى عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد، هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد
تصورها، أو تحديد مكانها أو شكلها، هذه الروح المخلوقة لله لم نستطع أن نتصورها،
فكيف نستطيع أن نتصور الخالق الأعظم؟
} هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ { يعني بما لم يكن في حسبانهم.
هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر، والكون كله تبعثر، والشمس
كورت والنجوم انكدرت، وكل شيء في الوجود تغير، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم.
فماذا ينتظرون؟.
إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك الأمر، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم
ويُنهي أمد رجوعهم إلى الله. لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي
ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث.
ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئاً يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر
فلنأخذه في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. فكما أنك آمنت بأن لله ذاتاً لا
كالذوات، فيجب أن تعلم أن لله صفات ليست كالصفات، وأن لله أفعالاً ليست كالأفعال،
فلا تجعل ذات الله مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في الصفات التي قال الله فيها عن
نفسه وتجعلها مثل صفات الناس، فإذا كان الله يجيء؛ فلا تتصور مجيئه أنه سيترك
مكاناً إلى مكان، فهو سبحانه يكون في مكان بما لا يخلو عنه مكان، تلك هي العظمة.
فإذا قيل: } إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ { فلا تظن أن إتيانه كإتيانك، لأن
ذاته ليست كذاتك، ولأن الناس في اختلاف درجاتهم تختلف أفعالهم، فإذا كان الناس
يختلفون في الأفعال باختلاف منازلهم، وفي الصفات باختلاف منازلهم، فالحق منزه عن
كل شيء وكل تصور، ولنأخذ كل شيء يتعلق به في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {؛
ففعْل ربك يختلف عن فعلك. وإياك أن تُخضع فعله لقانون فعلك؛ لأن فعلك يحتاج إلى
علاج وإلى زمن يختلف باختلاف طاقتك وباختلاف قدرتك، والله لا يفعل الأشياء بعلاج
بحيث تأخذ منه زمناً ولكنه يقول: } كُنْ فَيَكُونُ {.
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذي لا دخل لاختيار البشر
في أن يخالفوا فيه فيقول: ساعة يجيء الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر
وأصبح الأمر لله وحده.
و } فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ {. فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به، والشيء الذي
يظللك لا يكون لك ولاية عليه في أن يظللك إلاّ أن ترى أين ظله وتذهب إليه، وشيء آخر
تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد.
وكلمة " ظلل " معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق
سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال:{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ
دَعَوُاْ اللَّهَ }[لقمان: 32]
أي جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطاً بهم، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون
سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع، الأمر المفجع، والمؤمن كان يتوقعه، وسيدخل عليه
برداً وسلاماً؛ لأنه ما آمن من أجله، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجيء
بشيء لم يكن في حسابه.
وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله. إن الحق سبحانه
وتعالى قال: ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضى الأمر. وعندما تسمع } قُضِيَ
الأَمْرُ { فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس، فمن لم يرجع إلى ربه
قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع. ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح:{ وَقُضِيَ
الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ }[هود: 44]
أي انتهى كل شيء، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه. فالله يقول:
ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا
إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة. } وَإِلَى اللَّهِ تَرْجَعُ الأُمُورُ { ،
ومرة تأتي } وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {.
وفيه فرق بين " تَرجع الأمور " بفتح التاء وبين " تُرجع الأمور
" بضم التاء. فكأن الأمور مندفعة بذاتها، ومرة تساق إلى الله. إن الراغب
سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذي ينتظره، أما غير الراغب والذي كان
لا يرجو لقاء ربه فَسَيُرجَع بالرغم عنه، تأتي قوة أخرى تُرجعه، فمن لم يجيء
رغَباً يأتي رهَباً.
ويقول الحق بعد ذلك: } سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ
بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ... {
(/213)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
فكأن الله لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقروا على أنفسهم بما أكرمهم به
الله من خير سابق؛ فساعة تقول: " اسأل فلاناً عما فعلته معه " ، كأنك لا
تأمر بالسؤال إلا عن ثقة، وأنه لن يجد جواباً إلا ما يؤيد قولك. والحق يبلغ رسوله
صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه
عليهم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إلا بما يوافق القضية التي يقولها
الحق وتصبح حجة عليهم.
والحق سبحانه وتعالى يقول: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } ساعة
تسمع { كَمْ } في مقام كهذا فافهم أنها كناية عن الإخبار عن الأمر الكثير بخلاف {
كَمْ } التي تريد بها الاستفهام. وأنت تقول: " كم فعلت كذا مع فلان " و
" كم صنعت معه معروفاً " و " كم تهاونت معه " و " كم
أكرمته ". لذلك فعندما تسمع { كَمْ } هذه فاعرف أن معناها الكمية الكثيرة
التي يُكنى بها على أن عدد لا يحصى.
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } إن الحق يريد
أن يضرب لنا مثلاً كمثل إنسان يأكل خيرك وينكر معروفك، ويشكوك إلى إنسان، فترد أنت
لم ينقل لك الشكوى: سله ماذا قدمت له من جميل، أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم.
وأنت لا تقول ذلك إلا وأنت على ثقة من أنه لا يستطيع أن يغير شيئاً.
ألم يفلق لهم البحر؟. ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظللهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم
الله المن والسلوى؟ كل ذلك أعطاه الله لهم؛ فلم يشكروا نعمة الله، فحل عليهم غضبه؛
أخذهم بالسنين والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم، كل ذلك فعله الله معهم.. وحين
يقول الحق لرسوله: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فالقول منسحب على أمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فإذا جاءك واحد منهم فاسأله: كم آيةٍ أعطاها الله لكم
فأنكرتموها، وتلكأتم. وتعنّتُّم. { كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } إن {
كَمْ } تدل على الكمية الكبيرة، و { مِّنْ آيَةٍ }: معناها الأمر العجيب. و {
بَيِّنَةٍ } تعني الأمر الواضح الذي لا يمكن أن يغفل عنه أحد.
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ }. وكيف يبدل الإنسان نعمة الله؟. إن نعمة الله حين تصيب خلقاً فالواجب
عليهم أن يستقبلوها بالشكران، ومعنى الشكران هو نسبتها إلى واهبها والاستحياء أن
يعصوا من أنعم عليهم بها. فإذا استقبل الناس النعمة بغير ذلك فقد بُدِلَت. ولذلك
يقول الحق في آية أخرى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ
اللَّهِ كُفْراً } وما داموا قد بدلوها كفراً، فيكون الكفر هو الذي جاء مكان
الإيمان.
إذن كان المطلوب أن يقابلوا النعمة بالإيمان، بالازدياد في التقرب إلى الله، لكنهم
بدلوا النعمة بالكفر.
} وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ { قد نفهم أن معنى } شَدِيدُ الْعِقَابِ { هو أمر يتعلق
بالآخرة، ولعل أناساً يستبطئون الآخرة، أو أناساً غير مؤمنين بالآخرة، فلو كان
الأمر بالعقاب يقتصر على عقاب الآخرة لشقي الناس بمن لا يؤمنون بالآخرة.. أو
يستبطئونها لأن هؤلاء يعيثون في الأرض فساداً؛ لأنهم لا يخافون الآخرة ولا يؤمنون
بها، أو أنها لا تخطر ببالهم.
فالذي يؤمن بأن هناك آخرة تأتي وسيكون فيها حساب، هو الذي سيكون سلوكه على مقتضى
ذلك الإيمان. أما الذي لا يؤمن أن هناك يوماً آخر فالدنيا تشقى به. فإذا لم يعجل
الله بلون من العقوبة للذين لا يؤمنون بالآخرة أو الذين يستبطئون الآخرة لشقي
الناس بهؤلاء الذين لا يؤمنون أو يستبطئون.
وكل جماعة لا تقبل على منهج الله، ويبدلون نعمة الله كفراً لابد أن يكون لله فيهم
عقاب عاجل، وذلك ليعلم الناس أن من لم يرتدع إيماناً وخوفاً من اليوم الآخر فعليه
أن يرتدع مخافة أن يأتيه العقاب في الدنيا. فالظالم إذا علم أن ظالماً مثله لقي
عقابه وحسابه في الدنيا فسيخاف أن يظل؛ وإن لم يكن مؤمناً بالآخرة، لأنه سيتأكد أن
الحساب واقع لا محالة. ولذلك لا يؤجل الله العقاب كله إلى الآخرة ولكن ينزل بعضا
منه في الدنيا. ويقول الحق في الذين يبدلون نعمة الله كفراً:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }[إبراهيم: 28-29]
هذه عقوبة الآخرة ولن يتركهم الله في الدنيا دون أن ينالهم العقاب.
وحتى الذين يظلمون ويتعسفون مع أنهم مسلمون لا يتركهم الله بلا عقاب في الدنيا حتى
يأتيهم يوم القيامة بل لابد أن يجيء لهم من واقع دنياهم ما يخيف الناس من هذه
الخواتيم حتى تستقيم حركة الحياة بين الناس جميعا، وإلا فسيكون الشقاء واقعا على
الناس من هؤلاء ومن الذين لا يؤمنون بعقاب الآخرة.
وكان بعض الصالحين يقول: " اللهم إن القوم قد استبطأوا آخرتك وغرهم حلمك
فخذهم أخذ عزيز مقتدر "؛ لأنه سبحانه لو ترك عقابهم للآخرة لفسدوا وكانوا
فتنة لغيرهم من المؤمنين. ولذلك شاء الله أن يجعل في منهج الإيمان تجريماً وعقوبة
تقع في الدنيا، لماذا؟ حتى لا يستشري فساد من يشك في أمر الآخرة. وشدة عقاب الله
لا يجعلها في الآخرة فقط، بل جعلها في الدنيا أيضاً؛ ولذلك يقول الله سبحانه
وتعالى:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[طه: 124]
ثم يقول سبحانه وتعالى: } زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ... {
(/214)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع الإنسان في الكون، هذا الواقع الذي يدل على
أنه سيد ذلك الكون، ومعنى ذلك أن كل الأجناس تخدمه. وقد عرفنا أن الجماد يخدم
النبات، والجماد والنبات يخدمان الحيوان، والجماد والنبات والحيوان تخدم الإنسان،
فالإنسان سيد هذه الأجناس.
وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه، فكما كانت الأجناس التي دونه
في خدمته، فلابد أن يكون هذا الجنس الأعلى يناسب سيادته، ولن يجد شيئا في الوجود
أبدا أعلى من الجنس الذي ينتسب إليه، لذلك كان المفروض أن يقول الإنسان: أنا أريد
جنسا ينبهني عن نفسي؛ فأنا في أشد الاحتياج إليه. فإذا جاء الرسل وقالوا: إن الذي
أعلى منك أيها الإنسان هو الله وليس كمثله شيء وتعالى عن كل الأجناس. كان يجب على
الإنسان أن يقول: مرحبا؛ لأن معرفة الله تحل له اللغز. والرسل إنما جاءوا ليحلوا
للإنسان لغزاً يبحث عنه، وكان على الإنسان أن يفرح بمجيء الرسل، وخصوصاً أن الله
عز وجل لا يريد خدمة منه، إن الإنسان هو الذي يحتاج لعبادة الله ليسخر له
الكائنات، ويعبده ليعزه. إذن فالمؤمن بين أمرين: بين خادم له مسخر وهو من دونه من
الجهاد والنبات والحيوان، ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه. إنه هو الله.
فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الأدنى وترك الأعلى، فيقول له الحق: خذ
الأعلى. فإذا كنت سعيداً بعطاء المخلوقات الأدنى منك، وتحب أن تستزيد منها فكيف لا
تستزيد ممن هو أعلى منك؟. إنه الله.
والحق عندما يقول: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } فهو
يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين مقاييس هابطة نازلة؛ لأن الذي زُين لهم هو
الأمر الأدنى. ومن خيبة التقدير أن يأخذ الإنسان الأمر الأدنى ويفضله على الأعلى.
وكلمة { زُيِّنَ } عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم فاعله مثل قوله
تعالى:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ }[آل عمران: 14]
هناك { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } وفي آية البقرة التي نحن بصددها { زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُواْ } لماذا قال الحق هناك: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } ولماذا قال هنا: {
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ }؟ لقد قال الحق ذلك لأن الذين كفروا ليس عندهم إلا
الحياة الدنيا، فالأعلى لا يؤمنون به، ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول الله
عز وجل: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } فهو سبحانه يقول للناس: خذوا الحياة على
قدرها. وزُينت يعني حسُنت. فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها الله عز وجل.
فكيف تنسى الذي حسنها لك، وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك.
كان يجب أن تأخذها وسيلة للإيمان بمن رزقك إياها، وكلما ترى شيئا جميلا في الوجود
تقول: " سبحان الله " ، وتزداد إيمانا بالله، أما أن تأخذ المسألة
وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس النازل.
أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه
هذه الحياة الدنيا، ونقول: هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه
الغرائز؟ لا، لقد أعلى الغرائز وأعطى المنهج لتعلية الغرائز، فلا تأخذ هذه وتترك
تلك. ولذلك يقول الحق:{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ }[الكهف: 46] والحق
عندما يقول: } زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا { فهو يفضح من
يعتقدون أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ونقول لهم: هذا مقياس نازل، وميزان غير دقيق،
ودليل على الحمق؛ لأنكم ذهبتم إلى الأدنى وتركتم الأعلى. ومن العجيب أنكم فعلتم
ذلك ثم يكون بينكم وبين من اختار الأعلى هذه المفارقات. أنتم في الأدنى وتسخرون من
الذين التفتوا إلى الأعلى، إن الحق يقول: } وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ
{. لماذا يسخرون منهم.
لأن الذين آمنوا ملتزمون، ومادام الإنسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي
تأتيه من غير حل، لكن هؤلاء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من
الحياة.
لذلك تجد إنساناً يعيش في مستوى دخله الحلال، ولا يملك إلا حُلَّةً واحدة "
بدلة " ، وإنساناً آخر يسرق غيره، فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن
المظهر والهندام وعندما يلتقي الاثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على
الحلال، لماذا؟ لأنه يعتبر نفسه في مقياس أعلى منه، يرى نفسه حسن الهندام و "
الشياكة " فيحسم الحق هذه المسألة ويقول: } وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ {. لماذا يوم القيامة، أليسوا فوقهم الآن؟
إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لأنهم لا ينظرون إلى الراحة
النفسية وهي انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية
ولا سقطة خلقية، ولا يؤذي أحداً، ولا يرتشي، ولا ينم ولا يغتاب، كيف يكون حاله عندما
يستعرض أفعاله يومه قبل نومه؟ لابد أن يكون في سعادة لا تقدر بمال الدنيا.
ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس في المقارنة، وإنما أدخل المسألة التي لا يقدر
عليها أحد. } وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {. ولذلك يقول
الحق سبحانه وتعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا
انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ
قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ
حَافِظِينَ }[المطففين: 29-33]
ثم يقول الحق بعد ذلك:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ
يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا
كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
[المطففين: 34-36]
أي هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول: نعم يا رب. خصوصا أن ضحك الآخرة ليس بعده بكاء.
} وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ { ولنلاحظ أن الحق سبحانه
وتعالى خالف الأسلوب في هذه الآية، لقد كان المفروض أن يقول: والذين آمنوا فوقهم.
لكنه قال: } وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ { لأنه قد يؤخذ الإيمان على أنه
اسم، فقد شاع عنك أنك مؤمن، فأنت بهذا الوصف لا يكفي لتنال به المرتبة السامية إلا
إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى.
فلا تقل: " أنا مؤمن " ويقول غيرك: " أنا مؤمن " ، ويصبح
المؤمنون مليارا من البشر في العالم، نقول لهؤلاء: أنتم لن تأخذوا الإيمان بالاسم
وإنما تأخذون الإيمان بالالتزام بمنهج السماء. ولذلك لم يقل الله: " والذين
آمنوا فوقهم يوم القيامة " وإنما قال: } وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ { ليعزل الاسم عن الوصف. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: } وَاللَّهُ
يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {. ما هو الرزق؟ الرزق عند القوم: هو كل ما
ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق. وطبقا لهذا التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام
رزقا، ولكنه رزق حرام.
والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو " المال "
نقول لهم: لا، إن الرزق هو كل ما يُنتفع به، فكل شيء يكون مجاله الانتفاع يدخل في
الرزق: علمك رزق، وخُلُقُك رزق، وجاهك رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق. ساعة تقول:
إن كل ذلك رزق تأخذ قول الله:{ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ
عَلَىا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ }[النحل: 71]
كأن الله يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم، وكل إنسان متميز وتزيد عنده
حاجة عليه أن يردها على الناس، لكن الناس لا تفهم الرزق إلا على أنه مال، ولا
يفهمون أنه يطلق على كل شيء ينتفعون به.
إذا كان الأمر كذلك فما معنى } يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { كلمة }
بِغَيْرِ حِسَابٍ { لابد أن نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب، ومُحَاسَب،
ومُحَاسَب عليه. وعلى هذا يكون } بِغَيْرِ حِسَابٍ { ممن ولمن وفي ماذا؟
إنه رزق بغير حساب من الله؛ فقد يرزقك الله على قدر سعيك. وربما أكثر، وهو يرزق
بغير حساب، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا أعطيت فلانا أكثر مما
يستحق.
وهو يرزق بغير حساب؛ لأن خزائنه لا تنفد. ويرزق بغير حساب؛ لأنه لا يحكمه قانون،
وإنما يعطي بطلاقة القدرة. إنه جل وعلا يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول: يعطي
الكافر ولا يعطي المؤمن لماذا؟
إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطي مقابلا للحسنة سبعمائة
ضعف بغير حساب. إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدوداً، فإذا أخذت مثلا مائة من
ألف فأنت طرحت معدوداً من معدود فلا بد أن ينقص، وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء.
لكن الله بخلاف ذلك، إنه يعطي معدوداً من غير معدود.
إذن ساعة تقرأ } بِغَيْرِ حِسَابٍ { فقل إن الحساب إن كان واقعا من الله على
الغير، فهو لا يعطي على قدر العمل بل يزيد، ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد.{ مَا
عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ }[النحل: 96]
إذن } يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى
غيره قد رُزق أكثر منه؛ لأنه لا يعلم حكمة الله فيها. وهناك أناس كثيرون عندما
يعطيهم الله نعمة يقولون: " ربنا أكرمنا، وعندما يسلبهم النعمة يقولون:
" ربنا أهاننا " ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى:{ فَأَمَّا الإِنسَانُ
إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16]
كلا. مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من الله، وأنت مخطئ أيضاً يا مَن
اعتبرت سلب النعمة إهانة من الله؛ إن النعمة لا تكون إكراما من الله إلا إذا وفقك
الله في حسن التصرف في هذه النعمة، وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم، وعدم
الانشغال بها عمن رزقك إياها.
ونحب أن نفهم ـ أيضا ـ أن قول الله سبحانه وتعالى: } وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن
يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { ينسحب على معنى آخر، وهو أنه ـ سبحانه ـ لا يحب أن
تُقَدِّر أنت رزقك بحساب حركة عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ. مثال ذلك الفلاح
الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ من الأرض، وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما
نلاحظ ونشاهد، ويصبح رزق الفلاح في ذلك الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبداً.
ولهذا فإن على الإنسان أن يعمل في الأسباب، ولكنه لا يأخذ حسابا من الأسباب، ويظن
أن ذلك هو رزقه؛ لأن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ولا في حساباتك، وقال
الحق في ذلك:{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }[الطلاق: 2-3]
وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة
وموكب الرسالات في الأرض، بداية وتسلسلاً وتتابعاً في رسل متعاقبين، فقال الحق
سبحانه وتعالى: } كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ... {
(/215)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
ولقائل أن يقول: إذا كان الناس أمة واحدة، وقد رتب الله بعث وإرسال النبيين على
كونهم أمة واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ ونقول: لابد أن تُحمل
هذه الآية المجملة على آية أخرى مفصلة في قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ النَّاسُ
إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن
رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }[يونس: 19]
لابد لنا إذن أن نأخذ هذه الآية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة
يخاطب العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلام
الله بجماع تفكيره، وأن يكون القرآن كله حاضراً في ذهنك، ويخدم بعضه بعضا.
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ }. فقبل بعث
الله النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون آدم، وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن
اجتباه وهداه، وعلم آدم أبناءه منهج الله، فظل الناس من أبنائه على إيمان بعقيدة
واحدة، ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلاف أهوائهم، فالعالم كان واسعاً، وكانت القلة
السكانية فيه هي آدم وأولاده فقط، وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا. إذن لا
تطاحن على شيء، ومن يريد شيئاً يأخذه، وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لأنه لم تكن
هناك ملكية لأحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا، ومن
يريد أن يأكل فاكهة أو يأخذ ثمراً من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد.
والمثال على ذلك في حياتنا اليومية، هناك رب الأسرة الذي يأتي بعشرين كيلو
برتقالاً ويتركها أمام أولاده، وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بلا
حرج، لكن لو اشترى رب البيت كيلو برتقالاً واحداً فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط.
إذن كان الناس أمة واحدة، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حب الاستئثار بالمنافع مما
يجعلهم يختلفون. إذن فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى.
وكان من المفروض في آدم عليه السلام بعد أن بلغه الله المنهج أن يبلغه لأولاده،
وأن يتقبل أبناؤه المنهج، ولكن بعض أولاده تمرد على المنهج، ونشأ حب الاستئثار من
ضيق المُسْتَأثر والمُنْتَفع به، ومن هنا نشأت الخلافات. ولنا في قصة هابيل وقابيل
ما يوضح ذلك:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ
قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
}[المائدة: 27]
ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود، حواء تلد توأمين في كل مرة، وأراد آدم أن
يزاوجهم فكيف تكون المزاوجة وهم جميعاً أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن
الذي أمامه هو أخوه.
لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت، واعتبر أن البعد هو بعد البطن، أي أن
الذي يولد مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه، أما الذي وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس
أخاه، لذلك كان آدم وحواء يبادلان زواج الأبناء حسب ابتعاد البطون، وكان الغرض من هذا
التباعد أن تكون المرأة وكأنها أجنبية عن أخيها.
روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: " أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن
بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل
أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه. وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها
فأبى، فأمرهما أن يقربا قرباناً فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم، وقرب قابيل
حزمة من زرع من رديء زرعه فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب
وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: } إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
{.
إذن، كان ميلاد أول خلاف بين البشر حينما تنافس اثنان للاستئثار بمنفعة ما، وكان
هذا مثالاً واضحاً لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الأطماع.
} كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً { لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع،
وأصبح لكل إنسان هوى. ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجاً دائماً إلى أن تقوم
الساعة لفعل. لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة،
ونلتزم مرة، ونهمل مرة أخرى، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل. ولذلك يأتي
قول الحق: } فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ {. ومهمة
" التبشير والإنذار " هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة وناراً، ولذلك يبشر
كل رسول مَنْ آمن من قومه بالجنة، وينذر مَنْ كفر من هؤلاء القوم بالنار. ويذكرنا
الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا على وحدانيته فقال:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا
أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ
إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }[الأعراف: 172-173]
يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم
ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه فطرهم على ذلك: ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود
من آدم جاء للخلق الأول وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الأهواء غير موجودة، فظل
المنهج مطبقا بين بني آدم. وبعد ذلك تعددت الأهواء، وتعدد الأهواء إنما ينشأ عن
الاستئثار بالمنافع، وذلك بسبب الخوف من استئثار الغير، فنشأ حب الذات، ولما كانت
المنافع لا تتسع لأطماع الناس فقد استشرى حب الاستئثار والتملك.
ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر الأسواق.
وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب، وتجدها متوافرة، عند ذلك لا توجد أزمة،
لكن الأزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس، فيتكالب الناس
على الاستئثار بها. وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد، وتكون دون الأطماع هنا
تتولد المشكلات.
ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق، ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام
أهوائهم وأمام استئثارهم بالمنافع، أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا. }
وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ
مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ { فكأن الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنما
الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف. } مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ { ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الاختلاف لا
ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه. وما دام كل
منا يريد أن يأخذ غير حقه فلا بد أن ينشأ البغض.
} فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ
بِإِذْنِهِ { أي أن الله يهدي الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذي جاء مبشرا
ومنذرا وحاملا منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وبذلك يظل المنهج
سائداً إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث
النسيان لمنهج الله، وتنشأ الأهواء، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج
القويم، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمداً
صلى الله عليه وسلم للدنيا كافة، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف
في الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف في أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم
السابقة. هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلا مبشرين ومنذرين، لكن أمة محمد صلى الله
عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الاختلاف في أصل العقيدة. وإن
اختلف الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق
المتمثل في القرآن والسنة.
ونعرف أن من مميزاته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء بحق، ولن تجد في الموكب
الرسالي رسولا أوكل له الله أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب الله إلا سيدنا
محمداً صلى الله عليه وسلم. لقد أعطى الله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
التفويض في أن يشرع عن الله؛ في ظل عصمة الله له فقد قال سبحانه:{ وَمَآ آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7]
إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لأن ما
يأمرهم به فيه الصلاح والخير، وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
إنما ينهي عن الأمور التي ليس فيها خير لأمة المسلمين.
ويأمر الحق جل وعلا جماعة المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها من طاعة
الله، فيقول جل وعلا:{ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن
تَوَلَّىا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }[النساء: 80]
وهكذا نرى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، ومن يعرض عن طاعته فله
العقاب في الآخرة. ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
فيقول:{ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }[آل عمران: 32]
هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. إذن فقد فوض
الله رسوله أن يُشَرِّع للبشر. وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما ينطق عن الهوى.
وميزة أخرى لأمة المسلمين هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك لنا حق الاجتهاد
في المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ولا من السنة، أو ورد فيها نص ولكنه
يحتمل أكثر من معنىً، ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمِنَ أمة محمد عليه الصلاة
والسلام بأن تصل بالاجتهاد لما يحسم أي خلاف، وأن أي اختلاف لن يصل إلى الجوهر.
فلو علم الله أزلا أننا سوف نختلف اختلافا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا
رسلاً.
ونحن نجد كل الاختلافات بين طوائف المسلمين لا تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب
والسنة.
ومعنى ذلك أننا لن نترك الأصل، ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد
أن بعضا من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا
حديثا ينسبونه إلى رسول الله ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه. وهؤلاء مأواهم
النار؛ لأنهم نطقوا بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله الرسول الكريم
لقد كذبوا عليه، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية، أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون
الناس أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل
الأحاديث المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو لا؟ إذن فحصافة الاجتهاد
والرأي عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج. وأن
الخلاف فيما بينهم لم يصل إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة، ولكن عليهم أن ينتهوا
ويرتقوا حتى يميزوا الأمور التي تكون من غير معطيات القرآن، ثم يريد قوم أن
يحملوها على القرآن.
إن عليهم ألا يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صلى الله عليه
وسلم ـ حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به ـ وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قد أمِنَ
أمة محمد صلى الله عليه وسلم على القرآن وعلى رسالة الإسلام، والقرآن ورسالة
الإسلام لن يصيبها التغيير أو التحريف، وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة
وفطنة، فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة زمنية أو أن يجيء بحديث موضوع ليروج
لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا الإنسان.
فنحن نفهم أن الله شاء بالإسلام حياة القيم، كما شاء بالماء حياة المادة، والماء
حتى يظل ماء فلا بد أن يظل بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فإذا أردت أن تجعل له طعماً
خرج عن خاصيته؛ ربما أصبح مشروبا أو عصيراً أو غير ذلك، وقد يحب بعض الناس نوعا من
العصير، لكن كل الناس يحبون الماء؛ لأن به تُصان الحياة، فإذا رأيت ديناً قد تلون
بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن ذلك خارج عن نطاق الإسلام. وكل جماعة تريد أن
تصبغ دين الله بلون إنما يخرجونه عن طبيعته الأصلية، ولذلك نجد أمتنا في مصر قد
صانت علوم الإسلام بالأزهر الشريف وكل عالم من علماء الإسلام في أي بقعة من بقاع
الأرض مدين للأزهر الشريف. ونجد أننا نحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولكن لا نجد عندنا متشيعا واحدا، وفي الوقت نفسه لا نجد واحداً يكره أبا بكر وعمر،
وهذا هو الإسلام الذي لا يتلون؛ لأنه إسلام الفطرة.{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }[البقرة: 138]
فالذين يحاولون في زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو
برسوم أو هيئة خاصة نقول لهم: أنتم تريدون أن تُخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية
التي أرادها الله له، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية، ولا تلونوا الإسلام
هذا التلوين. وبذلك نحقق قول الله: } فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا
اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ
إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { ونعرف أن الهداية معناها الأمر الموصل للغاية، وحين
ترد الهداية من الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفهم أن الهداية من الله ترد على
معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق الموصل، والمعنى الثاني هو المعونة.
وضربت من قبل المثل بشرطي المرور الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي
تريدها، فإن احترمت كلامه ونفذته فهو يعطي لك شيئاً من المعونة، بأن يسير معك أو
يوصلك إلى المكان الذي تريد. فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى؟ إنه
يهدي الجميع بمعنى يدلهم، فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى، وهي أن
يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه. وبعضنا يدخله العجب عندما يسمع قول الحق:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىا عَلَى الْهُدَىا
فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ *
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ }[فصلت: 17-18]
بعضنا يتعجب متسائلا: كيف يقول سبحانه: إنه هداهم، ثم استحبوا العمى على الهدى؟
ونقول: إن " هداهم " جاءت هنا بمعنى " دلّهم " لكنهم استحبوا
العمى على الهدى، أما الذين استجابوا لهداية الدلالة وآمنوا فقد أعانهم الله
وأنجاهم؛ لأنهم عرفوا تقواه سبحانه.
ونحن نسمع بعض الناس يقولون: ما دام الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب
الذي لم يهتد؟ نقول: إن الحق يهدي من شاء إلى صراط مستقيم؛ أي يبين الطريق إلى
الهداية، فمن يأخذ بهداية الدلالة يزده الله بهداية المعونة وييسر له ذلك الأمر.
ونحن نعلم أن الله نفى الهداية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية، وأثبتها
له في آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد. قال الحق نافيا الهداية عن الرسول
صلى الله عليه وسلم:{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }[القصص: 56]
والحق يذكر للرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في موضع آخر فيقول له:{ وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[الشورى:52]
ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة، فهو " يهدي " أي يدل
الناس على طريق الخير. وهناك هداية أخرى معنوية، وهي من الله ولا دخل للرسول صلى
الله عليه وسلم فيها، وهي هداية المعونة.
إذن قوله تعالى: } وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { معناها: أنك
تدل على الصراط المستقيم، ولكن الله هو الذي يعين على هذه الهداية. } وَاللَّهُ
يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { فعلينا أن نستحضر الآيات التي
شاء الله أن يهدي فيها مؤمنا وألا يهدي آخر. ويقول الحق سبحانه:{ وَاللَّهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264]
معنى ذلك أن الله لا يهدي إلا الذين آمنوا به. وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على
الاستمرار في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدلالة ولكن الحق يختص المؤمنين
بهداية المعونة. والحق يقول في ذلك:{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىا
تَقْوَىا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىا
شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[التوبة: 109]
إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من الله ابتغاء
الخير والجنة، وهو الذي جاءته هداية الدلالة فاتبعها، فجاءته هداية المعونة من
الله. وبين ذلك الذي يؤسس بنيان حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به
البنيان في نار جهنم، إنه الذي جاءته هداية الدلالة فتجاهلها، فلم تصله هداية
المعونة، ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين. والحق تبارك وتعالى
يقول:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[التوبة:
80]
إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون الإسلام، ويبطنون
الكفر فلن يغفر الله لهم، لماذا؟ لأن هداية الدلالة قد جاءت لهم فادعوا أنهم
مؤمنون بها، ولم تصلهم هداية المعونة؛ لأنهم يكفرون بالله ورسوله، والله لا يهدي
مثل هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم عن منهج الله. وبعد ذلك يقول الحق: } أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم... {
(/216)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا
الظن ويقول: ليس الأمر كذلك، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان، فلو كان الإيمان
بالقول لكان الأمر سهلا، لكن الذي يُصَعِبُ الإيمان هو العمل، أي حمل النفس على
منهج الإيمان. لقد استكبر بعض من الذين عاصروا محمداً صلى الله عليه وسلم أن
يقولوا: " لا إله إلا الله " لأنهم فهموا مطلوبها؛ لأن الأمر لو اقتصر
على مجرد كلمة تقال بلا رصيد من عمل يؤديها، لكان أسهل عليهم أن يقولوها، لكنهم
كانوا لا يقولون إلا الكلمة بحقها، ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا: " لا
إله إلا الله " لانتهت كل معتقداتهم السابقة، لكنهم لم يقولوها؛ لأنهم أبوا
وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها.
إن الحق يقول: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم
مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ
وَالضَّرَّآءُ } فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات؟ لقد كان الحديث عن
بني إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا، وصارت لهم أهواء
يحرفون بها المنهج. أما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا
للابتلاء، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب.
ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم. ومن أدوات النفي " لم " و
" لما " فعندما نقول: " لم يحضر زيد " فهذا حديث في الماضي،
ومن الجائز أن يحضر الآن. ولكن إذا قلت: " لما يحضر زيد " فالنفي مستمر
حتى الآن، أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلام لكن حضوره ومجيئه متوقع. ولذلك يقول
الحق:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات: 14]
وعندما سمع الأعراب ذلك قالوا: نحمد الله، فمازال هناك أمل أن نؤمن. لقد أراد الله
أن يكون الأعراب صادقين مع أنفسهم، وقد نزلت هذه الآية كما يقول بعض المفسرين في
قوم من بني أسد، جاءوا إلى المدينة في سنة جدب، وأعلنوا الشهادة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وقالوا: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وكانوا
يطلبون الصدقة، ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه
كما فعل غيرهم، فجاءت هذه الآية لتوضح أن الإيمان درجة أرقى من إظهار الإسلام. لكن
ذلك لا يعني أنهم منافقون، ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار الإسلام لا يعني
الإيمان؛ لأن الإيمان عملية قلبية.
لقد أعلنوا الخضوع لله، وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو
كل الإيمان. وهم قالوا: { آمَنَّا } فقال الحق لهم: لا لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع
أنفسكم فالإيمان عملية قلبية، ولا يقال إنك آمنت؛ لأنها مسألة في قلبك، ولكن قل
أسلمت، أي خضعت وفعلت مثلما يفعل المؤمنون، فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان.
إن ذلك هو موضوع آخر. هنا تقول الآية: } أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم { أي لا يمكن أن
تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولابد أن تُفتنوا
وأن تمحصوا ببأساء وضراء، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة، فلا تظنوا
أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الاختبار، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء، بل
على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء.
أنتم ستأخذون مكانة عالية في الأمم ولذلك لابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم،
فإن كنتم ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فلا بد أن
يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم.
} وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ
الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ { إن قول الله: } وَلَمَّا { يفيد بأن
ما حدث للذين من قبلهم من ابتلاء عليهم سيقع على المؤمنين مثله.
وعندما نتأمل قوله الحق: } وَزُلْزِلُواْ { فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة
العربية، هذه الخاصية هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة، فكلمة " زلزلوا
" أصلها زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان هما " زل، زل ". و "
زل ": أي سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثانية لها المعنى نفسه أيضاً، أي
وقع من مكانه، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر: وقوع أول، ووقوع ثانٍ، والوقوع
الثاني ليس امتداداً للوقوع الأول؛ ولكنه في اتجاه معاكس، فلو كانت في اتجاه واحد
لجاءت رتيبة، إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه، فكأنها سقوط جهة
اليمين مرة، وجهة الشمال مرة أخرى.
ومثل ذلك " الخلخلة " أي حركة في اتجاهين معاكسين " خَلّ "
الأولى جهة اليمين، و " خَلّ " الثانية جهة اليسار، وبهذا تستمر
الخلخلة.
وهكذا " الزلزلة " تحمل داخلها تغير الاتجاه الذي يُسمى في الحركة
بالقصور الذاتي. والمثال على ذلك هو ما يحدث للإنسان عندما يكون راكباً سيارة،
وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح " الفرامل " بقوة، عندئذ
يندفع الراكب للأمام مرة، ثم للخلف مرة أخرى، وربما تكسر زجاج السيارة الأمامي حسب
قوة الاندفاع؛ ما الذي تسبب في هذا الاندفاع؟ إن السبب هو أن جسم الراكب كان مهيأ
لأن يسير للأمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب لا زال مهيأ للسير للأمام، فهو
يرتج، وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة. وعملية " الزلزلة
" مثل ذلك تماماً، ففيها يصاب الشيء بالارتجاج للأمام والخلف، أو لليمين
واليسار، وفي أي جهتين متعاكستين.
و } وَزُلْزِلُواْ { يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى، الملهية، المتكررة، وهي لا
تتكرر على نمط واحد، إنما يتعدد تكرارها، فمرة يأخذها الإيمان، ثم تأخذها المصائب
والأحداث، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه: }
مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ {؟
ويأتي بعده القول: } أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ { فهل يتساءلون أولاً، ثم
يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم } أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ { أم أن
ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين } مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ { وبين } أَلا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ {؟.
لقد بلغ الموقف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختيار والابتلاء إلى
القمة، ومع ذلك واصل الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه الاستمساك بالإيمان.
لقد مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم، حتى وصل الأمر
من أثر هذه الهزة أن } يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىا
نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ {. إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل
} مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ { يعني استبطاء مجيء النصر أولاً، ثم التبشير من بعد ذلك
في قوله الحق: } أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ {. ولم يكن ذلك للشك والارتياب
فيه. وهذا الاستبطاء، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة، فقد اختلطت الأفكار:
أناس يقولون: } مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ { فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم
قائلا: } أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ {.
وسياق الآية يقتضي أن الذين قالوا: } مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ { هم الصحابة، وأن
الذي قال: } أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ { هو رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قضية أخرى، هذه القضية شاعت في هذه
الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الأشياء، وهي ظاهرة إيمانية صحية، وكان في
استطاعة المؤمنين ألا يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف إيماني خوفاً من أن يكون
في الإجابة عنها تقييد للحركة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم،
فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ".
ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة، وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا
التكليف من الله؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلامياً، ويريدون أن
يسألوا عن حكم الإسلام في كل عمل ليعملوا على أساسه. يقول الحق سبحانه وتعالى: }
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ... {
(/217)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً فقال: يا رسول الله، إن مالي
كثير فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط، بل كان يترجم عن مشاعر
غيره أيضا، ولذلك جاءت الإجابة عامة لا تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين.
والسؤال عن { مَاذَا يُنْفِقُونَ }؛ فكأن الشيء المُنْفق هو الذي يسألون عنه،
والإنفاق ـ كما نعرف ـ يتطلب فاعلاً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق ـ هو المال ـ؛
ومنفَقَاً عليه. وهم قد سألوا عن ماذا ينفقون، فكأن أمر الإنفاق أمر مُسَلَّمُ به،
لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على هذه الوجه ويجيء الجواب
حاملا الإجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد.
يقول الحق: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } هذا هو السؤال، والجواب { قُلْ
مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ }. إن الظاهر السطحي يظن أن
السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن المنفق عليه. نقول: لا، لماذا
نسيت قوله الحق: إن الإنفاق يجب أن كون من " خير " فالمال المُنفق منه
لا بد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير.
وبعد ذلك زاد وبيّن أنه: مادمتم تعتقدون أن الإنفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو
الشيء الذي تنفقونه، ومَنْ الذي يستحق أن يُنْفَقَ عليه. { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ
مِّنْ خَيْرٍ }. والخير هو الشيء الحسن النافع. والمُنْفَق عليه هو دوائر الذي
يُنْفِق؛ لأن الله يريد أن يُحَمّل المؤمن دوائره الخاصة، حتى تلتحم الدوائر مع
بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع، لأنه سبحانه حين يُحَمّلني أسرتي
ووالدي والأقربين، فهذه صيانة للأهل، وكل واحد منا له والدان وأقربون، ودائرتي أنا
تشمل والديّ وأقاربي، ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين.
وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى
والمساكين فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين، ويكون المجتمع قد حمل
بعضه بعضاً، ولا يوجد بعد ذلك إلا العاجز عن العمل. وعرفنا أن السائل هو "
عمرو بن الجموح " ، وكانت له قصة عجيبة؛ كان أعرج والأعرج معذور من الله في
الجهاد، فليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج. "
وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من غزوة فجاءه عمرو بن الجموح وقال: يا
رسول الله لا تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من الخروج لعرجتي. قال له
النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد عذرك فيمن عذر. قال: ولكني يا رسول الله أحب
أن أطأ بعرجتي الجنة ".
هذا هو مَنْ سأل عن ماذا ينفقون، فجاءت الإجابة من الحق: { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ
مِّنْ خَيْرٍ } أي ما أخرجتم من مال؛ لأن الإنفاق يعني الإخراج، والخير هنا هو
المال، والإنفاق يقتضي إخراج المال عن ملكية الإنسان ببيع أو هبة أو صلة، وأصل
كلمة " الإنفاق " مأخوذ من " نفقت السوق " أي راجت؛ لأن السوق
تقوم على البضاعة، وحين تأتي إلى السوق ولا تجد سلعاً فذلك يعني أن السوق رائجة،
ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لازالت قائمة.
إذن فمعنى " نفقت السوق " أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من
الدابة، فعندما نقول: نفقت الدابة، أي ماتت. وأوجه الإنفاق بينها ـ سبحانه ـ في
قوله: } فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىا وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ {. فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن
علينا أن نفهم أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط، ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في
أي زاوية من زوايا الضعف؛ لأن الطفل عندما يكون يتيماً ولديه ماله، ثم يراك تعطف
عليه فهو يشعر أن أباه لم يمت؛ لأن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين، وبعد ذلك لا
يشب على الحسد لأولاد آباؤهم موجودين، لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغولا بأبنائه عن
أيتام مات أبوهم، هنا يظهر فيه الحقد، وتتربى فيه غريزة الاعتراض على القدر، فيقول
" لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟ " ، ولكن حين يرى الناس جميعا آباءه،
ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من له أب واحد يتركه الناس
اعتماداً على وجود أبيه، لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه بالمودة
والمحبة، ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع الإسلامي والألفة والرضا بقدر
الله، ولا يعترض أحد على وفاة أبيه، فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء
متعددين.
ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لأن والده ترك له ما يكفيه، لو
علموا ما يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست
المسألة مسألة حاجة مادية، وإنما هي حاجة معنوية.
وأنا أقول دائما: يجب أن نربي في الناشئة أن الله لا يأخذ أحداً من خلقه وفي الأرض
حاجة إليه؛ وارقبوا هذا الأمر فيمن حولكم تجدوا واحداً وقد تُوفى وترك أولاداً
صغاراً فيحزن أهله ومعارفه؛ لأنه ترك أولاده صغاراً، وينسون الأمر من بعد ذلك،
وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن أولاد ذلك الرجل قد صاروا سادة الحي، وكأن
والدهم كان محبسا على رزقهم، فحينما انتهى الأب فتح الله على الأبناء صنابير
الرزق، وذلك حتى لا يُفتَن إنسان في سبب.
وبعد الإنفاق على اليتامى نجد الإنفاق على المساكين وابن السبيل، وقد عرفنا أن
المسكين هو المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله.
ويختم الحق هذه الآية بقوله: } وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
بِهِ عَلِيمٌ {. إن الله يريد أن يرد الطبع البشري إلى قضية هي: إياك أن تطلب جزاء
الخير الذي تفعله مع هؤلاء من أحد من الخلق، ولكن اطلبه من الله، وإياك أن تحاول
أن يعلم الناس عنك أنك مُنْفِق على الأقارب واليتامى وابن السبيل؛ لأن الذين
تريدهم أن يعلموا لا يقدرون لك على جزاء، وعلمهم لن يزيدك شيئا، وحسبك أَنْ يعلم
الله الذي أعطاك، والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته. فحين ينفق الناس
لمرضاة الناس، يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق،
واستبقى الشر ممن أنفقه عليهم.
ولو أن الإنسان المسلم قصد بالإنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق الأعلى عز وجل
لاستبقى ما أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة، ولسخر الله له قلوب من تصدق عليهم
بالمحبة والوفاء بالمعروف، وهذه عدالة من الله تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛
لأنهم يعطون وفي بالهم أنهم أعطوا له، ولو أعطوا الله لما أنكر الآخذ جميل العطاء.
أنت أعطيته لمرضاته هو، فكأن الله يقول لك: سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق
في السر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فمنهم: "..
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وهذا هو الأفضل
في صدقة التطوع، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وكذلك الحال بالنسبة للصلاة
فالفريضة تكون إعلانها أفضل، والنافلة يكون إسرارها أفضل. لكن لو عملت وفي بالك
الله فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ. فإياك أن تحاول ولو من طرف خفيّ أن يعلم
الناس أنكم تفعلون الخير. وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله
تعالى: } وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىا
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ { يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال
فيقول: } كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ... {
(/218)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق الإنسان فهو سبحانه لا يعالج
الأمر علاجا سوفسطائيا، بمعنى أن يقول: وماذا في القتال؟ لا، إن الخالق يقول: أعلم
أن القتال مكروه. وحتى إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر
ذلك. ولو لم يقل الحق إن القتال كره: لفهم الناس أن الله يصور لهم الأمر العسير
يسيرا.
إن الله عز وجل يقول للذين آمنوا: اعلموا أنكم مقبلون على مشقات، وعلى متاعب، وعلى
أن تتركوا أموالكم، وعلى أن تتركوا لذتكم وتمتعكم. ولذلك نجد كبار الساسة الذين
برعوا في السياسة ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم كانوا لا يحبون لشعوبهم أن تخوض
المعارك إلا مضطرين، فإذا ما اضطروا فهم يوضحون لجندهم أنهم يدرأون بالقتال ما هو
أكثر شراً من القتال، ومعنى ذلك أنهم يعبئون النفس الإنسانية حتى تواجه الموقف
بجماع قواها، وبجميع ملكاتها، وكل إرادتها.
والحق سبحانه وتعالى يقول: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ
} إنه سبحانه يقول لنا: أعلم أن القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية، هذه
القضية هي ألا تحكموا في القضايا الكبيرة في حدود علمكم؛ لأن علمكم دائما ناقص، بل
خذوا القضايا من خلال علمي أنا؛ لأنني قد أشرع مكروها، ولكن يأتي منه الخير. وقد
تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر. ولذلك ينبهنا الحق إلى أن كثيراً من الأمور
المحبوبة عندنا يأتي منها الشر، فيقول الواحد منا: " كنت أتوقع الخير من هذا
الأمر، لكن الشر هو ما جاءني منه ".
وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها، لكنها تأتي بالخير. ولذلك يترك الحق فلتات
في المجتمع حتى يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالى لا يُجري أمور الخير على
مقتضيات ومقاييس علم العباد، إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد.
ولننظر إلى ما رواه الحق مثلا للناس على ذلك:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِفَتَاهُ لا
أَبْرَحُ حَتَّىا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً *
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا
لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـاذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ
إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىا آثَارِهِمَا قَصَصاً }[الكهف: 60-64]
إن موسى عليه السلام يسير مع فتاه إلى مجمع البحرين، ويقال: إنه ملتقى بحرين في
جهة المشرق، وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلان منه، لكن السفر والمشقة أنساهما
الحوت وانطلق الحوت بآية من الله إلى البحر، وعندما وصل موسى إلى مجمع البحرين طلب
من فتاه أن يأتي بالطعام بعد طول التعب، لكن الفتى يقول لموسى: إنه نسي الحوت، ولم
ينسه إياه إلا الشيطان.
وإن الحوت اتخذ طريقه إلى البحر، فقال موسى: إن هذا ما كنا نطلبه علامة على وصولنا
إلى غايتنا وهي مجمع البحرين، أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب، فإن الرجل الذي
جئنا من أجله هناك في هذا المكان، وارتد موسى والغلام على آثارهما مرة أخرى.
فما الذي يحدث؟ يلتقي موسى عليه السلام بالعبد الصالح الخضر، وهو ولي من أولياء
الله، علمه الله العلم الرباني الذي يهبه الله لعباده المتقين كثمرة للإخلاص
والتقوى. ويطلب موسى عليه السلام من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلام أن
يتعلم منه بعض الرشد. لكن العبد الرباني الذي وهبه الله من العلم ما يفوق استيعاب
القدرة البشرية يقول لموسى عليه السلام:{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }[الكهف: 67-68]
لقد كان موسى على علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها
خير؛ لأن ذلك هو السبيل والعلامة التي يعرف بها موسى كيف يلتقي بالعبد الصالح.
ويستمر السياق نفسه في قصة موسى والعبد الصالح، قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير،
سواء في قصة السفينة التي خرقها أو الغلام الذي قتله، أو الجدار الذي أقامه.
لقد كان علم العبد الصالح علماً ربانياً، لذلك أراد موسى أن يتعلم بعضاً من هذا
العلم لكن العبد الصالح ينبه موسى عليه السلام أن ما قد يراه هو فوق طاقة الصبر؛
لأن الذي قد يراه موسى من أفعال إنما قد يرى فيها شراً ظاهراً، لكن في باطنها كل
الخير.
وقَبِل موسى عليه السلام أن يقف موقف المتعلم بأدب مع العالم الذي وهبه الله العلم
الرباني. ويشترط العبد الرباني على موسى ألا يسأل إلا بعد أن يحدثه العبد الرباني
عن الأسباب. ويلتقي موسى والعبد الرباني بسفينة فيصعدان عليها، ويخرق العبد
الرباني السفينة، فيقول موسى:{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً }[الكهف: 71]
فيرد العبد الصالح:{ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
}[الكهف: 72]
ويتذكر موسى أنه وعد العبد الصالح بالصبر، لكن ما الذي يفعله موسى وقد وجد العبد
الصالح يخرق سفينة تحملهم في البحر؟ إنه أمر شاق على النفس. ولذلك يقول موسى:{ لاَ
تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً }[الكهف: 73]
إن موسى يعود إلى وعده للعبد الصالح، ويطلب منه فقط ألا يكلفه بأمور تفوق قدرته.
وينطلق العبد الصالح ومعه موسى عليه السلام، فيجد العبد الصالح غلاما فيقتله، فيقول
موسى:{ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
نُّكْراً }[الكهف: 74]
ويُذكر العبد الصالح موسى أنه لن يستطيع الصبر معه، ويعتذر موسى عما لا يعلم.
ويمر العبد الصالح ومعه موسى بقرية فطلبا من أهل القرية الضيافة، لكن أهل القرية
يرفضون الضيافة، ويجد العبد الصالح جدارا مائلا يكاد يسقط فيبدأ في بنائه، فيقول
موسى:{ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }[الكهف: 77] ويكون الفراق بين
العبد الصالح وموسى. ويخبر العبد الصالح موسى بما لم يعلمه ولم يصبر عليه. إن خرق
السفينة كان لإنقاذ أصحابها من اغتصابها منهم؛ لأن هناك ملكا كان يأخذ كل سفينة
صالحة غصباً، فأراد أن يعيبها ليتركها الملك لهؤلاء المساكين.
وقتل الغلام كان رحمة بأبويع المؤمنين، كان هذا الابن سيجلب لهما الطغيان والكفر،
وأراد الله أن يبدله خيراً منه.
وأن الجدار الذي أقامه كان فوق كنز، وكان ليتيمين من هذه القرية وكان والد
الغلامين صالحاً، لذلك كان لابد من إعادة بناء الجدار حتى يبلغ الغلامان أشدهم
ويستخرجا الكنز ويقول العبد الصالح عن كل هذه الأعمال:{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }[الكهف: 82]
إن العبد الصالح لا ينسب هذا العمل الرباني لنفسه، ولكن ينسبه إلى الخالق الذي
علمه. إذن فالحق يطلق بعضاً من قضايا الكون حتى لا يظن الإنسان أن الخير دائماً
فيما يحب، وأن الشر فيما يكره، ولذلك يقول سبحانه: } وَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىا أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ
لَّكُمْ { فإن كان القتال كرهاً لكم، فلعل فيه خيراً لكم. وبمناسبة ذكر الكُره
نوضح أن هناك " كَره " و " كُره ". إن " الكَره "
بفتح الكاف: هو الشيء المكروه الذي تُحمل وتُكْرَهُ على فعله، أما " الكُره
" بضم الكاف فهو الشيء الشاق.
وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق، وقد يكون شاقاً ولكن غير مكروه. والحق يقول: }
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ {. ولنلاحظ أن الحق دائماً
حينما يشرع فهو يقول: } كُتِبَ { ولا يقول: " كَتبت " ذلك حتى نفهم أن
الله لن يشرع إلا لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أي تكاليف، وهل
يكون من المنطقي أن يكلف الله مَنْ آمَن به ويترك الكافر بلا تكليف؟
نعم، إنه أمر منطقي؛ لأن التكليف خير، وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية
أنه مُقيِّد، نقول لهم: لو كان التكليف الإيماني يقيد لكلف الله به الكافر، ولكن
الله لا يكلف إلا مَنْ يحبه، إنه سبحانه لا يأمر إلا بالخير، ثم إن الله لا يكلف
إلا مَنْ آمن به؛ لأن العبد المؤمن مع ربه في عقد الإيمان.
إذن فالله حين يقول: " كُتب " فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم
على أحد حركة اختياره الموهوبة له، والله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية
الاختيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.
ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع الله في عقد إيمان، وبمقتضى هذا العقد كتب
الله عليه التكاليف. ومن هذه التكاليف القتال، فقال سبحانه: } كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ {.
وقوله: } عَلَيْكُمُ { يعني أن القتال ساعة يكتب لا يبدو من ظاهر أمره إلا المشقة
فجاءت } عَلَيْكُمُ { لتناسب الأمر. وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ
الغنائم، وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا الجنة.
ويعبر الحق عن ظاهر الأمر في القتال فيقول عنه: } وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىا
أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىا أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً
وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ {. إنها قضية عامة كما قلنا. لذلك فعلينا أن نرد الأمر إلى
من يعلمه، } وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ { فكل أمر علينا أن
نرده إلى حكمة الله الذي أجراه؛ لأنه هو الذي يعلم.
وهناك قصة من التراث الإنساني تحكي قضية رجل من الصين، وكان الرجل يملك مكانا
متسعا وفيه خيل كثيرة، وكان من ضمن الخيل حصان يحبه. وحدث أن هام ذلك الحصان في
المراعي ولم يعد، فحزن عليه، فجاء الناس ليعزوه في فقده الحصان، فابتسم وقال لهم:
ومن أدراكم أن ذلك شر لتعزوني فيه؟
وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه، فلما رأى الناس ذلك
جاءوا ليهنئوه، فقال لهم: وما أدراكم أن ذلك خير، فسكت الناس عن التهنئة. وبعد ذلك
جاء ابنه ليركب الجواد فانطلق به، وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه، فجاء
الناس مرة أخرى ليواسوا الرجل فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر؟
وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو، وتركوا هذا
الابن؛ لأن ساقه مكسورة، فجاءوا يهنئونه، فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك خير؟ فعلينا
ألا نأخذ كل قضية بظاهرها، إن كانت خيراً أو شراً، لكن علينا أن نأخذ كل قضية من
قضايا الحياة في ضوء قول الحق:{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ وَلاَ
تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ }[الحديد: 23]
والحق هو القائل: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {. ولله المثل
الأعلى، سبق لنا أن ضربنا المثل من قبل بالرجل الحنون الذي يحب ولده الوحيد ويرجو
بقاءه في الدنيا، لذلك عندما يمرض الابن فالأب يعطيه الدواء المر، وساعة يعطيه
الجرعة فالابن يكره الدواء ولكنه خير له. وبعد ذلك يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن
سؤال آخر يقول فيه: } يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... {
(/219)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لأنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن
السؤال عن القتال في الشهر الحرام، فما جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال استفزازي،
والمسألة لها قصة. ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهراً، وقد جعل الله فيها أربعة أشهر
حرم: شهر واحد فرد وهو رجب، وثلاثة سرد، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ومعنى
أشهر حرم أي أن القتال محرم فيها.
لقد علم الله كبرياء الخلق على الخلق، لذلك جعل الله لخلقه ساترا يحمي كبرياءهم،
ومن هذه السنن التي سنها الله هي حرمة القتال في الأشهر الحرم، والأماكن الحرم،
فيجوز أن الحرب تضر المحارب، لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال، فيستمر
في الحرب مهما كان الثمن، فيأتي الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين: ارفعوا
أيديكم في هذه الشهور لأني حرمت فيها القتال. وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون
من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب، ولكن كبرياءهم يمنعهم من التراجع، وعندما
يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع حفاظه على ماء الوجه. وكذلك
جعل الله أماكن محرمة، يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن الله هو الذي حرمها،
وتكون لهم ستاراً يحمي كبرياءهم.
إذن فالحق سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان أراد أن يصون الإنسان حتى يحقن الدماء،
فإذا ظل الناس ثلاثة أشهر بلا حرب، ثم شهراً آخر، فنعموا في هذه الفترة بالسلام
والراحة والهدوء، فربما يألفون السلام، ولا يفكرون في الحرب مرة أخرى، لكن لو
استمرت الحرب بلا توقف لظل سعار الحرب في نفوسهم، وهذه هي ميزة الأشهر الحرم.
والأشهر الحرم حُرُمٌ في الزمان والمكان؛ لأن الزمان والمكان هما ظرف الأحداث، فكل
حدث يحتاج زمانا ومكانا. وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفي القتال يأخذ
فرصة للهدوء.
إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم الإسلام من كفار قريش واليهود
أن يثيروها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض السرايا للاستطلاع،
والسرية هي عدد محدود من المقاتلين، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل
سرية على رأسها عبد الله بن جحش الأسدي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأرسل معه ثمانية أفراد، وجعله أميرا عليهم، وأعطاه كتابا وأمره ألا يفتحه إلا بعد
مسيرة يومين، وذلك حتى لا يعلم أحد أين تذهب السرية، وفي ذلك احتياط في إخفاء
الخبر.
فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد الله الكتاب وقرأه فإذا به: اذهب إلى " بطن
نخلة " وهو مكان بين مكة والطائف واستطلع عير قريش، ولا تُكره أحدا ممن معك
على أن يسير مرغما، بمعنى أن يكون لكل فرد في السرية حرية الحركة، فمن يفضل عدم
السير فله هذا الحق.
وبينما هم في الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان، وذهبا يبحثان عن
البعير، وبقى ستة مقاتلين مع عبد الله، وذهب الستة إلى " بطن نخلة "
فوجدوا " عمرو بن الحضرمي " ومعه ثلاثة على عير لقريش، فدخلوا معهم في
معركة، وكان هذا اليوم في ظنهم هو آخر جمادى الآخرة، لكن تبين لهم فيما بعد أنه
أول رجب أي أنه أحد أيام شهر حرام.
وقتل المسلمون ابن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله من أصحاب عبد الله ابن جحش،
وأسروا اثنين ممن معه، وفر واحد، فلما حدث هذا، وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول
رجب، عند ذلك اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب.
وثارت المسألة أخذا وردّاً بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا: إن
محمداً يدعي أنه يحترم المقدسات ويحترم الأشهر الحرم، ومع ذلك قاتل في الأشهر
الحرم، وسفك دمنا، وأخذ أموالنا، وأسر الرجال. فامتنع رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الغنائم والأسرى حتى يفصل الله في القضية فنزل حكم السماء في القضية بهذا
القول الحكيم:
} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىا يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ
إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُوْلـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـائِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [البقرة: 217]
نحن مُسلّمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير، ولكن انظروا يا كفار قريش إلى
ما صنعتم مع عبادنا وقارنوا بين كِبْر هذا وكِبْر ذاك. أنتم تقولون: إن القتال في
الشهر الحرام مسألة كبيرة، ولكن صدكم عن سبيل الله وكفركم به، ومنعكم المسلمين من
المسجد الحرام، وإخراج أهل مكة منها أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فلا
تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر الحرام، ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات.
فكأن الحق أراد أن يضع قضية واضحة هي: لا تؤخذوا من جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا
فيها خلف كلمة حق وأنتم تريدون الباطل فالواقع يعرض الأشياء، ونحن نقول: نعم إن
القتال في الشهر الحرام كبير. ولكن يا كفار قريش اعلموا أن فتنة المؤمنين في دينهم
وصدهم عن طريق الله، وكفركم به ـ سبحانه ـ وإهداركم حرمة البيت الحرام بما تصنعون
فيه من عبادة غير الله، وإخراجكم أهله منه، إن هذه الأمور الآثمة هي عند الله اكبر
جرماً وأشد إثماً من القتال في الأشهر الحرم لاسترداد المسلمين بعض حقهم لديكم.
ولهذا يرد الحق سهام المشركين في نحورهم } وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّىا يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ { أي إياكم أن تعتقدوا أنهم
سيحترمون الشهر الحرام ولا المكان الحرام، بل } وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
{ أي وسيصرون، ويداومون على قتالكم } حَتَّىا يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن
اسْتَطَاعُواْ {. وتأمل قوله: } إِن اسْتَطَاعُواْ { إن معناها تحد لهم بأنهم لن
يستطيعوا أبدا فـ " إنْ " تأتي دائما في الأمر المشكوك فيه. ويتبع الحق
} وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـائِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { سيظلون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن
استطاعوا. ثم يختم الحق الآية بقضية يقول فيها: } وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن
دِينِهِ { هذه الآية يقابلها آية أخرى يقول الحق فيها:{ وَمَن يَكْفُرْ
بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
}[المائدة: 5]
وإذا قارنّا بين الآيتين نجد أن الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد ورد فيها
قوله: } فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ { وفي سورة المائدة لم يرد هذا وإنما ورد قوله: }
وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ { وقد اختلف العلماء في
المسألة اختلافات جميلة. ولكنهم اتفقوا أَوَّلا على أن أي إنسان يرتد عن الإسلام
ثم يموت مرتداً فقد حبطت أعماله. ولكن اختلافهم تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية،
أي لم يمت وهو كافر، بل رجع فآمن بعد ردته، فهل حبط عمله أم لم يحبط؟.
وللإمام الشافعي رأي يقول: إن الذي يرتد عن الدين تحبط أعماله إن مات على الكفر،
أما إن عاد وأسلم مرة أخرى فإن أعماله التي كانت قبل الارتداد تكون محسوبة له.
والإمام أبو حنيفة له رأي مختلف فهو يقول: لا، إن آية سورة المائدة ليس فيها }
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ { وعليه فإننا نحملها على آية سورة البقرة التي ذكر فيها
ذلك من باب حمل المطلق على المقيد، وعلى ذلك فالذي يكفر بعد إيمانه عمله محبط سواء
رجع إلى الإيمان بعد ذلك أو لم يرجع، فلا يحتسب له عمل.
أين موضوع الخلاف إذن؟. هي أن إنساناً آمن وأدى فريضة الحج ثم لا قدر الله كفر
وارتد، ثم رجع فآمن أتظل له الحجة التي قام بها قبل الكفر أم تحبط ويطلب منه حج
جديد؟ هذه هي نقطة الخلاف. فالشافعي يرى أنه لا يحبط عمله مادام قد رَجع إلى
الإيمان لأن الله قال: } فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ { فمعنى ذلك أنه إن لم يمت على
الكفر فإن عمله لا يحبط. ولكن لا يأخذ ثوابا على ذلك الحج الذي سبق له أن أداه،
لقد التفت الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى شيء قد يغفل عنه كثر من الناس، وهو أن
الحج ركن من أركان الإسلام، فالذي لا يحج وهو قادر على الحج فالله يعاقبه على
تقصيره، والذي حج لا يعاقب ويأخذ ثواب فعله.
فكأن الأعمال التي طلبها الحق سبحانه وتعالى إن لم تفعلها وكانت في استطاعتك
عوقبت، وإن فعلتها يمر عملك بمرحلتين، المرحلة الأولى هي ألا تُعاقب، والمرحلة
الثانية هي أن تُثاب على الفعل. فالشافعي قال: إن الشخص إذا فعل فعلاً يُثاب عليه
الإنسان، ثم كفر، ثم عاد إلى الإسلام فهو لا يُعاقب، ولكنه يُثاب. أما الإمام أبو
حنيفة فقد قال: إنه لا عبرة بعمله الذي سبق الردة مصداقا لقوله تعالى: } حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ { أي أبطلت وزالت، وكأنها لم تكن. إن القرآن استخدم هنا كلمة "
حبط " ، وهي تستخدم تعبيرا عن الأمر المحسوس فيقال: " حبطت الماشية
" أي أصابها مرض اسمه الحباط، لأنها تأكل لونا من الطعام تنتفخ به، وعندما
تنتفخ فقد تموت. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " إن مما ينبت الربيع ما
يقتل حبطاً أو يلم ".
إنه صلى الله عليه وسلم يحذرنا من أن الخير قد يندس فيه شر، مثلما يحدث في الربيع
الذي ينبت فيه من النبات الذي يعجب الماشية فتأكله فيأتيها مرض " الحُباط
" ، فتنتفخ ثم تموت، أو " يلم " أي توشك أن تموت، وكذلك الأعمال
التي فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل انتفاخ البطن، وكل هذه العمليات الباطلة ستحبط
كما تحبط الماشية التي أكلت هذا اللون من الخضر، ثم انتفخت فيظن المشاهد لها أنها
سمنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض. لقد أعطانا الله من هذا القول المعنى المحسوس
لتشابه الصورتين؛ فالماشية عندما تحبط تبدو وكأنها نمت وسمنت، لكنه نمو غير طبيعي
إنه ليس شحماً أو لحما، لكنه ورم، كذلك عمل الذين كفروا؛ عمل حابط، وإن بدا أنهم
قد قاموا بأعمال ضخمة في ظاهرها أنها طيبة وحسنة.
ويقول بعض الناس: وهل يُعقل أن الكفار الذين صنعوا إنجازات قد استفادت منها
البشرية، هل من المعقول أن تصير أعمالهم إلى هذا المصير؟. لقد اكتشفوا علاجا
لأمراض مستعصية وخففوا آلام الناس، وصنعوا الآلات المريحة والنافعة. ونقول لأصحاب
مثل هذا الرأي: مهلاً، فهناك قضية يجب أن نتفق عليها وهي أن الذي يعمل عملاً؛ فهو
يطلب الأجر ممن عمل له، فهل كان هؤلاء يعملون وفي بالهم الله أم في بالهم
الإنسانية والمجد والشهرة، وما داموا قد نالوا هذا الأجر في الدنيا فليس لهم أن
ينتظروا أجراً في الآخرة. لذلك يقول الحق:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور: 39]
إن الكافر يظن أن أعماله صالحة نافعة لكنها في الآخرة كالسراب الذي يراه الإنسان
في الصحراء فيظنه ماء، ويجد نفسه في الآخرة أمام لحظة الحساب فيوفيه الله حسابه
بالعقاب، وليس لهم من جزاء إلا النار، وينطبق عليهم ما ينطبق على كل الكافرين
بالله، وهو } وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {.
هذا وإن الحق سبحانه وتعالى يوضح حقيقة الأمر للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه
وسلم حتى يعطيهم مناعة إيمانية ضد آمال الكافرين في الإضرار بالمؤمنين، فيعلمنا
أنهم لن يدخروا وسعا حتى يردوكم عن دينكم؛ لأن منهج الله دائماً لا يخيف إلا
المبطلين؛ فالإنسان السوي الذي يريد أن يعايش العالم في سلام ويأخذ من الخير على
قدر حركته في الوجود لا ترهقه سيادة مبادئ الإسلام، إنما تُرهق مبادئ الإسلام
هؤلاء الذين يريدون أن يسرقوا عرق وكدّ غيرهم وهم يبذلون كل الجهد ويستخدمون كافة
الأساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم، ولكن هل يُمكّنهم الله من ذلك؟ لا؛ فلا
يزال هناك أمل في الخير إن تمسكت أمة الإسلام بالمنهج الحق.
إنه سبحانه يعطي المناعة للمؤمنين، والمناعة ـ كما نعرف ـ هي أن تنقل للسليم
ميكروب المرض بعد إضعافه، وبذلك تأخذ أجهزة جسمه فرصة لأن تنتصر على هذا الميكروب؛
لذلك قال الحق: } وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُوْلـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ {. إن الخلاف الجوهري بين المؤمن والكافر،
هو أن المؤمن إنما يعمل العمل الصالح وفي نيته أن المكافئ هو الله، وهو يتجه بنية
خالصة في كل عمل. ويأخذ بأسباب الله في العلم لينتفع به غيره من الناس؛ فتكون
الفائدة عميمة وعظيمة، وعلى المؤمن أن يكون سباقاً إلى الاكتشاف والاختراع ونهضة
العالم المسلم، وأن يكون المؤمن العالم منارة تشع بضوء الإيمان أمام الناس، لا أن
يترك غيره من الكافرين يصلون إلى المكتشفات العلمية وهو متواكل كسلان.
إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب الله في الحياة؛ لأن الإسلام هو دين ودنيا، وهو دين
العلم والتقدم، ويضمن لمن يعمل بمنهجه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. وإذا كان
المؤمن يستمتع بإنتاج يصنعه الكافر فليعلم أن الكافر إنما أخذ أجره مُسخراً ممن
عمل له، أما المؤمن فحين يتفوق في الصناعة والزراعة والعلم والاكتشاف فهو يأخذ
الأجر في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الذي يعطي هنا هو الله.
أما عمل الكافر فهو عمل من مسخر كالمطايا وكالجماد والنبات والحيوان المسخر لخدمة
الإنسان. وإذا كان الله قد ميز المؤمن على الكافر بالأجر في الدنيا وحسن الثواب في
الآخرة، ألا يليق بالمؤمن أن يسبق الكافر في تنمية المجتمع الإسلامي، وأن يكون
بعمله منارة هداية لمن حوله؟! ويقول الحق من بعد ذلك: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلـائِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللَّهِ... {
(/220)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
إن الآية قد عددت ثلاثة أصناف: الصنف الأول هم الذين آمنوا، والصنف الثاني هم
الذين هاجروا، والصنف الثالث هم الذين جاهدوا. إن الذين آمنوا إيماناً خالصاً لوجه
الله، وهاجروا لنصرة الدين، وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة الإسلام هؤلاء قد فعلوا
كل ذلك وهم يرجون رحمة الله. ولقائل أن يقول: أليست الرحمة مسألة متيقنة عندهم؟
ونقول: ليس للعبد عند الله أمر متيقن؛ لأنك قد لا نفطن إلى بعض ذنوبك التي لم
تُحسن التوبة منها، ولا التوبة عنها. وعليك أن نضع ذلك في بالك دائماً، وأن تتيقن
من استحضار نية الإخلاص لله في كل عمل تقوم به؛ فقد تحدثك نفسك بشيء قد يفسد عليك
عملك، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الموصولين بربهم
يقول: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يُرفع ودعاء لا يُسمع
".
إن الرسول الكريم وهو سيد المحتسبين في كل أعماله يعلمنا أن النفس قد تخالط صاحبها
بشيء يفسد الطاعة. وعلى المسلم أن يظل في محل الرجاء. والمؤمن الذي يثق في ربه لا
يقول: إن على الله واجباً أن يعمل لي كذا؛ لأن أصل عبادتك لله سبق أن دفع ثمنها،
وما تناله من بعد ذلك هو فضل من الله عليك، مدفوع ثمنها لك إيجاداً من عدم
وإمداداً من عُدْم، ومدفوع ثمنها بأن متعك الله بكل هذه الأشياء، فلو قارنت بين ما
طلبه الله منك ـ على فرض أنك لا تستفيد منه ـ فقد أفدت مما قدم لك أولا، وكل خير
يأتيك من بعد ذلك هو من فضل الله عليك، والفضل يرجى ولا يُتيقن.
وعظمة الحق سبحانه وتعالى في أنك تدعوه خوفاً وطمعاً. ويقول هذا المثل ـ ولله المثل
الأعلى ـ إن من عظمتك أمام والدك أنك تجد لك أباً تخاف منه، وترغب أن يحقق لك
بعضاً من أحلامك، ولو اختلت واحدة من الاثنتين لاختلت الأبوة والبنوة.
كذلك عظمة الرب يُرغب ويُرهب: إن رغبت فيه ولم ترهبه فأنت ناقص الإيمان، وإن رهبت
ولم ترغب فإيمانك ناقص أيضاً، لذلك لابد من تلازم الاثنتين: الرهبة والرغبة. ولو
تبصّر الإنسان ما فرضه الله عليه من تكاليف إيمانية لوجد أنه يفيد من هذه التكاليف
أضعافاً مضاعفة. فكل ما يجازي به الله عباده إنما هو الفضل، وهو الزيادة. وكل رزق
للإنسان إنما هو محض الفضل. ومحض الفضل يُرجى ولا يُتيقن. وها هو ذا الحق يقول:{
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }
[الأعراف: 55-56]
إن الدنيا كلها مسخرة تحت قهر الرحمن ومشيئته وتسخيره، وله تمام التصرف في كل
الكائنات وهو الخالق البديع، لذلك فليدع الإنسان الله بخشوع وخضوع في السر
والعلانية، والحق لا يحب من يعتدي بالقول أو الرياء أو الإيذاء.
إن الإيمان يجب أن يكون خالصا لله، فلا يفسد الإنسان الأرض بالشرك أو المعصية؛ لأن
الحق قد وضع المنهج الحق لصلاح الدنيا وهو القرآن، ورسالة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ورحمة الله قريبة من المطيعين للحق جل وعلا.
إن عظمة الرب في أنه يُرغب ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه فعملك غير مقبول، وإن
رهبته ولم ترغبه فعملك غير مقبول. إن الرغب والرهب مطلوبان معاً، لذلك فالمؤمن
المجاهد في سبيل الله يرجو رحمة الله.
والحق يقول: } أُوْلـائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ { ما هي الرحمة؟ الرحمة ألا
تبتلى بالألم من أول الأمر، والحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ
مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }[الإسراء: 82]
الشفاء هو أن تكون مصابا بداء ويبرئك الله منه، لكن الرحمة، هي ألا يأتي الداء
أصلا } وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {.
والله سبحانه وتعالى يعلم عن عباده أن أحداً منهم قد لا يبرأ من أن يكون له ذنب. فلو
حاسبنا بالمعايير المضبوطة تماما فلسوف يتعب الإنسان منا، ولذلك أحب أن أقول ـ
دائما ـ مع إخواني هذا الدعاء: " اللهم بالفضل لا بالعدل وبالإحسان لا
بالميزان وبالجبر لا بالحساب ". أي عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبإحسانك لا
بالميزان، لأن الميزان يتعبنا.
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة لا يكون بالأعمال وحدها،
ولكن بفضل الله ورحمته ومغفرته. إن الرسول الكريم يقول: " لن يدخل أحدكم
الجنة بعمله. فقالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا حتى يتغمدني الله برحمته
".
إذن فالمؤمن يرجو الله ولا يشترط على الله، إن المؤمن يتجه بعمله خالصا لله يرجو
التقبل والمغفرة والرحمة، وكل ذلك من فضل الله. ويأتي الحق لسؤال آخر: }
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ... {
(/221)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
والخمر ـ كما نعرف ـ مأخوذة من الستر، ويقال: " دخل فلان خمرة " أي في
أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها. و " الخِمار " هو القناع الذي
ترتديه المسلمة لستر رأسها، وهو مأخوذ أيضا من نفس المادة. و " خامرة الأمر
" أي خالطه. وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر. و " الميسر "
مأخوذ من اليسر؛ لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب.
والخمر والميسر من الأمور التي كانت معروفة في الجاهلية. والإسلام حين جاء ليواجه
نُظُما جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها
من أول الأمر، ورفع راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، ثم جاء
الإسلام في الأمور التي تُعتبر من العادات فبدأ يهونها؛ لأن الناس كانت تألفها،
لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة. وكان هذا من حكمة الشرع، فلم يجعل الأحكام في
أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي الوجود كله، وإنما
أخذ الأمور بالهوادة.
وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر، فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من
يتعاطاها يغيب عن وعيه. ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذي كرمه الله
بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة في الأرض ويستره
ويغيِّبه، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التي أكرمه بها، وهذا هو
الحمق.
ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا،
ونسأل هؤلاء: وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ لا، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش
همومك لتواجهها بجماع عقلك، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن
تنساها، لا، بل لابد أن توظف عقلك في مواجهتها، وما دام المطلوب منك أن تواجه
المشكلات بعقلك فلا تأتي لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل، والذي يعينك على
مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل.
وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد
السبيل للخروج منها، فإذا كان الأمر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لأن
الله يريد منك أن تريح عقلك في مثل هذه الأمور، وإن كان الأمر له حل وفي استطاعتك
حله، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته.
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم، ويعطينا عطاء لنحكم نحن
في الأمر قبل أن يطلب منا. إنه ـ سبحانه ـ يمتن علينا ويقول:{ وَمِن ثَمَرَاتِ
النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً }[النحل:
67]
فعندما ذكر الله { سَكَراً } مر عليها بلا تعليق.
وعندما قال: } رِزْقاً { وصفه بأنه } حَسَناً { فكان يجب أن نتنبه إلى أن الله
يمهد لموقف الإسلام من الخمر؛ فهو لم يصف " السكر " بأي وصف، وجعل للرزق
وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما يستخرجون من هذه الثمرات سكراً، فهم قد أخرجوها عن
الرزق الحسن، لأن هناك فرقا بين أن تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده
وتجعله ساتراً للعقل.
وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح. فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له: سأدلك على
طريق الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو لا تسير. وعندما تشرع وتضع الحكم، فأنت تأمر
هذا الشخص أو ذاك بأن يفعل الأمر ولا شيء سواه.
والحق سبحانه وتعالى عندما قال: } يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ { ،
ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها، قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله: } قُلْ
فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ { ولو لم يقل } وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ { لاستغرب الناس وقالوا: نحن نأخذ من الخمر منافع، ونكتسب منها، وننسى
بها همومنا، كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من
نفعهما، أي أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما، وهذا تقييم
عادل، فلم تكن المسألة قد دخلت في نطاق التحريم، لأنها مازالت في منطقة النصح
والإرشاد.
وقوله تعالى: } وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا { يجعل فيهما نوعا من
الذنب، لقد كان التدرج في الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإلف
العادة، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة. والعادة شيء يقود إلى الاعتياد؛ بحيث إذا
مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك اضطراب. وما دامت المسألة
تقود إلى الاعتياد، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد.
لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم
نهائياً، وجاء ليصلي، فقال: " قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ " وبعدها نزل تأديب الحق بقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا حَتَّىا تَعْلَمُواْ
مَا تَقُولُونَ.. }[النساء: 43]
وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها؛ فالإنسان الذي يصلي صدر عليه
الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران، فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب
الخمر حتى يصلي الصبح، ويقترب الظهر فيستعد للصلاة، ثم العصر بعد ذلك، ويليه
المغرب فالعشاء، أي لن يصبح عنده وقت ليشرب في الأوقات التي ينتظر فيها الصلاة،
إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا في آخر الليل، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط
في نومه. ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه
الخمر.
ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التي دفعتهم لأن
يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهم حكماً فاصلاً في الخمر فنزل
قوله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ
وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }[المائدة: 90-91]
فقالوا: انتهينا يا رب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله؛ لأن العقل
هو مناط التكليف للإنسان، وهو مناط الاختيار بين البدائل، فأراد الحق أن يصون
للإنسان تلك النعمة.
إن هدف الدين في المقام الأول سلامة الضرورات الخمس التي لا يستغني عنها الإنسان:
سلامة النفس، وسلامة العرض، وسلامة المال، وسلامة العقل، وسلامة الدين. وكل
التشريعات تدور حول سلامة هذه الضرورات الخمس، ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن
الحفاظ عليها يبدأ من سلامة العقل، فسلامة العقل تجعله يفكر في دينه. وسلامة العقل
تجعله يفكر في حركة الحياة. وسلامة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض.
إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة، والحق سبحانه
وتعالى يريد ألا يخمر الإنسان عقله بأي شيء مُسكر. حتى لا يحدث عدوان على هذه
الضرورات الخمس.
وقد جمع الله في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر، وهو جل
وعلا يريد أن يحمي غفلة الناس. فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين
يجلسان أمام بعضهما البعض، وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر، فأي
أخوة تبقى بين هؤلاء؟ إن كلاًّ منهما حريص على أن يعيد الآخر إلى منزله خاوي
الجيوب فأي أخوة تكون بين الاثنين؟
ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الأصحاب، ويحرص كل منهما على لقاء
الآخر، فأي خيبة في هذه الصداقة؟!
ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله، يأخذ ماله ويبقى على صداقته،
والعجيب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر. ولو لاحظت
حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون
أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً، لماذا؟
لأن المال حين يُكتسب بيسر، يُصرف منه بلا احتياط، هذا هو حال من يكسب، أما
بالنسبة للخاسر فتجده يعيش في الحسرة والألم على ما فقد، وتجده في فقر دائم، وربما
اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه، إن لم يبع ملابسه، وأعز ما يملك، ويحدث كل ذلك
بأمان زائفة، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين، الذي كسب والذي خسر، فالذي كسب
يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر، والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب.
وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه، ويعتاد أن يعيش على
الكسب السهل الرخيص، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس.
وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع، فهم الذين
يرتشون ويسرقون ويعربدون، ولا أخلاق عندهم وليس لهم صاحب ولا صديق، وبيوتهم
منهارة، وأسرهم مفككة، وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم.
ولذلك قال الحق: } يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا {
وما دام الإثم أكبر من النفع، فقد رجح جانب الإثم. هذا في العملية الذاتية، أما في
العملية الزمنية فقد قال سبحانه:{ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَىا }[النساء: 43]
وبعد ذلك أنهى ـ سبحانه ـ المسألة تماما بقوله الحق:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ
مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[المائدة: 90]
ثم تمضي الآية إلى سؤال آخر هو } وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ { إنه السؤال نفسه من عمرو بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو }
قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ
وَالْيَتَامَىا وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ { وهنا جواب بشكل وصورة أخرى }
قُلِ الْعَفْوَ { والعفو معناه الزيادة وفي ذلك يقول الحق ـ سبحانه وتعالى ـ:{
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا
مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىا عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ
آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ }[الأعراف: 94-95]
إن الله ـ جلت قدرته ـ يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر، إنه ـ سبحانه ـ لم يرسل
نبيًّا إلى قومٍ فقابلوه بالتكذيب والنكران إلاّ أخذهم وابتلاهم بالفقر والبؤس
والمرض والضر لعلهم يتوبون إلى ربهم ويتذلّلون له ـ سبحانه ـ ليرفع عنهم ما
ابتلاهم به، ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم
وامتحنهم بالنعم؛ بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى كثروا وزادت أموالهم
وخيراتهم، وقالوا ـ وهم في ظل تلك النعم ـ: إن ما يصيبنا من سراء وضراء وخير وشر
إنما هو سنة الكون، وعادة الدهر، فأسلافنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما يصيبنا،
ولما أصروا على كفرهم باغتهم الله بالعذاب، وأنزل بهم العقاب المفاجئ. قلبهم الله
بين الشدة والرخاء، وعالجهم بالضر واليسر، حتى لا تكون لهم حجة على الله، ولما
ظهرت خسة طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. ولنتأمل قوله تعالى
في ذلك:{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىا أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ
جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ
أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }
[الأنعام: 42-44]
أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أتوا من
النعمة والثروة وكثرة العدد، } أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ
{ أي يائسون من رحمة الله أو نادمون متحسرون، ولا ينفعهم الندم حينئذ. فقد فاتت
الفرصة وضيّعوها على أنفسهم.
إن الحق ينزل هذا الأمر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة، إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق
عقاباً صاعقاً، كالذي يرفع كائناً في الفضاء ثم يتركه ليهوى على الأرض، والعفو هنا
يمكن أن يكون بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان. وهناك معنى آخر للعفو فقد يأتي بمعنى
الترك:{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
}[البقرة: 178]
أي فمن ترك له أخوه شيئا فليأخذه. إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة، وتارة أخرى
يكون بمعنى الترك، والحق هنا يقول: } وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ { أي أن الإنفاق إنما يكون من الزائد عن الحاجة، فيكون معنى العفو هنا
هو الزائد أو المتروك، وهكذا نرى أن العفو واحد في كلا الأمرين، فلا تظن أن
المعاني تتضارب؛ لأن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية. فالعفو هو الزيادة،
والعفو أيضا يؤخذ بمعنى الصفح.
إذن فالإنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع. فالذي
يزرع أرضا وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد، فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم
ينفق منه على قريبه أو جاره المحتاج؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق؟ وكان ذلك قبل
أن يشرع الحق الزكاة بنظامها المعروف. وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة؟
لأن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك، فجعل حركته تخفف عنه ولا تثقل عليه. لأن حركة
المتحرك تنفع المتحرك، أراد المتحرك أو لم يرد؛ ولذلك نجد " زكاة الركاز
" وهي الزكاة المفروضة على ما يوجد في باطن الأرض من ثروات كالمعادن النفيسة
والبترول وغيرها، لقد جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة، أي الخمس بينما
الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو
العشر على ما أنتجته زراعته.
وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر. والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب
للمنتج ويشتري منه، ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها، هذا نقول له: عليك اثنان
ونصف في المائة (2.5%) فقط.
إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد، كأن الحق يحمي الحركة الإنسانية من حمق
التقنين البشري. إن المتحرك القوي يدفعه الله ليزيد من حركته لينتفع المجتمع،
وأوكل الله للحاكم الذي يتبع منهج الإسلام أن يأخذ من الأثرياء ما يقيم به كرامة
الفقراء. إِنْ بَخِلَ الأغنياء بفضل الله عليهم، ولم ينفقوا على الفقراء من رزق
الله؛ فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع، ومن فساد الكسل، ويريد الحياة مستقيمة
وآمنة للناس.
فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن. وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد
دائرة الأمان، وهكذا لقد حمى الله بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر،
فالمقنن من البشر يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه الأعباء، نقول له: إن هذا المتحرك
إن لم يقصد أن ينفع المجتمع فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه؛ فالإنسان الذي يملك
مالا يُلقي الله خاطرا في باله، فيقول: " ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار،
وفي كل دور أربع شقق " ويحسب كم تعطيه تلك العمارة من عائد كل شهر. إن هذا
الرجل لم يكن في باله إلا أن يربح، فنتركه يفكر في الربح، وعندما نراقب الفائدة
التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل، ولنا أن
نحسب كم فردا سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة؟ ابتداء من البنائين ومرورا
بالنجارين والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم.
إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل
جيبه مليم واحد؛ لقد ألقى الله في نفسه خاطراً، فأخرج كل ما في جيبه، وألقاه في
جيوب الآخرين قبل أن توجد له عمارة. وهكذا يحمي الله حركة المتحرك لأن حركته ستفيد
سواه قصد إلى ذلك أو لم يقصد.
أما إذا قلنا له: سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسراً فلا بد أن يقول لنفسه: "
سأجعل حركتي على قدر حاجتي ولا أزيد إلا قليلا ". والحق عز وجل لا يريد أن
يشيع هذا المنطق بين الناس، ولكن يريد لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلال،
وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم، لأن الحركة لا يستفيد منها صاحبها
فقط ولكن يستفيد منها الجميع، فبعضه يسكن، وآخر يزرع، وثالث يعمل، وخير للإنسان أن
يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم.
عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أكل أحد
طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل
من عمل يده ".
ويقول الحق من بعد ذلك: } فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْيَتَامَىا قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ... {
(/222)
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
إن الحق يبدأ هذه الآية بقوله: { فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } وكأنه يقول لنا:
إياك أن تعتقدوا أن كل تكليف من الله جزاؤه في الآخرة فقط، أبدا إن الجزاء سيصيبكم
في الدنيا أيضا.
وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الأخلاق في حياتهم تجدهم قد
أخذوا جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل: كيف ربى فلان
أولاده، وكيف علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟
هم لا يعلمون أن يد الله معه بالبركة في كل حركات حياته. فلا تظن أن الجزاء مقصور
على الآخرة فقط، بل يعجل الله بالجزاء في الدنيا، أما الآخرة فهي زيادة ونحن نأخذ
متاع الآخرة بفضل الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدكم
الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله
برحمته ".
وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة، ويرى كيف يعيشون
وكيف ينفقون على أولادهم، ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم
من المشاكل والعقد النفسية.
وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم، إنما جاء لينظم
لنا حركة الحياة ويخرجنا من أهواء النفوس.
ونقول بعد أن استكمل الحق الكلام عن الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، بين
لنا صنفين من المجتمع: أما الصنف الأول فهو الصنف المنافق الذي لا ينسجم منطقه مع
واقع قلبه ونفسه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
* وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }[البقرة: 204-205]
وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع، لا، إنه إذا قيل له من ناصح محب
مشفق: " اتق الله " أخذته العزة بالإثم!!. والصنف الآخر في المجتمع هو
من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال
فيكون شهيداً، وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون فيه الخير لمنهج الله. فقال
سبحانه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }[البقرة: 207]
ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة، والدخول في السلم أي الإسلام يطلب منا أن
ندخل جميعاً في كل أنواع السلم في الحياة، سلم مع نفسك فلا تتعارض ملكاتك، فلا
تقول قولاً يناقض قلبك، وسِلمٌ مع المجتمع الذي تعيش فيه، وسلم مع الكون الذي
يخدمك جماداً ونباتاً وحيواناً، وسلم مع أمتك التي تعيش فيها، فقال سبحانه:{
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ
تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
[البقرة: 208]
كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق، وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلامة
والأمن في كل أطوار هذه الحياة، فإن رأيت خللاً أو اضطراباً في الكون، أو رأيت
خوفاً أو قلقاً فاعلم أن منهجاً من مناهج الإسلام قد عُطل. والحق سبحانه وتعالى
حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج
فإن الله عزيز حكيم فلا يغلبه أحد، ولا يقدر عليه أحد، فهو القادر القوي الذي
يُجري كل شيء بحكمة، فلا تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى الله بالزلل عن منهجه، وإنما
تسيئون إلى أنفسكم وإلى أبناء جنسكم؛ لأن الله لا يُغلب.
وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر، إنه يلفتنا إلى أننا لا نملك أمر الساعة، فالساعة
تأتي بغتة ومفاجئة، وصاخة طامة، مرجفة مزلزلة. فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم
في غفلة عنها. وكل ذلك لندخل أيضا في السلام في اليوم الآخر، وكأن الحق سبحانه
يلفتنا إلى أن كلمات القرآن ليست مجرد كلمات نظرية، ولكنها كلمات الحكيم الخبير
التي حكمت تاريخ الأمم التي سبقت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان، وشقوا هم،
وشقي بهم المجتمع، إذن فالكلام ليس كلاماً نظرياً. ويريد الله لنا أن ننظر بعمق
إلى أمور الحياة، وألا ننظر إلى سطحيات الأمور، فيجب ألا تخدعنا زينة الحياة
الدنيا عن الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الدنيا أَمَدُها قصير، وعلينا أن نقيس عمر
الدنيا بأعمارنا منها، وأعمارنا فيها قصيرة؛ لأن منا من يموت كبيراً ومنا من يموت
صغيراً.
ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملاً، وإنما أرسل لهم رسُلاً يبينون لهم
منهج الله، فكان الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الأهواء في نفوسهم،
ومع ذلك رحمهم الله فلم يسلمهم إلى الأهواء، بل استمر موكب الرسالات في البشر،
وكلما غلبتهم الأهواء وطم الفساد، أرسل الحق برحمته رسولا لينبه إلى أن جاء الرسول
الخاتم الذي ميزه الله بخلود منهجه، وجعل القيم في أمته. وصارت الأمة المحمدية هي
حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة في الأرض؛ لأن الحق سبحانه لم
يأمن أمة سواها، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
ثم نبهنا الله من بعد ذلك إلى أن نهاية الإنسان إلى نعيم الله في الجنة لن يأتي
سهلاً ميسوراً، بل هو طريق محفوف بالمكارة، فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها
وتدربوها على تحمل هذه المكاره، وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق. كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ".
ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للإنسان الخليفة في الأرض عقلاً يفكر به،
وطاقة تنفذ تخطيط العقل، وكوناً مادياً أمامه يتفاعل معه في الحركة: فالعقل يخطط،
والطاقة تنفذ في المادة المخلوقة المسخرة لله. إذن فكل أدوات الحركة موجودة لله،
وليس لك أيها الإنسان أن تخلق شيئاً فيها إلا أن تُُُوجه طاقات مخلوقة للعمل في
مادة مخلوقة، فأنت لا توجد شيئا.
وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة، بأن تقدر للعاجز عن
هذه الحركة نصيباً من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك، وتسع من
تعول، وتسع العاجز عن الحركة. وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة
المتحركين من إخوانه المؤمنين، وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وأَمَّنْتَ
العاجز، فهو ـ جل وعلا ـ يؤمنك حين يطرأ عليك العجز.
لقد جعل الله سبحانه حالة الحياة دولاً بين الناس، فلا يوجد قوم قادرون دائماً ولا
قوم عاجزين دائماً، بل يجعل الحق من القادرين بالأمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين
بالأمس قادرين اليوم؛ حتى تتوزع الحركة في الوجود. وحتى يعلم كل منا أن الله يطلب
منك حين تقدر؛ ليعطيك حين تعجز. لذلك طلب منا أن ننفق، والنفقة على الغير لا تتأتى
إلا بعد استيفاء الإنسان ضروريات حياته، فكأن الحق يقول لك: إن عليك أن تتحرك في
الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من تعول، وإلا لو تحركت حركة على قدرك فقد لا
تجد ما تنفقه.
وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية الإنفاق على الدائرة
القريبة منه؛ ليتحمل كل موجود في الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا
نَسَبِيّاً؛ كالوالدين والأقربين. وأن نجعل الضعفاء من الأيتام مشاعاً على المجتمع
مطلوبين من الجميع. سواءٌ كانت تربطهم بنا قرابة أو لا تربطنا بهم قرابة فهم جميعاً
أقاربنا؛ لأن الله كلفنا بأن نرعاهم.
ولكن هل يمكن أن يستقر منهج الله دون أن يعاديه أحد؟ طبعاً لا؛ لذلك ينبهنا الحق
إلى أننا سنجد أقواماً لا يسعدهم أن يطبق منهج الله في الوجود؛ لأنهم لا يعيشون
إلا على مظالم الناس، هؤلاء قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج الله، فلتنتبهوا لهؤلاء؛
ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع الفتنة بالكفر من الأرض؛ لأن الكفر يعدد
الآلهة في الكون وسيتبع كل إنسان الهوى، ويصبح إلهه هواه وستتعدد الآلهة بتعدد
الأهواء، ولذلك كتب الله على المؤمنين القتال وقال: } وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ { ،
كل ذلك ليضمن لنا الغاية التي يريدها، وهي الدخول في السلم والسلام والإسلام كافة.
وبعد ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت
إلى ذلك الحركة الإيمانية فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ
وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلـائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[البقرة: 218]
ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطي في الإنسان ليحميه ويجعله جهازاً
سليماً قادراً على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة، وهو العقل، ويلفتنا بضرورة أن نمنع
عن العقل كل ما يخمره أي يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما
يريده الله أداة الاختيار بين البدائل.
وما دام العقل هو الذي يخطط للطاقة الموجودة في الإنسان لتعمل في المادة الموجودة
في الكون فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليماً، فلا يحاول الإنسان أن يستره، ولا
يقل أحد: " إني أستره من فرط زيادة المشكلات " ، لا: لأن المشكلات لا
تريد عقلاً واحداً منك فقط، ولكنها تريد عقلين، فلا تأتي للعقل الواحد لتطمسه
بالخمر، فمواجهة المشكلات تقتضي أن نخطط تخطيطاً قوياً.
وبعد ذلك يحذرنا الحق أن نأخذ من حركة الآخرين بغير عرق وبغير جهد، فيحذرنا من
الميسر وهو الرزق السهل، والتحذير من الميسر إنما جاء ليضمن لكل إنسان أن يتحرك في
الحياة حركة سليمة لا خداع فيها. وكأن كل ما تقدم هو من إشراقات قوله الحق: } فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ { ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْيَتَامَىا قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ
اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[البقرة: 220]
ونعرف أن اليتامى قد لا يدخلون في دائرة المحتاجين لكن الله ينبهنا إلى أن المسألة
في اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات، ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل
الإيماني عما فقده من الأب، وذلك يمنع عنه الحقد على الأطفال الذين لم يمت آباؤهم.
وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان الأب ولا
يعاني من نظرة الأسى التي ينظر بها إلى أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم، وبذلك
تخلع منه الحقد.
وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم، وعلى
أمر حركة اليتيم مئونة العمل، فلو أن يتيماً دخل تحت وصاية إنسان، وأراد هذا
الإنسان أن يجعل لليتيم القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكاً مستقلاً في
الحياة لشق ذلك على نفس الرجل، ولذلك أذن الله أن يخلط الوصي ماله بمال اليتيم،
وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله، بما لا يوجد عند الوصي مشقة. ولما نزل قوله
تعالى:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
}[الأنعام: 152]
وتحرج الناس، وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال:{
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىا ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ نَاراً }[النساء: 10]
وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل الأمر، فأنزل
القول الحق: } قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ { والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى إخوانكم واحذروا جيداً أن
يكون في هذا الخلط شيء لا يكون فيه إصلاح لليتيم.
وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الاجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفاً على مال
اليتيم دون حساب؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح. فلا يحاول أحد أن يقول أمام
الناس: إنه قد فتح بيته لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما الأمر على غير ذلك؛ لأن
الله يعلم المفسد من المصلح.
ويقول الحق: } وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ { والإعنات هو أن توقع غيرك
وتدخله في أمر فيه مشقة، فلو لم يبح الله لكم مخالطتهم لأصابتكم مشقة فيسر الله
للمؤمنين من الأوصياء أن يخالطوا اليتامى، ومعنى المخالطة: هو أن يُوحد الوصي حركة
اليتيم مع حركته، وأن يوحد معاش اليتيم مع معاشه، بدلاً من أن يكون لليتيم على
سبيل المثال أدوات طعام مستقلة، وقد كان هذا هو الحاصل.
وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الأطعمة مثل
الثلاجات، وكان ذلك ضرراً باليتيم، وضرراً أيضا بمن يشرف عليه. لكن حين قال: }
وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ { ، فكان ذلك توفيرا للمشقة على الأوصياء. فالمخالطة هي
المعاشرة التي لا يتعثر فيه التمييز.
وقد درسنا في طفولتنا درسا بعنوان " الخلط والمزج " فالخلط هو أن تخلط
على سبيل المثال حبوب الفول مع حبوب العدس، أو حبوب الأرز مع حبوب البندق.
وعندما تأتي لتمييز صنف من آخر، فأنت تستطيع ذلك، وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن
بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها.
أما المزج فهو في السوائل. والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى لا أن نمزج مالهم
بمالنا؛ لأن اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد، وسيكون على الوصي أن يفصل ماله عن مال
اليتيم.
ويتابع الحق: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ { لأن الوصي قد
يدعي أمام الناس أنه يرعى حق اليتيم، وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله، لكن الأمر قد
يختلف في النية وهو سبحانه لم يكل الأمر إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصي مع
اليتيم وعن المخالطة، بل نسب ذلك كله إلى رقابته سبحانه، وذلك حتى يحتاط الإنسان
ويعرف أن رقابة الله فوق كل رقابة، ولو شاء الحق لأعنت الأوصياء وجعلهم يعملون
لليتيم وحده، ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم. وفي ذلك مشقة شديدة على
النفس. وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانه:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128]
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم، عربي ومن قريش يبلغكم رسالة الله سبحانه
وتعالى. يحرص عليكم كيلا تقعوا في مشقة أو تعيشوا في ضنك الكفر، حريص على أن
تكونوا من المهتدين.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتي من جنس الملائكة، ولكن جاء من جنس البشر، فلا
يقولن أحد: إنه لا يصلح أسوة لي. إنه نشأ في مكة التي تعيش بها قريش، وتاريخه
معروف لقومه: بدليل أنهم خلعوا عليه أول الأوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهي
الأمانة، فالحق جاء به من البشر وليس بغريب عليهم، وبمجرد أن أخبر بالوحي وجد
أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا، وقبل أن يأتيهم بتحدٍ. " فعندما جاءه المَلَكُ
جبريلُ عليه السلام في غار حراء، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى
بلغ مني الجهد، [أي ضمني وعصرني، والحكمة فيه شغله عن الالتفات ليكون قلبه حاضراً]
ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد
ثم أرسلني وقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثالثة فغطني ثم أرسلني فقال:
} اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ { فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال لها: " زملوني. زملوني ". فزملوه
حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: " لقد خشيت على نفسي "
لكن خديجة رضي الله عنها بحسن استنباطها تقول: " كلا والله لا يخزيك الله أبدا
إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق "
".
إن خديجة رضوان الله عليها تستنبط أن من فيه هذه الخصال إنما هو مهيأ للرسالة.{
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
}[التوبة: 128]
أي محب لكم يشق عليه ويتعبه ما يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه
وسلم مشغولا بأمته. ويروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمتي. أمتي.
أمتي ". والحق سبحانه وتعالى يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول
بأمته. " عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول
الله عز وجل في إبراهيم } رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ
فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.. { الآية. وقال عيسى عليه السلام: } إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ { فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى. فقال الله عز وجل: " يا
جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك. فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام
فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل
اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ".
إننا عندما نتأمل دقة الجواب النبوي نعرف أن الرسول الكريم مشغول بأمته، ولكنه
ينظر إلى نفسه على أنه أخ لكل مؤمن. والأخ قد يتغير على أخيه؛ لذلك لم يشأ الرسول
الكريم أن يُخرج أمر المسلمين من يد الله ورحمته وهو الخالق الكريم إلى أمره هو
صلى الله عليه وسلم.
إن الرسول يعرف أن الله أرحم بخلقه من أي إنسان، حتى الرسول نفسه. نقول ذلك في
معرض حديثنا عن العنت الذي يمكن أن يصاحب الإنسان أن لم يرع حق الله في مال
اليتيم؛ لأن الله عزيز حكيم، وهو الحق الذي يغلب ولا يغلبه أحد. ونرى في قول الحق:
} إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { أن صفة العزة متآزرة بصفة الحكمة.
وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها
أساس أي حركة في الحياة وفي المجتمع، إنها مسألة الزواج. ويريد سبحانه أن يضمن
الاستقرار والسعادة للكائن الذين كرمه وجعله خليفة في الأرض، وجعل كل الأجناس
مسخرة لخدمته.
إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لأن الأهواء المتضاربة هي
التي تفسد حركة الحياة، فأراد أن يصدر المجموع الإنساني كله عن ينبوع عقدي واحد،
وأراد أن يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والأهواء، لذلك ينبهنا الحق
إلى هذا الموقف. إنه سبحانه يريد سلامة الوعاء الذي سيوجد ذلك الإنسان، من بعد
الزواج، فبالزواج ينجب الإنسان وتستمر الحياة بالتكاثر. ولذلك لابد من الدقة في
اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل. فهو سبحانه يقول: } وَلاَ تَنْكِحُواْ
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ... {
(/223)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
إن الحق يقول: { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا يُؤْمِنَّ } ، وهذه أول
لبنة في بناء الأسرة وبناء المجتمع، لأنها لو لم تكن مؤمنة، فماذا سوف يحدث؟ إنها
ستشرف على تربية الطفل الوليد إشرافاً يتناسب مع إشراكها، وأنت مهمتك كأب ومرب لن
تتأتى إلا بعد مدة طويلة تكون فيها المسائل قد غُرست في الوليد، فإياك أن يكون
الرجل مؤمنا والمرأة مشركة؛ لأن هذا يخل بنظام الأسرة فعمل الأم مع الوليد يؤثر في
أوليات تكوينه إنه يؤثر في قيمه، وتكوين أخلاقه. وهذا أمر يبدأ من لحظة أن يرى
ويعي، والطفل يقضي سنواته الأولى في حضن أمه، وبعد ذلك يكبر؛ فيكون في حضن أبيه،
فإذا كانت الأم مشركة والأب مؤمنا فإن الإيمان لن يلحقه إلا بعد أن يكون الشرك قد
أخذ منه وتمكن وتسلط عليه.
ونعرف أن الطفولة في الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في الكائنات كلها، فهناك طفولة
تمكث ساعتين اثنتين مثل طفولة الذباب، وهناك طفولة أخرى تستغرق شهراً، وأطول طفولة
إنما تكون في الإنسان؛ لأن هذه الطفولة مناسبة للمهمة التي سيقوم بها الإنسان، كل
الطفولات التي قبلها طفولات لها مهمة سهلة جدا، إنما الإنسان هو الذي ستأتي منه
القيم، لهذا كانت طفولته طويلة؛ إنها تستمر حتى فترة بلوغ الحلم. والحق هو
القائل:{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[النور: 59]
فكأن الطفل يظل طفلاً إلى أن يبلغ الحلم، فكم سنة إذن ستمر على الطفل؟. وكم سنة
سوف يتغذى هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمه مشركة؟ إنها فترة طويلة لا يمكن
له من بعد ذلك أن يكون مؤمنا غير مضطرب الملكات. وإن صلح مثل هذا الإنسان أن يكون
مؤمنا فسيقوم إيمانه على القهر والقسر والولاية للأب وسيكون مثل هذا الإيمان عملية
شكلية وليست مرتكزة ولا معتمدة على أساس صادق.
ونحن نعرف أن الثمرات التي ننعم نحن بأكلها لا يكون نضجها إلا حين تنضج البذرة
التي تتكوّن منها شجرة جديدة، وقبل ذلك تكون مجرد فاكهة فِجة وليس لها طعم. وقد
أراد الحق أن ينبهنا إلى هذا الأمر ليحرص الإنسان على أن يستبقى الثمرة إلى أن
تنضج ويصير لها بذور.
إن المرأة لا تكون ثمرة طيبة إلا إذا أنجبت مثلها ولداً صالحا نافعا، يريد الحق
للنشء أن يكون غير مضطرب الإيمان؛ لذلك يقول: { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّىا يُؤْمِنَّ } أي إياكم أن تنخدعوا بالمعايير الهابطة النازلة، وعلى كل منكم
أن يأخذ حكم الله: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ } لأن إعجاب الإنسان بالمرأة بصرف النظر عن الإيمان سيكون إعجابا
قصير العمر.
إن عمر الاستمتاع بالجمال الحسي للمرأة إن جمعنا لحظاته فلن يزيد مجموعه عن شهر من
مجموع سنوات الزواج. فكل أسبوع يتم لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها يذبل الجمال،
وتبقى القيم هي المتحكمة، ونحن نجد المرأة حين تتزوج، ثم يبطئ الحمل فإنها تعاني
من القلق وكذلك أهلها.
إن الرجل إن كان قد تزوجها للوسامة والقسامة والقوام والعينين، فهذا كله سيبرد
ويهدأ بعد فترة، ثم توجد مقاييس أخرى لاستبقاء الحياة، وعندما يلتفت إليها الإنسان
ولا يجدها فهو يغرق في الندم؛ لأنها لم تكن في باله وقت أن اختار.
لذلك تريد المرأة أن تُمكن لنفسها بأن يكون عندها ولد لتربط الرجل بها، وحتى يقول
المجتمع: " عليك أن تتحملها من أجل الأولاد "! فالرجل بعد الزواج يريد
قيماً أخرى غير القيم الحسية التي كانت ناشئة أولاً، لذلك يحذرنا الله قائلاً: }
وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا يُؤْمِنَّ {. وجاء قوله } حَتَّىا
يُؤْمِنَّ { لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ما دامت قد آمنت فقد انتهت المسألة.
وانظروا إلى دقة قوله سبحانه: } وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا
يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ { أي إنّ الأمة المسلمة
خير من حرة مشركة، } وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ { لقد جاء قول الحق هنا بمقاييس الإعجاب
الحسي. ليلفتنا إلى أننا لا يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة وزائلة.
ثم يقول الحق: " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " وهذا هو النظير في
الخطاب وهو ليس متقابلا فهو لم يخاطب المؤمنات ألا ينكحن المشركين، إنما قال }
وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّىا يُؤْمِنُواْ { وتلك دقة في الأداء هنا؛
لأن الرجل له الولاية في أن يُنْكح، فيأمره بقوله: لا تُنكح، لكن المرأة ليس لها
ولاية أن تُنكح نفسها. فنحن نعرف القاعدة الشرعية التي تقول: " لا نكاح إلا
بولي " ، وهو لم يوجه حديثه للنساء؛ لأن المرأة تتحكم فيها عاطفتها لكن وليها
ينظر للأمر من مجموعة زوايا أخرى تحكم الموقف.
صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي نضمن أن عاطفتها ليست مصدودة عن هذا الزواج، لكن
الأب أو ولي الأمر الرجل يقيس المسائل بمقاييس أخرى، فلو تركنا للفتاة مقياسها
لتهدم الزواج بمجرد هدوء العاطفة، وساعة تأتي المقاييس العقلية الأخرى فلن تجد ذلك
الزواج مناسباً لها فتفشل الحياة الزوجية. لذلك يطالبنا الإسلام أن نستشير المرأة،
كي لا نأتيها بواحد تكرهه، ولكن الذي يزوجها إلى ذلك الرجل هو وليها؛ لأن له
المقاييس العقلية والاجتماعية والخلقية التي قد لا تنظر إليها الفتاة؛ فقد يبهرها
في الشاب قوامه وحسن شكله وجاذبية حديثه، لكن عندما تدخل المسألة في حركة الحياة
ودوامتها قد تجده إنساناً غير جدير بها.
ولكي تكون المسألة مزيجاً من عاطفة بنت، وعقل أب، وخبرة أم، كان لابد من استشارة
الفتاة، وأن يستنير الأب برأي الأم، ثم يقول الأب رأيه أخيراً، وكل زواج يأتي بهذا
الأسلوب فهو زواج يحالفه التوفيق، لأن المعايير كلها مشتركة، لا يوجد معيار قد
اختل؛ فالأب بنى حكما على أساس موافقة الابنة، أما إذا رفضت الفتاة وكانت معايير
الأب صحيحة، لكن الابنة ليس لها تقبل لهذا الرجل؛ لذلك فلا يصح أن يتم هذا الزواج.
وكثير من الزيجات قد فشلت لأننا لم نجد من يطبق منهج الله في الدخول إلى الزواج.
وحين لا يطبقون منهج الله في الدخول إلى الزواج ثم يُقَابَلون بالفشل فهم يصرخون
منادين قواعد الإسلام لتنقذهم.
ونقول لهم: وهل دخلتم الزواج على دين الله؟ إنكم مادمتم قد دخلتم الزواج بآرائكم
المعزولة عن منهج الله فلتحلوا المسألة بآرائكم. فالدين ليس مسئولاً إلا عمن يدخل
بمقاييسه، لكن أن تدخل على الزواج بغير مقاييس الله ثم تريد من الله أو من
القائمين على أمر الله أن يحلوا لك المشاكل فذلك ظلم منك لنفسك وللقائمين على أمر
الله. وإن لم تحدث مثل هذه المشكلات لكنا قد اتهمنا منهج الله. ولقلنا: قد تركنا
منهج الله وسعدنا في حياتنا. ولذلك كان لابد أن تقع المشكلات.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: } وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا
يُؤْمِنَّ { هذه قضية لها سبب، لكن العبرة فيها بعموم موضوعها لا بخصوص سببها، لقد
كان السبب فيها هو ما روى أنه كان هناك صحابي اسمه مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين. وكان يهوى
امرأة في الجاهلية اسمها " عناق " وكانت تحبه، وساعة رأته أرادت أن تخلو
به فقال لها: ويحك إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت له: تزوجني، فقال لها: أتزوجك
لكن بعد أن أستأمر وأستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استأمره نزل قوله
تعالى: } وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ
مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ {.
وقيل إن قوله تعالى: } وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ { نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها
حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل الله ذكرك في
كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها.
ويتابع الحق فيقول: } وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّىا يُؤْمِنُواْ
وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْْ {. إن المقاييس
واحدة في اختيار شريك الحياة، إنها الرغبة في بناء الحياة الأسرية على أساس من
الخير، وغاية كل شيء هي التي تحدد قيمته، وليست الوسيلة هي التي تحدد قيمة الشيء،
فقد تسير في سبيل وطريق خطر وغايته فيها خير، وقد تسير في سبيل مفروش بالورود
والرياحين وغايته شر، ولذلك يقول الحق: } أُوْلَـائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ
آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {.
والذين يدعون إلى النار هم أهل الشرك. أما الله فهو يدعو إلى الجنة، والمغفرة تأتي
بإذن الله أي بتيسير الله وتوفيقه. ونعرف جميعاً الحكمة التي قالها الإمام "
علي " كرم الله وجهه: لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.
وقوله الحق؛ } لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ { ترد كثيراً، هذا التذكر ماذا يفعل؟ إن
التذكر يُشعرك بأن القضية كانت معلومة والغفلة هي التي طرأت، لكن الغفلة إذا تنبهت
إليها، فهي تذكرك ما كنت قد نسيته من قبل، لكن إن طالت الغفلة، نُسى الأصل فهذه هي
الطامة، التي تنطمس بها المسألة.
إذن فالتذكر يشمل مراحل: المرحلة الأولى: أن تعرف إن لم تكن تعرف، أو تعلم إن كنت
تجهل، والمرحلة الثانية: هي أن تتذكر إن كنت ناسياً، أو توائم بين ما تعلم وبين ما
تعمل؛ فالتذكر يوحي لك بأن توائم ما بين معرفتك وسلوكك حتى لا تقع في الجهل،
والجهل معناه أن تعلم ما يناقض الحقيقة. لقد أراد الله أن يصون الإنسان الذي اختار
الإيمان عندما حرم عليه الزواج بواحدة من أهل الشرك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الأرض عقيدة واحدة يصدر
عنها السلوك الإنساني؛ لأن العقائد إن توزعت حسب الأهواء فسيتوزع السلوك حسب
الأهواء. وحين يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ولا تتساند.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء
اللبنة الأولى للأسرة ألاّ ينكح مؤمن مشركة؛ لأن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى
حضانة الطفل لمدة طويلة هي ـ كما قلنا ـ أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي. ولو
كان الأب مؤمناً والأم مشركة فالأب سيكون مشغولاً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق
الأم معظم القيم التي تتناقض مع الإيمان.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أيضا ألا تتزوج المؤمنة مشركاً؛ لأنها بحكم زواجها من
مشرك ستنتقل إليه وإلى بيئته المشركة وإلى أسرته. وسينشأ طفلها الوليد في بيئة
شركية فتتأصل فيه الأشياء القيمية التي تناقض الإيمان. ويريد الحق سبحانه وتعالى
بهذه الصيانة، أي بعدم زواج المؤمن من مشركة، وبعدم زواج المؤمنة من مشرك، أن يحمي
الحاضن الأول للطفولة. وحين يحمي الحاضن الأول للطفولة يكون الينبوع الأول الذي
يصدر عنه تربية عقيدة الطفل ينبوعا واحداً، فلا يتذبذب بين عقائد متعددة. لذلك جاء
قول الحق:
} وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىا يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ
حَتَّىا يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى
الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ { [البقرة: 221]
كل ذلك حتى يصون الحق البيئة التي ينشأ فيها الوليد الجديد.
وعلينا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى رخص للمؤمنين في أن ينكحوا أهل الكتاب بقوله
الحق:{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن
قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[المائدة: 5]
وقد وقف العلماء من مسألة ترخيص الحق للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين:
الموقف الأول: هو موقف مانع؛ لأن بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب قد ينحرفون في
معتقداتهم إلى ما يجعلهم في الشرك، وقالوا: وهل هناك شرك أكثر من أن تُدعى
الربوبية لبشر؟ والموقف الثاني: أجاز بعض العلماء أن يتزوج الإنسان من كتابية ويجب
عليه أن يسألها أهي تدين بألوهية أحد من البشر أم تدين بالله الواحد القهار؟ فإن
كانت المسألة مجرد الخلاف في الرسول فالأمر يهون، أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من
البشر بجانب الله فقد دخلت في الشرك وعلى المؤمن أن يحتاط.
وإذا كان للرجل الولاية وله أن يتزوج بكتابية فهو غالباً ما ينقلها إلى بيئته هو
وستكون البيئة المؤثرة واحدة، ووجود الولاية للأب مع الوجود في البيئة الإيمانية
سيؤثر ويخفف من تأثير الأم الكتابية على أولادها، وإن كان على الإنسان أن يتيقظ
إلى أن هناك مسالك تتطلف وتتسلل ناحية الشرك، فمن الخير أن يبتعد المسلم عن ذلك،
وأن يتزوج ويعصم ويعفّ فتاة مسلمة.
وحين يحمي الحق سبحانه وتعالى الحضانة الأولى للطفل فهو يريد أن يربي في الطفل عدم
التوزع، وعدم التمزق ، وعدم التنافر بين ملكاته. وحين نضمن للطفل التواجد والنشأة
في بيئة متآلفة فهو ينشأ طفلاً سوياً. والإسلام يريد أن يحافظ على سويَّة هذا
الطفل. ويقول بعض الناس: ولماذا لا نوجد محاضن جماعية؟ وكأنهم بذلك يريدون أن
يحلوا الإشكال.
نقول لهم: إن الإشكال لم يحل عند الذين فعلوا ذلك من قبلنا، ولذلك فعندما نقرأ
مؤلفاتهم مثل كتاب " أطفال بلا أسر " فسنجد أن الطفولة عندهم معذبة.
ولماذا نذهب بعيداً؟ إننا عندما نتتبع كيفية النشأة الجماعية للأطفال في إسرائيل
فالبحوث العلمية تؤكد على أن الأطفال يعيشون في بؤس رهيب لدرجة أن التبول
اللاإرادي ينتشر بينهم حتى سن الشباب.
وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل يظل حتى تصل سنه إلى عامين أو أكثر وهو يطلب ألا
يشاركه في أمه أحد، حتى وإن كان أخاً له فهو يغار منه فما بالك بأطفال متعددين
تقوم امرأة ليست أمهم برعايتهم؟ ولا يغني عن حنان الأم حنان مائة مربية؛ فليس
للمربيات جميعاً قلب الأم التي ولدت الطفل، فالحنانُ الذي تعطيه الأم ليس حناناً
شكلياً ولا وظيفياً، ولكنه طبيعة حياة خلقها الله لتعطي العطاء الصحيح، لذلك لابد
من إعطاء الطفل فترة يشعر فيها بأن أمه التي ولدته له وحده، ولا يشاركه فيها أحد
حتى لو كان أخا له، وتمر عليه فترة بعد أن يخرج من مهد الطفولة الأولى إلى الشارع
ليجد حركة الحياة، ويجد القائمين على حركة الحياة هم الرجال وآباء أمثاله من
الأطفال فيجب بعد ذلك أن ينسب إلى أب له كيان معروف في المجتمع الخارجي.
فمن مقومات تكوين الطفل أن يشعر أن له أمّاً لا يشاركه فيها أحد، وأن له أباً لا
يشاركه فيه أحد. وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته ويضمهم ويشملهم جميعا حنان الأم
ورعاية الأب. لقد اعترف أهل العلم بتربية الأطفال أن احتياج الطفل لأمه هو احتياج
هام وأساسي للتربية لمدة عامين وبضعة من الشهور، والحق تبارك وتعالى حين أنزل على
رسوله قبل أربعة عشر قرناً من الآن؛ القول الحكيم الصادق بين هذه الحقيقة واضحة في
أجلى صورها:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً
حَتَّىا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىا وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[الأحقاف: 15]
إن الأم هي الحاضنة الطبيعية للطفل كما أرادها الحق. إذن، فالحق يريد أن يحمي
اللبنة الأولى في تكوين المجتمع وهي الأسرة في البناء العَقَدي من أن تتأثر
بالشرك، ويريد أن يحفظ للأسرة كياناً سليماً.
ويعالج الحق بعد ذلك قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن
هذه المسألة لأن الإسلام جاء وفي الجو الاجتماعي تياران:
تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة، لذلك لا يمكن للزوج أن يأكل معها أو
يسكن معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه. وتيار آخر يرى
المرأة في فترة الحيض امرأة عادية لا فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر
حياتها الزوجية مع زوجها دون تحوط أو تحفظ. كان الحال ـ إذن ـ متأرجحا بين الإفراط
والتفريط، فجاء الإسلام ليضع حداً لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى: }
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي
الْمَحِيضِ... {
(/224)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
حين تقرأ { هُوَ أَذًى } فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الأحكام، ولا تناقش
المسألة، مهما قال الطب من تفسيرات وتعليلات وأسباب نقل له: لا، الذي خلق قال: {
هُوَ أَذًى }. والمحيض يطلق على الدم، ويراد به ـ أيضاً ـ مكان الحيض، ويراد به
زمان الحيض.
وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لأن يتلقى حكما في هذا الأذى، وبذلك يستعد
الذهن للخطر الذي سيأتي به الحكم. وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت
حيثيته.
إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية
كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب. وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛
لأن المحيض أذى لهم. لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال
والنساء معا؛ لأن الآية أطلقت الأذى، ولم تحدد من المقصود به. والذي يدل على ذلك
أن الحيض يعطي قذارة للرجل في مكان حساس هو موضوع الإنزال عنده، فإذا وصلت إليه
الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة.
والذي يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه
وتعالى من البويضات، وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد لا يتم تلقيح البويضة،
فإن بطانة الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التي كانت تثبت
بطانة الرحم، وعندما تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض.
والحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية، وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيج،
لأن منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة للالتهابات سواء
للمرأة، أو للرجل إن جامع زوجته في فترة الحيض. والحيض يصيب المرأة بأذى في قوتها
وجسدها؛ بدليل أن الله رخص لها ألاّ تصوم وألاّ تصلي إذن فالمسألة منهكة ومتعبة
لها، فلا يجوز أن يرهقها الرجل بأكثر مما هي عليه.
إذن فقوله تعالى: { هُوَ أَذًى } تعميم بأن الأذى يصيب الرجل والمرأة. وبعد ذلك
بين الحق أن كلمة " أذى " حيثية تتطلب حكما يرد، إما بالإباحة وإما
بالحظر، وما دام هو أذى فلابد أن يكون حظراً.
يقول عز وجل: { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ }
والذي يقول: إن المحيض هو مكان الحيض يبني قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية،
لكن ما فوق السرة وما فوق الملابس فهو مباح، فقوله الحق: { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ }
أي لا تأتوهن في المكان الذي يأتي منه الأذى وهو دم الحيض. { حَتَّىا يَطْهُرْنَ
فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }. و "
يطهرن " من الطهور مصدر طهر يطهر، وعندما نتأمل قوله: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
} نجد أنه لم يقل: " فإذا طهرن " ، فما الفرق بين " طهر " و
" تطهر "؟
إنّ " يطهرن " معناها امتنع عنهن الحيض، و " تطهرن " يعني
اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ خلاف بين العلماء، هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع
الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته، أم لابد من الانتظار حتى تتطهر المرأة
بالاغتسال؟.
وخروجا من الخلاف نقول: إن قوله الحق: " تطهرن " يعني اغتسلن فلا مباشرة
قبل الاغتسال. ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر في استنباط الحكم، ومثال
ذلك قوله تعالى:{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ
يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ }[الواقعة: 77-79]
ما المقصود إذن؟ هل المقصود أن القرآن لا يمسكه إلا الملائكة الذين طهرهم الله من
الخبث، أو أن للبشر أيضا حق الإمساك بالمصحف لأنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال: إن
المسألة لابد أن ندخلها في عموم الطهارة، فيكون معنى } إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ {
أي الذين طهرهم من شرع لهم التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث
له أمران: التطهر والطهر.
فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الاغتسال، والطهر بتشريع الله، فكما أن الله طهر
الملائكة أصلا فقد طهرنا معشر الإنس تشريعا، وبذلك نفهم الآية على إطلاقها ونرفع
الخلاف. وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } حَتَّىا يَطْهُرْنَ {
أي حتى يأذن الله لهن بالطهر، ثم يغتسلن استجابة لتشريع الله لهن بالتطهر. }
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ { يعني في الأماكن الحلال.
} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ { وأراد الحق
تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا، فكما أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل
أيضاً منك أن تتطهر معنويا بالتوبة، لذلك جاء بالأمر حسيا ومعنويا. وبعد ذلك جاء
الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد، هذا الحكم ينهي إشكالا أثاره اليهود.
وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو في قُبلها ـ بضم القاف
ـ جاء الولد أحول. " القُبل " هو مكان الإتيان، وليس معناه الإتيان في
الدبر والعياذ بالله كما كان يفعل قوم لوط. ولّما كان هذا الإشكال الذي أثاره اليهود
لا أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد على هذه المسألة فقال: } نِسَآؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىا شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ... {
(/225)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
إن الحق سبحانه وتعالى يفسح المجال للتمتع للرجل والمرأة على أي وجه من الأوجه
شريطة أن يتم الإتيان في محل الإنبات. وقد جاء الحق بكلمة { حَرْثٌ } هنا ليوضح أن
الحرث يكون في مكان الإنبات. { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } وما هو الحرث؟ الحرث مكان
استنبات النبات، وقد قال تعالى:{ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ }[البقرة: 205]
فأتوا المرأة في مكان الزرع، زرع الولد، أما المكان الذي لا ينبت منه الولد فلا
تقربوه. وبعض الناس فهموا خطأ أن قوله: { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىا شِئْتُمْ }
معناه إتيان المرأة في أي مكان، وذلك خطأ؛ لأن قوله: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ
} يعني محل استنبات الزرع، والزرع بالنسبة للمرأة والرجل هو الولد، فأتها في
المكان الذي ينجب الولد على أي جهة شئت.
ويتابع الحق: { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي إياك أن تأخذ المسألة على أنها
استمتاع جنسي فحسب، إنما يريد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللذة الجنسية أن يحمي
متاعب ما ينشأ من هذه اللذة؛ لأن الذرية التي ستأتي من أثر اللقاء الجنسي سيكون
لها متاعب وتكاليف، فلو لم يربطها الله سبحانه وتعالى بهذه اللذة لزهد الناس في
الجماع.
ومن هنا يربط الحق سبحانه وتعالى بين كدح الآباء وشقائهم في تربية أولادهم بلذة
الشهوة الجنسية حتى يضمن بقاء النوع الإنساني. ومع هذا يحذرنا الحق أن نعتبر هذه
اللذة الجنسية هي الأصل في إتيان النساء فقال: { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } ،
يعني انظروا جيداً إلى هذه المسألة على ألا تكون هي الغاية، بل هي وسيلة، فلا
تقلبوا الوسيلة إلى الغاية، { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي ادخروا لأنفسكم
شيئاً ينفعكم في الأيام المقبلة.
إذن فالأصل في العملية الجنسية الإنجاب. { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي لا
تأخذوا المتاع اللحظي العاجل على أنه هو الغاية بل خذوه لما هو آت. وكيف نقدم
لأنفسنا أو ماذا نفعل؟ حتى لا نشقى بمَنْ يأتي، وعليك أن تتبين هذه العملية فقدم
لنفسك شيئاً يريحك، وافعل ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ساعة تأتي هذه
النعمة وتقترب من زوجتك لابد أن تسمي الله ويقول: " اللهم جنبني الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتني " ، وعندما يأتي المسلم أهله وينشأ وليده فلن يكون للشيطان
عليه دخل. وقال بعض العلماء: لا يمكن أن يؤثر فيه سحر، لماذا كل ذلك؟.
لأنك ساعة استنبته أي زرعته، ذكرت المُنْبِتَ وهو الله عز وجل. وما دمت ذكرت
المنبت الخالق فقد جعلت لابنك حصانة أبدية. وعلى عكس ذلك ينشأ الطفل الذي ينسى
والده الله عندما يباشر أهله فيقع أولاده فريسة للشياطين.
{ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي قدموا لها ما يريحكم وما يطيل أمد حياتكم
وأعمالكم في الحياة؛ لأنك عندما تقبل على المسألة بنية إنجاب الولد، وتذكر الله
وتستعيذ من الشيطان فينعم عليك الخالق بالولد الصالح، هذا الولد يدعو لك، ويعلم
أولاده أن يدعوا لك، وأولاده يدعون لك، وتظل المسألة مسلسلة فلا ينقطع عملك إلى أن
تقوم الساعة، وهنا تكون قدمت لنفسك أفضل ما يكون التقديم.
وهب أنك رُزقت المولود ثم مات ففجعت به واسترجعت واحتسبته عند ربك، إنك تكون قد
قدمته، ليغلق عليك بابا من أبواب النيران. إذن فكل أمر لابد أن تذكر فيه }
وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ {.
ويقول الحق: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ { معنى } اتَّقُواْ اللَّهَ { أي إياكم أن تغضبوا ربكم في أي عمل
من هذه الأعمال، وكن أيها المسلم في هذه التقوى على يقين من أنك ملاقي الله، ولا
تشك في هذا اللقاء أبداً. وما دمت ستتقي الله وتكون على يقين أنك تلاقيه لم يبقى
لك إلا أن تُبَشَّر بالجنة. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تَجْعَلُواْ
اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ... {
(/226)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
وفي الآية ثلاثة أشياء: أولا: أن تبروا، أي أن تفعلوا البر. والبر قد يكرهه
الإنسان لأنه شاق على النفس. ثانيا: أن تتقوا، أي أن تتجنبوا المعاصي، والتقوى
تكون أيضا شاقة في بعض الأحيان. ثالثا: أن تصلحوا بين الناس، أي أن تصلحوا ذات البيْن،
وقد يكون في الإصلاح بين الناس مئونة وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا الله عرضة
للقسم.
وحين يقول الحق: { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } فالعرضة
هي الحجاب، وهي ما يعترض بين شيئين، { عُرْضَةً } هي ـ أيضا ـ الأمر الصالح لكل
شيء، فيقال: " فلان عرضة لكل المهمات ". أي صالح. والعرضة ـ كما عرفنا ـ
هي ما اعترض بين شيئين، كأن يضع الإنسان يده على عينيه فلا يرى الضوء، هنا تكون
اليد " عُرْضة " بين عيني الإنسان والشمس إن الإنسان يحجب بذلك عن نفسه
الضوء.
كأن الحق يقول: " أنا لا أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين الإنسان وفعل الخير
والبر والتقوى ". فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول: "
أنا أقسمت ألا أبر هذا الإنسان " إنك بذلك جعلت اليمين بالله مانعاً بينك
وبين البر.
ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به لا يجوز في منع البر أو صلة الرحم
أو إصلاح بين الناس.. ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن
يمينه لماذا؟ لأن المؤمن عندما يحلف على ألا يفعل خيراً فهو يضع الله مانعاً بينه
وبين الخير، وبذلك يكون قد ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بالله. إن
الله هو صاحب الأمر بالبر والتقوى والإصلاح بين الناس. لذلك فالحق يقول: { وَلاَ
تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ }. أي أن الحق يريد أن يحمي عمليات
البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
إنك إن حلفت أيها المؤمن ألا تفعل هذه العمليات، فالحق يريد لك أن تحنث في هذا
القسم وأن تفعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس حتى لا تتناقض مع تشريع الله.
ونحن عندما نجد المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر، واتقى فيه كل إنسان المعاصي،
ورأى فيه كل إنسان نزاعاً بين جماعتين فأصلح هذا النزاع، أليس هذا دخولا في السلم
كافة. إذن فالحق يريد أن يستبقى للناس ينابيع الخير وألا يسدوها أمام أنفسهم.
إن الحق هو الآمر بألا يجعل المؤمن اليمين مانعاً بين الإنسان والبر، أو بين
الإنسان والتقوى، أو بين الإنسان والإصلاح بين الناس. ويتساهل الإسلام في مسألة
التراجع والحنث في البر فيقول السلف الصالح: " لا حنث خير من البر ".
إذن فالمجتمع الذي فيه صنع البر، وتقوى المعاصي، والصلح بين المتخاصمين يدخل في
إطار:{ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً }[البقرة: 208]
والإنسان قد يتعلل بأي سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الإصلاح بين الناس، بل
يعمل شيئاً يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لأمر الله، ولنضرب لذلك مثلا. سيدنا أبو
بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا في الإفك
الذي اتهموا فيه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها.
وخلاصة الأمر أن عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت قد
خرجت مع الرسول الكريم في غزوة " بني المصطلق " وكان الأمر بالحجاب قد
نزل لذلك خرجت عائشة رضي الله عنها في هودج.
وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة. وفقدت عائشة عقداً لها. وكانت رضي الله عنها
خفيفة الوزن؛ لأن الطعام في تلك الأيام كان قليلا. راحت عائشة رضي الله عنها تبحث
عن عقدها المفقود، وعندما حملوا هودج عائشة رضي الله عنها لم يفطنوا أن عائشة ليست
به. ووجدت عائشة عقدها المفقود، وكان جيش رسول الله قد ابتعد عنها. وظنت أنهم
سيفتقدونها فيرجعون إليها. وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمي وعرفته عائشة
وأناخ راحلته وعادت عائشة إلى المدينة. ودار حديث الإفك بوساطة عبد الله بن أبَيّ
بن سلول رأس النفاق.
وكان الغم والحزن يصيبان السيدة عائشة طوال مدة كبيرة وأوضح الحق كذب هذا الحديث.
وذاع ما ذاع عن أم المؤمنين عائشة وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن
تكون بنت أبي بكر. وأبو بكر صديِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن غير عائشة
حدث لها ما حدث لعائشة لكان موقف أبي بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة
واشترك في حديث الإفك مع من اشتركوا ثم يبرئ الله عائشة وينزل القول الذي يثبت
براءة أم المؤمنين في حديث الإفك، وحين يبرئها الله يأتي أبو بكر وكان ينفق على
مسطح فيقطع عنه النفقة ويقول: " والله لا أنفق عليه أبداً " لماذا؟ لأنه
اشترك في حديث الإفك. والمسألة في ظاهرها ورع. لذلك سيمتنع عن النفقة على مسطح بن
أثاثة لأن مسطحاً خاض في الإفك. لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال والفضائل عند
الله فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر، فيقول سبحانه وتعالى:{ وَلاَ
يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي
الْقُرْبَىا وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ
وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ }[النور: 22]
فإذا كنت تحب أن يغفر الله لك، أفلا تغفر لمن فعل معك سيئة؟. وما دمت تريد أن يغفر
الله لك فاغفر للناس خطأهم.
قالها الحق عز وجل لأبي بكر؛ لأنه وقف موقفاً من رجل خاض في الإفك مع من خاض ومع
ذلك يبلغه أن ذلك لا يصح.
قوله تعالى: } وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ
{ لا تقل: إني حلفت بالله على ألا افعل ذلك الخير، لا افعله فالله يرضى لك أن تحنث
وتكفر عن يمينك.
} وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ
وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {. إن الله عز وجل
يبلغنا: أنا لا أريد أن تجعلوا الحلف بي عرضة، يعني حاجزاً أو مانعاً عن فعل
الخير. مثلاً لو طُلب منك أن تبر شخصاً أساء إليك فلا تقل: حلفت ألا أبر به لأنه
لا يستحق، عندها تكون قد جعلت اليمين بالله مانعاً للبر. وكأن الحق سبحانه وتعالى
يريد أن يقول لك: لا، أنا متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت ألا تبر أو لا تتقي أو لا
تصل رحماً أو لا تصلح بين اثنيْن، أنا تسامحت في اليمين.
والحديث يقول: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه " وهكذا يحمي الله سبحانه وتعالى فعل البر ويحمي التقوى
ويحمي عمليات الإصلاح بين الناس، ولو كنت قد حلفت بالله ألا تفعلها، لماذا؟ لأنك
عندما تحلف بالله ألا تفعل، وتجعل الله سبحانه وتعالى هو المانع، فقد ناقضت التشريع
نفسه؛ لأن الله هو الآمر بالبر والإصلاح والتقوى، فلا تجعل يمين البشر مانعاً من
تنفيذ منهج رب البشر.
} وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ
وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ { إن حلفت على ترك واجب وجب أن ترجع في اليمين.
احنث فيه وكفر عنه، والحكم نفسه يسري على الذي يمنع ممتلكاته كالدابة أو الماكينة
أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف ألا يعيرها لأحد، وذلك أمر يحدث
كثيراً في الأرياف.
ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم: } وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {.
إنه سبحانه سميع باليمين الذي حلفته، وعليم بنيتك إن كانت خيراً أو شراً فلا تتخذ
اليمين حجة لأن تمنع البر والتقوى والإصلاح. والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن
اليمين يعطينا أصلاً من أصول اعتبار اليمين هل هو يمين حقا أو لغو، ومن رحمة الله
أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إلا اليمين الذي عقد القلب عليه، أي الذي يقصد صاحبه
ألا يحنث فيه، أما لغو اليمين فقد تجاوز الله عنه.
مثلاً، الأيمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم: " والله لو لم تفعل كذا
لفعلت معك كذا " ، " والله سأزورك " ، " والله ما كان قصدي
" أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك: " والله حدث هذا "
وأنت غير متأكد من تمام حدوثه، لكن ليس في مقصدك الكذب.
أما اليمين الغموس فهي الحلف والقسم الذي تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف، كأن تكون
قد شاهدت واحداً يسرق أو يقتل وتحلف بالله أنه لم يسرق أو لم يقتل. من أجل ذلك كله
يحسم الله سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله: } لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ... {
(/227)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
وكان من المناسب أن تأتي هذه الآية كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي لا
تقع وكأنه قال لنا: ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا
وتصلحوا، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا في فعل الخير.
وقوله الحق: { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو المعنى نفسه لقوله تعالى:{
وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ }[المائدة: 89]
أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك، لكن الشيء الذي يمر على اللسان
فلا يؤاخذنا الله به. { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
} والأيمان جمع يمين، واليمين: هو الحلف أو القسم، وسمى يميناً؛ لأنهم كانوا
قديماً إذا تحالفوا صرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، وذلك لأن اليمين هو
الجارحة الفاعلة.
وبالمناسبة، فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب، وإنما
تفعل بالخلق أي كما خلقها الله، فهي مجبرة على الفعل حسب خلقتها.
ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى لا تعمل ويزاول أعماله باليسرى فلا تحاول أن
تجعله يستخدم اليمنى بدلا من اليسرى؛ لأن محاولتك عبث لن يجدي؛ لأن السبب في أنه
يستخدم اليسرى بدلا من اليمنى سبب خلقي، فالجهاز الخاص بالتحكم في الحركة في المخ
هو الذي يقر هذا الأمر: إن كان مخلوقا في النصف الأيمن من المخ كانت اليد اليمنى
هي الفاعلة، وإن كان مخلوقا في النصف الأيسر من المخ فاليد اليسرى هي التي تعمل.
لذلك تجد الذي يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذي يكتب باليمنى في
بعض الأحيان، ومن هنا نقول: إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذي يعمل بيده
اليسرى بدلاً من اليمنى؛ لأن ذلك عبث لن يصل لنتيجة.
وأحيانا تجد الجهاز المتحكم في حركة اليدين موجوداً في منتصف ووسط المخ فيرسل
حركات متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معاً، ولذلك تجد شخصاً يكتب بيده اليمنى
واليسرى معاً بالسرعة نفسها وبالإتقان نفسه، ويؤدي بها الأعمال بتلقائية عادية،
ولله في خلقه شئون، فهو يعطينا الدليل على أنه لا تحكمه قواعد، فهو قادر على أن
يجعل اليد اليمنى تعمل، وقادر على أن يجعل اليد اليسرى تعمل، أو يجعلهما يعملان
معاً بالقوة نفسها، أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين للعمل. إنها ليست عملية آلية
خارجة عن إرادة لله، بل كل شيء خاضع لإرادته سبحانه.
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } المقصود به الحلف،
والحلف من معانيه التقوية، وهي مأخوذة من الحِلْف، وهو أن يتحالف الناس على عمل
ما. ونحن عندما نتحالف على عمل فنحن نقسِّم العمل بيننا، وعندما نفعل ذلك يسهل
علينا جميعاً أن نفعله. { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ } والكسب عملية إرادية. لأنك ساعة تقسم بالله دون أن تقصد فهو لا
يؤاخذك، وهذا دليل على أن الله واسع حليم. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(/228)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
يؤلون: أي يحلفون ألا يقربوا أزواجهن في العملية المخصوصة، ويريد الرجل أحيانا أن
يؤدب زوجته فيهجرها في الفراش بلا يمين، وبدون أن يحلف. وبعض الناس لا يستطيعون أن
يمتنعوا عن نسائهم من تلقاء أنفسهم، فيحلفون ألا يقربوهن حتى يكون اليمين مانعا
ومشجعا له على ذلك. وكان هذا الأمر مألوفا عند العرب قبل الإسلام.
كان الرجل يمتنع عن معاشرة زوجته في الفراش أي فترة من الزمن يريدها، وبعضهم كان
يحلف ألا يقرب زوجته زمنا محدداً، وقبل أن ينتهي هذا الزمن يحلف يمينا آخر ليزيد
المدة فترة أخرى، وهكذا حتى أصبحت المسألة عملية إذلال للمرأة، وإعضالا لها،
وامتناعا عن أداء حقها في المعاشرة الزوجية. وكان ذلك إهداراً لحق الزوجة في
الاستمتاع بزوجها.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينهي هذه المسألة، وهو سبحانه لا ينهيها لحساب طرف
على طرف، وإنما بعدل الخالق الحكيم الرحيم بعباده. وكان من الممكن أن يجرمها
ويحرمها نهائيا ويمنع الناس منها. لكنه سبحانه عليم بخفايا وطبيعة النفوس البشرية،
فقد ترى امرأة أن تستغل إقبال الرجل عليها، إما لجمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل،
فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعطى الله للرجل الحق في أن يمتنع عن زوجته أربعة أشهر، أما
أكثر من ذلك فالمرأة لا تطيق أن يمتنع زوجها عنها. { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن
نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والإسلام يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي لا على
أفكار مجنحة ومجحفة لا تثبت أمام الواقع، فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن لا
يهدمها، ويعترف بالغرائز فلا يكتمها ولكن يضبطها.
وهناك فرق بين الضبط والكبت؛ فإن الكبت يترك الفرصة للداء ليستشري خفيا حتى يتفجر
في نوازع النفس الإنسانية تفجرا على غير ميعاد وبدون احتياط، لكن الانضباط يعترف
بالغريزة ويعترف بالميول، ويحاول فقط أن يهديها ولا يهدمها. ويخضع البشر في كل
أعمالهم لهذه النظرية حتى في صناعتهم، فالذين يصنعون المراجل البخارية مثلا يجعلون
في تلك المراجل التي يمكن أن يضغط فيها الغاز ضغطا فيفجرها يجعلون لها متنفسا حتى
يمكن أن يخفف الضغط الزائد إن وجُد، وقد يصممون داخلها نظاما آليا لا يتدخل فيه
العقل بل تحكم الآلة نفسها.
والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما واضحا في خلقه الذين خلقهم، وشرع لهم تكوين الأسرة
على أساس سليم. وبنى الإسلام هذا النظام أولا على سلامة العقيدة ونصاعتها ووحدتها
حتى لا تتوزع المؤثرات في مكونات الأسرة، لذلك منع المسلم من أن يتزوج من مشركة،
وحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا. وبعد ذلك علمنا معنى الالتقاء الغريزي بين
الزوجين. ولقد أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يطلق العنان للغريزة في كل زمان
التواجد الزوجي، فجعل المحيض فترة يحرم فيها الجماع وقال:
{ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ }[البقرة: 222]
وهكذا يضبط الحق العلاقة الجنسية بين الزوجين ضبطا سليما نظيفا.
الحق سبحانه وتعالى يعلم أن النفس البشرية ذات أغيار؛ لأن الإنسان حادث له بداية
ونهاية، وكل ما يكون حادثا لابد أن يطرأ عليه تغيير. فإذا ما التقى الرجل بالمرأة.
كان لابد من أن يتحدد هذا اللقاء على ضوء من منهج الله؛ لأن اللقاء إن تم على منهج
البشر وعواطفهم كان المصير إلى الفشل؛ لأن مناهج البشر متغيرة وموقوتة، ولذلك يجب
أن يكون لقاء الرجل بالمرأة على ضوء معايير الله.
فالله يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات، ومن الجائز جدا أن يحدث خلاف بين الزوجين،
فيجعل الله سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب
والإبقاء، فشرع للرجل إن رأى في امرأته إذلالا له بجمالها وبحسنها، وقد يكون رجل
له مزاج خاص ورغبة جامحة في هذه العملية؛ لذلك شرع الله له فترة من الفترات أن
يحلف ألا يقرب امرأته، ولم يجعل الله تلك الفترة مطلقة، إنما قيدها بالحلف حتى
يكون الأمر مضبوطا.
فالحق يريد العلاج لا القسوة. فلو لم يكن الرجل مضبوطا بيمين فقد يُغير رأيه بأن
يأتي زوجته، ولذلك قال الحق: } لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ { أي إنّ لك أيها الزوج أن تحلف ألا تقرب زوجتك أربعة أشهر
لكن إن زادت المدة على أربعة أشهر فهي لن تكون تأديبا بل إضرارا. والخالق عز وجل
يريد أن يؤدب لا أن يضر. فإذا ما تجاوزت المدة يكون الزوج متعديا ولا حق له.
إن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الميول والعواطف والغرائز ويقنن لها التقنين
السليم. إنه عز وجل يترك لنا ما يدلنا على ذلك، ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، يمر عمر في جوف الليل فيسمع امرأة تقول الأبيات المشهورة:تطاول هذه الليل
وأسود جانبه وأرقنـي إلا خلـيـل ألاعـبـهفوالله لولا الله تخشـى عواقبه لزلزل مـن
هذا السرير جـوانبهمعنى ذلك أن المرأة تعاني من الوحشة إلى الرجل، وتوشك المعاناة
أن تدفعها إلى سلوك غير قويم، لكن تقوى الله هي التي تمنعها من الانحراف. ومن
الجائز أن نتساءل كيف سمع عمر هذه المرأة وهو يسير في الشارع، وأقول: إن المرأة
تأتي عندها هذه الأحاسيس تترنم في سكون الليل، وعندما يسكن الليل لا تكون فيه ضجة
فيسهل سماع ما يقال داخل البيوت، ألم يسمع عمر كلام المرأة التي تجادل ابنتها في
غش اللبن؟
ولما سمع الفاروق كلام هذه المرأة التي تعاني من وحشة إلى الرجل، ذهب بفطرته
السليمة وأَلمعيَّته المشرقة إلى ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقال لها:
كم تصبر المرأة على بعد الرجل، فقالت: من ستة شهور إلى أربعة أشهر.
فسن عمر سنةً أصبحت دستورا فيما بعد، وهي ألا يبعد جندي من جنود المسلمين عن أهله
أربعة أشهر. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: } لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن
نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ { سبق حادثة عمر، ثم ترك الحق لواقع
الحياة أن يبين لنا صدق ما قننه لنا، ويأتي عمر ليستنبط الحكم من واقع الحياة.
} فَإِنْ فَآءُو { أي فإن رجع الرجل، وأراد أن يقترب من زوجته قبل مضي الأربعة
أشهر؛ فللرجل أن يكفر عن يمينه وتنتهي المسألة. ولكن إذا مرت الشهور الأربعة
وتجاوزت المقاطعة مدتها يؤمر الزوج بالرجوع عن اليمين أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج
طلقها الحاكم، وقال بعض الفقهاء: إنّ مضي مدة الأربعة أشهر دون أن يرجع ويفئ يجعلها
مطلقة طلقة واحدة بائنة. ولذلك يقول الحق: } وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {
(/229)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
واختلف العلماء؛ هل تطلق الزوجة طلقة بائنة أو طلقة رجعية؟ ومعنى " طلاق رجعي
" مأخوذ من اللفظ نفسه، أي أن الزوج له الحق أن يراجع امرأته دون إذن منها أو
رضاً. أما الطلاق البائن فإنه لا عودة إلا إذا عَقَد عليها عقدا جديداً بمهر جديد.
والطلقة في الإيلاء بينونة صغرى وهي التي تحتاج إلى عقد ومهر جديدين، هذا إذا لم
يسبق طلاقان. والبينونة الكبرى وهي التي توصف بأنها ذات الثلاث، فالزوجة فيها تطلق
ثلاث مرات، فلا يصح أن يعيدها الزوج إلا إذا تزوجت زوجا غيره، وعاشت معه حياة
زوجية كاملة، ثم طلقها لأي سبب من الأسباب، وبعد ذلك يحق لزوجها القديم أن يراجعها
ويعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، لكن بعد أن يكتوي بغيرة زواجها من رجل آخر. والحق
سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة فيقول:{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *
وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 226-227]
فالإسلام دين واقعي يعطي الزوج المسلم أشياء تنفس عن غضبه، وأشياء تمكنه من أن
يؤدب زوجته، ولكن الإسلام لا يحب أن يتمادى الرجل في التأديب. وإذا تمادى وتجاوز
الأربعة الأشهر نقول له: لابد أن يوجد حد فاصل.
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه وتعالى في التكليف إلى أن يتكلم عن الطلاق وقد تكلم من
قبل عن الزواج والإيلاء حتى وصل الطلاق.
وعندما نتأمل موقف الإسلام من الطلاق نجده يتكلم كلاماً واقعياً يناسب الميول
الإنسانية؛ لأننا ما دمنا أغياراً فمن الممكن أن يطرأ على حياة الزوجين أحداث أو
مشاعر لم تكن في الحسبان ساعة الزواج. ويجوز أن يكون الإنسان في ساعة الزواج
مدفوعا بحرارة ملكة واحدة، وبعد ذلك عندما يجئ واقع الحياة تتملكه ملكات متعددة،
وقد تسيطر عليه المسألة الجنسية، وتدفعه للزواج، وفي سبيل إرضاء شهوته الجنسية قد
يهمل بقية ملكات نفسه، فإذا ما دخل واقع الزواج وهدأت شِرّة وحرارة غرائز الإنسان
تتنبه نفس الإنسان إلى مقاييس أخرى يريد أن يراها في زوجته فلا يجدها ويتساءل ما
الذي أخفاها عنه؟
أخفاها سعار وعرامة النظرة الجنسية، فقد نظر للمرأة قبل الزواج من زاوية واحدة،
ولم ينظر لباقي الجوانب. مثلا قد يجد الزوج أن أخلاق الزوجة تتنافر مع أخلاقه، وقد
يجد تفكيرها وثقافتها تتنافر مع تفكيره وثقافته، وربما وجد عدم التوافق العاطفي
بينه وبينها ولم يحدث تآلف نفسي بينهما، والعواطف ـ كما نعلم ـ ليس لها قوانين.
فمن الجائز أن يكون الرجل غير قادر على الاكتفاء بوليمة جنسية واحدة، فهو لذلك لا
يبني حياته على طهر، وإنما يريد من امرأته أن تكون طاهرة عفيفة في حياتها معه،
بينما يعطي لنفسه الحرية في أن يعدد ولائمه الجنسية مع أكثر من امرأة، وربما يحدث
العكس، وذلك أن يجد الرجل أنّ امرأة واحدة تكفيه، لكن المرأة تريد أكثر من رجل.
وقد يكون الرجل طاهر الأسلوب في الحياة، وتكون زوجته راغبة في أن يأتيها بالمال من
أي طريق، فيختلفان. وقد تكون المرأة طاهرة الأسلوب في الحياة فلا ترضى أن يتكسب
زوجها من مال حرام.
من هنا يأتي الشقاق، إن الشقاق يأتي عندما يريد أحد الزوجين أن تكون حياتهما نظيفة
طاهرة، مستقيمة، ولا يرى الآخر ذلك. مثل هذه الصورة موجودة في الواقع حولنا، فكم
من بيوت تشقى عندما تختفي الوحدة الأسرية، وتختلف نظرة أحد الزوجين للأمور عن
الآخر.
وهذا هو سبب الشقاق الذي يحدث بين الزوجين عندما لا يكتفي أحد الزوجين بصاحبه. ولو
اتفق رجل وامرأته على العفاف، والطهر، والخيرية لاستقامت أمور حياتهما. ولذلك يأتي
الإسلام بتشريعاته السامية لتناسب كل ظروف الحياة فيقول الحق سبحانه: }
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ
لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ... {
(/230)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
الآية كلها تتضمن أحكاماً تكليفية، والحكم التكليفي الأول هو: { وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } ولنا أن نلحظ أن الحكم لم يرد
بصيغة الأمر ولكن جاء في صيغة الخبر، فقال: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } ، وحين يريد الحق سبحانه وتعالى حكماً لازماً
لا يأتي له بصيغة الأمر الإنشائي، ولكن يأتي له بصيغة الخبر، هذا آكد وأوثق للأمر
كيف؟
معنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالأمر يصادف من المؤمنين به امتثالاً،
ويُطبق الامتثال في كل الجزئيات حتى لا تشذ عنه حالة من الحالات فصار واقعا يُحكى
وليس تكليفا يُطلب، وما دام قد أصبح الأمر واقعا يُحكي فكأن المسألة أصبحت تاريخا
يُروى هو: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ
}. ويجوز أن نأخذ الآية على معنى آخر هو أن الله قد قال: { وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } فيكون كلاماً خبرياً.
وقلنا إن الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب، إن الله قد قال ذلك فمن أراد أن يصدق
كلام الله فلينفذ الحكم، ومن أراد أن يبارز الله بالتكذيب ولا يصدقه فلا ينفذ
الحكم، ويرى في نفسه آية عدم التصديق وهي الخسران المبين، أليس ذلك أكثر إلزاما من
غيره؟ ومثل ذلك قوله تعالى:{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ
أُوْلَـائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
}[النور: 26]
إن هذا وإن كان كلاما خبريا لكنه تشريع إنشائي يحتمل أن تطيع وأن تعصي ولكن الله
يطلب منا أن تكون القضية هكذا { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } يعني أن ربكم يريد
أن تكون { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } وأن تكون { الطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينََ } وليس معنى ذلك أن الواقع لابد أن يكون كما جاء في الآية، إنما
الواقع يكون كذلك لو نفذنا كلام الله وسيختلف إذا عصينا الله وتمردنا على شرعه.
والمعنى نفسه في قوله تعالى:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }[آل عمران: 97]
أي اجعلوا من يدخل البيت الحرام آمناً. ويحتمل أن يعصي أحد الله فلا يجعل البيت
الحرام آمناً. إذن فقوله الحق: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } هو حكم تكليفي يستحق النفاذ لمن يؤمن بالله، وقوله: {
يَتَرَبَّصْنَ } أي ينتظرن، واللفظ هنا يناسب المقام تماما، فالمتربصة هي المطلقة،
ومعنى مطلقة أنها مزهود فيها، وتتربص انتهاء عدتها حتى ترد اعتبارها بصلاحيتها للزواج
من زوج آخر. ولم ينته القول الكريم بقوله: { يَتَرَبَّصْنَ } وإنما قال: {
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } مع أن المتربصة هي نفسها المطلقة؛ ذلك لأن النفس
الواعية المكلفة والنفس الأمارة بالسوء تكونان في صراع على الوقت وهو { ثَلاَثَةَ
قُرُوءٍ } ، " وقروء " جمع " قرء " وهو إما الحيضة وإما الطهر
الذي بين الحيضتين. وقوله الحق سبحانه وتعالى: { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } وما المقصود
به؟
هل هو الحيضة أو الطهر؟ إن المقصود به الطهر، لأنه قال: " ثلاثة "
بالتاء، ونحن نعرف أن التاء تأتي مع المذكر، ولا تأتي مع المؤنث، و " الحيضة
" مؤنثة و " الطهر " مذكر، إذن، { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } هي ثلاثة
أطهار متواليات.
والعلة هي استبراء الرحم وإعطاء مهلة للزوجين في أن يراجعا نفسيهما، فربما بعد
الطهر الأول أو الثاني يشتاق أحدهما للآخر، فتعود المسائل لما كانت عليه، لكن إذا
مرت ثلاثة أطهار فلا أمل ولا رجاء في الرجوع.
ثم يقول الحق بعد ذلك: } وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ
فِي أَرْحَامِهِنَّ { وما معنى الخلق؟ الخلق هو إيجاد شيء كان معدوماً، وهذا الشيء
الذي كان معدوما إما أن يكون حملاً وإما أن يكون حيضا، وللحامل عدة جاءت في قوله
الحق.{ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }[الطلاق:
4]
أما المرأة الحائل وهي التي بدون حمل، فعدتها أن تحيض وتطهر ثلاث مرات وهناك حالة
ثالثة هي:{ وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ
}[الطلاق: 4]
أي أن المرأة التي انقطعت عنها الدورة الشهرية فعدتها " ثلاثة أشهر "
الحكم نفسه للصغيرة التي لم تحض بعد، أي عدتها ثلاثة أشهر. إذن فنظام العدة له
حالات:
* إن كانت غير حامل فعدتها ثلاثة قروء أي ثلاثة أطهار إن كانت ممن يحضن
* إن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها.
* وإن لم تكن حاملا وقد بلغت سن اليأس ولم تعد تحيض، أو كانت صغيرة لم تصل لسن
الحيض، هذه وتلك عدتها ثلاثة أشهر.
وقوله تعالى: } وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ { يدل على أن المرأة لها شهادتها لنفسها في الأمر الذي يخصها ولا
يطلع عليه سواها. وهي التي تقرر المسألة بنفسها، فتقول: أنا حامل أو لا، وعليها
ألا تكتم ذلك، فقد يجوز أن تكون حاملا وبعد ذلك تكتم ما في بطنها حتى لا تنتظر طول
مدة الحمل وتتزوج رجلاً آخر فينسب الولد لغير أبيه، فغالباً ما يستمر الحمل تسعة
أشهر ولكن فيه استثناء، فهناك حمل مدته سبعة شهور، وأحيانا ستة شهور. وقد تتزوج
المرأة المطلقة بعد ثلاثة شهور وتدعي أنها حامل من الزوج الجديد وأن حملها لم
يستمر سوى سبعة أشهر أو ستة أشهر.
وبعضنا يعرف قصة الحامل في ستة شهور، فقد جاءوا بامرأة لسيدنا عثمان رضي الله عنه
لأنها ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقيم عليها حد الزنى، فتدخل الإمام علي ابن أبي
طالب وقال: كيف تقيم عليها الحد لأنها ولدت لستة أشهر، ألم تقرأ قول الحق سبحانه
وتعالى؟ قال عثمان: وماذا قال الحق في ذلك؟ فقرأ الإمام علي قول الله:{
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }
[البقرة: 233]
أي أنها ترضع الوليد لمدة أربعة وعشرين شهراً، وفي آية أخرى قال الحق:{ حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً
}[الأحقاف: 15]
فإذا أخذنا من الآية الأولى أربعة وعشرين شهراً وهي مدة الرضاع وطرحناها من
الثلاثين شهراً التي تجمع بين الحمل والرضاع في الآية الثانية فهمنا أن الحمل قد
يكون ستة أشهر. هنا قال سيدنا عثمان متعجبا: والله ما فطنت لهذا.
إذن فحمل الستة الشهور أمر ممكن، ومن هنا نفهم الحكمة في قوله تعالى: } وَلاَ
يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ { ، حتى لا
تدعي المرأة أنها ليست حاملا وتتزوج رجلا آخر وتنسب إليه ولداً ليس من صلبه ويترتب
على ذلك أكثر من إشكال، منها ألا يرث الولد من الأب الأول، وأن محارمه لم تعد
محرمة عليه، فأخته من أبيه لم تعد أخته، وكذلك عماته وخالاته وتنقلب الموازين، هذا
من جانب الأب الأصلي.
أما من جانب الزوج الثاني فالطفل يكتسب حقوقا غير مشروعة له، سيرث منه، وتصبح
محارم الرجل الثاني محارمه فيدخل عليهن بلا حق ويرى عوراتهن، وتحدث تداخلات غير
مشروعة.
إذن فقوله الحق: } وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ { هو قول يريد به الحق أن تقوم الحياة على طهر وعلى شرف وعلى عفاف،
ولا يعتدي أحد على حقوق الآخر. هذا بالنسبة للحمل. فكيف يكون الحال بالنسبة للحيض؟
أيضا لا يحل لها أن تكتم حيضها لتطيل زمن العدة مع زوجها. ويقول الحق: } إِن كُنَّ
يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ {. فما علاقة الإيمان هنا بالحكم الشرعي؟
إنها علاقة وثيقة؛ لأن الحمل أو الحيض مسائل خفيفة لا يحكمها قانون ظاهر، إنما
الذي يحكمها هو عملية الإيمان، ولذلك قيل: " الغيب لا يحرسه إلا غيب "
وما دام الشيء غائباً فلن يحرسه إلا الغيب الأعلى وهو الله تعالى.
ويتابع الحق: } وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ { والبعل هو
الزوج، وهو الرب والسيد والمالك، وفي أثناء فترة التربص يكون الزوج أحق برد زوجته
إلى عصمته، وقوله تعالى: } وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ { هل يعني ذلك
أن هناك أناساً يمكن أن يشاركوا الزوج في الرد؟ لأن الحق جاء بكلمة } أَحَقُّ {
وفي ظاهرها تعطي الحق لغير الأزواج أن يراجعوا؟ لا، إنما المقصود هو أنه لا حق
لأحد هنا إلا للزوج، فالرد خلال العدة من حق الزوج، فليس للزوجة أن تقول: لا، وليس
لولي الزوجة أن يقول: لا. فالزوج إذا أراد مراجعة زوجته وأبت وامتنعت هي وجب إيثار
وتقديم رغبته على رغبتها، وكان هو أحق منها، ولا ينظر إلى قولها، فإنه ليس لها في
هذا الأمر حق فقد رضيت به أولاً. أما إذا انتهت العدة فالصورة تختلف، لابد من
الولي، ولابد من عقد ومهر جديدين واشتراط موافقة الزوجة.
} وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً {
هذا إن أرادوا إصلاحاً. والإرادة عمل غيبي، فكأنها تهديد للزوجين، إن التشريع يجيز
لهما العودة، لكن إذا كان الزوج يريد أن يردها ليوقع بها الضرر لسبب في نفسه
فالدين يقول له: لا، ليس لك ذلك. وإن كان القضاء يجيز له ردها، إلا أن الله يحرم
عليه ذلك الظلم. إن من حق الزوج أن يرد زوجته رداً شرعياً للعفة من الإحصان ولغرض
الزوجية لا لشيء آخر، أما غير ذلك كالإضرار بها والانتقام منها فلا يجيز له الدين
ذلك.
أما قضائياً فالقضاء يعطيه الحق في ردها ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه مهما كانت
الأسباب الكامنة في نفسه، لكن عليه أن يتحمل وزر ذلك العمل. ويتابع الحق: }
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ { أي أن للزوجة مثل ما
للزوج، لكن ما الذي لهن وما الذي عليهن؟
المثلية هنا في الجنس، فكل منهما له حق على الآخر حسب طبيعته، الزوج يقدم للزوجة
بعضاً من خدمات، والزوجة تقدم له خدمات مقابلة؛ لأن الحياة الزوجية مبنية على
توزيع المسئوليات، إن الرجل عليه مسئوليات تقتضيها طبيعته كرجل، والمرأة عليها
مسئوليات تحتمها طبيعتها كأنثى. والرجل مطالب بالكدح والسعي من أجل الإنفاق.
والمرأة مطالبة بأن توفر للرجل البيت المناسب ليسكن إليها عندما يعود من مهمته في
الحياة. ولذلك يقول الله عز وجل:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21]
والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك، ومعنى } لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا { أي إنكم
تتحركون من أجل الرزق طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم، فالرجل عليه
الحركة، والمرأة عليها أن تهيئ له حسن الإقامة، وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة.
فالمسئوليات موزعة توزيعاً عادلاً، فهناك حق لك هو واجب على غيرك، وهناك حق لغيرك
وهو واجب عليك.
ويقول الحق: } وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ { وهي درجة الولاية والقوامة.
ودرجة الولاية تعطينا مفهوما أعم وأشمل، فكل اجتماع لابد له من قَيِّم، والقوامة
مسئولية وليست تسلطاً، والذي يأخذ القوامة فرصة للتسلط والتحكم فهو يخرج بها عن
غرضها؛ فالأصل في القوامة أنها مسئولية لتنظيم الحركة في الحياة.
ولا غضاضة على الرجل أن يأتمر بأمر المرأة فيما يتعلق برسالتها كامرأة وفي مجالات
خدمتها، أي في الشئون النسائية، فكما أن للرجل مجاله، فللمرأة مجالها أيضاً.
والدرجة التي من أجلها رُفع الرجل هي أنه قوام أعلى في الحركة الدنيوية، وهذه
القوامة تقتضي أن ينفق الرجل على المرأة تطبيقاً لقوله الحق:{ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ }[النساء: 34]
إذن فالإنفاق واجب الرجل ومسئوليته، وليعلم أن الله عزيز لا يحب أن يستذل رجل
امرأة هي مخلوق لله، والله حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته
فوق المرأة هي للاستبداد، أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه،
فلا استذلال في الزواج؛ لأن الزواج أساسه المودة والمعرفة. ويقول الحق بعد ذلك: }
الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ... {
(/231)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
هنا يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق بعد أن تحدث عن المطلقة في عدتها وكيفية
ردها ومراجعتها، وإنه سبحانه يتحدث عن الطلاق في حد ذاته. والطلاق مأخوذ من
الانطلاق والتحرر، فكأنه حل عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح. وعقدة النكاح هي
العقدة التي جعلها الله عقداً مغلظاً وهي الميثاق الغليظ، فقال تعالى:{ وَأَخَذْنَ
مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }[النساء: 21]
إنه ميثاق غليظ لأنه أباح للزوجين عورات الآخر، في حين أنه لم يقل عن الإيمان إنه
ميثاق غليظ، قال عنه: " ميثاق " فقط، فكأن ميثاق الزواج أغلظ من ميثاق
الإيمان. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في الناس حل المشكلات بأيسر الطرق.
لذلك شرع لنا أن نحل عقدة النكاح، ونهاية العقدة ليست كبدايتها، ليست جذرية،
فبداية النكاح كانت أمراً جذريا، أخذناه بإيجاب وقبول وشهود وأنت حين تدخل في
الأمر تدخله وأنت دارس لتبعاته وظروفه، لكن الأمر في عملية الطلاق يختلف؛ فالرجل
لا يملك أغمار نفسه، فربما يكون السبب فيها هيناً أو لشيء كان يمكن أن يمر بغير
الطلاق؛ فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل للناس أناة وروية في حل العقدة فقال: {
الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } يعني مرة ومرة، ولقائل أن يقول: كيف يكون مرتين، ونحن
نقول ثلاثة؟ وقد سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله قال
الله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } فلم صار ثلاثاً؟
فقال صلى الله عليه وسلم مبتسماً: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ }. فكأن معنى { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } ، أي أن لك في مجال اختيارك
طلقتين للمرأة، إنما الثالثة ليست لك، لماذا؟ لأنها من بعد ذلك ستكون هناك بينونة
كبرى ولن تصبح مسألة عودتها إليك من حقك، وإنما هذه المرأة قد أصبحت من حق رجل
آخر..{ حَتَّىا تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ }[البقرة: 230]
أما قول الرجل لزوجته أنت " طالق ثلاثاً " يُعتبر ثلاث طلقات أم لا؟
نقول: إن الزمن شرط أساسي في وقوع الطلاق، يطلق الرجل زوجته مرة، ثم تمضي فترة من
الزمن، ويطلقها مرة أخرى فتصبح طلقة ثانية، وتمضي أيضا فترة من الزمن وبعد ذلك نصل
لقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ولذلك فالآية نصها
واضح وصريح في أن الطلاق بالثلاث في لفظ واحد لا يوقع ثلاث طلقات، وإنما هي طلقة
واحدة، صحيح أن سيدنا عمر رضي الله عنه جعلها ثلاث طلقات؛ لأن الناس استسهلوا
المسألة، فرأى أن يشدد عليهم ليكفوا، لكنهم لم يكفوا، وبذلك نعود لأصل التشريع كما
جاء في القرآن وهو { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }.
وحكمة توزيع الطلاق على المرات الثلاث لا في العبارة الواحدة، أن الحق سبحانه يعطي
فرصة للتراجع. وإعطاء الفرصة لا يأتي في نفس واحد وفي جلسة واحدة.
إن الرجل الذي يقول لزوجته: أنت طالق ثلاثاً لم يأخذ الفرصة ليراجع نفسه ولو
اعتبرنا قولته هذه ثلاث طلقات لتهدمت الحياة الزوجية بكلمة. ولكن عظمة التشريع في
أن الحق سبحانه وزع الطلاق على مرات حتى يراجع الإنسان نفسه، فربما أخطأ في المرة
الأولى، فيمسك في المرة الثانية ويندم. وساعة تجد التشريع يوزع أمراً يجوز أن يحدث
ويجوز ألا يحدث، فلا بد من وجود فاصل زمني بين كل مرة. وبعض المتشدقين يريدون أن
يبرروا للناس تهجمهم على منهج الله فيقولون: إن الله حكم بأن تعدد الزوجات لا يمكن
أن يتم فقال:{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ }[النساء: 129]
ويقولون: إنّ الله اشترط في التعدد العدل، ثم حكم بأننا لن نستطيع أن نعدل بين
الزوجات مهما حرصنا، فكأنه رجع في التشريع، هذا منطقهم. ونقول لهم: أكملوا قراءة
الآية تفهموا المعنى، إن الحق يقول: } وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ
بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ { ثم فرع على النفي فقال:{ فَلاَ تَمِيلُواْ
كُلَّ الْمَيْلِ }[النساء: 129]
وما دام النفي قد فُرِّع عليه فقد انتفى، فالأمر كما يقولون: نفي النفي إثبات. أن
الاستطاعة ثابتة وباقية وكان قوله تعالى: } فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ {
إشارة إليها. وكذلك الأمر هنا } الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ {. فما دام قد قال: } فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ { وقال: } الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ { أي أن لكل فعل زمناً،
فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب، وإلا فالطلاق الثلاث بكلمة واحدة في زمن
واحد، يكون عملية قسرية واحدة، وليس فيها تأديب أو إصلاح أو تهذيب، وفي هذه
المسألة يقول الحق: } وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً { لأن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه
بالبضع، فإذا ما حدث الطلاق لا يحل للمطلق أن يأخذ من مهره شيئاً، لكن الحق استثنى
في المسألة فقال: } إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ {.
فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجاً إن أريد بها الضرر وهي لا
تقبل هذا الضرر. فيأتي الحق ويشرع: وما دام قد خافا ألا يقيما حدود الله، فقد أذن
لها أن افتدي نفسك أيتها المرأة بشيء من مال، ويكره أن يزيد على المهر إلا إذا كان
ذلك ناشئا عن نشوز منها ومخالفة للزوج فلا كراهة إذن في الزيادة على المهر.
وقد جاء الواقع مطابقاً لما شرع الله عندما وقعت حادثة " جميلة " أخت
" عبد الله ابن أبي " حينما كانت زوجة لعبد الله بن قيس، فقد ذهبت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: " أنا لا أتهمه في دينه ولا خلقه ولكن
لا أحب الكفر في الإسلام " وهي تقصد أنها عاشت معه وهي تبغضه، لذلك لن تؤدي
حقه وذلك هو كفر العشير أي إنكار حق الزوج وترك طاعته.
وهي قد قالت: إنها لا تتهمه لا في دينه ولا في خلقه لتعبر بذلك عن معانٍ عاطفية
أخرى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم منها ذلك، فقالت: لقد رفعت
الخباء فوجدته في عدة رجال فرأيته أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال
لها صلى الله عليه وسلم: " " أتردين حديقته "؟ فقالت: وإن شاء
زدته، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا بالزيادة، ولكن ردي عليه حديقته
".
ويُسمى هذا الأمر بالخلع، أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف ألا تؤدي له
حقاً من حقوق الزوجية، إنها تخلع نفسها منه بمال حتى لا يصيبه ضرر، فقد يريد أن
يتزوج بأخرى وهو محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه. ويتابع الحق
سبحانه: } وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً {
وهذا الشيء هو الذي قال عنه الله في مكان آخر:{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَاراً }[النساء: 20]
ويتابع الحق الآية بقوله: } إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
{ والمقصود هنا هما الزوجان، ومن بعد ذلك تأتي مسئولية أولياء أمر الزوجين
والمجتمع الذي يهمه أمرهما في قوله: } فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ {.
وحدود الله هي ما شرعه الله لعباده حداً مانعاً بين الحل والحرمة. وحدود الله إما
أن ترد بعد المناهي، وإما أن ترد بعد الأوامر، فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول: }
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا { أي آخر غايتكم هنا، ولا تتعدوا الحد،
ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول: } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا { ،
لأن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس، فتلح عليها أن تفعل،
فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً.
وانظر جيداً فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحلال بيّن وإن
الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع
في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل
ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه ".
وما دامت الحدود تشمل مناهي الله وتشمل أوامر الله فكل شيء مأمور به وكل شيء منهي
عنه يجب أن يظل في مجاله من الفعل في " افعل " ومن النهي في " لا
تفعل ". وإذا انتقل نظام (افعل) إلى دائرة (لا تفعل) وانتقل ما يدخل في دائرة
" لا تفعل " إلى دائرة " افعل " ، هنا يختل نظام الكون، وما
دام نظام الكون أصابه الخلل فقد حدث الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق إنسان وتعطيه
لإنسان آخر، وتشريع الطلاق حد من حدود الله، فإن حاولت أن تأتي بأمر لا يناسب ما
أمر الله به في تنظيم اجتماعي فقد نقلت المأمور به إلى حيز المنهي عنه، وبذلك
تُحْدِثُ ظلماً.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعالج قضايا المجتمع يعالجها علاجاً يمنع وقوع المجتمع
في الأمراض والآفات، والبشر إن أحسنا الظن بهم في أنهم يشرعون للخير وللمصلحة، فهم
يشرعون على قدر علمهم بالأشياء، لكننا لا نأمن أن يجهلوا شيئاً يحدث ولا يعرفوه،
فهم شرّعوا لِمَا عرفوا، وإذا شرعوا لما عرفوا وفوجئوا بأشياء لم يعرفوها ماذا
يكون الموقف؟ إن كانوا مخلصين بحق داسوا على كبرياء غرورهم التشريعي وقالوا:
نُعَدِّل ما شرعنا، وإن ظلوا في غلوائهم فمن الذي يشقى؟ إن المجتمع هو الذي يشقى
بعنادهم.
والحق سبحانه وتعالى لا يتهم الناس جميعاً في أن منهم من لا يريد الخير، ولكن هناك
فرق بين أن تريد خيراً وألا تقدر على الخير. أنت شرعت على قدر قدرتك وعلمك. ونعرف
جميعاً أن شقاء التجارب في القوانين الاجتماعية النظرية تقع على المجتمع.
ونعرف جيداً أن هناك فرقاً بين العلم التجريبي المعملي والكلام النظري الأهوائي؛
فالعلم التجريبي يشقى به صاحب التجربة، إن العَالِم يكد ويتعب في معمله وهو الذي
يشقى ويضحي بوقته وبماله وبصحته ويعيش في ذهول عن كل شيء إلا تجربته التي هو
بصددها، فإذا ما انتهى إلى قضية اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه هو المجتمع. لكن
الأمر يختلف في الأشياء النظرية؛ لأن الذي يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو
المجتمع، إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل خطأ من سبقه.
أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمي البشر من الشقاء، فالله ـ سبحانه ـ
يتركنا في العالم المادي التجريبي أحراراً. ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد
تتفقون عليها، لكن إياكم واختلافات الأهواء؛ لذلك تولى الله عز وجل تشريع ما تختلف
فيه الأهواء، حتى يضمن أن المجتمع لا يشقى بالخطأ من المشرعين، لفترة من الزمن إلى
أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس ما أخطأ فيه غيره.
لذلك نجد في عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى، ويتمسك الناس
فيها بأهوائهم، ثم تضغط عليهم الأحداث ضغطا لا يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم في
الرمال، بل لابد أن يواجهوها، فإذا ما واجهوها فإنهم لا يجدون حلاً لها إلا بما
شرعه الإسلام، ونجد أنهم التقوا مع تشريعات الإسلام.
إن بعضاً من الكارهين للإسلام يقولون: أنتم تقولون عن دينكم: إنه جاء ليظهر على كل
الأديان، مرة يقول القرآن:
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً }[الفتح: 28]
ومرة يقول القرآن:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[الصف: 8-9]
ويستمر هؤلاء الكارهون للإسلام في قولهم ويضيفون: إن إسلامكم ليظهر على الدين كله
حتى الآن بدليل أن هناك الملايين لم يدخلوا الإسلام؟ ونقول لهم: أو يظهر على الدين
كله بأن يؤمن الناس بالإسلام جميعاً، لا، لو فطنوا على قول الله: } وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ { لعلموا أن إظهار الإسلام على الدين لابد أن يلازمه وجود كافرين
كارهين، وما دام الإسلام موجوداً مع كافرين كارهين، فهو لن يظهر كدين، ولكنه يظهر
عليهم ـ أي يغلبهم ـ كنظام يضطرون إليه ليحلوا مشكلات مجتمعاتهم الكافرة، فسيأخذون
من أنظمة وقوانين الإسلام وهم كارهون، ولذلك نجدهم يستقون قوانينهم وإصلاحاتهم
الاجتماعية من تعاليم الإسلام.
ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق: } وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { أو }
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { لأنهم عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك.
لكن حين يقول سبحانه: } وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { و } وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ { فذلك يعني: أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذتم
الإسلام ديناً، إن تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم، وصدق الله في
تقنينه لكم، وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلامكم ليأخذوها كنظام
يحلون بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد الإسلام.
وضربنا على ذلك مثلاً بما حدث في إيطاليا التي بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك
الروحية؛ فقد اضطروا لأن يشرعوا قوانين تبيح الطلاق، وحدث مثل ذلك في أسبانيا
وغيرها من الدول. انظر كيف تراجعوا في مبادئ كانوا يعيبونها على الإسلام! لقد
اضطرتهم ظروف الحياة لأن يقننوا إباحة الطلاق تقنيناً بشرياً لا بتقنين إلهي. ومثل
هذه الأحداث تبين لنا مدى ثقتنا في ديننا، وأن مشكلات البشرية في بلاد الكفر
والشرك لن يحلها إلا الإسلام، فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون إلى أخذه كنظام.
ومن شرف الإسلام ألا يأخذوه كدين؛ لأنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم
تطبيقا للإسلام من قوم مسلمين، ولكن أن يظلوا كارهين للإسلام ثم يأخذوا من مبادئ
الدين الذي يكرهونه ما يصلح مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الأكبر للإسلام. إن هذا
هو مفهوم قول الحق: } وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { و } وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ { وإذا ما جاء لك أحد في هذه المسألة فقل: من شرف الإسلام أن يظل
في الدنيا مشرك، وأن يظل في الدنيا هؤلاء الكفار ثم يرغموا ليحلوا مسائل مجتمعاتهم
بقضايا الإسلام، والإسلام يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرناً إلى ما يلهثون
وراءه الآن بعد مضي كل هذا الزمن. ويقول الحق بعد ذلك: } فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ
تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىا تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ... {
(/232)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
وسبق أن قال الحق: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } وبعدها قال: { فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }. وهنا يتحدث الحق عن التسريح بقوله: {
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىا تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ }. وذلك حتى يبين لنا أنه إن وصلت الأمور بين الزوجين إلى مرحلة اللا
عودة فلابد من درس قاس؛ فلا يمكن أن يرجع كل منهما للآخر بسهولة. لقد أمهلهما الله
بتشريع البينونة الصغرى التي يعقبها مهر وعقد جديدان فلم يرتدعا، فكان لابد من
البينونة الكبرى، وهي أن تتزوج المرأة بزوج آخر وتجرب حياة زوجية أخرى. وبذلك يكون
الدرس قاسياً.
وقد يأخذ بعض الرجال المسألة بصورة شكلية، فيتزوج المرأة المطلقة ثلاثاً زواجاً
كامل الشروط من عقد وشهود ومهر، لكن لا يترتب على الزواج معاشرة جنسية بينهما،
وذلك هو " المحلل " الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره الإسلام.
فمن تزوج على أنه محلل ومن وافقت على ذلك المحلل فليعلما أن ذلك حرام على الاثنين،
فليس في الإسلام محلل، ومن يدخل بنية المحلل لا تجوز له الزوجة، وليس له حقوق
عليها، وفي الوقت نفسه لو طلقها ذلك الرجل لا يجوز لها الرجوع لزوجها السابق، لأن
المحلل لم يكن زوجاً وإنما تمثيل زوج، والتمثيل لا يُثبت في الواقع شيئاً. ولذلك
قال الحق: { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىا تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ }.
والمقصود هنا النكاح الطبيعي الذي ساقت إليه الظروف دون افتعال ولا قصد للتحليل.
وعندما يطلقها ذلك الرجل لظروف خارجة عن الإرادة وهي استحالة العشرة، وليس لأسباب
متفق عليها، عندئذ يمكن للزوج السابق أن يتزوج المرأة التي كانت في عصمته وطلقها
من قبل ثلاث مرات. { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ
إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي أن يغلب على الظن أن المسائل التي كانت مثار خلاف فيما
مضى قد انتهت ووصل الاثنان إلى درجة من التعقل والاحترام المتبادل، وأخذا درساً من
التجربة تجعل كلا منهما يرضى بصاحبه. وبعد ذلك يقول الحق: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... }
(/233)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
ولنلاحظ قوله: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ونسأل:
هل إذا بلغت الأجل وانتهت العدة، هل يوجد بعدها إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؟، هل
يوجد إلا التسريح؟. إن هناك آية بعد ذلك تقول:{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا
تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ }[البقرة: 232]
إذن نحن أمام آيتين كل منهما تبدأ بقوله: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ }. لكن تكملة الآية الأولى هو: { فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وتكملة الآية الثانية هو: { فَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }. ما سر هذا الاختلاف إذن؟
نقول: إن البلوغ يأتي بمعنيين، المعنى الأول: أن يأتي البلوغ بمعنى المقاربة مثل
قوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ }. أي
عندما تقارب القيام إلى الصلاة فافعل ذلك. والمعنى الثاني: يطلق البلوغ على الوصول
الحقيقي والفعلي. إن الإنسان عندما يكون مسافرا بالطائرة ويهبط في بلد الوصول فهو
يلاحظ أن الطيار يعلن أنه قد وصل إلى البلد الفلاني. إذن مرة يطلق البلوغ على
القرب ومرة أخرى يطلق على البلوغ الحقيقي.
وفي الآية الأولى { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } هنا طلق الرجل
زوجته لكن عدتها لم تنته بل قاربت على الانتهاء فربما يمكنه أن يسرحها أو يمسكها
بإحسان، وأصبح للزوج قدر من زمن العدة يبيح له أن يمسك أو يسرح، لكنه زمن قليل. إن
الحق يريد أن يتمسك الزوج بالإبقاء إلى آخر لحظة ويستبقي أسباب الالتقاء وعدم الانفصال
حتى آخر لحظة، وهذه علة التعبير بقوله: { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي قاربن بلوغ
الأجل. إن الحق يريدنا أن نتمسك باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع
للإمساك، فهي لحظة قد ينطق فيها الرجل بكلمة يترتب عليها إما طلاق، وإما عودة
الحياة الزوجية.
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } فالله سبحانه
وتعالى يريد أن يحصر مناقشة الأسباب في الانفصال أو الاستمرار بين الزوج والزوجة
فقط فلا تتعدى إلى غير الزوج والزوجة؛ لأن بين الاثنين من الأسباب ما قد تجعل
الواحد منهما يُلين جانبه للآخر.
لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست عنده هذه فسوف تكبر في نفسه الخصومة ولا توجد عنده
الحاجة فلا يبقى على عشرة الزوجين. فإذا ما دخل الأب أو الأخ أو الأم في النزاع
فسوف تشتعل الخصومة، وكل منهم لا يشعر بإحساس كل من الزوجين للآخر، ولا بليونة
الزوج لزوجته، ولا بمهادنة الزوجة لزوجها، فهذه مسائل عاطفية ونفسية لا توجد إلا
بين الزوج والزوجة، أما الأطراف الخارجية فلا يربطها بالزوج ولا بالزوجة إلا صلة
القرابة. ومن هنا فإن حرص تلك الأطراف الخارجية على بقاء عشرة الزوجين لا يكون مثل
حرص كل من الزوجين على التمسك بالآخر.
ولذلك يجب أن نفهم أن كل مشكلة تحدث بين زوج وزوجته ولا يتدخل فيها أحد تنتهي
بسرعة بدون أم أو أب أو أخ، ذلك لأنه تدخل طرفٍ خارجي لا يكون مالكا للدوافع
العاطفية والنفسية التي بين الزوجين، أما الزوجان فقد تكفي نظرة واحدة من أحدهما
للآخر لأن تعيد الأمور إلى مجاريها. فقد يُعجب الرجل بجمال المرأة ويشتاق إليها،
فينسى كل شيء. وقد ترى المرأة في الرجل أمراً لا تحب أن تفقده منه فتنسى ما حدث
بينهما، وهكذا.
لكن أين ذلك من أمها وأمه، أو أبيها وأبيه؟ ليس بين هؤلاء وبين الزوجين أسرار
وعواطف ومعاشرة وغير ذلك.
ولهذا فأنا أنصح دائما بأن يظل الخلاف محصوراً بين الزوج والزوجة؛ لأن الله قد جعل
بينهما سيالا عاطفيا. والسيال العاطفي قد يسيل إلى نزوع ورغبة في شيء ما، وربما
تكون هذه الرغبة هي التي تصلح وتجعل كلا من الطرفين يتنازل عن الخصومة والطلاق.
ولذلك شاءت إرادة الله عز وجل ألا يطلق الرجل زوجته وهي حائض، لماذا؟
لأن المرأة في فترة الحيض لا يكون لزوجها رغبة فيها، وربما ينفر منها، لكن يريد
الحق عز وجل ألا يطلق الرجل زوجته إلا في طهر لم يسبق له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج
زوجته وبعد أن تغتسل من الحيض، وذلك حتى لا يطلقها إلا وهو في أشد الأوقات رغبة
لها.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن تكون الخلافات بين الزوج والزوجة في إطار الحياة
الزوجية، حتى يحفظهما سياج المحبة والمودة والرحمة. لكن تدخل الأطراف الأخرى يحطم
هذا السياج، أياً كان الطرف أما أو أبا أو أخا.
ويقول الحق: } وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ { أي لا تبق أيها
الرجل على الحياة الزوجية من أجل الإضرار بالمرأة وإذلالها، ومعنى الضرار أنك تصنع
شيئا في ظاهره أنك تريد الخير وفي الباطن تريد الشر. ولذلك أطلق اللفظ على "
مسجد الضرار " فظاهر بنائه أنه مسجد بني للصلاة فيه، وفي الباطن كان الهدف
منه هو الكفر والتفريق بين المؤمنين. وكذلك الضرار في الزواج؛ يقول الرجل أنا لا
أريد طلاقها وسأعيدها لبيتها، يقول ذلك ويُبيت في نفسه أن يعيدها ليذلها وينتقم
منها، وذلك لا يقره الإسلام؛ بل وينهى عنه.
إن الحق عز وجل يحذر من مثل هذا السلوك فيقول: } وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً
لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ { فإياك أن تظن أنك
حين تعتدي على زوجتك بعد أن تراجعها أنك ظلمتها هي، لا، إنما أنت تظلم نفسك؛ لأنك حين
تعتدي على إنسان فقد جعلت ربه في جانبه، فإن دعا عليك قِبل الله دعوته، وبذلك تحرم
نفسك من رضا الله عنك، فهل هناك ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك بسخط الله عليك.
ويتابع الحق سبحانه وتعالى: } وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ
تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً { أي خذوا نظام الله على أنه نظام جاء ليحكم
حركة الحياة حكما بلا مراوغة وبلا تحليق في خيال كاذب، إنما هو أمر واقعي، فلا يصح
أن يهزأ أحد بما أنزله الله من أنظمة تصون حياة وكرامة الإنسان رجلاً كان أو
امرأة.
} وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ { ونعمة الله عليهم التي يذكرهم الله
بها في معرض الحديث عن الطلاق هي أنه ـ سبحانه ـ يلفتهم إلى ما كانوا عليه قبل أن
يشرع لهم أين كان حظ المرأة في الجاهلية في أمور الزواج والطلاق، وما أصبحت عليه
بعد نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها مصونة بالقرآن.
إن الحق عز وجل يمتن على المؤمنين ليلفت نظرهم إلى حالتهم قبل الإسلام؛ فقد كان
الرجل يطلق امرأته ويعيدها، ثم يطلقها ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو رابط. وكان
يحرم عليها المعاشرة الزوجية شهوراً ويتركها تتعذب بلوعة البعد عنه، ولا تستطيع أن
تتكلم.
وكانت المرأة إذا مات زوجها تنفى من المجتمع فلا تظهر أبداً ولا تخرج من بيتها
وكأنها جرثومة، وقبل ذلك كله كانت مصدر عار لأبيها، فكان يقتلها قبل أن تصل إلى سن
البلوغ بدعوى الحرص على عرضه وشرفه.
باختصار كان الزواج أقرب إلى المهازل منه إلى الجد، فجاء الإسلام، فحسم الأمور حتى
لا تكون فوضى بلا ضوابط وبلا قوانين. فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم
بالإسلام، وانظروا إلى ما أنعم به عليكم من نظام أسري يلهث العالم شرقه وغربه ليصل
إلى مثله.
كنتم أمة بلا حضارة وبلا ثقافة، تعبدون الأصنام وتقيمون الحرب وتشعلونها بينكم على
أتفه الأسباب وأدونها، وتجهلون القراءة والكتابة، ثم نزل الله عليكم هذا التشريع
الراقي الناضج الذي لم تصل إليه أية حضارة حتى الآن. أَلاَ تذكرون هذه النعمة التي
أنتم فيها بفضل من الله؟ لذلك قال سبحانه: } وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ { والكتاب هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويختتم
الحق تلك الآية الكريمة بقول: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {.
فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم، فكل تشريع جاهز في
الإسلام، لأن الله عليم بما تكون عليه أحوال الناس، فلا يستدرك كون الله في الواقع
على ما شرع الله في كتابه، لأنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع. وبعد ذلك يقول
الحق: } وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ... {
(/234)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } هنا أي فانتهت العدة، ولم يستنفد الزوج مرات الطلاق،
ولم يعد للزوج حق في أن يراجعها إلا بعد عقد ومهر جديدين. هب أن الزوج أراد أن
يعيد زوجته إلى عصمته مرة أخرى، وهنا يتدخل أهل اللدد والخصومة من الأقارب، ويقفون
في وجه إتمام الزواج، والزوجان ربما كان كل منهما يميل إلى الآخر، وبينهما سيال
عاطفي ونفسي لا يعلمه أحد، لكن الذين دخلوا في الخصومة من الأهل يقفون في وجه عودة
الأمور إلى مجاريها، خوفا من تكرار ما حدث أو لأسباب أخرى، وتقول لهؤلاء: ما دام
الزوجان قد تراضيا على العودة فلا يصح أن يقف أحد في طريق عودة الأمور إلى ما كانت
عليه.
وقوله الحق: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } نعرف منه أن العضل هو المنع، والكلام للأهل
والأقارب وكل من يهمه مصلحة الطرفين من أهل المشورة الحسنة. و { أَن يَنكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ } أي الذين طلقوهن أولا.
والمعنى: لا تمنعوا الأزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللائي طلقوهن من قبل.
وليعلم الأهل الذين يصرون على منع بناتهم من العودة لأزواجهن أنهم بالتمادي في
الخصومة يمنعون فائدة التدرج في الطلاق التي أراد حكمة لله.
إن حكمة التشريع في جعل الطلاق مرة، ومرتين هي أن من لم يصلح في المرأة الأولى قد
يصلح في المرة الثانية، وإذا كان الله العليم بنفوس البشر قد شرع لهم أن يطلقوا
مرة ومرتين، وأعطى فسحة من الوقت لمن أخطأ في المرة الأولى ألا يخطئ في الثانية،
لذلك فلا يصح أن يقف أحد حجر عثرة أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد.
وقوله الحق: { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } ونلحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى
ينسب النكاح للنسوة، فقال: { يَنكِحْنَ } وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج
فلا يمكن أن يطلقها أولا ثم لا يكون لها رأي في العودة إليه.
{ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة
كل منهم للآخر أفضل، فليبتعد أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين، وليتركوا
الحلال يعود إلى مجاريه. { ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَىا لَكُمْ وَأَطْهَرُ } إن هذا
تشريع ربكم وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بالله ربا حكيماً مشرعاً وعالماً بنوازع
الخير في نفوس البشر.
وكلمة { وَأَطْهَرُ } تلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع
لزوجها الذي طلقها ثم انتهت العدة، وأراد هو أن يتزوجها من جديد، إن الحق يبلغنا:
ولا تقفوا في وجه رغبتهما في العودة لأي سبب كان، لماذا يا رب؟
وتأتي الإجابة في قوله الحق: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
تأمل جمال السياق القرآني وكيف خدم قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ } المعنى الذي تريده الآيات. إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أن في
عودة الأمور لمجاريها بين الزوجين أزكى وأطهر. ويقول الحق بعد ذلك: {
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ
أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ... }
(/235)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
انظر إلى عظمة الإسلام ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لأولادهن بعد
عملية الطلاق، فالطلاق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة، والحق سبحانه وتعالى ينظر
للمسألة نظرة الرحيم العليم بعباده، فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل
أن يحدث الشقاق بين الأبوين، فيبلغنا: لا تجعلوا شقاقكم وخلافكم وطلاقكم مصدر
تعاسة للطفل البريء الرضيع.
وهذا كلام عن المطلقات اللاتي تركن بيوت أزواجهن، لأن الله يقول بعد ذلك: { وَعلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وما دامت الآية
تحدثت عن { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } فذلك يعني أن المرأة ووليدها بعيدة عن
الرجل، لأنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه. والحق سبحانه
يفرض هنا حقا للرضيع، وأمه لم تكن تستحقه لولا الرضاع. وبعض الناس فهموا خطأ أن
الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم: لا. إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللاتي
يرضعن فقط.
ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه، فشرع حق الطفل في أن يتكفله
والده بالرزق والكسوة حتى يكون الأمر معلوما لديه حال الطلاق.
وقوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ
} نلحظ فيه أنه لم يأت بصيغة الأمر فلم يقل: يا والدات أرضعن، لأن الأمر عرضة لأن
يطاع وأن يعصى، لكن الله أظهر المسألة في أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ولا
يخالف.
ويقول الحق: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ولنتأمل عظمة
الأداء القرآني في قوله: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } إنه لم يقل: " وعلى
الوالد " ، وجاء بـ { الْمَوْلُودِ لَهُ } ليكلفه بالتبعات في الرزق والكسوة،
لأن مسئولية الإنفاق على المولود هي مسئولية الوالد وليست مسئولية الأم، وهي قد
حملت وولدت وأرضعت والولد يُنسب للأب في النهاية يقول الشاعر:فـإنـمـا أمـهـات
الـنـاس أوعـيـة مسـتـوعـادت وللآبـاء أبـنـاءوما دام المولود منسوباً للرجل الأب،
فعلى الأب رزقه وكسوته هو وعليه أيضا رزق وكسوة أمه التي ترضعه بالمعروف المتعارف
عليه بما لا يسبب إجحافاً وظلما للأب في كثرة الإنفاق، ويقول الحق: { لاَ
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } هنا الحديث عن الأم والأب. فلا يصح أن ترهق
المطلقة والد الرضيع بما هو فوق طاقته، وعليها أن تكتفي بالمعقول من النفقة.
ويتابع الحق: { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ
بِوَلَدِهِ } ولازال الحق يُذكرُ الأب بأن المولود له هو، وعليه ألا يضر والدة
الطفل بمنع الإنفاق على ابنه، وألا يتركها تتكفف الناس من أجل رزقه وكسوته، وفي
الوقت نفسه يُذَكرُ الأم: لا تجعلي رضيعك مصدر إضرار لأبيه بكثرة الإلحاح في طلب
الرزق والكسوة.
إنه عز وجل يضع لنا الإطار الدقيق الذي يكفل للطفل حقوقه، فهناك فرق بين رضيع ينعم
بدفء الحياة بين أبوين متعاشرين، ووجوده بين أبوين غير متعاشرين.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا لفتة أخرى هي أن والد المولود قد يموت فإذا ما مات
الوالد فمن الذي ينفق على الوليد الذي في رعاية أمه المطلقة؟ هنا يأتينا قول الحق
بالجواب السريع: } وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ {.
إن الحق يقرر مسئولية الإنفاق على من يرث والد الرضيع، صحيح أن الرضيع سيرث في
والده، لكن رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية من يرث الوصاية وتكون له الولاية على
أموال الأب إن مات. وهكذا يضمن الله عز وجل حق الرضيع عند المولود له وهو أبوه إذا
كان حياً، وعند من يرث الأب إذا تُوفى.
وبذلك يكون الله عز وجل قد شَرَّع لصيانة أسلوب حياة الطفل في حال وجود أبويه،
وشرع له في حال طلاق أبويه وأبوه حيٌّ وشرع له في حال طلاق أبويه ووفاة أبيه.
ويتابع الحق: } فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا {.
انظر إلى الرحمة في الإسلام؛ فطلاق الرجل لزوجته لا يعني أن ما كان بينهما قد
انتهى، ويضيع الأولاد ويشقون بسبب الطلاق، فقوله تعالى: } عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ { دليل على أن هناك قضية مشتركة مازالت بين الطرفين وهي ما يتصل
برعاية الأولاد، وهذه القضية المشتركة لابد أن يلاحظ فيها حق الأولاد في عاطفة
الأمومة، وحقهم في عاطفة الأبوة، حتى ينشأ الولد وهو غير محروم من حنان الأم أو
الأب، وإن اختلفا حتى الطلاق.
إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور والتراضي في مسألة تربية الأولاد حتى يشعروا بحنان
الأبوين، ويكبر الأولاد دون آلام نفسية، ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم وكذلك والدهم
وبرغم وجود الشقاق والخلاف بينهما فقد اتفقا على مصلحة الأولاد بتراضٍ وتشاور.
إن ما يحدث في كثير من حالات الطلاق من تجاهل للأولاد بعد الطلاق هي مسألة خطيرة؛
لأنها تترك رواسب وآثارا سلبية عميقة في نفوس الأولاد، ويترتب عليها شقاؤهم وربما
تشريدهم في الحياة. وما ذنب أولاد كان الكبار هم السبب المباشر في مجيئهم للحياة؟
أليس من الأفضل أن يوفر الآباء لهم الظروف النفسية والحياتية التي تكفل لهم النشأة
الكريمة؟ إن منهج الله أمامنا فلماذا لا نطبقه لنسعد به وتسعد به الأجيال القادمة؟
والحق سبحانه وتعالى قال في أول الآية: } وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ { لكن ماذا يكون الحال إن نشأت ظروف تقلل
من فترة الرضاعة عن العامين، أو نشأت ظروف خاصة جعلت فترة الرضاعة أطول من
العامين؟ هنا يقول الحق: } فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا {.
إنه جل وعلا يبين لنا أن الفصال أي الفطام يجب أن يكون عن تراض وتشاور بين
الوالدين ولا جناح عليهما في ذلك. ويقول الحق: } وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن
تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ
آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ { ، و } أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ { أي أن تأتوا
للطفل بمرضعة، فإن أردتم ذلك فلا لوم عليكم في ذلك.
إن المطلق حين يوكل إلى الأم أن ترضع وليدها فالطفل يأخذ من حنان الأم الموجود
لديها بالفطرة، لكن هب أن الأم ليست لديها القدرة على الإرضاع أو أن ظروفها لا
تسعفها على أن ترضعه لضعف في صحتها أو قوتها، عند ذلك فالوالد مُطالب أن يأتي
لابنه بمرضعة، وهذه المرضعة التي ترضع الوليد تحتاج إلى أن يعطيها الأب ما
يُسخِّيها ويجعلها تقبل على إرضاع الولد بأمانة، والإشراف عليه بصدق.
ويختم الحق هذه الآية الكريمة بقوله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { ، إن الحق يحذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي
بظاهر الأمر تطبيقها، لكنه غير حريص على روح هذه الأحكام، مثال ذلك الأب الذي يريد
أن يدلس على المجتمع، فعندما يرى الأب مرضعة ابنه أمام الناس فهو يدعي أنه ينفق
عليها، ويعطيها أجرها كاملا، ويقابلها بالحفاوة والتكريم بينما الواقع يخالف ذلك.
إن الله يحذر من يفعل ذلك: أنت لا تعامل المجتمع وإنما تعامل الله و } اللَّهَ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {. ويقول الحق بعد ذلك: } وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْراً... {
(/236)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
والعدة ـ كما عرفنا ـ هي الفترة الزمنية التي شرعها الله بعد زواج انتهى بطلاق أو
بوفاة الزوج. والعدة إما أن تكون بعد طلاق، وإما بعد وفاة زوج، فإن كانت العدة بعد
طلاق فمدتها ثلاثة قروء، والقرء ـ كما عرفنا ـ هو الحيضة أو الطهر، فإن كانت المطلقة
صغيرة لم تخض بعد أو كانت كبيرة تعدت سن الحيض فالعدة تنقلب من القروء إلى الأشهر
وتصبح " ثلاثة أشهر ".
وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع زوجته بينه وبين نفسه دون تدخل الزوجة أو ولي
أمرها، له ذلك في أثناء فترة العدة في الطلاق الرجعي، فإن انتهت عدتها فقد سقط حقه
في مراجعة الزوجة بنفسه، وله أن يراجعها، ولكن بمهر وعقد جديدين ما دام قد بقى له
حق أي لم يستنفد مرات الطلاق.
وقد قلنا: إن تعدت الطلقات اثنتين وأصبحت هناك طلقة ثانية فلابد من زوج آخر
يتزوجها بالطريقة الطبيعية لا بقصد أن يحللها للزوج الأول. وأما عدة المتوفى عنها
زوجها فقد عرفنا أن القرآن ينص على أنها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، هذا إن لم
تكن حاملا، فإن كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين، فإن كان الأجل الأبعد هو أربعة
أشهر وعشرا فتلك عدتها، وإن كان الأجل الأبعد هو الحمل فعدتها أن ينتهي الحمل. لكن
أليس من الجائز أن يموت زوجها وهي في الشهر التاسع من الحمل فتلد قبل أن يدفن؟ وهل
يعني ذلك أن عدتها انتهت؟ لا، إنها تنتهي بأبعد الأجلين وهو في هذه الحالة مرور
أربعة أشهر وعشرا، وإن قال بعض الفقهاء: إن عدة الحامل بوضع الحمل.
لكن إذا لم يكن زوجها متوفَّى عنها فعدتها أن تضع حملها، وإن شاءت أن تتزوج بعد
ذلك فلها ذلك ولو بعد لحظة. وبعض الناس يفسرون الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها
زوجة أربعة أشهر وعشرا، فيقولون: لأنها إن كانت حاملا بذكر فسيظهر حملها عندما
يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملا بأنثى فستتحرك بعد أربعة أشهر ونعطيها مهلة
عشر ليالٍ.
ونقول لهم: جزاكم الله خيرا على تفسيركم، لكن العدة ليست لاستبراء الرحم؛ لأنها لو
كانت لاستبراء الرحم لانتهت عدة المرأة بمجرد ولادتها. ولو كان الأمر للتأكد من
وجود حمل أو عدمه، لكانت عدتها ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، وإن كانت من غير
ذوات الحيض لصغر أو لكبر سن لكانت عدتها ثلاثة أشهر. لكن الله اختصها بأربعة أشهر
وعشر وفاءً لحق زوجها عليها وإكراما لحياتهما الزوجية.
إذن فالله عز وجل جعل المتوفى عنها زوجها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها
المرأة.
فالمرأة ساعة تكون متوفى عنها زوجها لا تخرج من بيتها ولا تتزين ولا تلقى أحداً
وفاءً للزوج، فإذا انتهت عدتها أي مضت عليها الأربعة الأشهر والعشرة، } فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ { وهو يعني أن تتزين في
بيتها وتخرج دون إبداء زينة وأن يتقدم لها من يريد خطبتها. وقوله تعالى: }
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً { والمقصود بهذه المدة أربعة أشهر وعشر ليال.
وهنا لفتة تشريعية إيمانية تدل على استطراق كل حكم شرعي في جميع المكلفين وإن لم
يكن الحكم ماسا لهم؛ فالمتوفى عنها زوجها تربصت أربعة أشهر وعشرا وبلغتها في مدة
العدة، وكان من حكم الله عليها ألا تتزين وألا تكتحل وألا تخرج من بيتها وفاءً لحق
زوجها فإذا بلغت الأجل وانتهى قال: } فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ { ، ولم يقل: فلا جناح عليهن. لقد وجه الخطاب هنا للرجال؛ لأن
كل مؤمن له ولاية على كل مؤمنة، فإذا رأى في سلوكها أو أسلوب عنايتها بنفسها ما
ينافي العدة فله أن يتدخل. مثلا إذا رآها تتزين قال لها أو أرسل إليها من يقول
لها: لماذا تتزينين؟ إن قول الله: } فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ { يجعل للرجال قوامة
على المتوفى عنها زوجها، فلا يقولون: لا دخل لنا؛ لأن الحكم الإيماني حكم مستطرق
في كل مؤمن وعلى كل مؤمن. فالحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 3]
إن قوله الحق: } وَتَوَاصَوْاْ { لا يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما
آخرين يُوصيهم غيرهُم، بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر،
هذا هو معنى } وَتَوَاصَوْاْ {.
فإذا رأيت في غيرك ضعفاً في أي ناحية من نواحي أحكام الله، فلك أن توصيه. وكذلك إن
رأى غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك، وعندما نتواصى جميعاً لا
يبقى لمؤمن بيننا خطأ ظاهر.
إذن فالآية لا تَخُصُ بالوصاية جماعة دون أخرى إنما الكل يتواصون، لأن الأغيار
البشرية تتناوب الناس أجمعين. فأنت في فترة ضعفي رقيب علي، فتوصيني، وأنا في فترة
ضعفك رقيب عليك، فأوصيك. ولذلك جاء قول الحق: } فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ { إنه
سبحانه لم يوجه الخطاب للنساء، ولكن خاطب به المؤمنين ولم يخص بالخطاب أولياء أمور
النساء فحسب وإنما ترك الحكم للجميع حتى لا يقول أحد: لا علاقة لي بالمرأة التي
توفى عنها زوجها ولتفعل ما تشاء. إن لها أن تتزين بالمتعارف عليه إسلاميا في
الزينة، ولها أن تتجمل في حدود ما أذن الله لها فيه.
ويختتم الحق هذه الآية بقوله: } وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { أي والله
أعلم بما في نفسها وبما في نيتها. وهب أنها فعلت أي فعل على غير مرأى من أحد فلا
تعتقد أن المجتمع وإن لم يشهد منها ذلك أن المسألة انتهت، لا، إن الله عليم بما
تفعل وإن لم يطلع عليها أحد من الناس.
إن الحق سبحانه وتعالى قد حمى بكل التشريعات السابقة حق الزوج حتى تنتهي العدة،
وحق المتوفى عنها زوجها في أثناء العدة، وحمى أيضا بكل التشريعات كرامة المرأة.
وجعل المرأة حرما لا يقترب منه أحد يخدش حجابها، إنّ عليها عدة محسوبة في هذا
الوقت لرجل آخر، فلا يحق لأحد أن يقترب منها.
لماذا؟ لأن المرأة خاصة إذا كانت مطلقة قد تتملكها رغبة في أن تثأر لنفسها
ولكرامتها، وربما تعجلت التزوج، وربما كانت مسائل الافتراق أو الخلاف ناشئة عن
اندساس رغبة راغب فيها، وبمجرد أن يتم طلاقها وتعيش فترة العدة فقد يحوم حولها
الراغبون فيها، أو تستشرق هي من ناحيتها من تراه صالحاً كزوج لها. ولذلك يفرض الحق
سياجا من الزمن ويجعل العدة كمنطقة حرام ليحمي المرأة حماية موضوعية لا شكلية.
التشريع ـ لأنه من إله رحيم ـ لا يهدر عواطف النفس البشرية: لا من ناحية الذي يرغب
في أن يتزوج، ولا من ناحية المرأة التي تستشرق أن تتزوج، فيعالج هذه المسألة بدقة
وبحزم وبحسم معا ـ جل شأنه ـ: } وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ
مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ... {
(/237)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
و { عَرَّضْتُمْ } مأخوذة من التعريض. والتعريض: هو أن تدل على شيء لا بما يؤديه
نصا، ولكن تعرض به تلميحا.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية، والتنفيس ليس
مجرد تعبير عن العاطفة، ولكنه رعاية للمصلحة، فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان
في ذلك ضياع فرصة الزواج للمرأة، أو قد يفوت ـ هذا المنع ـ الفرصة على من يطلبها
من الرجال؛ لذلك يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الاحتياط،
وكأنه يقول لنا: أنا أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلاماً صريحاً وواضحاً
فيها، لكن لا مانع من التلميح من بعيد.
مثلا يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلام لا يعد خروجا على آداب الإسلام
مثل هذا الكلام هو تلميح وتعريض، وفائدته أنه يعبر عما في نفسه قائله تجاه المطلقة
فتعرف رأيه فيها، ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لإنفاذ ما
في نفسه، ومنعه من أن يتقدم لخطبتها بعد انتهاء العدة، وقد يدفعه ذلك لأن يفكر
تفكيرا آخر: للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ.
إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلان فيها حتى إن جاءها غيره لا
توافق عليه مباشرة. وهكذا نرى قبساً من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، بأن جعل
العدة كمنطقة حرام تحمي المرأة، وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس
مصلحة من بعد ذلك.
إن الحق يقول: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَآءِ } والخطبة مأخوذة من مادة " الخاء " و " الطاء " و
" الباء " وتدل على أمور تشترك في عدة معالم: منها خُطبة بضم الخاء،
ومنها خَطْب وهو الأمر العظيم، ومنها المعنى الذي نحن بصدده وهو الخِطبة بكسر
الخاء. وكل هذه المعالم تدل على أن هناك الأمر العظيم الذي يُعالج، فالخطب أمر
عظيم يهز الكيان، وكذلك الخُطبة لا يلقيها الخطيب إلا في أمر ذي بال، فيعظ المجتمع
بأمر ضروري.
والخِطبة كذلك أمر عظيم؛ لأنه أمر فاصل بين حياتين: حياة الانطلاق، وحياة التقيد
بأسرة وبنظام. وكلها معان مشتركة في أمر ذي بال، وأمر خطير. وهو سبحانه وتعالى
يقول: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } أي لا جناح عليكم أن وضعتم في
أنفسكم أمرا يخفى على المرأة، وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء، ولكن ما
الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لابد أن
تلمح وأن تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة.
ويقول الحق: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، إن الذي خلقك يعلم
أنها ما دامت في بالك، ومات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملا بالنسبة لك، فلو
أنه ضيق عليك لعوق عواطفك، ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة من بعد ذلك، ولهذا
أباح الحق التعريض حتى لا يقع أحدكم في المحظور وهو { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً
} بأن تأخذوا عليهن العهد ألا يتزوجن غيركم، أو يقول لها: تزوجيني.
بل عليه أن يعرض ولا يفصح ولا يصرح. إن المواعدة في السر أمر منهي عنه، لكن
المسموح به هو التعريض بأدب، } إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً { كأن
يقول: " يا سعادة من ستكون له زوجة مثلك ". ومثل ذلك من الثناء الذي
يُطرب المرأة. ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو المتوفى عنها زوجها
تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده.
ويتابع الحق: } وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىا يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ { وهكذا نرى أن مجرد العزم الأكيد أمر نهى عنه. والعزم مقدم
على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد وأنهى، فلك أن تنوى الزواج
منها وتتوكل على الله، لكن لا تجعله أمرا مفروغا منه، إلا بعد أن تتم عدتها، فإن
بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا عقدة النكاح. فكأن عقدة النكاح تمر بثلاث
مراحل:
المرحلة الأولى: وهي التعريض أي التلميح.
والمرحلة الثانية: هي العزم الذي لا يصح ولا يستقيم أن يتم إلا بعد انتهاء فترة
العدة.
والمرحلة الثالثة: هي العقد.
والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا الأمر الجاد،
فإن كان التفكير قد هدى إلى العزم فإن للإنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة، وإن كان
التفكير قد اهتدى إلى الابتعاد وصرف النظر عن مثل هذا الأمر فللإنسان ما يريد.
ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في
الآخر أمرا لا يعجبه. وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد لا يكون إلا بعزم، فلا
يوجد عقد دون عزم، إن الحق يريد من المسلم ألا يقدم على عقدة النكاح إلا بعد عزم.
والعزم معناه التصميم على أنك تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته، وبكل مهر
الزواج، ومشروعيته، وإعفافه؛ فالزواج بدون أرضية العزم مصيره الفشل.
ومعنى العزم: أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد، ثم
لك أن تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا مجرد شهوة طارئة ليس لها
أرضية من عزيمة النفس عليها.
ولذلك فإن الزواج القائم على غير رويّة، والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة لا
يستمر ولا ينجح. ومثل ذلك زواج المتعة؛ فالعلة في تحريم زواج المتعة أن المقدم
عليه لا يريد به الاستمرار في الحياة الزوجية، وما دام لا يقصد منه الديمومة
فمعناه أنه هدف للمتعة الطارئة.
والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛ لأنهم يتناسون عنصر الإقبال بديمومة
على الزواج، فما الداعي لأن تقيد زواجك بمدة؟ إن النكاح الأصيل لا يُقيد بمثل هذه
المدة. وتأمل حمق هؤلاء لتعلم أن المسألة ليست مسألة زواج، إنما المسألة هي تبرير
زنى، وإلا لماذا يشترط في زواج المتعة أن يتزوجها لمدة شهر أو أكثر؟
إن الإنسان حين يشترط تقييد الزواج بمدة فذلك دليل على غباء تفكيره وسوء نيته؛ لأن
الزواج الأصيل هو الذي يدخل فيه بديمومة، وقد ينهيه بعد ساعة إن وجد أن الأمر
يستحق ذلك، ولن يعترض أحد على مثل هذا السلوك، فلماذا تقيد نفسك بمدة؟ إن المتزوج
للمتعة يستخدم الذكاء في غير محله، قد يكون ذكيا في ناحية ولكنه قليل الفطنة في
ناحية أخرى.
إن على الإنسان أن يدخل على الزواج بعزيمة بعد تفكير عميق وروية ثم ينفذ العزم على
عقد. حذار أن تضع في نفسك مثل هذا الزواج المربوط على مطامع وأهداف في نفسك كعدم
الديمومة أو لهدف المتعة فقط، فكل ما يفكر فيه بعض الناس من أطماع شهوانية ودنيوية
هي أطماع زائلة. اصرف كل هذه الأفكار عنك؛ لأنك إن أردت شيئاً غير الديمومة في
الزواج، وإرادة الإعفاف؛ فالله سبحانه يعلمه وسيرد تفكيرك نقمة عليك فاحذره.
إن الله سبحانه لا يحذر الإنسان من شيء إلا إذا كان مما يغضبه سبحانه. لذلك يذيل
الحق هذه الآية الكريمة بقوله: } وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {. وهو
سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الأحيان، فإن كان قد حدث منها
شيء فالله يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لأنه سبحانه هو الغفور الحليم. وبعد
ذلك يقول الحق سبحانه: } لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً... {
(/238)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
نحن نلاحظ أن الكلام فيما تقدم كان عن الطلاق للمدخول بها، أو عن المرأة التي دخل
بها زوجها ومات عنها. ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلاق لامرأة غير مدخول
بها. وتأتي هذه الآية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها، وهي إما أن يكون الزوج لم
يفرض لها صداقاً، وإما أن يكون قد فرض لها صداقاً.
والطلاق قبل الدخول له حكمان: فُرضت في العقد فريضة، أو لم تفرض فيه فريضة، فكأن
عدم فرض المهر ليس شرطاً في النكاح، بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد
ثبت لها مهر المثل والعقد صحيح. ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: { لاَّ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول للزوج
بها.
ولنا أن نسأل ما هو المس؟ ونقول: فيه مس، وفيه لمس، وفيه ملامسة. فالإنسان قد يمس
شيئا، ولكن الماس لا يتأثر بالممسوس، أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو
ناعم؟ دافئ أو بارد، وإلى غير ذلك.
أما اللمس فلا بد من الإحساس بالشيء الملموس، أما الملامسة فهي حدوث التداخل بين
الشيئين. إذن فعندنا ثلاث مراحل: الأولى هي: مس. والثانية: لمس. والثالثة: ملامسة.
كلمة " المس " هنا دلت على الدخول والوطء، وهي أخف من اللمس، وأيسر من
أن يقول: لامستم أو باشرتم، ونحن نأخذ هذا المعنى؛ لأن هناك سياقا قرآنيا في مكان
آخر قد جاء ليكون نصاً في معنى، ولذلك نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود
بكلمة " المس " هنا، فقد قالت السيدة مريم:{ قَالَتْ أَنَّىا يَكُونُ
لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }[مريم: 20]
إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحداً من البشر لم يتصل بها ذلك
الاتصال الذي ينشأ عنه غلام، والتعبير في منتهى الدقة، ولأن الأمر فيه تعرض لعورة
وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس، وكأن الله سبحانه
وتعالى يريد أن يثبت لها إعفافاً حتى في اللفظ، فنفى مجرد مس البشر لها، وليس
الملامسة أو المباشرة برغم أن المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأن الآية بصدد إثبات
عفة مريم.
ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الآية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه
وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير.
والحق يقول: { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } وتعرف أن " أَوْ "
عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني " إما هذا وإما ذاك " ، فهل
تفرض لهن فريضة مقابل المس؟.
إن الأصل المقابل في } مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ { هو أن تمسوهن. ومقابل }
تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً { هو: أن لا تفرضوا لهن فريضة. كأن الحق عز وجل
يقول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم
تفرضوا لهن فريضة. وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني.
ولنا أن نلاحظ أن الحق قد جاء بكلمة " إن " في احتمال وقوع الطلاق، و
" إن " ـ كما نعرف ـ تستخدم للشك، فكأن الله عز وجل لا يريد أن يكون
الطلاق مجترءاً عليه ومحققاً، فلم يأت بـ " إذا " ، بل جعلها في مقام
الشك حتى تعزز الآية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أبغض الحلال إلى الله
الطلاق ".
ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلك: } وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ { أي إنّك إذا طلقت المرأة قبل الدخول، ولم تفرض لها
فريضة فأعطها متعة. وقال العلماء في قيمة المتعة: إنها ما يوازي نصف مهر مثيلاتها
من النساء؛ لأنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر، وما دام لم يُحَّدد لها مهرٌ
فلها مثل نصف مهر مثيلاتها من النساء. ويقول الحق: } عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ { أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة
الزوج؛ فالموسع الغني: عليه أن يعطي ما يليق بعطاء الله له، والمقتر الفقير: عليه
أن يعطي في حدود طاقته.
وقول القرآن: } الْمُوسِعِ { مشتق من " أوسع " واسم الفاعل " موسع
" واسم المفعول " موسع عليه " ، فأي اسم من هؤلاء يطلق على الزوج؟
إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو " موسع عليه " ، وإن نظرت إلى أن الحق
يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك، وعلى قدر توسيعها يكون اتساع الله لك،
فهو " موسع ".
إذن فالموسع: هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة. والإقتار هو
الإقلال، وعلى قدر السعة وعلى قدر الإقتار تكون المتعة. والحق سبحانه وتعالى حينما
يطلب حكماً تكليفياً لا يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب، ولكنه يوزع
المسئولية في الحق الإيماني العام؛ فقوله: } وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ { يعني إذا وُجد من لا يفعل حكم الله فلا
بد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر الله في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها.
والجمع في الأمر وهو قوله: } وَمَتِّعُوهُنَّ { دليل على تكاتف الأمة في إنفاذ حكم
الله. وبعد ذلك قال: } وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ... {
(/239)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع بها فلا تأخذ المهر كله، إنما يكون لها النصف من
المهر. ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يوجد الحكم بقانون العدل، وبين أن يُنظر في
الحكم ناحية الفضل، وأحكي هذه الواقعة لنتعلم منها:
ذهب اثنان إلى رجل ليحكم بينهما فقالا: احكم بيننا بالعدل. قال: أتحبون أن أحكم
بينكما بالعدل؟ أم بما هو خير من العدل؟ فقالا: وهل يوجد خير من العدل؟ قال: نعم.
الفضل.
إن العدل يعطي كل ذي حق حقه، ولكن الفضل يجعل صاحب الحق يتنازل عن حقه أو عن بعض
حقه. إذن فالتشريع حين يضع موازين العدل لا يريد أن يحرم النبع الإيماني من أريحية
الفضل؛ فهو يعطيك العدل، ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك: { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ }؛ فالعدل وحده قد يكون شاقاً وتبقى البغضاء في النفوس، ولكن عملية
الفضل تنهي المشاحة والمخاصمة والبغضاء.
والمشاحة إنما تأتي عندما أظن أني صاحب الحق، وأنت تظن أنك صاحب الحق، ومن الجائز
أن تأتي ظروف تزين لي فهمي، وتأتي لك ظروف تزين لك فهمك، فحين نتمسك بقضية العدل
لن نصل إلى مبلغ التراضي في النفوس البشرية. ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا
وانتهينا.
والحق سبحانه وتعالى يقول: { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ } أي من قبل أن تدخلوا بهن { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً }
يعني سميتم المهر { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } والمقصود بـ {
يَعْفُونَ } هو الزوجة المطلقة.
إن بعض الجهلة يقولون والعياذ بالله: إن القرآن فيه لحن. وظنوا أن الصحيح في اللغة
أن يأتي القول: إلا أن يعفوا بدلا من { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ }. وهذا اللون من
الجهل لا يفرق بين " واو الفعل " و " واو الجمع " إنها هنا
" واو الفعل " فقول الحق: { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } مأخوذ من الفعل
" عفا " و " يعفو ".
وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو عن نصف مهرها وتتنازل عنه لزوجها. ويتابع الحق: {
أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } والمقصود به الزوج وليس
الولي، لأن سياق الآية يفهم منه أن المقصود به هو الزوج، مع أن بعض المفسرين
قالوا: إنه ولي الزوجة. ولنا أن نعرف أن الولي ليس له أن يعفو في مسألة مهر
المرأة؛ لأن المهر من حق الزوجة، فهو أصل مال، وأصل رزق في حياة الناس؛ لأنه نظير
التمتع بالبضع.
ولذلك تجد بعض الناس لا يصنعون شيئاً بصداق المرأة، ويدخرونه لها بحيث إذا مرض
واحد اشترت له من هذا الصداق ولو قرص اسبرين مثلا؛ لأنه علاج من رزق حلال، فقد
يجعل الله فيه الشفاء.
فالمرأة تحتفظ بصداقها الحلال لمثل هذه المناسبات لتصنع به شيئا يجعل الله فيه
خيراً، لأنه من رزق حلال لا غش فيه ولا تدليس.
وأراد المفسرين الذين نادوا بأن ولي الزوجة هو الذي يعفو وأقول: لماذا يأتي الله
بحكم تتنازل فيه المرأة عن حقها وأن تعفو عن النصف، والرجل لا يكون أريحياً ليعفو
عن النصف؟ لماذا تجعل السماء الغرم كله على المرأة؟ هل من المنطقي أن تعفو النساء
أو يعفو الذي بيده عقد النكاح يعني أولياء الزوجة، فنجعل العفو يأتي من الزوجة ومن
أوليائها؛ أي من جهة واحدة؟
إن علينا أن نحسن الفهم لسياق الفضل الذي قال الله فيه: } وَلاَ تَنسَوُاْ
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ { ، إن التقابل في العفو يكون بين الاثنين، بين الرجل
والمرأة، ونفهم منه المقصود بقوله تعالى: } أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ { أنه هو الزوج، فكما أن للمرأة أن تعفو عن النصف المستحق لها
فللزوج أن يعفو أيضا عن النصف المستحق له.
ويقول الحق: } وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا {؛ لأن من الجائز جدا أن يظن
أحد الطرفين أنه مظلوم، وإن أخذ النصف الذي يستحقه. لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك
أقرب للتقوى وأسلم للنفوس. ولنا أن نتذكر دائما في مثل هذه المواقف قول الحق: }
وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ { فحتى في مقام الخلاف الذي يؤدي إلى أن
يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها يقول الله: } وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ { أي لا تجعلوها خصومة وثأراً وأحقاداً، واعلموا أن الحق سبحانه يجعل
من بعض الأشياء أسباباً مقدورة لمقدور لم نعلمه. وهذه المسألة تجعل الإنسان لا
يعتقد أن أسبابه هي الفاعلة وحدها.
ومثال ذلك: قد نجد رجلا قد أعجب بواحدة رآها فتزوجها، أو واحدة أخرى رآها شاب ولم
تعجبه، ثم جاء لها واحد آخر فأعجب بها، معنى ذلك أن الله عز وجل كتب لها القبول
ساعة رأت الشاب أهلاً لها ورآها هي أهلاً له. ولذلك كان الفلاحون قديماً يقولون:
لا تحزن عندما يأتي واحد ليخطب ابنتك ولا تعجبه؛ لأنه مكتوب على جبهة كل فتاة:
أيها الرجال عِفّوا ـ بكسر العين وتشديد الفاء ـ عن نساء الرجال؛ فهي ليست له،
ولذلك فليس هذا الرجل من نصيبها. وعلينا ألا نهمل أسباب القدر في هذه الأمور؛ لأن
هذا أدعى أن نحفظ النفس البشرية من الأحقاد والضغائن.
ويختم الحق الآية بقوله: } إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { إنه سبحانه
يعلم ما في الصدور وما وراء كل سلوك. وبعد ذلك تأتي آية لتثبت قضية إيمانية، هذه
القضية الإيمانية هي أن تكاليف الإسلام كلها تكاليف مجتمعة، فلا تستطيع أن تفصل
تكليفاً عن تكليف، فلا تقل: " هذا فرض تعبدي " و " هذا مبدأ مصلحي
" و " هذا أمر جنائي " ، لا. إن كل قضية مأمور بها من الحق هي قضية
إيمانية تُكَوِّنُ مع غيرها منهجا متكاملاً. فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن
الطلاق يقول: } حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا... {
(/240)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
ثم يعود إلى الأسرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول:{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[البقرة:
240]
إذن فالحق سبحانه وتعالى فَصَلَ بآية: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ.. } بين
قضية واحدة هي قضية الفراق بين الزوجين وقسمها قسمين، وأدخل بينهما الحديث عن
الصلاة، وذلك لينبهنا إلى وحدة التكاليف الإيمانية، ونظرا لأن الحق يتكلم هنا عن
أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري بالطلاق، وإما افتراق قدري بالوفاة، فأراد الله
سبحانه وتعالى أن يدخل الإنسان في العملية التعبدية التي تصله بالله الذي شرع
الطلاق والصلاة وقدر الوفاة.
ولماذا اختار الله الصلاة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلام عن تشريع الطلاق
والفراق؟ لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الاطمئنان، إن كانت أمور الزواج والطلاق
حزبتهم وأهمتهم في شقاق الاختيار في الطلاقات التي وقعت أو عناء الافتراق بالوفاة.
ولن يربط على قلوبهم إلا أن يقوموا لربهم ليؤدوا الصلاة، وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم أول من يفعل ذلك، كان إذا ما حزبه أمر قام إلى الصلاة.
إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلاق والفراق؛ ليسأله أن
يخفف عنه الهم والحزن. ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري الأقدار فله أن
يعرف أن الله الذي أجرى تلك الأقدار عليه لم يتركها بلا أحكام، بل وضع لكل أمر
حكما مناسبا، وما على المؤمن إلا أن يأخذ الأمور القدرية برضا ثم يذهب إلى الله
قانتا وخاشعا ومصليا. لأن المسألة مسألة الطلاق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار
أو فراق الموت القدري.
ويأتي قوله تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا }
فنفهم أن المقصود في الآية هي الصلوات الخمس، فما المقصود بالصلاة الوسطى؟
ساعة يأتي خاص وعام مثل قوله تعالى:{ رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن
دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }[نوح: 28]
فكم مرة دخل الأب والأمر هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى: { اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ } ، وفي قوله: { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ } ، وفي قوله: {
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ، أي دخلوا ثلاث مرات.
إذن فإيجاد عام بعد خاص، يعني أن يدخل الخاص في العام فيتكرر الأمر بالنسبة للخاص
تكراراً يناسب خصوصيته.
وقوله تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا } تفهم ذلك
المعنى فإذا سألنا: ما معنى حافظوا؟ الجواب ـ إذن ـ يقتضي أن نفهم أن عندنا "
حفظاً " يقابل " النسيان " ، و " حفظا " يقابله "
التضييع " ، والاثنان يلتقيان، فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد ضيعه.
والذي حفظ مالا ثم بدده، لقد ضيعه أيضاً، إذن كلها معانٍ تلتقي في فقد الشيء،
فالحفظ معناه أن تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا ما حفظت آية في القرآن فلابد أن
تحفظها في نفسك، ولو أنعم الله عليك بمال فلا بد أن تحافظ عليه.
وقوله: } حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ { معناه لا تضيعوها. ويُحتمل أيضاً معنى
آخر هو أنكم قد ذقتم حلاوة الصلاة في القرب من معية ربكم، وذلك أجدر وأولى أن
تتمسكوا بها أكثر، وذلك القول يسري على الصلوات الخمس التي نعرفها.
قوله تعالى: } والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا { ذكر للخاص بعد العام، فكأن الله أمر
بالمحافظة على ذلك الخاص مرتين، مرة في دائرة العموم ومرة أخرى أفردها الله
بالخصوص. وما العلة هنا في تفرد الصلاة الوسطى بالخصوص؟ إن " وسطى " هي
تأنيث " أوسط " ، والأوسط والوسطى هي الأمر بين شيئين على الاعتدال، أي
أن الطرفين متساويان، ولا يكون الطرفان متساويين في العدد ـ وهي الصلوات الخمس ـ
إلا إذا كانت الصلوات وتراً؛ أي مفردة؛ لأنها لو كان زوجية لما عرفنا الوسطى فيها،
ومادام المقصود هو وسط الخمس، فهي الصلاة الثالثة التي يسبقها صلاتان ويعقبها
صلاتان، هذا إن لاحظت العدد، باعتبار ترتيب الأول والثاني والثالث والرابع
والخامس.
وإذا كان الاعتبار بفريضة الصلاة فإن أول صلاة فرضها الله عز وجل هي صلاة الظهر،
هذا أول فرض، وبعده العصر، فالمغرب، فالعشاء، فالفجر. فإن أخذت الوسطى بالتشريع
فهي صلاة المغرب وهذا رأي يقول به كثير من العلماء.
وإن أخذت الوسطى بحسب عدد ركعات الصلاة فستجد أن هناك صلاة قوامها ركعتان هي صلاة
الفجر وصلاة من أربع ركعات وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، وصلاة من ثلاثة ركعات
هي صلاة المغرب. والوسط فيها هي الصلاة الثلاثية، وهي وسط بين الزوجية والرباعية
فتكون هي صلاة المغرب أيضا. وإن أخذتها بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار والظهر
بعده ثم العصر والمغرب والعشاء، فالوسطى هي العصر.
وإن أخذتها على أنها الوسط بين الجهرية والسرية فيحتمل أن تكون هي صلاة الصبح أو
صلاة المغرب؛ لأن الصلوات السرية هي الظهر والعصر، والجهرية هي المغرب والعشاء
والفجر. وبين العشاء والظهر تأتي صلاة الصبح، أو صلاة المغرب باعتبار أنها تأتي
بين الظهر والعصر من ناحية، والعشاء والصبح من ناحية أخرى.
وإن أخذتها لأن الملائكة تجتمع فيها فهي في طرفي النهار والليل فذلك يعني صلاة
العصر أو صلاة الصبح. إذن، فالوسط يأتي من الاعتبار الذي تُحسب به إن كان عدداً أو
تشريعا، أو عدد ركعات، أو سرية أو جهرية أو بحسب نزول ملائكة النهار والليل، وكل
اعتبار من هؤلاء له حكم.
ولماذا أخفى الله ذكرها عنا؟ نقول: أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن هناك فرقا بين
الشيء لذاته، والشيء الذي يُبهم في سواه؛ ليكون كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إلى
المحافظة على جميع الصلوات.
فما دامت الصلاة الوسطى تصلح لأن تكون الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فذلك
أدعى للمحافظة على الصلوات جميعا. فإبهام الشيء إنما جاء لإشاعة بيانه. ولذلك أبهم
الله ليلة القدر للعلة نفسها وللسبب نفسه، فبدل أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت ليال
أقدار.
كذلك قوله تعالى: } حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا { أي
على الصلوات الخمس بصفة عامة وكل صلاة تنفرد بصفة خاصة. ويريد الحق سبحانه أن نقوم
لكل صلاة ونحن قانتون، والأمر الواضح هو } وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ { وأصل القنوات
في اللغة هو المداومة على الشيء، وقد حضر وحث القرآن الكريم على ديمومة طاعة الله
ولزوم الخشوع والخضوع، ونرى ذلك في قول الحق الكريم:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ
الَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }[الزمر: 9]
إن الحق سبحانه يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغنا نحن المسلمين المؤمنين
برسالته أن نقارن بين الذي يخشع لله في أثناء الليل فيقضيه قائماً وساجداً يرجو
رحمة ربه، وبين الذي يدعو ربه في الضراء وينساه في السراء، هل يستوي الذين يعلمون
حقوق الله فيطيعوه ويوحدوه والذين لا يعلمون فيتركوا النظر والتبصر في أدلة قدرات
الله؟ إن السبيل إلى ذكر الله هو تجديد الصلة به والوقوف بين يديه مقيمين للصلاة.
ونحن نتلقى الأمر بإقامة الصلاة حتى في أثناء القتال، لذلك شرع لنا صلاة الخوف،
فالقتال هو المسألة التي تخرج الإنسان عن طريق أمنه، فيقول سبحانه: } فَإنْ
خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً { ، إننا حتى في أثناء القتال والخوف لا ننسى
ذكر الله؛ لأننا أحوج ما نكون إلى الله أثناء مواجهتنا للعدو، ولذلك لا يصح أن
نجعل السبب الذي يوجب أن نكون مع الله مبررا لأن ننسى الله.
وكذلك المريض، مادام مريضاً فهو مع معية الله، فلا يصح أن ينقطع عن الصلاة؛ لأنه
لا عذر لتاركها، حتى المريض إن لم يستطع أن يصلي واقفا صلى قاعداً، فإن لم يستطع
قاعدا؛ فليصل مضطجعا، ويستمر معه الأمر حتى لو اضطر للصلاة برموش عينيه. كذلك إن
خفتم من عدوكم صلوا رجالا، يعني سائرين على أرجلكم أو ركبانا و " رجالا
" جمع " راجل " أي يمشي على قدميه، ومثال ذلك قوله الحق:{ وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىا كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن
كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ }[الحج: 27] لقد كان الناس يؤدون فريضة الحج سيراً على
الأقدام أو ركباناً على إبل يضمرها السفر من كل مكان بعيد. إذن فالراجل هو من يمشي
على قدميه.
والأرجل مخلوقة لتحمل بني الإنسان: الواقف منهم، وتقوم بتحريك المتحرك منهم، فإن
كان الإنسان واقفا حملته رجلاه، وإن كان ماشيا فإن رجليه تتحركان. والمقصود هنا أن
الصلاة واجبة على المؤمنين سائرين على أقدامهم أو ركبانا.
هذه المسألة قد فصلها الحق سبحانه وتعالى في صلاة الخوف بأن قسم المسلمين قسمين:
قسما يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى، ثم يتمون الصلاة وحدهم
ويأتي القسم الآخر ليأتم بالرسول في الركعة التي بعدها حتى تنتهي الصلاة بالنسبة
للرسول صلى الله عليه وسلم، وينتظرهم حتى يفرغوا من صلاتهم ويسلم بهم، فيكون
الفريق الأول أخذ فضل البدء مع الرسول، والفريق الآخر أخذ فضل الانتهاء من الصلاة
مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك في غزوة ذات الرقاع فكلٌ من الفرقتين كانت
تقف في وجه العدو للحراسة في أثناء صلاة الفرقة الأخرى.
ولي رأي في هذه المسألة هو أن صلاة الخوف بالصور التي ذكرها الفقهاء إنما كانت
للمعارك التي يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصح أن يكون هناك
جيش يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحرم الباقي من أن يصلي خلفه، لذلك جعل
الله بركة الصلاة مع رسول الله للقسمين.
لكن حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فمن الممكن أن يكون
للواقفين أمام العدو إمام وللآخرين إمام، إذن كان تقسيم الصلاة وراء الإمام في
صلاة الخوف إنما كان لأن الإمام هو الإمام الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلم يشأ الله أن يحجب قوما عن الصلاة مع رسول الله عن قوم آخرين، فقسم الصلاة
الواحدة بينهم. لكن في وقتنا الحالي الذي انتظمت فيه المسائل، وصار كل الناس على
سواء، ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، لذلك يصح أن تُصلي كل جماعة
بإمام خاص بهم. وقوله الحق: } فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً { نفهم
منه الصلاة لا تسقط حتى عند لقاء العدو، فإذا حان وقت الصلاة فعلى المؤمن أن
يصليها إذا استطاع فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين ويتابع الحق فيقول: }
فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ { أي
اذكروا الله على أنه علمكم الأشياء التي لم تكونوا تعلمونها، فلو لم يعلمكم فماذا
كنتم تصنعون؟
وبعد ذلك يعود الحق لسياق الحديث عن المتوفى عنها زوجها فيقول: } وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً
إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ... {
(/241)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
في آية سابقة قال الحق:{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[البقرة: 234]
إذن نحن أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجا، حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر
وعشرا، وحكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي
بأن تظل الزوجة في بيته حولا كاملا لا تُهاج، وتكون الأربعة الأشهر والعشر فريضة
وبقية الحول والعام وصية، إن شاءت أخذتها وإن شاءت عدلت عنها. { وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً } هذه وصية من الزوج
عندما تحضره الوفاة. إذن فالمتوفى عنها زوجها بين حكمين: حكم لازم وهو فرض عليها
بأن تظل أربعة أشهر وعشراً، وحكم بأن يوصي الزوج بأن تظل حولا كاملا لا تُهاج إلا
أن تخرج من نفسها. و { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي لا يخرجها أحد. { فَإِنْ خَرَجْنَ
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }. إن لها الخيار أن تظل عاما حسب وصية زوجها، ولها
الخيار في أن تخرج بعد الأربعة الأشهر والعشر.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ }
(/242)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
إن لكل المطلقات في أي صورة من الصور متاعاً، ولكنه سبحانه قد بين المتاع في كل
واحدة بدليل أنه أوضح لنا: إن لم تفرضوا لهن فريضة فقال: { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ }. وإن كنتم فرضتم لها مهراً
فنصف ما فرضتم، فكأن الله قد جعل لكل حالة حكما يناسبها، ولكل مطلقة متعة بالقدر
الذي قاله سبحانه. وعندما نتأمل قول الحق من بعد ذلك: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
(/243)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
فنحن نعرف مما سبق أن الآيات هي الأمور العجيبة، والحق سبحانه وتعالى حين ينبه
العقل إلى استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا
الموضوع فلن ينتهي إلا إلى هذا الحكم. ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض
المشادات في التعامل والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع الله في أي شيء من
الأشياء التي تقدمت، ثم يصيب المجتمع شر من المخالفة، وكأنه بذلك يؤكد حكمته في
تشريع ما شرع. وإلا لو لم تحدث من المخالفات شرور لقال الناس: إنه لا داعي
للتشريع. ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر.
إذن فحين لا نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لأنه لو لم
تحدث الشرور لاتهم الناس منهج الله وقالوا: إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك، ومع ذلك
لا شرور عندنا. فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق الله وكمال
حكمته في تحديد منهجه. وهكذا يكون المخالفون لمنهج الله مؤيدين لمنهج الله. وبعد
ذلك ينتقل الحديث إلى علاج قضية إيمانية وهو أن الله حين يقدر قدرا لا يمكن لمخلوق
أن يفلت من هذا القدر، يقول سبحانه: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ... }
(/244)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالأسرة المسلمة في حالة علاج الفراق
في الزواج إما بالطلاق وإما بالوفاة، أراد الحق سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن
تعرف أن أحداً لن يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله، فالأمة الإسلامية هي الأمة
التي أمنها على حمل رسالة ومنهج السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلم يعد محمد
صلى الله عليه وسلم بأتى ولا نبي يُبعث. ولابد لمثل هذه الأمة أن تُربى تربية
تناسب مهمتها التي حملها الله إليها. ولابد أن يضع الحق سبحانه وتعالى بين يدي هذه
الأمة كل ما لاقته وصادفته مواكب الرسل في الأمة السابقة ليأخذوا العبرة من
المواقف ويتمثلوا المنهج لا من نظريات تُتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في
المجتمع.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة
ولا أحد غيره، وواهب الحياة هو الذي يأخذها. ولم يضع لهبة الحياة سبباً عند الناس.
وإنما هو سبحانه الذي يحيى ويميت. وفي الحياة والموت استبقاء للنوع الإنساني، ولكن
استبقاء حياة الأفراد إنما ينشأ من التمول.
ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلام مع قومه وهم بنو
إسرائيل، ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لأنها الأمة التي
أتعبت الرسل، وأتعبت الأنبياء، وكان لابد أن يعرض الحق هذا الأمر برمته على أمة
محمد صلى الله عليه وسلم من واقع ما حدث، فقال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ }. ونعرف من
هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا. أما عن سبب هذا الموت فلم
تتعرض له الآيات، وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلاما طويلاً، فمنهم من قال: إنهم
خرجوا هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا، وبعضهم قال: إنهم خرجوا فِراراً من
عدو قد سُلط عليهم ليستأصلهم، المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت.
إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم، ولكن ما هو السبب ولماذا
الخروج؟ فذلك أمر لا يهم؛ لأن القرآن لا يعطي تاريخا، فلم يقل متى كانت الوقائع
ولا زمنها، ولا على يد من كان هذا، ولا يحدد أشخاص القضية، كل ذلك لا يهتم به
القرآن. والذين يتعبون أنفسهم في البحث عن تفاصيل تلك الأمور في القصص القرآني
إنما يحاولون أن يربطوا الأشياء بزمن مخصوص، ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة.
ونقول لهم: إن القرآن لو أراد ذلك لفعل، ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة
لبيّنه الحق لنا، وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لأن مدلول القصة
إن تحدد زمنها، فربما قيل: إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة
والزمن الآن لم يعد يحتملها، وربما قيل: إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل
حدوثها، إنما الأمكنة الأخرى لا تحتمل.
وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل: إنّ القصص لا يمكن أن تحدث إلا على يد هذه
الشخصيات؛ لأنها فلتات في الكون لا تتكرر.
إن الله حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والأشخاص وعمومية الأمكنة إنه -
سبحانه - يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص، ولا يستطيع أحد
أن يقول: إنها مشخصة. وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل
الكهف ومكان أهل الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف. نقول لهؤلاء: أنتم لا
تثرون القصة، لأنكم عندما تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال: إنها لا تنفع
إلا للزمان الذي وقعت فيه.
ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم، وإن أراد أن يحدد فهو يشخِّص ومثال
ذلك قوله تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ
وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ
ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ }[التحريم: 10]
لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر فقط الأمر المهم وهو أن
كلا منهما كانت زوجة لرسول كريم، ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلام أن يستلب
العقيدة الكافرة من زوجته، ولم يستطع لوط عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من
زوجته، بل كانت كل من المرأتين تتآمر ضد زوجها - وهو الرسول - مع قومها، لذلك كان
مصير كل منهما النار، والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للإنسان،
فحرية العقيدة أساس واضح من أسس المنهج.
وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعون:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ
امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي
الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ }[التحريم: 11]
لم يذكر اسمها؛ لأنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى الألوهية، ومع
ذلك لم يستطع أن يقنع امرأته بأنه إله. لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها
السلام:{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ
الْقَانِتِينَ }[التحريم: 12]
لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها، ذلك لأن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة
أخرى. فالذين يحاولون أن يُقَوّوا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم: أنتم تُفقرون
القصة؛ فالمهم هو أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول: إنهم خرجوا من ديارهم وهم
ألوف حذر الموت.
ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق: } أَلَمْ تَرَ {. أنت تقول لإنسان: }
أَلَمْ تَرَ { يعني ألم ير بعينيه، وبالله هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل
المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم الساعة رأوا هذه المسألة؟ لا. لقد وصلتهم
بوسيلة السماع وليس بالرؤية. ونحن نعلم أن الرؤية تكون بالعين، والسماع يكون
بالأذن، والتذوق يكون باللسان، والشم يكون بالأنف، واللمس يكون باليد، إن هذه هي
الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات، وفي ذلك اقرأ قوله
تعالى:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ }[النحل: 78]
إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس، وسيدة الحواس هي العين؛ لأنه من الممكن أن تسمع
شيئا من واحدٍ بتجربته هو، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك، ولذلك
يقال: " ليس مَن رأى كمن سمع " ، فإذا أراد الحق أن يقول: ألم تعلم يا
من أخاطبك بالقرآن خبر هؤلاء القوم؟ فهو سبحانه يأتي بها على هذه الصورة: } أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ { ويعني ألم تعلم والعلم هنا بأي
وسيلة؟ بالسمع. ولماذا لم يختصر سبحانه المسافة ويقول: " ألم تسمع "
بدلا من } أَلَمْ تَرَ {؟. إنه في قوله: } أَلَمْ تَرَ { يخبرك بشيء سابق عن وجودك
أو بشيء متأخر عن وجودك، فعليك أن تستقبله استقبالك لما رأيته؛ لأن الله الذي خلق
الحواس هو ـ سبحانه ـ أصدق من الحواس، ولذلك جاء قوله تعالى في سورة الفيل:{
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1]
إننا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل ولم ير هذه الحادثة فكيف
يقول الله له ألم تر؟ إن المعنى من ذلك هو " ألم تعلم "؟ " ألم
تسمع مني " ولم يقل " ألم تسمع "؟ لكي يؤكد له أنه سيقول له حدثاً
هو لم يره ولكن الحق سيخبره به، وإخبار الحق له كأنه يراه. فكأن الله يقول: إن هذه
مسألة مفروغ منها وساعة أخبرك بها فكأنك رأيتها.
ونحن نسمع في حياتنا قول الناس: إن فلانا ألمعي. ومعنى ذلك أنه يحدثك حديثاً كأنه
رأى أو سمع.الألـمـعي الـذي يـظـن بـك الظـن كـأن قـد رأى وقـد سـمـعـاويحدثنا
الحق عن هؤلاء القوم فيقول: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ
ثُمَّ أَحْيَاهُمْ {. إنه سبحانه يخبرنا بأن الأمر الذي يفرون منه لاحق بهم، لأنه
لا يَحتاط من قدر الله أحد، لذلك أماتهم الله ثم أحياهم ليتعظوا. ولو أخر الله
الإحياء إلى يوم البعث فلن تؤثر العبرة؛ لأنه بعد يوم القيامة لا اعتبار ولا
تكليف، وكل ذلك لا قيمة له.
وقوله تعالى: } حَذَرَ الْمَوْتِ { بيان لعلة الخروج، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن
يبين لهم أن هذه قضية لا ينفع فيها الحذر، أنتم خرجتم خوفا من الموت سأميتكم والذي
كنتم تطلبونه بعد الموت سأحدث لكم غيره، لذلك أحياهم إحياءً آخر حتى يتحسروا،
ويأخذوا أجلهم المكتوب } ثُمَّ أَحْيَاهُمْ { حتى يبين لكم أن أمر الموت بيده
سبحانه سواءً كان خوفهم من الموت نابعاً من أعدائهم أو من وباء وطاعون، فالأمر في
جوهره لا يختلف، ولو أن الآية ذكرت أنهم خرجوا خوفا من وباء ما كنا فهمنا منها
احتمال خروجهم خوفاً من أعدائهم. إذن إبهام السبب المباشر في القضية أعطاها ثراءً.
وقوله تعالى: } وَهُمْ أُلُوفٌ { يبين لنا مدى الخيبة والغباء الذي كانوا فيه،
لأنهم كيف يخرجون خائفين من الأعداء وهم ألوف مؤلفة. ولم يظهر واحد من هؤلاء
الألوف ليقول لهم: إن الموت والحياة بيد الله. } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ
اللَّهُ مُوتُواْ {.
وساعة تأمر مأمور منك بأمر فلا بد أن يكون عندك طلاقة قدرة أن تفعل، وهل إذا قلت
لأحد: مت، سيموت؟ إذا أمات نفسه فقد قتلها، وفرق كبير بين الموت والقتل. إنما
الموت يأتي بلا سبب من الميت، ولكن القتل ربما يكون بسبب الانتحار أو بأي وسيلة
أخرى، المهم أنه قتل للنفس وليس موتا.
ويوضح لنا الحق الفرق بين القتل والموت حين يقول:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلَىا أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىا عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ
شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }[آل عمران: 144]
ولقد جاءت هذه الآية في مجال استخلاص العبر من هزيمة أحد حين شاع بين المسلمين أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ففكر بعض منهم في الارتداد، وجاء قول الحق
موضحاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج، والأمة
المسلمة التي أمنها الله على تمام المنهج لا يصح أن يهتز الإيمان فيها بموت الرسول
الكريم؛ لأن من ينقلب ويرتد فلن يضر الله شيئاً، إنما الجزاء سيكون للشاكرين
العارفين فضل منهج الله.
ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل، وأوضح في الآية التالية أمر
الموت حين قال:{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً
مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ
ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }[آل عمران: 145]
إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة الله وطلاقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم لا
يتقدم ولا يتأخر، وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله، فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها،
ومن عمل للآخرة فسيجزيه الله في دنياه وآخرته.
لذلك يصدر الأمر من الحق بقوله: } فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ
أَحْيَاهُمْ { فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا موتهم، أو أمر عودتهم إلى الحياة، لكنه
أمر تسخيري. إنهم يموتون بطلاقة قدرته المتمثلة في " كن فيكون ".
ويعودون إلى الحياة بتمام طلاقة القدرة المتمثلة في " كن فيكون ". فليس
لهم رأي في مسألة الموت أو العودة للحياة، إنه أمر تسخيري، كما قال الحق من قبل
للأرض والسماء:{ ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }[فصلت: 11]
لقد شاءت قدرته أن يخلق السماء على هيئة دخان فوُجدت، وخلقه للسماوات والأرض على
وفق إرادته وهو هين عليه بمنزلة ما يقال للشيء احضر راضيا أو كارها، فيسمع الأمر
ويطيعه. وهذه أمور تسخيرية من الخالق الأكرم، وليس للمخلوق من سماوات وأرض وما
بينهما إلا الامتثال للأمر التسخيري من الخالق عز وجل. فعندما يقول الحق سبحانه: }
مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ { فهذا أمر تسخيري بالموت، وأمر تسخيري بعودتهم إلى
الحياة.
وأليس الموت هو ما خافوه وفروا منه واحتاطوا بالهرب منه؟ نعم، لكن لا أحد بقادر
على أن يحتاط على قدر الله؛ لأن الحق أراد لهم أن يعرفوا أن أحداً لا يفر من قدر
الله إلا لقدر الله. ولذلك فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد للناس
ألا تذهب إلى أرض فيها الطاعون. قالوا له:
ـ أتفر من قدر الله؟
قال عمر: نعم: نِفرُّ من قدر الله إلى قدر الله.
إن ذلك يجعل الإنسان في تسليم مطلق بكل جوارحه لله. صحيح على الإنسان أن يحتاط،
ولكن القدر الذي يريده الله سوف ينفذ. والمؤمن يأخذ بالأسباب، ويسلم أمره إلى
الله.
وقد يقول قائل: لماذا لم يترك الله هؤلاء القوم من بني إسرائيل ليموتوا وإلى أن
يأتي البعث يوم القيامة ليحاسبهم.
وأقول: لقد أراد الحق سبحانه بالأمر التسخيري بالإحياء ثانية أن توجد العبرة
والعظة، ولتظل ماثلة أمام أعين الخلق ومحفوظة في أكرم كتاب حفظه الله منهجا للناس
وهو القرآن الكريم. إن الحق أراد بالأمر عظة واعتبارا وتجربة يموتون بأمر تسخيري،
ويعودون إلى الحياة بأمر تسخيري آخر، ثم يعيشون الحياة المقدرة لهم ويموتون بعدها
حتف أنوفهم، ولتظل عبرة ماثلة أمام كل مؤمن حق، فلا يخاف الموت في سبيل الله.
لقد أراد الله بهذه التجربة أن نستخدم قضية الجهاد في سبيل الله، فلا يظن ظان أن
القتال هو الذي يسبب الموت، إنما أمر الموت والحياة بيد واهب الحياة. وهاهو ذا قول
خالد بن الوليد على فراش الموت باقياً ليعرفه كل مؤمن بالله:
ـ لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي شبرا إلا وفيه ضربة سيف أو طعنه برمح،
وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء.
إذن فأمر الحياة والموت ليس مرهونا بقتال أو غيره، إنما هو محدد بمشيئة الله.
ولننظر إلى تذييل الآية حين يقول الحق: } إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ {. وما الفضل؟ إنه أن
تتلقى عطاءً يزيد على حاجتك. والحق سبحانه وتعالى لا يعطي الناس فقط على قدر
حاجتهم إنما يعطيهم ما هو أكثر من حاجتهم. إذن فلو مات هؤلاء القوم الذين خرجوا من
ديارهم خوفاً من وباء أو عدو لكان هذا الموت فضلا من عند الله؛ لأنهم لو ماتوا
بالوباء لماتوا شهداء، وهذا فضل من الله. ولو ماتوا في لقاء عدو وحاربوا في سبيل
الله لنالوا الشهادة أيضا، وذلك فضل من الله.
لماذا يكون مثل هذا الموت فضلا من الله؟ لأننا جميعا سوف نموت، فإن مات الإنسان
استشهادا في سبيله فهذا عطاء زائد. لكن أكثر الناس لا يشكرون؛ لأنهم لا يعلمون مدى
النعمة فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى عليهم من أمور؛ لأن الناس لو علمت مدى
النعمة فيما يجريه الحق عليهم من أحداث بما فيها الإحياء والإماتة، لشكروا الله
على كل ما يجريه عليهم، فالحق سبحانه وتعالى لا يجري على البشر، وهم من صنعته إلا
ما يصلح هذه الصنعة، وإلا ما هو خير لهذه الصنعة.
لقد استبقى الحق سبحانه هذه العبرة بما أجراه على بعض من بني إسرائيل لنرى أن
القتال في سبيل الله هو من نعم الله على العباد، فلا مهرب من قضاء الله. وهاهو ذا
الشاعر العربي يقول:ألا أيها الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل أنت مخلديفإن
كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يديإن الشاعر يسأل من يوجه له
الدعوة لا إلى القتال، ولكن إلى الاستمتاع بملذات الحياة قائلاً: ما دمت لا تملك
لي خلوداً في هذه الحياة ولا أنت بقادر على رد الموت عني فدعني أقاتل في سبيل الله
بما تملكه يداي.
وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر الله فأجرى عليهم الموت
تسخيراً وأعادهم إلى الحياة تسخيرا، وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي إليهم
الأمر بالقتال في سبيل الله. فلا تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم
الموت؛ لأن الموت يأتي في أي وقت. بعد ذلك يقول الحق: } وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ... {
(/245)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
إنه الأمر الواضح بالقتال في سبيل الله دون مخافة للموت. لماذا؟ لأن واهب الحياة
وكاتب الأجل سميع عليم، سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه.
وكان الجهاد قديما عبئاً ثقيلاً على المجاهد؛ لأنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل
المركبة ـ حصاناً أو جملاً ـ ويتحمل سلاحه، كان كل مجاهد يُعِدّ عدته للحرب، فكان
ولابد إذا سمح لنفسه أن تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله، وأن يجهز عدته للحرب،
وعلى ذلك كان القتال بالنفس والمال أمراً ضروريا.
وقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى
الأموال فقال: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ
لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً... }
(/246)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
ساعة تسمع { يُقْرِضُ اللَّهَ } فذلك أمر عظيم؛ لأنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض
الله، ولكن المسألة لا تكون واضحة، لماذا؟ لأن ذلك الإنسان سيستفيد استفادة
مباشرة، لكن عندما تنفق في سبيل الله فليس هناك إنسان بعينه تعطيه، وإنما أنت تعطي
المعنى العام في قضية التدين، وتعاملك فيها يكون مع الله. كأنك تقرض الله حين تنفق
من مالك لتعد نفسك للحرب.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة
على النفس البشرية، وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس. والقرض في اللغة معناه
قضم الشيء بالناب، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية الإقراض هي مسألة صعبة، وحتى
يبين للناس أنه يعلم صعوبتها جاء بقوله: { يُقْرِضُ } ، إنه المقدر لصعوبتها،
ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة.
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }. وما هو القرض الحسن؟ وهل
إذا أقرضت عبداً من عباد الله لا يكون القرض حسنا؟
أولا إذا أقرضت عبداً من عباد الله فكأنك أقرضت الله، صحيح أنت تعطي الإنسان ما
ييسر له الفرج في موقف متأزم، وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد لا تعطي إنساناً
بعينه وإنما تعطي الله مباشرة، وهو سبحانه يبلغنا: أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني.
كيف؟ لأن الله هو الذي استدعى كل عبد له للوجود، فإذا احتاج العبد فإن حاجته
مطلوبة لرزقه في الدنيا، فإذا أعطى العبد لأخيه المحتاج فكأنه يقرض الله المتكفل
برزق ذلك المحتاج.
وقوله تعالى: { يُقْرِضُ اللَّهَ } تدلنا على أن القرض لا يضيع؛ لأن القرض شيء
تخرجه من مالك على أمل أن تستعيده، وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي
سيقترض منك، وأنه سيرد ما اقترضه، لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة
أضعافا مضاعفة، إن الأصل محفوظ ومستثمر، ولذلك يقول: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } إنها أضعاف
كثيرة بمقاييس الله عز وجل لا بمقاييسنا كبشر.
والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لابد أن يكون من
حلال، ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا: " ليتها لم تزن ولم تتصدق
".
وقيل: إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة، مع أن الصدقة يجود فيها الإنسان بالشيء كله،
في حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه، لأن الألم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة
فأنت تخرجها وتفقد الأمل فيها، لكن القرض تتعلق نفسك به، فكلما صبرت مرة أتتك
حسنة، كما أن المتصدق عليه قد يكون غير محتاج، ولكن المقترض لا يكون إلا محتاجاً.
والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص، لذلك فالله يعطيك أضعافا مضاعفة
نتيجة هذا القرض، وذلك مناسب تماماً لقوله تعالى: { يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } التي
جاء بها في قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال الذي تقرض منه ينقص في
ظاهر الأمر ولكن الله ـ سبحانه ـ يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة وفي الآخرة يكون
الجزاء جزيلا.
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: } أَلَمْ تَرَ { تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: }
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... {
(/247)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... }
(/248)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: { أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... }
(/249)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... }
(/250)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... }
(/251)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... }
(/252)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا
للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى... }
(/253)
تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
ونعرف أن { تِلْكَ } إشارة يخاطب الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى
الآيات التي سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته، فقد قال الحق من قبل:{ أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }[البقرة: 243]
وساعة طلبوا أن يقاتلوا، وأن يبعث لهم ملكاً، وبعثه لهم، وبعث لهم التابوت فيه
سكينة، أليست هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملاق
الضخم على يد داود الصبي الصغير. أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة ـ
بإقرارهم ـ حيث قالوا: { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ } هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة، أليست هذه آية؟
وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الآيات التي سبقت رسالته؟ لا، ولكنها من
إخبار الله له مع إقرار الجميع، وخاصة الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه
لا قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم، ولا أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها
للتجارة كان يصحبه فيها أناس غيره، ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا،
لأذاعوا أن محمداً قد جلس مع فلان، وتعلم منه كذا وكذا. ولكن هذا لم يقله أحد؛
لأنه لم يحدث أصلا، ولذلك كان إخباره صلى الله عليه وسلم بما يعلمونه هم عندهم هو
بعضاً من أسرار معجزته، إنه قد عرف الأخبار السابقة رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم
يتلق علماً من أحد. وقد تماحك بعض المشركين وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الأخبار، فنزل القول الحق يدحض هذا
الافتراء:{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُّبِينٌ }[النحل: 103]
لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة، وزعم كاذب من ناحيتهم. لأن الذي ادّعوا أنه علم
الرسول كان أعجميا. ويقول الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم: { تِلْكَ آيَاتُ
اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ }. إن كلمة { آيَاتُ اللَّهِ } تعني
الأشياء العجيبة، و { نَتْلُوهَا } أي نجعل كلمة بعد كلمة، وهي من " ولي
" أي جاء بعده بلا فاصل. { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } والحق هو الشيء
الذي وقع موقعه حيث لا يتغير عنه، فلا يتضارب أبداً.
فهب أن حادثة وقعت أمامك، ثم سُئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن
يختلف عليها أبداً؛ لأنك تحكي واقعاً رأيته، لكن لو كانت الحكاية كذباً؛ فستجد أن
روايتك لها في المرة الثانية تتغير؛ لأنك لا تذكر ماذا قلت في المرة الأولى؛ لأنك
لا تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به، وكذلك الحق لا يتغير، ولا يتضارب، ولا يتعارض.
} تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ { ومادام الحق سبحانه هو
الذي يقولها، فسيقولها لك حقيقة، وعندئذ يعرف الآخرون أنك عرفت ما عندهم مما
يخفونه في كتبهم يقوله بعضهم لبعض، هنا يعرفون أنك من المرسلين، ولذلك نحن نجد في
" ماكانات القرآن " التي يقول فيها تعالى: " ما كُنت " ،
" ما كُنت " ، و " ما كنت " ومثل قوله الحق:{ وَمَا كُنتَ
بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ }[القصص: 44]
أي ما كنت يا محمد حاضراً مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه
بأمر الرسالة، ولم تكن معاصراً لموسى ولا شاهداً تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك
وأنت تتلو عليهم أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق:{ ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ
نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44]
إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الأخبار الجليلة عمن اصطفاهم الله هي من الغيب
الذي أوحى الله به إليك. وما كنت حاضراً معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة
من يقوم بشئون مريم، وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل. ومثال ذلك
قوله الحق سبحانه:{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـاكِن
رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }[القصص: 46]
أي ما كنت أيها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات
وكلمه ربه وناجاه، ولكن الله أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك، ولتبلغه
لقوم لم يأتهم رسول من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون. ومثال ذلك قوله الحق:{
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن
نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
}[الشورى: 52]
إن القرآن هو وحي منزل من عند الله، يُعرِّف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف
الحق، ويهدي من اختار الهدى، وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم. إن
كل } مَا كُنتَ { في القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولاً من
عند الله إليك، وحاملا للوحي من الله هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة
وعلى نهج مخصوص، رغم أنك لم تقرأ كتاباً ولم تجلس إلى معلم. وما تخبرهم به من آيات
هي موافقة لما معهم، وكان من الواجب أن يقولوا إن الذي علمك هذا هو الله سبحانه
وتعالى، وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
} تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىا بَعْضٍ... {
(/254)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله: { تِلْكَ الرُّسُلُ } و { الرُّسُلُ
} هي جمع لمفرد هو " رسول ". والرسول هو المكلف بالرسالة. والرسالة هي
الجملة من الكلام التي تحمل معنى إلى هدف. ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق
" هؤلاء الرسل " وقال { تِلْكَ الرُّسُلُ }؟ ذلك ليدلك القرآن الكريم
على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد. وكما عرفنا من
قبل أن الإشارة بـ " تلك " هي إشارة لأمر بعيد. فعندما نشير إلى شيء
قريب فإننا نقول: " ذا " ، وعندما نستخدم صيغة الإشارة مع الخطاب نقول:
" ذاك ". وعندما نشير إلى مؤنث فنقول: " ت " وعندما نشير إلى
خطاب مؤنث: " تيك ". و " اللام " كما عرفنا هنا للبعد أو
للمنزلة العالية.
إذن فقوله الحق: { تِلْكَ الرُّسُلُ } هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد
عليه الصلاة والسلام، أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني. والسياق القرآني
الذي تقدم تحدث عن موسى عليه السلام، وعن عيسى عليه السلام، وتكلم السياق عن أولي
العزم من الرسل.
إن أردت الترتيب القرآني هنا، فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة، وإن أردت
ترتيب النزول تكون الإشارة إلى من عَلِمَهُ الرسول من الرسل السابقين، والمناسبة
هنا أن الحق قد ختم الآية السابقة بقوله هناك: { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
} ، ولما كانت { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } تفيد بعضيته صلى الله عليه وسلم
لكلية عامة، كأنه يقول: إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في أنهم مرسلون أو
أنهم رسل الله، أنهم أيضا متساوون في المنزلة، لا، بل كل واحد منهم له منزلته
العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل. إنهم جميعاW رسل من عند الله،
ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل.
فلماذا كان قول الله: { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } يؤكد لنا أن سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل فلا تأخذ هذا الأمر على أساس أن كل الرسل
متساوون في المكانة، وتقول إنهم متماثلون في الفضل. لا. إن الله قد فضل بعضهم على
بعض.
وما هو التفضيل؟
إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة، وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول
لك إنسان ما " هذه محاباة " ، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقة،
ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، أما المحاباة فهي إيثار
الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة، فمثلاً إذا أردنا أن نختار أحداً من الناس لمنصب
كبير، فنحن نختار عدداً من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول:
" هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح " و " هذا فيه ميزات عن ذاك
" وهكذا، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل،
ولكن إن اخترنا واحداً لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة.
إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي
مزية، ولكن لهوى في نفسك. فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك
الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري،
وجلس مكان السائق وأخذ يسوق. ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا
وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباة
منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباة لكانت لابنك، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة
تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير. إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار
وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم.
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة،
فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي
فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما.
وحينما قال الحق: } وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ { جاء بعدها بالقول الكريم: }
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىا بَعْضٍ { وأعطانا نماذج التفضيل
فقال: } منهم من كلم الله {. وساعة تسمع } منهم من كلم الله { يأتي في الذهن
مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ {. ثم قال: } وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ { إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام
بالوصف الغالب فقال: } كَلَّمَ اللَّهُ { وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه
قد وهبه الآيات البينات. وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق }
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ { والخطاب في الآيات لمحمد عليه الصلاة والسلام.
إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضية، ولكن ساعة
أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه
لا ينطبق قوله: " ورفعنا بعضهم درجات " بحق إلا على محمد صلى الله عليه
وسلم وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، مع
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت في الوسط، وإنما جاء آخر الأنبياء، ولكنك تجد
أن منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسط. فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا
روحانية، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية
بين المادية والروحية، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن محمداً صلى الله عليه
وسلم قطب الميزان في قضية الوجود.
وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل
سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولَكِنْ هناك رسول
واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن، ولكل من يوجد من الإنس والجن إلى أن تقوم
الساعة إنّه هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرنا
إلى المعجزات التي أنزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل
المعجزات قد جاءت معجزاته كونية، أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها، فالذي
رأى عصا موسى وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى
عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل
لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود.
لكن محمد صلى الله عليه وسلم حينما يشاء الله أن يأتيه بالمعجزة لا يأتي له بمعجزة
من جنس المحسات التي تحدث مرة وتنتهي، إنه سبحانه قد بعث محمداً صلى الله عليه
وسلم إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولابد أن تكون معجزته صلى الله عليه
وسلم غير محسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك
كانت معجزته القرآن. ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله وتلك معجزته.
إن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي واقع محسوس. وفي مناط التطبيق للمنهج نجد
أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا ينقلون الأحكام عن الله، وليس لهم أن
يشرعوا، أما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له:{
وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر:
7]
فهو صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بالتشريع أيضا، أليست هذه مزية؟ إن المراد
من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلافة في الأرض،
وتلك القوانين نوعان: نوع جاء من الله، وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء، ولكنْ
هناك نوع ثانٍ من القوانين فوض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع من
التشريع ليلائم ما يرى، وهذا تفضيل للرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن حين يقول الله تعالى: } وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ { فهذا لا ينطبق إلا
على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا أكثر من التصريح بالاسم. وأضرب هنا المثل
ـ ولله المثل الأعلى ـ أنت أعطيت لولدك قلماً عادياً، ولولدك الثاني قلماً مرتفع
القيمة، ولولدك الثالث ساعة، أما الولد الرابع فاشتريت له هدية غالية جداً، ثم
تأتي للأولاد وتقول لهم: أنا اشتريت لفلان قلماً جافاً، ولفلان قلم حبر، واشتريت
لفلان ساعة، وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة.
فـ " بعضهم " هذا قد عُرف بأنه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه، فيكون
قد تعين وتحدد.
} تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىا بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ
اللَّهُ { وحين تقول كلم الله إياك أن تغفل عن قضية كلية تحكم كل وصف لله يوجد في
البشر، فأنا أتكلم والله يتكلم، لكن أكلامه سبحانه مثل كلامي؟ إن كنت تعتقد أن
وجودي مثل وجوده فاجعل كلامي ككلامه، وإن كان وجودي ليس كوجوده فكيف يكون كلامي
ككلامه؟
ربما يقول أحد: إن الكلام صوت وأحبال صوتية وغير ذلك، نقول له: لا، أنت لا تأخذ ما
يخص الله سبحانه إلا في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { ونحن نأخذ كل وصف يرد
عن الله بواسطة الله، ولا نضع وصفاً من عندنا، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف للبشر.
فلله حياة ولك حياة. لكن أحياة أي منا كحياته سبحانه؟ لا، إن حياته ذاتية، وحياة
كل منا موهوبة مسلوبة، فليست مثل حياته.
وعندما يقول الحق:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا ف