السبت، 13 مايو 2023

ج1وج2وج3.كتاب الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري



ج1وج2وج3.كتاب الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها ، كما بدىء بذكرها في كل أمر ذي بال ، وهو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ومن تابعه ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة . وقرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ، وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله ، ولذلك يجهرون بها . وقالوا : قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن ، ولذلك لم يثبتوا { آَمِينٌ } فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها . وعن ابن عباس : «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى» .

فإن قلت : بم تعلقت الباء؟ قلت : بمحذوف تقديره : بسم الله اقرأ أو أتلو؛ لأنّ الذي يتلو التسمية مقروء ، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال : بسم الله والبركات ، كان المعنى : بسم الله أحل وبسم الله أرتحل؛ وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله؛ ب «بسم الله» كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له . ونظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ وجلّ : { في تسع آّيات إلى فرعون وقومه } [ النمل : 12 ] ، أي اذهب في تسع آيات . وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس : بالرفاء والبنين ، وقول الأعرابي : باليمن والبركة ، بمعنى أعرست ، أو نكحت . ومنه قوله :

فقُلْتُ إلى الطَّعام فقَالَ مِنْهُم ... فَرِيقٌ نحْسُدُ الإِنْسَ الطَّعَامَا

فإن قلت : لم قدّرت المحذوف متأخراً؟ قلت : لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به؛ لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون : باسم اللات ، باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء ، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص . والدليل عليه قوله : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] . فإن قلت : فقد قال : { اقرأ باسم رَبّكَ } [ العلق : 1 ] ، فقدّم الفعل . قلت : هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم . فإن قلت : ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم ، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتداً به في الشرع ، واقعاً على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام :

( 1 ) " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر " إلا كان فعلا كلا فعل ، جعل فعله مفعولاً باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم . والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات في قوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] على معنى : متبرّكاً بسم الله أقرأ ، وكذلك قول الداعي للمعرس : بالرفاء والبنين ، معناه أعرست ملتبساً بالرفاء والبنين ، وهذا الوجه أعرب وأحسن؛ فإن قلت : فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركاً باسم الله أقرأ؟ قلت : هذا مقول على ألسنة العباد ، كما يقولُ الرجل الشعر على لسان غيره ، وكذلك : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } إلى آخره ، وكثير من القرآن على هذا المنهاج ، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه ، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه .

فإن قلت : من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون ، نحو كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفائه وغير ذلك ، فما بال لام الإضافة وبائها بنيتا على الكسر؟ قلت : أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء ، وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية والجر ، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون ، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة ، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة ، ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة ، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء . ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن ، فقال : سم وسم . قال :

بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ ... وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز : كيد ودم ، وأصله : سمو ، بدليل تصريفه : كأسماء ، وسمي ، وسميت ، واشتقاقه من السمو ، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره ، ومنه قيل للقب النبز : من النبز بمعنى النبر ، وهو رفع الصوت . والنبز قشر النخلة الأعلى . فإن قلت : فلم حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله : باسم ربك؟ قلت : قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال ، وقالوا : طُوِّلَتِ الباء تعويضاً من طرح الألف . وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه : طوّل الباء وأظهر السنات ودوّر الميم . و ( الله ) أصله الإله . قال :

مَعَاذَ الإِلهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ ... ونظيره : الناس ، أصله الأناس . قال :

إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْ ... نَ عَلَى الأنَاسِ الآمِنِينَا

فحذفت الهمزة وعوّض منها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء : يا ألله بالقطع ، كما يقال : يا إله ، والإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام القحط ، والبيت على الكعبة ، والكتاب على كتاب سيبويه . وأما ( الله ) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق ، لم يطلق على غيره . ومن هذا الاسم اشتق : تأله ، وأله ، واستأله . كما قيل : استنوق ، واستحجر ، في الاشتقاق من الناقة والحجر . فإن قلت : أاسم هو أم صفة؟ قلت : بل اسم غير صفة ، ألا تراك تصفه ولا تصف به ، لا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل .

وتقول : إله واحد صمد ، كما تقول : رجل كريم خير . وأيضاً فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه ، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها وهذا محال . فإن قلت : هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت : معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد ، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم : أله ، إذا تحير ، ومن أخواته : دله ، وعله ، ينتظمهما معنى التحير والدهشة ، وذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ، ولذلك كثر الضلال ، وفشا الباطل ، وقل النظر الصحيح . فإن قلت : هل تفخم لأمه؟ قلت : نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها سنة ، وعلى ذلك العرب كلهم ، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر . و ( الرحمن ) فعلان من رحم ، كغضبان وسكران ، من غضب وسكر ، وكذلك ( الرحيم ) فعيل منه ، كمريض وسقيم ، من مرض وسقم ، وفي ( الرحمن ) من المبالغة ما ليس في ( الرحيم ) ، ولذلك قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، ويقولون : إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى . وقال الزّجّاج في الغضبان : هو الممتلىء غضباً . ومما طنّ على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشقدف؟ وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق ، فقلت في طريق الطائف منهم لرجل ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي فقال : أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت : بلى ، فقال : هذا اسمه الشقنداف ، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى ، وهو من الصفات الغالبة كالدبران ، والعيوق ، والصعق لم يستعمل في غير الله عزّ وجلّ ، كما أنّ ( الله ) من الأسماء الغالبة . وأما قول بني حنيفة في مسيلمة : رحمان اليمامة ، وقول شاعرهم فيه :

وأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا ... فباب من تعنتهم في كفرهم . فإن قلت : كيف تقول : الله رحمن ، أتصرفه أم لا؟ قلت : أقيسه على أخواته من بابه ، أعني : نحو عطشان ، وغرثان ، وسكران ، فلا أصرفه . فإن قلت : قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه بالله يحظر أن يكون فعلان فعلى ، فلم تمنعه الصرف؟ قلت : كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة ، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره . فإن قلت : ما معنى وصف الله تعالى بالرحمة ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت : هو مجاز عن إنعامه على عباده؛ لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه ، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه . فإن قلت : فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه ، والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : فلان عالم نحرير ، وشجاع باسل ، وجواد فياض؟ قلت : لما قال [ الرَّحْمَنِ ] فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها ، أردفه ( الرحيم ) كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف .

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)

الحمد والمدح أخوان ، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها . تقول : حمدت الرجل على إنعامه ، وحمدته على حسبه وشجاعته . وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال :

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثلاثة ... يَدِي ولِسَانِي والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا

والحمد باللسان وحده ، فهو إحدى شعب الشكر ، ومنه قوله عليه [ الصلاة و ] السلام :

( 2 ) " الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده " وإنما جعله رأس الشكر؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها ، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال ، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كلّ خفي ويجلي كل مشتبه .

والحمد نقيضه الذمّ ، والشكر نقيضه الكفران ، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو «لله» وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار ، كقولهم : شكراً ، وكفراً ، وعجباً ، وما أشبه ذلك ، ومنها : سبحانك ، ومعاذ الله ، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها مسدّها ، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة ، والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره . ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ سلاما قَالَ سلام } [ هود : 69 ] ، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم؛ لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده وحدوثه . والمعنى : نحمد الله حمداً ، ولذلك قيل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ لأنه بيان لحمدهم له ، كأنه قيل : كيف تحمدون؟ فقيل : إياك نعبد . فإن قلت : ما معنى التعريف فيه؟ قلت : هو نحو التعريف في أرسلها العراك ، وهو تعريف الجنس ، ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو ، والعراك ما هو ، من بين أجناس الأفعال . والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم . وقرأ الحسن البصري : { الحمد ِللَّهِ } بكسر الدال لإتباعها اللام . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : { الحمد ِللَّهِ } بضم اللام لإتباعها الدال ، والذي جسرهما على ذلك والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين ، وأشف القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى ، بخلاف قراءة الحسن .

الرب : المالك . ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن . تقول : ربه يربه فهو رب ، كما تقول : نمّ عليه ينمّ فهو نمّ . ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل ، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده ، وهو في غيره على التقيد بالإضافة ، كقولهم : رب الدار ، ورب الناقة ، وقوله تعالى :

{ ارجع إلى رَبّكَ } [ يوسف : 50 ] ، { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : { رَبِّ العالمين } بالنصب على المدح وقيل بما دل عليه الحمد لله كأنه قيل : نحمد الله رب العالمين .

العالم : اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل : كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض . فإن قلت : لم جمع؟ قلت : ليشمل كل جنس مما سمي به . فإن قلت : هو اسم غير صفة ، وإنما تجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام . قلت : ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم .

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

قرىء : " ملك يوم الدين " ، ومالك وملك بتخفيف اللام . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : مَلَكَ يومَ الدين ، بلفظ الفعل ونصب اليوم ، وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه : مالكَ بالنصب . وقرأ غيره : مَلَك ، وهو نصب على المدح؛ ومنهم من قرأ : مالكٌ ، بالرفع . وملك : هو الاختيار ، لأنه قراءة أهل الحرمين ، ولقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] ، ولقوله : { مَلِكِ الناس } [ الناس : 2 ] ، ولأن الملك يعم والملك يخص . ويوم الدين : يوم الجزاء . ومنه قولهم :

( 3 ) «كما تدين تدان» . وبيت الحماسة :

ولَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا ... نِ دِنَّاهمْ كما دَانُوا

فإن قلت : ما هذه الإضافة؟ قلت : هي إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الإتساع ، مُجرى مجرى المفعول به كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، والمعنى على الظرفية . ومعناه : مالك الأمر كله في يوم الدين ، كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] . فإن قلت : فإضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقة فلا تكون معطية معنى التعريف ، فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟ قلت : إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال ، فكان في تقدير الانفصال ، كقولك : مالك الساعة ، أو غداً . فأمّا إذا قصد معنى الماضي ، كقولك : هو مالك عبده أمس ، أو زمان مستمرّ ، كقولك : زيد مالك العبيد ، كانت الإضافة حقيقية ، كقولك : مولى العبيد ، وهذا هو المعنى في { مالك يَوْمِ الدين } ، ويجوز أن يكون المعنى : ملك الأمور يوم الدين ، كقوله : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب الاعراف } [ الأعراف : 48 ] ، والدليل عليه قراءة أبي حنيفة : «مَلَكَ يومَ الدين» ، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه من كونه رباً مالكاً للعالمين لا يخرج منهم شيء من ملكوته وربوبيته ، ومن كونه منعماً بالنعم كلها الظاهرة والباطنة والجلائل والدقائق ، و من كونه مالكاً للأمر كله في العاقبة يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق في قوله : الحمد لله دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله .

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

«إيا» ضمير منفصل للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك : إياك ، وإياه ، وإياي ، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب ، كما لا محل للكاف في أرأيتك ، وليست بأسماء مضمرة ، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون ، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا يعوّل عليه ، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، كقوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] ، { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } [ الأنعام : 164 ] . والمعنى نخصك بالعبادة ، ونخصك بطلب المعونة . وقرىء : " إياك " بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء . قال طفيل الغنوي :

فهَيَّاكَ والأَمْرَ الَّذِي إنّ تَرَاحَبَتْ ... مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُه

والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل . ومنه : ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع . فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت : هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] . وقوله تعالى : { والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ } [ فاطر : 9 ] . وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات :

تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالأَثْمَدِ ... ونَامَ الخَلِيُّ ولَم تَرْقُد

ِ وبَاتَ وباتَتْ لَهُ لَيْلةٌ ... كلَيْلَةِ ذِي العائرِ الأرْمَدِ

وذلك مِنْ نَبَإ جَاءَني ... وخبِّرْتُهُ عنْ أَبي الأَسوَدِ

وذلك على عادة افتتانهم في الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختص مواقعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات ، فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، لا نعبد غيرك ولا نستعينه ، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به . فإن قلت : لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟ قلت : ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته . فإن قلت : فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ قلت : لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها . فإن قلت : لم أطلقت الاستعانة؟ قلت : ليتناول كل مستعان فيه ، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ، ويكون قوله : { اهدنا } بياناً للمطلوب من المعونة ، كأنه قيل : كيف أعينكم؟ فقالوا : اهدنا الصراط المستقيم ، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض . وقرأ ابن حبيش : " نستعين " ، بكسر النون .

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

هدى أصله أن يتعدى باللام أو بإلى ، كقوله تعالى : { إِنَّ هذا االقرآن يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] . ومعنى طلب الهداية وهم مهتدون طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف ، كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] ، { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . وعن علي وأبيّ رضي الله عنهما : اهدنا ثبتنا ، وصيغة الأمر والدعاء واحدة ، لأنّ كل واحد منهما طلب ، وإنما يتفاوتان في الرتبة . وقرأ عبد الله : أرشدنا .

«السراط» : الجادّة ، من سرط الشيء إذا ابتلعه ، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه ، كما سمي : لقماً ، لأنه يلتقمهم . والصراط من قلب السين صاداً لأجل الطاء ، كقوله : «مصيطر» ، في «مسيطر» ، وقد تشم الصاد صوت الزاي ، وقرىء بهنّ جميعاً ، وفصاحهنّ إخلاص الصاد ، وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام ، ويجمع سرطاً ، نحو كتاب وكتب ، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل ، والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام .

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم ، وهو في حكم تكرير العامل ، كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم ، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، كما قال : { الذين استضعفوا * لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ، فإن قلت : ما فائدة البدل؟ وهلا قيل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت : فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره : صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده ، كما تقول : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان؛ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك ثنيت ذكره مجملاً أوّلاً ، ومفصلاً ثانياً ، وأوقعت فلاناً تفسيراً وإيضاحاً للأكرم الأفضل فجعلته علماً في الكرم والفضل ، فكأنك قلت : من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه بفلان ، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع . والذين أنعمت عليهم : هم المؤمنون ، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ لأنّ من أُنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه . وعن ابن عباس : هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا ، وقيل هم الأنبياء . وقرأ ابن مسعود : «صراط من أنعمت عليهم» .

{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } بدل من الذين أنعمت عليهم ، على معنى أنّ المنعم عليهم : هم الذين سلموا من غضب الله والضلال ، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من غضب الله والضلال . فإن قلت : كيف صح أن يقع { غَيْرِ } صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت : { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا توقيت فيه كقوله :

وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّني ... ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم ، فليس في غير إذاً الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف ، وقرىء بالنصب على الحال؛ وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في عليهم ، والعامل أنعمت ، وقيل المغضوب عليهم : هم اليهود؛ لقوله عز وجل : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] . والضالون : هم النصارى؛ لقوله تعالى : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] ، فإن قلت ما معنى غضب الله؟ قلت : هو إرادة الانتقام من العصاة ، وإنزال العقوبة بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ، ونسأله رضاه ورحمته . فإن قلت : أي فرق بين { عَلَيْهِمْ } الأولى و { عَلَيْهِمْ } الثانية؟ قلت : الأولى محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على الفاعلية . فإن قلت : لم دخلت «لا» في { وَلاَ الضالين } ؟ قلت : لما في غير من معنى النفي ، كأنه قيل : لا المغضوب عليهم ولا الضالين . وتقول : أنا زيداً غير ضارب . مع امتناع قولك أنا زيداً مثل ضارب ، لإنه بمنزلة قولك : أنا زيداً لا ضارب . وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قرآ : وغير الضالين . وقرأ أيوب السختياني : «ولا الضألين» بالهمزة ، كما قرأ عمرو بن عبيد : «ولا جأن» وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين . ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم : شأبة ، ودأبة . آمين : صوت سمي به الفعل الذي هو استجب ، كما أنّ «رويد ، وحيهل ، وهلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل ، وأسرع ، وأقبل» . وعن ابن عباس :

( 4 ) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال : «افعل» وفيه لغتان : مدّ ألفه ، وقصرها . قال :

وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قالَ آمِينَا ... وقال :

أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَاً ... وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 5 ) " لقنني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب " وقال : " إنه كالختم على الكتاب " وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف . وعن الحسن : لا يقولها الإمام لأنه الداعي . وعن أبي حنيفة رحمه الله مثله ، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها . وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعند الشافعي يجهر بها . وعن وائل بن حجر :

( 6 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ : ولا الضالين ، قال آمين ورفع بها صوته . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبيّ بن كعب :

( 7 ) " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :

( 8 ) " إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب { الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة " .

الم (1)

«الاما» إعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء ، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، فقولك ضاد اسم سمي به «ضه» من ضرب إذا تهجيته ، وكذلك : را ، با : اسمان لقولك : ره ، به؛ وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة ، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف وحدان والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة ، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى فلم يغفلوها ، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى ، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها؛ لأنه لا يكون إلا ساكناً . ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى : التهليل ، والحوقلة ، والحيعلة ، والبسملة؛ وحكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد ، فيقال : ألف لام ميم ، كما يقال : واحد اثنان ثلاثة؛ فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب . تقول : هذه ألف ، وكتبت ألفاً ، ونظرت إلى ألف؛ وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب ، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها ، فحقك أن تلفظ به موقوفاً . ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناساً مختلفة ليرفع حسبانها ، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالاً من سمة الإعراب؟ فتقول : دار ، غلام ، جارية ، ثوب ، بساط . ولو أعربت ركبت شططاً . فإن قلت : لم قضيت لهذه الألفاظ بالإسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت : قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف ، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح ، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف ، مستعملين الحرف في معنى الكلمة ، وذلك أن قولك : «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال ، وقام» دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص ، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين . ألا ترى أنّ الحرف : ما دلّ على معنى في غيره ، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه؛ ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك : با ، تا . وبالتفخيم كقولك : يا ، ها . وبالتعريف ، والتنكير ، والجمع والتصغير ، والوصف ، والإسناد ، والإضافة ، وجميع ما للأسماء المتصرفة . ثم إني عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك . قال سيبويه : قال الخليل يوماً وسأل أصحابه : كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك ، والباء التي في ضرب؟ فقيل : نقول : باء ، كاف؛ فقال : إنما جئتم بالإسم ، ولم تلفظوا بالحرف ، وقال : أقول : كه ، به . وذكر أبو علي في كتاب الحجة في ( يس ) : وإمالة يا ، أنهم قالوا : يا زيد ، في النداء؛ فأمالوا وإن كان حرفاً ، قال : فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء ، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر . ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت : من أي قبيل هي من الأسماء ، أمعربة أم مبنية؟ قلت : بل هي أسماء معربة ، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وموجبه . والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء : أنها لو بنيت لحذى بها حذو : كيف ، وأين ، وهؤلاء . ولم يقل : ص ، ق ، ن مجموعاً فيها بين الساكنين . فإن قلت فلم لفظ المتهجي بما آخره ألف منها مقصوراً ، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء ، وياء ، وهاء؛ وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة؛ فإذا جعلتها إسماً مددت فقلت : كتبت لاء؟ قلت : هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل؛ والسبب في أن قصرت متهجاة ، ومدّت حين مسها الإعراب : أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز ، واستعمالها فيه أكثر . فإن قلت : قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم ، وأنها من قبيل المعربة ، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف ، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت : فيه أوجه : أحدها وعليه إطباق الأكثر : أنها أسماء السور . وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب«باب أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين : أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب ، نحو : كهيعص ، والمر . والثاني : ما يتأتى فيه الإعراب ، وهو إما أن يكون اسماً فرداً كص ، وق ، ون ، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك«حم وطس ويس»؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها ، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحد؛ كدارا بحرد؛ فالنوع الأول محكى ليس إلاّ؛ وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران : الإعراب ، والحكاية؛ قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح بن أوفى العبسي .

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ

فأعرب حاميم ومنعها الصرف ، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها؛ لاجتماع سببي منع الصرف فيها ، وهما : العلمية ، والتأنيث . والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى . كقولك : دعني من تمرتان ، ( وبدأت بالحمد لله ) ، وقرأت : { سُورَةٌ أنزلناها } [ النور : 1 ] قال :

وَجَدْنا في كِتَابِ بَني تَمِيم ... أَحَقُّ الْخَيّلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ

وقال ذو الرمّة :

سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً ... فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعي بِلاَلاَ

وقال آخر :

تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداً ... وَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِي

وروى منصوباً ومجروراً . ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول : رأيت زيداً ، من زيداً؟ وقال سيبويه : سمعت من العرب : لا من أين يا فتى . فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : ص ، وق ، ون مفتوحات؟ قلت : الأوجه أن يقال : ذاك نصب وليس بفتح ، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت .

وانتصابها بفعل مضمر . نحو : اذكر؛ وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في : حم ، وطس ، ويس لو قرىء به . وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ : يس . ويجوز أن يقال : حرّكت لالتقاء الساكنين ، كما قرأ من قرأ : «ولا الضالين» . فإن قلت : هلا زعمت أنها مقسم بها؟ وأنها نصبت قولهم : نعم الله لأفعلن ، وأي الله لأفعلن ، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة :

أَلاَ رُبَّ مَنْ قَلْبي لَهُ للَّهَ نَاصِح ... وقال آخر :

فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ ... قلت : إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما ، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك . قال الخليل في قوله عزّ وجلّ : { واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلىوما خلقالذكر والأنثى } [ الليل : 1-3 ] : الواوان الأخريان ليستا لمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء ، قال سيبويه : قلت للخليل : فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال : إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء ، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر ، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ ، بالله لأخرجنّ اليوم ، ولا يقوى أن تقول : وحقك وحق زيد لأفعلنّ . والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرهاً قال : وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ؛ فثم هاهنا بمنزلة الواو . هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف؛ لمخالفة الثاني الأول في الإعراب . فإن قلت : فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها ، فقد جاء عنهم : الله لأفعلن مجروراً ، ونظيره قولهم : لاه أبوك؛ غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه . قلت : هذا لا يبعد عن الصواب ، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : أقسم الله بهذه الحروف .

فإن قلت : فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر؟ قلت : وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين ، والذي يبسط من عذر المحرّك : أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامي ، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبينات ، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء» . فإن قلت : هل تسوغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة من إرادة معنى القسم؟ قلت : لا عليك في ذلك ، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل : { حم والكتاب المبين } [ الدخان : 2 ] ، كأنه قيل : أقسم بهذه السورة ، وبالكتاب المبين : إنا جعلناه . وأما قوله صلى الله عليه وسلم :

( 9 ) " حم لا ينصرون " فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره . فإن قلت : فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت : كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ ، كما قال عز من قائل :

{ قرآناً عَرَبِيّاً } [ يوسف : 2 ] . فإن قلت : فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها ، لا على صور أساميها؟ قلت : لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف ، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب : اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها ، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح . وأيضاً فإن شهرة أمرها ، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها ، وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها ، وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده : أمنت وقوع اللبس فيها ، وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بني عليها علم الخط والهجاء؛ ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان؛ لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ ، وكان أتباع خط المصحف سنة لا تخالف . قال عبد الله بن درستويه في كتابه : المترجم بكتاب الكتاب المتمم : في الخط والهجاء خطان لا يقاسان : خط المصحف ، لأنه سنة ، وخط العروض؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه . الوجه الثاني : أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه؛ وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة ، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار ، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء؛ إلا لأنه ليس بكلام البشر ، وأنه كلام خالق القوى والقدر . وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل ، ولناصره على الأوّل أن يقول : إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوباً في أساليبهم واستعمالاتهم ، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، والقول بأنها أسماء السور حقيقة : يخرج إلى ما ليس في لغة العرب ، ويؤدّي أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً . فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه ، أجابك بأن له محملاً سوى ما يذهب إليه ، وأنه نظير قول الناس : فلان يروي : قفا نبك ، وعفت الديار . ويقول الرجل لصاحبه : ما قرأت؟ فيقول : { الحمد للَّهِ } و { بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] و { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] و

{ الِلَّهِ نُورُ السماوات والأرض } [ النور : 35 ] . وليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد وهذه السور والآي ، وإنما تعني رواية القصيدة التي ذاك استهلالها ، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها . فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية ، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية ، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة . وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول : التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت إسماً واحداً على طريقة حضرموت ، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها؛ لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية ، كما سموا : بتأبط شراً ، وبرق نحره ، وشاب قرناها . وكما لو سمي : بزيد منطلق ، أو بيت شعر . وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر ، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم ، دلالة قاطعة على صحة ذلك . وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها ، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً ، لأنها تسمية مؤلف بمفرده ، والمؤلف غير المفرد . ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه ، كقولهم : صاد ، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً . الوجه الثالث : أن ترد السور مصدّرَةً بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإعراب ، وتقدمة من دلائل الإعجاز . وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام : الأميون منهم وأهل الكتاب ، بخلاف النطق بأسامي الحروف . فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم ، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة ، كما قال عز وجل : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] . فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن ، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها ، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي ، وشاهد بصحة نبوته ، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد . واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء . وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم . ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء . ومن المجهورة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون . ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف . ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون .

ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء . ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والياء ، والنون . ومن المستعلية نصفها : القاف ، والصاد ، والطاء . ومن المنخفضة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون . ومن حروف القلقلة نصفها : القاف ، والطاء . ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها ، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته . وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأن الله عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم . ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم ، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين . وهي : فواتح سورة البقرة ، وآل عمران ، والروم ، والعنكبوت ، ولقمان ، والسجدة ، والأعراف ، والرعد ، ويونس ، وإبراهيم ، وهود ، ويوسف ، والحجر . فإن قلت : فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت : لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير ، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة ، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره . فإن قلت : فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص و ق و ن على حرف ، وطه و طس و يس و حم على حرفين ، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف ، والمص والمر على أربعة أحرف ، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت : هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام ، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة . وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك ، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك . فإن قلت : فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت : إذا كان الغرض هو التنبيه والمبادىء كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً ، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً ، لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك؛ ولذلك لا يقال : لم سمي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت : ما بالهم عدّوا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت : هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور . أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها .

وهي ست . وكذلك المص آية ، والمر لم تعدّ آية ، والر ليست بآية في سورها الخمس ، وطسم آية في سورتيها ، وطه ويس آيتان ، وطس ليست بآية ، وحم آية في سورها كلها ، و حم عسق آيتان ، وكهيعص آية واحدة ، وص و ق و ن ثلاثتها لم تعدّ آية . هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم ، لم يعدّوا شيئاً منها آية . فإن قلت : فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت : كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف . فإن قلت : ما حكمها في باب الوقف؟ قلت : يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلاً : ( الم الله ) أي هذه الم ثم ابتدأ فقال : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 1-2 ] . فإن قلت : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ قلت : نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام . فإن قلت : ما محلها؟ قلت : يحتمل الأوجه الثلاثة ، أما الرفع : فعلى الابتداء ، وأما النصب والجرّ ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة : الله والله على اللغتين . ومن لم يجعلها أسماء للسور ، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه ، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدّدة .

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

فإن قلت : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ قلت : وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى ، والمقضى في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام . يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه . ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا . وقال الله تعالى : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وقال : { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } [ يوسف : 37 ] ، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه ، وقع في حد البعد ، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك . وقيل معناه : ذلك الكتاب الذي وعدوا به . فإن قلت : لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة ؟ قلت : لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته . فإن جعلته خبره ، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه ، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير ، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم : من كانت أمّك . وإن جعلته صفته ، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً؛ لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له . تقول : هند ذلك الإنسان ، أو ذلك الشخص فعل كذا . وقال الذبياني :

نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرَانِ عاتِبةً ... سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِي

فإن قلت : أخبرني عن تأليف { ذلك الكتاب } مع { الم } . قلت : إن جعلت { الم } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون { الم } مبتدأ ، و { ذلك } . مبتدأ ثانياً ، و { الكتاب } خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . ومعناه : أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، كما تقول : هو الرجل ، أي الكامل في الرجولية ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال . وكما قال :

هُمُ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ ... وأن يكون الكتاب صفة . ومعناه : هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون { الم } خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه الم ، ويكون ذلك خبراً ثانياً أو بدلاً ، على أن الكتاب صفة ، وأن يكون : هذه الم جملة ، وذلك الكتاب جملة أخرى . وإن جعلت الم بمنزلة الصوت ، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب ، أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل . أو الكتاب صفة والخبر ما بعده ، أو قدّر مبتدأ محذوف ، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب . وقرأ عبد الله : { آلم ، تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } . وتأليف هذا ظاهر .

والريب : مصدر رابني ، إذا حصل فيك الريبة . وحقيقة الريبة : قلق النفس واضطرابها . ومنه ما روى الحسن بن علي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

( 10 ) « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الشك ريبة ، وإنّ الصدق طمأنينة »

أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ . وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن . ومنه : ريب الزمان ، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه . ومنه :

( 11 ) أنه مر بظبي حاقف فقال : " «لا يربه أحد بشيء " . فإن قلت : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من مرتاب فيه؟ قلت : ما نفى أنّ أحد لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب ، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة ، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة . فإن قلت : فهلا قدّم الظرف على الريب ، كما قدّم على الغَوْل في قوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] ؟ قلت : لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي ، نفي الريب عنه ، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب ، كما كان المشركون يدّعونه ، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد ، وهو أنّ كتاباً آخر فيه الريب فيه ، كما قصد في قوله : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل : ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة ، وقرأ أبو الشعثاء : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بالرفع : والفرق بينها وبين المشهورة ، أنّ المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوّزه . والوقف على { فِيهِ } هو المشهور . وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لاَ رَيْبَ } ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً . ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ } [ الشعراء : 50 ] ، وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز . والتقدير : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } .

{ فِيهِ هُدًى } الهدى مصدر على فعل ، كالسرى والبكى ، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية ، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته . قال الله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 24 ] . وقال تعالى : { لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] . ويقال : مهدي ، في موضع المدح كمهتد؛ ولأن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو : غمه فاغتم ، وكسره فانكسر ، وأشباه ذلك : فإن قلت : فلم قيل : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون؟ قلت : هو كقولك للعزيز المكرم : أعزك الله وأكرمك ، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته ، كقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } . ووجه آخر ، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى : متقين ، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 12 ) " من قتل قتيلاً فله سلبه " وعن ابن عباس :

( 13 ) «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة ، وتكون الحاجة» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال : قتيلاً ومريضاً وضالاً . ومنه قوله تعالى : { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] ، أي صائراً إلى الفجور والكفر . فإن قلت : فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت : لأن الضالين فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم ، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى؛ فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة ، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل : هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال ، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا ، فقيل : هدى للمتقين . وأيضاً فقد جعل ذلك سلماً إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني ، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده .

والمتقي في اللغة اسم فاعل ، من قولهم : وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . ومنه : فرس واق ، وهذه الدابة تقي من وجاها ، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه . وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك . واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها ، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر . وقيل : يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال ، والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة ، كما لا يجوز إطلاق لعدل إلا على المختبر .

ومحل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } الرفع ، لأنه خبر مبتدإ محذوف ، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لذلك ، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه . ويجوز أن ينصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف . والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً . وأن يقال إن قوله : { الم } جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها . و { ذلك الكتاب } جملة ثانية . و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة . و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة . بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدي ، وشدّاً من أعضاده . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ثم لم تخل كل واحدة من الأربع ، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظم السري ، من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة . وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف . وفي الرابعة الحذف . ووضع المصدر الذي هو { هُدًى } موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً . والإيجاز في ذكر المتقين .

زادنا الله إطلاعاً على أسرار كلامه ، وتبييناً لنكت تنزيله ، وتوفيقاً للعمل بما فيه .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

{ الذين يُؤْمِنُونَ } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة ، أو مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير : أعني الذين يؤمنون ، أو هم الذين يؤمنون . وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب ( أولئك على هدى ) . فإذا كان موصولاً ، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ . وإذا كان مقتطعاً ، كان وقفاً تاماً . فإن قلت : ما هذه الصفة ، أواردة بياناً وكشفاً للمتقين؟ أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيداً؟ قلت : يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات . أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها ، وذكر الصلاة والصدقة؛ لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية ، وهما العيار على غيرهما . ألم تر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( 14 )

" الصلاة عماد الدين . "

( 16 ) وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟ ( 15 ) . وسمى الزكاة

قنطرة الإسلام؟ وقال الله تعالى : { وويلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } [ فصلت : 6 7 ] . فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها . ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً ، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها ، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به ، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين . وأما الترك فكذلك . ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] ؟ ويحتمل أن لا تكون بياناً للمتقين ، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات ، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي . ويحتمل أن تكون مدحاً للموصوفين بالتقوى ، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر؛ إظهاراً لإنافتها عن سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات .

والإيمان : إفعال من الأمن . يقال : أمنته وآمنته غيري . ثم يقال : آمنه إذا صدّقه . وحقيقته : آمنه التكذيب والمخالفة . وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف . وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب : ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فحقيقته : صرت ذا أمن به ، أي ذا سكون وطمأنينة ، وكلا الوجهين حسن في { يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق . ويجوز أن لا يكون { بالغيب } صلة للإيمان ، وأن يكون في موضع الحال ، أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به . وحقيقته : ملتبسين بالغيب ، كقوله { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } [ فاطر : 18 ] ، { لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] . ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم ، فقال ابن مسعود : إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه .

والذي لا إله غيره ، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية . فإن قلت : فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالاً؟ قلت : إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب ، إمّا تسمية بالمصدر من قولك : غاب الشيء غيباً ، كما سمي الشاهد بالشهادة . قال الله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } [ الزمر : 46 ] . والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيباً . وعن النضر بن شميل : شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها . يريد بالغيب : الخمصة التي تكون في موضع الكلية ، إذا بطنت الدابة انتفخت . وإما أن يكون فيعلا فخفف ، كما قيل وأصله : قيل . والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه ، أو نصب لنا دليلاً عليه . ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم الغيب . وذلك نحو الصانع وصفاته ، والنبوّات وما يتعلق بها ، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد ، وغير ذلك . وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء . فإن قلت : ما الإيمان الصحيح؟ قلت : أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ، ويصدّقه بعمله . فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق . ومن أخل بالشهادة فهو كافر . ومن أخل بالعمل فهو فاسق .

ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام العود إذا قوّمه أو الدوام عليها والمحافظة عليها ، كما قال عز وعلا : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } [ المعارج : 23 ] ، { والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون } [ المؤمنون : 9 ] من قامت السوق إذا نفقت ، وأقامها . قال :

أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ ... لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولاً قمِيطَا

لأنها إذا حوفظ عليها ، كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون . وإذا عطلت وأضيعت ، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو التجلد والتشمر لأدائها . وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان ، من قولهم : قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساقها . وفي ضدّه : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط أو أداؤها ، فعبر عن الأداء بالإقامة؛ لأنّ القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت والقنوت القيام وبالركوع وبالسجود ، وقالوا : سبح ، إذا صلى؛ لوجود التسبيح فيها . { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] .

والصلاة : فعلة من صلى ، كالزكاة من زكى . وكتابتها بالواو على لفظ المفخم . وحقيقة صلى : حرّك الصلوين؛ لأن المصلي يُفعل ذلك في ركوعه وسجوده . ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه؛ لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان . وقيل للداعي : مصلّ ، تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد .

وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله ، ويسمى رزقاً منه . وأدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهى عنه . وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم ، كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به . وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة ، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة ، وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبيل الخير ، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق . وأنفق الشيء وأنفده أخوان . وعن يعقوب : نفق الشيء ، ونفد واحد . وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء ، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

فإن قلت : { والذين يُؤْمِنُونَ } أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد ، وفي قوله :

إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهممِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ

وقوله :

يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّابِحِ فالغَانِم فَالآيِبِ ... قلت : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا ، فاشتمل إيمانهم على كل وحي أنزل من عند الله ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات ، واجتماعهم على الإقرار بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد ، ثم افتراقهم فرقتين : منهم من قال : تجري حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا؛ ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل ، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيد والفرح والسرور ، واختلافهم في الدوام والانقطاع ، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه . ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين . ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه . فإن قلت : فإن أريد بهؤلاء غير أولئك ، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟ . قلت : إن عطفتهم على { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمني أهل الكتاب وغيرهم . وإن عطفتهم على { المتقين } لم يدخلوا . وكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك . فإن قلت : قوله : { بِمَاأُنزِلََ إِلَيْكَ } إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، فلم يكن ذلك منزلاً وقت إيمانهم ، فكيف قيل أنزل بلفظ المضيّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب . قلت : المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقباً ، تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، كما يغلب المتكلم على المخاطب ، والمخاطب على الغائب فيقال : أنا وأنت فعلنا ، وأنت وزيد تفعلان . ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } [ الأحقاف : 30 ] ولم يسمعوا جميع الكتاب ، ولا كان كله منزلاً ، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا . ونظيره قولك : كل ما خطب به فلان فهو فصيح ، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر . ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي ، لكونه معقوداً بعضه ببعض ، ومربوطاً آتيه بماضيه . وقرأ يزيد بن قطيب { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } على لفظ ما سمي فاعله .

وفي تقديم { وبالاخرة } وبناء { يُوقِنُونَ } على { هُمْ } تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . والإيقان : إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه . و { وبالاخرة } تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأوّل ، وهي صفة الدار بدليل قوله : { تِلْكَ الدار الأخرة } [ القصص : 77 ] وهي من الصفات الغالبة ، وكذلك الدنيا . وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام ، كقوله : { دَابَّةُ الأَرْضِ } [ سبأ : 14 ] وقرأ أبو حية النميري «يؤقنون» بالهمز ، جعل الضمة في جار الواو كأنها فيه ، فقلبها قلب واو «وجوه» و«وقتت» . ونحوه :

لَحُبَّ المُؤْقِدَانِ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وَجَعدَةُ إذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

{ أولئك على هُدًى } الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ؛ وإلا فلا محلّ لها . ونظم الكلام على الوجهين : أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب . فقد ذهبت به مذهب الاستئناف . وذلك أنه لما قيل : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر . وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم ، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم ، أي الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم ، أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح . ونظيره قولك : أحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، وكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة . وإن جعلته تابعاً للمتقين ، وقع الاستئناف على أولئك؛ كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين ، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً ، وبالفلاح آجلاً . واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث ، كقولك : قد أحسنت إلى زيد ، زيد حقيق بالإحسان . وتارة بإعادة صفته ، كقولك : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك؛ فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه . فإن قلت : هل يجوز أن يجري الموصول الأوّل على المتقين ، وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره؟ قلت : نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله . وفي اسم الإشارة الذي هو { أولئك } إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لهم ، كما قال حاتم : ولله صعلوك ثم عدّد له خصالاً فاضلة ، ثم عقب تعديدها بقوله :

فَذَلِكَ إنْ يَهْلِكْ فحَسْبي ثَنَاؤُهُ ... وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا

ومعنى الاستعلاء في قوله ( على هدى ) مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه ، وتمسكهم به . شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه . ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرّحوا بذلك في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى .

ومعنى { هُدًى مّن رَّبّهِمْ } أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير ، والترقي إلى الأفضل فالأفضل . ونكر { هُدًى } ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ، ولا يقادر قدره؛ كأنه قيل : على أي هدى ، كما تقول : لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً . وقال الهذلي :

فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى ... عَلى خالِدٍ لَقدْ وَقَعتِ على لَحَم

والنون في { مِّن رَّبِّهِمْ } أدغمت بغنة وبغير غنة ، فالكسائي ، وحمزة ، ويزيد ، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها . وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو . فقد روى عنه فيها روايتان .

وفي تكرير { أولئك } تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى ، فهي ثابتة لهم بالفلاح؛ فجعلتْ كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها . فإن قلت : لم جاء مع العاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله { أولئك كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] ؟ قلت : قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان؛ لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد ، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل .

و { هُمْ } فصل : وفائدته : الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة ، والتوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره . أو هو مبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة خبر أولئك .

ومعنى التعريف في { المفلحون } : الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك ، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب ، أي هو الذي أخبرت بتوبته . أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم ، وتصوّروا بصورتهم الحقيقة ، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة . كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو . فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى ، وهي : ذكر اسم الإشارة ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك؛ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا ، وينشطك لتقديم ما قدموا ، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته . اللهمّ زينا بلباس التقوى ، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة . والمفلح : الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه . والمفلج بالجيم مثله . ومنه قولهم للمطلقة : استفلحي بأمرك بالحاء والجيم . والتركيب دال على معنى الشق والفتح ، وكذلك أخواته في الفاء والعين ، نحو : فلق ، وفلذ ، وفلى .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده ، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة ، قفى على أثره بذكر أضدادهم؛ وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى ، ولا يجدي عليهم اللطف ، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه ، وإنذار الرسول وسكوته . فإن قلت : لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله : { إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم } [ الانفطار 14- 15 ] وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت : ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت؛ لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين ، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب ، وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف . فإن قلت : هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين ، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين ، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم ، كان مثل تلك الآي المتلوّة . قلت : قد مرّ لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف ، وأنه مبنيّ على تقدير سؤال ، فذلك إدراج له في حكم المتقين ، وتابع له في المعنى؛ وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة كالجاري عليه .

والتعريف في { الذين كَفَرُواْ } يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وأن يكون للجنس متناولاً كلّ من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده وغيرهم ، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم ، و { سَوَآءٌ } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر . ومنه قوله تعالى : { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] ، { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ ، و { ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ َ } في موضع المرتفع به على الفاعلية؛ كأنه قيل : إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه . كما تقول : إنّ زيداً مختصم أخوه وابن عمه أو يكون { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } في موضع الابتداء ، { وسواء } خبراً مقدّماً بمعنى : سواء عليهم إنذارك وعدمه ، والجملة خبر لإنّ . فإن قلت : الفعل أبداً خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت : هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى ، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلاً بيناً ، من ذلك قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل . والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً . قال سيبويه : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك : اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة ، يعني أنّ هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء . ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن ، إمّا الإنذار وإمّا عدمه ، ولكن لا بعينه ، فكلاهما معلوم بعلم غير معين . وقرىء : «أأنذرتهم» بتحقيق الهمزتين ، والتخفيف أعرب وأكثر ، وبتخفيف الثانية بين بين ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين ، وبحذف حرف الاستفهام ، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله ، كما قرىء «قد أفلح» . فإن قلت : ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قلت : هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجين : أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفاً مدغماً نحو قوله : الضالين ، وخويصة؛ والثاني : إخطاء طريق التخفيف؛ لأن طريق تخفيف الهمزة المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين؛ فأما القلب ألفاً فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس . والإنذار : التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي . فإن قلت : ما موقع { لاَ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها ، أو خبراً لإنّ والجملة قبلها اعتراض .

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

الختم والكتم أخوان؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه .

والغشاوة : الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة . فإن قلت : ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت : لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة ، وإنما هو من باب المجاز ، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل . أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده ، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم ، وأبصارهم لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطي عليها وحجبت ، وحيل بينها وبين الإدراك . وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية . وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعيّ ختماً عليه فقال

خَتَمَ الإله عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ ... خَتْماً فلَيْسَ عَلى الكلامِ بقَادِرِ

وإذا أَرَادَ النَّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ ... لَحْماً يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ

فإن قلت : فلم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح علواً كبيراً لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه . وقد نص على تنزيه ذاته بقوله : { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] ، { وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } [ الزخرف : 76 ] ، { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت : القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها . وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل ، فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي . ألا ترى إلى قولهم : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه . وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم ، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟ ويجوز أن تضرب الجملة كما هي ، وهي ختم الله على قلوبهم مثلاً كقولهم : سال به الوادي ، إذا هلك . وطارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته؛ وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء؛ فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغتام التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم ، أو بحال قلوب البهائم أنفسها ، أو بحال قلوب مقدّر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئاً ولا تفقه ، وليس له عزّ وجلّ فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله ، وهو متعال عن ذلك .

ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله ، فيكون الختم مسنداً إلى اسم الله على سبيل المجاز . وهو لغيره حقيقة . تفسير هذا : أنّ للفعل ملابسات شتى . يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له؛ فإسناده إلى الفاعل حقيقة ، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة؛ وذلك لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل ، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه ، فيقال في المفعول به : عيشة راضية ، وماء دافق . وفي عكسه : سيل مفعم . وفي المصدر : شعر شاعر ، وذيل ذائل . وفي الزمان نهاره صائم . وليله قائم . وفي المكان : طريق سائر ، ونهر جار . وأهل مكة يقولون : صلى المقام . وفي المسبب : بنى الأمير المدينة ، وناقة صبوث وحلوب . وقال :

إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها ... فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر؛ إلا أنّ الله سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه ، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب . ووجه رابع : وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر ، ولا تجدى عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها . لم يبق بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعاً واختياراً طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء ، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم الله ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم ، إشعاراً بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر والإصرار عليه إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي واستشرائهم في الضلال والبغي . ووجه خامس : وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم : { في قُلُوبُنَا أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } [ البينة : 1 ] فإن قلت : اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية فعلى أيهما يعوّل؟ قلت : عل دخولها في حكم الختم لقوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } [ الجاثية : 23 ] ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم . فإن قلت : أيّ فائدة في تكرير الجارّ في قوله : «وعلى سمعهم»؟ قلت : لو لم يكرّر لكان انتظاماً للقلوب والأسماع في تعدية واحدة؛ وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة ، كان أدل على شدة الختم في الموضعين .

ووحد السمع كما وحد البطن في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس . فإذا لم يؤمن كقولك : فرسهم ، وثوبهم ، وأنت تريد الجمع رفضوه . ولك أن تقول : السمع مصدر في أصله ، والمصادر لا تجمع . فلمح الأصل يدل عليه جمع الأذن في قوله : { وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] وأن تقدّر مضافاً محذوفاً : أي وعلى حواس سمعهم . وقرأ ابن أبي عبلة : وعلى أسماعهم . فإن قلت : هلا منع أبا عمرو والكسائي من إمالة أبصارهم ما فيه من حرف الاستعلاء وهو الصاد؟ قلت : لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية ، لما فيه من التكرير كأن فيها كسرتين ، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال . والبصر نور العين ، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات . كما أن البصيرة نور القلب ، وهو ما به يستبصر ويتأمل . وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله فيهما آلتين للإبصار والاستبصار .

وقرىء «غِشاوةً» بالكسر والنصب . وغُشاةٌ : بالضم والرفع . وغَشاوةً : بالفتح والنصب . وغِشوةُ : بالكسر والرفع . وغَشوةٌ : بالفتح والرفع والنصب . وعشاوةٌ : بالعين غير المعجمة والرفع ، من العشا .

والعذاب : مثل النكال بناء ومعنى؛ لأنك تقول : أعذب عن الشيء ، إذا أمسك عنه . كما تقول : نكل عنه . ومنه العذب؛ لأنه يقمع العطش ويردعه ، بخلاف الملح فإنه يزيده . ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً؛ لأنه ينقخ العطش أي يكسره . وفراتاً ، لأنه يرفته على القلب . ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذاباً ، وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة .

والفرق بين العظيم والكبير ، أن العظم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، فكأن العظيم فوق الكبير ، كما أن الحقير دون الصغير . ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً . تقول : رجل عظيم وكبير ، تريد جثته أو خطره . ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله . ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله .

اللَّهم أجرنا من عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم . ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوباً وألسنة . ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] وسماهم المنافقين ، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً ، وبالشرك استهزاء وخداعاً . ولذلك أنزل فيهم { إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] ووصف حال الذين كفروا في آيتين ، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وفضحهم وسفههم ، واستجهلهم واستهزأ بهم ، وتهكم بفعلهم ، وسجل بطغيانهم ، وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة . وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة .

وأصل «ناس» أناس ، حذفت همزته تخفيفاً كما قيل : لوقة ، في ألوقة . وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس . ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس . وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون ، كما سمي الجنّ لاجتنانهم . ولذلك سموا بشراً . ووزن ناس فعال؛ لأن الزنة على الأصول . ألا تراك تقول في وزن «قه» افعل ، وليس معك إلا العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال . وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل . ولام التعريف فيه للجنس . ويجوز أن تكون للعهد ، والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم؛ كأنه قيل : ومن هؤلاء من يقول . وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق . ونظير موقعه موقع القوم في قولك : نزلت ببني فلان فلم يقروني والقوم لئام .

ومن في { مَن يَقُولُ } موصوفة ، كأنه قيل : ومن الناس ناس يقولون كذا ، كقوله : { مّنَ المؤمنين رِجَالٌ } [ الفتح : 25 ] إن جعلت اللام للجنس . وإن جعلتها للعهد فموصولة ، كقوله : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى } [ التوبة : 61 ] . فإن قلت : كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم؟ قلت : الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً . وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس - مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء - لا يخرجهم من أن يكونوا بعضاً من الجنس؛ فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض . وتلك المغايرات إنما تأتي بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية . فإن قلت : لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت : اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة؛ لأن القوم كانوا يهوداً ، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان ، لقولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله }

[ التوبة : 30 ] . وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته ، فكان قولهم : { ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر } خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً ، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم ، فهو كفر لا إيمان . فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم ، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي ، كان خبثاً إلى خبث ، وكفراً إلى كفر . وأيضاً فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان من جانبيه ، واكتنفوه من قطريه ، وأحاطوا بأوّله وآخره . وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام . فإن قلت : كيف طابق قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قولهم : { ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر } والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت : القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه ، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب . وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره ، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين ، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان . وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة ، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع . ونحوه قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] هو أبلغ من قولك : وما يخرجون منها . فإن قلت : فلم جاء الإيمان مطلقاً في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت : يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ، ولا من الإيمان بغيرهما . فإن قلت : ما المراد باليوم الآخر؟ قلت : يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع ، لتأخره عن الأوقات المنقضية . وأن يراد الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ للوقت بعده .

والخدع : أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه . من قولهم : ضب خادع وخدع ، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر . فإن قلت : كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا ، ألا نرى إلى قوله :

واستمطروا مِنْ قُرَيْشٍ كلَّ مِنْخدِعِ ... وقول ذي الرمّة :

إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ ... فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع . قلت : فيه وجوه . أحدها : أن يقال كانت صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، صورة صنع الخادعين .

وصورة صنع الله معهم -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامهم عليهم . والثاني : أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه؛ لأن من كان ادعاؤه الإيمان بالله نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، ولا أن لذاته تعلقاً بكل معلوم ، ولا أنه غني عن فعل القبائح؛ فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم . والثالث : أن يذكر الله تعالى ويراد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه خليفته في أرضه ، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده ، كما يقال : قال الملك كذا ورسم كذا؛ وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه . مصداقه قوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] وقوله : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] . والرابع : أن يكون من قولهم : أعجبني زيد وكرمه ، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله . وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص ، ولما كان المؤمنون من الله بمكان ، سلك بهم ذلك المسلك . ومثله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وكذلك : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] ونظيره في كلامهم : علمت زيداً فاضلاً ، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه؛ لأنه كان معلوماً له قديماً؛ كأنه قيل : علمت فضل زيد؛ ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله . فإن قلت : هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلت : وجهه أن يقال : عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه . ويعضده قراءة من قرأ : { يخادعون الله والذين ءامَنُوا } وهو أبو حيوة . و { يخادعون } بيان ليقول . ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل يخادعون . فإن قلت : عمّ كانوا يخادعون؟ قلت : كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة ، وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار . ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد ، ومنها اطلاعهم - لاختلاطهم بهم - على الأسرار التي كانوا حراصاً على إذاعتها إلى منابذيهم . فإن قلت : فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها . قلت : لم يظهر عليهم لما أحاط به علماً من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك .

ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة . فإن قلت : ما المراد بقوله : { وَمَا يَخادعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } ؟ قلت : يجوز أن يراد : وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم ، ومكرها يحيق بهم ، كما تقول : فلان يضارّ فلاناً وما يضارّ إلا نفسه ، أي : دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه ، وأن يراد حقيقة المخادعة أي : وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به ، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأماني ، وأن يراد : وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة . وقرىء : «وما يخدعون» ، ويخدعون من خدع . ويخدعون - بفتح الياء - بمعنى يخدعون . ويخدعون . ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله . والنفس : ذات الشيء وحقيقته . يقال عندي كذا نفساً . ثم قيل للقلب : نفس؛ لأن النفس به . ألا ترى إلى قولهم : المرء بأصغريه . وكذلك بمعنى الروح ، وللدم نفس؛ لأن قوامها بالدم . وللماء نفس؛ لفرط حاجتها إليه . قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَي } [ الأنبياء : 30 ] وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه ، كقولهم : فلان يؤامر نفسيه - إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدري على أيهما يعرج كأنهم أرادوا داعيي النفس ، وهاجسي النفس فسموهما : نفسين ، إما لصدورهما عن النفس ، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له ، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين . والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم . والمعنى بمخادعتهم ذواتهم؛ أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم . ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم .

والشعور علم الشيء علم حس من الشعار . ومشاعر الإنسان : حواسه . والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له .

واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً ، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول : في جوفه مرض . والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب ، كسوء الاعتقاد ، والغل ، والحسد والميل إلى المعاصي ، والعزم عليها ، واستشعار الهوى ، والجبن ، والضعف ، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك . والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر ، أو من الغل والحسد والبغضاء ، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله : { قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } [ آل عمران : 118 ] ويتحرقون عليهم حسداً { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] وناهيك مما كان من ابن أبيّ وقول سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 17 ) «اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك» . أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور ، لأن قلوبهم كانت قوية ، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به : أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياماً ثم يقرّ ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله . وإما لجراءتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخوراً حين قذف الله في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله لهم بالملائكة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 18 ) " نصرت بالرعب مسيرة شهر " ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم ، فكأن الله هو الذي زادهم ما ازدادوه إسناداً للفعل إلى المسبب له ، كما أسنده إلى السورة في قوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] لكونها سبباً . أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً في البلاد ونقصاً من أطراف الأرض ازدادوا حسداً وغلا وبغضاً وازدادت قلوبهم ضعفاً وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبناً وخوراً . ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع . وقرأ أبو عمر في رواية الأصمعي : مرْض ، ومرْضاً ، بسكون الراء؛

يقال : ألم فهو { أَلِيمٌ } كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله :

تحِيَّةُ بَيْنَهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... وهذا على طريقة قولهم : جدّ جدّه . والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ .

والمراد بكذبهم قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر . وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته ، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم . ونحوه قوله تعالى : { مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 71 ] والقوم كفرة . وإنما خصت الخطيآت استعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها . والكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله . وأمَّا مَاً يروى عن إبراهيم عليه السلام .

( 19 ) «أنه كذب ثلاث كذبات» . فالمراد التعريض . ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به . وعن أبي بكر رضي الله عنه وروى مرفوعاً :

( 20 ) " إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان " وقرىء؛ «يكذبون» ، من كذبه الذي هو نقيض صدقه؛ أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب ، كما بولغ في صدق فقيل : صدّق . ونظيرهما : بان الشيء وبين ، وقلص الثوب وقلص . أو بمعنى الكثرة كقولهم : موتت البهائم ، وبركت الإبل ، أو من قولهم : كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه؛ لأن المنافق متوقف متردّد في أمره ، ولذلك قيل له مذبذب . وقال عليه السلام :

( 21 ) " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة " .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

«وإذا قيل لهم» معطوف على يكذبون . ويجوز أن يعطف على ( يقول آمنا ) لأنك لو قلت : ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا ، كان صحيحاً ، والأوّل أوجه .

والفساد : خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، ونقيضه؛ الصلاح ، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة . والفساد في الأرض : هيج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية . قال الله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } [ البقرة : 205 ] { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } [ البقرة : 30 ] . ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد . وكان فساد المنافقين في الأرض . أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم ، وذلك مما يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم ، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل لهم : { لا تفسدوا } ، كما تقول للرجل : لا تقتل نفسك بيدك ، ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته . و { إِنَّمَا } لقصر الحكم على شيء ، كقولك : إنما ينطق زيد ، أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد كاتب . ومعنى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد . و { ألآ } مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر } [ القيامة : 40 ] ؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق ، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم . وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين وطلائعها :

أَمَا والَّذِي لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غيْرُهُ ... أَمَا والَّذِي أَبْكَى وأَضحَكَ

ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم ، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا . وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل . وقوله : { لاَّ يَشْعُرُونَ } أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة . والثاني : تبصيرهم الطريق الأسد من أتباع ذوي الأحلام ، ودخولهم في عدادهم؛ فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم ، وجهلوهم لتمادي جهلهم . وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة . فإن قلت : كيف صح أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا ، وآمنوا» وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت : الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل ، وهذا إسناد له إلى لفظه ، كأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام . فهو نحو قولك : «ألف» ضرب من ثلاثة أحرف . ومنه : «زعموا مطية الكذب» .

و«ما» في «كما» يجوز أن تكون كافة مثلها في ( ربما ) ، ومصدرية مثلها في { بِمَا رَحُبَتْ } [ التوبة : 25 ] .

واللام في «الناس» للعهد ، أي كما آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم ، أي : كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أي : كما آمن الكاملون في الإنسانية . أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل .

والاستفهام في { أَنُؤْمِنُ } في معنى الإنكار . واللام في { السفهاء } مشار بها إلى الناس ، كما تقول لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك ، فيقول : أو قد فعل السفيه . ويجوز أن تكون للجنس ، وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم؛ لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه . فإن قلت : لم سفهوهم واستركوا عقولهم ، وهم العقلاء المراجيح؟ قلت : لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً؛ ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم . أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاظهم من إسلامهم وفت في أعضادهم . قالوا ذلك على سبيل التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل ، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم . فإن قلت : فلم فصلت هذه الآية ب { لاَّ يَعْلَمُونَ } ، والتي قبلها ب { لاَّ يَشْعُرُونَ } ؟ قلت : لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل ، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة . وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دينويّ مبني على العادات ، معلوم عند الناس ، خصوصاً عند العرب في جاهليتهم وما كان قائماً بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب ، فهو كالمحسوس المشاهد؛ ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له . مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير ، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم ، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم . وروي :

( 22 ) أن عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد عليّ فقال : مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا فقال لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً ، فنزلت .

ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه ، وهو جاري ملاقيّ ومراوقي . وقرأ أبو حنيفة : وإذا لاقوا .

وخلوت بفلان وإليه ، إذا انفردت معه . ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى : مضى ، وخلاك ذمّ : أي عداك ومضى عنك . ومنه : القرون الخالية ، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه . وهو من قولك : خلا فلان بعرض فلان يعبث به . ومعناه : وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها . كما تقول : أحمد إليك فلاناً ، وأذمّه إليك . وشياطينهم : الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم . وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية ، وفي آخر زائدة . والدليل على أصالتها قولهم : تشيطن ، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد؛ لبعده من الصلاح والخير . ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة . ومن أسمائه الباطل . { إِنَّا مَعَكُمْ } إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم . فإن قلت : لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية ، وشياطينهم بالإسمية محققة بأن؟ قلت : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين وأوكدهما ، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم ، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم ، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه ، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك ، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد . وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة . وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل . ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين : { رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا } [ آل عمران : 16 ] . وأما مخاطبة إخوانهم ، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر ، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به ، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم ، فكان مظنة للتحقيق ومثنة للتوكيد . فإن قلت : أنى تعلق قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بقوله : { إِنَّا مَعَكُمْ } قلت : هو توكيد له ، لأن قوله : { إِنَّا مَعَكُمْ } معناه الثبات على اليهودية . وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } ردّ للإسلام ودفع له منهم ، لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه ، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر . أو استئناف ، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم : { إِنَّا مَعَكُمْ } ، فقالوا : فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا : إنما نحن مستهزئون .

والاستهزاء : السخرية والاستخفاف ، وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع وهزأ يهزأ : مات على المكان . عن بعض العرب : مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني . وناقته تهزأ به : أي تسرع وتخف . فإن قلت : لا يجوز الاستهزاء على الله تعالى ، لأنه متعال عن القبيح ، والسخرية من باب العيب والجهل . ألا ترى إلى قوله : { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ البقرة : 67 ] ، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم ، لأنّ المستهزىء غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به ، وإدخال الهوان والحقارة عليه ، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك . وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة . والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم ، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون . ويجوز أن يراد به ما مر في { يخادعون } من أنه يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر ، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم ، وقيل : سمي جزاء الاستهزاء باسمه كقوله : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] . فإن قلت : كيف ابتدىء قوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ولم يعطف على الكلام قبله . قلت : هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة . وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته ، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل . وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله . فإن قلت : فهلا قيل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } قلت : لأن { يَسْتَهْزِىءُ } يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم { أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [ التوبة : 126 ] وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار ، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قُلْ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [ التوبة : 64 ] . { وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم } من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره . وكذلك مدّ الداوة وأمدها : زادها ما يصلحها . ومددت السرج والأرض : إذا استصلحتهما بالزيت والسماد . ومده الشيطان في الغي وأمده : إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد إنهماكاً فيه . فإن قلت : لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت : كفاك دليلاً على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن : «ويمدّهم» ، وقراءة نافع : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ } [ الأعراف : 202 ] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له .

فإن قلت : فكيف جاز أن يوليهم الله مدداً في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } [ الأعراف : 202 ] قلت : إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه ، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها ، تزايد الإنشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً . وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم . وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده . فإن قلت : فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت : استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين لكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته ، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام . ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز ، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّي سليماً من القادح ، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل . ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره : في ضلالتهم يتمادون ، وأن هؤلاء من أهل الطبع . والطغيان : الغلو في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه : { فِي طغيانهم } بالكسر وهما لغتان ، كلقيان ولقيان ، وغنيان وغنيان . فإن قلت : أي نكتة في إضافته إليهم؟ قلت : فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم ، وأن الله برىء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين : لو شاء الله ما أشركنا ، ونفياً لو هم من عسى يتوهم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته . ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين ، أطلق الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } [ الأعراف : 202 ] . والعمه : مثل العمى ، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة ، وهو التحير والتردّد ، لا يدري أين يتوجه . ومنه قوله : بالجاهلين العمه ، أي الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق . وسلك أرضاً عمهاء : لا منار بها .

ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى : اختيارها عليه واستبدالها به ، على سبيل الاستعارة ، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر . ومنه :

أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا ... وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا

وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا ... كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذ تَنَصَّرَا

وعن وهب : قال الله عز وجل فيما يعيب به بني إسرائيل : «تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة» . فإن قلت : كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ قلت : جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به ، ولأن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة .

( والضلالة ) الجور عن القصد وفقد الاهتداء . يقال : ضلّ منزله ، وضل دريص نفقه فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين . والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي : الشف ، من قولك : أشف بعض ولده على بعض ، إذا فضله . ولهذا على هذا شف . والتجارة : صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشتري للربح . وناقة تاجرة : كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها . وقرأ ابن أبي عبلة «تجاراتهم» . فإن قلت : كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ، كما تلبست التجارة بالمشترين . فإن قلت : هل يصح : ربح عبدك وخسرت جاريتك ، على الإسناد المجازي؟ قلت : نعم إذا دلت الحال . وكذلك الشرط في صحة : رأيت أسداً ، وأنت تريد المقدام؛ إن لم تقم حال دالة لم يصح . فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة . قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقاً ، وهو المجاز المرشح . وذلك نحو قول العرب في البليد : كأن أذني قلبه خطلاً ، وإن جعلوه كالحمار ، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين ، وادعوا لهما الخطل ، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة . ونحوه

ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأَيَةٍ ... وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِي

لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه :

فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ ... بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ

إذَا الشّيْطانُ قَصعَ في قَفَاها ... تَنفّقْناهُ بالحُبلِ التُّوَامِ

أي إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم . يريد : إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها . استعار التقصيع أوّلاً ، ثم ضم إليه التنفق ، ثم الحبل التوام . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلاً لخسارهم وتصويراً لحقيقته . فإن قلت : فما معنى قوله { فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } . قلت : معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال ، والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة . وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة ، لم يوصفوا بإصابة الربح . وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية؛ لأن الضال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله : قد ربح ، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر .

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان . ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، والغائب كأنه مشاهد . وفيه تبكيت للخصم الألد ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ ، ولأمر مّا أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء . قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ومن سور الإنجيل سورة الأمثال . والمثل في أصل كلامهم : بمعنى المثل ، وهو النظير . يقال : مثل ومثل ومثيل ، كشبه وشبه وشبيه . ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده : مثل . ولم يضربوا مثلاً ، ولا رأوه أهلا للتسيير ، ولا جديراً بالتداول والقبول ، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه . ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير . فإن قلت : ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد ناراً حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت : قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام ، للحال أو الصفة أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً . وكذلك قوله : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي وفيما قصصنا عليك من العجائب : قصة الجنة العجيبة . ثم أخذ في بيان عجائبها . { وَلِلَّهِ المثل الاعلى } [ النحل : 60 ] : أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة . { مَثَلُهُمْ فِى التوراة } [ الفتح : 29 ] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه . ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن . فإن قلت : كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت : وضع الذي موضع الذين ، كقوله : { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] والذي سوّغ وضع الذي موضع الذين ، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين ولا نحوه من الصفات أمران : أحدهما : أنّ «الذي» لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة بجملة ، وتكاثر وقوعه في كلامهم ، ولكونه مستطالاً بصلته ، حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين . والثاني : أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون . وإنما ذاك علامة لزيادة الدلالة . ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع ، والواحد فيهن واحد . أو قصد جنس المستوقدين . أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً . على أنّ المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد؛ إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد . ونحوه قوله : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً }

[ الجمعة : 5 ] ، وقوله : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] . ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها . ومن أخواته : وقل في الجبل إذا صعد وعلا ، والنار : جوهر لطيف مضيء حارّ محرق . والنور : ضوءها وضوء كل نير ، وهو نقيض الظلمة . واشتقاقها من نار ينور إذا نفر؛ لأنّ فيها حركة واضطراباً ، والنور مشتق منها . والإضاءة : فرط الإنارة . ومصداق ذلك قوله : { هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] ، وهي في الآية متعدية . ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله . والتأنيث للحمل على المعنى؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء . ويعضده قراءة ابن أبي عبلة «ضاءت» . وفيه وجه آخر ، وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار . ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها ، على أنّ ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة . و { حَوْلَهُ } نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة . وقيل للعام : حول؛ لأنه يدور . فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن جوابه { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } . والثاني : أنه محذوف كما حذف في قوله : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 15 ] . وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ عليه ، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة ، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح في إحياء النار . فإن قلت : فإذا قدّر الجواب محذوفاً فبم يتعلق { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } ؟ قلت : يكون كلاماً مستأنفاً . كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره ، اعترض سائل فقال : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم . أو يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان . فإن قلت : قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني؟ قلت : مرجعه الذي استوقد؛ لأنه في معنى الجمع . وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في { حَوْلَهُ } ، فللحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى أخرى . فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } ؟ قلت : إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر ، فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد . ووجه آخر ، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله . ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء . ألا ترى إلى قوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المائدة : 64 ] ، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ، ويتهدوا بها في طرق العبث ، فأطفأها الله وخيب أمانيهم . فإن قلت : كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد؟ قلت : هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره .

فإن قلت : هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } ؟ قلت : ذكر النور أبلغ؛ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة . فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً . ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه ، وكيف جمعها ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله : { لاَّ يُبْصِرُونَ } . فإن قلت : فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت : هذا على مذهب قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل . ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت ، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح . والفرق بين أذهبه وذهب به ، أن معنى أذهبه : أزاله وجعله ذاهباً . ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه . وذهبت السلطان بماله : أخذه ( فلما ذهبوا به ) ، { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] . ومنه : ذهب به الخيلاء . والمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه ، { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } [ فاطر : 2 ] فهو أبلغ من الإذهاب . وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم . وترك : بمعنى طرح وخلى ، إذا علق بواحد ، كقولهم : تركه ترك ظبي ظله . فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير ، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :

فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ... ومنه قوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } أصله : هم في ظلمات ، ثم دخل ترك فنصب الجزأين . والظلمة عدم النور . وقيل : عرض ينافي النور . واشتقاقها من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا : أي ما منعك وشغلك ، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية . وقرأ الحسن «ظلمات» بسكون اللام وقرأ اليماني «في ظُلمة» على التوحيد . والمفعول الساقط من { لاَّ يُبْصِرُونَ } من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوى ، كأنّ الفعل غير متعدّ أصلاً ، نحو { يَعْمَهُونَ } في قوله : { وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . فإن قلت : فيم شبهت حالهم بحال المستوقد؟ قلت : في أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورّطوا في حيرة . فإن قلت : وأين الإضاءة في حال المنافق؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت : المراد ما استضاءوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد . ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق . والأوجه أن يراد الطبع ، لقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } . وفي الآية تفسير آخر : وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات .

وتنكير النار للتعظيم . كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله :

صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه ... وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا

أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُأ ... َصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لا أرِيدُهُ ... واسمع خلق الله حين أريد ف

أصَممت عمراً وأعميته ... عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار

فإن قلت : كيف طريقته عند علماء البيان؟ قلت : طريقة قولهم «هم ليوث» للشجعان ، وبحور للأسخياء . إلا أنّ هذا في الصفات ، وذاك في الأسماء ، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعاً . تقول : رأيت ليوثاً ، ولقيت صماً عن الخير ، ودجا الإسلام . وأضاء الحق . فإن قلت : هل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت : مختلف فيه . والمحققون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة؛ لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون . والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ، ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه ، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :

لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلاَحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحاً . قال أبو تمام :

ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ ... بأَنَّ لهُ حَاجَةً في السَّمَاءْ

وبعضهم :

لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبَالِهِ رَجُلاً ... ففِيهِ غَيْثٌ وَلَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل

وليس لقائل أن يقول : طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به ، نظيره قول من يخاطب الحجاج :

أَسَدٌ عَلَيَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ

ومعنى { لاَ يَرْجِعُونَ } أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، تسجيلاً عليهم بالطبع ، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

ثم ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف ، وإيضاحاً غب إيضاح . وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز؛ فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع . أنشد الجاحظ :

ُيوحُونَ بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً ... وَحْيَ المُلاَحِظِ خِيفةَ الرُُّقَباء

ومما ثنى من التمثيل في التنزيل قوله : { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [ فاطر : 21 ] وألا ترى إلى ذي الرمّة كيف صنع في قصيدته؟

أَذَاكَ أَمْ نَمَشٌ بالْوَشْيِ أَكْرَعُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بالسَّيِّ مَرْتَعُهُُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلت : قد شبه المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد ناراً ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، فما ذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت : لقائل أن يقول : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر . وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات . وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق . وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق . والمعنى : أو كمثل ذوي صيب . والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا . فإن قلت : هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما في قوله : { وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء } [ غافر : 58 ] ، وفي قول امرىء القيس :

كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي؟

قلت : كما جاء ذلك صريحاً فقد جاء مطوياً ذكره على سنن الاستعارة ، كقوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ فاطر : 12 ] ، { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ } [ الزمر : 39 ] ، والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه : أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة ، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، وهو القول الفحل والمذهب الجزل ، بيانه : أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى ، معزولاً بعضها من بعض ، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها ، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً ، بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة } [ الجمعة : 5 ] الآية . الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة ، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار ، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب . وكقوله : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء }

[ الكهف : 45 ] المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر . فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً ، فلا . فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق . فإن قلت : الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك : «أو كمثل ذوي صيب» هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت : لولا طلب الراجع في قوله تعالى : { يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم } ما يرجع إليه لكنت مستغنياً عن تقديره؛ لأني أراعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا عليّ أوَلِيَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله . ألا ترى إلى قوله : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا } [ يس : 24 ] الآية ، كيف ولي الماء الكاف ، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره . ومما هو بين في هذا قول لبيد :

وما النَّاسُ إلاّ كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا ... بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلاَقِعُ

لم يشبه الناس بالديار ، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم ، بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها ، وتركها خلاء خاوية . فإن قلت : أي التمثيلين أبلغ؟ قلت : الثاني ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته ، ولذلك أُخر ، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ . فإن قلت : لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ قلت : أو في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك ، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك ، وذلك قولك : جالس الحسن أو ابن سيرين ، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] ، أي الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما ، فكذلك قوله : { أَوْ كَصَيّبٍ } معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين ، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك . والصيب : المطر الذي يصوّب ، أي ينزل ويقع . ويقال للسحاب : صيب أيضاً . قال الشماخ :

وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ ... وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل . كما نكرت النار في التمثيل الأول . وقرىء : كصائب ، والصيب أبلغ . والسماء : هذه المظلة . وعن الحسن : أنها موج مكفوف . فإن قلت : قوله : { مّنَ السماء } ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء . قلت : الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء ، أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء ، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله :

{ وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } [ فصلت : 12 ] . الدليل عليه قوله :

ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ ... والمعنى أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء ، كما جاء بصيب . وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير . أمد ذلك بأن جعله مطلقاً . وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر . ويؤيده قوله تعالى : { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] فإن قلت : بم ارتفع ظلمات؟ قلت : بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف . والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب ، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد . والبرق الذي يلمع من السحاب ، من برق الشيء بريقاً إذا لمع . فإن قلت : قد جعل الصيب مكاناً للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر ، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت : أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل . وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر ، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل . فإن قلت : كيف يكون المطر مكاناً للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه . ألا تراك تقول : فلان في البلد ، وما هو منه إلا في حيز يشغله جرمه . فإن قلت : هلا جمع الرعد والبرق أخذاً بالأبلغ كقول البحتري :

يَا عَارِضاً مُتَلفِّعاً بُبُرودِهِ ... يَخْتَالُ بَيْنَ بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ

وكما قيل ظلمات؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يراد العينان ، ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل يقال : رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً ، روعى حكم أصلهما بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع . والثاني : أن يراد الحدثان كأنه قيل : وإرعاد وإبراق . وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات ، لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : فيه ظلمات داجية ، ورعد قاصف ، وبرق خاطب . وجاز رجوع الضمير في يجعلون إلى أصحاب الصيب مع كونه محذوفاً قائماً مقامه الصيب ، كما قال : { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] . لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه . ألا ترى إلى حسان كيف عوّل على بقاء معناه في قوله :

يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البريص عليْهِمُ ... بَرَدَى يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

حيث ذكر يصفق؛ لأن المعنى؛ ماء بردى ، ولا محل لقوله : { يَجْعَلُونَ } لكونه مستأنفاً ، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول ، فكأن قائلاً قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : { يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم } ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل : يكاد البرق يخطف أبصارهم . فإن قلت : مرأَيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن فهلا قيل أناملهم؟ قلت : هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها ، كقوله :

{ فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيَّدِيَكُم } [ المائدة : 6 ] ، { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 6 ] أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ . وأيضاً ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل . فإن قلت : فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة ، فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت : لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن . ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة . فإن قلت : فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت : هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ، وإنما أحدثوها بعد . وقوله : { مّنَ الصواعق } متعلق بيجعلون ، أي : من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم ، كقولك : سقاه من العيمة . والصاعقة : قصفة رعد تنقض معها شقة من نار ، قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة . لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته ، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق . ومنه قوله تعالى : { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } [ الأعراف : 143 ] . وقرأ الحسن : «من الصواقع»؛ وليس بقلب للصواعق ، لأنّ كلا البنائين سواء في التصرف ، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله . ألا تراك تقول : صقعه على رأسه ، وصقع الديك ، وخطيب مصقع : مجهر بخطبته . ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف . وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد ، والتاء مبالغة كما في الراوية ، أو مصدراً كالكاذبة والعافية . وقرأ ابن أبي ليلى : حذار الموت ، وانتصب على أنه مفعول له كقوله :

وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... والموت فساد بنية الحيوان . وقيل : عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة . وإحاطة الله بالكافرين مجاز . والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة . وهذه الجملة اعتراض لا محل لها . والخطف : الأخذ بسرعة . وقرأ مجاهد «يخطف» بكسر الطاء ، والفتح أفصح وأعلى ، وعن ابن مسعود : يختطف . وعن الحسن : يخطف ، بفتح الياء والخاء ، وأصله يختطف . وعنه : يخطف ، بكسرهما على إتباع الياء الخاء . وعن زيد بن علي : يخطف ، من خطف . وعن أبيّ : «يتخطف» ، من قوله : { وتخطفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] . { كُلَّمَا أَضآءَ لَهُم } استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون ، إذا صادفوا من البرق خفقة ، مع خوف أن يخطف أبصارهم ، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ، ولو شاء الله لزاد في قصيف الرعد فأصمهم ، أو في ضوء البرق فأعماهم . وأضاء : إما متعد بمعنى : كلما نوّر لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف .

وإما غير متعد بمعنى : كلما لمع لهم { مَّشَوْاْ } في مطرح نوره وملقى ضوئه . ويعضده قراءة ابن أبي عبلة : كلما ضاء لهم والمشي : جنس الحركة المخصوصة . فإذا اشتد فهو سعي . فإذا ازداد فهو عدو . فإن قلت : كيف قيل مع الإضاءة : كلما ، ومع الإظلام : إذا؟ قلت : لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقف والتحبس . وأظلم : يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر ، وأن يكون متعدياً منقولاً من ظلم الليل . وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب : أظلم ، على ما لم يسم فاعله . وجاء في شعر حبيب بن أوس :

هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أشْيَبِ

وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه . ألا ترى إلى قول العلماء : الدليل عليه بيت الحماسة ، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه . ومعنى { قَامُواْ } وقفوا وثبتوا في مكانهم . ومنه : قامت السوق ، إذا ركدت وقام الماء : جمد . ومفعول { شَآءَ } محذوف ، لأن الجواب يدل عليه ، والمعنى : ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و«أراد» لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله :

فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ ... وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } [ الأنبياء : 17 ] { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ الزمر : 4 ] . وأراد : ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد ، وأبصارهم بوميض البرق . وقرأ ابن أبي عبلة : لأذهب بأسماعهم ، بزيادة الباء كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] . والشيء : ما صح أن يعلم ويخبر عنه . قال سيبويه في ساقة الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم من العربية : وإنما يخرج التأنيث من التذكير . ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟ ، والشيء : مذكر ، وهو أعم العام : كما أن الله أخص الخاص يجري على الجسم والعرض والقديم . تقول : شيء لا كالأشياء؛ أي معلوم لا كسائر المعلومات ، وعلى المعدوم والمحال فإن قلت : كيف قيل : { على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل وفعل قادر آخر؟ قلت : مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلاً؛ فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها ، فكأنه قيل : على كل شيء مستقيم قدير . ونظيره : فلان أمير على الناس أي على من وراءه منهم ، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس . وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه . فإن قلت : ممّ اشتقاق القدير؟ قلت : من التقدير ، لأنه يوقع فعله على مقدار قوّته واستطاعته وما يتميز به عن العاجز .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

لما عدّد الله تعالى فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين ، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم ، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ، أقبل عليهم بالخطاب ، وهو من الالتفات المذكور عند قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ } ، وهو فنّ من الكلام جزل ، فيه هزّ وتحريك من السامع ، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما : إنّ فلاناً من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث فقلت : يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك . نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه ، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ما لاً يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وبلغنا بإسناد صحيح عن إبراهيم عن علقمة : أنّ كل شيء نزل فيه : ( يا أيها الناس ) فهو مكي ، و ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو مدني ، فقوله : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) خطاب لمشركي مكة ، و«يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه . وأما نداء القريب فله أي والهمزة ، ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وإن قرب . تنزيلاً له منزلة من بعد ، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً . فإن قلت : فما بال الداعي يقول في جؤاره : يا رب ، ويا ألله ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، وأسمع به وأبصر؟ قلت : هو استقصار منه لنفسه ، واستبعاد لها من مظانّ الزلفى وما يقرّبه إلى رضوان الله ومنازل المقرّبين ، هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتفريط في جنب الله ، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن لندائه وابتهاله ، و«أي» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، كما أنّ «ذو» و«الذي» وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل . وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه ، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء ، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو «أيّ» والاسم التابع له صفته ، كقولك : يا زيد الظريف؛ إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال «زيد» فلم ينفك من الصفة . وفي هذا التدرّج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد . وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين : معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه ، ووقوعها عوضاً مما يستحقه أيّ من الإضافة . فإن قلت : لم كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلت : لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة : لأن كل ما نادى الله له عباده من أوامره ونواهيه ، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان عليهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها ، وهم عنها غافلون .

فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ . فإن قلت : لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجهاً إلى المؤمنين والكافرين جميعاً ، أو إلى كفار مكة خاصة ، على ما روي عن علقمة والحسن ، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو إلا كقول القائل :

فلَو أنِّي فعلت كُنْتُ مَنْ ... تَسْأَلُهُ وهُوَ قائمٌ أنْ يَقُوما

وأما الكفار فلا يعرفون الله ، ولا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ قلت : المراد بعبادة المؤمنين : ازديادهم منها وإقبالهم وثباتهم عليها . وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بدلها منه وهو الإقرار ، كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرهما وما لا بد للفعل منه ، فهو مندرج تحت الأمر به وإن لم يذكر ، حيث لم ينفعل إلا به ، وكان من لوازمه . على أنّ مشركي مكة كانوا يعرفون الله ويعترفون به { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] . فإن قلت : فقد جعلت قوله { اعبدوا } متناولاً شيئين معاً : الأمر بالعبادة ، والأمر بازديادها . قلت : الازدياد من العبادة عبادة وليس شيئاً آخر . فإن قلت : { رَبَّكُمُ } ما المراد به؟ قلت : كان المشركون معتقدين ربوبيتين : ربوبية الله ، وربوبية آلهتهم . فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أرباباً وكان قوله : { الذى خَلَقَكُمْ } صفة موضحة مميزة . وإن كان الخطاب للفرق جميعاً ، فالمراد به «ربكم» على الحقيقة . والذي خلقكم : صفة جرت عليه على طريق المدح والتعظيم . ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة ، إلا أن الأول أوضح وأصح . والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء . يقال : خلق النعل ، إذا قدره وسواها بالمقياس . وقرأ أبو عمرو : { خَلَقَكُمْ } بالإدغام . وقرأ ابن السميفع : وخلق من قبلكم . وفي قراءة زيد بن علي : ( والذين مِن قَبْلِكُمْ ) وهي قراءة مشكلة ، ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله :

يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أَبَالَكُمُ ... تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في : لا أبالك : ولعل للترجي أو الإشفاق . تقول : لعل زيداً يكرمني . ولعله يهينني . وقال الله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ، { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] . ألا ترى إلى قوله : { والذين ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } [ الشورى : 18 ] . وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن ، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم ، إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة ، لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به .

قال من قال : إن «لعل» بمعنى «كي» ، و«لعل» لا تكون بمعنى «كي» . ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك . وأيضاً فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا : عسى ، ولعل ، ونحوهما من الكلمات أو يخيلوا إخالة . أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة ، فإذا عثر على شيء من ذلك منهم ، لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب . فعلى مثله ورد كلام مالك الملوك ذي العز والكبرياء . أو يجيء على طريق الإطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد ، كقوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم } [ التحريم : 8 ] ، فإن قلت : ف«لعل» التي في الآية ما معناها وما موقعها؟ قلت : ليست مما ذكرناه في شيء ، لأن قوله : { خَلَقَكُمْ } ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، لا يجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب والشهادة : وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضاً . ولكن «لعل» واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة ، لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى . فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتقوا يترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ، ومصداقه قوله عز وجل : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ، [ الملك : 2 ] وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب ، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار . فإن قلت : كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون ، فكذلك خلق الذين من قبلهم لذلك ، فلم قصره عليهم دون من قبلهم؟ قلت : لم يقصره عليهم ، ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً . فإن قلت : فهلا قيل تعبدون لأجل اعبدوا؟ أو اتقوا لمكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم . قلت : ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدّي ذلك إلى تنافر النظم . وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده . فإذا قال : { اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ } للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة ، وأشدّ إلزاماً لها ، وأثبت لها في النفوس . ونحوه أن تقول لعبدك : احمل خريطة الكتب ، فما ملكتك يميني إلا لجرّ الأثقال . ولو قلت : لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه ذلك الموقع .

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلاً؛ لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه ، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه ، ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار ، ثم ما سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها . والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقاً لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبراً : ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف؛ ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئاً من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها ، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر . والموصول مع صلته إمّا أن يكون في محل النصب وصفاً كالذي خلقكم ، أو على المدح والتعظيم . وإمّا أن يكون رفعاً على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح ، وقرأ يزيد الشامي : بساطاً . وقرأ طلحة : مهادا . ومعنى جعلها فراشاً وبساطاً ومهاداً للناس : أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده . فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الأرض مسطحة وليست بكريّة؟ قلت : ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش ، وسواء كانت على شكل السطح ، أو شكر الكرة ، فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع ، لعظم حجمها واتساع جرمها وتباعد أطرافها . وإذا كان متسهلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل . والبناء مصدر سمي به المبنى بيتاً كان أو قبة أو خباء أو طرافاً وأبنية العرب : أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديداً . فإن قلت : ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت : المعنى أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادّة لها ، كماء الفحل في خلق الولد ، وهو قادر على أن ينشىء الأجناس كلها بلا أسباب ولا موادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال ، وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة حكماً ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكاراً صالحة ، وزيادة طمأنينة ، وسكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته ، ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب . و«من» في { مِنَ الثمرات } للتبعيض بشهادة قوله :

{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثمرات } [ الأعراف : 57 ] ، وقوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } [ فاطر : 27 ] . ولأنّ المنكرين أعني : ماء ، ورزقاً . يكتنفانه . وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء ، فأخرجنا به بعض الثمرات ، ليكون بعض رزقكم . وهذا هو المطابق لصحة المعنى ، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرزق كله في الثمرات . ويجوز أن تكون للبيان كقولك : أنفقت من الدراهم ألفاً . فإن قلت : فيم انتصب { رِزْقاً } ؟ قلت : إن كانت «من» للتبعيض . كان انتصابه بأنه مفعول له . وإن كانت مبنية ، كان مفعولاً لأخرج . فإن قلت : فالثمر المخرج بماء السماء كثير جمّ فلم قيل الثمرات دون الثمر والثمار؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما أن يقصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك : فلان أدركت ثمرة بستانه ، تريد ثماره . ونظيره قولهم : كلمة الحويدرة ، لقصيدته . وقولهم للقرية : المدرة ، وإنما هي مدر متلاحق . والثاني : أنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية ، كقوله : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات } [ الدخان : 25 ] و { ثلاثة قُرُوء } [ البقرة : 228 ] . ويعضد الوجه الأوّل قراءة محمد بن السميفع : من الثمرة ، على التوحيد . و { لَكُمُ } صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به ، كأنه قيل : رزقاً إياكم . فإن قلت : بم تعلق { فَلاَ تَجْعَلُواْ } ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه : أن يتعلق بالأمر . أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له { أَندَاداً } لأنّ أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا تجعل لله ندّ ولا شريك . أو بلعل ، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب ، فأطلع في قوله عز وجل : { لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى } [ غافر : 36 37 ] في رواية حفص عن عاصم ، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه ، أو بالذي جعل لكم ، إذا رفعته على الابتداء ، أي هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تتخذوا له شركاء . والند : المثل . ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء . قال جرير :

أَتَيما يَجْعَلُون إلَيَّ نِدًّا ... وما تَيْمٌ لِذِي حَسَب نَدِيدَا

وناددت الرجل : خالفته ونافرته ، من ندّ ندوداً إذا نفر . ومعنى قولهم : ليس لله ندّ ولا ضدّ نفى ما يسدّه مسدّه ، ونفى ما ينافيه . فإن قلت : كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظم به من القرب ، وما كانوا يزعمون أنها تخالف الله وتناويه . قلت : لما تقرّبوا إليها وعظموها وسموها آلهة ، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله ، قادرة على مخالفته ومضادّته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . كما تهكم بهم بلفظ الندّ ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط . وفي ذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه :

أَرَبًّا واحِداً أمْ ألْفُ رَبٍّ ... أدِينُ إذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ

وقرأ محمد بن السميفع : فلا تجعلوا لله ندا . فإن قلت : ما معنى { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } . قلت : معناه : وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد ، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال ، والإصابة في التدابير ، والدهاء والفطنة ، بمنزل لا تدفعون عنه . وهكذا كانت العرب ، خصوصاً ساكنو الحرم من قريش وكنانة ، لا يصطلي بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها . ومفعول { تَعْلَمُونَ } متروك كأنه قيل : وأنتم من أهل العلم والمعرفة . والتوبيخ فيه آكد ، أي أنتم العرّافون المميزون . ثم إنّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً ، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل . ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل . أو : وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت . أو : وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله . كقوله : { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء } [ الروم : 40 ] .

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)

لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويحققها ، ويبطل الإشراك ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك وتصحيحه ، وعرفهم أنّ من أشرك فقد كابر عقله وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرفون أهو من عند الله كما يدعي ، أم هو من عند نفسه كما يدعون . بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم أبناء جنسه وأهل جلدته . فإن قلت : لم قيل : { مِّمَّا نَزَّلْنَا } على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم ، وهو من محازه لمكان التحدي ، وذلك أنهم كانوا يقولون : لو كان هذا من عند الله مخالفاً لما يكون من عند الناس ، لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة وآيات غب آيات ، على حسب النوازل وكفاء الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر ، من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً ، وشيئاً فشيئاً حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة ، لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة ، ولا يرمي الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة ، فلو أنزل الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة : قال الله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة } [ الفرقان : 32 ] ، فقيل : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً فرداً من نجومه : سورة من أصغر السور ، أو آيات شتى مفتريات . وهذه غاية التبكيت . ومنتهى إزاحة العلل . وقرىء : «على عبادنا» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته . والسورة : الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات . وواوها إن كانت أصلاً ، فإما أن تسمى بسورة المدينة وهي حائطها ، لأنها طائفة من القرآن محدودة محوّزة على حيالها ، كالبلد المسوّر ، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد ، كاحتواء سورة المدينة على ما فيها . وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة . قال النابغة :

ولرَهْطِ حَرَّابٍ وقَدٍّ سُورَةٌ ... في المَجْدِ لَيْسَ غُرَابُهَا بمُطَارِ

لأحد معنيين ، لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء : وهي أيضاً في أنفسها مترتبة : طوال وأوساط وقصار ، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين . وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة ، فلأنها قطعة وطائفة من القرآن ، كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه . فإن قلت : ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً؟ قلت : ليست الفائدة في ذلك واحدة . ولأمر ما أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه على هذا المنهاج مسوّرة مترجمة السور . وبوّب المصنفون في كل فنّ كتبهم أبواباً موشحة الصدور بالتراجم . ومن فوائده : أنّ الجنس إذا انطوت تحته أنواع ، واشتمل على أصناف ، كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بياناً واحداً . ومنها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه ، وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله . ومثله المسافر ، إذا علم أنه قطع ميلاً ، أو طوى فرسخاً ، أو انتهى إلى رأس بريد : نفس ذلك منه ونشطه للسير . ومن ثم جزأ القرّاء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً . ومنها أن الحافظ إذا حذفه السورة ، اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة ، فيعظم عنده ما حفظه ، ويجل في نفسه ويغتبط به ، . ومنه حديث أنس رضي الله عنه :

( 23 ) «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران ، جد فينا ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل . ومنها أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض . وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم ، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع { مِّن مِّثلِهِ } متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله . والضمير لما نزلنا ، أو لعبدنا . ويجوز أن يتعلق بقوله : { فَأْتُواْ } والضمير للعبد . فإن قلت : وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت : معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم . أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك . ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج وقد قال له : لأحملنك على الأدهم : مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب . أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد . ولم يقصد أحداً يجعله مثلاً للحجاج . وردّ الضمير إلى المنزل أوجه ، لقوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } . { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ } [ هود : 11 ] ، { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] ، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب ، والكلام مع ردّ الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً . وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه ، وهو مسوق إليه ومربوط به ، فحقه أن لا يفك عنه برد الضمير إلى غيره . ألا ترى أن المعنى : وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزل من عند الله . فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله ويجانسه . وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أنّ محمداً مُنزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله . ولأنهم إذا خوطبوا جميعاً وهم الجم الغفير بأن بأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم ، كان أبلغ في التحدّي من أن يقال لهم : ليأتي واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد ، ولأنّ هذا التفسير هو الملائم لقوله : { وادعوا شُهَدَاءكُم } والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة .

ومعنى { دُونِ } أدنى مكان من الشيء . ومنه الشيء الدون ، وهو الدنيّ الحقير ، ودوّن الكتب ، إذا جمعها ، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها . يقال : هذا دون ذاك ، إذا كان أحط منه قليلاً . ودونك هذا : أصله خذه من دونك . أي من أدنى مكان منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم . ومنه قول من قال لعدوّه وقد راآه بالثناء عليه : أنا دون هذا وفوق ما في نفسك ، واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم . قال الله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين . وقال أمية :

يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِي ... أي إذا تجاوزت وقاية الله ولم تناليها لم يقك غيره . و { مِن دُونِ الله } متعلق بادعوا أو بشهداءكم . فإن علقته بشهداءكم فمعناه : ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق . أو ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى :

تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وهِيَ دُونَهُ ... أي تريك القذى قدّامها وهي قَدّام القذى ، لرقّتها وصفائها . وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن بفصاحته : غاية التهكم بهم . وادعوا شهداءكم من دون الله ، أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ، ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله . وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأنّ شهداءهم وهم مدارة القوم ، الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة والمناقلة ، تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد البين عندهم فساده واستقامة المحال الجلي في عقولهم إحالته ، وتعليقه بالدعاء في هذا الوجه جائز . وإن علقته بالدعاء فمعناه : ادعوا من دون الله شهداءكم ، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا : الله يشهد أنّ ما ندعيه حق ، كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه ، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام . وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخذالهم . وأنّ الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم : الله يشهد أنا صادقون . وقولهم هذا : تسجيل منهم على أنفسهم بتناهي العجز وسقوط القدرة . وعن بعض العرب أنه سئل عن نسبه فقال : قرشيّ والحمد لله . فقيل له : قولك «الحمد لله» في هذا المقام ريبة . أو ادعوا من دون الله شهداءكم : يعني أنّ الله شاهدكم لأنه أقرب إليكم من حبل الوريد ، وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم . والجن والإنس شاهدوكم فادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله تعالى ، لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد من شهدائكم ، فهو في معنى قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن . . . } [ الإسراء : 88 ] الآية .

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسرّه وامتياز حقه من باطله قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه ، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق؛ فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب . وفيه دليلان على إثبات النبوّة : صحة كون المتحدي به معجزاً ، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله . فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب ، فهلا جيء ب«إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك . قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمّل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام . والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به . فإن قلت : لم عبر عن الإتيان بالفعل وأي فائدة في تركه إليه؟ قلت : لأنه فعل من الأفعال . تقول : أتيت فلاناً . فيقال لك : نعم ما فعلت . والفائدة فيه أنه جار مجري الكناية التي تعطيك اختصاراً ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه . ألا ترى أنّ الرجل يقول : ضربت زيداً في موضع كذا على صفة كذا ، وشتمته ونكلت به ، ويعد كيفيات وأفعالاً ، فتقول : بئسما فعلت . ولو ذكرت ما أنبته عنه ، لطال عليك ، وكذلك لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل ، لاستطيل أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله . ولن تأتوا بسورة من مثله . فإن قلت : { وَلَن تَفْعَلُواْ } ما محلها؟ قلت : لا محل لها لأنها جملة اعتراضية . فإن قلت : ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت : «لا» و«لن» أختان في نفي المستقبل ، إلا أن في «لن» توكيداً وتشديداً . تقول لصاحبك : لا أقيم غداً ، فإن أنكر عليك قلت : لن أقيم غداً؛ كما تفعل في : أنا مقيم ، وإني مقيم ، وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه أصلها «لا أن» وعند الفراء «لا» أبدلت ألفها نوناً . وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل : حرف مقتضب لتأكيد نفي المستقبل . فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به فكان معجزة . فإن قلت : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت : إنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا ، استوجبوا العقاب بالنار؛ فقيل لهم : إن استبتم العجز فاتركوا العناد؛ فوضع { فاتقوا النار } موضعه ، لأنّ اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، من حيث أنه من نتائجه؛ لأنّ من اتقى النار ترك المعاندة . ونظيره أن يقول الملك لحشمه : إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي . يريد : فأطيعوني واتبعوا أمري ، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط . وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة . وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه وإبرازه في صورته ، مشيعاً ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها .

والوقود : ما ترفع به النار . وأمّا المصدر فمضموم ، وقد جاء فيه الفتح . قال سيبويه : وسمعنا من العرب من يقول : وقدت النار وقوداً عالياً . ثم قال : والوقود أكثر ، والوقود الحطب . وقرأ عيسى بن عمر الهمدانيّ بالضم تسمية بالمصدر ، كما يقال : فلان فخر قومه وزين بلده . ويجوز أن يكون مثل قولك : حياة المصباح السليط ، أي ليس حياته إلا به؛ فكأنّ نفس السليط حياته ، فإن قلت : صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة ، للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت : لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم : { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] فإن قلت : فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم ، وههنا معرّفة؟ قلت : تلك الآية نزلت بمكة ، فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة . ثم نزلت هذه بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أوّلاً . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } ؟ قلت : معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران ، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة ، وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أوقدت أوّلا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما يحرق ويحمي بالنار ، وبأنها لإفراط حرّها وشدّة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار ، اشتعلت وارتفع لهبها . فإن قلت : أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة ، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت : بل هي نيران شتى ، منها نار توقد بالناس والحجارة ، يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى : { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا } [ التحريم : 6 ] ، { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] ولعل لكفار الجن وشياطينهم نارا وقودها الشياطين ، كما أنّ لكفرة الإنس ناراً وقودها هم ، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب .

فإن قلت : لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً . قلت : لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا ، حيث نحتوها أصناماً وجعلوها لله أنداداً أو عبدوها من دونه : قال الله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه . فقوله : ( إنكم ما تعبدون من دون الله ) في معنى الناس والحجارة ، و ( حصب جهنم ) في معنى وقودها . ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم ، إبلاغاً في إيلامهم وإعراقاً في تحسيرهم ، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدّة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوي بها جباههم وجنوبهم . وقيل : هي حجارة الكبريت ، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل { أُعِدَّتْ } هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم . وقرأ عبد الله ، أعتدت ، من العتاد بمعنى العدة .

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط ، لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف . فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب ، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي ، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب . فإن قلت : من المأمور بقوله تعالى : { وَبَشِّرِ } ؟ قلت : يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون كل أحد . كما قال عليه الصلاة والسلام :

( 24 ) " بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة " لم يأمر بذلك واحداً بعينه . وإنما كل أحد مأمور به ، وهذا الوجه أحسن وأجزل؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به . فإن قلت : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه؛ إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق . ولك أن تقول : هو معطوف على قوله : ( فاتقوا ) كما تقول : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم . وفي قراءة زيد بن عليّ رضي الله عنه : { وَبَشِّرِ } على لفظ المبنيّ للمفعول عطفاً على ( أعدت ) . والبشارة : الإخبار مما يظهر سرور المخبر به . ومن ثم قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حرّ ، فبشروه فرادى ، عتق أوّلهم ، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين . ولو قال مكان «بشرني» أخبرني «عتقوا جميعاً ، لأنهم جميعاً أخبروه . ومنه : البشرة لظاهر الجلد . وتباشير الصبح : ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه ، كما يقول الرجل لعدوّه : أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك . ومنه قوله :

فَأعْتَبُوا بِالصَّيْلَم ... والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم

قال الحطيئة :

كيْفَ الهَجاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آل لأْمٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي

والصالحات : كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة ، واللام للجنس . فإن قلت : أي فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد ، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت : إذا دخلت على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به ، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه . وإذا دخلت على المجموع ، صلح أن يراد به جميع الجنس ، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه؛ لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية ، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه . فإن قلت : فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ قلت : الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف .

والجنة : البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه . قال زهير :

تَسقِي جَنَّةً سُحُقَا ... أي نخلاً طوالاً . والتركيب دائر على معنى الستر ، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرّة ، من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها . وسميت دار الثواب «جنة» لما فيها من الجنان . فإن قلت : الجنة مخلوقة أم لا؟ قلت : قد اختلف في ذلك . والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام ، كالنبي والرسول والكتاب ونحوها . فإن قلت : ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ، فإن قلت : أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر؛ وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت : لما جعل الثواب مستحقاً بالإيمان والعمل الصالح ، والبشارة مختصة بمن يتولاهما ، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء ، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه ، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحساناً ، واعلم بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وقال تعالى للمؤمنين : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر . فإن قلت : كيف صورة جري الأنهار من تحتها؟ قلت : كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية . وعن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود . وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة ، والأنهار في خلالها مطردة . ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء ، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً ، والسرور الأوفر مفقوداً ، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها ، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه ، ولما قدّمه على سائر نعوتها . والنهر : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر . يقال لبردى : نهر دمشق ، وللنيل : نهر مصر . واللغة العالية «النهر» بفتح الهاء . ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي كقولهم : بنو فلان يطؤهم الطريق ، وصيد عليه يومان .

فإن قلت : لم نكرت الجنات وعرّفت الأنهار . قلت : أما تنكير الجنات فقد ذكر . وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس ، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه ، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب . أو يراد أنهارها ، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] . أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } [ محمد : 15 ] الآية .

وقوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ } لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة؛ لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا ، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا ، أي أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله . فإن قلت : ما موقع من { مِن ثَمَرَةٍ } ؟ قلت : هو كقولك : كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك . فموقع { مِن ثَمَرَةٍ } موقع قولك من الرمان ، كأنه قيل : كلما رزقوا من الجنات من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقاً قالوا ذلك . فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدىء من الجنات ، والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة . وتنزيله تنزيل أن تقول : رزقني فلان ، فيقال لك : من أين؟ فتقول : من بستانه ، فيقال : من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول : من رمّان . وتحريره أن «رزقوا» جعل مطلقاً مبتدأ من ضمير الجنات ، ثم جعل مقيداً بالابتداء من ضمير الجنات ، مبتدأ من ثمرة ، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار . ووجه آخر : وهو أن يكون { مِن ثَمَرَةٍ } بياناً على منهاج قولك : رأيت منك أسداً . تريد أنت أسد . وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة . فإن قلت : كيف قيل : { هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت : معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل . وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابهاً ، وهذا كقولك : أبو يوسف أبو حنيفة ، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَأُتُواْ بِهِ } ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً؛ لأنّ قوله : { هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . ونظيره قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا }

[ النساء : 135 ] أي بجنسي الغني والفقير لدلالة قوله : غنياً أو فقيراً على الجنسين . ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد . فإن قلت : لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة ، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناساً أخر؟ قلت : لأنّ الإنسان بالمألوف آنس ، وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم معه ألف ، ورأى فيه مزية ظاهرة ، وفضيلة بينة ، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً ، أفرط ابتهاجه واغتباطه ، وطال استعجابه واستغرابه ، وتبين كنه النعمة فيه ، وتحقق مقدار الغبطة به . ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقاً ، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك ، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين . فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم ، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة ، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن . والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة ، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر ، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده ، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل ، وأظهر للمزية ، وأجلب للسرور ، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما . وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها ، دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة ، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم ، ويستدعي تبجحهم في كل أوان . عن مسروق : «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وأنهارها تجري في غير أخدود ، والعنقود أثنا عشر ذراعاً» . ويجوز أن يرجع الضمير في ( أتوا به ) إلى الرزق ، كما أن هذا إشارة إليه ، ويكون المعنى : أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه ، كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف . وعنه صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها " فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك . والتفسير الأوّل هو هو . فإن قلت : كيف موقع قوله : { وَأُتُواْ بِهِ متشابها } من نظم الكلام؟

قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل . ورأى من الرأي كذا وكان صواباً . ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير .

والمراد بتطهير الأزواج : أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة ، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس . ويجوز لمجيئه مطلقاً : أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا ، مما يكتسبن بأنفسهنّ ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشىء المفسدة ، ومن سائر عيوبهنّ ومثالهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ . فإن قلت : فهلاّ جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت : هما لغتان فصيحتان . يقال : النساء فعلن ، وهنّ فاعلات وفواعل ، والنساء فعلت ، وهي فاعلة . ومنه بيت الحماسة :

وإذَا العَذَارَى بالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ... واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ

والمعنى وجماعة أزواج مطهرة . وقرأ زيد بن علي «مطهرات» وقرأ عبيد بن عمير : { مُّطَهَّرةٌ } ، بمعنى متطهرة . وفي كلام بعض العرب : ما أحوجني إلى بيت الله . فأطهر به أطهرة . أي فأتطهر به تطهرة . فإن قلت : هلا قيل طاهرة؟ قلت : في { مُّطَهَّرةٌ } فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة ، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ . وليس ذلك إلا الله عزّ وجلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم .

والخلد : الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع . قال الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] . وقال امرؤ القيس :

ألاَ أنْعَمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي ... وهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالي

وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعيدٌ مُخَلّدٌ ... قَلِيلُ الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

سيقت هذه الآية لبيان أنَّ ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من قبل أنّ التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهّم من المشاهد . فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك . فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً إلاَّ أمراً تستدعيه حال المتمثل له وتستجرّه إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية . ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً جلياً أبلج ، كيف تمثل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى لا حال أحقر منها وأقلّ ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقلّ من الذباب وأخس قدراً ، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع ، ولم يقل للمتمثل : استحى من تمثيلها بالبعوضة ، لأنه مصيب في تمثيله ، محق في قوله . سائق للمثل على قضية مضربه ، محتذ على مثال ما يحتكمه ويستدعيه ، ولبيان أنّ المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والعمل على العدل والتسوية والنظر في الأمور بناظر العقل ، إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمرّ الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله . وأن الكفّار الذين غلبهم الجهل على عقولهم ، وغصبهم على بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم ، أوعرفوا أنه الحق إلا أنّ حبّ الرّياسة وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا ، فإذا سمعوه عاندوا وكابروا وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، وأن ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين وانهماك الفاسقين في غيّهم وضلالهم . والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام ، وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثّلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا : أجمع من ذرّة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قراد . وأصرد من جرادة ، وأضغف من فراشة . وآكل من السوس . وقالوا في البعوضة : أضعف من بعوضة ، وأعز من مخ البعوض وكلفتني مخ البعوض . ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة ، كالزوان والنخالة وحبة الخردل ، والحصاة ، والأرضة ، والدود ، والزنابير . والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغني استقامته وصحته على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معوّلاً . وعن الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله . فأنزل الله عز وجل هذه الآية .

والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم . واشتقاقه من الحياة . يقال : حيي الرجل ، كما يقال : نسي وحشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه من الانكسار والتغير ، منتكس القوّة منتقص الحياة ، كما قالوا : هلك فلان حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء . وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلاً . فإن قلت : كيف جاز وصف القديم سبحانه به ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم ، وذلك في حديث سلمان قال :

( 26 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً " قلت : هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه . وكذلك معنى قوله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها . ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة ، فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال . وهو فنّ من كلامهم بديع ، وطراز عجيب ، منه قول أبي تمام :

مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّها ... أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ المَنْزِلِ

وشهد رجل عند شريح . فقال : إنك لسبط الشهادة . فقال الرجل : إنها لم تجعد عني . فقال : لله بلادك ، وقبل شهادته . فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة . ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار . وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها . ولله درّ أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها ، لا تكاد تستغرب منها فناً إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسدّ مدارجه . وقد استعير الحياء فيما لا يصحّ فيه :

إذَا مَا اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كرَعْنَ بِسبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ

وقرأ ابن كثير في رواية شبل : «يستحي» بياء واحدة . وفيه لغتان : التعدّي بالجارّ والتعدي بنفسه . يقولون : استحييت منه واستحييته ، وهما محتملتان ههنا .

وضرب المثل : اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم . وفي الحديث :

( 27 ) " اضطرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب " و { مَّا } هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً مّا ، تريد أيّ كتاب كان . أو صلة للتأكيد ، كالتي في قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] كأنه قيل : لا يستحيي أن يضرب مثلاً حقاً أو البتة ، هذا إذا نصبت { بَعُوضَةً } فإن رفعتها فهي موصولة ، صلتها الجملة؛ لأن التقدير : هو بعوضة ، فحذف صدر الجملة كما حذف في

{ تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] ووجه آخر حسن جميل ، وهو أن تكون التي فيها معنى الاستفهام لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال : إنّ الله لا يستحيي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقّرة مثلاً ، بله البعوضة فما فوقها ، كما يقال فلان لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران . والمعنى : أن لله أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما لا يدركه لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه ، أو بالمعدوم ، كما تقول العرب : فلان أقل من لا شيء في العدد . ولقد ألم به قوله تعالى : { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ العنكبوت : 42 ] وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج ، وهو أمضغ العرب للشيح والقيصوم والمشهود له بالفصاحة . وكانوا يشبّهون به الحسن ، وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه ، وهو المطابق لفصاحته . وانتصب { بَعُوضَةً } بأنها عطف بيان لمثلا . أو مفعول ليضرب ، و { مَثَلاً } حال عن النكرة مقدمة عليه . أو انتصبا مفعولين فجرى ( ضرب ) مجرى ( جعل ) . واشتقاق البعوض من البعض وهو كالقطع كالبضع والعضب . يقال : بعضه البعوض . وأنشد :

لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبي دِثارٍ ... إذَا مَا خافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا

ومنه : بعض الشيء لأنه قطعة منه . والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت ، وكذلك الخموش { فَمَا فَوْقَهَا } فيه معنيان : أحدهما : فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً ، وهو القلّة والحقارة ، نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم : هو فوق ذاك ، تريد هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة . والثاني : فما زاد عليها في الحجم ، كأنه قصد بذلك ردّ ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، لأنهما أكبر من البعوضة . كما تقول لصاحبك وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء فقال : فلان بخل بالدرهم والدرهمين ، : هو لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان كأنك قلت : فضلاً عن الدرهم والدرهمين . ونحوه في الاحتمالين ما سمعناه في صحيح مسلم عن إبراهيم عن الأسود قال :

( 28 ) دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بمنى وهم يضحكون . فقالت : ما يضحككم؟ قالوا : فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب . فقالت : لا تضحكوا . إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت بها عنه خطيئة »

يحتمل فما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة وهي نحو نخبة النملة في قوله عليه الصلاة والسلام :

( 29 ) " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة " وهي عضتها . ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط . فإن قلت : كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت : ليس كذلك ، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد

( 30 ) ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا ، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ، ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحادّ إلا تحركها ، فإذا سكنت فالسكون يواريها ، ثم إذا لوحتَ لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها ، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر { سبحان الذى خَلَق الازواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] وأنشدت لبعضهم :

يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَها ... في ظُلْمَة اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ

وَيَرى عُرُوقَ نِيَاطِها في نَحرِها ... والمُخَّ في تِلْكَ العِظَامِ النُّحَّلِ

اغْفِرْ لِعَبْدٍ تابَ مِنْ فَرَطاتِه ... ما كانَ مِنْهُ في الزَّمانِ الاوَّلِ

{ وَأَمَّا }

حرف فيه معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء . وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد . تقول : زيد ذاهب . فإذا قصدت توكيد ذاك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت : أمّا زيد فذاهب . ولذلك قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب : وهذا التفسير مدل لفائدتين : بيان كونه توكيداً ، وأنه في معنى الشرط . ففي إيراد الجملتين مصدّرتين به وإن لم يقل : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين ، واعتداد بعلمهم أنه الحق ، ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم وعنادهم ورميهم بالكلمة الحمقاء . و { الحق } الثابت الذي لا يسوغ إنكاره . يقال : حقّ الأمر ، إذا ثبت ووجب . وحقّت كلمة ربك ، وثوب محقق : محكم النسج : و { مَاذَآ } فيه وجهان : أن يكون ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي ، فيكون كلمتين . وأن يكون «ذا» مركبة مع ( ما ) مجعولتين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة ، فهو على الوجه الأوّل مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته . وعلى الثاني منصوب المحل في حكم { مَّا } مجعولتين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة ، فهو على الوجه الأوّل مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته . وعلى الثاني منصوب المحل في حكم { مَّا } وحده لو قلت : ما أراد الله . والأصوب في جوابه أن يجيىء على الأوّل مرفوعاً ، وعلى الثاني منصوباً ، ليطابق الجواب السؤال . وقد جوّزوا عكس ذلك تقول في جواب من قال : ما رأيت؟ خير ، أي المرئي خير . وفي جواب ما الذي رأيت؟ خيراً ، أي رأيت خيراً . وقرىء قوله تعالى :

{ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ العفو } [ البقرة : 219 ] بالرفع والنصب على التقديرين . والإرادة نقيض الكراهة ، وهي مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك . وفي حدود المتكلمين : الإرادة معنى يوجب للحيّ حالاً لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه . وقد اختلفوا في إرادة الله ، فبعضهم على أنّ [ للباري ] مثل صفة المريد منا التي هي القصد ، وهو أمر زائد على كونه عالماً غير ساه . وبعضهم على أن معنى إرادته لأفعاله هو أنه فعلها وهو غير ساه ولا مكره . ومعنى إرادته لأفعال غيره أنه أمر بها . والضمير في { أَنَّهُ الحق } للمثل ، أو لأن يضرب . وفي قولهم : { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } استرذال واستحقار كما .

( 31 ) قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو بن العاص : يا عجباً لابن عمرو هذا؟ { مَثَلاً } نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث : ماذا أردت بهذا جواباً . ولمن حمل سلاحاً ردياً : كيف تنتفع بهذا سلاحاً؟ أو على الحال ، كقوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } [ الأعراف : 73 ] . وقوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدّرتين بأما ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأنّ العلم بكونه حقاً من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم ، وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطاً في ظلماتهم . فإن قلت : لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم ، { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ، { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] . «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» ، ( وجدت الناس أخبر تقله ) ؟ قلت : أهل الهدى كثير في أنفسهم ، وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال . وأيضاً فإنّ القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلّوا في الصورة ، فسمّوا ذهاباً إلى الحقيقة كثيراً :

إنَّ الكِرَام كثيرٌ في البِلادِ وإن ... قَلُّوا كَمَ غَيْرُهُمْ قَلٌّ وإنّ كَثُروا

وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب : لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم ، تسبب لضلالهم وهداهم . وعن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه وقيد ، فقال : يا أبا يحيى ، أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه فرأى سلّة . فقال : لمن هذه السلّة؟ فقال : لي ، فأمر بها تنزل ، فإذا دجاج وأخبصة ، فقال مالك : هذه وضعت القيود على رجلك . وقرأ زيد بن علي : ( يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ ) وكذلك : ( وَمَا يُضَلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقون ) . والفسق : الخروج عن القصد . قال رؤبة :

فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِها جَوَائرَا ... والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر ، وقالوا : إن أوّل من حدّ له هذا الحدّ أبو حذيفة واصل بن عطاء رضي الله عنه وعن أشياعه .

وكونه بين بين : أنّ حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين . وهو كالكافر في الذمّ واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل له شهادة . ومذهب مالك بن أنس والزيدية : أنّ الصلاة لا تجزىء خلفه . ويقال للخلفاء المردة من الكفار : الفسقة . وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله . { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان } [ الحجرات : 11 ] . يريد اللمز والتنابز { إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } [ التوبة : 67 ] .

النقض : الفسخ وفك التركيب . فإن قلت : من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة ، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين . ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة :

( 33 ) يا رسول الله ، إنّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها . فنخشى إن اللهُ عز وجل أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه ، فينّبهوا بتلك الرمزة على مكانه . ونحوه قولك : شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس ، وإذا تزوّجت امرأة فاستوثرها . لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر ، وعلى المرأة بأنها فراش .

والعهد : الموثق . وعهد إليه في كذا : إذا وصاه به ووثقه عليه . واستعهد منه : إذا اشترط عليه واستوثق منه : والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله : أحبار اليهود المتعنتون ، أو منافقوهم ، أو الكفار جميعًا . فإن قلت : فما المراد بعهد الله؟ قلت : ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم ، وهو معنى قوله تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 112 ] أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذابُعِثَ إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ، ولم يكتموا ذكره فيما تقدمه من الكتب المنزلة عليهم ، كقوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] . وقوله في الإنجيل لعيسى صلوات الله عليه : «سأنزل عليك كتاباً فيه نبأ بني إسرائيل ، وما أريته أياهم من الآيات ، وما أنعمت عليهم وما نقضوا من ميثاقهم الذي واثقوا به ، وما ضيعوا من عهده إليهم» وحسن صنعه للذين قاموا بمثياق الله تعالى وأوفوا بعهده ، ونصره إياهم ، وكيف أنزل بأسه ونقمته بالذين غدروا ونقضوا ميثاقهم ولم يوفوا بعهده ، لأنّ اليهود فعلوا باسم عيسى ما فعلوا باسم محمد صلى الله عليه وسلم من التحريف والجحود وكفروا به كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيلا هو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يبغي بعضهم على بعض ، ولا يقطعوا أرحامهم . وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الأوّل الذي أخذه على جميع ذرية آدم ، الإقرار بربوبيته وهو قوله تعالى :

{ وإذ أخذ ربك } [ الأعراف : 172 ] ، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه ، وهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } [ الأحزاب : 7 ] ، وعهد خصّ به العلماء وهو قوله : { وَإِذ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لتبيننه للناس ولا يكتمونه } [ آل عمران : 187 ] . والضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم . ويجوز أن يكون بمعنى توثقته ، كما أنّ الميعاد والميلاد ، بمعنى الوعد والولادة . ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى ، أي من بعد توثقته عليهم ، أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله . ومعنى قطعهم ما أمر الله به أو يوصل : قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين ، وقيل : قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق ، في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض . فإن قلت : ما الأمر؟ قلت : طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه . وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور؛ لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر ، تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به ، كما قيل له شأن . والشأن : الطلب والقصد . يقال : شأنت شأنه ، أي قصدت قصده { هُمُ الخاسرون } لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها .

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

معنى الهمزة التي في { كَيْفَ } مثله في قولك : أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان ، وهو الإنكار والتعجب . ونظيره قولك : أتطير بغير جناج ، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت : قولك : أتطير بغير جناح إنكار للطيران ، لأنه مستحيل بغير جناح ، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء . قلت : قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان . فإن قلت : فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه ، أو لقوة الصارف عنه ، فما تقول في { كَيْفَ } حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت : حال الشيء تابعة لذاته ، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال؛ فكان إنكار حال الكفار لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر ، وثباتها على طريق الكناية ، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ . وتحريره : أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها . وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفةٍ عند وجوده . ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني .

والواو في قوله : { وَكُنتُمْ أمواتا } للحال ، فإن قلت : فكيف صح أن يكون حالاً وهو ماض ، ولا يقال جئت وقام الأمير ، ولكن وقد قام ، إلا لأن يضمر قد؟ قلت : لم تدخل الواو على { كُنتُمْ أمواتا } وحده ، ولكن على جملة قوله : { كُنتُمْ أمواتا } إلى { تُرْجَعُونَ } ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يحاسبكم . فإن قلت : بعض القصة ماض وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت : هو العلم بالقصة ، كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها . فإن قلت : فقد آل المعنى إلى قولك : على أي حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت : قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في { كَيْفَ } الإنكار . وأنّ إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية ، فكأنه قيل : ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت : إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم ، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت : قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه ، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم . وكثير منهم علموا ثم عاندوا . والأموات : جمع ميت ، كالأقوال في جمع قَيِّل . فإن قلت : كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جماداً ، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البتى؟ قلت : بل يقال ذلك لعادم الحياة ، كقوله

{ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الفرقان : 49 ] ، { وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة } [ يس : 33 ] ، { أموات غَيْرُ أَحْيَاء } [ النحل : 21 ] . ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس ، فإن قلت : ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت : يجوز أن يراد به الإحياء في القبر : وبالرجوع : النشور . وأن يراد به النشور ، وبالرجوع : المصير إلى الجزاء . فإن قلت : لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت : لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء . والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهراً . وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور . فإن قلت : من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله ، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً ، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم . { قبلكمْ } لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم . أما الانتفاع الدنيوي فظاهر . وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها ، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف . وقد استدل بقوله : { خَلَقَ لَكُمْ } على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها . فإن قلت : هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية : جاز ذلك ، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية . و { جَمِيعاً } نصب على الحال من الموصول الثاني . والاستواء : الاعتدال والاستقامة . يقال : استوى العود وغيره ، إذا قام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً ، من غير أن يلوي على شيء . ومنه استعير قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } ، أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض ، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر . والمراد بالسماء جهات العلو ، كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق . والضمير في { فَسَوَّاهُنَّ } ضمير مبهم . و { سَبْعَ سماوات } تفسيره ، كقولهم : ربه رجلاً . وقيل : الضمير راجع إلى السماء . والسماء في معنى الجنس . وقيل : جمع سماءة ، والوجه العربي هو الأوّل . ومعنى تسويتهنّ : تعديل خلقهنّ ، وتقديمه ، وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهنّ { وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت ، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم ، فإن قلت : ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه ( ثم ) لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت : ( ثم ) ههنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السموات على خلق الأرض ، لا للتراخي في الوقت كقوله :

{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] . على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به ، لأن المعنى [ أنه ] حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر . فإن قلت : أما يناقض هذا قوله : { والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] ؟ قلت : لا؛ لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء . وأمّا دحوها فمتأخر . وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر ، عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات ، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض ، فذلك قوله : { كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] وهو الالتزاق .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

{ وَإِذْ } نصب بإضمار اذكر . ويجوز أن ينتصب بقالوا . والملائكة : جمع ملأك على الأصل ، كالشمائل في جمع شمأل . وإلحاق التاء لتأنيث الجمع . و { جَاعِلٌ } من جعل الذي له مفعولان ، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله : { فِى الارض خَلِيفَةً } فكانا مفعوليه . ومعناه مُصَيّرٌ في الأرض خليفة . والخليفة : من يخلف غيره . والمعنى خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته . فإن قلت : فهلا قيل : خلائف ، أو خلفاء؟ قلت : أريد بالخليفة آدم . واستغني بذكره عن ذكر بنيه كما استغنى بذكر أبي القبيلة في قولك : مضر وهاشم . أو أريد من يخلفكم ، أو خلفاً يخلفكم فوحد لذلك . وقرىء : «خليقة» بالقاف ويجوز أن يريد : خليفة مني ، لأنّ آدم كان خليفة الله في ارضه وكذلك كلّ نبي { إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض } [ ص : 26 ] . فإن قلت : لأي غرض أخبرهم بذلك؟ قلت : ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم . وقيل : ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم ، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة { أَتَجْعَلُ فِيهَا } تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير . فإن قلت : من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت : عرفوه بإخبار من الله ، أو من جهة اللوح ، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون ، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم ، أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة . وقرىء : «يسفُك» ، بضم الفاء . ويُسفك . ويَسفك ، من أسفك . وسفك . والواو في { وَنَحْنُ } للحال ، كما تقول : أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان . والتسبيح : تبعيد الله عن السوء ، وكذلك تقديسه ، من سبح في الأرض والماء . وقدس في الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد . و { بِحَمْدِكَ } في موضع الحال ، أي نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك؛ لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك . { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم . فإن قلت : هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت : كفى العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة ، وإن خفي عليهم وجه الحسن والحكمة . على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أَتبعه من قوله { وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا } واشتقاقهم { ءادَمَ } من الأدمة ، ومن أديم الأرض ، نحو اشتقاقهم ( يعقوب ) من العقب ، و ( إدريس ) من الدرس ، و ( إبليس ) من الإبلاس . وما آدم إلا اسم أعجمي؛ وأقرب أمره أن يكون على فاعل ، كآزر ، وعازر ، وعابر وشالخ .

وفالغ ، وأشباه ذلك { الأسمآء كُلَّهَا } أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء ، لأن الاسم لا بد له من مسمى ، وعوض منه اللام كقوله : { واشتعل الرأس } [ مريم : 4 ] . فإن قلت : هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وأن الأصل : وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت : لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات لقوله : { أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء } ، { أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم } فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء ، وأنبئهم بهم ، وجب تعليق التعليم بها . فإن قلت : فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت : أراه الأجناس التي خلقها ، وعلمه أن هذا اسمه فرس ، وهذا اسمه بعير ، وهذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أي عرض المسميات . وإنما ذكّر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم . وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت { إِن كُنتُمْ صادقين } يعني في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء إرادة للرد عليهم ، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا . فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . وقوله : { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } استحضار لقوله لهم : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح . وقرىء : «وعُلم آدم» على البناء للمفعول . وقرأ عبد الله : «عرضهن» . وقرأ أُبيّ : «عرضها» . والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها : لأن العرض لا يصح في الأسماء . وقرىء : «أنبيهم» بقلب الهمزة ياء . «وأنبهم» بحذفها والهاء مكسورة فيهما .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

السجود لله تعالى على سبيل العبادة ، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم ، وأبو يوسف وإخوته له؟ ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه . وقرأ أبو جعفر : «للملائكةُ اسجدوا» بضم التاء للاتباع . ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة ، كقولهم : «الحمد لله» . { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناء متصل ، لأنه كان جنّيّاً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم ، فغلبوا عليه في قوله : { فَسَجَدُواْ } ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم . ويجوز أن يجعل منقطعاً { أبى } امتنع مما أمر به { واستكبر } عنه { وَكَانَ مِنَ الكافرين } من جنس كفرة الجن وشياطينهم ، فلذلك أبى واستكبر كقوله : { كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } [ الكهف : 50 ] . السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار . و { أَنتَ } تأكيد للمستكن في { اسكن } ليصح العطف عليه . و { رَغَدًا } وصف للمصدر ، أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً . و { حَيْثُ } للمكان المبهم ، أي : أيّ مكان من الجنة { شِئْتُمَا } أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة ، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة ، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر ، وكانت الشجرة فيما قيل : ( الحنطة ) أو ( الكرمة ) أو ( التينة ) ، وقرىء : «ولا تِقربا» بكسر التاء . [ وهذي ] ، [ والشِّجرة ] ، بكسر الشين . [ والشيرة ] بكسر الشين والياء . وعن أبي عمرو أنه كرهها ، وقال يقرأ بها برابرة مكة وسودانها . { مِنَ الظالمين } من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله { فَتَكُونَا } جزم عطف على { تَقْرَبَا } أو نصب جواب للنهى . الضمير في { عَنْهَا } للشجرة . أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها . وتحقيقه : فأصدر الشيطان زلتهما عنها . و ( عن ) هذه ، مثلها في قوله تعالى : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } [ الكهف : 82 ] . وقوله :

يَنْهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وعَنْ شُرْبِ

وقيل : فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما ، كما تقول : زلّ عن مرتبته . وزل عنى ذاك : إذا ذهب عنك وزل من الشهر كذا . وقرىء : «فأزالهما» { مِمَّا كَانَا فِيهِ } من النعيم والكرامة . أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في ( عنها ) . وقرأ عبد الله : «فوسوس لهما الشيطان عنها» ، وهذا دليل على أن الضمير للشجرة ، لأن المعنى صدرت وسوسته عنها ، فإن قلت : كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعدما قيل له : { فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ ص : 77 ] . قلت : يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة كدخول الملائكة ، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء . وقيل : كان يدنو من السماء فيكلمهما . وقيل : قام عند الباب فنادى . وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة ، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون .

قيل : { اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وإبليس : وقيل : والحية . والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما ، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم . والدليل عليه قوله : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ طه : 123 ] ويدل على ذلك قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } . وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم . ومعنى بعضكم لبعض { لِبَعْضٍ } ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض . والهبوط : النزول إلى الأرض . { مُسْتَقَرٌّ } موضع استقرار أو استقرار { ومتاع } وتمتع بالعيش { إلى حِينٍ } يريد إلى يوم القيامة . وقيل : إلى الموت .

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها . وقرىء بنصب آدم ورفع الكلمات؛ على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به . فإن قلت : ما هنّ؟ قلت : قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا . . . } الآيه [ الأعراف : 23 ] . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : «إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة : سبحانك اللَّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى . قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى . قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم» ، واكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء ، لأنها كانت تبعاً له ، كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك . وقد ذكرها في قوله : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الاعراف : 23 ] . { فَتَابَ عَلَيْهِ } فرجع عليه بالرحمة والقبول . فإن قلت : لم كرر : { قُلْنَا اهبطوا } ؟ قلت : للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } . فإن قلت : ما جواب الشرط الأول؟ قلت : الشرط الثاني مع جوابه كقولك : إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك . والمعنى : فإما يأتينكم مني هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم؛ بدليل قوله : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } في مقابلة قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } فإن قلت : فلم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه؟ قلت : للإيذان بأنّ الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب . وأنه إن لم يبعث رسولاً ولم ينزل كتاباً ، كان الإيمان به وتوحيده واجباً؛ لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال . فإن قلت : الخطيئة التي أهبط بها آدم إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء ، وإن كانت صغيرة ، فلم جرى عليه ما جرى بسببها من نزع اللباس والإخراج من الجنة والإهباط من السماء كما فعل بإبليس ونسبته إلى الغيّ والعصيان ونسيان العهد وعدم العزيمة والحاجة إلى التوبة؟ قلت : ما كانت إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي أجل الأعمال وأعظم الطاعات . وإنما جرى عليه ما جرى ، تعظيماً للخطيئة وتفظيعاً لشأنها وتهويلاً ، ليكون ذلك لطفاً له ولذريّته في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ، والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة ، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة . وقرىء : «فمن تبع هُدَيَّ» على لغة هذيل ، «فلا خوف» بالفتح .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

{ إسراءيل } هو يعقوب عليه السلام لقب له ، ومعناه في لسانهم : صفوة الله ، وقيل : عبد الله . وهو بزنة إبراهيم وإسماعيل غير منصرف مثلهما لوجود العلمية والعجمة . وقرىء «إسرائل» و «إسرائلّ» . وذكرهم النعمة : أن لا يخلو بشكرها ، ويعتدوا بها ، ويستعظموها ، ويطيعوا مانحها . وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدّد عليهم : من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق . ومن العفو عن اتخاذ العجل ، والتوبة عليهم ، وغير ذلك ، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل . والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد جميعاً . يقال أوفيت بعهدي ، أي عاهدت عليه كقوله : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } [ التوبة : 111 ] وأوفيت بعهدك : أي بما عاهدتك عليه . ومعنى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى } وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي ، كقوله : { وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عليهالله } [ الفتح : 10 ] ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله } [ التوبة : 75 ] ، { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] ، { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم { وإياى فارهبون } فلا تنقضوا عهدي . وهو من قولك : زيداً رهبته . وهو أوكد فى إفادة الاختصاص من { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وقرىء «وأُوَفِّ» بالتشديد : أي أبالغ في الوفاء بعهدكم ، كقوله : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } [ النمل : 189 ] . ويجوز أن يريد بقوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى } ما عاهدوا عليه ووعدوه من الإيمان بنبيّ الرحمة والكتاب المعجز . ويدل عليه قوله : { وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أوّل من كفر به ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به ، أو : ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به ، كقولك : كسانا حلة ، أي كل واحد منا . وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته . ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به . وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم ، فلما بعث كان أمرهم على العكس كقوله : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } إلى قوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } [ البينة : 1-4 ] { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] . ويجوز أن يراد : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، يعني من أشرك به من أهل مكة . أي : ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً ، مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له . وقيل : الضمير في ( به ) لما معكم ، لأنهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به . والاشتراء استعارة للاستبدال كقوله تعالى : { اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] وقوله :

كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا ... وقوله :

فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَك بالجَهْلِ ... يعني ولا تستبدلوا بآياتي ثمناً وإلا فالثمن هو المشترى به . والثمن القليل الرياسة التي كانت لهم في قومهم ، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستبدلوها وهي بدل قليل ومتاع يسير بآيات الله وبالحق الذي كل كثير إليه قليل ، وكل كبير إليه حقير ، فما بال القليل الحقير . وقيل كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم ، ويهدون إليهم الهدايا ، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم ، وتسهيلهم لهم ما صعب عليه من الشرائع . وكان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا أو يحرّفوا .

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

الباء التي في { بالباطل } إن كانت صلة مثلها في قولك : لبست الشيء بالشيء خلطته به ، كان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم ، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم ، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك : كتبت بالقلم ، كان المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه { وَتَكْتُمُواْ } جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى : ولا تكتموا . أو منصوب بإضمار أن ، والواو بمعنى الجمع ، أي ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . فإن قلت : لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين متميزين حتى ينهوا عن الجمع بينهما ، لأنهم إذا لبسوا الحق بالباطل فقد كتموا الحق؟ قلت : بل هما متميزان ، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم في التوراة ما ليس منها . وكتمانهم الحق أن يقولوا : لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو حكم كذا . أو يمحوا ذلك . أو يكتبوه على خلاف ما هو عليه . وفي مصحف عبد الله . وتكتمون ، بمعنى كاتمين { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون ، وهو أقبح لهم ، لأنّ الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه { وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ واءتوا الزكاة } يعني صلاة المسلمين وزكاتهم { واركعوا مَعَ الراكعين } منهم ، لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم . وقيل : ( الركوع ) الخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين الله . ويجوز أن يراد بالركوع : الصلاة ، كما يعبر عنها بالسجود ، وأن يكون أمراً بأن تصلى مع المصلين ، يعني في الجماعة ، كأنه قيل : وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين ، لا منفردين .

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

{ أَتَأْمُرُونَ } الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم . والبرّ سعة الخير والمعروف . ومنه البر لسعته ، ويتناول كل خير . ومنه قولهم : صدقت وبررت . وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه . وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ، وإذا أتوا بصدقات ليفرّقوها خانوا فيها . وعن محمد بن واسع : بلغني أنّ ناساً من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة . قالوا : كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } وتتركونها من البر كالمنسيات { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } تبكيت مثل قوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } توبيخ عظيم بمعنى : أفلا تفطنون ، لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول لأن العقول تأباه وتدفعه . ونحوه : { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنبياء : 67 ] . { واستعينوا } على حوائجكم إلى الله { بالصبر والصلاة } أي بالجمع بينهما ، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة ، محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ، وحفظ النيات ، ودفع الوساوس ومراعاة الآداب ، والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع ، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات ، ليسأل فك الرقاب عن سخطه وعذابه . ومنه قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] أو : واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها .

( 34 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» وعن ابن عباس أنه نعى إليه أخوه «قُثَم» وهو في سفر ، فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة ، وقيل : الصبر الصوم ، لأنه حبس عن المفطرات . ومنه قيل لشهر رمضان : شهر الصبر . ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء ، وأن يستعان على البلايا بالصبر ، والالتجاء إلى الدعاء ، والابتهال إلى الله تعالى في دفعه { وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة أو للاستعانة . ويجوز أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله : { اذكروا نِعْمَتِيَ } إلى { واستعينوا } . { لَكَبِيرَةٌ } لشاقة ثقيلة من قولك : كبر عليّ هذا الأمر ، { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] . فإن قلت : ما لها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل؟ قلت : لأنهم يتوقعون ما ادّخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ }

[ البقرة : 46 ] أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ، ويطمعون فيه . وفي مصحف عبد الله : ( يعلمون ) . ومعناه : يعلمون أن لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك . ولذلك فسر ( يظنون ) بيتيقنون . وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب . كانت عليه مشقة خالصة فثقلت عليه كالمنافقين والمرائين بأعمالهم . ومثله من وعد على بعض الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله ، فتراه يزاوله برغبة ونشاط وانشراح صدر ومضاحكة لحاضريه ، كأنه يستلذ مزاولته بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة . ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 35 ) « وجعلت قرّة عيني في الصلاة »

( 36 ) وكان يقول : « يا بلال روّحنا » والخشوع . الإخبات والتطامن . ومنه : الخشعة للرملة المتطامنة . وأما الخضوع فاللين والانقياد . ومنه : خضعت بقولها إذا لينته .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

{ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ } نصب عطف على { نِعْمَتِيَ } أي اذكروا نعمتي وتفضيلي { عَلَى العالمين } على الجم الغفير من الناس ، كقوله تعالى : { بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] يقال : رأيت عالماً من الناس يراد الكثرة { يَوْمًا } يريد يوم القيامة { لاَّ تَجْزِى } لا تقضي عنها شيئًا من الحقوق . ومنه الحديث في جذعة بن نيار :

( 37 ) «تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك» و { شَيْئاً } مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر ، أي قليلاً من الجزاء ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] ومن قرأ «لا تجزىء» من أجزأ عنه إذا أغنى عنه ، فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئاً من الإجزاء . وقرأ أبو السرار الغنوي : «لا تجزي نسمة عن نسمة شيئاً» . وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ل ( يوماً ) . فإن قلت : فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلت : هو محذوف تقديره : لا تجزي فيه . ونحوه ما أنشده أبو علي :

تَرَوَّحِي أَجْدَرُ أَنْ تَقِيلِي

أي ماء أجدر بأن تقيلي فيه . ومنهم من ينزل فيقول : اتسع فيه ، فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار ثم حذف الضمير كما حذف من قوله : أم مال أصابوا . ومعنى التنكير أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئاً من الأشياء ، وهو الإقناط الكلي القطّاع للمطامع . وكذلك قوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي فدية لأنها معادلة للمفدى . ومنه الحديث :

( 38 ) " لا يقبل منه صرف ولا عدل " أي توبة ولا فدية . وقرأ قتادة : «ولا يَقْبَلُ منها شفاعةً» على بناء الفعل للفاعل وهو الله عز وجل ، ونصب الشفاعة . وقيل : كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا . فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ قلت : نعم ، لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة . فإن قلت : الضمير في { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا } إلى أي النفسين يرجع؟ قلت : إلى الثانية العاصية غير المجزى عنها ، وهي التي لا يؤخذ منها عدل . ومعنى لا يقبل منها شفاعة : إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها . ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى ، على أنه لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزئ عنها شيئاً ، ولو أعطت عدلاً عنها لم يؤخذ منها { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعني ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة والتذكير بمعنى العباد والأناسي ، كما تقول : ثلاثة أنفس .

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

أصل { ءَالِ } أهل ، ولذلك يصغر بأهيل ، فأبدلت هاؤه ألفاً . وخصّ استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم ، فلا يقال آل الإسكاف والحجام . و { فِرْعَوْنُ } علم لمن ملك العمالقة ، كقيصر : لملك الروم ، وكسرى : لملك الفرس . ولعتو الفراعنة اشتقوا : تفرعن فلان ، إذا عتا وتجبر . وفي مِلَحِ بعضهم :

قَدْ جَاءَهُ الْمُوسَى الْكَلُومُ فَزَادَ فِي ... أقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ

وقرىء : «أنْجيناكم» و«نجيتكم» { يَسُومُونَكُمْ } من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً . قال عمرو بن كلثوم :

إذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً ... أَبَيْنَا أَنْ يَقِرَّ الْخَسْفُ فِينَا

وأصله من سام السلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى يبغونكم { سُوءَ العذاب } ويريدونكم عليه . والسوء : مصدر السيىء : يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل ، يراد قبحهما . ومعنى { سُوءَ العذاب } والعذاب كله سيّىء : أشدّه وأفظعه ، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره . و { يُذَبّحُونَ } : بيان لقوله : { يَسُومُونَكُمْ } ولذلك ترك العاطف كقوله تعالى : { يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ } [ التوبة : 20 ] . وقرأ الزهري : «يذبحون» بالتخفيف كقولك : قطعت الثياب وقطعتها . وقرأ عبد الله : «يقتلون» . وإنما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه ، كما أنذر نمروذ . فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ ، وكان ما شاء الله . والبلاء المحنة إن أشير ب ( ذلكم ) إلى صنيع فرعون . والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء .

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

{ فَرَقْنَا } فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم . وقرىء : فرّقنا ، بمعنى فصلنا . يقال : فرق بين الشيئين ، وفرّق بين الأشياء؛ لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط . فإن قلت : ما معنى { بُكْمٌ } ؟ قلت : فيه أوجه : أن يراد أنهم كانوا يسلكونه ، ويتفرّق الماء عند سلوكهم ، فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما ، وأن يراد فرقناه بسببكم ، وبسبب إنجائكم ، وأن يكون في موضع الحال بمعنى فرقناه ملتبساً بكم كقوله :

تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا ... أي تدوسها ونحن راكبوها . وروى أنّ بني إسرائيل قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم؟ قال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم . فقال : اللَّهم أعني على أخلاقهم السيئة . فأوحى إليه : أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان . فصارت فيها كوى . فتراؤا وتسامعوا كلامهم { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه .

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة ، وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة . وقيل { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } لأن الشهور غررها بالليالي . وقرىء { واعدنا } لأن الله تعالى وعده الوحي ووعد المجيء للميقات إلى الطور { مِن بَعْدِهِ } من بعد مضيه إلى الطور { وَأَنتُمْ ظالمون } بإشراككم { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } حين تبتم { مِن بَعْدِ ذلك } من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } إرادة أن تشكروا النعمة في العفو عنكم .

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

{ الكتاب والفرقان } يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً ، وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل : يعني التوراة ، كقولك : رأيت الغيث والليث ، تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . ونحوه قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً } [ الأنبياء : 48 ] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكراً : أو التوراة . والبرهان : الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، وقيل الفرقان : انفراق البحر . وقيل : النصر الذي فرّق بينه وبين عدوّه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] يريد به يوم بدر . حمل قوله : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } على الظاهر وهو البخع وقيل : معناه قتل بعضهم بعضاً . وقيل : أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة . وروى أن الرجل كان يبصر ولده ، ووالده وجاره وقريبه ، فلم يمكنهم المضي لأمر الله ، فأرسل اللَّه ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، وأمروا أن يحْتبوا بأفنية بيوتهم ، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم ، وقيل لهم : اصبروا ، فلعن الله من مدّ طرفه أو حلّ حبوته أو اتقى بيد أو رجل ، فيقولون : آمين فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهارون وقالا : يا رب ، هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة . فسقطت الشفار من أيديهم ، وكانت القتلى سبعين ألفاً . فإن قلت : ما الفرق بين الفاآت؟ قلت : الأولى للتسبيب لا غير ، لأن الظلم سبب التوبة . والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم ، من قِبَلِ أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم . ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم . فيكون المعنى : فتوبوا ، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم ، والثالثة متعلقة بمحذوف ، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلق بشرط محذوف ، كأنه قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم . وإمّا أن يكون خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات . فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارؤكم . فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارىء؟ قلت : البارىء هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت { مَا ترِى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت } [ الملك : 3 ] ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر ، إلى عبادة البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة . في أمثال العرب : أبلد من ثور حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم ، حين لم يشكروا النعمة في ذلك ، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

قيل : القائلون السبعون الذين صعقوا . وقيل : قاله عشرة آلاف منهم { جَهْرَةً } عياناً . وهي مصدر من قولك : جهر بالقراءة وبالدعاء ، كأنَّ الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب مخافت بها ، وانتصابها على المصدر ، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو على الحال بمعنى ذوي جهرة . وقرىء «جهرة» بفتح الهاء ، وهي إماّ مصدر كالغلبة . وإما جمع جاهر . وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادّهم القول وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال وأن من استجاز على الله الرؤية فقد جعله من جملة الأجسام أو الأعراض ، فرادّوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان ، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل ، فسلط الله عليهم الصعقة كما سلط على أولئك القتل تسوية بين الكفرين ودلالة على عظمهما بعظم المحنة . و { الصاعقة } ما صعقهم ، أي أماتهم . قيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم . وقيل : صيحة جاءت من السماء . وقيل : أرسل الله جنوداً سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة . وموسى عليه السلام ، لم تكن صعقته موتاً ولكن غشية ، بدليل قوله : { فَلَمَّا أَفَاقَ } . والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } . وقرأ عليّ رضي الله عنه { فَأَخَذَتْكُم الصَّعْقَة } . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت . { وَظَلَّلْنَا } وجعلنا الغمام يظلكم . وذلك في التيه ، سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس؛ وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه ، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى ، وينزل عليهم { المن } وهو الترنجبين مثل الثلج . من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم { السلوى } وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه { كُلُواْ } على إرادة القول { وَمَا ظَلَمُونَا } يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا ، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة { وَمَا ظَلَمُونَا } عليه .

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

{ القرية } بيت المقدس . وقيل : أريحاء من قرى الشام ، أمروا بدخولها بعد التيه { الباب } باب القرية . وقيل : هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام . أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً . وقيل : «السجود» أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات . وقيل : طوطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوها ، ودخلوا متزحفين على أوراكهم { حِطَّةٌ } فعلة من الحط كالجلسة والركبة ، وهي خبر مبتدأ محذوف ، أي مسألتنا حطة ، أوأمرك حطة . والأصل : النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة . وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات ، كقوله :

صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلاَنَا مُبْتَلَى ... والأصل صبراً ، على : اصبر صبراً . وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب على الأصل . وقيل معناه : أمرنا حطة ، أي أن نحط في هذه القرية ونستقرّ فيها . فإن قلت : هل يجوز أن تنصب حطة في قراءة من نصبها ب ( قولوا ) ، على معنى : قولوا هذه الكلمة؟ قلت : لا يبعد . والأجود أن تنصب بإضمار فعلها ، وينتصب محل ذلك المضمر ب ( قولوا ) . وقرىء «يغفر لكم» على البناء للمفعول بالياء والتاء { وَسَنَزِيدُ المحسنين } أي من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه ، ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة . { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } أي وضعوا مكان حطة { قَوْلاً } غيرها . يعني أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار ، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ، ولم يمتثلوا أمر الله . وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاؤا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاؤا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به ، لم يؤاخذوا به . كما لو قالوا مكان حطة : نستغفرك ونتوب إليك . أو اللَّهم اعف عنا وما أشبه ذلك . وقيل : قالوا مكان حطة : حنطة . وقيل : قالوا : بالنبطية : «حطا سمقاثا» أي حنطة حمراء ، استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا . وفي تكرير { الذين ظَلَمُواْ } زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم . وقد جاء في سورة الأعراف : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف : 133 ] على الإضمار . والرجز : العذاب . وقرىء بضم الراء وروى : أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً . وقيل : سبعون ألفاً .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

عطشوا في التيه ، فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له : { اضرب بّعَصَاكَ الحجر } واللام إمّا للعهد والإشارة إلى حجر معلوم . فقد روي : أنه حجر طوري حمله معه ، وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً ، وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه ، حتى وقع إلى شعيب ، فدفعه إليه مع العصا . وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة ، ففرّ به ، فقال له جبريل : يقول لك الله تعالى : ارفع هذا الحجر ، فإنّ لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته . وإمّا للجنس ، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر . وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال : وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة . وروى أنهم قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة ، فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه . وقيل : كان يضربه بعصاه فينفجر ، ويضربه بها فييبس . فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى إليه : لا تقرع الحجارة ، وكلمها تطعك ، لعلهم يعتبرون . وقيل : كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع . وقيل : مثل رأس الإنسان . وقيل : كان من أُسِّى الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى ، وله شعبتان تتقدان في الظلمة ، وكان يحمل على حمار : { فانفجرت } ، الفاء متعلقة بمحذوف ، أي فضرب فانفجرت . أو فإن ضربت فقد انفجرت ، كما ذكرنا في قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ . وقرىء «عشرة» بكسر الشين وبفتحها وهما لغتان { كُلُّ أُنَاسٍ } كل سبط { مَّشْرَبَهُمْ } عينهم التي يشربون منها { كُلُواْ } على إرادة القول { مِن رّزْقِ الله } مما رزقكم من الطعام وهو المنّ والسلوى ومن ماء العيون . وقيل : الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب . والعثيّ : أشدّ الفساد ، فقيل لهم : لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

كانوا فلاحة فنزعوا إلى عَكَرِهم فأَجَموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء { على طَعَامٍ واحد } أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى . فإن قلت : هما طعامان فما لهم قالوا على طعام واحد؟ قلت : أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها ، قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً يراد بالوحدة نفي التبدّل والاختلاف . ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد ، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف ، ونحن قوم فِلاَحَةٍ أهل زراعات ، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول ونحو ذلك . ومعنى { يُخْرِجْ لَنَا } يظهر لنا ويوجد . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر . والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها . وقرىء «وقُثائها» بالضم . والفوم : الحنطة . ومنه فوّموا لنا ، أي : اخبزوا . وقيل : الثوم . ويدل عليه قراءة ابن مسعود : «وثومها» وهو للعدس والبصل أوفق { الذى هُوَ أدنى } الذي هو أقرب منزلة وأدون مقداراً . والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال : هو داني المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك فيقال : هو بعيد المحل وبعيد الهمة يريدون الرفعة والعلو . وقرأ زهير الفرقبي : ( أدنأ ) بالهمزة من الدناءة { اهبطوا مِصْرًا } وقرىء «اهبُطوا» بالضم : أي انحدروا إليه من التيه . يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه ، إذا خرج . وبلاد التيه : ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ، وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ . ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث ، لسكون وسطه كقوله : { وَنُوحاً وَلُوطاً } . وفيهما العجمة والتعريف ، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد ، وأن يريد مصراً من الأمصار وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش : «اهبطوا مصرَ» بغير تنوين كقوله : { ادخلوا مِصْرَ } . وقيل : هو مصرائيم فعرّب { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه . أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب ، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم ، خيفة أن تضاعف عليهم الجزية { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } من قولك : باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به ، لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه { ذلك } إشارة إلى ما تقدّم من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب ، أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وقد قتلت اليهود لعنوا شعيا وزكريا ويحيى وغيرهم ، فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت : معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا . وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلو وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به القتل عندهم . وقرأ عليّ رضي الله عنه «ويقتِّلون» بالتشديد { ذلك } تكرار للإشارة { بِمَا عَصَواْ } بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء ، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء . وقيل : هو اعتداؤهم في السبت . ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون { والذين هَادُواْ } والذين تهوّدوا . يقال : هاد يهود . وتهوّد إذا دخل في اليهودية ، وهو هائد ، والجمع هود . { والنصارى } وهو جمع نصران . يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانة ، قال : نصرانة لم تحنف . والياء في نصرانيّ للمبالغة كالتي في أحمريّ . سموا لأنهم نصروا المسيح . { والصابئين } وهو من صبأ : إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة { مَنْ ءامَنَ } من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل في ملة الإسلام دخولاً أصيلاً { وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم . فإن قلت : ما محل من آمن؟ قلت : الرفع إن جعلته مبتدأ خبره «فلهم أجرهم» والنصب إن جعلته بدلاً من اسم إنّ المعطوف عليه . فخبر إنّ في الوجه الأول الجملة كما هي وفي الثاني فلهم أجرهم . والفاء لتضمن { مَنْ } معنى الشرط .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } بالعمل على ما في التوراة { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق . وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة ، فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله ، ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا أُلقي عليكم ، حتى قبلوا . { خُذُواْ } على إرادة القول { مَا ءاتيناكم } من الكتاب { بِقُوَّةٍ } بجدّ وعزيمة { واذكروا مَا فِيهِ } واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } رجاء منكم أن تكونوا متقين ، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا . { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } بتوفيقكم للتوبة لخسرتم . وقرىء : «خذوا ما آتيتكم ، وتذكروا» و «واذكروا» و { السبت } مصدر سبتت اليهودإذا عظمت يوم السبت . وإن ناساً منهم اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد . وذلك أن الله ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرّقت . كما قال : { تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم } [ الأعراف : 163 ] فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم . { قِرَدَةً خاسئين } خبران أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء ، وهو الصغار والطرد { فَجَعَلْنَاهَا } يعني المسخة { نكالا } عبرة تنكل من اعتبر بها أي تمنعه . ومنه النكل : القيد { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } لما قبلها { وَمَا خَلْفَهَا } وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها ، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين : أو أريد بما بين يديها : ما بحضرتها من القرى والأمم . وقيل نكالاً : عقوبة منكلة لما بين يديها لأجل ما تقدّمها من ذنوبهم وما تأخر منها { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم ، أو لكل متق سمعها .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتله ابنه بنو أخيه ليرثوه ، وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطالبون بديته ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } أتجعلنا مكان هزو ، أو أهل هزو ، أو مهزواً بنا ، أو الهزو نفسه لفرط الاستهزاء { مِنَ الجاهلين } لأن الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه . وقرى «هزؤاً» بضمتين . و «هزءاً» بسكون الزاي ، نحو كفؤا وكفؤاً . وقرأ حفص : «هزواً» بالضمتين والواو وكذلك «كفواً» . والعياذ واللياذ من واد واحد .

في قراءة عبد الله : «سل لنا ربك ما هي»؟ سؤال عن حالها وصفتها . وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ، فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن الخارجة عما عليه البقر . والفارض : المسنة ، وقد فرضت فروضاً فهي فارض . قال خفاف بن ندبة :

لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتُ ضَيْفَكَ فَارِضاً ... تُسَاقُ إلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ

وكأنها سميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها . والبكر : الفتية . والعوان النصف . قال :

نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ ... وقد عوّنْت . فإن قلت : { بَيْنَ } يقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على { ذلك } قلت : لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر . فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت : جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما تقدّم ، للاختصار في الكلام ، كما جعلوا ( فعل ) نائباً عن أفعال جمة تذكر قبله : تقول للرجل : نعم ما فعلت ، وقد ذكر لك أفعالاً كثيرة وقصة طويلة ، كما تقول له : ما أحسن ذلك . وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا . قال أبو عبيدة : قلت : لرؤبة في قوله :

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وبَلَق ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

إن أردت الخطوط فقل : كأنها . وإن أردت السواد والبلق فقل : كأنهما . فقال : أردت كأن ذاك ويلك! والذي حسن منه أنّ أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة وكذلك الموصولات . ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع { مَا تُؤْمَرونَ } أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به من قوله : أمرتك الخير أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول به بالمصدر ، كضرب الأمير .

الفقوع : أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه . يقال في التوكيد : أصفر فاقع ووارس ، كما يقال أسود حالك وحانك ، وأبيض يقق ولهق . وأحمر قاني وذريحي . وأخضر ناضر ومدهامّ . وأورق خطبانيّ وأرمك ردانيّ . فإن قلت : فاقع ههنا واقع خبراً عن اللون ، فلم يقع توكيداً لصفراء قلت : لم يقع خبراً عن اللون إنما وقع توكيداً لصفراء ، إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون من سببها وملتبس بها ، فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها . فإن قلت : فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذكر اللون؟ قلت : الفائدة فيه التوكيد ، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة ، فكأنه قيل : شديدة الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جدّ جدّه ، وجنونك مجنون . وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه . وعن علي رضي الله عنه : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى : { تَسُرُّ الناظرين } وعن الحسن البصري { صَفْرآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } : سوداء شديدة السواد . ولعله مستعار من صفة الإبل؛ لأن سوادها تعلوه صفرة . وبه فسر قوله تعالى :

{ جمالات صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] . قال الأعشى :

تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ

{ مَا هِىَ } مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 39 ) " لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم " والاستقصاء شؤم . وعن بعض الخلفاء أنه كتب إلى عامله بأن يذهب إلى قوم فيقطع أشجارهم ويهدم دورهم ، فكتب إليه : بأيهما أبدأ؟ فقال : إن قلت لك بقطع الشجر سألتني : بأي نوع منها أبدأ؟ وعن عمر بن عبد العزيز : إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاة سألتني : أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت : أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت : أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني . وفي الحديث :

( 40 ) " أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسئلته " { إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا } أي إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح وقرىء : «تشّابه» ، بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين . وتشابهت ومتشابهة ومتشابه . وقرأ محمد ذو الشامة : إن الباقر يشَّابه ، بالياء والتشديد . جاء في الحديث :

( 41 ) " لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " أي : لو لم يقولوا إن شاء الله . والمعنى : إنا لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها . ، أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل { لاَّ ذَلُولٌ } صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول ، يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروث ، و ( لا ) الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي . على أنّ الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : لا ذلول ، بمعنى لا ذلول هناك : أي حيث هي ، وهو نفي لذلها؛ ولأن توصف به فيقال : هي ذلول . ونحوه قولك : مررت بقوم لا بخيل ولا جبان . أي فيهم ، أو حيث هم .

وقرىء «تُسقي» بضم التاء من أسقى { مُسَلَّمَةٌ } سلمها الله من العيوب أو معفاة من العمل سلمها أهلها منها كقوله :

أَوْ مَعْبَرَ الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلِيَّتِه ... مَا حَجَّ رَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَلاَ اعْتَمَرَا

أو مخلصة اللون ، من سلم له كذا إذا خلص له ، لم يشب صفرتها شيء من الألوان { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة ، فهى صفراء كلها حتى قرنها وظلفها . وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية ، إذا خلط بلونه لوناً آخر ، ومنه ثور موشى القوائم { جِئْتَ بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة ، وما بقي إشكال في أمرها { فَذَبَحُوهَا } أي فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها . وقوله : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم ، وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم ، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم ، وقيل : وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها . وقيل : لخوف الفضيحة في ظهور القاتل . وروي : أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عِجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللَّهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر ، وكان براً بوالديه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمّه حتى اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة . فإن قلت : كانت البقرة التي تناولها الأمر بقرة من شق البقر غير مخصوصة ، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات ، فذبحوا المخصوصة ، فما فعل الأمر الأوّل؟ قلت : رجع منسوخاً لانتقال الحكم إلى البقرة المخصوصة ، والنسخ قبل الفعل جائز . على أنّ الخطاب كان لإبهامه متناولاً لهذه البقرة الموصوفة كما تناول غيرها ، ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالاً له ، فكذلك إذا وقع عليها بعد التخصيص { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم { فادرأتم } فاختلفتم واختصمتم في شأنها ، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً ، أي يدفعه ويزحمه . أو تدافعتم ، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض ، فدفع المطروح عليه الطارح . أو لأنّ الطرح في نفسه دفع . أو دفع بعضكم بعضاً عن البراءة واتهمه { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً . فإن قلت : كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضيّ؟ قلت : وقد حكى ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ . كما حكى الحاضر في قوله : { باسط ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ( ادّارأتم ) و ( فقلنا ) والضمير في { اضربوه } إمّا أن يرجع إلى النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان ، وإمّا إلى القتيل لما دلّ عليه من قوله : ( ما كنتم تكتمون ) . { بِبَعْضِهَا } ببعض البقرة . واختلف في البعض الذي ضرب به ، فقيل : لسانها ، وقيل : فخذها اليمنى ، وقيل : عَجْبها ، وقيل : العظم الذي يلي الغضروف وهوأصل الأذن ، وقيل : الأذن ، وقيل : البضعة بين الكتفين . والمعنى : فضربوه فحيي ، فحذف ذلك لدلالة قوله : { كذلك يُحْىِ الله الموتى } . وروي : أنهم لمّا ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً ، وقال : قتلني فلان وفلان لابني عمه ، ثم سقط ميتاً ، فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك . { كذلك يُحْىِ الله الموتى } إما أن يكون خطاباً للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم : كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة { وَيُرِيكُمْ ءاياته } ودلائله على أنه قادر على كل شيء { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تعملون على قضية عقولكم . وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث . وإما أن يكون خطاباً للمنكرين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت : في الأسباب والشروط حكم وفوائد . وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرّب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم ، ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى وارتسامها على الفور ، من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البرّ بالوالدين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم كنهه ، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء ، وبيان أنّ من حق المتقرّب إلى ربه أن يتنوّق في اختيار ما يتقرّب به ، وأن يختاره فتيّ السنِّ غير قحم ولا ضرع ، حسن اللون برياً من العيوب يونق من ينظر إليه ، وأن يغالى بثمنه ، كما يروى عن عمر رضي الله عنه :

( 42 ) أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأنّ الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء ، وليعلم بما أمر من مسّ الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة . فإن قلت : فما للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ، وأن يقال : وإذا قتلتم نفساً فأدّارأتم فيها فقلنا : اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت : كل ما قصّ من قصص بني إسرائيل إنما قصّ تعديداً لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعاً لهم عليها ، ولمّا جدّد فيهم من الآيات العظام . وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين ، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك . والثانية للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى ، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : { اضربوه بِبَعْضِهَا } حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيتهِ بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة .

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

معنى { ثُمَّ قَسَتْ } استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها . و { ذلك } إشارة إلى إحياء القتيل ، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة { فَهِىَ كالحجارة } فهي في قسوتها مثل الحجارة { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } منها ، ( وأشد ) معطوف على الكاف ، إما على معنى أو مثل أشد قسوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على الحجارة ، وإمَّا على : أو هي في أنفسها أشد قسوة . والمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً . أو من عرفها شبهها بالحجارة ، أو قال : هي أقسى من الحجارة . فإن قلت : لم قيل : أشد قسوة ، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة . ووجه آخر : وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة ، كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشدّ قسوة . وقرىء : «قساوة» . وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس ، كقولك : زيد كريم وعمرو أكرم . وقوله : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة } بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة ، وتقرير لقوله : ( أو أشدّ قسوة ) . وقرىء «وإنْ» بالتخفيف . وهي ( إن ) المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة . ومنها قوله تعالى : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 33 ] . والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة . وقرأ مالك بن دينار «ينفجر» بالنون . { يَشَّقَّقُ } يتشقق . وبه قرأ الأعمش . والمعنى إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير ، ومنها ما ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضاً { يَهْبِطُ } يتردى من أعلى الجبل . وقرىء بضم الباء . والخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به . وقرىء «يعملون» بالياء والتاء ، وهو وعيد .

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

{ أَفَتَطْمَعُونَ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم ، كقوله : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] يعني اليهود ، { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ } طائفة فيمن سلف منهم { يَسْمَعُونَ كلام الله } وهو ما يتلونه من التوراة { ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ } كما حرّفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وآية الرجم ، وقيل : كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى ، ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس . وقرىء «كلم الله» { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون مفترون . والمعنى : إن كفر هؤلاء وحرّفوا فلهم سابقة في ذلك . { وَإِذَا لَقُواْ } يعني اليهود { قَالُواْ } قال منافقوهم { ءَامَنَّا } بأنكم على الحق ، وأنّ محمداً هو الرسول المبشر به { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } الذين لم ينافقوا { إلى بَعضٍ } الذين نافقوا { قَالُواْ } عاتبين عليهم { أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } بما بين لكم في التوراة من صفة محمد . أو قال المنافقون لأعقابهم يرونهم التصلب في دينهم : أتحدّثونهم ، إنكاراً عليهم أن يفتحوا عليهم شيئاً في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ } ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم به ، وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله . ألا تراك تقول : هو في كتاب الله هكذا . وهو عند الله هكذا ، بمعنى واحد . { يَعْلَمُ } جميع { مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان .

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

{ وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها . { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } التوراة { إِلاَّ أَمَانِىَّ } إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة . وقيل : إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد . قال أعرابي لابن دأب في شيء حدّث به : أهذا شيء رويته ، أم تمنيته ، أم اختلقته ، وقيل : إلا ما يقرؤون من قوله :

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... والاشتقاق من منى إذا قدّر ، لأن المتمني يقدّر في نفسه ويحزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا . وإلا أمانيّ : من الاستثناء المنقطع . وقرىء : «أماني» بالتخفيف . ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان ، ثم العوامّ الذين قلدوهم ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظنّ وهو متمكن من العلم . { يَكْتُبُونَ الكتاب } المحرّف { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيد ، وهو من محاز التأكيد ، كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه : يا هذا كتبته بيمينك هذه . { مِّمَّا يَكْسِبُونَ } من الرشا .

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

{ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } أربعين يوماً عدد أيام عبادة العجل . وعن مجاهد : كانوا يقولون : مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً . { فَلَن يُخْلِفَ الله } متعلق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده . و { أَمْ } إمّا أن تكون معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير ، لأن العلم واقع بكون أحدهما . ويجوز أن تكون منقطعة . { بلى } إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : { لَن تَمَسَّنَا النار } أي بلى تمسكم أبداً ، بدليل قوله : { هُمْ فِيهَا خالدون } . { مَن كَسَبَ سَيّئَةً } من السيئات ، يعني كبيرة من الكبائر { وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ } تلك واستولت عليه ، كما يحيط العدوّ ولم يتفص عنها بالتوبة . وقرىء : «خطاياه» و «خطيئاته» . وقيل : في الإحاطة : كان ذنبه أغلب من طاعته . وسأل رجل الحسن عن الخطيئة قال : سبحان الله : ألا أراك ذا لحية وما تدري ما الخطيئة ، انظر في المصحف فكل آية نهى فيها الله عنها وأخبرك أنه من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

{ لاَ تَعْبُدُونَ } إخبار في معنى النهي ، كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له كذا ، تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه وتنصره قراءة عبد الله وأبيّ ( اَّ تَعْبُدُواْ ) ولا بدّ من إرادة القول ، ويدل عليه أيضاً قوله { وَقُولُواْ } . وقوله : { وبالوالدين إحسانا } إمّا أن يقدّر : وتحسنون بالوالدين إحساناً . أو وأحسنوا . وقيل : هو جواب قوله : { وإذ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ } إجراء له مجرى القسم ، كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون . وقيل : معناه أن لا تعبدوا ، فلما حذفت ( أن ) رفع ، كقوله :

أَلاَ أَيُّهَذَا الزّاجِرِي أَحْضُرٌ الْوَغَى ... ويدل عليه قراءة عبد الله «أن لا تعبدوا» ويحتمل «أن لا تعبدوا» أن تكون ( أن ) فيه مفسرة ، وأن تكون أن مع الفعل بدلاً عن الميثاق ، كأنه قيل : أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم وقرىء بالتاء حكاية لما خوطبوا به ، وبالياء لأنهم غيب . { حُسْناً } قولا هو حسن في نفسه لإفراط حسنه . وقرىء «حسناً» و «حسنى» على المصدر كبشرى . { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } على طريقه الالتفات أي توليتم عن الميثاق ورفضتموه . { إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } قيل : هم الذين أسلموا منهم . { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن المواثيق ، والتولية .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

{ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ } لا يفعل ذلك بعضكم ببعض . جعل غير الرجل نفسه . إذا اتصل به أصلاً أو ديناً . وقيل : إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه ، لأنه يقتص منه . { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } عليها كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا شاهد عليها . وقيل : وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم . والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين تنزيلاً ، لتغير الصفة منزلة وتغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به . وقوله : { تَقْتُلُونَ } بيان لقوله : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } وقيل : ( هؤلاء ) موصول بمعنى الذي . وقرىء : «تظَّاهرون» بحذف التاء وإدغامها . وتتظاهرون بإثباتها وتظهرون بمعنى تتظهرون : أي تتعاونون عليهم . وقرىء : «تفدوهم» ، «وتفادوهم» . «وأسرى» ، «وأسارى» { وَهُوَ } ضمير الشأن . ويجوز أن يكون مبهماً تفسيره { إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب } أي بالفداء { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي بالقتال والإجلاء . وذلك أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس ، والنضير كانوا حلفاء الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه . فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم . فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا . والخزي : قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير . وقيل : الجزية . وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشدّ العذاب ، لأن عصيانه أشدّ . وقرىء : «يردّون» ، «ويعملون» بالياء والتاء { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ } عذاب الدنيا بنقصان الجزية ، ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم . وكذلك عذاب الآخرة .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

{ الكتاب } التوراة ، آتاه إياها جملة واحدة . ويقال : قفاه إذا أتبعه من القفا . نحو ذنبه ، من الذنب . وقفاه به : أتبعه إياه ، يعني : وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل ، كقوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون : 44 ] وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم . وقيل : { عِيسَى } بالسريانية يشوع . و { مَرْيَمَ } بمعنى الخادم . وقيل : المريم بالعربية من النساء ، كالزير من الرجال . وبه فسر قول رؤبة :

قُلْتُ لِزَيْرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... ووزن «مريم» عند النحويين «مفعل» لأن فعيلاً بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو عثير وعليب { البينات } المعجزات الواضحات والحجج . كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات . وقرىء : «وآيدناه» . ومنه : آجده بالجيم إذا قوّاه . يقال : الحمد لله الذي آجدني بعد ضعف ، وأوجدني بعد فقر . { بِرُوحِ القدس } بالروح المقدسة كما تقول : حاتم الجود ، ورجل صدق . ووصفها بالقدس كما قال : { وَرُوحٌ مّنْهُ } [ النساء : 171 ] فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة . وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب ، ولا أرحام الطوامث . وقيل : بجبريل . وقيل : بالإنجيل كما قال في القرآن : { وروحا مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره . والمعنى : ولقد آتينا يابني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ } منهم بالحق { استكبرتم } عن الإيمان به ، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم . ويجوز أن يريد : ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم . ثم وبخهم على ذلك . ودخول الفاء لعطفه على المقدّر . فإن قلت : هلا قيل وفريقاً قتلتم؟ قلت : هو على وجهين : أن تراد الحال الماضية ، لأنّ الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب ، وأن يراد : وفريقاً تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم . ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة . وقال صلى الله عليه وسلم عند موته :

( 43 ) " ما زالت أكلةُ خيبر تعادّني ، فهذا أوان قطعت أبهري " { غُلْفٌ } جمع أغلف ، أي هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن ، كقولهم : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } [ فصلت : 5 ) . ثم ردّ الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، بأن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم ، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة وتسببوا بذلك لمنع الألطاف التي تكون للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } فإيماناً قليلاً يؤمنون . وما مزيدة ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب . ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم . وقيل : «غلف» تخفيف «غلف» جمع «غلاف» ، أي قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره . وروى عن أبي عمرو : قلوبنا غلف ، بضمتين { كتاب مّنْ عِندِ الله } هو القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من كتابهم لا يخالفه . وقرىء : «مصدقاً» ، على الحال . فإن قلت : كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلت : إذا وصف النكرة تخصص فصح انتصاب الحال عنه ، وقد وصف «كتاب» بقوله : { مِنْ عِندِ الله } وجواب لما محذوف وهو نحو : كذبوا به ، واستهانوا بمجيئه ، وما أشبه ذلك { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } يستنصرون على المشركين ، إذا قاتلوهم قالوا : اللَّهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة ، ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . وقيل معنى { يَسْتَفْتِحُونَ } : يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيّاً يبعث منهم قد قرب أوانه . والسين للمبالغة ، أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم ، كالسين في استعجب واستسخر ، أو يسأل بعضهم بعضاً أن يفتح عليهم { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } من الحق { كَفَرُواْ بِهِ } بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة . { عَلَى الكافرين } أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ اللعنة لحقتهم لكفرهم . واللام للعهد . ويجوز أن تكون للجنس ويدخلوا فيه دخولاً أوّلياً .

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

«ما» نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئاً { اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } والمخصوص بالذم { أَن يَكْفُرُواْ } واشتروا بمعنى باعوا { بَغْياً } حسداً وطلباً لما ليس لهم ، وهو علة اشتروا { أَن يُنزِّلَ } لأن ينزل أو على أن ينزل ، أي حسدوه على أن ينزّل الله { مِن فَضْلِهِ } الذي هو الوحي { على مَن يَشَاء } وتقتضي حكمته وإرساله { فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، لأنهم كفروا بنبيّ الحق وبغوا عليه . وقيل : كفروا بمحمد بعد عيسى . وقيل : بعد قولهم عزيرُ ابن الله ، وقولهم : ( يد الله مغلولة ) ، وغير ذلك من أنواع كفرهم { بِمَا أنزَلَ الله } مطلق فيما أنزل الله من كل كتاب { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } مقيد بالتوراة { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } أي قالوا : ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ } منها غير مخالف له ، وفيه ردّ لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادّعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوّغ قتل الأنبياء .

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

{ وَأَنتُمْ ظالمون } يجوز أن يكون حالاً ، أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها ، وأن يكون اعتراضاً بمعنى : وأنتم قوم عادتكم الظلم . وكرّر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأول مع ما فيه من التوكيد { واسمعوا } ما أمرتم به في التوراة { قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك . فإن قلت : كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت : طابقه من حيث إنه قال لهم : { اسمعوا } وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا : { سَمِعْنَا } ولكن لا سماع طاعة { وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل } أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبيغ . وقوله : { فِى قُلُوبِهِمْ } بيان لمكان الإشراب كقوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] . { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم { بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم } بالتوراة ، لأنه ليس في التوراة عبادة العجاجيل . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب { أصلاتكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] وكذلك إضافة الإيمان إليهم وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له .

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

{ خَالِصَةً } نصب على الحال من الدار الآخرة . والمراد الجنة ، أي سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق . يعني إن صحّ قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً . و { الناس } للجنس وقيل : للعهد وهم المسلمون { فَتَمَنَّوُاْ الموت } لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب ، كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى . كان علي رضي الله عنه يطوف بين الصفين في غلالة ، فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزيّ المحاربين . فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك على الموت سقط ، أم عليه سقط الموت . وعن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة ، لا أفلح من ندم . يعني على التمني . وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه . وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحنّ إليه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 44 ) " لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي " { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بما أسلفوا من موجبات النار من الكفر بمحمد وبما جاء به ، وتحريف كتاب الله ، وسائر أنواع الكفر والعصيان . وقوله : { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله : { وَلَن تَفْعَلُواْ } فإن قلت : ما أدراك أنهم لم يتمنوا؟ قلت : لأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ ، وليس أحد منهم نقل ذلك . فإن قلت : التمني من أعمال القلوب ، وهو سر لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت : أنهم لم يتمنوا؟ قلت : ليس التمني من أعمال القلوب إنما هو قول الإنسان بلسانه : ليت لي كذا ، فإذا قاله قالوا : تمنى ، وليت : كلمة التمني ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا : قد تمنينا الموت في قلوبنا ، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك فإن قلت : لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدّقون . قلت : كم حكى عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا ، فكيف يمتنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه ، مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم ، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدّق مع احتمال أن يكون كاذباً لأنه أمر خافٍ لا سبيل إلى الاطلاع عليه { والله عَلِيمٌ بالظالمين } تهديد لهم { وَلَتَجِدَنَّهُمْ } هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين في قولهم : وجدت زيداً ذا الحفاظ ومفعولاه «هم أحرص» .

فإن قلت : لم قال : { على حياة } بالتنكير؟ قلت : لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبيّ «على الحياة» { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس . فإن قلت : ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلت : بلى ، ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد . ويجوز أن يراد : وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف لدلالة أحرص الناس عليه . وفيه توبيخ عظيم : لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم ، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ . فإن قلت : لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت : لأنهم علموا لعلمهم بحالهم أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك . وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس ، لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هو قول الأعاجم : زي هزار سال . وقيل : «ومن الذين أشركوا» كلام مبتدأ ، أي ومنهم ناس { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } على حذف الموصوف كقوله : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] والذين أشركوا على هذا مشارٌ به إلى اليهود ، لأنهم قالوا : عزير ابن الله . والضمير في { وَمَا هُوَ } لأحدهم و { أَن يُعَمَّرَ } فاعل ( بمزحزحه ) ، أي : وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره . وقيل : الضمير لما دلّ عليه ( يعمر ) من مصدره ، وأن ( يعمر ) بدل منه . ويجوز أن يكون «هو» مبهماً ، وأن «يعمر» موضحه . والزحزحة : التبعيد والإنحاء فإن قلت : يودّ أجدهم ما موقعه؟ قلت : هو بيان لزيادة حرصهم على طريق الإستئناف . فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيودّ أحدهم؟ قلت : هو حكاية لودادتهم . و «لو» في معنى التمني ، وكان القياس : لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } كقولك : حلف بالله ليفعلنّ .

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

روي :

( 45 ) أن عبد الله بن صوريا من أحبار «فدك» حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأله عمن يهبط عليه بالوحي ، فقال : جبريل ، فقال : ذاك عدوّنا ، ولو كان غيره لآمنا بك ، وقد عادانا مراراً ، وأشدّها أنه أنزل على نبينا أنّ بيت المقدس سيخربه بختنصّر ، فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكيناً ، فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه ، وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه . وقيل : أمره الله تعالى أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا .

وروي :

( 46 ) أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة ، وكان ممرّه على مدارس اليهود ، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم ، فقالوا : يا عمر ، قد أحببناك ، وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أجيئكم لحبكم ، ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأرى آثاره في كتابكم ، ثم سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإنّ ميكائيل يجيء بالخصب والسلام . فقال لهم : وما منزلتهما من الله تعالى قالوا : أقرب منزلة ، جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره . وميكائيل عدوّ لجبريل . فقال عمر : لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدّواً لله . ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد وافقك ربك يا عمر . فقال عمر : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر . وقرىء : «جبرئيل» ، بوزن قفشليل و«جبرئل» بحذف الياء ، و«جبريل» بحذف الهمزة ، و«جبريل» بوزن قنديل ، و«جبرالّ» بلام شديدة . و«جبرائيل» بوزن جبراعيل . و«جبرائل» بوزن جبراعل . ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة . وقيل معناه : عبد الله . الضمير في { نَزَّلَهُ } للقرآن . ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه ، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته { على قَلْبِكَ } أي حفظه إياك وفهمكه { بإذنالله } بتيسيره وتسهيله . فإن قلت : كان حق الكلام أن يقال : على قلبي . قلت : جاءت على حكاية كلام الله تعالى كما تكلم به ، كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي : من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزله على قلبك . فإن قلت : كيف استقام قوله : «فإنه نزله» جزاء للشرط؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدّقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم . والثاني : إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدّقاً لكتابهم وموافقاً له ، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له ، كقولك : إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه ، أُفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر ، وهو مما ذكر أنّ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات . وقرىء : «ميكال» ، بوزن قنطار . و«ميكائيل» كميكاعيل . و«ميكائل» كميكاعل . و«ميكئل» كميكعل . و«ميكئيل» كميكعيل . قال ابن جني : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه . { عَدُوٌّ للكافرين } أراد عدوّ لهم فجاء بالظاهر ، ليدل على أنّ الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر ، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً فما بال الملائكة وهم أشرف والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب .

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

{ إِلاَّ الفاسقون } إلا المتمرّدون من الكفرة . وعن الحسن : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره . وعن ابن عباس رضي الله عنه :

( 47 ) قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها فنزلت . واللام في { الفاسقون } للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب { أوَ كُلَّمَا } الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا . وقرأ أبو السَّمَّال بسكون الواو على أنّ الفاسقون بمعنى الذين فسقوا ، فكأنه قيل : وما يكفر بها إلا الذين فسقوا ، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة . وقرىء «عوهدوا وعهدوا» واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا . وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا { الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] . والنبذ الرمي بالذمام ورفضه . وقرأ عبد الله «نقضه» { فَرِيقٌ مّنْهُمُ } وقال فريق منهم ، لأنّ منهم من لم ينقض { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بالتوراة وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدّون نقض المواثيق ذنباً ولا يبالون به . { كتاب الله } يعني التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها . وقيل : كتاب الله : القرآن ، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك . يعني أن علمهم بذلك رصين ، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم ، مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه . وعن الشعبي : هو بين أيديهم يقرؤنه ، ولكنهم نبذوا العمل به . وعن سفيان : أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ، ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه .

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

{ واتبعوا } أي نبذوا كتاب الله واتبعوا { مَا تَتْلُواْ الشياطين } يعني واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها { على مُلْكِ سليمان } أي على عهد ملكه وفي زمانه . وذلك أنّ الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دوّنوها في كتب يقرؤنها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم ، وبه تسخر الأنس والجن والريح التي تجري بأمره { وَمَا كَفَرَ سليمان } تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به ، وسماه كفراً { ولكن الشياطين } هم الذين { كَفَرُواْ } باستعمال السحر وتدوينه { يُعَلّمُونَ الناس السحر } يقصدون به إغواءهم وإضلالهم { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } عطف على السحر ، أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين . وقيل : هو عطف على ما تتلو ، أي واتبعوا ما أنزل . { هاروت وماروت } عطف بيان للملكين علمان لهما ، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس . من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً :

عَرَفْتُ الشَّرَّ لاَ لَلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ ... كما ابتلى قوم طالوت بالنهر ، { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى } [ البقرة : 249 ] . وقرأ الحسن «على الملكين» بكسر اللام ، على أنّ المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل . وما يعلم الملكان أحداً حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } أي ابتلاء واختبار من الله { فَلاَ تَكْفُرْ } فلا تتعلم معتقداً أنه حق فتكفر { فَيَتَعَلَّمُونَ } الضمير لما دلّ عليه من أحد ، أي فيتعلم الناس من الملكين { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } أي علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه ، كالنفث في العقد ، ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز والخلاف ابتلاء منه ، لا أنّ السحر له أثر في نفسه بدليل قوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } لأنه ربما أحدث الله عنده فعلاً من أفعاله وربما لم يحدث { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } لأنهم يقصدون به الشر . وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرّ إلى الغواية . ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أي استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله { مَالَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } من نصيب { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوها . وقرأ الحسن : «الشياطون» . وعن بعض العرب : بستان فلان حوله بساتون . وقد ذكر وجهه فيما بعد . وقرأ الزهري «هاروتُ وماروتُ» بالرفع على : هما هاروت وماروت . وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ، ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا . وقرأ طلحة «وما يعلمان» من أعلم ، وقرىء «بين المرء» بضم الميم وكسرها مع الهمز . والمرّ بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف ، كقولهم : فرج ، وإجراء الوصل مجرى الوقف . وقرأ الأعمش : «وما هم بضاريّ» ، بطرح النون والإضافة إلى أحد والفضل بينهما بالظرف ، فإن قلت : كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن ، قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور . فإن قلت : كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه .

ج2. كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ } برسول الله والقرآن { واتقوا } الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } . وقرىء : «لَمَثْوَبَةٌ» ، كمشورة ومشورة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أنّ ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا ، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم . فإن قلت : كيف أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت : لما في ذلك من الدلالة على اثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك ، فإن قلت : فهلا قيل لمثوبة الله خير؟ قلت : لأن المعنى : لشيء من الثواب خير لهم . ويجوز أن يكون قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ } تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا . ثم ابتدىء لمثوبة من عند الله خير . كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم : راعنا يا رسول الله ، أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه . وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي «راعينا» فلما سمعوا بقول المؤمنين : راعنا . افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون به تلك المسبة ، فنهى المؤمنون عنها وأُمروا بما هو في معناها وهو { انظرنا } من نظره إذا انتظره . وقرأ أُبيّ : «انظرنا» من النظرة ، أي أمهلنا حتى نحفظ وقرأ عبد الله بن مسعود : «راعونا» ، على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع للتوقير : وقرأ الحسن : «راعناً» ، بالتنوين من الرعن وهو الهوج ، أي لا تقولوا قولاً راعنا منسوباً إلى الرعن رعينّاً ، كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم : راعينا ، وكان سبباً في السب اتصف بالرعن { واسمعوا } وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة ، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعانة وطلب المراعاة ، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا ، أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه ، تأكيداً عليهم ترك تلك الكلمة . وروي :

( 48 ) أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه . فقالوا : أولستم تقولونها فنزلت . { وللكافرين } ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه { عَذَابٌ أَلِيمٌ } من الأولى للبيان لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب ، والمشركون؛ كقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] والثانية مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة لابتداء الغاية . والخير الوحي ، وكذلك الرحمة كقوله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ ر بِكَ } [ الزخرف : 32 ] والمعنى : أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي { والله } يختصّ بالنبوة { مَن يَشَآء } ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة { والله ذُو الفضل العظيم } إشعار بأنّ إيتاء النبوّة من الفضل العظيم كقوله تعالى : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } [ الإسراء : 87 ] .

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً؟ فنزلت . وقرىء : «ما ننسخ من آية» وما نُنسخ ، بضم النون ، من أنسخ ، أو ننسأها . وقرىء : «ننسها» و«ننسها» بالتشديد ، و«تنسها» ، و«تنسها» ، على خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ عبد الله : «ما ننسك من آية أو ننسخها» وقرأ حذيفة : «ما ننسخ من آية أو ننسكها» . ونسخ الآية : إزالتها بإبدال أخرى مكانها وإنساخها : الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها . ونسؤها ، تأخيرها وإذهابها . لا إلى بدل . وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب . والمعنى أن كل آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معاً ، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل { نَأْتِ } بآية خير منها للعباد ، أي بآية العمل بها أكثر للثواب أو مثلها في ذلك { على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } فهو يملك أموركم يدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ . لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره ، وقررهم على ذلك بقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ } أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى عليه السلام من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالاً عليهم كقولهم : { اجعل لَّنَا إلها } [ الأعراف : 138 ] ، { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ، وغير ذلك { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة ، وشك فيها ، واقترح غيرها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } .

( 49 ) روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلاً ، فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد . قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ . وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله رباً ، وبمحمد نبياً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخواناً . ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : " أصبتما خيراً وأفلحتما " فنزلت . فإن قلت : بم تعلق قوله : { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بوَدَّ ، على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟ وإما أن يتعلق بحسدا ، أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل أنفسهم { فاعفوا واصفحوا } فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } الذي هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على الانتقام منهم { مّنْ خَيْرٍ } من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما { تَجِدُوهُ عِندَ الله } تجدوا ثوابه عند الله { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } عالم لا يضيع عنده عمل عامل .

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

الضمير في { وَقَالُواْ } لأهل الكتاب من اليهود والنصارى . والمعنى : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلف بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله ، وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه . ونحوه : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } [ البقرة : 135 ] ، والهود : جمع هائد ، كعائذ وعُوذ ، وبازل وبُزل . فإن قلت : كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت : حمل الاسم على لفظ «من» والخبر على معناه ، كقراءة الحسن «إلا من هو صالو الجحيم» . وقوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } [ الجن : 23 ] . وقرأ أبيّ بن كعب : «إلا من كان يهودياً أو نصرانياً» . فإن قلت : لم قيل : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } وقولهم : «لن يدخل الجنة» أمنية واحدة؟ قلت : أشير بها إلى الأماني المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم : أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم . وقوله : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } متصل بقولهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } . و { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } : اعتراض ، أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . يريد أن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل أمنيتهم هذه . والأمنية أفعولة من التمني ، مثل الأضحوكة والأعجوبة { هَاتُواْ برهانكم } هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم ، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين . وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت . و «هات» صوت بمنزلة هاء ، بمعنى أحضر { بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله { فَلَهُ أَجْرُهُ } الذي يستوجبه . فإن قلت : من ( أسلم وجهه ) كيف موقعه؟ قلت : يجوز أن يكون { بلى } ردّاً لقولهم ، ثم يقع «من أسلم» كلاماً مبتدأ ، ويكون «من» متضمناً لمعنى الشرط ، وجوابه «فله أجره» ، وأن يكون «من أسلم» فاعلاً لفعل محذوف ، أي بلى يدخلها من أسلم ، ويكون قوله «فله أجره» كلاماً معطوفاً على يدخلها من أسلم .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

{ على شَىْء } أي على شيء يصح ويعتدّ به . وهذه مبالغة عظيمة ، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء ، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه . فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده . وهذا كقولهم : أقل من لا شيء { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } الواو للحال . والكتاب للجنس أي قالوا ذلك ، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدّق للثاني شاهد بصحته ، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً { كذلك } أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج { قَالَ } الجهلة { الذين } لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم قالوا لأهل كل دين : ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم . وروى :

( 50 ) أن وفد نجران لمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل . وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة . { فالله يَحْكُمُ } بين اليهود والنصارى { يَوْمَ القيامة } بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه . وعن الحسن : حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار { أَن يُذْكَرَ } ثاني مفعولي منع . لأنك تقول : منعته كذا . ومثله { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ } [ الاسراء : 59 ] ، { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } [ الاسراء : 94 ] ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن ، ولك أن تنصبه مفعولاً له بمعنى كراهة أن يذكر ، وهو حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم ، والسبب فيه أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه ، وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا . وقيل : أراد به منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . فإن قلت : فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين . وكما قال الله عز وجل : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق { وسعى فِى خَرَابِهَا } بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان . وينبغي أن يراد ب «من» منع العموم كما أريد بمساجد الله ، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين { أولئك } المانعون { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا } أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله { إِلاَّ خَائِفِينَ } على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوّهم . وقيل : ما كان لهم في حكم الله ، يعني : أن الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخلوها إلا خائفين . روى : أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة . وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة . وقيل : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 51 ) " ألا لا يحجنّ بعد هذاالعام مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان " وقرأ أبو عبد الله : «إلا خيفاً» ، وهو مثل صيم . وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد : فجوّزه أبو حنيفة رحمه الله ، ولم يجوزه مالك ، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره . وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه ، كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الاحزاب : 53 ] { خِزْىٌ } قتلٌ وسبيٌ ، أو ذلة بضرب الجزية . وقيل : فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية .

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

{ وَلِلَّهِ المشرق والمغرب } أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } . { فَثَمَّ وَجْهُ الله } أي جهته التي أمر بها ورضيها . والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص [ إمكانها ] في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان { إِنَّ الله واسع } الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم { عَلِيمٌ } بمصالحهم . وعن ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت . وعن عطاء : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا . وقيل : معناه ( فأينما تولوا ) للدعاء والذكر ولم يرد الصلاة . وقرأ الحسن : فأينما تَولوا ، بفتح التاء من التولي يريد : فأينما توجهوا القبلة .

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

{ وَقَالُواْ } وقرىء بغير واو ، يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله والملائكة بنات الله . { سبحانه } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض } هو خالقه ومالكه ، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح { كُلٌّ لَّهُ قانتون } منقادون ، لا يمتنع شيء منه على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد . والتنوين في { كُلٌّ } عوض من المضاف إليه ، أي كل ما في السموات والأرض . ويجوز أن يراد كلّ من جعلوه لله ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم . فإن قلت : كيف جاء بما التي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركنَّ لنا . وكأنه جاء ب ( ما ) دون ( من ) تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، كقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

يقال بدع الشيء فهو بديع ، كقولك : بزع الرجل فهو بزيع . و { بَدِيعُ السماوات } من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه . وقيل : البديع بمعنى المبدع ، كما أنّ السميع في قول عمرو :

أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... بمعنى المسمع وفيه نظر { كُنْ فَيَكُونُ } من كان التامّة ، أي أحدث فيحدث . وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم ، كما لا قول في قوله :

إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحق ... وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فأنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء . أكد بهذا استبعاد الولادة لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها . وقرىء : «بديعُ السموات» مجروراً على أنه بدل من الضمير في له . وقرأ المنصور بالنصب على المدح .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

{ وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } وقال الجهلة من المشركين . وقيل من أهل الكتاب ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به . { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلّم موسى؟ استكباراً منهم وعتوّاً { أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ } جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات ، واستهانة بها { تشابهت قُلُوبُهُمْ } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى ، كقوله : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } [ الذاريات : 52 ] . { قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ } ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

{ إِنَّا أرسلناك } لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه ، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر . ولا نسألك { عَنْ أصحاب الجحيم } ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم ، كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] وقرىء : «ولا تَسْأَلْ» على النهي . روي أنه قال : ( 52 ) " ليت شعري ما فعل أبواي " . فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله . وقيل : معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول : كيف فلان؟ سائلاً عن الواقع في بلية ، فيقال لك : لا تسأل عنه . ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته ، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، و أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره ، فلا تسأل ، وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد الله : «ولن تسأَل» ، وقراءة أبيّ : «وما تسأل» .

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

كأنهم قالوا : لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا ، إقناطاً منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام ، فحكى الله عزّ وجلّ كلامهم ، ولذلك قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } على طريقة إجابتهم عن قولهم ، يعني أن هدى الله الذي هو الإسلام وهو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى ، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى ، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى . ألا ترى إلى قوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع { بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم } أي من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

{ الذين ءاتيناهم الكتاب } هم مؤمنون أهل الكتاب { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } لا يحرّفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ } بكتابهم دون المحرفين { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } من المحرفين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حيث اشتروا الضلالة بالهدى .

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

{ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } اختبره بأوامر ونواه . واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه عن اختيار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه : «إبراهيمُ ربَّه» رفع إبراهيم ونصب ربه . والمعنى : أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت : الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير ، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر . قلت : الإضمار قبل الذكر أن يقال : ابتلى ربه إبراهيم . فأما ابتلى إبراهيم ربه أو ابتلى ربه إبراهيم ، فليس واحداً منهما بإضمار قبل الذكر . أما الأوّل فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكراً ظاهراً . وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدّم في المعنى ، وليس كذلك : ابتلى ربه إبراهيم ، فإن الضمير فيه قد تقدم لفظاً ومعنى فلا سبيل إلى صحته . والمستكن { فَأَتَمَّهُنَّ } في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى : فقام بهنّ حق القيام وأدّاهنّ أحسن التأدية من غير تفريط وتوان . ونحو : { وإبراهيم الذى وفى } وفى الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً . ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] ، { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } ، { وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } . { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } فإن قلت : ما العامل في إذ؟ قلت : إما مضمر نحو : واذكر إذ ابتلى أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت ، وإما { قَالَ إِنّى جاعلك } . فإن قلت : فما موقع قال؟ قلت : هو على الأوّل استئناف ، كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : قال إني جاعلك للناس إماماً . وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها . ويجوز أن يكون بياناً لقوله : ( ابتلى ) وتفسيراً له فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده . والإسلام قبل ذلك في قوله : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } وقيل في الكلمات : هنّ خمس في الرأس : الفرق ، وقص الشارب ، والسواك ، والمضمضة والاستنشاق . وخمس في البدن : الختان ، والاستحداد ، والاستنجاء ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط . وقيل : ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً : عشر في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 122 ] ، وعشر في الأحزاب { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الاحزاب : 35 ] ، وعشر في المؤمنون ، و ( سأل سائل ) إلى قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ المعارج : 34 ] . وقيل : هي مناسك الحج ، كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ . وقيل : ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس والختان وذبح ابنه والنار والهجرة . والإمام اسم من يؤتم به على زنة الإله ، كالإزار لما يؤتزر به ، أي يأتمون بك في دينهم { وَمِن ذُرّيَتِى } عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } وقرىء : «الظالمون» ، أي من كان ظالماً من ذرّيتك .

لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم وقالوا : في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة . وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته . ولا تجب طاعته؛ ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة . وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه . وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل . فقال : ليتني مكان ابنك . وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت . وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قط . وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف الظلمة . فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم . و { البيت } اسم غالب للكعبة ، كالنجم للثريا { مَثَابَةً لّلنَّاسِ } مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أي يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم { وَأَمْناً } موضع أمن ، كقوله : { حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج . وقرىء : «مثابات» ، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم { سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } { واتخذوا } على إرادة القول ، أي وقلنا : اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه . وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( ( 53 " أنه أخذ بيد عمر فقال : هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى يريد أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه تبركاً به وتيمناً بموطىء قدم إبراهيم فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت» " وعن جابر بن عبد الله :

( 54 ) «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة ، حتى إذا فرغ ، عمد إلى مقام إبراهيم ، فصلى خلفه ركعتين ، وقرأ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وقيل : مصلى مدعى . ومقام إبراهيم : الحجر الذي فيه أثر قدميه ، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه ، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل المطلب بن أبي وداعة : هل تدري أين كان موضعه الأوّل؟ قال : نعم ، فأراه موضعه اليوم . وعن عطاء { مَّقَامِ إبراهيم } : عرفة والمزدلفة والجمار ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها . وعن النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم . وقرىء «واتخذوا» بلفظ الماضي عطفا على «جعلنا» أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذرّيته عنده قبلةً يصلون إليها { عَهِدْنَا } أمرناهما { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } بأن طهرا ، أو أي طهرا . والمعنى طهراه من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها ، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم { والعاكفين } المجاورين الذين عكفوا عنده ، أي أقاموا لا يبرحون ، أو المعتكفين . ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين في الصلاة ، كما قال : { لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] ، والمعنى : للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

أي اجعل هذا البلد أو هذا المكان { بَلَدًا آمِنًا } ذا أمن ، كقوله { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] . أو آمنا من فيه ، كقوله : ليل نائم . و { مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم } بدل من أهله ، يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة . { وَمَن كَفَرَ } عطف على من آمن كما عطف { وَمِن ذُرّيَتِى } على الكاف في جاعلك فإن قلت : لم خصّ إبراهيم صلوات الله عليه المؤمنين حتى ردّ عليه؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة فعرّف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعى ، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له . والمعنى : وأرزق من كفر فأمتعه . ويجوز أن يكون { وَمَن كَفَرَ } مبتدأ متضمناً معنى الشرط . وقوله : { فَأُمَتّعُهُ } جواباً للشرط ، أي ومن كفر فأنا أمتعه . وقرىء : «فأمتعه فأضطره» فألزه إلى عذاب النار لزّ المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه ، وقرأ أبيّ : «فنمتعه قليلاً ثم نضطره» . وقرأ يحيى بن وثاب : «فإضطره» ، بكسر الهمزة . وقرأ ابن عباس : «فأَمْتْعهُ قليلاً ثم اضطرَّه» ، على لفظ الأمر . والمراد : الدعاء من إبراهيم دعا ربّه بذلك . فإن قلت : فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟ قلت : في ( قال ) : ضمير إبراهيم ، أي قال إبراهيم بعد مسئلته اختصاص المؤمنين بالرزق : ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره . وقرأ ابن محيصن : «فأطره» ، بإدغام الضاد في الطاء كما قالوا : اطجع ، وهي لغة مرذولة ، لأنّ الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم هي فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف «ضم شفر» .

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

{ يَرْفَعُ } حكاية حال ماضية . و { القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وهي صفة غالبة ، ومعناها الثابتة . ومنه قعّدك الله ، أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك . ورفع الأساس : البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر . ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأنّ كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه . ومعنى رفع القواعد : رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات . ويجوز أن يكون المعنى : وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت أي استوطأ يعني جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء ، وروي : أنه كان مؤسساً قبل إبراهيم فبنى على الأساس . وروي : أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد : شرقي وغربي ، وقال لآدم عليه السلام : أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي ، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشياً ، وتلقته الملائكة فقالوا : بَرَّ حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور ، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرّفه جبريل مكانه . وقيل : بعث الله سحابةً أظلته : ونودي : أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص . وقيل : بناه من خمسة أجبل طورسينا ، وطورزيتا ، ولبنان ، والجودي ، وأسسه من حراء . وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء . وقيل : تمخض أبو قبيس فانشق عنه ، وقد خبىء فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من الجنة ، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسودّ . وقيل : كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة { رَبَّنَا } أي يقولان ربنا . وهذا الفعل في محل النصب على الحال ، وقد أظهره عبد الله في قراءته ، ومعناه : يرفعانها قائلين ربنا { إِنَّكَ أَنتَ السميع } لدعائنا { العليم } بضمائرنا ونياتنا . فإن قلت : هلا قيل : قواعد البيت ، وأي فرق بين العبارتين؟ قلت : في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين { مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مخلصين لك أوجهنا ، من قوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] أو مستسلمين . يقال : أسلم له وسلم واستسلم ، إذا خضع وأذعن . والمعنى : زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك . وقرىء : «مسلمين» على الجمع ، كأنهما أرادا أنفسهما وهاجر ، أو أجريا التثنية على حكم الجمع لأنها منه { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } واجعل من ذرّيتنا { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } و { مِنَ } للتبعيض أو للتبيين ، كقوله : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] . فإن قلت : لم خصّا ذرّيتهما بالدعاء؟ قلت : لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة

{ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير . ألا ترى أن المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد ، كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَرِنَا } منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرّف . ولذلك لم يتجاوز مفعولين ، أي وبصرنا متعبداتنا في الحج ، أو وعرفناها . وقيل : مذابحنا . وقرىء : ( وأرْنا ) بسكون الراء قياساً على فخذ في فخذ . وقد استرذلت ، لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها ، فإسقاطها إجحاف . وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة . وقرأ عبد الله : «وأرهم مناسكهم» . { وَتُبْ عَلَيْنَا } ما فرط منا من الصغائر أو استتاباً لذرّيتهما { وابعث فِيهِمْ } في الأمة المسلمة { رَسُولاً مّنْهُمْ } من أنفسهم . وروى أنه قيل له : قد استجيب لك وهو في آخر الزمان ، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم . قال عليه الصلاة والسلام :

( 55 ) " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى ورؤيا أمي " { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } القرآن { والحكمة } الشريعة وبيان الأحكام { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس ، كقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث } [ الاعراف : 157 ] .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

{ وَمَن يَرْغَبُ } إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم . و { مَن سَفِهَ } في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب ، وصحّ البدل لأنّ من يرغب غير موجب ، كقولك : هل جاءك أحد إلا زيد { سَفِهَ نَفْسَهُ } امتهنها واستخف بها . وأصل السفه : الخفة . ومنه زمام سفيه . وقيل : انتصاب النفس على التمييز ، نحو : غبن رأيه وألم رأسه . ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله :

وَلاَ بِفَزَارَةَ الشُّعُرِ الرِّقَابَا ... أجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ ... وقيل معناه : سفه في نفسه ، فحذف الجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني . والوجه هو الأوّل . وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث :

( 56 ) « الكبر أن تَسَفِّهَ الحق وتغمص الناس » وذلك أنه إذا رغب عمَّا لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها ، حيث خالف بها كل نفس عاقبة { وَلَقَدِ اصطفيناه } بيان لخطأِ رأي من رغب عن ملته ، لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين ، بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا وكان مشهوداً له بالاستقامة على الخير في الآخرة ، لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه { إِذْ قَالَ } ظرف لاصطفيناه ، أي : اخترناه في ذلك الوقت . أو انتصب بإضمار ( اذكر ) استشهاداً على ما ذكر من حاله . كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله . ومعنى قال له : أسلم ، أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام . و { قَالَ أَسْلَمْتُ } أي فنظر وعرف ، وقيل : أسلمْ : أي أَذعنْ وأَطعْ . وروي : أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أنّ الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون . فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم ، فنزلت .

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

قرىء : ( وأوصى ) ، وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام . والضمير في { بِهَآ } لقوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين } على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله : { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } [ الزخرف : 26-27 ] وقوله : ( كلمة باقية ) . دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة { وَيَعْقُوبُ } عطف على إبراهيم ، داخل في حكمه . والمعنى : ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً . وقرىء : «ويعقوب» ، بالنصب عطفاً على بنيه . ومعناه ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب { أَوْ يا بني } على إضمار القول عند البصريين . وعند الكوفيين يتعلق بوصى ، لأنه في معنى القول . ونحوه قول القائل :

رَجْلاَنِ مِنْ ضَبَّةَ أخْبَرَانَا ... إنّا رَأَيْنَا رَجُلاً عُرْيَانَا

بكسر الهمزة : فهو بتقدير القول عندنا . وعندهم يتعلق بفعل الإخبار . وفي قراءة أبيّ وابن مسعود : «أن يا بنيَّ» { اصطفى لَكُمُ الدين } أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام . ووفقكم للأخذ به { فَلاَ تَمُوتُنَّ } معناه فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، كقولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته . فإن قلت : فأي نكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة وليس بمنهى عنها؟ قلت : النكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ، فكأنه قال : أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة . ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام :

( 57 ) " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد : لا تصلِّ إلا في المسجد : وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم . وتقول في الأمر أيضاً : مت وأنت شهيد . وليس مرادك الأمر بالموت . ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات؛ وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته ، وإظهاراً لفضلها على غيرها ، وأنها حقيقة بأن يحث عليها .

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار . والشهداء جمع شهيد ، بمعنى الحاضر : أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت ، أي حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي . وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبيٌ إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية . فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : ( أم كنتم شهداء ) ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية؟ { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت } يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، وقد علمتم ذلك ، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ وقرىء «حَضِرَ» بكسر الضاد وهي لغة . { مَا تَعْبُدُونَ } أي شيء تعبدون؟ و { مَا } عامّ في كل شيء فإذا علم فرق بما ومن ، وكفاك دليلاً قول العلماء ( من ) لما يعقل . ولو قيل : من تعبدون ، لم يعم إلا أولي العلم وحدهم . ويجوز أن يقال : { مَا تَعْبُدُونَ } سؤال عن صفة المعبود . كما تقول : ما زيد؟ تريد : أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات؟ و { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } عطف بيان لآبائك . وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه ، لأنّ العمّ أب والخالة أمّ ، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما . ومنه قوله عليهالصلاة و السلام :

( 58 ) " عمّ الرجل صنو أبيه " أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وقال عليه الصلاة والسلام في العباس :

( 59 ) " هذا بقية آبائي " وقال :

( 60 ) " ردّوا عليّ أبي ، فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود " وقرأ أبيّ : و«إله إبراهيم» ، بطرح آبائك . وقرىء : «أبيك» . وفيه وجهان : أن يكون واحداً وإبراهيم وحده عطف بيان له ، وأن يكون جمعاً بالواو والنون . قال :

وَفَدَّيْنَنَا بالأَبِينَا ... { إلها واحدا } بدل من إله آبائك ، كقوله تعالى : { بالناصية نَاصِيَةٍ كاذبة } [ العلق : 15 16 ] أو على الاختصاص ، أي نريد بإله آبائك إلها واحداً { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } حال من فاعل نعبد ، أو من مفعوله ، لرجوع الهاء إليه في له . ويجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد ، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون .

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

{ تِلْكَ } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون . والمعنى : أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً ، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم . وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم . ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 61 ) « يا بني هاشم ، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم » ، { وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولا تؤاخذون بسيآتهم كما لا تنفعكم حسناتهم .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

{ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم } بل تكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدّي بن حاتم :

( 62 ) ( إني من دين ) يريد من أهل دين . وقيل : بل نتبع ملة إبراهيم . وقرىء : ( مِلّةُ إبراهيم ) بالرفع ، أي ملته ملتنا ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته . و { حَنِيفاً } حال من المضاف إليه ، كقولك : رأيت وجه هند قائمة . والحنيف : المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق . والحنف : الميل في القدمين . وتحنف إذا مال . وأنشد :

وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ... حَنِيفاً دِينُنَا عَنْ كُلّ دِينِ

{ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلا منهم يدّعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك .

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

{ وَقُولُواْ } خطاب للمؤمنين . ويجوز أن يكون خطابً للكافرين ، أي وقولوا لتكونوا على الحق ، وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله : { بَلْ مِلَّةَ إبراهم } يجوز أن يكون على : بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته . والسبط : الحافد . وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَالاسْبَاطِ } حفدة يعقوب ذراريّ أبنائه الاثني عشر { لا نفرق بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى . و { أَحَدٍ } في معنى الجماعة . ولذلك صحّ دخول { بَيْنَ } عليه . { بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 185 ] فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير ، أي : فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا . وفيه أنّ دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال . ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك . ولكنك تريد تبكيت صاحبك ، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه . ويجوز أن لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة ، كقولك : كتبت بالقلم ، وعملت بالقدوم أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «بما آمنتم به» وقرأ أبيّ : «بالذي آمنتم به» { وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ } عما تقولون لهم ولم ينصفوا فما هم إلا { فِى شِقَاقٍ } أي في مناوأة ومعاندة لا غير ، وليسوا من طلب الحق في شيء . أو : وإن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير . ومعنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين { وَهُوَ السميع العليم } وعيد لهم ، أي يسمع ما ينطقون به ، ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه . أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى : يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق ، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

{ صِبْغَةَ الله } مصدر مؤكد منتصب على قوله : { آمنا بالله } كما انتصب { وَعَدَ الله } عما تقدمه ، وهي ( فعلة ) من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى : تطهير الله ، لأن الإيمان يطهر النفوس . والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : { قُولُواْ ءامَنَّا بالله } وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا . أو يقول المسلمون . صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم . وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة ، كما تقول لمن يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلاً يصطنع الكرم { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } يعني أنه يصبغ عباده بالإيمان . ويطهرهم به من أوضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته . وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ عابدون } عطف على { آمنا بالله } . وهذا العطف يردّ قول من زعم أن { صِبْغَةَ الله } بدل من { مِلَّةِ إبراهيم } أو نصب على الإغراء بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه ، وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام .

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

قرأ زيد بن ثابت «اتحاجُّونَّا» بإدغام النون . والمعنى : اتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوة منا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } نشترك جميعاً في أننا عباده ، وهو ربنا ، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده ، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة { وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } يعني أن العمل هو أساس الأمر وبه العبرة ، وكما أن لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك . ثم قال : { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } فجاء بما هو سبب الكرامة ، أي ونحن له موحدون نخلصه بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة ، وكانوا يقولون : نحن أحقّ بأن تكون النبوَّة فينا ، لأنا أهل كتاب والعرب عبدة أوثان { أَمْ تَقُولُونَ } يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون أم معادلة للهمزة في { أَتُحَاجُّونَنَا } بمعنى أيّ الأمرين تأتون : المحاجة في حكمة الله أم ادّعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معاً ، وأن تكون منقطعة بمعنى : بل أتقولون ، والهمزة للإنكار أيضاً ، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة { قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } يعني أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } [ آل عمران : 67 ] . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله } أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية . ويحتمل معنيين : أحدهما أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ، لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها . والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها . وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته . ( ومن ) في قوله : { شهادة عِندَهُ مِنَ الله } مثلها في قولك : هذه شهادة مني لفلان إذا شهدت له ، ومثله { بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] .

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

{ سَيَقُولُ السفهاء } الخفاف الأحلام وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة ، وأنهم لا يرون النسخ . وقيل : المنافقون ، لحرصهم على الطعن والاستهزاء . وقيل : المشركون ، قالوا : رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها ، والله ليرجعن إلى دينهم . فإن قلت : أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه أشدّ ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدّمه من توطين النفس ، وأنّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه ، وقبل الرمي يراش السهم { مَا ولاهم } ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ } وهي بيت المقدس { لّلَّهِ المشرق والمغرب } أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها { يَهْدِى مَن يَشَآءُ } من أهلها { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة ، من توجيههم تارة إلى بيت المقدس ، وأخرى إلى الكعبة { وكذلك جعلناكم } ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم { أُمَّةً وَسَطًا } خياراً ، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء . ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . ونحوه قوله عليه السلام : (

( 63 « وأنطوا الثبجة » يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفاً بالثَّج وهو : وسط الظهر ، إلا أنه ألحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف . وقيل : للخيار : وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأعوار والأوساط محمية محوّطة . ومنه قول الطائي :

كَانَتْ هِيَ الْوَسَط المَحْمِيَّ فَاكْتَنفَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا

وقد اكتريت بمكة جمل أعرابي للحج فقال : أعطني من سطاتهنه ، أراد من خيار الدنانير . أو عدولاً ، لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } روي :

( 64 ) ( أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ) وذلك قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .

فإن قلت : فهلا قيل لكم شهيداً وشهادته لهم لا عليهم . قلت : لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له ، جيء بكلمة الاستعلاء . ومنه قوله تعالى : { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } [ المجادلة : 7 ] ، { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } [ المائدة : 17 ] . وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } يزكيكم ويعلم بعدالتكم ، فإن قلت : لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدّمت آخراً؟ قلت : لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم { التى كُنتَ عَلَيْهَا } ليست بصفة للقبلة إنما هي ثاني مفعولي جعل . يريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة فيقول : وما جعلنا القبلة التي تجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلاً بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء { لَنَعْلَمُ } الثابت على الإسلام الصادق فيه ، ممن هو على حرف ينكُص { على عَقِبَيْهِ } لقلقه فيرتدّ كقوله : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية . ويجوز أن يكون بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلته . يعني أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض . وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس ، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه . وعن ابن عباس رضي الله عنه :

( 65 ) ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه ) فإن قلت : كيف قال { لِنَعْلَمَ } ولم يزل عالماً بذلك؟ قلت : معناه : لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً ونحوه : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ التوبة : 16 ] . وقيل : ليعلم رسول الله والمؤمنون . وإنَما أسند علمهم إلى ذاته ، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده . وقيل : معناه لنميز التابع من الناكص ، كما قال : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } [ الأنفال : 37 ] فوضع العلم موضع التمييز لأنّ العلم به يقع التمييز به { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } هي إن المخففة التي تلزمها اللام الفارقة . والضمير في { كَانَتْ } لما دلّ عليه قوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } من الردّة ، أو التحويلة ، أو الجعلة . ويجوز أن يكون للقبلة { لَكَبِيرَةٌ } لثقيلة شاقة { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول الذين لطف الله بهم وكانوا أهلاً للطفه { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان وأنكم لم تزلّوا ولم ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم . ويجوز أن يراد : وما كان الله ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم . وقيل : من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة . عن ابن عباس رضي الله عنه :

( 66 ) لما وجه رسول الله إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت .

{ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم . ويحكى عن الحجاج أنه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب ، فقرأ قوله : { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ثم قال : وعليٌّ منهم ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته ، وأقرب الناس إليه ، وأحبهم . وقرىء : «إلا لِيُعْلِمَ» على البناء للمفعول . ومعنى العلم : المعرفة . ويجوز أن تكون ( من ) متضمنة لمعنى الاستفهام معلقاً عنها العلم ، كقولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو . وقرأ ابن أبي إسحاق «على عقبيه» بسكون القاف . وقرأ اليزيدي «لكبيرة» بالرفع . ووجهها أن تكون ( كان ) مزيدة ، كما في قوله :

وَجِيْرَانٍ لَنَا كانُوا كِرَامِ

والأصل : وإن هي لكبيرةٌ كقولك : إن زيد لمنطلق ثم وإن كانت لكبيرة وقرىء : «ليضيع» بالتشديد .

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

{ قَدْ نرى } ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله :

قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّاً أنَامِلُهُ ... { تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل { فَلَنُوَلّيَنَّكَ } فلنعطينّك ولنمكننك من استقبالها ، من قولك : وليته كذا . إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس { تَرْضَاهَا } تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته { شَطْرَ المسجد الحرام } نحوه . قال :

وَأَظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ ... وقرأ أبيّ : «تلقاء المسجد الحرام» . وعن البراء بن عازب :

( 67 ) قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة وقيل :

( 68 ) كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب ، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، فسمى المسجد مسجد القبلتين . و { شَطْرَ المسجد } نصب على الظرف ، أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد . وذكر المسجد الحرام دون الكعبة : دليل في أنّ الواجب مراعاة الجهة دون العين { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق } أن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله أنه يصلّي إلى القبلتين { يَعْمَلُونَ } قرىء بالياء والتاء { مَّا تَبِعُواْ } جواب القسم المحذوف سدّ مسدّ جواب الشرط . { بِكُلّ ءايَةٍ } بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ، ما تبعوا { قِبْلَتَكَ } لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة ، إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } حسم لأطماعهم إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم . وقرىء : «بتابع قبلتهم» على الإضافة { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم ، كما لا ترجى موافقتهم لك . وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس . أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه ، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان ، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده . وقوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله { وما أنت بتابع قبلتهم } كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ، بمعنى : ولئن اتبعتم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر { إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين } المرتكبين الظلم الفاحش . وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير . واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق . فإن قلت : كيف قال : ( وما أنت بتابع قبلتهم ) ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت : كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق ، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

{ يَعْرِفُونَهُ } يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني . قال : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي . فأما ولدي ، فلعل والدته خانت ، فقبل عمر رأسه . وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع . ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوماً بغير إعلام . وقيل : الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة . وقوله : ( كما يعرفون أبناءهم ) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام . فإن قلت : لم اختص الأبناء؟ قلت : لأنّ الذكور أشهر وأعرف ، وهم لصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق . وقال { فريقاً منهم } استثناء لمن آمن منهم ، أو لجهالهم الذين [ قال الله تعالى فيهم ] { وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } [ البقرة : 78 ] . { الحق مِن رَّبّكَ } يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف . أي هو الحق . أو مبتدأ خبره ( من ربك ) وفيه وجهان : أن تكون اللام للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الحق الذي في قوله ليكتمون الحق . أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل . فإن قلت : إذا جعلت الحق خبر مبتدأ فما محل من ربك؟ قلت : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون حالاً . وقرأ عليّ رضي الله عنه : «الحق من ربك» . على الإبدال من الأوّل ، أي يكتمون الحق ، الحق من ربك ، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أوفي أنه من ربك { وَلِكُلٍ } من أهل الأديان المختلفة { وِجْهَةٌ } قبلة . وفي قراءة أبيّ : «ولكل قبلة» { هُوَ مُوَلّيهَا } وجهه ، فحذف أحد المفعولين . وقيل هو لله تعالى ، أي الله موليها إياه . وقرىء : «ولكل وجهة» على الإضافة . والمعنى وكل وجهةٍ اللَّهُ موليها ، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك : لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه . وقرأ ابن عامر : «هو مولاها» أي هو مولى تلك الجهة وقد وليها . والمعنى : لكل أمّة قبلة تتوجه إليها ، منكم ومن غيركم { فَاسْتَبِقُوا } أنتم { الخَيْرَاتِ } واستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره . ومعنى آخر : وهو أن يراد : ولكل منكم يا أمة محمد وجهة أي جهة يصلّى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية فاستبقوا الخيرات { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا } للجزاء من موافق ومخالف لا تعجزونه . ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت ، أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم ، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ { بِشَىْءٍ } بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه { وَبَشّرِ الصابرين } المسترجعين عند البلاء؛ لأنّ الاسترجاع تسليم وإذعان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 70 ) " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه " . وروي :

( 71 ) أنه طفىء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إنا لله وإنا إليه راجعون» فقيل : أمصيبة هي؟ قال : «نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة» ، وإنما قلل في قوله : ( بشيء ) ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم وإنما وعدهم ذلك قبل كونه ليوطنوا عليه نفوسهم . ( نقص ) عطف على ( شيء ) أو على الخوف ، بمعنى : وشيء من نقص الأموال . والخطاب في ( بشر ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى منه البشارة . وعن الشافعي رحمه الله في الخوف : خوف الله . والجوع : صيام شهر رمضان؛ والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات؛ موت الأولاد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 72 ) " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضّتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " . والصلاة : الحنو والتعطف ، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة . كقوله تعالى : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [ الحديد : 27 ] ، { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] . والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة . ورحمة أيّ رحمة . { وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون } لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله .

والصفا والمروة : علمان للجبلين ، كالصمان والمقطم ، والشعائر : جمع شعيرة وهي العلامة ، أي من أعلام مناسكه ومتعبداته ، والحج : للقصد . والاعتمار : الزيارة ، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين ، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان . وأصل { يَطَّوَّفَ } يتطوّف فأدغم . وقرىء : «أن يطوف» من طاف . فإن قلت : كيف قيل إنهما من شعائر الله ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت : كان على الصفا أساف ، وعلى المروة نائلة ، وهما صنمان ، يروى : أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة ، فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدّة عُبدا من دون الله ، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن لا يكون عيهم جناح في ذلك ، فرفع عنهم الجناح . واختلف في السعي ، فمن قائل : هو تطوّع بدليل رفع الجناح وما فيه من التخيير بين الفعل والترك ، كقوله :

{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا } [ البقرة : 230 ] ، وغير ذلك ، ولقوله : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } كقوله : { فمن تطوّع خيراً فهو خير له } [ البقرة : 184 ] . ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير ، وتنصره قراءة ابن مسعود : ( فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما ) . وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم . وعند الأوّلين لا شيء عليه . وعند مالك والشافعي : هو ركن ، لقوله عليه السلام :

( 73 ) " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " وقرىء : «ومن يطوّع» . بمعنى : ومن يتطوع ، فأدغم . وفي قراءة عبد الله : «ومن يتطوع بخير» .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } من أحبار اليهود { مَا أَنَزَلْنَا } فِي التوراة { مِنَ البينات } من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم { والهدى } والهداية بوصفه إلى اتباعه و الإيمان به { مِنْ بَعْدَمَا بيناه } ولخصناه { لِلنَّاسِ فِي الكتاب } في التوراة ، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم ، فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولَبَّسوا على الناس { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن عليهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

{ وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من أحوالهم ، وتداركوا ما فرط منهم { وَبَيَّنُواْ } ما بينه الله في كتابهم فكتموه ، أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليمحوا سمة الكفر عنهم ، ويعرفوا بضدّ ما كانوا يعرفون به ، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا ، ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً . وقرأ الحسن : «والملائكة والناس أجمعون» ، بالرفع عطفاً على محل اسم الله ، لأنه فاعل في التقدير ، كقولك : عجبت من ضرب زيد وعمرو ، تريد من أن ضرب زيد وعمرو ، كأنه قيل : أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة . فإن قلت : ما معنى قوله : { والناس أَجْمَعِينَ } وفي الناس المسلم والكافر . قلت : أراد بالناس من يعتدّ بلعنه وهم المؤمنون . وقيل : يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً { خالدين فِيهَا } في اللعنة . وقيل : في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } من الإنظار أي لا يمهلون ولا يؤجلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا . أولا ينظر إليهم نظر رحمة .

{ إله واحد } فرد في الإلهية لا شريك له فيها ولا يصحّ أن يسمى غيره إلها . و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته { الرحمن الرحيم } المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ، ولا شيء سواه بهذه الصفة ، فإن كلّ ما سواه إمّا نعمة وإما منعم عليه . وقيل : كان للمشركين حول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } واعتقابهما لأنّ كلّ واحد منهما يعقب الآخر ، كقوله : { جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] { بِمَا يَنفَعُ الناس } بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس . فإن قلت : قوله : { وَبَثَّ فِيهَا } عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ، لأنّ قوله : ( فأحيا به الأرض ) عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ فيها من كل دابة . ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كل دابة؛ لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا . { وَتَصْرِيفِ الرياح } في مهابها : قبولاً ، ودبوراً ، وجنوباً ، وشمالاً . وفي أحوالها : حارّة ، وباردة ، وعاصفة ، ولينة . وعقماً ، ولواقح . وقيل تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب { والسحاب المسخر } سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء { لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ، لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة . وعن النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

( 74 ) " ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها " أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها . وقرىء : «الفُلُك» بضمتين ، «وتصريف الريح» ، على الإفراد .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

{ أَندَاداً } أمثالاً من الأصنام . وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم . واستدلّ بقوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } . ومعنى : { يُحِبُّونَهُمْ } يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب { كَحُبّ الله } كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله تعالى ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس . وقيل : كحبهم الله ، أي يسوُّون بينه وبينهم في محبتهم لأنهم كانوا يقرّون بالله ويتقرّبون إليه . فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين { أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره؛ بخلاف المشركين فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة { الذين ظَلَمُواْ } إشارة إلى متخذي الأنداد أي لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أنّ القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم ، فحذف الجواب كما في قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ } [ الأنعام : 27 ] ، وقولهم : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه . وقرىء : «ولو ترى» بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً . وقرىء : «إذ يرون» على البناء للمفعول . وإذ في المستقبل كقوله : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] . { إِذْ تَبَرَّأَ } بدل من { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } أي تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع . وقرأ مجاهد الأوّل على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول ، أي تبرأ الأتباع من الرؤوساء { وَرَأَوُاْ العذاب } و الواو للحال ، أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب { وَتَقَطَّعَتْ } عطف على تبرأ . و { الأسباب } الوصل التي كانت بينهم : من الاتفاق على دين واحد ، ومن الأنساب ، والمحاب ، والأتباع ، والاستتباع ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] { لَوْ } في معنى التمني . ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني ، كأنه قيل : ليت لنا كرّة ، فنتبرأ منهم { كذلك } مثل ذلك الإراء الفظيع { يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات } أي ندامات ، وحسرات : ثالث مفاعيل أرى ، ومعناه أنّ أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم { وَمَا هُم بخارجين } هم بمنزلته في قوله :

همْ يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ ... في دلالته على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

{ حَلاَلاً } مفعول كلوا ، أو حال مما في الأرض { طَيِّبَاتِ } طاهراً من كل شبهة { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } فتدخلوا في حرام ، أو شبهة ، أو تحريم حلال ، أو تحليل حرام ، و ( من ) للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول . وقرىء : «خطوات» بضمتين ، و«خطوات» بضمة وسكون ، و«خطؤات» بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو ، و«خطوات» بفتحتين و«خطوات» بفتحة وسكون . والخطوة : المرة من الخطو . والخطوة : ما بين قدمي الخاطي . وهما كالغرفة والغرفة ، والقبضة والقبضة . يقال : اتبع خطواته ، ووطىء على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته { مُّبِينٌ } ظاهر العداوة لا خفاء به { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } بيان لوجوب الإنهاء عن اتباعه وظهور عداوته . أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم { بالسوء } بالقبيح { والفحشاء } وما يتجاوز الحدّ في القبح من العظائم ، وقيل : السوء ما لا حدّ فيه . والفحشاء : ما يجب الحدّ فيه { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهو قولكم : هذا حلال وهذا حرام ، بغير علم . ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه . فإن قلت : كيف كان الشيطان آمراً مع قوله : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الحجر : 42 ] قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول : أمرتني نفسي بكذا . وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه؛ ولذلك قال : { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } [ النساء : 119 ] وقال الله تعالى : { إِنَّ النفس لأَمّارَةٌ بالسوء } [ يوسف : 53 ] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

{ لَهُمُ } الضمير للناس . وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم ، لأنه لا ضال أضل من المقلد ، كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون : قيل : هم المشركون . وقيل : هم طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم . وألفينا : بمعنى وجدنا ، بدليل قوله : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } [ لقمان : 21 ] . { أَوْ لَّوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ } الواو للحال ، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب ، معناه : أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب .

لا بدّ من مضاف محذوف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا { كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ } أو : ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق . والمعنى : ومثل داعيهم إلى الإيمان - في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت ، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار - كمثل الناعق بالبهائم ، التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ، ولا تفقه شيئاً آخر ولا تعي ، كما يفهم العقلاء ويعون . ويجوز أن يراد بما لا يسمع : الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير ، من غير فهم للحروف . وقيل معناه : ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته ، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم باطل؟ وقيل معناه : ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، إلا أنّ قوله : { إِلاَّ دُعَاءً َنِدَاءً } لا يساعد عليه ، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئاً ، والنعيق : التصويت . يقال : نعق المؤذن ، ونعق الراعي بالضأن . قال الأخطل :

فَانْعَقْ بِضَأْنِكَ يَا جرِيرُ فَإنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلاَلاَ

وأما ( نفق الغراب ) فبالغين المعجمة { صُمٌّ } هم صم ، وهو رفع على الذمّ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

{ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } من مستلذاته ، لأنّ كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالاً { واشكروا للَّهِ } الذي رزقكموها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } إن صحّ أنكم تخصونه بالعبادة . وتقرّون أنه مولى النعم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 75 ) « يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلقُ ، ويُعبد غيري وأرزق ويُشكر غيري » .

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

قرىء : «حَرّم» على البناء للفاعل ، و«حُرِّم» على البناء للمفعول ، و«حَرُم» بوزن كرم { أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } أي رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزى { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطرّ آخر بالاستيثار عليه { وَلاَ عَادٍ } سدَّ الجوعة . فإن قلت : في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 76 ) " أحلت لنا ميتتان ودمان " قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة . ألا ترى أنّ القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد ، كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال . ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث- وإن أكل لحماً في الحقيقة ، قال الله تعالى : { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } [ النحل : 14 ] وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث - وإن سماه الله تعالى دابة في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 55 ] . فإن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت : لأنّ الشحم داخل في ذكر اللحم ، لكونه تابعاً له و صفه فيه ، بدليل قولهم : لحم سمين ، يريدون أنه شحيم .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

{ فِي بُطُونِهِمْ } ملء بطونهم . يقال : أكل فلان في بطنه ، وأكل في بعض بطنه { إِلاَّ النار } لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبه عليه ، فكأنه أكل النار ، ومنه قولهم : أكل فلان الدم ، إذا أكل الدية التي هي بدل منه . قال :

أَكَلْتُ دَماً إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... وقال :

يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا ... راد ثمن الإكاف ، فسماه إكافاً لتلبسه بكونه ثمناً له { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم . وقيل : نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على صاحبه فصرمه وقطع كلامه . وقيل : لا يكلمهم بما يحبون ، ولكن بنحو قوله : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] . { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم ، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن ، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب . وقيل : فما أصبرهم ، فأي شيء صبرهم . يقال : أصبره على كذا وصبره بمعنى . وهذا أصل معنى فعل التعجب . والذي روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له : ما أصبرك على الله ، فمعناه : ما أصبرك على عذاب الله { ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ } أي ذلك العذاب بسبب أنّ الله نزل ما نزل من الكتب بالحق { وَإِنَّ الذين اختلفوا } في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب { لَفِى شِقَاقٍ } لفي خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق ، والكتاب للجنس ، أو كفرهم ذلك بسبب أنّ الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون ، وإن الذين اختلفوا فيه من المشركين -فقال بعضهم : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : أساطير- لفي شقاق بعيد . يعني أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا .

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

{ البر اسم للخير ولكل فعل مرضيّ { أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } الخطاب لأهل الكتاب لأن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنصارى قِبل المشرق . وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته ، فردّ عليهم . وقيل : ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ ، ولكن البرّ ما نبينه . وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ، فقيل : ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة ، ولكن البرّ الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال . وقرىء : «وليس البرّ» - بالنصب على أنه خبر مقدم - وقرأ عبد الله : «بأن تولوا» ، على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك : ليس المنطلق بزيد { ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله } على تأويل حذف المضاف ، أي برّ من آمن ، أو بتأول البرّ بمعنى ذي البرّ ، أو كما قالت .

فَإنمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ ... وعن المبرّد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت : ( ولكنّ البرّ ) ، بفتح الباء . وقرىء : «ولكن البارّ» . وقرأ ابن عامر ونافع : ( ولكنّ البر ) بالتخفيف { والكتاب } جنس كتب الله ، أو القرآن { على حُبّهِ } مع حب المال والشح به ، كما قال ابن مسعود : [ أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان ] كذا ولفلان كذا ) . وقيل : على حب الله . وقيل : على حب الإيتاء ، يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه . وقدم ذوي القربى لأنهم أحق . قال عليه الصلاة والسلام :

( 78 ) " صدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي رحمك اثنتان لأنها صدقة وصلة " وقال عليه الصلاة والسلام :

( 79 ) " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " . وأطلق { ذَوِى القربى واليتامى } والمراد الفقراء منهم لعدم الإلباس . والمسكين : الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالمسكير : للدائم السكر و { ابن * السبيل } المسافر المنقطع . وجُعل ابناً للسبيل لملازمته له ، كما يقال للص القاطع : ابن الطريق . وقيل : هو الضيف ، لأنّ السبيل يرعف به { والسائلين } المستطعمين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 80 ) " للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه " { وَفِي الرقاب } وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم . وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها . وقيل في فك الأسارى . فإن قلت : قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قفاه بإيتاء الزكاة فهل دلّ ذلك على أنّ في المال حقاً سوى الزكاة؟ قلت : يحتمل ذلك . وعن الشعبي : أنّ في المال حقاً سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية . ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة ، أو يكون حثاً على نوافل الصدقات والمبارّ . وفي الحديث :

( 81 ) " نسخت الزكاة كلَّ صدقة " يعني وجوبها . وروي :

( 82 ) «ليس في المال حق سوى الزكاة» { والموفون } عطف على من آمن . وأخرج { والصابرين } منصوباً على الاختصاص والمدح ، وإظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال . وقرىء : «والصابرون» . وقرىء : «والموفين» ، «والصابرين» . و { البأساء } الفقر والشدة { والضراء } المرض والزمانة { صَدَقُواْ } كانوا صادقين جادّين في الدين .

عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهم : أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا يقتل بالأنثى ، أخذاً بهذه الآية . ويقولون : هي مفسرة لما أبهم في قوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 55 ] ولأنّ تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها ، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها . وعن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه : أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 55 ] والقصاص ثابت بين العبد والحرِّ ، والذَّكر والأنثى . ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم :

( 83 ) " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وبأنَّ التفاضل غير معتبر في الأنفس ، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به . وروي :

( 84 ) «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر ، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منا ، والذكر بالأنثى ، والاثنين بالواحد ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزلت ، وأمرهم أن يتباوؤا» { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } معناه : فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو . على أنه كقولك : سير بزيد بعض السير ، وطائفة من السير . ولا يصحّ أن يكون شيء في معنى المفعول به ، لأنّ ( عفا ) لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة وأخوه : هو وليّ المقتول ، وقيل له أخوه ، لأنه لابسه ، من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به ، كما تقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة ، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام فإن قلت : إن عفى يتعدّى بعن لا باللام ، فما وجه قوله : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ } ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال الله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } [ المائدة : 101 ] فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل؛ عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى له عند جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية ، فإن قلت؛ هلا فسرت عفى بترك حتى يكون شيء في معنى المفعول به؟ قلت : لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت . ولكن أعفاه . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :

( 85 ) " واعفوا اللحى " فإن قلت : فقد ثبت قولهم : عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محي له من أخيه شيء؟ قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء- إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله- على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها . فإن قلت؟ : لم قيل : شيء من العفو؟ قلت : للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم . أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية { فاتباع بالمعروف } فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع . وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعاً . يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة . وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان ، بأن لا يمطله ولا يبخسه { ذلك } ْالحكم المذكور من العفو والدية { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية . وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث : القصاص والدية والعفو ، توسعة عليهم وتيسيراً { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } التخفيف ، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل ، أو القتل بعد أخذ الدية . فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ، ثم يظفر به فيقتله { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة . وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية ، لقوله عليه السلام :

( 86 ) " لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية " { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة؛ لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل ، وكان يُقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر ، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أيّ حياة ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنّه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ فارتدع منه سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود ، فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء : ( ولكم في القصص حياة ) أي فيما قص عليكم من حكم القتل القصاص وقيل القصص القرآن أي : «ولكم في القرآن حياة للقلوب» : كقوله تعالى : { رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، { وَيُحْىِ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

{ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } إذا دنا منه وظهرت أماراته { خَيْر } مالاً كثيراً . عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رجلاً أراد الوصية وله عيال وأربعمائة دينار ، فقالت : ما أرى فيه فضلاً . وأراد آخر أن يوصي فسألته : كم مالك؟ فقال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة . قالت : إنما قال الله { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وإنّ هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك ، وعن عليّ رضي الله عنه : أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه . وقال : قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } والخير هو المال ، وليس لك مال . والوصية فاعل كتب ، وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى أن يوصى ، ولذلك ذكر الراجع في قوله : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا سَمِعَهُ } والوصية للوارث كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ، وبقوله عليه السلام :

( 87 ) « إنّ الله أعطى كلّ ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث » وبتلقي الأمّة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر وإن كان من الآحاد ، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذي صحت روايته . وقيل : لم تنسخ ، والوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين . وقيل : ما هي بمخالفة لآية المواريث . ومعناها : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم { بالمعروف } بالعدل ، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث { حَقّاً } مصدر مؤكد ، أي حق ذلك حقاً { فَمَن بَدَّلَهُ } فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود { بَعْدِ مَا سَمِعَهُ } وتحققه { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ } فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدّليه دون غيرهم من الموصي والموصى له ، لأنهما بريان من الحيف { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد المبدّل { فَمَنْ خَافَ } فمن توقع وعلم ، وهذا في كلامهم شائع يقولون : أخاف أن ترسل السماء ، يريدون التوقع والظنّ الغالب الجاري مجرى العلم { جَنَفًا } ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية { أَوْ إِثْماً } أو تعمداً للحيف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } حينئذ ، لأنّ تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدّل بالباطل ثم من يبدّل بالحق ليعلم أنّ كل تبديل لا يؤثم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم . قال عليّ رضي الله عنه : أوّلهم آدم ، يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم ، لم يفرضها عليكم وحدكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بالمحافظة عليها وتعظيمها لأصالتها وقدمها ، أو لعلكم تتقون المعاصي ، لأنّ الصائم أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء . قال عليه السلام :

( 88 ) " فعليه بالصوم فإنّ الصوم له وجاء " أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين ، لأنّ الصوم شعارهم . وقيل معناه : أنه كصومهم في عدد الأيام وهو شهر رمضان ، كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان ، فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده . فجعلوه خمسين يوماً . وقيل : كان وقوعه في البرد الشديد والحرّ الشديد ، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فجعلوه بين الشتاء والربيع ، وزادوا عشرين يوماً كفارة لتحويله عن وقته . وقيل : الأيام المعدودات : عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر . كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر . ثم نسخت بشهر رمضان . وقيل : كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا ، ثم نسخ ذلك بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } الآية [ البقرة : 87 ] . ومعنى { معدودات } موقتات بعدد معلوم . أو قلائل ، كقوله : { دراهم مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] وأصله أنّ المال القليل يقدّر بالعدد ويتحكر فيه . والكثير يهال هيلاً ويحثى حثياً . وانتصاب أياماً بالصيام كقولك : نويت الخروج يوم الجمعة { أَوْ على سَفَرٍ } أو راكب سفر { فَعِدَّةٌ } فعليه عدّة . وقرىء بالنصب بمعنى : فليصم عدّة وهذا على سبيل الرخصة . وقيل : مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدّة { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } واختلف في المرض المبيح للإفطار ، فمن قائل : كل مرض ، لأنّ الله تعالى لم يخص مرضاً دون مرض كما لم يخص سفراً دون سفر ، فكما أنّ لكل مسافر أن يفطر ، فكذلك كل مريض . وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه . وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه ، فقال : إنه في سعة من الإفطار . وقائل : هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه ، لقوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } وعن الشافعي : لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل . واختلف أيضاً في القضاء فعامّة العلماء على التخيير . وعن أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه : «إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواتر ، وإن شئت ففرّق» وعن عليّ وابن عمر والشعبي وغيرهم أنه يقضي كما فات متتابعاً . وفي قراءة أبيّ : «فعدّة من أيام أخر متتابعات» فإن قلت : فكيف قيل : { فَعِدَّةٌ } على التنكير ولم يقل : فعدّتها ، أي فعدّة الأيام المعدودات؟ قلت : لما قيل : فعدّة والعدّة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياماً معدودة مكانها ، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } نصف صاع من برّ أو صاع من غيره عند أهل العراق ، وعند أهل الحجاز مدّ ، وكان ذلك في بدء الإسلام : فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتدّ عليهم ، فرخص لهم في الإفطار والفدية . وقرأ ابن عباس : «يطوّقونه» ، تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة ، أي يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا . وعنه «يتطوّقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه . «ويطوقونه» بإدغام التاء في الطاء . «ويطيقونه» «ويطيقونه» بمعنى يتطوقونه ، وأصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه ، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق ، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم : تدير المكان وما بها ديَّار . وفيه وجهان : أحدهما نحو معنى يطيقونه . والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز ، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية . وهو على هذا الوجه ثابت غير منسوخ . ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } فزاد على مقدار الفدية { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } فالتطوع أخير له أو الخير . وقرىء «فمن يطوّع» ، بمعنى يتطوّع { وَأَن تَصُومُواْ } أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية وتطوع الخير . ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً . وفي قراءة أبيّ : «والصيام خير لكم» .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

الرمضان : مصدر رمض إذا احترق - من الرمضاء- فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل «ابن دأية» للغراب بإضافة الابن إلى داية البعير ، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت . فإن قلت : لم سمي { شَهْرُ رَمَضَانَ } ؟ قلت : الصوم فيه عبادة قديمة ، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته ، كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم إضجاراً بشدته عليهم . وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ . فإن قلت : فإذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً ، فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله عليه الصلاة والسلام :

( 89 ) " من صام رمضان إيماناً وإحتساباً " . ( ( 90

" من أدرك رمضان فلم يغفر له " قلت : هو من باب الحذف لأمن الإلباس كما قال :

بِمَا أَعْيَا النّطَاسِي حِذْيَمَا ... أراد ابن حذيم ، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } أو على أنه بدل من الصيام في قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] أو على أنه خبر مبتدأ محذوف . وقرىء بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من { أَيَّامًا معدودات } ، أو على أنه مفعول { وَأَن تَصُومُواْ } [ البقرة : 184 ] . ومعنى : { أُنزِلَ فِيهِ القرآن } ابتدىء فيه إنزاله . وكان ذلك في ليلة القدر . وقيل : أنزل جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى الأرض نجوما . وقيل : أنزل في شأنه القرآن ، وهو قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } كما تقول : أنزل في عمر كذا ، وفي عليّ كذا . وعن النبي عليه السلام :

( 91 ) " نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين مضين " { هُدًى لّلنَّاسِ وبينات } نصب على الحال ، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق ، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحقّ والباطل . فإن قلت : ما معنى قوله : { وبينات مِّنَ الهدى } بعد قوله { هُدًى لّلنَّاسِ } ؟ قلت : ذكر أوّلاً أنه هدى ، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله ، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فمن كان شاهداً ، أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر ، فليصم فيه ولا يفطر . والشهر : منصوب على الظرف وكذلك الهاء في { فَلْيَصُمْهُ } ولا يكون مفعولاً به كقولك : شهدت الجمعة ، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر { يُرِيدُ الله } أن ييسر عليكم ولا يعسر ، وقد نفي عنكم الحرج في الدين ، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها ، و من جملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض .

ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر ، حتى زعم أنّ من صام منهما فعليه الإعادة . وقرىء : «اليسر ، والعسر» - بضمتين . الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : { لتكلموا } علة الأمر بمراعاة العدّة { َ وَلِتُكَبّرُواْ } علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان . وإنما عدّى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد ، كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . ومعنى { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وإرادة أن تشكروا وقرىء : «ولتكملوا» بالتشديد . فإن قلت : هل يصحّ أن يكون ( ولتكملوا ) معطوفاً على علة مقدرة ، كأنه قيل لتعلموا ما تعلمون ، ولتكملوا العدّة ، أو على اليسر ، كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد بكم لتكملوا ، كقوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] قلت : لا يبعد ذلك والأوّل أوجه . فإن قلت : ما المراد بالتكبير؟ قلت : تعظيم الله والثناء عليه . وقيل : هو تكبير يوم الفطر . وقيل : هو التكبير عند الإهلال .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{ فَإِنّي قَرِيبٌ } تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه ، فإذا دعى أسرعت تلبيته ، ونحوه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] وقوله عليه الصلاة والسلام :

( 92 ) " هو بينكم وبين أعناق رواحلكم " وروي :

( 93 ) أنّ أعربياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم . وقرىء «يرشَدون ويرشِدون» ، بفتح الشين ، وكسرها .

( 94 ) كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ، ثم إنّ عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، وأخبره بما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ما كنت جديراً بذلك يا عمر» فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء ، فنزلت . وقرىء : «أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث» ، أي أحلّ الله . وقرأ عبد الله : «الرفوث» ، وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ النيك ، وقد أرفث الرجل . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه أنشد وهو محرم :

وهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِك لَمِيسَا

فقيل له : أرفثت؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء . وقال الله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } فكنى به عن الجماع ، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك . فإن قلت : لم كنى عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } [ الاعراف : 189 ] ، { باشروهن } ، { أَوْ لامستم النساء } [ النساء : 43 ] ، { دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] ، { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ، { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } [ النساء : 24 ] ، { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } [ البقرة : 222 ] ؟ قلت : استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه اختياناً لأنفسهم . فإن قلت : لم عدى الرفث بإلى؟ قلت : لتضمينه معنى الإفضاء . لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه ، شبه باللباس المشتمل عليه . قال الجعدي :

إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ { تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير . والاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة ، أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل .

وقيل : هو نهى عن العزل لأنه في الحرائر . وقيل : وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلّله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرّم . وعن قتادة : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر . وقرأ ابن عباس : ( واتبعوا ) وقرأ الأعمش : ( وأتوا ) وقيل معناه : واطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها ، وهو قريب من بدع التفاسير { الخيط الابيض } هو أوّل من يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود . و { الخيط الأسود } ما يمتدّ معه من غبش الليل ، شبها بخيطين أبيض وأسود . قال أبو داؤد :

فَلَمَّا أضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خيط أنَارَا

وقوله : { مِنَ الفجر } بيان للخيط الأبيض ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود . لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني . ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض : لأنه بعض الفجر وأوّله . فإن قلت : أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت : قوله : { مِنَ الفجر } أخرجه من باب الاستعارة ، كما أن قولك : رأيت أسداً مجاز . فإذا زدت ( من فلان ) رجع تشبيهاً . فإن قلت : فلم زيد { مِنَ الفجر } حتى كان تشبيهاً؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة؟ قلت : لأنّ من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ، ولو لم يذكر { مِنَ الفجر } لم يعلم أن الخيطين مستعاران ، فزيد { مِنَ الفجر } فكان تشبيهاً بليغاً وخرج من أن يكون استعارة . فإن قلت : فكيف التبس على عديّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال :

( 95 ) عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فضحك وقال : " إن كان وسادك لعريضا " وروي : ( إنك لعريض القفا ، إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل ) ؟ قلت : غفل عن البيان ، ولذلك عرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه ، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته . وأنشدتني بعض البدويات لبدوي :

عَرِيضُ القَفَا مِيزَانُهُ فِي شِمَالِه ... قَدِ انحص مِنْ حَسْبِ القَرَارِيطِ شَارِبُهْ

فإن قلت : فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي :

( 96 ) أنها نزلت ولم ينزل { مِنَ الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فنزل بعد ذلك { مِنَ الفجر } فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد ، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة ، ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر ، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت : أما من لم يجوّز تأخير البيان - وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم - فلم يصح عندهم هذا الحديث . وأما من يجوّزه فيقول : ليس بعبث . لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد منه { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } قالوا : فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال { عاكفون فِي المساجد } معتكفون فيها . والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه . والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ } ، { فالن باشروهن } وقيل معناه : ولا تلامسوهنّ بشهوة ، والجماع يفسد الاعتكاف ، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل . وعن قتادة كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك . وقالوا : فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد ، وأنه لا يختصّ به مسجد دون مسجد . وقيل : لا يجوز إلا في مسجد نبيّ وهو أحد المساجد الثلاثة . وقيل : في مسجد جامع . والعامة على أنه في مسجد جماعة . وقرأ مجاهد : «في المسجد» { تِلْكَ } الأحكام التي ذكرت { حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } فلا تغشوها . فإن قلت : كيف قيل : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } مع قوله :

{ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] ؟ قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحدّ الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلاً عن أن يتخطاه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 97 ) « إنّ لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه » فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصاً ، لقوله : { وَلاَ تباشروهن } وهي حدود لا تقرب .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

ولا يأكل بعضكم مال بعض { بالباطل } بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه . ( و ) لا { تُدْلُواْ بِهَا } ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام { لِتَأْكُلُواْ } بالتحاكم { فَرِيقاً } طائفة { مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم } بشهادة الزور ، أو باليمين الكاذبة ، أو بالصلح ، مع العلم بأن المقضي له ظالم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين :

( 98 ) « إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئاً ، فإنما أقضي له قطعة من نار » فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي . فقال : « اذهبا فتوخيا ، ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه » وقيل : { وَتُدْلُواْ بِهَا } وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة . وتدلوا : مجزوم داخل في حكم النهي ، أو منصوب بإضمار أن ، كقوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم على الباطل ، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح ، وصاحبه أحق بالتوبيخ .

( 99 ) وروي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت . { مَوَاقِيتُ } معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدد حملهنّ وغير ذلك ، ومعالم للحج يعرف بها وقته . كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب ، فإذا كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلماً يصعد فيه؛ وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم : { و لَّيْسَ البر } بتحرّجكم من دخول الباب { ولكن البر } برّ { مَنِ اتقى } ما حرّم الله . فإن قلت : ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها معلوم - : أنّ كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده ، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البرّ في شيء وأنتم تحسبونها برّاً . ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج . ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره . والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله . ثم قال : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها } أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا . والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب ، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 21 ] .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

المقاتلة في سبيل الله : هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين { الذين يقاتلونكم } الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين . وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] . وعن الربيع بن أنس رضي الله عنه : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف . أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان و الرهبان والنساء . أو الكفرة كلهم لأنهم جميعاً مضادّون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم ، فهم في حكم المقاتلة ، قاتلوا أو لم يقاتلوا . وقيل : لما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء ، خاف المسلمون أن لايفي لهم قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك نزلت وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك { وَلاَ تَعْتَدُواْ } بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم . والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة . ومنه : رجل ثقف ، سريع الأَخذ لأقرانه . قال :

فَإمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إلَى خُلُود

{ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من مكة وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح . { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشدّ عليه من القتل . وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت ، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت . ومنه قول القائل :

لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعا ... عَلَى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقِ

وقيل : ( الفتنة ) عذاب الآخرة { وَذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 13 ] وقيل : الشرك أعظم من القتل في الحرم ، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين ، فقيل : والشرك الذي هم عليه أشدّ وأعظم مما يستعظمونه . ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم . وقرىء : ( ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم ، فإن قتلوكم ) : جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم . يقال : قتلتنا بنو فلان . وقال : فإن تقتلونا نقتلكم { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك والقتال ، كقوله : { إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي شرك { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك { فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } فلا تعدوا على المنتهين لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : { إِلاَّ عَلَى الظالمين } موضع على المنتهين . أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين ، سمي جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة ، كقوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه ، يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم { والحرمات قِصَاصٌ } أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة كانت ، اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا ، وأكد ذلك بقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ واتقوا الله } في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم ، فلا تعتدوا إلى ما لا يحلّ لكم .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

الباء في { بِأَيْدِيكُمْ } مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد . والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة بأيديكم ، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم . وقيل : ( بأيديكم ) بأنفسكم : وقيل تقديره : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، كما يقال : أهلك فلان نفسه بيده ، إذا تسبب لهلاكها . والمعنى : النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله . أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس ، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ . وروي :

( 100 ) أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية ، وإنما أنزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه . وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا ، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها ، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها . فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد . وحكى أبو علي في ( الحلبيات ) عن أبي عبيدة ، التهلكة والهلاك والهلك واحد . قال : فدلّ هذا من قول أبي عبيدة على أن التهلكة مصدر . ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان : التنضبة والتنفلة . ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما ، على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار في الجوار .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما . قال :

تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا ... عَلَى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ

جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به . وقيل : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، روى ذلك عن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم . وقيل : أن تفرد لكل واحد منها سفراً كما قال محمد : حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل . وقيل : أن تكون النفقة حلالاً . وقيل : أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية . فإن قلت : هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت : ما هو إلا أمر بإتمامهما ، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين ، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً ، إلا أن تقول : الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما ، بدليل قراءة من قرأ «وأقيموا الحج والعمرة» والأمر للوجوب في أصله ، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب كما دلّ في قوله { فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] { فانتشروا } [ الأحزاب : 53 ] ونحو ذلك ، فيقال لك : فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب ، وهو ما روي :

( 101 ) أنه قيل : يا رسول الله : العمرة واجبة مثل الحج؟ قال : " لا ، ولكن أن تعتمر خير لك " وعنه :

( 102 ) " الحج جهاد والعمرة تطوّع " فإن قلت : فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج . وعن عمر رضي الله عنه :

( 103 ) أن رجلاً قال له : إني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ ، أهللت بهما جميعاً فقال : «هُديت لسنة نبيك» . وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج؟ قلت : كونها قرينة للحج أنّ القارن يقرن بينهما ، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال : حجّ فلان واعتمر والحجاج والعمار ، ولأنها الحجّ الأصغر ، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب . وأمّا حديث عمر رضي الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله : أهللت بهما ، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه كما إذا كبر بالتطوّع من الصلاة . والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحجّ وحده فيها ، فهما بمنزلة قولك : صم شهر رمضان وستة من شوال ، في أنك تأمره بفرض وتطوّع . وقرأ عليّ وابن مسعود والشعبي رضي الله عنهم «والعمرة لله» بالرفع ، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحجّ وهو الوجوب { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقال : أُحصر فلان ، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز . قال الله تعالى : { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] وقال ابن ميادة :

وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَت ... عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شَغُولُ

وحُصر : إذا حبسه عدوّ عن المضي ، أو سجن . ومنه قيل للمحبس : الحصير . وللملك ، الحصير ، لأنه محجوب . هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في كل شيء ، مثل صدّه وأصدّه . وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني ، وعليه قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى ، كل منع عنده من عدوّ كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار . وعند مالك والشافعي منع العدوّ وحده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 104 ) " من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل " { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } فما تيسر منه . يقال : يسر الأمر واستيسر ، كما يقال : صعب واستصعب . والهدي جمع هدية ، كما يقال في جدية السرج جدي ، وقرىء : «من الهديّ» بالتشديد جمع هدية كمطية ومطيّ . يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدي من بعير أو بقرة أو شناة ، فإن قلت : أين ومتى ينحر هدي المحصر؟ قلت : إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء عند أبي حنيفة يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار وعندهما في أيام النحر وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً . و ( ما استيسر ) رفع بالابتداء ، أي فعليه ما استيسر . أو نصب على : فاهدوا ما استيسر { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ } الخطاب للمحصرين : أي لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ { مَحِلَّهُ } أي مكانه الذي يجب نحره فيه . ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو ظاهر على مذهب أبي حنيفة رحمه الله . فإن قلت :

( 105 ) إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه حيث أحصر؟ قلت : كان محصره طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة وهو من الحرم ، وعن الزهري :

( 106 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم . وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق { أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ } وهو القمل أو الجراحة ، فعليه إذا احتلق فدية { مّن صِيَامٍ } ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } على ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من برّ { أَوْ نُسُكٍ } وهو شاة . وعن كعب بن عجرة

( 107 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " لعلك أذاك هوامّك " ؟ قال : نعم يا رسول الله . قال : " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك شاة " وكان كعب يقول : فيّ نزلت هذه الآية ، وروي :

( 108 ) أنه مرّ به وقد قَرَحَ رَأْسُهُ فقال : «كفى بهذا أذى» وأمره أن يحلق ويطعم ، أو يصوم . والنسك مصدر ، وقيل : جمع نسيكة . وقرأ الحسن : أو «نسك» ، بالتخفيف { فَإِذَا أَمِنتُمْ } الإحصار ، يعني فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ } أي استمتع { بالعمرة إِلَى الحج } واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج : انتفاعه بالتقرّب بها إلى الله تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج . وقيل : إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم بالحج { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } هو ، هدي المتعة ، وهو نسك عند أبي حنيفة ويأكل منه . وعند الشافعي : يجري مجرى الجنايات ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عندنا . وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي { ف } عليه { صِيَامٍ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج } أي في وقته وهو أشهرهُ ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله . والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما ، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم . وعند الشافعي : لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكاً بظاهر قوله : { فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي : هو الرجوع إلى أهاليهم . وقرأ ابن أبي عبلة «وسبعةً» بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام ، وكأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام ، كقوله :

{ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 15 ] فإن قلت : فما فائدة الفذلكة؟ قلت : الواو قد تجىء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين . ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة ، وأيضاً ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم . وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ، وكذلك { كَامِلَةٌ } تأكيد آخر . وفيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزل : الله الله لا تقصر . وقيل : كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي . وفي قراءة أبيّ : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» { ذلك } إشارة إلى التمتع ، عند أبي حنيفة وأصحابه . لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه؛ وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه . وعند الشافعي : إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً . وحاضرو المسجد الحرام : أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبي حنيفة . وعند الشافعي : أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة { واتقوا الله } في المحافظة على حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن خالف ليكون علمكم بشدة عقابه لطفاً لكم في التقوى .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

أي وقت الحج { أَشْهُرٍ } كقولك : البرد شهران . والأشهر المعلومات : شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة عند أبي حنيفة . وعند الشافعي : تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر . وعند مالك : ذي الحجة كله . فإن قلت : ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت : فائدته أن شيئاً من أفعال الحجّ لا يصحّ إلا فيها ، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضاً عند الشافعي في غيرها . وعند أبي حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه . فإن قلت : فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهر؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد . بدليل قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] فلا سؤال فيه إذن ، وإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات . وقيل : نُزِّل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، أو على عهد فلان ، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر ، وإنما رآه في ساعة منها . فإن قلت : ما وجه مذهب مالك وهو مرويّ عن عروة بن الزبير؟ قلت : قالوا إنّ العمرة غير مستحبة فيها عند عمر وابن عمر؛ فكأنها مخلصة للحج لا مجال فيها للعمرة . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان يخفق الناس بالدّرة وينهاهم عن الاعتمار فيهنّ . وعن عمر رضي الله عنه قال لرجل : إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهللت المحرّم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة . وقالوا : لعل من مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر { معلومات } معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم . وفيه أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه ، وإنما جاء مقرّراً له { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } فمن ألزم نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه عند أبي حنيفة وعند الشافعي بالنية { فَلاَ رَفَثَ } فلا جماع؛ لأنه يفسده . أو فلا فحش من الكلام { وَلاَ فُسُوقَ } ولا خروج عن حدود الشريعة وقيل : هو السباب والتنابز بالألقاب { وَلاَ جِدَالَ } ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين : وإنما أمر باجتناب ذلك . وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة؛ والتطريب في قراءة القرآن . والمراد بالنفي وجوب انتفائها ، وأنها حقيقة بأن لا تكون . وقرىء المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع . وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع؛ والآخر بالنصب : لأنهما حملا الأوّلين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ، ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة؛ وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرّد إلى وقت واحد وردّ الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج . واستدلّ على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم :

( 109 ) « من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه » وأنه لم يذكر الجدال { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } حث على الخير عقيب النهي عن الشر؛ وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البرّ والتقوى؛ ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة . أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه ، وينصره قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها . وقيل :

( 110 ) كان أهل اليمن لا يتزوّدون ويقولون : نحن متوكلون ونحن نحج بيت الله أفلا يُطعمنا فيكونون كلاًّ على الناس ، فنزلت فيهم . ومعناه : وتزوّدوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم ، فإن خير الزاد التقوى { واتقون } وخافوا عقابي { ياأولي الالباب } يعني أن قضية اللب تقوى الله ، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

{ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } عطاء منه وتفضلاً ، وهو النفع والربح بالتجارة ، وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج ، وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء فلم تقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج بالتجارة الداجّ . ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج . وقيل : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم . وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا ، فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم ، وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة ، وعن ابن عمر رضي الله عنه :

( 111 ) أن رجلاً قال له : إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا ، فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت فلم يردّ عليه ، حتى نزل { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فدعا به فقال : أنتم حجاج . وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : «فضلاً من ربكم في مواسم الحج» . ( أَنْ تبتغوا ) في أن تبتغوا { أَفَضْتُمْ } دفعتم بكثرة ، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول كما ترك في دفعوا من موضع كذا وصبوا . وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : «صب في دقران وهو يخرش بعيره بمحجنه» ويقال : أفاضوا في الحديث وهضبوا فيه . و { عرفات } علم للموقف سمي بجمع كأذرعات . فإن قلت : هلا مُنعت الصرف وفيها السببان : التعريف والتأنيث؟ قلت : لا يخلو من التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد؛ فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ولا يصح تقدير التاء فيها ، لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا يقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها . وقالوا : سميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما أبصرها عرفها . وقيل : إن جبريل حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها فقال : قد عرفت . وقيل : التقى فيها آدم وحوّاء فتعارفا . وقيل : لأنّ الناس يتعارفون فيها والله أعلم بحقيقة ذلك ، وهي من الأسماء المرتجلة لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف . وقيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 112 ) " الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج " { فاذكروا الله } بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات . وقيل : بصلاة المغرب والعشاء . و { المشعر الحرام } قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة . وقيل : المشعر الحرام : ما بين جبل المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام . والصحيح أنه الجبل ، لما روى جابر رضي الله عنه :

( 113 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلّى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس ، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر . وقوله تعالى : { عِندَ المشعر الحرام } معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه ، وذلك للفضل ، كالقرب من جبل الرحمة ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر . أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر . والمشعر : المعلم ، لأنه معلم العبادة . ووصف بالحرم لحرمته . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون . وقيل : سميت المزدلفة وجمعاً : لأنّ آدم صلوات الله عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها ، أي دنا منها . وعن قتادة : لأنه يجمع فيها بين الصلاتين . ويجوز أن يقال : وصفت بفعل أهلها ، لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقرّبون بالوقوف فيها { كَمَا هَدَاكُمْ } ما مصدرية أو كافة . والمعنى : واذكروهُ ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة أواذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ، لا تعدلوا عنه { وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ } من قبل الهدى { لَمِنَ الضالين } الجاهلين ، لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه . وإِن هي مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة { ثُمَّ أَفِيضُواْ } ثم لتكن إفاضتكم { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } ولا تكن من المزدلفة . وذلك لما كان عليه الحمس من الترفع على الناس والتعالي عليهم وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف . وقولهم : نحن أهل الله وقطان حرمه فلا تخرج منه ، فيقفون بجمع وسائر الناس بعرفات؟ فإن قلت : فكيف موقع ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبُعد ما بينهما؛ فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال : ثم أفيضوا لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ . وقيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وهم الحمس ، أي من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات . وقرىء : «من حيث أفاض الناس» بكسر السين أي الناسي وهو آدم ، من قوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آد م مِن قَبْلُ فَنَسِىَ } [ طه : 115 ] يعني أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تخالفوا عنه { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } أي فإذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } فأكثروا ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم . وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل ، فيعدّدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم . { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كَذِكْرِكُمْ } كما تقول كذكر قريش آباءهم ، أو قوم أشدّ منهم ذكراً . أو في موضع نصب عطف على آباءكم ، بمعنى أو أشدّ ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } معناه أكثروا ذكر الله ودعاءه فإنّ الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أعراض الدنيا ، ومكثر يطلب خير الدارين ، فكونوا من المكثرين { آتنا فِى الدنيا } اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة { وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } أي من طلب خلاقي وهو النصيب . أو ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب ، لأنّ همه مقصور على الدنيا .

والحسنتان ما هو طلبةُ الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير ، وطلبتهم في الآخرة من الثواب . وعن علي رضي الله عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء . وعذاب النار : امرأة السوء . { أولئك } الداعون بالحسنتين { لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } أي نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة ، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة . أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : { مما خطيئاتهم أغرقوا } [ نوح : 25 ] . أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم [ منه ] ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة . وسمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال ، والأعمال موصوفة بالكسب : بما كسبت أيديكم . ويجوز أن يكون ( أولئك ) للفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا { والله سَرِيعُ الحساب } يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد . فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة ، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه . روي : أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة . وروى في مقدار فواق ناقة . وروي في مقدار لمحة .

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

والأيام المعدودات . أيام التشريق ، وذكر الله فيها : التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله ، حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف { فَمَن تَعَجَّلَ } فمن عجّل في النفر أو استعجل النفر . وتعجل ، واستعجل : يجيئان مطاوعين بمعنى عجل . يقال : تعجل في الأمر واستعجل : ومتعديين ، يقال : تعجل الذهاب واستعجله . والمطاوعة أوفق لقوله : { وَمَن تَأَخَّرَ } كما هي كذلك في قوله :

قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِه ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

لأجل المتأني { فِى يَوْمَيْنِ } بعد يوم النحر يوم القرّ وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس ، واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمي الجمار كما يفعل الناس اليوم وهو مذهب الشافعي ويروى عن قتادة . وعند أبي حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر { وَمَن تَأَخَّرَ } حتى رمى في اليوم الثالث . والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة . وعند الشافعي لايجوز . فإن قلت : كيف قال : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } عند التعجل والتأخر جميعاً؟ قلت : دلالة على أنّ التعجل والتأخر مخير فيهما ، كأنه قيل : فتعجلوا أو تأخروا . فإن قلت : أليس التأخر بأفضل؟ قلت : بلى ، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل وقيل : إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من جعل المتعجل آثماً ، ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما جميعاً { لِمَنِ اتقى } أي ذلك التخيير ، ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي : لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأنّ ذا التقوى حذّر متحرّز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند الله . ثم قال : { واتقوا الله } ليعبأ بكم . ويجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } [ الروم : 38 ] .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

{ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } أي يروقك ويعظم في قلبك . ومنه : الشىء العجيب الذي يعظم في النفس . وهو الأخنس بن شريق كان رجلاً حلو المنطق ، إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال : يعلم الله أني صادق . وقيل : هو عامّ في المنافقين ، كانت تحلو لي ألسنتهم ، وقلوبهم أمرّ من الصَّبِرِ ، فإن قلت : بم يتعلق قوله : { فىلحيوة الدنيا } ؟ قلت : بالقول ، أي يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا؛ لأن ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول؛ فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة . ويجوز أن يتعلق بيعجبك ، أي قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك ، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أي يحلف ويقول : الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام . وقرىء : «ويشهد الله» . وفي مصحف أبيّ : «ويستشهد الله» : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين . وقيل : كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك ومواشيهم وأحرق زروعهم . والخصام : المخاصمة . وإضافة الألدّ بمعنى في ، كقولهم : ثبت الغدر . أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة . وقيل الخصام : جمع خصم ، كصعب وصعاب ، بمعنى وهو أشدّ الخصوم خصومة { وَإِذَا تولى } عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا } كما فعل بثقيف . وقيل : { وَإِذَا تولى } وإذا كان والياً فعل ما يفعل ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل . وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل . وقرىء : ( ويهلكُ الحرث والنسلُ ) ، على أن الفعل للحرث والنسل ، والرفع للعطف على سعى . وقرأ الحسن بفتح اللام ، وهي لغة . نحو : أبى يأبى . وروى عنه : «ويهلك» ، على البناء للمفعول { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } من قولك : أخذته بكذا ، إذا حملته عليه وألزمته إياه ، أي حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأن لا يخلي عنه ضراراً ولجاجاً . أو على ردّ قول الواعظ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

{ يَشْرِى نَفْسَهُ } يبيعها أي يبذلها في الجهاد . وقيل : يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى يقتل ، وقيل :

( 114 ) نزلت في صهيب بن سنان : أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه ، فقال لهم : أنا شيخ كبير ، إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي . فقبلوا منه ماله وأتى المدينة { والله رَءوفٌ بالعباد } حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

{ السلام } بكسر السين وفتحها . وقرأ الأعمش بفتح السين واللام ، وهو : الإستسلام والطاعة ، أي استسلموا لله وأطيعوه { كَافَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته . وقيل هو الإسلام . والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم . ويجوز أن يكون كافة حالا من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب . قال :

السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالحْرَبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها . وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة . أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يُخلوا بشيء منها . وعن عبد الله بن سلام .

( 115 ) أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل و ( كافة ) من الكف ، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { فَإِن زَلَلْتُمْ } عن الدخول في السلم { مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات } أي الحجج والشواهد على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يعجزه الانتقام منكم { حَكِيمٌ } لا ينتقم إلا بحق . وروي أنّ قارئًا قرأ غفور رحيم ، فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم ، لا يذكر الغفران عند الزلل ، لأنه إغراء عليه . وقرأ أبو السّمال : «زللتم» بكسر اللام وهما لغتان ، نحو : ظللت وظللت .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

إتيان الله إتيان أمره وبأسه كقوله : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] ، { فجاءهم بأسنا } [ الأنعام : 43 ] ويجوز أن يكون المأتي به محذوفاً ، بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله : { إنالله عَزِيزٌ } { فِي ظُلَلٍ } جمع ظلة وهي ما أظلك . وقرىء : «ظلال» وهي جمع ظلة ، كقلة وقلال أو جمع ظل . وقرىء والملائكة بالرفع كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } [ الأنعام : 158 ] وبالجر عطف على ظلل أو على الغمام . فإن قلت : لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت : لأنّ الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث . ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب الله قوله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] . { وَقُضِىَ الأمر } وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه . وقرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه : «وقضاء الأمر» ، على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة . وقرىء : «ترجِع» ، «وترجَع» ، على البناء للفاعل والمفعول بالتأنيث والتذكير فيهما .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

{ سَلْ } أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ، وهذا السؤال سؤال تقريع كما تسأل الكفرة يوم القيامة { كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم ، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام ، و { نِعْمَةَ اللَّهِ } آياته ، وهي أجل نعمة من الله ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة . وتبديلهم إياها : أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب ضلالتهم ، كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : كم استفهامية أم خبرية؟ قلت : تحتمل الأمرين . ومعنى الاستفهام فيها للتقرير . فإن قلت : ما معنى { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } . قلت : معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها ، كقوله : { ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه } [ البقرة : 75 ] ؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها ، فكأنها غائبة عنه : وقرىء { وَمَن يُبَدِلْ } بالتخفيف .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

المزين هو الشيطان ، زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها . ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين له تزيينا ، ويدل عليه قراءة من قرأ { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } على البناء للفاعل { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } كانت الكفرة يسخرون من المؤمنين الذين لا حظ لهم من الدنيا كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم ، أي لا يريدون غيرها . وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها ، أو ممن يطلب غيرها { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } لأنهم في عليين من السماء ، وهم في سجين من الأرض ، أو حالهم عالية لحالهم؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان . أو هم عالون عليهم متطاولون يضحكون منهم كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ويرون الفضل لهم عليهم ، { فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير ، يعني أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة وهي استدراجكم بالنعمة . ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم . فإن قلت : لم قال : { مِنَ الذين ءَامَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } ؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي ، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } متفقين على دين الإسلام { فَبَعَثَ الله النبيين } يريد : فاختلفوا فبعث الله . وإنما حذف لدلالة قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } عليه . وفي قراءة عبد الله : «كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله» . والدليل عليه قوله عز وعلا { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } [ يونس : 19 ] وقيل : كان الناس أمة واحدة كفارًا ، فبعث الله النبيين ، فاختلفوا عليهم . والأوّل الوجه . فإن قلت : متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت : عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا . وقيل : هم نوح ومن كان معه في السفينة { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } يريد الجنس ، أو مع كل واحد منهم كتابه { لِيَحْكُمَ } الله ، أو الكتاب ، أو النبيّ المنزل عليه { فِيمَا اختلفوا فِيهِ } في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق { وَمَا اختلف فِيهِ } في الحق { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف ، أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب ، وجعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الاختلاف واستحكامه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } حسدًا بينهم وظلمًا لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم . و { مِنَ الحق } بيان لما اختلفوا فيه ، أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

{ أَمْ } منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده . ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات - تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له - قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ : { أم حسبتم } { وَلَمَّا } فيها معنى التوقع ، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات . والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر { مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ } حالهم التي هي مثل في الشدة . و { مَسَّتْهُمْ } بيان للمثل وهو استئناف ، كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل؟ فقيل : مستهم البأساء { وَزُلْزِلُواْ } وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع { حتى يَقُولَ الرسول } إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها { متى نَصْرُ الله } أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك . ومعناه طلب الصبر وتمنيه ، واستطالة زمان الشدة . وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم ، لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } على إرادة القول ، يعني فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر . وقرىء : { حتى يَقُولَ } بالنصب على إضمار أن ومعنى الاستقبال؛ لأنّ «أن» علم له . وبالرفع على أنه في معنى الحال ، كقولك : شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرُّ بطنه . إلا أنها حال ماضية محكية .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

فإن قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله : { قُلْ مَا أَنفَقْتُم } وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت : قد تضمن قوله { ما أنفقتم مّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف؛ لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها . قال الشاعر :

إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَة ... حَتَّى يُصَابَ بهَا طَرِيقُ الْمصنَعِ

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هِمّ وله مال عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت . وعن السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة . وعن الحسن : هي في التطوّع .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة بدليل قوله : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، كقولها :

فَآنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ... كأنه في نفسه لفرط كراهتهم له . وإما أن يكون فعلاً بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز ، أي وهو مكروه لكم . وقرأ السلمي - بالفتح - على أن يكون بمعنى المضموم ، كالضَّعف والضُّعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على طريق المجاز ، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم . ومنه قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] ، وعلى قوله تعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } جميع ما كلفوه ، فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه وتحب خلافه { والله يَعْلَمُ } ما يصلحكم وما هو خير لكم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك } .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

( 116 ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيرًا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهرًا يأمن فيه الخائف ويبذعرّ فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير ، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة . والمعنى : يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام . و { قِتَالٍ فِيهِ } بدل الاشتمال من الشهر . وفي قراءة عبد الله : «عن قتال فيه» ، على تكرير العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وقرأ عكرمة : «قتل فيه قل قتل فيه كبير» ، أي إثم كبير . وعن عطاء : أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام؟ فحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه ، وما نسخت . وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } مبتدأ وأكبر خبره ، يعني وكبائر قريش من صدّهم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، وكفرهم بالله وإخراج أهل المسجد الحرام وهم رسول الله والمؤمنون { أَكْبَرُ عِندَ الله } مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن أعما { والفتنة } الإخراج أو الشرك . والمسجد الحرام : عطف على سبيل الله ، ولا يجوز أن يعطف على الهاء في { بِهِ } . { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم } إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم ، وحتى معناها التعليل كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ، أي يقاتلونكم كي يردّوكم . و { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوّه : إن ظفرت بي فلا تبق عليَّ . وهو واثق بأنه لا يظفر به { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ } ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه { فَيَمُتْ } على الردّة { فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة } لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام ، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة . وبها احتج الشافعي على أن الردّة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها . وعند أبي حنيفة أنها تحبطها وإن رجع مسلمًا . { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } روي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر ، فنزلت { أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله } وعن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمّة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون . وإنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

( 117 ) نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة { وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال . ثم إن عمر ومعاذًا ونفرًا من الصحابة قالوا؛ يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسًا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } فقل من يشربها . ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافياً ، فنزلت { إِنَّمَا الخمر والميسر } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . وعن عليّ رضي الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : لو أدخلت أصبعي فيه لم تتبعني . وهذا هو الإيمان حقاً ، وهم الذين اتقوا الله حق تقاته . والخمر : ما غلى واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب ، وهو حرام ، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم غلى واشتدّ ذهب خبثه ونصيب الشيطان ، وحلّ شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبي حنيفة . وعن بعض أصحابه : لأن أقول مرارًا هو حلال ، أحبّ إليّ من أن أقول مرة هو حرام ، ولأن أخر من السماء فأتقطع قطعاً أحبّ إليّ من أن أتناول منه قطرة . وعند أكثر الفقهاء هو حرام كالخمر ، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب . وسميت خمرًا لتغطيتها العقل والتمييز كما سميت سكرًا لأنها تسكرهما ، أي تحجزهما ، وكأنها سميت بالمصدر من «خمرة خمراً» إذا ستره للمبالغة . والميسر : القمار ، مصدر من يسر ، كالموعد والمرجع من فعلهما . يقال : يسرته ، إذا قمرته ، واشتقاقه من اليسر ، لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ، أو من اليسار . لأنه سلب يساره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال :

أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنيِ ... أي يفعلون بي ما يفعل الياسرون بالميسور . فإن قلت : كيف صفة الميسر؟ قلت : كانت لهم عشرة أقداح ، وهي : الأزلام والأقلام ، والفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلى والمنيح والسفيح ، والوغد .

لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء . وقيل : ثمانية وعشرين إلا لثلاثة ، وهي المنيح والسفيح والوغد . ولبعضهم :

لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ

وَأسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمنيحُ

للفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة؛ وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة ، ويضعونها على يدي عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المرسوم به ذلك القدح . ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله . وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها . ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، ويسمونه البرم . وفي حكم الميسر : أنواع القمار ، من النرد والشطرنج وغيرهما . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 118 ) " إياكم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فإنهما من ميسر العجم " وعن عليّ رضي الله عنه : أنّ النرد والشطرنج من الميسر وعن ابن سيرين : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر . والمعنى : يسألونك عما في تعاطيهما ، بدليل قوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } ، { وَإِثْمُهُمَآ } وعقاب الإثم في تعاطيهما { أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار ، والطرب فيهما ، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشرتهم ، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ، وسلب الأموال بالقمار ، والافتخار على الأبرام . وقرىء : «إثم كثير» - بالثاء - وفي قراءة أبيّ : «وإثمهما أقرب» . ومعنى الكثرة : أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة { العفو } نقيض الجهد؛ وهو أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع ، قال :

خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... ويقال للأرض السهلة : العفو . وقرىء بالرفع والنصب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .

( 119 ) " أنّ رجلاً أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه ، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه؛ فقال : هاتها مغضباً ، فأخذها فخذفه بها خذفاً لو أصابه لشجه أو عقره ، ثم قال : «يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناسا إنما الصدقة عن ظهر غنىً " { فِى الدنيا والأخرة } إمّا أن يتعلق بتتفكرون ، فيكون المعنى : لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين؛ فتأخذون بما هو أصلح لكم؛ كما بينت لكم أنّ العفو أصلح من الجهد في النفقة ، أوتتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع . ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا . حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم .

وإمّا أن يتعلق { يبين } على معنى : يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون ، لما نزلت { إِنَّ الذى يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] اعتزلوا اليتامى وتحاموهم وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم ، فشق ذلك عليهم وكاد يوقعهم في الحرج . فقيل { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } وتعاشروهم ولم تجانبوهم { ف } هم { إخوانكم ْ } في الدين ، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه ، وقد حملت المخالطة على المصاهرة { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } أي لا يخفى على الله من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته ، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح { وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم . وقرأ طاوس : «قل إصلاح إليهم» . ومعناه إيصال الصلاح وقرىء : «لعنتكم» ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وكذلك { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } . { إنالله عَزِيزٌ } [ البقرة : 173 ] غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه { حَكِيمٌ } لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

{ وَلاَ تَنْكِحُواْ } وقرىء بضم التاء ، أي لا تتزوّجوهنّ أو لا تزوّجوهن . و { المشركات } الحربيات ، والآية ثابتة . وقيل المشركات الحربيات والكتابيات جميعاً ، لأن أهل الكتاب من أهل الشرك ، لقوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله تعالى : { سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وهي منسوخة بقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] . وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط . وهو قول ابن عباس والأوزاعي وروي .

( 120 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق ، فأتته وقالت : ألا نخلو؟ فقال : ويحكا إن الإسلام قد حال بيننا . فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ، فاستأمره فنزلت { وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ } ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة ، وكذلك { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } لأنّ الناس كلهم عبيد الله وإماؤه { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها ، فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك { أولئك } إشارة إلى المشركات والمشركين ، أي يدعون إلى الكفر فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال { والله يَدْعُو إلى الجنة } يعني وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة { والمغفرة } وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن يؤثروا على غيرهم { بِإِذْنِهِ َ } بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة . وقرأ الحسن : «والمغفرةُ بإذنه» - بالرفع - أي والمغفرة حاصلة بتيسيره .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ المحيض } مصدر . يقال : حاضت محيضاً ، كقولك : جاء مجيئاً وبات مبيتاً { قُلْ هُوَ أَذًى } أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة منه وكراهة له { فاعتزلوا النساء } فاجتنبوهنّ؛ يعني فاجتنبوا مجامعتهنّ . روي :

( 121 ) أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس ، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ فأخرجوهنّ من بيوتهن ، فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة ، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت؛ وإن استأثرنا بها هلكت الحِيَّضُ : فقال عليه الصلاة والسلام : " إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم " وقيل : إنّ النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين ، وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال ، فأبو حنيفة وأبو يوسف : يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج ، وروى محمد حديث عائشة رضي الله عنها : أنّ عبد الله بن عمر سألها : هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت : تشدّ إزارها على سفلتها ، ثم ليباشرها إن شاء . وما روى زيد بن أسلم :

( 122 ) أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : " لتشدّ عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها " ، ثم قال : وهذا قول أبي حنيفة . وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وقرىء «يطهرن» بالتشديد ، أي يتطهرن ، بدليل قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } وقرأ عبد الله : «حتى يتطهرن» . و«يطهرن» بالتخفيف . والتطهر : الاغتسال . والطهر : انقطاع دم الحيض . وكلتا القراءتين مما يجب العمل به ، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل ، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة . وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتُطَهَّر ، فتجمع بين الأمرين ، وهو قول واضح . ويعضده قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } . { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل { إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين } مما عسى يندر منهم من ارتكاب مانهوا عنه من ذلك { وَيُحِبُّ المتطهرين } المتنزهين عن الفواحش . أو إنّ الله يحبّ التوّابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار : كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل ، وإتيان ما ليس بمباح ، وغير ذلك { حَرْثٌ لَّكُمْ } مواضع الحرث لكم . وهذا مجاز ، شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور . وقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم . لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً وهو موضع الحرث . وقوله : { هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء } ، { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدّبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم . وروي :

( 123 ) أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته وهي مجبية من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال كذبت اليهود ونزلت . { وَقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ } ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتكم عنه . وقيل : هو طلب الولد ، وقيل : التسمية على الوطء { واتقوا الله } فلا تجترئوا على المناهي { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } فتزوّدوا ما لا تفتضحون به { وَبَشّرِ المؤمنين } المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات فإن قلت : ما موقع قوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مما قبله؟ قلت : موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } يعني أنّ المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ، ترجمة له وتفسيراً ، أو إزالة للشبهة ، ودلالة على أنّ الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة ، فلا تأتوهنّ إلا من المأتي الذي يتعلق به هذا الغرض . فإن قلت : ما بال { َيَسْألُونَكَ } جاء بغير واو ثلاث مرات ، ثم مع الواو ثلاثاً؟ قلت : كان سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرّقة ، فلم يؤت بحرف العطف لأنّ كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ . وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن الإنفاق ، والسؤال عن كذا وكذا .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

العرضة : فعلة بمعنى مفعول ، كالقبضة والغرفة ، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه . تقول : فلان عرضة دون الخير . والعرضة أيضاً : المعرض للأمر . قال :

فَلاَ تجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ ... ومعنى الآية على الأولى : أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات ، من صلة رحم ، أو إصلاح ذات بين ، أو إحسان إلى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني ، فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه ، فقيل لهم : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم } أي حاجزاً لما حلفتم عليه . وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة :

( 124 ) " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك " أي على شيء مما يحلف عليه . وقوله : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ } عطف بيان لأيمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس . فإن قلت : بم تعلقت اللام في لأيمانكم؟ قلت : بالفعل ، أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً وحجازاً . ويجوز أن يتعلق ب { عُرْضَةً } لما فيها من معنى الاعتراض ، بمعنى لا تجعلوه شيئاً يعترض البر ، من اعترضني كذا . ويجوز أن يكون اللام للتعليل ، ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا . ومعناها على الأخرى : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] بأشنع المذامّ وجعل الحلاف مقدّمتها . وأن ( تبروا ) علة للنهي ، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، لأن الحلاف مجترىء على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم . اللغو : الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره . ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل «لغو» واللغو من اليمين : الساقط الذي لا يعتدّ به في الأَيمان ، وهو الذي لا عقد معه . والدليل عليه { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] ، { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } واختلف الفقهاء فيه ، فعند أبي حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه ، ثم يظهر خلافه . وعند الشافعي : هو قول العرب : لا والله ، وبلى والله ، بما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف . ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك ، ولعله قال : لا والله ألف مرة . وفيه معنيان : أحدهما { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ } أي لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم ، أي اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس . والثاني : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ } أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم ، أي بما نوت قلوبكم وقصدت من الإيمان ، ولم يكن كسب اللسان وحده { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قرأ عبد الله : «آلوا من نسائهم» . وقرأ ابن عباس : «يقسمون من نسائهم» : فإن قلت : كيف عدي بمن ، وهو معدى بعلى؟ قلت : قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين . ويجوز أن يراد لهم { مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } كقوله : لي منك كذا . والإيلاء من المرأة أن يقول : والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعداً على التقييد بالأشهر . أو لا أقربك على الإطلاق . ولا يكون في ما دون أربعة أشهر ، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي . وحكم ذلك : أنه إذا فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز : صح الفيء ، وحنث القادر ، ولزمته كفارة اليمين ، ولا كفارة على العاجز . وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبي حنيفة . وعند الشافعي : لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ثم يوقف المولى ، فإما أن يفيء وإما أن يطلق وإن أبى طلق عليه الحاكم . ومعنى قوله : { فَإِن فَآءُوا } فإن فاؤا في الأشهر ، بدليل قراءة عبد الله : «فإن فاؤا فيهن» { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من الغيل ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } فتربصوا إلى مُضيِّ المدة { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعلى قول الشافعي رحمه الله معناه { فَإِن فَآءُوا } { وَإِنْ عَزَمُواْ } بعد مضي المدة . فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت : موقع صحيح لأن قوله { فَإِن فَآءُوا } ، { وَإِنْ عَزَمُواْ } تفصيل لقوله { لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ } والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر ، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره ، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل . فإن قلت : ما تقول في قوله : { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت : الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار ، لا يخلو من مقاولة ودمدمة ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان { والمطلقات } أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء . فإن قلت : كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم؟ قلت : بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك . فإن قلت : فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت : هو خبر في معنى الأمر . وأصل الكلام : وليتربص المطلقات . وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر ، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص . فهو يخبر عنه موجوداً . ونحوه قولهم في الدعاء : رحمك الله ، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة ، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها ، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد . ولو قيل : ويتربص المطلقات ، لم يكن بتلك الوكادة . فإن قلت : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ، كما قيل { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص . والقروء : جمع قرء أو قرء ، وهو الحيض ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام :

( 125 ) " دعي الصلاة أيام أقرائك " وقوله :

( 126 ) " طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان " ولم يقل طهران . وقوله تعالى { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار . ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم ، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر ، ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة . ويقال أقرأت المرأة ، إذا حاضت . وامرأة مقرىء . وقال أبو عمرو بن العلاء : دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها ، أي تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء . فإن قلت : فما تقول : في قوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] والطلاق الشرعي ، إنما هو في الطهر؟ قلت : معناه مستقبلات لعدتهن ، كما تقول : لقيته لثلاث بقين من الشهر ، تريد مستقبلاً لثلاث ، وعدتهنّ الحيض الثلاث . فإن قلت : فما تقول في قول الأعشى :

لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكا ... قلت : أراد : لما ضاع فيها من عدّة نسائك ، لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن ، أي من مدّة طويلة كالمدة التي تعتد فيها النساء ، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في الحروب والغارات . وأنه تمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها ، أو أراد من أوقات نسائك ، فإنّ القرء والقارىء جاء في معنى الوقت ، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً . فإن قلت : فعلام انتصب { ثلاثة قُرُوء } ؟ قلت : على أنه مفعول به كقولك : المحتكر يتربص الغلاء ، أي يتربصن مضيّ ثلاثة قروء ، أو على أنه ظرف ، أي : يتربصن مدة ثلاثة قروء فإن قلت : لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت : يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية . ألا ترى إلى قوله : { بِأَنفُسِهِنَّ } وما هي إلا نفوس كثيرة ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء ، فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل ، فيكون مثل قولهم : ثلاثة شسوع . وقرأ الزهري : «ثلاثة قرو» ، بغير همزة { مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } من الولد أو من دم الحيض . وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض : قد طهرت ، استعجالاً للطلاق . ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر } تعظيم لفعلهن ، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم . والبعولة : جمع بعل ، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة . ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة ، يعني : وأهل بعولتهن { أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } برجعتهن . وفي قراءة أبيّ : «بردّتهن» { وَفِي ذلكم } في مدة ذلك التربص . فإن قلت : كيف جُعلوا أحق بالرجعة ، كأن للنساء حقاً فيها؟ قلت : المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها ، إلا أن لها حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُواْ } بالرجعة { إصلاحا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارّتهنّ { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ } ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهنّ ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه . والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة ، لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ، ولكن يقابله بما يليق بالرجال { دَرَجَةً } زيادة في الحق وفضيلة . قيل : المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل ، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

{ الطلاق } بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير ، كقوله : { ثم ارجع البصر كرّتين } [ الملك : 4 ] أي كرّة بعد كرّة ، لا كرّتين اثنتين . ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير قولهم : لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك . وقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم . وقيل : معناه الطلاق الرجعي مرّتان ، لأنه لا رجعة بعد الثلاث ، فإمساك بمعروف أي برجعة ، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة ، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها . وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث . وروي :

( 127 ) أنّ سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " أو تسريح بإحسان " وعند أبي حنيفة وأصحابه : الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه ، لما روي في حديث ابن عمر :

( 128 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة " وعند الشافعي . لا بأس بإرسال الثلاث .

( 129 ) لحديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها ثلاثًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه . روي :

( 130 ) أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، ما أطيقه بغضاً ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً فنزلت ، وكان قد أصدقها حديقة فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام . فإن قلت : لمن الخطاب في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } ؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت : يجوز الأمران جميعاً : أن يكون أوّل الخطاب للأزواج ، وآخره للأئمة والحكام ، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره ، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم ، فكأنهم الآخذون والمؤتون { مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } مما أعطيتموهنّ من الصدقات { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية ، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت { فِيمَا افتدت بِهِ } فيما فدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر . والخلع بالزيادة على المهر مكروه وهو جائز في الحكم . وروي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضي الله عنه ، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف وجدت مبيتك؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقر لعيني منهن . فقال لزوجها : اخلعها ولو بقرطها . قال قتادة : يعني بمالها كله ، هذا إذا كان النشوز منها ، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئاً . وقرىء «إلا» أن يخافا ، على البناء للمفعول وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير ، وهو من بدل الاشتمال كقولك : خيف زيد تركه إقامة حدود الله . ونحوه

{ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] ويعضده قراءة عبد الله «إلا أن تخافوا» وفي قراءة أبي : «إلا أن يظنا» . ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن . يقولون : أخاف أن يكون كذا ، وأفرق أن يكون ، يريدون أظن { فَإِن طَلَّقَهَا } الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } واستوفى نصابه . أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرّتين { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } من بعد ذلك التطليق . { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } حتى تتزوّج غيره ، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كما التزوج . ويقال : فلانة ناكح في بني فلان . وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب . والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة ، لما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها :

( 131 ) أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجني ، وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك " وروي :

( 132 ) أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت فقالت : إنه كان قد مسني ، فقال لها : كذبت في قولك الأوّل ، فلن أصدّقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت : أأرجع إلى زوجي الأوّل . فقال : قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال ، فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه قالت مثله لعمر رضي الله عنه فقال : إن أتيتني بعد مرّتك هذه لأرجمنك ، فمنعها . فإن قلت فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت : ذهب سفيان والأوزاعي وأبو عبيد ومالك وغيرهم إلى أنه غير جائز ، وهو جائز عند أبي حنيفة مع الكراهة . وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 133 ) « أنه لعن المحلل والمحلل له » وعن عمر رضي الله عنه : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وعن عثمان رضي الله عنه : لا نكاح إلا نكاح رغبة غير مدالسة { فَإِن طَلَّقَهَا } الزوج الثاني . { أَن يَتَرَاجَعَا } أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج { إِن ظَنَّا } إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية . ولم يقل : إن علماً أنهما يقيمان ، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله عز وجل . ومن فسر الظن ههنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ، لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم ، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنما يظن ظناً .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها . والأجل يقع على المدّة كلها ، وعلى آخرها ، يقال لعمر الإنسان : أجل ، وللموت الذي ينتهي به : أجل ، وكذلك الغاية والأمد ، يقول النحويون «من» لابتداء الغاية ، و «إلى» لانتهاء الغاية . وقال :

كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْرِ ... وَمُودٍ إذَاانْتَهَى أمَدُهْ

ويتسع في البلوغ أيضاً فيقال : بلغ البلد إذا شارفه وداناه . ويقال : قد وصلت ، ولم يصل وإنما شارف ، ولأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضِّي الأجل لا وجه له ، لأنها بعد تقضيه غير زوجة له [ و ] في غير عدّة منه ، فلا سبيل له عليها { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة { أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وإما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها وتبين من غير ضرار { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ، ثم يراجعها لا عن حاجة ، ولكن ليطوّل العدة عليها ، فهو الإمساك ضراراً { لّتَعْتَدُواْ } لتظلموهنّ . وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بتعريضها لعقاب الله { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا } أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها ، وارعوها حق رعايتها ، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً . ويقال لمن يجدّ في الأمر : إنما أنت لا عب وهازىء . ويقال : كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة . وقيل : كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول : كنت لاعباً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 134 ) " ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ : الطلاق والنكاح والرجعة " { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } بالإسلام وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة } من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يَعِظُكُمْ بِهِ } بما أنزل عليكم { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً ، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج . والمعنى : أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ ، وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ روي :

( 135 ) أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل . وقيل : في جابر بن عبد الله حين عضل بنت عم له . والوجه أن يكون خطاباً للناس ، أي لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين . والعضل : الحبس والتضييق . ومنه : عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج . وأنشد لابن هرمة :

وَإنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاح

وبلوغ الأجل على الحقيقة . وعن الشافعي رحمه الله : دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين { إِذَا تراضوا } إذا تراضى الخطاب والنساء { بالمعروف } بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط وقيل : بمهر المثل .

ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا . فإن قلت : لمن الخطاب في قوله : { ذلك يُوعَظُ بِهِ } ؟ قلت : يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد . ونحوه { ذلك خير لكم وأطهر } [ المجادلة : 12 ] { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } من أدناس الآثام ، وقيل : ( أزكى وأطهر ) أفضل وأطيب { والله يَعْلَمُ } ما في ذلك من الزكاء والطهر { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ه ، أو : والله يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

{ يُرْضِعْنَ } مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد { كَامِلَيْنِ } توكيد كقوله { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] لأنه مما يتسامح فيه فتقول : أقمت عند فلان حولين ، ولم تستكملهما . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : «أن يكمل الرضاعة» : وقرىء : «الرِّضاعة» . بكسر الراء . «والرضعة» . «وأن تتم الرضاعة» و«أن يتم الرضاعة» ، برفع الفعل تشبيهاً ل «أن» ب «ما» لتأخيهما في التأويل . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { لِمَنْ أَرَادَ } بما قبله؟ قلت : هو بيان لمن توجه إليه الحكم ، كقوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] لك بيان للمهيت به ، أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع . وعن قتادة : حولين كاملين ، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } أراد أنه يجوز النقصان ، وعن الحسن : ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر . وقيل : اللام متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء ، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه . ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رحمه الله ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح . وعند الشافعي يجوز . فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق . فإن قلت : فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت : إما أن يكون أمراً على وجه الندب ، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار . وقيل : أراد الوالدات المطلقات . وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرنَفْسٌ إِلاَّ وضاع { وَعلَى المولود لَهُ } وعلى الذي يولد له وهو الوالد . و { لَهُ } في محل الرفع على الفاعلية ، نحو { عَلَيْهِمْ } في { المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] فإن قلت لم قيل { المولود } له دون الوالد . قلت : ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات . وأنشد للمأمون بن الرشيد :

فَإنمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَة ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم ، كالأظآر . ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] ، { بالمعروف } تفسيره ما يعقبه ، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا . وقرىء «لا تكلف» بفتح التاء؛ و ( لا نكلف ) بالنون . وقرىء : «لا تضارُّ» بالرفع على الإخبار ، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول ، وأن يكون الأصل : تضارر بكسر الراء ، وتضارر بفتحها . وقرأ { لاَ تُضآرَّ } بالفتح أكثر القراء . وقرأ الحسن بالكسر على النهي ، وهو محتمل للبناءين أيضاً . ويبين ذلك أنه قرىء «لا تضارَرْ» ، ولا «تضارِرْ» ، بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها . وقرأ أبو جعفر : لا «تضارْ» ، بالسكون مع التشديد على نية الوقف . وعن الأعرج «لا تضارْ» بالسكون والتخفيف ، وهو من ضاره يضيره . ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر ، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا . وعن كاتب عمر بن الخطاب : «لا تضرر» . والمعنى : لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها ، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي : اطلب له ظئرًا ، وما أشبه ذلك؛ ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده ، بأن يمنعها شيئًا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها؛ ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه ، ولا يكرهها على الإرضاع . وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أي يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، ويجوز أن يكون { تُضَارَّ } بمعنى تضر ، وأن تكون الباء من صلته ، أي لا تضرّ والدة بولدها ، فلا تسيء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها . ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد . فإن قلت : كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت : لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبيّ منها . فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد { وَعَلَى الوارث } عطف على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . فكان المعنى : وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أي إن مات المولود لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار . وقيل : هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه . واختلفوا ، فعند ابن أبي ليلى كل من ورثه ، وعند أبي حنيفة من كان ذا رحم محرم منه . وعند الشافعي : لا نفقة فيما عدا الولاد . وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ . وقيل : المراد وارث الأب وهو الصبي نفسه ، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه . وقيل ( على الوارث ) على الباقي من الأبوين من قوله :

( 136 ) «واجعله الوارث منا» { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } صادراً { عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك ، زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد . وقيل : هو في غاية الحولين لا يتجاوز ، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما : أمّا الأب فلا كلام فيه ، وأمّا الأمّ فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبي . وقرىء : «فإن أراد» . استرضع : منقول من أرضع . يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعتها الصبي ، لتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته الحاجة والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل { إِذَا سَلَّمْتُم } إلى المراضع { مَّا ءاتَيْتُم } ما أردتم إيتاءه ، كقوله تعالى :

{ إِذَا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] وقرىء : «ما أتيتم» ، من أتى إليه إحساناً إذا فعله . ومنه قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] أي مفعولاً . وروى شيبان عن عاصم : «ما أوتيتم» ، أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونحوه { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] وليس التسليم بشرط للجواز والصحة ، وإنما هو ندب إلى الأولى . ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون ، لتكون طيبة النفس راضية ، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره ، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد ، كأنه قيل : إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن { بالمعروف } متعلق بسلمتم ، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه . ناطقين بالقول الجميل ، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن ، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } على تقدير حذف المضاف ، أراد : وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن . وقيل : معناه يتربصن بعدهم ، كقولهم : السمن مَنَوَان بدرهم . وقرىء : «يتوفون» بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وهي قراءة علي رضي الله عنه . والذي يحكى : أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة ، فقال له رجل : من المتوفي - بكسر الفاء ، فقال الله تعالى . وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو- تناقضه هذه القراءة { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } يعتددن هذه المدّة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ، وقيل عشراً ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها ، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام . تقول : صمت عشراً ، ولو ذكرت خرجت من كلامهم . ومن البين فيه قوله تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ثم { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } فإذا انقضت عدّتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة وجماعة المسلمين { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التعرّض للخطاب { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع . والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهن . وإن فرّطوا كان عليهم الجناح { فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } هو أن يقول لها : إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوّج ، وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح ، فلا يقول : إني أريد أن أنكحك ، أو أتزوجك ، أو أخطبك . وروى ابن المبارك عن عبد الله بن سليمان عن خالته قالت : دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لكا! أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : أوقد فعلتا! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها ، فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها ، فما كانت تلك خطبة . فإن قلت : أي فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت : الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، كقولك : طويل النجاد والحمائل لطول القامة وكثير الرماد للمضياف . والتعريض : أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم . ولذلك قالوا :

وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا ... وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ ولا تصبرون عنه ، وفيه طرف من التوبيخ كقوله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] . فإن قلت : أين المستدرك بقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } ؟ قلت : هو محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه ، تقديره : علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ، ولكن لا تواعدوهنّ سرًا . والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء ، لأنه مما يسرّ . قال الأعشى :

وَلاَ تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا

ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا . فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة . أي لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا ، أي لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض . ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من { سِرًّا } لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض . وقيل معناه : لا تواعدوهن جماعاً ، وهو أن يقول لها إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . إلا أن تقولوا قولاً معروفاً يعني من غير رفث ولا إفحاش في الكلام . وقيل : لا تواعدوهن سراً : أي في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما يستهجن ، لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } : هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه ، وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقدة النكاح في العدّة . لأن العزم على الفعل يتقدّمه ، فإذا نهي عنه كان عن الفعل أنهى ومعناه : ولا تعزموا عقد عُقدة النكاح . وقيل : معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح : وحقيقة العزم : القطع ، بدليل قوله عليه السلام .

( 137 ) " لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل " وروي «لمن لم يبيت الصيام» { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } يعني ما كتب وما فرض من العدّة { يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } ولا تعزموا عليه . { غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بالعقوبة .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا تبعة عليكم من إيجاب مهر { إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما لم تجامعوهن { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } إلا أن تفرضوا لهن فريضة ، أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة : تسمية المهر . وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمّى لها مهر فلها نصف المسمى ، وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة . والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ } إلى قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فقوله : فنصف ما فرضتم : إثبات للجناح المنفي ثمة ، والمتعة درع وملحفة وخمار على حسب الحال عند أبي حنيفة ، إلا أن يكون مهر مثلها أقل من ذلك . فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ، ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها . و { الموسع } الذي له سعة . و { المقتر } الضيق الحال . [ و ] { قَدَرُهُ } مقداره الذي يطيقه ، لأنّ ما يطيقه هو الذي يختص به . وقرىء بفتح الدال . والقدْر والقدَر لغتان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .

( 138 ) " أنه قال لرجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً ، ثم طلقها قبل أنّ يمسها : «أمتعتها»؟ قال : لم يكن عندي شيء . قال : «متعها بقلنسوتك» " وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها ، وتستحب لسائر المطلقات ولا تجب . { متاعا } تأكيد لمتعوهن ، بمعنى تمتيعاً { بالمعروف } بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة { حَقّاً } صفة لمتاعاً ، أي متاعاً واجباً عليهم . أو حق ذلك حقاً { عَلَى المحسنين } على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع ، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال صلى الله عليه وسلم .

( 139 ) " من قتل قتيلاً فله سلبه " { إَّلا أَن يَعْفُونَ } يريد المطلقات . فإن قلت : أي فرق بين قولك : الرجال يعفون . والنساء يعفون؟ قلت : الواو في الأوّل ضميرهم ، والنون علم الرفع . والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهنّ ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل وهو في محل النصب ويعفو : عطف على محله . و { الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } الوليّ يعني إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر ، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً ، أو يعفو الولي الذي يلي عقد نكاحهن ، وهو مذهب الشافعي . وقيل هو الزوج ، وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملاً ، وهو مذهب أبي حنيفة والأوّل ظاهر الصحة . وتسمية الزيادة على الحق عفواً فيها نظر ، إلا أن يقال كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوّج ، فإذا طلقها استحقّ أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها . أو سماه عفواً على طريق المشاكلة . وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . وعنه : أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوّجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوّجتها؟ فقال : عرضها عليّ فكرهت ردّه . قيل : فلم بعثت بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟ و { الفضل } التفضل . أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض وتتمرؤا ولا تستقصوا ، وقرأ الحسن «أن يعفوْ الذي» بسكون الواو وإسكان الواو والياء في موضع النصب تشبيه لهما بالألف لأنهما أختاها . وقرأ أبو نُهيك : «وأن يعفو» ، بالياء . وقرىء : «ولا تنسو الفضل» ، بكسر الواو .

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

{ والصلاة الوسطى } أي الوسطى بين الصلوات ، أو الفضلى ، من قولهم للأفضل : الأوسط . وإنما أفردت وعطفت على الصلاة لانفرادها بالفضل وهي صلاة العصر . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب .

( 140 ) " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم ناراً " وقال عليه الصلاة و السلام .

( 141 ) " إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب " وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف :

( 142 ) إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فأملت عليه : والصلاة الوسطى صلاة العصر وروي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم : والصلاة الوسطى وصلاة العصر؛ بالواو . فعلى هذه القراءة يكون التخصيص لصلاتين : إحداهما الصلاة الوسطى ، إمّا الظهر ، وإمّا الفجر وإمّا المغرب ، على اختلاف الروايات فيها ، والثانية : العصر ، وقيل : فضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : هي صلاة الظهر لأنها في وسط النهار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهاجرة ، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحابه منها . وعن مجاهد : هي الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل . وعن قبيصة بن ذؤيب : هي المغرب ، لأنها وتر النهار ولا تنقص في السفر من الثلاث وقرأ عبد الله : «وعلى الصلاة الوسطى» : وقرأت عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى» بالنصب على المدح والاختصاص . وقرأ نافع : «الوصطى» ، بالصاد { وَقُومُواْ لِلَّهِ } في الصلاة { قانتين } ذاكرين لله في قيامكم . والقنوت : أن تذكر الله قائماً . وعن عكرمة كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا . وعن مجاهد : هو الركود وكف الأيدي والبصر . وروي : أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا { فَإِنْ خِفْتُمْ } فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره { فَرِجَالاً } فصلوا راجلين ، وهو جمع راجل كقائم وقيام ، أو رجل يقال : رجل رجل ، أي راجل . وقرىء : «فرجالا» . بضم الراء ، «ورجالاً» بالتشديد «ورجلاً» . وعند أبي حنيفة رحمه الله : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف : وعند الشافعي رحمه الله : يصلون في كل حال ، والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } فإذا زال خوفكم { فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } من صلاة الأمن ، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن ، واذكروه بالعبادة ، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

تقديره فيمن قرأ وصية بالرفع : ووصية الذين يتوفون ، أو وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم ، أو والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم . وفيمن قرأ بالنصب : والذين يتوفون يوصون وصية ، كقولك : إنما أنت سير البريد ، بإضمار تسير . أو والزم الذين يتوفون وصية . وتدل عليه قراءة عبد الله : «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعاً إلى الحول» ، مكان قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم متاعا إِلَى الحول } وقرأ أبيّ : «متاع لأزواجهم متاعاً» . وروي عنه : «فمتاع لأزواجهم» . ومتاعاً نصب بالوصية ، إلا إذا أضمرت يوصون ، فإنه نصب بالفعل . وعلى قراءة أبيّ متاعاً نصب بمتاع ، لأنه في معنى التمتيع؛ كقولك : الحمد لله حمد الشاكرين ، وأعجبني ضرب لك زيداً ضرباً شديداً . و { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } مصدر مؤكد كقولك : هذا القول غير ما تقول . أو بدل من متاعاً . أو حال من الأزواج ، أي غير مخرجات . والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً ، أي ينفق عليهنّ من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخت المدة بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقيل : نسخ ما زاد منه على هذا المقدار ، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن . واختلف في السكنى ، فعند أبي حنيفة وأصحابه : لا سكنى لهن { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التزين والتعرض للخطاب { مِن مَّعْرُوفٍ } مما ليس بمنكر شرعاً . فإن قلت : كيف نسخت الآية المتقدمةُ المتأخرةَ؟ قلت : قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل ، كقوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهاء } [ البقرة : 142 ] مع قوله { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } [ البقرة : 144 ] .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

{ وللمطلقات متاع } عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المطلقة غير المدخول بها ، وقال : { حَقّا عَلَى المتقين } كما قال ثمة : { حقا على المحسنين } . وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري : أنها واجبة لكل مطلقة . وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعاً . وقيل : المراد بالمتاع نفقة العدة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

{ أَلَمْ تَرَ } تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين ، وتعجيب من شأنهم . ويجوز أن يخاطب به من لم يَرَ ولم يسمع ، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب . روي : أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها الطاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله وقضائه . وقيل مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى ، فأوحى إليه : ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ، فنادى ، فنظر إليهم قياماً يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت ، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } فيه دليل على الألوف الكثيرة . واختلف في ذلك ، فقيل : عشرة ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : سبعون . ومن بدع التفاسير . { أُلُوفٌ } متآلفون ، جمع آلف كقاعد وقعود . فإن قلت : ما معنى قوله : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } ؟ قلت : معناه فأماتهم ، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر ، فأولى أن يكون في سبيل الله . { لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون ، كما بصر أولئك ، وكما بصركم باقتصاص خبرهم . أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا ، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث . والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله . { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون { عَلِيمٌ } بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

إقراض الله : مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه . والقرض الحسن : إما المجاهدة في نفسها ، وإما النفقة في سبيل الله { أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قيل : الواحد بسبعمائة . وعن السدي : كثيرة لا يعلم كنهها إلا الله { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } يوسع على عباده ويقتر ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبد لكم الضيقة بالسعة { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على ما قدّمتم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

{ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ } هو يوشع أو شمعون أو اشمويل { ابعث لَنَا } أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره ، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها ، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره . وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم { نقاتل } قرىء بالنون والجزم على الجواب . وبالنون والرفع على أنه حال ، أي ابعثه لنا مقدّرين القتال . أو استئناف كأنه قال لهم : ما تصنعون بالملك؟ فقالوا : نقاتل . وقرىء : «يقاتل» بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لملكا . وخبر ( عسيتم ) { أَلاَّ تقاتلوا } والشرط فاصل بينهما . والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول : عسيتم أن لا تقاتلوا ، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون . وأراد بالاستفهام التقرير ، وتثبيت أنّ المتوقع كائن ، وأنه صائب في توقعه ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] معناه التقرير . وقرىء «عسيتم» بكسر السين وهي ضعيفة { وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل } وأيّ داع لنا إلى ترك القتال ، وأي غرض لنا فيه { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين . { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } قيل كان القليل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

{ طَالُوتَ } اسم أعجمي كجالوت وداود . وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته ، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم . ووزنه إن كان من الطول « فعلوت» منه ، أصله طولوت ، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه ، إلا أن يقال : هو اسم عبراني وافق عربياً ، كما وافق حنطاء حنطة ، وبشمالاها لها رحمانا رحيماً بسم الله الرحمن الرحيم ، فهو من الطول كما لو كان عربياً ، وكان أحد سببيه العجمة لكونه عبرانياً { أنى } كيف ومن أين ، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له . فإن قلت ، ما الفرق بين الواوين في { وَنَحْنُ أَحَقُّ } ، { وَلَمْ يُؤْتَ } ؟ قلت : الأولى للحال ، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً ، قد انتظمتهما معاً في حكم واو الحال . والمعنى : كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك ، وأنه فقير ولا بدّ للملك من مال يعتضد به . وإنما قالوا ذلك لأنّ النبوّة كانت في سبط لاوي بن يعقوب والملك في سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أحد السبطين ، ولأنه كان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً . وروي : أنّ نبيهم دعا الله تعالى حين طلبوا منه ملكاً ، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم ، فلم يساوها إلا طالوت { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } يريد أنّ الله هو الذي اختاره عليكم ، وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكم الله . ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة . والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب . ويجوز أن يكون عالماً بالديانات وبغيرها . وقيل : قد أوحي إليه ونبىء . وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم ، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب . والبسطة : السعة والامتداد . وروي أن الرجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه { يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ } أي الملك له غير منازع فيه ، فهو يؤتيه من يشاء : من يستصلحه للملك { والله واسع } الفضل والعطاء ، يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر { عَلِيمٌ } بمن يصطفيه للملك .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

{ التابوت } صندوق التوراة . وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرّون . والسكينة : السكون والطمأنينة ، وقيل : هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان ، فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه ، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر ، وعن عليّ رضي الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة { وَبَقِيَّةٌ } هي رضاض الألواح وعصى موسى وثيابه وشيء من التوراة ، وكان رفعه الله تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، فكان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت . وقيل : كان مع موسى ومع أنبياء بني إسرائيل بعده يستفتحون به . فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت ، فلما أراد الله أن يملّك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن ، فقالوا : هذا بسبب التابوت بين أظهرنا ، فوضعوه على ثورين ، فساقهما الملائكة إلى طالوت . وقيل كان من خشب الشمشار مموّها بالذهب . نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين . وقرأ أبيّ وزيد بن ثابت : «التابوه» بالهاء وهي لغة الأنصار . فإن قلت : ماوزن التابوت؟ قلت : لا يخلو من أن يكون فعلوتا أو فاعولاً ، فلا يكون «فاعولا» لقلته ، نحو : سلس وقلق ، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه ، فهو إذاً «فعلوت» من التوب ، وهو الرجوع : لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه ، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته . وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده ، إلا فيمن جعل هاءه بدلاً من التاء ، لاجتماعهما في الهمس وأنهما من حروف الزيادة . ولذلك أبدلت من تاء التأنيث . وقرأ أبو السمال : «سَكِّينة» ، بفتح السين والتشديد وهو غريب . وقرىء : «يحمله» ، بالياء ، فإن قلت : مَن { ءَالُ موسى وَءَالُ هارون } ؟ قلت : الأنبياء من بني يعقوب بعدهما . لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب فكان أولاد يعقوب آلهما . ويجوز أن يراد : مما تركه موسى وهارون . والآل مقحم لتفخيم شأنهما .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

{ فَصْلٌ } عن موضع كذا : إذا انفصل عنه وجاوزه ، وأصله : فصل نفسه ، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل . وقيل : فصل عن البلد فصولاً . ويجوزأن يكون : فصله فصلاً ، وفصل فصولاً كوقف وصدّ ونحوهما . والمعنى : انفصل عن بلده { بالجنود } روي أنه قال لقومه : لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها ، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ . فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة ، فسألوا أن يجري الله لهم نهراً ، ف { قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم } بما اقترحتموه من النهر { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه { فَلَيْسَ مِنّي } فليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني ، كأنه بعضه؛ لاختلاطهما واتحادهما . ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ومن لم يذقه ، من طعم الشيء ، إذا ذاقه . ومنه طِعم الشيء ، لمذاقه . قال :

وَإنْ شِئْت لَمْ أطْعَمْ نَقَاخاً وَلاَ بَرْدَا ... ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم . ويقال : ما ذقت غماضاً . ونحوه من الابتلاء : ما ابتلى الله به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعاً ، بل هو أشد منه وأصعب . وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي . وإن كان نبياً كما يروي عن بعضهم فبالوحي . وقرىء «بنهر» بالسكون . فإن قلت : ممَّ استثنى قوله : { إِلاَّ مَنِ اغترف } ؟ قلت : من قوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي } والجملة الثانية في حكم المتأخرة ، إلا أنها قدّمت للعناية كما قدم { والصابئون } [ المائدة : 69 ] في قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } ومعناه : الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع ، والدليل عليه قوله : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } أي فكرعوا فيه { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } وقرىء : «غَرفة» بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف . وقرأ أبيّ والأعمش : «إلا قليل» ، بالرفع . وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية . فلما كان معنى { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } في معنى فلم يطيعوه ، حمل عليه ، كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . ونحوه قول الفرزدق :

. . . . . . . . . . . . لمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلاّ مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ

كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف . وقيل : لم يبق مع طالوت إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً { والذين ءامَنُواْ } يعني القليل { قَالَ الذين يَظُنُّونَ } يعني الخُلّص منهم الذين نصبوا بين أعينهم لقاه الله وأيقنوه . أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله ، والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة . وقيل : الضمير في { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا } للكثير الذين انخذلوا ، والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه ، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما . يظهر أولئك عذرهم في الانخذال ، ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به . وروي : أنّ الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته . والذين شربوا منه اسودّت شفاههم وغلبهم العطش .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

و ( جَالُوتَ ) جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ، وكانت بيضته فيها ثلثمائة رطل { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوّة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب . كان إيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحي إلى اشمويل أنّ داود بن إيشى هو الذي يقتل جالوت ، فطلبه من أبيه ، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت ، فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله ، وزوّجه طالوت بنته . وروي أنه حسده وأراد قتله ثم تاب { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدّسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود { والحكمة } والنبوّة { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } من صنعة الدروع ، وكلام الطير والدواب وغير ذلك { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم ، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض . وقيل : ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين . أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

{ تِلْكَ آيات الله } يعني القصص التي اقتصها ، من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم ، وتمليك طالوت وإظهاره بالآية التي هي نزول التابوت من السماء ، وغلبة الجبابرة على يد صبي { بالحق } باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار .

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

{ تِلْكَ الرسل } إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة ، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام . وقرىء : «كلم الله» بالنصب . وقرأ اليماني : «كالم الله» ، من المكالمه ، ويدل عليه قولهم : كليم الله ، بمعنى مكالمه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة . والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر . ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس . ويقال للرجل : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال ، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه . وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره . ويجوز أن يريد : إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم من الرسل . وعن ابن عباس رضي الله عنه .

( 143 ) كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء ، فذكرنا نوحاً بطول عبادته ، وإبراهيم بخلته ، وموسى بتكليم الله إياه ، وعيسى برفعه إلى السماء ، وقلنا : رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم ، بعث إلى الناس كافة؛ وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء فدخل عليه السلام فقال : " فيم أنتم؟ فذكرنا له . فقال : لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهمَّ بها " فإن قلت : فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة . ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات ، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل . وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره . ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها .

كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع ، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين { وَلَوْ شَاءَ الله } مشيئة إلجاء وقسر { مَا اقتتل الذين } من بعد الرسل ، لاختلافهم في الدين ، وتشعب مذاهبهم ، وتكفير بعضهم بعضاً { ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ } لالتزامه دين الأنبياء { وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } إعراضه عنه { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا } كرّره للتأكيد { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } من الخذلان والعصمة { أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يسامحكم أخلاؤكم به . وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات . لأنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير { والكافرون هُمُ الظالمون } أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، فقال { والكافرون } للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج { وَمَن كَفَرَ } [ النور : 55 ] مكان : ومن لم يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } [ فصلت : 6 ] وقرىء : «لا بيعُ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ» بالرفع .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

{ الحى } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر . و { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه . وقريء : «القيام» ، «والقيم» والسنة : ما يتقدّم النوم من الفتور الذي يسمي النعاس . قال ابن الرقاع العاملي :

وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

أي لا يأخذه نعاس ولا نوم وهو تأكيد للقيوم؛ لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً . ومنه حديث موسى .

( 144 ) أنه سأل الملائكة ( وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية ) : أينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوءتين . فأخذهما ، وألقى الله عليه النعاس فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا . { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ } بيان لملكوته وكبريائه . وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، كقوله تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم . والضمير لما في السموات والأرض لأنّ فيهم العقلاء ، أو لما دل عليه { مَّن ذَا } من الملائكة والأنبياء { مّنْ عِلْمِهِ } من معلوماته { إِلاَّ بِمَا شَاءَ } إلا بما علم . ( الكرسي ) ما يجلس عليه ، ولا يفضل عن مقعد القاعد . وفي قوله { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } أربعة أوجه : أحدها أنّ كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثمة ولا قعود ، ولا قاعد ، كقوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] من غير تصوّر قبضة وطيّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسيّ . ألا ترى إلى قوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } والثاني : وسع علمه وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم . والثالث : وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك . والرابع : ما روي : أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض ، وهو إلى العرش كأصغر شيء . وعن الحسن : الكرسي هو العرش { وَلاَ يَؤُودُهُ } ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ العلى } الشأن { العظيم } الملك والقدرة . فإن قلت : كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟ قلت : ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب : بين العصا ولحائها ، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه . والثانية لكونه مالكاً لما يدبره . والثالثة لكبرياء شأنه . والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة ، وغير المرتضى . والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره . فإن قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد منه قوله صلى الله عليه وسلم :

( 145 ) « ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا عليّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها » وعن عليّ رضي الله عنه : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول :

( 146 ) « من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمّنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله » وتذاكر الصحابة رضوان الله عليهم أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليّ رضي الله عنه .

( 147 ) أين أنتم عن آية الكرسي ، ثم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عليّ ، سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي » قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار . وبهذا يعلم أنّ أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم أهل العدل والتوحيد ولا يغرّنك عنه كثرة أعدائه :

فإنَّ الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً ... وَلاَ تَرَى لِلئَامِ النَّاسِ حُسَّادًا .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والاختيار . ونحوه قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الاختيار { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان بالله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } من الحبل الوثيق المحكم ، المأمون انفصامها ، أي انقطاعها . وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن به . وقيل : هو إخبار في معنى النهي ، أي لا تتكرهوا في الدين . ثم قال بعضهم : هو منسوخ بقوله : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] وقيل : هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية وروي .

( 148 ) أنه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزلت : فخلاهما

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

{ الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } أي أرادوا أن يؤمنوا يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان { والذين كَفَرُواْ } أي صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك . أو الله وليّ المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين { والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ } الشياطين { يُخْرِجُونَهُم } من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

{ أَلَمْ تَرَ } تعجيب من محاجة نمروذ في الله وكفره به { أَنْ آتاه الله الملك } متعلق بحاجَّ على وجهين :

أحدهما حاجّ لأن آتاه الله الملك ، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوَّ فحاجّ لذلك ، أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه الله الملك ، فكأن المحاجة كانت لذلك ، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان . ونحوه قوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .

والثاني : حاجّ وقت أن آتاه الله الملك . فإن قلت : كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟ قلت : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا . وقيل : ملكه امتحاناً لعباده . و { إِذْ قَالَ } نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت { أَنَاْ أُحْىِ وَأُمِيتُ } يريد أعفو عن القتل وأقتل . وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء . وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة . وقريء : «فبهت الذي كفر» أي فغلب إبراهيم الكافر . وقرأ أبو حيوة : «فبهت» ، بوزن قرب . وقيل : كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال له : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . { أَوْ كالذى } معناه . أو أرأيت مثل الذي مرَّ فحذف لدلالة { أَلَمْ تَرَ } عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب . ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ ، كأنه قيل : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية . والمارّ كان كافراً بالبعث ، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي : ( أنى يُحْيىِ ) . وقيل : هو عزير أو الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام . وقوله : { أَنَّى يُحْىِ } اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء ، واستعظام لقدرة المحيي . والقرية : بيت المقدس حين خربه بختنصر . وقيل : هي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } تفسيره فيما بعد { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على الظن . روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم . وروي : أن طعامه كان تيناً وعنباً . وشرابه عصيراً أو لبناً ، فوجد التين والعنب كما جنيا ، والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يتغير ، والهاء أصلية أو هاء سكت . واشتقاقه من السنة على الوجهين ، لأن لامها هاء أو واو ، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان . وقيل : أصله يتسنن ، من الحمأ المسنون ، فقلبت نونه حرف علة ، كتقضي البازي . ويجوز أن يكون معنى { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه ، يعني هو بحاله كما كان كأنه لم يلبث مائة سنة . وفي قراءة عبد الله : «فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن» . وقرأ أبيّ : «لم يسَّنه» ، بإدغام التاء في السين { وانظر إلى حِمَارِكَ } كيف تفرّقت عظامه ونخرت ، وكان له حمار قد ربطه . ويجوز أن يراد : وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته ، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه ، وقيل : أتى قومه راكب حماره وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة فأخذ يهذها هذاً عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفاً ، فقالوا : هو ابن الله . ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية . وقيل : رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب ، فإذا حدّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة { وانظر إِلَى العظام } هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم { كَيْفَ نُنشِزُهَا } كيف نحييها . وقرأ الحسن : «ننشرها» ، من نشر الله الموتى ، بمعنى : أنشرهم فنشروا ، وقريء بالزاي ، بمعنى نحرّكها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . وفاعل ( تَّبَيَّنَ ) مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً . ويجوز : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعني أمر إحياء الموتى . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : «فلما تبين له» على البناء للمفعول . وقرىء : «قال اعلم» ، على لفظ الأمر : وقرأ عبد الله : «قيل اعلم» . فإن قلت : فإن كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله؟ قلت : كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

{ أَرِنِى } بصرني ، فإن قلت : كيف قال له { أَوَ لَمْ تُؤْمِنَ } وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين . و { بلى } إيجاب لما بعد النفي ، معناه بلى آمنت { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك . فإن قلت : بم تعلقت اللام في { لّيَطْمَئِنَّ } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } قيل : طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهنّ واضممهنّ إليك قال :

وَلكنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا ... وقال :

وَفَرْعٍ يَصيرُ الجْيِدَ وَحْفٍ كَأنَّه ... عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ

وقرأ ابن عباس رضي الله عنه «فصرهن» بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء ، من صره يصره ويصره إذا جمعه ، نحو ضره ويضره ويضره . وعنه «فصرّهن» من التصرية وهي الجمع أيضاً { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يريد : ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال . والمعنى : على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك . وقيل : كانت أربعة أجبل . وعن السدّي : سبعة { ثُمَّ ادعهن } وقل لهن : تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن . فإن قلت : ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت : ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك قال : يأتينك سعياً . وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها ، وأن يمسك رؤسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال ، على كل جبل ربعاً من كل طائر . ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله ، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤسهن ، كل جثة إلى رأسها . وقريء : «جزأ» بضمتين . «وجّزّاً» ، بالتشديد . ووجهه أنه خفف بطرح همزته ، ثم شدد كما يشدد في الوقف ، إجراء للوصل مجرى الوقف .

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

{ مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ } لا بد من حذف مضاف ، أي مثل نفقتهم كمثل حبة ، أو مثلهم كمثل باذر حبة . والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء . ومعنى إنباتها سبع سنابل ، أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب ، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف ، كأنها ماثلة بين عيني الناظر . فإن قلت : كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت : بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ ، ولو لم يوجد لكان صحيحاً على سبيل الفرض والتقدير : فإن قلت : هلا قيل : سبع سنبلات ، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال : { وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ } [ يوسف : 53 ] ؟ قلت : هذا لما قدمت عند قوله : { ثلاثة قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها { والله يضاعف لِمَن يَشَاءُ } أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء ، لا لكل منفق ، لتفاوت أحوال المنفقين . أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

المن : أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه ، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له : وكانوا يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها . ولبعضهم :

وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَىَّ صَنِيعَةً ... وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ

وفي نوابغ الكلم : صنوان من منح سائله ومنّ ، ومن منع نائله وضنّ . وفيها طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ . والأذى : أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه : ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] . فإن قلت : أي فرق بين قوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } وقوله فيما بعد : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ؟ قلت : الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط . وضمنه ثمة . والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر ، وطرحها عار عن تلك الدلالة .

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } ردّ جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤل أو : ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل ، أو : وعفو من جهة السائل لأنه إذا ردّه ردّا جميلاً عذره { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًىً } وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { والله غَنِىٌّ } لا حاجة به إلى منفق يمنُّ ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة ، وهذا سخط منه ووعيد له . ثم بالغ في ذلك بما أتبعه { كالذى يُنفِقُ مَالَهُ } أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله { رِئَاءَ الناس } لا يريد بإنفاقه رضاء الله ولا ثواب الآخرة { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان بحجر أملس عليه تراب . وقرأ سعيد بن المسيب : «صفوان» بوزن كروان { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه . ومنه : صلد جبين الأصلع إذا برق { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْءٍ مّمَّا كَسَبُواْ } كقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال : أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق . فإن قلت : كيف قال : { لاَّ يَقْدِرُونَ } بعد قوله : { كالذى يُنفِقُ } ؟ قلت : أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان فكأنه قيل : كمن ينفق .

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

{ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح . وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان؛ لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها ، وبالعكس ، فكان إنفاق المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين . ويجوز أن يراد : وتصديقاً للإسلام . وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم؛ لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله ، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه . «ومن» على التفسير الأوّل للتبعيض ، مثلها في قولهم : هز من عطفه ، وحرك من نشاطه . وعلى الثاني لابتداء الغاية ، كقوله تعالى : { حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] ويحتمل أن يكون المعنى : وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه . وتعضده قراءة مجاهد : «وتبيينا من أنفسهم» . فإن قلت : فما معنى التبعيض؟ قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] والمعنى : ومثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّةِ } وهي البستان { بِرَبْوَةٍ } بمكان مرتفع . وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً { أَصَابَهَا وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَأَتَتْ أُكُلَهَا } ثمرتها { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها . أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده . وقرىء : «كمثل حبة» ، و«بربوة» بالحركات الثلاث و«أكلها» بضمتين .

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } للإنكار . وقرىء : له جنات ، وذرية ضعاف . والإعصار : الريح التي تستدير في الأرض ، ثم تسطع نحو السماء كالعمود . وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله . فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة ، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغ الكبر ، وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم ومنتعشهم ، فهلكت بالصاعقة . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عنها الصحابة فقالوا : الله أعلم ، فغضب وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال : قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك . قال : ضربت مثلاً لعمل . قال : لأي عمل؟ قال : لرجل غني يعمل الحسنات . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها . وعن الحسن رضي الله عنه : هذا مثلٌ قلّ والله يعقله من الناس ، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته ، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا . فإن قلت : كيف قال { جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ثم قال : { لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } قلت : النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع ، خصهما بالذكر ، وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات . ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها كقوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } [ الكهف : 34 ] بعد قوله : { جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } [ الكهف : 32 ] فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَصَابَهُ الكبر } ؟ قلت : الواو للحال لا للعطف . ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر . وقيل : يقال : وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا ، فحمل العطف على المعنى ، كأنه قيل : أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

{ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم } من الحب والثمر والمعادن وغيرها . فإن قلت : فهلا قيل : وما أخرجنا لكم ، عطفاً على { مَّا كَسَبْتُم } حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت معناه : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } تخصونه بالإنفاق ، وهو في محل الحال . وقرأ عبد الله : «ولا تأمموا» ، وقرأ ابن عباس : «ولا تيمموا» ، بضم التاء . ويممه وتيممه وتأممه ، سواء في معنى قصده { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك : أغمض فلان عن بعض حقه ، إذا غضّ بصره . ويقال للبائع : أغمض ، أي لا تستقص ، كأنك لا تبصر . وقال الطِّرِمَّاح :

لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ ... وَلِلضَّيْمِ رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بالإِغمَاضِ

وقرأ الزهريّ : «تغمضوا» . وأغمض وغمض بمعنى . وعنه : «تغمِضُوا» ، بضم الميم وكسرها . من غمض يغمض ويغمض . وقرأ قتادة : «تُغِمَضُوا» ، على البناء للمفعول ، بمعنى إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه . وقيل : إلا أن توجدوا مغمضين . وعن الحسن رضي الله عنه : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه .

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

أي يعدكم في الإنفاق { الفقر } ويقول لكم أنّ عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا . وقريء : «الفقر» ، بالضم . «والفقر» بفتحتين والوعد يستعمل في الخير والشر . قال الله تعالى : { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] { وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب : البخيل { والله يَعِدُكُم } في الإنفاق { مَغْفِرَةٍ } لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلاً } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو ثواباً عليه في الآخرة .

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

{ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ } يوفق للعلم والعمل به . والحكيم عند الله : هو العالم العامل وقرىء : «ومن يؤت الحكمة» بمعنى ومن يؤته الله الحكمة . وهكذا قرأ الأعمش . و { خَيْراً كَثِيراً } تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتي أيّ خير كثير { وما يذكر إلا أولو الألباب } . يريد الحكماء العلام العمال . والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق .

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

{ وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } في سبيل الله ، أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ } في طاعة الله ، أو في معصيته { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا للظالمين } الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو لا يفون بالنذور ، أو ينذرون في المعاصي { مِنْ أَنصَارٍ } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه .

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

«ما» في { نِعِمَّا } نكرة غير موصولة ولا موصوفة . ومعنى { فَنِعِمَّا هِىَ } فنعم شيئاً إبداؤها . وقريء بكسر النون وفتحها { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء } وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالإخفاء خير لكم . والمراد الصدقات المتطوّع بها ، فإنّ الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً» وإنما كانت المجاهرة بالفرائض أفضل ، لنفي التهمة ، حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوّع إن أراد أن يقتدى به كان إظهاره أفضل { نُكَفِّر } وقرىء بالنون مرفوعاً عطفاً على محل ما بعد الفاء ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ونحن نُكَفِّر . أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة ، ومجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده ، لأنه جواب الشرط . وقرىء : «ويكفّر» ، بالياء مرفوعاً ، والفعل لله أو للاخفاء . وتكفر بالتاء ، مرفوعاً ومجزوماً ، والفعل للصدقات . وقرأ الحسن رضي الله عنه بالياء والنصب بإضمار أن ومعناه : إن تخفوها يكن خيراً لكم ، وأن يكفر عنكم .

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } من مال { فَلاِنفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وَمَا تُنفِقُونَ } وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله ولطلب ما عنده ، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافاً مضاعفة ، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه ، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها . وقيل : حجت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فأتتها أمها تسألها وهي مشركة ، فأبت أن تعطيها ، فنزلت ، وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين . وروي : أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام ، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم . وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك . واختلف في الواجب ، فجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره .

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

الجار متعلق بمحذوف . والمعنى : اعمدوا للفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، كقوله تعالى : { في تسع آيات } [ النمل : 12 ] ويجوزأن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي صدقاتكم للفقراء . و { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } هم الذين أحصرهم الجهاد { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الارض } للكسب . وقيل هم أصحاب الصفة ، وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ، ويرضخون النوى بالنهار . وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما :

( 149 ) وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : « أَبْشِرُوا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أَمْتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي في الجنة » { يَحْسَبُهُمُ الجاهل } بحالهم { أَغْنِيَاءَ مِنَ التعفف } مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بسيماهم } من صفرة الوجه ورثاثة الحال . والإلحاف : الإلحاح ، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه . من قولهم : لحفني من فضل لحافه ، أي أعطاني من فضل ما عنده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .

( 150 ) « إنّ الله تعالى يحبّ الحَيّيِ الحليم المتعفف ، ويبغض البذيّ السئال الملحف » ومعناه : أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا وقيل : هو نفي للسؤال والإلحاف جميعاً كقوله :

عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... يريد نفي المنار والاهتداء به .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

{ الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال . وقيل : نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السرّ ، وعشرة في العلانية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في عليّ رضي الله عنه : لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية . وقيل : نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية .

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

{ الرباا } كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع { لاَ يَقُومُونَ } إذا بعثوا من قبورهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أي المصروع . وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع . والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء ، فورد على ما كانوا يعتقدون . والمس : الجنون . ورجل ممسوس ، وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجنيَّ يمسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل : معناه ضربته الجنّ ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات . فإن قلت : بم يتعلق قوله : { مِنَ المس } ؟ قلت : ب ( لا يقومون ) ، أي لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع . ويجوز أن يتعلق بيقوم ، أي كما يقوم المصروع من جنونه . والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين ، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون ، إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإيفاض { ذَلِكَ } العقاب بسبب قولهم { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } . فإن قلت : هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب أن يقال : إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه ، وكانت شبهتهم أنهم قالوا : لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهماً بدرهمين؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة ، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع . وقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } إنكار لتسويتهم بينهما ، ودلالة عل أنّ القياس يهدمه النص ، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ } فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا { فانتهى } فتبع النهي وامتنع { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فلا يؤخذ بما مضى منه ، لأنه أخذ قبل نزول التحريم { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } يحكم في شأنه يوم القيامة ، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به { وَمَنْ عَادَ } إلى الربا { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق . وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقي ، ولأنها في معنى الوعظ . وقرأ أبيٌّ والحسن : «فمن جاءته» . { يَمْحَقُ الله الرباا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : الربا وإن كثر إلى قلّ . { وَيُرْبِى الصدقات } ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه . وفي الحديث .

( 151 ) " ما نقَّصَتْ زكاةٌ من مال قط " { كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين .

أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا ، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها . روي : أنها نزلت في ثقيف ، وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا . وقرأ الحسن رضي الله عنه : «ما بقى» ، بقلب الياء ألفاً على لغة طيىء : وعنه «ما بقيْ» بياء ساكنة . ومنه قول جرير :

هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمُو ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ

{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن صح إيمانكم ، يعني أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به . وقرىء : «فآذنوا» ، فأعلموا بها غيركم ، وهو من الإذن وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم . وقرأ الحسن : «فأيقنوا» ، وهو دليل لقراءة العامّة . فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت : كان هذا أبلغ ، لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله . وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يديْ لنا بحرب الله ورسوله . { وَإِن تُبتُمْ } من الارتباء { فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ } المديونين بطلب الزيادة عليها { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقصان منها . فإن قلت : هذا حكمهم إن تابوا ، فما حكمهم لو لم يتوبوا قلت : قالوا : يكون مالهم فيئاً للمسلمين ، وروى المفضل عن عاصم : ( لا تظلمون ولا تظلمون ) { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار : وقرا عثمان رضي الله عنه . «ذا عسرة» على وإن كان الغريم ذا عسرة . وقرىء : ( ومن كان ذا عسرة ) { فَنَظِرَةٌ } أي فالحكم أو فالأمر نظرة وهي الإنظار . وقرىء : «فنظْرة» بسكون الظاء . وقرأ عطاء : «فناظره» . بمعنى فصاحب الحق ناظره : أي منتظره ، أو صاحب نظرته على طريقة النسب كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل . وعنه : فناظرْه ، على الأمر بمعنى فسامحه بالنظرة وياسره بها { إلى مَيْسَرَةٍ } إلى يسار وقرىء بضم السين ، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة . وقرىء بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله :

وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا ... وقوله تعالى : { وإقام الصلاة } [ النور : 37 ] . { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ندب إلى أن يتصدقوا برؤس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها ، كقوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] . وقيل : أريد بالتصدق الإنظار لقوله صلى الله عليه وسلم .

( 152 ) " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم فتعملوا به ، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه . وقرىء «تصدّقوا» بتخفيف الصاد على حذف التاء { تُرْجَعُونَ } قرىء على البناء للفاعل والمفعول : وقرىء : «يرجعون» بالياء على طريقة الالتفات . وقرأ عبد الله : «تردّون» : وقرأ أبيّ : «تصيرون» . وعن ابن عباس : أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام ، وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة . وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً . وقيل : أحداً وثمانين . وقيل : سبعة أيام . وقيل : ثلاث ساعات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

{ إِذَا تَدَايَنتُم } إذا داين بعضكم بعضاً . يقال : داينت الرجل عاملته { بِدَيْنٍ } معطياً أو آخذاً كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك . قال رؤبة :

دَايَنْتُ أرْوَى والدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا

والمعنى : إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه . فإن قلت : هلا قيل : إذا تداينتم إلى أجل مسمى وأي حاجة إلى ذكر «الدين» كما قال : داينت أروى ، ولم يقل : بدين؟ قلت : ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن . ولأنه أبين بتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مُّسَمًّى } قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم يجز لعدم التسمية . وإنما أمر بكتبة الدين ، لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والأمر للندب . وعن ابن عباس : أن المراد به السلم ، وقال : لما حرم الله الرّبا أباح السلف . وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية . { بالعدل } متعلق بكاتب صفة له ، أي كاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط . لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص . وفيه : أن يكون الكاتب فقيها عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع . وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً دينا { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب { أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير . وقيل هو قوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] أي ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها . وعن الشعبي : هي فرض كفاية ، وكما علمه الله : يجوز أن يتعلق بأن يكتب ، وبقوله فليكتب . فإن قلت : أي فرق بين الوجهين؟ قلت : إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم قيل له { فَلْيَكْتُبْ } يعني فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد ، وإن علقته بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيدة { وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به . والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ } [ الفرقان : 5 ] . { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ } من الحق { شَيْئاً } والبخس : النقص . وقرىء «شياً» ، بطرح الهمزة : «وشياً» ، بالتشديد { سَفِيهًا } محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف { أَوْ ضَعِيفًا } صبياً أو شيخاً مختلاً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } الذي يلي أمره من وصيّ إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه .

=======

ج3. كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ } برسول الله والقرآن { واتقوا } الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } . وقرىء : «لَمَثْوَبَةٌ» ، كمشورة ومشورة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أنّ ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا ، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم . فإن قلت : كيف أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت : لما في ذلك من الدلالة على اثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك ، فإن قلت : فهلا قيل لمثوبة الله خير؟ قلت : لأن المعنى : لشيء من الثواب خير لهم . ويجوز أن يكون قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ } تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا . ثم ابتدىء لمثوبة من عند الله خير . كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم : راعنا يا رسول الله ، أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه . وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي «راعينا» فلما سمعوا بقول المؤمنين : راعنا . افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون به تلك المسبة ، فنهى المؤمنون عنها وأُمروا بما هو في معناها وهو { انظرنا } من نظره إذا انتظره . وقرأ أُبيّ : «انظرنا» من النظرة ، أي أمهلنا حتى نحفظ وقرأ عبد الله بن مسعود : «راعونا» ، على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع للتوقير : وقرأ الحسن : «راعناً» ، بالتنوين من الرعن وهو الهوج ، أي لا تقولوا قولاً راعنا منسوباً إلى الرعن رعينّاً ، كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم : راعينا ، وكان سبباً في السب اتصف بالرعن { واسمعوا } وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة ، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعانة وطلب المراعاة ، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا ، أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه ، تأكيداً عليهم ترك تلك الكلمة . وروي :

( 48 ) أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه . فقالوا : أولستم تقولونها فنزلت . { وللكافرين } ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه { عَذَابٌ أَلِيمٌ } من الأولى للبيان لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب ، والمشركون؛ كقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] والثانية مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة لابتداء الغاية . والخير الوحي ، وكذلك الرحمة كقوله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ ر بِكَ } [ الزخرف : 32 ] والمعنى : أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي { والله } يختصّ بالنبوة { مَن يَشَآء } ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة { والله ذُو الفضل العظيم } إشعار بأنّ إيتاء النبوّة من الفضل العظيم كقوله تعالى : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } [ الإسراء : 87 ] .

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً؟ فنزلت . وقرىء : «ما ننسخ من آية» وما نُنسخ ، بضم النون ، من أنسخ ، أو ننسأها . وقرىء : «ننسها» و«ننسها» بالتشديد ، و«تنسها» ، و«تنسها» ، على خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ عبد الله : «ما ننسك من آية أو ننسخها» وقرأ حذيفة : «ما ننسخ من آية أو ننسكها» . ونسخ الآية : إزالتها بإبدال أخرى مكانها وإنساخها : الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها . ونسؤها ، تأخيرها وإذهابها . لا إلى بدل . وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب . والمعنى أن كل آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معاً ، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل { نَأْتِ } بآية خير منها للعباد ، أي بآية العمل بها أكثر للثواب أو مثلها في ذلك { على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } فهو يملك أموركم يدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ . لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره ، وقررهم على ذلك بقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ } أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى عليه السلام من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالاً عليهم كقولهم : { اجعل لَّنَا إلها } [ الأعراف : 138 ] ، { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ، وغير ذلك { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة ، وشك فيها ، واقترح غيرها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } .

( 49 ) روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلاً ، فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد . قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ . وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله رباً ، وبمحمد نبياً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخواناً . ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : " أصبتما خيراً وأفلحتما " فنزلت . فإن قلت : بم تعلق قوله : { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بوَدَّ ، على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟ وإما أن يتعلق بحسدا ، أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل أنفسهم { فاعفوا واصفحوا } فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } الذي هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على الانتقام منهم { مّنْ خَيْرٍ } من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما { تَجِدُوهُ عِندَ الله } تجدوا ثوابه عند الله { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } عالم لا يضيع عنده عمل عامل .

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

الضمير في { وَقَالُواْ } لأهل الكتاب من اليهود والنصارى . والمعنى : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلف بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله ، وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه . ونحوه : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } [ البقرة : 135 ] ، والهود : جمع هائد ، كعائذ وعُوذ ، وبازل وبُزل . فإن قلت : كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت : حمل الاسم على لفظ «من» والخبر على معناه ، كقراءة الحسن «إلا من هو صالو الجحيم» . وقوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } [ الجن : 23 ] . وقرأ أبيّ بن كعب : «إلا من كان يهودياً أو نصرانياً» . فإن قلت : لم قيل : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } وقولهم : «لن يدخل الجنة» أمنية واحدة؟ قلت : أشير بها إلى الأماني المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم : أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم . وقوله : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } متصل بقولهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } . و { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } : اعتراض ، أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . يريد أن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل أمنيتهم هذه . والأمنية أفعولة من التمني ، مثل الأضحوكة والأعجوبة { هَاتُواْ برهانكم } هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم ، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين . وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت . و «هات» صوت بمنزلة هاء ، بمعنى أحضر { بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله { فَلَهُ أَجْرُهُ } الذي يستوجبه . فإن قلت : من ( أسلم وجهه ) كيف موقعه؟ قلت : يجوز أن يكون { بلى } ردّاً لقولهم ، ثم يقع «من أسلم» كلاماً مبتدأ ، ويكون «من» متضمناً لمعنى الشرط ، وجوابه «فله أجره» ، وأن يكون «من أسلم» فاعلاً لفعل محذوف ، أي بلى يدخلها من أسلم ، ويكون قوله «فله أجره» كلاماً معطوفاً على يدخلها من أسلم .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

{ على شَىْء } أي على شيء يصح ويعتدّ به . وهذه مبالغة عظيمة ، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء ، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه . فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده . وهذا كقولهم : أقل من لا شيء { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } الواو للحال . والكتاب للجنس أي قالوا ذلك ، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدّق للثاني شاهد بصحته ، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً { كذلك } أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج { قَالَ } الجهلة { الذين } لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم قالوا لأهل كل دين : ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم . وروى :

( 50 ) أن وفد نجران لمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل . وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة . { فالله يَحْكُمُ } بين اليهود والنصارى { يَوْمَ القيامة } بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه . وعن الحسن : حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار { أَن يُذْكَرَ } ثاني مفعولي منع . لأنك تقول : منعته كذا . ومثله { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ } [ الاسراء : 59 ] ، { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } [ الاسراء : 94 ] ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن ، ولك أن تنصبه مفعولاً له بمعنى كراهة أن يذكر ، وهو حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم ، والسبب فيه أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه ، وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا . وقيل : أراد به منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . فإن قلت : فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين . وكما قال الله عز وجل : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق { وسعى فِى خَرَابِهَا } بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان . وينبغي أن يراد ب «من» منع العموم كما أريد بمساجد الله ، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين { أولئك } المانعون { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا } أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله { إِلاَّ خَائِفِينَ } على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوّهم . وقيل : ما كان لهم في حكم الله ، يعني : أن الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخلوها إلا خائفين . روى : أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة . وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة . وقيل : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 51 ) " ألا لا يحجنّ بعد هذاالعام مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان " وقرأ أبو عبد الله : «إلا خيفاً» ، وهو مثل صيم . وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد : فجوّزه أبو حنيفة رحمه الله ، ولم يجوزه مالك ، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره . وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه ، كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الاحزاب : 53 ] { خِزْىٌ } قتلٌ وسبيٌ ، أو ذلة بضرب الجزية . وقيل : فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية .

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

{ وَلِلَّهِ المشرق والمغرب } أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } . { فَثَمَّ وَجْهُ الله } أي جهته التي أمر بها ورضيها . والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص [ إمكانها ] في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان { إِنَّ الله واسع } الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم { عَلِيمٌ } بمصالحهم . وعن ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت . وعن عطاء : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا . وقيل : معناه ( فأينما تولوا ) للدعاء والذكر ولم يرد الصلاة . وقرأ الحسن : فأينما تَولوا ، بفتح التاء من التولي يريد : فأينما توجهوا القبلة .

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

{ وَقَالُواْ } وقرىء بغير واو ، يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله والملائكة بنات الله . { سبحانه } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض } هو خالقه ومالكه ، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح { كُلٌّ لَّهُ قانتون } منقادون ، لا يمتنع شيء منه على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد . والتنوين في { كُلٌّ } عوض من المضاف إليه ، أي كل ما في السموات والأرض . ويجوز أن يراد كلّ من جعلوه لله ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم . فإن قلت : كيف جاء بما التي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركنَّ لنا . وكأنه جاء ب ( ما ) دون ( من ) تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، كقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

يقال بدع الشيء فهو بديع ، كقولك : بزع الرجل فهو بزيع . و { بَدِيعُ السماوات } من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه . وقيل : البديع بمعنى المبدع ، كما أنّ السميع في قول عمرو :

أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... بمعنى المسمع وفيه نظر { كُنْ فَيَكُونُ } من كان التامّة ، أي أحدث فيحدث . وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم ، كما لا قول في قوله :

إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحق ... وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فأنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء . أكد بهذا استبعاد الولادة لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها . وقرىء : «بديعُ السموات» مجروراً على أنه بدل من الضمير في له . وقرأ المنصور بالنصب على المدح .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

{ وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } وقال الجهلة من المشركين . وقيل من أهل الكتاب ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به . { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلّم موسى؟ استكباراً منهم وعتوّاً { أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ } جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات ، واستهانة بها { تشابهت قُلُوبُهُمْ } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى ، كقوله : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } [ الذاريات : 52 ] . { قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ } ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

{ إِنَّا أرسلناك } لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه ، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر . ولا نسألك { عَنْ أصحاب الجحيم } ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم ، كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] وقرىء : «ولا تَسْأَلْ» على النهي . روي أنه قال : ( 52 ) " ليت شعري ما فعل أبواي " . فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله . وقيل : معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول : كيف فلان؟ سائلاً عن الواقع في بلية ، فيقال لك : لا تسأل عنه . ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته ، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، و أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره ، فلا تسأل ، وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد الله : «ولن تسأَل» ، وقراءة أبيّ : «وما تسأل» .

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

كأنهم قالوا : لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا ، إقناطاً منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام ، فحكى الله عزّ وجلّ كلامهم ، ولذلك قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } على طريقة إجابتهم عن قولهم ، يعني أن هدى الله الذي هو الإسلام وهو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى ، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى ، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى . ألا ترى إلى قوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع { بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم } أي من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

{ الذين ءاتيناهم الكتاب } هم مؤمنون أهل الكتاب { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } لا يحرّفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ } بكتابهم دون المحرفين { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } من المحرفين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حيث اشتروا الضلالة بالهدى .

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

{ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } اختبره بأوامر ونواه . واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه عن اختيار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه : «إبراهيمُ ربَّه» رفع إبراهيم ونصب ربه . والمعنى : أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت : الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير ، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر . قلت : الإضمار قبل الذكر أن يقال : ابتلى ربه إبراهيم . فأما ابتلى إبراهيم ربه أو ابتلى ربه إبراهيم ، فليس واحداً منهما بإضمار قبل الذكر . أما الأوّل فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكراً ظاهراً . وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدّم في المعنى ، وليس كذلك : ابتلى ربه إبراهيم ، فإن الضمير فيه قد تقدم لفظاً ومعنى فلا سبيل إلى صحته . والمستكن { فَأَتَمَّهُنَّ } في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى : فقام بهنّ حق القيام وأدّاهنّ أحسن التأدية من غير تفريط وتوان . ونحو : { وإبراهيم الذى وفى } وفى الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً . ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] ، { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } ، { وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } . { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } فإن قلت : ما العامل في إذ؟ قلت : إما مضمر نحو : واذكر إذ ابتلى أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت ، وإما { قَالَ إِنّى جاعلك } . فإن قلت : فما موقع قال؟ قلت : هو على الأوّل استئناف ، كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : قال إني جاعلك للناس إماماً . وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها . ويجوز أن يكون بياناً لقوله : ( ابتلى ) وتفسيراً له فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده . والإسلام قبل ذلك في قوله : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } وقيل في الكلمات : هنّ خمس في الرأس : الفرق ، وقص الشارب ، والسواك ، والمضمضة والاستنشاق . وخمس في البدن : الختان ، والاستحداد ، والاستنجاء ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط . وقيل : ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً : عشر في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 122 ] ، وعشر في الأحزاب { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الاحزاب : 35 ] ، وعشر في المؤمنون ، و ( سأل سائل ) إلى قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ المعارج : 34 ] . وقيل : هي مناسك الحج ، كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ . وقيل : ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس والختان وذبح ابنه والنار والهجرة . والإمام اسم من يؤتم به على زنة الإله ، كالإزار لما يؤتزر به ، أي يأتمون بك في دينهم { وَمِن ذُرّيَتِى } عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } وقرىء : «الظالمون» ، أي من كان ظالماً من ذرّيتك .

لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم وقالوا : في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة . وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته . ولا تجب طاعته؛ ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة . وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه . وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل . فقال : ليتني مكان ابنك . وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت . وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قط . وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف الظلمة . فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم . و { البيت } اسم غالب للكعبة ، كالنجم للثريا { مَثَابَةً لّلنَّاسِ } مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أي يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم { وَأَمْناً } موضع أمن ، كقوله : { حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج . وقرىء : «مثابات» ، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم { سَوَاء العاكف فِيهِ والباد } { واتخذوا } على إرادة القول ، أي وقلنا : اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه . وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( ( 53 " أنه أخذ بيد عمر فقال : هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى يريد أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه تبركاً به وتيمناً بموطىء قدم إبراهيم فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت» " وعن جابر بن عبد الله :

( 54 ) «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة ، حتى إذا فرغ ، عمد إلى مقام إبراهيم ، فصلى خلفه ركعتين ، وقرأ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وقيل : مصلى مدعى . ومقام إبراهيم : الحجر الذي فيه أثر قدميه ، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه ، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل المطلب بن أبي وداعة : هل تدري أين كان موضعه الأوّل؟ قال : نعم ، فأراه موضعه اليوم . وعن عطاء { مَّقَامِ إبراهيم } : عرفة والمزدلفة والجمار ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها . وعن النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم . وقرىء «واتخذوا» بلفظ الماضي عطفا على «جعلنا» أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذرّيته عنده قبلةً يصلون إليها { عَهِدْنَا } أمرناهما { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } بأن طهرا ، أو أي طهرا . والمعنى طهراه من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها ، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم { والعاكفين } المجاورين الذين عكفوا عنده ، أي أقاموا لا يبرحون ، أو المعتكفين . ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين في الصلاة ، كما قال : { لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] ، والمعنى : للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

أي اجعل هذا البلد أو هذا المكان { بَلَدًا آمِنًا } ذا أمن ، كقوله { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] . أو آمنا من فيه ، كقوله : ليل نائم . و { مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم } بدل من أهله ، يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة . { وَمَن كَفَرَ } عطف على من آمن كما عطف { وَمِن ذُرّيَتِى } على الكاف في جاعلك فإن قلت : لم خصّ إبراهيم صلوات الله عليه المؤمنين حتى ردّ عليه؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة فعرّف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعى ، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له . والمعنى : وأرزق من كفر فأمتعه . ويجوز أن يكون { وَمَن كَفَرَ } مبتدأ متضمناً معنى الشرط . وقوله : { فَأُمَتّعُهُ } جواباً للشرط ، أي ومن كفر فأنا أمتعه . وقرىء : «فأمتعه فأضطره» فألزه إلى عذاب النار لزّ المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه ، وقرأ أبيّ : «فنمتعه قليلاً ثم نضطره» . وقرأ يحيى بن وثاب : «فإضطره» ، بكسر الهمزة . وقرأ ابن عباس : «فأَمْتْعهُ قليلاً ثم اضطرَّه» ، على لفظ الأمر . والمراد : الدعاء من إبراهيم دعا ربّه بذلك . فإن قلت : فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟ قلت : في ( قال ) : ضمير إبراهيم ، أي قال إبراهيم بعد مسئلته اختصاص المؤمنين بالرزق : ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره . وقرأ ابن محيصن : «فأطره» ، بإدغام الضاد في الطاء كما قالوا : اطجع ، وهي لغة مرذولة ، لأنّ الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم هي فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف «ضم شفر» .

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

{ يَرْفَعُ } حكاية حال ماضية . و { القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وهي صفة غالبة ، ومعناها الثابتة . ومنه قعّدك الله ، أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك . ورفع الأساس : البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر . ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأنّ كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه . ومعنى رفع القواعد : رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات . ويجوز أن يكون المعنى : وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت أي استوطأ يعني جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء ، وروي : أنه كان مؤسساً قبل إبراهيم فبنى على الأساس . وروي : أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد : شرقي وغربي ، وقال لآدم عليه السلام : أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي ، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشياً ، وتلقته الملائكة فقالوا : بَرَّ حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور ، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرّفه جبريل مكانه . وقيل : بعث الله سحابةً أظلته : ونودي : أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص . وقيل : بناه من خمسة أجبل طورسينا ، وطورزيتا ، ولبنان ، والجودي ، وأسسه من حراء . وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء . وقيل : تمخض أبو قبيس فانشق عنه ، وقد خبىء فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من الجنة ، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسودّ . وقيل : كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة { رَبَّنَا } أي يقولان ربنا . وهذا الفعل في محل النصب على الحال ، وقد أظهره عبد الله في قراءته ، ومعناه : يرفعانها قائلين ربنا { إِنَّكَ أَنتَ السميع } لدعائنا { العليم } بضمائرنا ونياتنا . فإن قلت : هلا قيل : قواعد البيت ، وأي فرق بين العبارتين؟ قلت : في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين { مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مخلصين لك أوجهنا ، من قوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] أو مستسلمين . يقال : أسلم له وسلم واستسلم ، إذا خضع وأذعن . والمعنى : زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك . وقرىء : «مسلمين» على الجمع ، كأنهما أرادا أنفسهما وهاجر ، أو أجريا التثنية على حكم الجمع لأنها منه { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } واجعل من ذرّيتنا { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } و { مِنَ } للتبعيض أو للتبيين ، كقوله : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] . فإن قلت : لم خصّا ذرّيتهما بالدعاء؟ قلت : لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة

{ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير . ألا ترى أن المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد ، كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَرِنَا } منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرّف . ولذلك لم يتجاوز مفعولين ، أي وبصرنا متعبداتنا في الحج ، أو وعرفناها . وقيل : مذابحنا . وقرىء : ( وأرْنا ) بسكون الراء قياساً على فخذ في فخذ . وقد استرذلت ، لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها ، فإسقاطها إجحاف . وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة . وقرأ عبد الله : «وأرهم مناسكهم» . { وَتُبْ عَلَيْنَا } ما فرط منا من الصغائر أو استتاباً لذرّيتهما { وابعث فِيهِمْ } في الأمة المسلمة { رَسُولاً مّنْهُمْ } من أنفسهم . وروى أنه قيل له : قد استجيب لك وهو في آخر الزمان ، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم . قال عليه الصلاة والسلام :

( 55 ) " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى ورؤيا أمي " { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } القرآن { والحكمة } الشريعة وبيان الأحكام { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس ، كقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث } [ الاعراف : 157 ] .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

{ وَمَن يَرْغَبُ } إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم . و { مَن سَفِهَ } في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب ، وصحّ البدل لأنّ من يرغب غير موجب ، كقولك : هل جاءك أحد إلا زيد { سَفِهَ نَفْسَهُ } امتهنها واستخف بها . وأصل السفه : الخفة . ومنه زمام سفيه . وقيل : انتصاب النفس على التمييز ، نحو : غبن رأيه وألم رأسه . ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله :

وَلاَ بِفَزَارَةَ الشُّعُرِ الرِّقَابَا ... أجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ ... وقيل معناه : سفه في نفسه ، فحذف الجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني . والوجه هو الأوّل . وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث :

( 56 ) « الكبر أن تَسَفِّهَ الحق وتغمص الناس » وذلك أنه إذا رغب عمَّا لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها ، حيث خالف بها كل نفس عاقبة { وَلَقَدِ اصطفيناه } بيان لخطأِ رأي من رغب عن ملته ، لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين ، بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا وكان مشهوداً له بالاستقامة على الخير في الآخرة ، لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه { إِذْ قَالَ } ظرف لاصطفيناه ، أي : اخترناه في ذلك الوقت . أو انتصب بإضمار ( اذكر ) استشهاداً على ما ذكر من حاله . كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله . ومعنى قال له : أسلم ، أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام . و { قَالَ أَسْلَمْتُ } أي فنظر وعرف ، وقيل : أسلمْ : أي أَذعنْ وأَطعْ . وروي : أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أنّ الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون . فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم ، فنزلت .

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

قرىء : ( وأوصى ) ، وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام . والضمير في { بِهَآ } لقوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين } على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله : { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } [ الزخرف : 26-27 ] وقوله : ( كلمة باقية ) . دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة { وَيَعْقُوبُ } عطف على إبراهيم ، داخل في حكمه . والمعنى : ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً . وقرىء : «ويعقوب» ، بالنصب عطفاً على بنيه . ومعناه ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب { أَوْ يا بني } على إضمار القول عند البصريين . وعند الكوفيين يتعلق بوصى ، لأنه في معنى القول . ونحوه قول القائل :

رَجْلاَنِ مِنْ ضَبَّةَ أخْبَرَانَا ... إنّا رَأَيْنَا رَجُلاً عُرْيَانَا

بكسر الهمزة : فهو بتقدير القول عندنا . وعندهم يتعلق بفعل الإخبار . وفي قراءة أبيّ وابن مسعود : «أن يا بنيَّ» { اصطفى لَكُمُ الدين } أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام . ووفقكم للأخذ به { فَلاَ تَمُوتُنَّ } معناه فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، كقولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته . فإن قلت : فأي نكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة وليس بمنهى عنها؟ قلت : النكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ، فكأنه قال : أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة . ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام :

( 57 ) " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد : لا تصلِّ إلا في المسجد : وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم . وتقول في الأمر أيضاً : مت وأنت شهيد . وليس مرادك الأمر بالموت . ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات؛ وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته ، وإظهاراً لفضلها على غيرها ، وأنها حقيقة بأن يحث عليها .

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار . والشهداء جمع شهيد ، بمعنى الحاضر : أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت ، أي حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي . وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبيٌ إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية . فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : ( أم كنتم شهداء ) ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية؟ { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت } يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، وقد علمتم ذلك ، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ وقرىء «حَضِرَ» بكسر الضاد وهي لغة . { مَا تَعْبُدُونَ } أي شيء تعبدون؟ و { مَا } عامّ في كل شيء فإذا علم فرق بما ومن ، وكفاك دليلاً قول العلماء ( من ) لما يعقل . ولو قيل : من تعبدون ، لم يعم إلا أولي العلم وحدهم . ويجوز أن يقال : { مَا تَعْبُدُونَ } سؤال عن صفة المعبود . كما تقول : ما زيد؟ تريد : أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات؟ و { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } عطف بيان لآبائك . وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه ، لأنّ العمّ أب والخالة أمّ ، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما . ومنه قوله عليهالصلاة و السلام :

( 58 ) " عمّ الرجل صنو أبيه " أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وقال عليه الصلاة والسلام في العباس :

( 59 ) " هذا بقية آبائي " وقال :

( 60 ) " ردّوا عليّ أبي ، فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود " وقرأ أبيّ : و«إله إبراهيم» ، بطرح آبائك . وقرىء : «أبيك» . وفيه وجهان : أن يكون واحداً وإبراهيم وحده عطف بيان له ، وأن يكون جمعاً بالواو والنون . قال :

وَفَدَّيْنَنَا بالأَبِينَا ... { إلها واحدا } بدل من إله آبائك ، كقوله تعالى : { بالناصية نَاصِيَةٍ كاذبة } [ العلق : 15 16 ] أو على الاختصاص ، أي نريد بإله آبائك إلها واحداً { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } حال من فاعل نعبد ، أو من مفعوله ، لرجوع الهاء إليه في له . ويجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد ، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون .

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

{ تِلْكَ } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون . والمعنى : أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً ، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم . وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم . ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 61 ) « يا بني هاشم ، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم » ، { وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولا تؤاخذون بسيآتهم كما لا تنفعكم حسناتهم .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

{ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم } بل تكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدّي بن حاتم :

( 62 ) ( إني من دين ) يريد من أهل دين . وقيل : بل نتبع ملة إبراهيم . وقرىء : ( مِلّةُ إبراهيم ) بالرفع ، أي ملته ملتنا ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته . و { حَنِيفاً } حال من المضاف إليه ، كقولك : رأيت وجه هند قائمة . والحنيف : المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق . والحنف : الميل في القدمين . وتحنف إذا مال . وأنشد :

وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ... حَنِيفاً دِينُنَا عَنْ كُلّ دِينِ

{ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلا منهم يدّعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك .

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

{ وَقُولُواْ } خطاب للمؤمنين . ويجوز أن يكون خطابً للكافرين ، أي وقولوا لتكونوا على الحق ، وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله : { بَلْ مِلَّةَ إبراهم } يجوز أن يكون على : بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته . والسبط : الحافد . وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَالاسْبَاطِ } حفدة يعقوب ذراريّ أبنائه الاثني عشر { لا نفرق بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى . و { أَحَدٍ } في معنى الجماعة . ولذلك صحّ دخول { بَيْنَ } عليه . { بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 185 ] فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير ، أي : فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا . وفيه أنّ دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال . ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك . ولكنك تريد تبكيت صاحبك ، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه . ويجوز أن لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة ، كقولك : كتبت بالقلم ، وعملت بالقدوم أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «بما آمنتم به» وقرأ أبيّ : «بالذي آمنتم به» { وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ } عما تقولون لهم ولم ينصفوا فما هم إلا { فِى شِقَاقٍ } أي في مناوأة ومعاندة لا غير ، وليسوا من طلب الحق في شيء . أو : وإن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير . ومعنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين { وَهُوَ السميع العليم } وعيد لهم ، أي يسمع ما ينطقون به ، ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه . أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى : يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق ، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

{ صِبْغَةَ الله } مصدر مؤكد منتصب على قوله : { آمنا بالله } كما انتصب { وَعَدَ الله } عما تقدمه ، وهي ( فعلة ) من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى : تطهير الله ، لأن الإيمان يطهر النفوس . والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : { قُولُواْ ءامَنَّا بالله } وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا . أو يقول المسلمون . صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم . وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة ، كما تقول لمن يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلاً يصطنع الكرم { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } يعني أنه يصبغ عباده بالإيمان . ويطهرهم به من أوضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته . وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ عابدون } عطف على { آمنا بالله } . وهذا العطف يردّ قول من زعم أن { صِبْغَةَ الله } بدل من { مِلَّةِ إبراهيم } أو نصب على الإغراء بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه ، وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام .

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

قرأ زيد بن ثابت «اتحاجُّونَّا» بإدغام النون . والمعنى : اتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوة منا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } نشترك جميعاً في أننا عباده ، وهو ربنا ، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده ، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة { وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } يعني أن العمل هو أساس الأمر وبه العبرة ، وكما أن لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك . ثم قال : { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } فجاء بما هو سبب الكرامة ، أي ونحن له موحدون نخلصه بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة ، وكانوا يقولون : نحن أحقّ بأن تكون النبوَّة فينا ، لأنا أهل كتاب والعرب عبدة أوثان { أَمْ تَقُولُونَ } يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون أم معادلة للهمزة في { أَتُحَاجُّونَنَا } بمعنى أيّ الأمرين تأتون : المحاجة في حكمة الله أم ادّعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معاً ، وأن تكون منقطعة بمعنى : بل أتقولون ، والهمزة للإنكار أيضاً ، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة { قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } يعني أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } [ آل عمران : 67 ] . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله } أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية . ويحتمل معنيين : أحدهما أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ، لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها . والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها . وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته . ( ومن ) في قوله : { شهادة عِندَهُ مِنَ الله } مثلها في قولك : هذه شهادة مني لفلان إذا شهدت له ، ومثله { بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] .

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

{ سَيَقُولُ السفهاء } الخفاف الأحلام وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة ، وأنهم لا يرون النسخ . وقيل : المنافقون ، لحرصهم على الطعن والاستهزاء . وقيل : المشركون ، قالوا : رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها ، والله ليرجعن إلى دينهم . فإن قلت : أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه أشدّ ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدّمه من توطين النفس ، وأنّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه ، وقبل الرمي يراش السهم { مَا ولاهم } ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ } وهي بيت المقدس { لّلَّهِ المشرق والمغرب } أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها { يَهْدِى مَن يَشَآءُ } من أهلها { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة ، من توجيههم تارة إلى بيت المقدس ، وأخرى إلى الكعبة { وكذلك جعلناكم } ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم { أُمَّةً وَسَطًا } خياراً ، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء . ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . ونحوه قوله عليه السلام : (

( 63 « وأنطوا الثبجة » يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفاً بالثَّج وهو : وسط الظهر ، إلا أنه ألحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف . وقيل : للخيار : وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأعوار والأوساط محمية محوّطة . ومنه قول الطائي :

كَانَتْ هِيَ الْوَسَط المَحْمِيَّ فَاكْتَنفَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا

وقد اكتريت بمكة جمل أعرابي للحج فقال : أعطني من سطاتهنه ، أراد من خيار الدنانير . أو عدولاً ، لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } روي :

( 64 ) ( أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ) وذلك قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .

فإن قلت : فهلا قيل لكم شهيداً وشهادته لهم لا عليهم . قلت : لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له ، جيء بكلمة الاستعلاء . ومنه قوله تعالى : { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } [ المجادلة : 7 ] ، { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } [ المائدة : 17 ] . وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } يزكيكم ويعلم بعدالتكم ، فإن قلت : لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدّمت آخراً؟ قلت : لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم { التى كُنتَ عَلَيْهَا } ليست بصفة للقبلة إنما هي ثاني مفعولي جعل . يريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة فيقول : وما جعلنا القبلة التي تجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلاً بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء { لَنَعْلَمُ } الثابت على الإسلام الصادق فيه ، ممن هو على حرف ينكُص { على عَقِبَيْهِ } لقلقه فيرتدّ كقوله : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية . ويجوز أن يكون بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلته . يعني أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض . وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس ، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه . وعن ابن عباس رضي الله عنه :

( 65 ) ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه ) فإن قلت : كيف قال { لِنَعْلَمَ } ولم يزل عالماً بذلك؟ قلت : معناه : لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً ونحوه : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ التوبة : 16 ] . وقيل : ليعلم رسول الله والمؤمنون . وإنَما أسند علمهم إلى ذاته ، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده . وقيل : معناه لنميز التابع من الناكص ، كما قال : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } [ الأنفال : 37 ] فوضع العلم موضع التمييز لأنّ العلم به يقع التمييز به { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } هي إن المخففة التي تلزمها اللام الفارقة . والضمير في { كَانَتْ } لما دلّ عليه قوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } من الردّة ، أو التحويلة ، أو الجعلة . ويجوز أن يكون للقبلة { لَكَبِيرَةٌ } لثقيلة شاقة { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول الذين لطف الله بهم وكانوا أهلاً للطفه { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان وأنكم لم تزلّوا ولم ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم . ويجوز أن يراد : وما كان الله ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم . وقيل : من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة . عن ابن عباس رضي الله عنه :

( 66 ) لما وجه رسول الله إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت .

{ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم . ويحكى عن الحجاج أنه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب ، فقرأ قوله : { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ثم قال : وعليٌّ منهم ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته ، وأقرب الناس إليه ، وأحبهم . وقرىء : «إلا لِيُعْلِمَ» على البناء للمفعول . ومعنى العلم : المعرفة . ويجوز أن تكون ( من ) متضمنة لمعنى الاستفهام معلقاً عنها العلم ، كقولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو . وقرأ ابن أبي إسحاق «على عقبيه» بسكون القاف . وقرأ اليزيدي «لكبيرة» بالرفع . ووجهها أن تكون ( كان ) مزيدة ، كما في قوله :

وَجِيْرَانٍ لَنَا كانُوا كِرَامِ

والأصل : وإن هي لكبيرةٌ كقولك : إن زيد لمنطلق ثم وإن كانت لكبيرة وقرىء : «ليضيع» بالتشديد .

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

{ قَدْ نرى } ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله :

قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّاً أنَامِلُهُ ... { تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل { فَلَنُوَلّيَنَّكَ } فلنعطينّك ولنمكننك من استقبالها ، من قولك : وليته كذا . إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس { تَرْضَاهَا } تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته { شَطْرَ المسجد الحرام } نحوه . قال :

وَأَظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ ... وقرأ أبيّ : «تلقاء المسجد الحرام» . وعن البراء بن عازب :

( 67 ) قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة وقيل :

( 68 ) كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب ، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، فسمى المسجد مسجد القبلتين . و { شَطْرَ المسجد } نصب على الظرف ، أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد . وذكر المسجد الحرام دون الكعبة : دليل في أنّ الواجب مراعاة الجهة دون العين { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق } أن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله أنه يصلّي إلى القبلتين { يَعْمَلُونَ } قرىء بالياء والتاء { مَّا تَبِعُواْ } جواب القسم المحذوف سدّ مسدّ جواب الشرط . { بِكُلّ ءايَةٍ } بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ، ما تبعوا { قِبْلَتَكَ } لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة ، إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } حسم لأطماعهم إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم . وقرىء : «بتابع قبلتهم» على الإضافة { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم ، كما لا ترجى موافقتهم لك . وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس . أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه ، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان ، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده . وقوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله { وما أنت بتابع قبلتهم } كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ، بمعنى : ولئن اتبعتم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر { إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين } المرتكبين الظلم الفاحش . وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير . واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق . فإن قلت : كيف قال : ( وما أنت بتابع قبلتهم ) ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت : كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق ، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

{ يَعْرِفُونَهُ } يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني . قال : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي . فأما ولدي ، فلعل والدته خانت ، فقبل عمر رأسه . وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع . ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوماً بغير إعلام . وقيل : الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة . وقوله : ( كما يعرفون أبناءهم ) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام . فإن قلت : لم اختص الأبناء؟ قلت : لأنّ الذكور أشهر وأعرف ، وهم لصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق . وقال { فريقاً منهم } استثناء لمن آمن منهم ، أو لجهالهم الذين [ قال الله تعالى فيهم ] { وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } [ البقرة : 78 ] . { الحق مِن رَّبّكَ } يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف . أي هو الحق . أو مبتدأ خبره ( من ربك ) وفيه وجهان : أن تكون اللام للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الحق الذي في قوله ليكتمون الحق . أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل . فإن قلت : إذا جعلت الحق خبر مبتدأ فما محل من ربك؟ قلت : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون حالاً . وقرأ عليّ رضي الله عنه : «الحق من ربك» . على الإبدال من الأوّل ، أي يكتمون الحق ، الحق من ربك ، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أوفي أنه من ربك { وَلِكُلٍ } من أهل الأديان المختلفة { وِجْهَةٌ } قبلة . وفي قراءة أبيّ : «ولكل قبلة» { هُوَ مُوَلّيهَا } وجهه ، فحذف أحد المفعولين . وقيل هو لله تعالى ، أي الله موليها إياه . وقرىء : «ولكل وجهة» على الإضافة . والمعنى وكل وجهةٍ اللَّهُ موليها ، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك : لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه . وقرأ ابن عامر : «هو مولاها» أي هو مولى تلك الجهة وقد وليها . والمعنى : لكل أمّة قبلة تتوجه إليها ، منكم ومن غيركم { فَاسْتَبِقُوا } أنتم { الخَيْرَاتِ } واستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره . ومعنى آخر : وهو أن يراد : ولكل منكم يا أمة محمد وجهة أي جهة يصلّى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية فاستبقوا الخيرات { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا } للجزاء من موافق ومخالف لا تعجزونه . ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت ، أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم ، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ { بِشَىْءٍ } بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه { وَبَشّرِ الصابرين } المسترجعين عند البلاء؛ لأنّ الاسترجاع تسليم وإذعان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 70 ) " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه " . وروي :

( 71 ) أنه طفىء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إنا لله وإنا إليه راجعون» فقيل : أمصيبة هي؟ قال : «نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة» ، وإنما قلل في قوله : ( بشيء ) ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم وإنما وعدهم ذلك قبل كونه ليوطنوا عليه نفوسهم . ( نقص ) عطف على ( شيء ) أو على الخوف ، بمعنى : وشيء من نقص الأموال . والخطاب في ( بشر ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى منه البشارة . وعن الشافعي رحمه الله في الخوف : خوف الله . والجوع : صيام شهر رمضان؛ والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات؛ موت الأولاد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 72 ) " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضّتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " . والصلاة : الحنو والتعطف ، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة . كقوله تعالى : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [ الحديد : 27 ] ، { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] . والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة . ورحمة أيّ رحمة . { وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون } لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله .

والصفا والمروة : علمان للجبلين ، كالصمان والمقطم ، والشعائر : جمع شعيرة وهي العلامة ، أي من أعلام مناسكه ومتعبداته ، والحج : للقصد . والاعتمار : الزيارة ، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين ، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان . وأصل { يَطَّوَّفَ } يتطوّف فأدغم . وقرىء : «أن يطوف» من طاف . فإن قلت : كيف قيل إنهما من شعائر الله ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت : كان على الصفا أساف ، وعلى المروة نائلة ، وهما صنمان ، يروى : أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة ، فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدّة عُبدا من دون الله ، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن لا يكون عيهم جناح في ذلك ، فرفع عنهم الجناح . واختلف في السعي ، فمن قائل : هو تطوّع بدليل رفع الجناح وما فيه من التخيير بين الفعل والترك ، كقوله :

{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا } [ البقرة : 230 ] ، وغير ذلك ، ولقوله : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } كقوله : { فمن تطوّع خيراً فهو خير له } [ البقرة : 184 ] . ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير ، وتنصره قراءة ابن مسعود : ( فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما ) . وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم . وعند الأوّلين لا شيء عليه . وعند مالك والشافعي : هو ركن ، لقوله عليه السلام :

( 73 ) " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " وقرىء : «ومن يطوّع» . بمعنى : ومن يتطوع ، فأدغم . وفي قراءة عبد الله : «ومن يتطوع بخير» .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } من أحبار اليهود { مَا أَنَزَلْنَا } فِي التوراة { مِنَ البينات } من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم { والهدى } والهداية بوصفه إلى اتباعه و الإيمان به { مِنْ بَعْدَمَا بيناه } ولخصناه { لِلنَّاسِ فِي الكتاب } في التوراة ، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم ، فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولَبَّسوا على الناس { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن عليهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

{ وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من أحوالهم ، وتداركوا ما فرط منهم { وَبَيَّنُواْ } ما بينه الله في كتابهم فكتموه ، أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليمحوا سمة الكفر عنهم ، ويعرفوا بضدّ ما كانوا يعرفون به ، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا ، ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً . وقرأ الحسن : «والملائكة والناس أجمعون» ، بالرفع عطفاً على محل اسم الله ، لأنه فاعل في التقدير ، كقولك : عجبت من ضرب زيد وعمرو ، تريد من أن ضرب زيد وعمرو ، كأنه قيل : أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة . فإن قلت : ما معنى قوله : { والناس أَجْمَعِينَ } وفي الناس المسلم والكافر . قلت : أراد بالناس من يعتدّ بلعنه وهم المؤمنون . وقيل : يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً { خالدين فِيهَا } في اللعنة . وقيل : في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } من الإنظار أي لا يمهلون ولا يؤجلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا . أولا ينظر إليهم نظر رحمة .

{ إله واحد } فرد في الإلهية لا شريك له فيها ولا يصحّ أن يسمى غيره إلها . و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته { الرحمن الرحيم } المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ، ولا شيء سواه بهذه الصفة ، فإن كلّ ما سواه إمّا نعمة وإما منعم عليه . وقيل : كان للمشركين حول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } واعتقابهما لأنّ كلّ واحد منهما يعقب الآخر ، كقوله : { جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] { بِمَا يَنفَعُ الناس } بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس . فإن قلت : قوله : { وَبَثَّ فِيهَا } عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ، لأنّ قوله : ( فأحيا به الأرض ) عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ فيها من كل دابة . ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كل دابة؛ لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا . { وَتَصْرِيفِ الرياح } في مهابها : قبولاً ، ودبوراً ، وجنوباً ، وشمالاً . وفي أحوالها : حارّة ، وباردة ، وعاصفة ، ولينة . وعقماً ، ولواقح . وقيل تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب { والسحاب المسخر } سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء { لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ، لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة . وعن النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

( 74 ) " ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها " أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها . وقرىء : «الفُلُك» بضمتين ، «وتصريف الريح» ، على الإفراد .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

{ أَندَاداً } أمثالاً من الأصنام . وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم . واستدلّ بقوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } . ومعنى : { يُحِبُّونَهُمْ } يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب { كَحُبّ الله } كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله تعالى ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس . وقيل : كحبهم الله ، أي يسوُّون بينه وبينهم في محبتهم لأنهم كانوا يقرّون بالله ويتقرّبون إليه . فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين { أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره؛ بخلاف المشركين فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة { الذين ظَلَمُواْ } إشارة إلى متخذي الأنداد أي لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أنّ القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم ، فحذف الجواب كما في قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ } [ الأنعام : 27 ] ، وقولهم : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه . وقرىء : «ولو ترى» بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً . وقرىء : «إذ يرون» على البناء للمفعول . وإذ في المستقبل كقوله : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] . { إِذْ تَبَرَّأَ } بدل من { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } أي تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع . وقرأ مجاهد الأوّل على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول ، أي تبرأ الأتباع من الرؤوساء { وَرَأَوُاْ العذاب } و الواو للحال ، أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب { وَتَقَطَّعَتْ } عطف على تبرأ . و { الأسباب } الوصل التي كانت بينهم : من الاتفاق على دين واحد ، ومن الأنساب ، والمحاب ، والأتباع ، والاستتباع ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] { لَوْ } في معنى التمني . ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني ، كأنه قيل : ليت لنا كرّة ، فنتبرأ منهم { كذلك } مثل ذلك الإراء الفظيع { يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات } أي ندامات ، وحسرات : ثالث مفاعيل أرى ، ومعناه أنّ أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم { وَمَا هُم بخارجين } هم بمنزلته في قوله :

همْ يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ ... في دلالته على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

{ حَلاَلاً } مفعول كلوا ، أو حال مما في الأرض { طَيِّبَاتِ } طاهراً من كل شبهة { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } فتدخلوا في حرام ، أو شبهة ، أو تحريم حلال ، أو تحليل حرام ، و ( من ) للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول . وقرىء : «خطوات» بضمتين ، و«خطوات» بضمة وسكون ، و«خطؤات» بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو ، و«خطوات» بفتحتين و«خطوات» بفتحة وسكون . والخطوة : المرة من الخطو . والخطوة : ما بين قدمي الخاطي . وهما كالغرفة والغرفة ، والقبضة والقبضة . يقال : اتبع خطواته ، ووطىء على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته { مُّبِينٌ } ظاهر العداوة لا خفاء به { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } بيان لوجوب الإنهاء عن اتباعه وظهور عداوته . أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم { بالسوء } بالقبيح { والفحشاء } وما يتجاوز الحدّ في القبح من العظائم ، وقيل : السوء ما لا حدّ فيه . والفحشاء : ما يجب الحدّ فيه { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهو قولكم : هذا حلال وهذا حرام ، بغير علم . ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه . فإن قلت : كيف كان الشيطان آمراً مع قوله : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الحجر : 42 ] قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول : أمرتني نفسي بكذا . وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه؛ ولذلك قال : { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } [ النساء : 119 ] وقال الله تعالى : { إِنَّ النفس لأَمّارَةٌ بالسوء } [ يوسف : 53 ] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

{ لَهُمُ } الضمير للناس . وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم ، لأنه لا ضال أضل من المقلد ، كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون : قيل : هم المشركون . وقيل : هم طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم . وألفينا : بمعنى وجدنا ، بدليل قوله : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } [ لقمان : 21 ] . { أَوْ لَّوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ } الواو للحال ، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب ، معناه : أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب .

لا بدّ من مضاف محذوف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا { كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ } أو : ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق . والمعنى : ومثل داعيهم إلى الإيمان - في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت ، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار - كمثل الناعق بالبهائم ، التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ، ولا تفقه شيئاً آخر ولا تعي ، كما يفهم العقلاء ويعون . ويجوز أن يراد بما لا يسمع : الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير ، من غير فهم للحروف . وقيل معناه : ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته ، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم باطل؟ وقيل معناه : ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، إلا أنّ قوله : { إِلاَّ دُعَاءً َنِدَاءً } لا يساعد عليه ، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئاً ، والنعيق : التصويت . يقال : نعق المؤذن ، ونعق الراعي بالضأن . قال الأخطل :

فَانْعَقْ بِضَأْنِكَ يَا جرِيرُ فَإنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلاَلاَ

وأما ( نفق الغراب ) فبالغين المعجمة { صُمٌّ } هم صم ، وهو رفع على الذمّ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

{ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } من مستلذاته ، لأنّ كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالاً { واشكروا للَّهِ } الذي رزقكموها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } إن صحّ أنكم تخصونه بالعبادة . وتقرّون أنه مولى النعم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 75 ) « يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلقُ ، ويُعبد غيري وأرزق ويُشكر غيري » .

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

قرىء : «حَرّم» على البناء للفاعل ، و«حُرِّم» على البناء للمفعول ، و«حَرُم» بوزن كرم { أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } أي رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزى { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطرّ آخر بالاستيثار عليه { وَلاَ عَادٍ } سدَّ الجوعة . فإن قلت : في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 76 ) " أحلت لنا ميتتان ودمان " قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة . ألا ترى أنّ القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد ، كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال . ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث- وإن أكل لحماً في الحقيقة ، قال الله تعالى : { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } [ النحل : 14 ] وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث - وإن سماه الله تعالى دابة في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 55 ] . فإن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت : لأنّ الشحم داخل في ذكر اللحم ، لكونه تابعاً له و صفه فيه ، بدليل قولهم : لحم سمين ، يريدون أنه شحيم .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

{ فِي بُطُونِهِمْ } ملء بطونهم . يقال : أكل فلان في بطنه ، وأكل في بعض بطنه { إِلاَّ النار } لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبه عليه ، فكأنه أكل النار ، ومنه قولهم : أكل فلان الدم ، إذا أكل الدية التي هي بدل منه . قال :

أَكَلْتُ دَماً إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... وقال :

يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا ... راد ثمن الإكاف ، فسماه إكافاً لتلبسه بكونه ثمناً له { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم . وقيل : نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على صاحبه فصرمه وقطع كلامه . وقيل : لا يكلمهم بما يحبون ، ولكن بنحو قوله : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] . { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم ، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن ، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب . وقيل : فما أصبرهم ، فأي شيء صبرهم . يقال : أصبره على كذا وصبره بمعنى . وهذا أصل معنى فعل التعجب . والذي روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له : ما أصبرك على الله ، فمعناه : ما أصبرك على عذاب الله { ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ } أي ذلك العذاب بسبب أنّ الله نزل ما نزل من الكتب بالحق { وَإِنَّ الذين اختلفوا } في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب { لَفِى شِقَاقٍ } لفي خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق ، والكتاب للجنس ، أو كفرهم ذلك بسبب أنّ الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون ، وإن الذين اختلفوا فيه من المشركين -فقال بعضهم : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : أساطير- لفي شقاق بعيد . يعني أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا .

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

{ البر اسم للخير ولكل فعل مرضيّ { أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } الخطاب لأهل الكتاب لأن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنصارى قِبل المشرق . وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته ، فردّ عليهم . وقيل : ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ ، ولكن البرّ ما نبينه . وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ، فقيل : ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة ، ولكن البرّ الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال . وقرىء : «وليس البرّ» - بالنصب على أنه خبر مقدم - وقرأ عبد الله : «بأن تولوا» ، على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك : ليس المنطلق بزيد { ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله } على تأويل حذف المضاف ، أي برّ من آمن ، أو بتأول البرّ بمعنى ذي البرّ ، أو كما قالت .

فَإنمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ ... وعن المبرّد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت : ( ولكنّ البرّ ) ، بفتح الباء . وقرىء : «ولكن البارّ» . وقرأ ابن عامر ونافع : ( ولكنّ البر ) بالتخفيف { والكتاب } جنس كتب الله ، أو القرآن { على حُبّهِ } مع حب المال والشح به ، كما قال ابن مسعود : [ أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان ] كذا ولفلان كذا ) . وقيل : على حب الله . وقيل : على حب الإيتاء ، يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه . وقدم ذوي القربى لأنهم أحق . قال عليه الصلاة والسلام :

( 78 ) " صدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي رحمك اثنتان لأنها صدقة وصلة " وقال عليه الصلاة والسلام :

( 79 ) " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " . وأطلق { ذَوِى القربى واليتامى } والمراد الفقراء منهم لعدم الإلباس . والمسكين : الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالمسكير : للدائم السكر و { ابن * السبيل } المسافر المنقطع . وجُعل ابناً للسبيل لملازمته له ، كما يقال للص القاطع : ابن الطريق . وقيل : هو الضيف ، لأنّ السبيل يرعف به { والسائلين } المستطعمين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 80 ) " للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه " { وَفِي الرقاب } وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم . وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها . وقيل في فك الأسارى . فإن قلت : قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قفاه بإيتاء الزكاة فهل دلّ ذلك على أنّ في المال حقاً سوى الزكاة؟ قلت : يحتمل ذلك . وعن الشعبي : أنّ في المال حقاً سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية . ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة ، أو يكون حثاً على نوافل الصدقات والمبارّ . وفي الحديث :

( 81 ) " نسخت الزكاة كلَّ صدقة " يعني وجوبها . وروي :

( 82 ) «ليس في المال حق سوى الزكاة» { والموفون } عطف على من آمن . وأخرج { والصابرين } منصوباً على الاختصاص والمدح ، وإظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال . وقرىء : «والصابرون» . وقرىء : «والموفين» ، «والصابرين» . و { البأساء } الفقر والشدة { والضراء } المرض والزمانة { صَدَقُواْ } كانوا صادقين جادّين في الدين .

عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهم : أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا يقتل بالأنثى ، أخذاً بهذه الآية . ويقولون : هي مفسرة لما أبهم في قوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 55 ] ولأنّ تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها ، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها . وعن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه : أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 55 ] والقصاص ثابت بين العبد والحرِّ ، والذَّكر والأنثى . ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم :

( 83 ) " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وبأنَّ التفاضل غير معتبر في الأنفس ، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به . وروي :

( 84 ) «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر ، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منا ، والذكر بالأنثى ، والاثنين بالواحد ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزلت ، وأمرهم أن يتباوؤا» { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } معناه : فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو . على أنه كقولك : سير بزيد بعض السير ، وطائفة من السير . ولا يصحّ أن يكون شيء في معنى المفعول به ، لأنّ ( عفا ) لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة وأخوه : هو وليّ المقتول ، وقيل له أخوه ، لأنه لابسه ، من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به ، كما تقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة ، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام فإن قلت : إن عفى يتعدّى بعن لا باللام ، فما وجه قوله : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ } ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال الله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } [ المائدة : 101 ] فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل؛ عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى له عند جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية ، فإن قلت؛ هلا فسرت عفى بترك حتى يكون شيء في معنى المفعول به؟ قلت : لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت . ولكن أعفاه . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :

( 85 ) " واعفوا اللحى " فإن قلت : فقد ثبت قولهم : عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محي له من أخيه شيء؟ قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء- إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله- على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها . فإن قلت؟ : لم قيل : شيء من العفو؟ قلت : للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم . أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية { فاتباع بالمعروف } فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع . وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعاً . يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة . وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان ، بأن لا يمطله ولا يبخسه { ذلك } ْالحكم المذكور من العفو والدية { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية . وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث : القصاص والدية والعفو ، توسعة عليهم وتيسيراً { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } التخفيف ، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل ، أو القتل بعد أخذ الدية . فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ، ثم يظفر به فيقتله { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة . وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية ، لقوله عليه السلام :

( 86 ) " لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية " { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة؛ لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل ، وكان يُقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر ، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أيّ حياة ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنّه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ فارتدع منه سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود ، فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء : ( ولكم في القصص حياة ) أي فيما قص عليكم من حكم القتل القصاص وقيل القصص القرآن أي : «ولكم في القرآن حياة للقلوب» : كقوله تعالى : { رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، { وَيُحْىِ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

{ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } إذا دنا منه وظهرت أماراته { خَيْر } مالاً كثيراً . عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رجلاً أراد الوصية وله عيال وأربعمائة دينار ، فقالت : ما أرى فيه فضلاً . وأراد آخر أن يوصي فسألته : كم مالك؟ فقال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة . قالت : إنما قال الله { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وإنّ هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك ، وعن عليّ رضي الله عنه : أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه . وقال : قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } والخير هو المال ، وليس لك مال . والوصية فاعل كتب ، وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى أن يوصى ، ولذلك ذكر الراجع في قوله : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا سَمِعَهُ } والوصية للوارث كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ، وبقوله عليه السلام :

( 87 ) « إنّ الله أعطى كلّ ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث » وبتلقي الأمّة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر وإن كان من الآحاد ، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذي صحت روايته . وقيل : لم تنسخ ، والوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين . وقيل : ما هي بمخالفة لآية المواريث . ومعناها : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم { بالمعروف } بالعدل ، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث { حَقّاً } مصدر مؤكد ، أي حق ذلك حقاً { فَمَن بَدَّلَهُ } فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود { بَعْدِ مَا سَمِعَهُ } وتحققه { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ } فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدّليه دون غيرهم من الموصي والموصى له ، لأنهما بريان من الحيف { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد المبدّل { فَمَنْ خَافَ } فمن توقع وعلم ، وهذا في كلامهم شائع يقولون : أخاف أن ترسل السماء ، يريدون التوقع والظنّ الغالب الجاري مجرى العلم { جَنَفًا } ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية { أَوْ إِثْماً } أو تعمداً للحيف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } حينئذ ، لأنّ تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدّل بالباطل ثم من يبدّل بالحق ليعلم أنّ كل تبديل لا يؤثم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم . قال عليّ رضي الله عنه : أوّلهم آدم ، يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم ، لم يفرضها عليكم وحدكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بالمحافظة عليها وتعظيمها لأصالتها وقدمها ، أو لعلكم تتقون المعاصي ، لأنّ الصائم أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء . قال عليه السلام :

( 88 ) " فعليه بالصوم فإنّ الصوم له وجاء " أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين ، لأنّ الصوم شعارهم . وقيل معناه : أنه كصومهم في عدد الأيام وهو شهر رمضان ، كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان ، فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده . فجعلوه خمسين يوماً . وقيل : كان وقوعه في البرد الشديد والحرّ الشديد ، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فجعلوه بين الشتاء والربيع ، وزادوا عشرين يوماً كفارة لتحويله عن وقته . وقيل : الأيام المعدودات : عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر . كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر . ثم نسخت بشهر رمضان . وقيل : كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا ، ثم نسخ ذلك بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } الآية [ البقرة : 87 ] . ومعنى { معدودات } موقتات بعدد معلوم . أو قلائل ، كقوله : { دراهم مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] وأصله أنّ المال القليل يقدّر بالعدد ويتحكر فيه . والكثير يهال هيلاً ويحثى حثياً . وانتصاب أياماً بالصيام كقولك : نويت الخروج يوم الجمعة { أَوْ على سَفَرٍ } أو راكب سفر { فَعِدَّةٌ } فعليه عدّة . وقرىء بالنصب بمعنى : فليصم عدّة وهذا على سبيل الرخصة . وقيل : مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدّة { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } واختلف في المرض المبيح للإفطار ، فمن قائل : كل مرض ، لأنّ الله تعالى لم يخص مرضاً دون مرض كما لم يخص سفراً دون سفر ، فكما أنّ لكل مسافر أن يفطر ، فكذلك كل مريض . وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه . وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه ، فقال : إنه في سعة من الإفطار . وقائل : هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه ، لقوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } وعن الشافعي : لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل . واختلف أيضاً في القضاء فعامّة العلماء على التخيير . وعن أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه : «إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواتر ، وإن شئت ففرّق» وعن عليّ وابن عمر والشعبي وغيرهم أنه يقضي كما فات متتابعاً . وفي قراءة أبيّ : «فعدّة من أيام أخر متتابعات» فإن قلت : فكيف قيل : { فَعِدَّةٌ } على التنكير ولم يقل : فعدّتها ، أي فعدّة الأيام المعدودات؟ قلت : لما قيل : فعدّة والعدّة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياماً معدودة مكانها ، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } نصف صاع من برّ أو صاع من غيره عند أهل العراق ، وعند أهل الحجاز مدّ ، وكان ذلك في بدء الإسلام : فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتدّ عليهم ، فرخص لهم في الإفطار والفدية . وقرأ ابن عباس : «يطوّقونه» ، تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة ، أي يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا . وعنه «يتطوّقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه . «ويطوقونه» بإدغام التاء في الطاء . «ويطيقونه» «ويطيقونه» بمعنى يتطوقونه ، وأصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه ، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق ، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم : تدير المكان وما بها ديَّار . وفيه وجهان : أحدهما نحو معنى يطيقونه . والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز ، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية . وهو على هذا الوجه ثابت غير منسوخ . ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } فزاد على مقدار الفدية { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } فالتطوع أخير له أو الخير . وقرىء «فمن يطوّع» ، بمعنى يتطوّع { وَأَن تَصُومُواْ } أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية وتطوع الخير . ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً . وفي قراءة أبيّ : «والصيام خير لكم» .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

الرمضان : مصدر رمض إذا احترق - من الرمضاء- فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل «ابن دأية» للغراب بإضافة الابن إلى داية البعير ، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت . فإن قلت : لم سمي { شَهْرُ رَمَضَانَ } ؟ قلت : الصوم فيه عبادة قديمة ، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته ، كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم إضجاراً بشدته عليهم . وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ . فإن قلت : فإذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً ، فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله عليه الصلاة والسلام :

( 89 ) " من صام رمضان إيماناً وإحتساباً " . ( ( 90

" من أدرك رمضان فلم يغفر له " قلت : هو من باب الحذف لأمن الإلباس كما قال :

بِمَا أَعْيَا النّطَاسِي حِذْيَمَا ... أراد ابن حذيم ، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } أو على أنه بدل من الصيام في قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] أو على أنه خبر مبتدأ محذوف . وقرىء بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من { أَيَّامًا معدودات } ، أو على أنه مفعول { وَأَن تَصُومُواْ } [ البقرة : 184 ] . ومعنى : { أُنزِلَ فِيهِ القرآن } ابتدىء فيه إنزاله . وكان ذلك في ليلة القدر . وقيل : أنزل جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى الأرض نجوما . وقيل : أنزل في شأنه القرآن ، وهو قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } كما تقول : أنزل في عمر كذا ، وفي عليّ كذا . وعن النبي عليه السلام :

( 91 ) " نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين مضين " { هُدًى لّلنَّاسِ وبينات } نصب على الحال ، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق ، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحقّ والباطل . فإن قلت : ما معنى قوله : { وبينات مِّنَ الهدى } بعد قوله { هُدًى لّلنَّاسِ } ؟ قلت : ذكر أوّلاً أنه هدى ، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله ، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فمن كان شاهداً ، أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر ، فليصم فيه ولا يفطر . والشهر : منصوب على الظرف وكذلك الهاء في { فَلْيَصُمْهُ } ولا يكون مفعولاً به كقولك : شهدت الجمعة ، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر { يُرِيدُ الله } أن ييسر عليكم ولا يعسر ، وقد نفي عنكم الحرج في الدين ، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها ، و من جملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض .

ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر ، حتى زعم أنّ من صام منهما فعليه الإعادة . وقرىء : «اليسر ، والعسر» - بضمتين . الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : { لتكلموا } علة الأمر بمراعاة العدّة { َ وَلِتُكَبّرُواْ } علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان . وإنما عدّى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد ، كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . ومعنى { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وإرادة أن تشكروا وقرىء : «ولتكملوا» بالتشديد . فإن قلت : هل يصحّ أن يكون ( ولتكملوا ) معطوفاً على علة مقدرة ، كأنه قيل لتعلموا ما تعلمون ، ولتكملوا العدّة ، أو على اليسر ، كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد بكم لتكملوا ، كقوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] قلت : لا يبعد ذلك والأوّل أوجه . فإن قلت : ما المراد بالتكبير؟ قلت : تعظيم الله والثناء عليه . وقيل : هو تكبير يوم الفطر . وقيل : هو التكبير عند الإهلال .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{ فَإِنّي قَرِيبٌ } تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه ، فإذا دعى أسرعت تلبيته ، ونحوه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] وقوله عليه الصلاة والسلام :

( 92 ) " هو بينكم وبين أعناق رواحلكم " وروي :

( 93 ) أنّ أعربياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم . وقرىء «يرشَدون ويرشِدون» ، بفتح الشين ، وكسرها .

( 94 ) كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ، ثم إنّ عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، وأخبره بما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ما كنت جديراً بذلك يا عمر» فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء ، فنزلت . وقرىء : «أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث» ، أي أحلّ الله . وقرأ عبد الله : «الرفوث» ، وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ النيك ، وقد أرفث الرجل . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه أنشد وهو محرم :

وهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِك لَمِيسَا

فقيل له : أرفثت؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء . وقال الله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } فكنى به عن الجماع ، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك . فإن قلت : لم كنى عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } [ الاعراف : 189 ] ، { باشروهن } ، { أَوْ لامستم النساء } [ النساء : 43 ] ، { دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] ، { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ، { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } [ النساء : 24 ] ، { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } [ البقرة : 222 ] ؟ قلت : استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه اختياناً لأنفسهم . فإن قلت : لم عدى الرفث بإلى؟ قلت : لتضمينه معنى الإفضاء . لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه ، شبه باللباس المشتمل عليه . قال الجعدي :

إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ { تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير . والاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة ، أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل .

وقيل : هو نهى عن العزل لأنه في الحرائر . وقيل : وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلّله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرّم . وعن قتادة : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر . وقرأ ابن عباس : ( واتبعوا ) وقرأ الأعمش : ( وأتوا ) وقيل معناه : واطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها ، وهو قريب من بدع التفاسير { الخيط الابيض } هو أوّل من يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود . و { الخيط الأسود } ما يمتدّ معه من غبش الليل ، شبها بخيطين أبيض وأسود . قال أبو داؤد :

فَلَمَّا أضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خيط أنَارَا

وقوله : { مِنَ الفجر } بيان للخيط الأبيض ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود . لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني . ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض : لأنه بعض الفجر وأوّله . فإن قلت : أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت : قوله : { مِنَ الفجر } أخرجه من باب الاستعارة ، كما أن قولك : رأيت أسداً مجاز . فإذا زدت ( من فلان ) رجع تشبيهاً . فإن قلت : فلم زيد { مِنَ الفجر } حتى كان تشبيهاً؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة؟ قلت : لأنّ من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ، ولو لم يذكر { مِنَ الفجر } لم يعلم أن الخيطين مستعاران ، فزيد { مِنَ الفجر } فكان تشبيهاً بليغاً وخرج من أن يكون استعارة . فإن قلت : فكيف التبس على عديّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال :

( 95 ) عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فضحك وقال : " إن كان وسادك لعريضا " وروي : ( إنك لعريض القفا ، إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل ) ؟ قلت : غفل عن البيان ، ولذلك عرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه ، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته . وأنشدتني بعض البدويات لبدوي :

عَرِيضُ القَفَا مِيزَانُهُ فِي شِمَالِه ... قَدِ انحص مِنْ حَسْبِ القَرَارِيطِ شَارِبُهْ

فإن قلت : فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي :

( 96 ) أنها نزلت ولم ينزل { مِنَ الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فنزل بعد ذلك { مِنَ الفجر } فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد ، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة ، ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر ، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت : أما من لم يجوّز تأخير البيان - وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم - فلم يصح عندهم هذا الحديث . وأما من يجوّزه فيقول : ليس بعبث . لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد منه { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } قالوا : فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال { عاكفون فِي المساجد } معتكفون فيها . والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه . والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ } ، { فالن باشروهن } وقيل معناه : ولا تلامسوهنّ بشهوة ، والجماع يفسد الاعتكاف ، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل . وعن قتادة كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك . وقالوا : فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد ، وأنه لا يختصّ به مسجد دون مسجد . وقيل : لا يجوز إلا في مسجد نبيّ وهو أحد المساجد الثلاثة . وقيل : في مسجد جامع . والعامة على أنه في مسجد جماعة . وقرأ مجاهد : «في المسجد» { تِلْكَ } الأحكام التي ذكرت { حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } فلا تغشوها . فإن قلت : كيف قيل : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } مع قوله :

{ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] ؟ قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحدّ الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلاً عن أن يتخطاه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 97 ) « إنّ لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه » فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصاً ، لقوله : { وَلاَ تباشروهن } وهي حدود لا تقرب .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

ولا يأكل بعضكم مال بعض { بالباطل } بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه . ( و ) لا { تُدْلُواْ بِهَا } ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام { لِتَأْكُلُواْ } بالتحاكم { فَرِيقاً } طائفة { مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم } بشهادة الزور ، أو باليمين الكاذبة ، أو بالصلح ، مع العلم بأن المقضي له ظالم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين :

( 98 ) « إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئاً ، فإنما أقضي له قطعة من نار » فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي . فقال : « اذهبا فتوخيا ، ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه » وقيل : { وَتُدْلُواْ بِهَا } وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة . وتدلوا : مجزوم داخل في حكم النهي ، أو منصوب بإضمار أن ، كقوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم على الباطل ، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح ، وصاحبه أحق بالتوبيخ .

( 99 ) وروي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت . { مَوَاقِيتُ } معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدد حملهنّ وغير ذلك ، ومعالم للحج يعرف بها وقته . كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب ، فإذا كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلماً يصعد فيه؛ وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم : { و لَّيْسَ البر } بتحرّجكم من دخول الباب { ولكن البر } برّ { مَنِ اتقى } ما حرّم الله . فإن قلت : ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها معلوم - : أنّ كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده ، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البرّ في شيء وأنتم تحسبونها برّاً . ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج . ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره . والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله . ثم قال : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها } أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا . والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب ، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 21 ] .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

المقاتلة في سبيل الله : هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين { الذين يقاتلونكم } الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين . وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] . وعن الربيع بن أنس رضي الله عنه : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف . أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان و الرهبان والنساء . أو الكفرة كلهم لأنهم جميعاً مضادّون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم ، فهم في حكم المقاتلة ، قاتلوا أو لم يقاتلوا . وقيل : لما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء ، خاف المسلمون أن لايفي لهم قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك نزلت وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك { وَلاَ تَعْتَدُواْ } بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم . والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة . ومنه : رجل ثقف ، سريع الأَخذ لأقرانه . قال :

فَإمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إلَى خُلُود

{ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من مكة وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح . { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشدّ عليه من القتل . وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت ، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت . ومنه قول القائل :

لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعا ... عَلَى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقِ

وقيل : ( الفتنة ) عذاب الآخرة { وَذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 13 ] وقيل : الشرك أعظم من القتل في الحرم ، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين ، فقيل : والشرك الذي هم عليه أشدّ وأعظم مما يستعظمونه . ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم . وقرىء : ( ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم ، فإن قتلوكم ) : جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم . يقال : قتلتنا بنو فلان . وقال : فإن تقتلونا نقتلكم { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك والقتال ، كقوله : { إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي شرك { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك { فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } فلا تعدوا على المنتهين لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : { إِلاَّ عَلَى الظالمين } موضع على المنتهين . أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين ، سمي جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة ، كقوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه ، يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم { والحرمات قِصَاصٌ } أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة كانت ، اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا ، وأكد ذلك بقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ واتقوا الله } في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم ، فلا تعتدوا إلى ما لا يحلّ لكم .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

الباء في { بِأَيْدِيكُمْ } مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد . والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة بأيديكم ، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم . وقيل : ( بأيديكم ) بأنفسكم : وقيل تقديره : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، كما يقال : أهلك فلان نفسه بيده ، إذا تسبب لهلاكها . والمعنى : النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله . أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس ، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ . وروي :

( 100 ) أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية ، وإنما أنزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه . وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا ، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها ، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها . فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد . وحكى أبو علي في ( الحلبيات ) عن أبي عبيدة ، التهلكة والهلاك والهلك واحد . قال : فدلّ هذا من قول أبي عبيدة على أن التهلكة مصدر . ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان : التنضبة والتنفلة . ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما ، على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار في الجوار .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما . قال :

تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا ... عَلَى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ

جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به . وقيل : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، روى ذلك عن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم . وقيل : أن تفرد لكل واحد منها سفراً كما قال محمد : حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل . وقيل : أن تكون النفقة حلالاً . وقيل : أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية . فإن قلت : هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت : ما هو إلا أمر بإتمامهما ، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين ، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً ، إلا أن تقول : الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما ، بدليل قراءة من قرأ «وأقيموا الحج والعمرة» والأمر للوجوب في أصله ، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب كما دلّ في قوله { فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] { فانتشروا } [ الأحزاب : 53 ] ونحو ذلك ، فيقال لك : فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب ، وهو ما روي :

( 101 ) أنه قيل : يا رسول الله : العمرة واجبة مثل الحج؟ قال : " لا ، ولكن أن تعتمر خير لك " وعنه :

( 102 ) " الحج جهاد والعمرة تطوّع " فإن قلت : فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج . وعن عمر رضي الله عنه :

( 103 ) أن رجلاً قال له : إني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ ، أهللت بهما جميعاً فقال : «هُديت لسنة نبيك» . وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج؟ قلت : كونها قرينة للحج أنّ القارن يقرن بينهما ، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال : حجّ فلان واعتمر والحجاج والعمار ، ولأنها الحجّ الأصغر ، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب . وأمّا حديث عمر رضي الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله : أهللت بهما ، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه كما إذا كبر بالتطوّع من الصلاة . والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحجّ وحده فيها ، فهما بمنزلة قولك : صم شهر رمضان وستة من شوال ، في أنك تأمره بفرض وتطوّع . وقرأ عليّ وابن مسعود والشعبي رضي الله عنهم «والعمرة لله» بالرفع ، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحجّ وهو الوجوب { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقال : أُحصر فلان ، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز . قال الله تعالى : { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] وقال ابن ميادة :

وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَت ... عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شَغُولُ

وحُصر : إذا حبسه عدوّ عن المضي ، أو سجن . ومنه قيل للمحبس : الحصير . وللملك ، الحصير ، لأنه محجوب . هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في كل شيء ، مثل صدّه وأصدّه . وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني ، وعليه قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى ، كل منع عنده من عدوّ كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار . وعند مالك والشافعي منع العدوّ وحده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 104 ) " من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل " { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } فما تيسر منه . يقال : يسر الأمر واستيسر ، كما يقال : صعب واستصعب . والهدي جمع هدية ، كما يقال في جدية السرج جدي ، وقرىء : «من الهديّ» بالتشديد جمع هدية كمطية ومطيّ . يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدي من بعير أو بقرة أو شناة ، فإن قلت : أين ومتى ينحر هدي المحصر؟ قلت : إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء عند أبي حنيفة يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار وعندهما في أيام النحر وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً . و ( ما استيسر ) رفع بالابتداء ، أي فعليه ما استيسر . أو نصب على : فاهدوا ما استيسر { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ } الخطاب للمحصرين : أي لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ { مَحِلَّهُ } أي مكانه الذي يجب نحره فيه . ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو ظاهر على مذهب أبي حنيفة رحمه الله . فإن قلت :

( 105 ) إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه حيث أحصر؟ قلت : كان محصره طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة وهو من الحرم ، وعن الزهري :

( 106 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم . وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق { أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ } وهو القمل أو الجراحة ، فعليه إذا احتلق فدية { مّن صِيَامٍ } ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } على ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من برّ { أَوْ نُسُكٍ } وهو شاة . وعن كعب بن عجرة

( 107 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " لعلك أذاك هوامّك " ؟ قال : نعم يا رسول الله . قال : " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك شاة " وكان كعب يقول : فيّ نزلت هذه الآية ، وروي :

( 108 ) أنه مرّ به وقد قَرَحَ رَأْسُهُ فقال : «كفى بهذا أذى» وأمره أن يحلق ويطعم ، أو يصوم . والنسك مصدر ، وقيل : جمع نسيكة . وقرأ الحسن : أو «نسك» ، بالتخفيف { فَإِذَا أَمِنتُمْ } الإحصار ، يعني فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ } أي استمتع { بالعمرة إِلَى الحج } واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج : انتفاعه بالتقرّب بها إلى الله تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج . وقيل : إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم بالحج { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } هو ، هدي المتعة ، وهو نسك عند أبي حنيفة ويأكل منه . وعند الشافعي : يجري مجرى الجنايات ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عندنا . وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي { ف } عليه { صِيَامٍ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج } أي في وقته وهو أشهرهُ ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله . والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما ، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم . وعند الشافعي : لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكاً بظاهر قوله : { فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي : هو الرجوع إلى أهاليهم . وقرأ ابن أبي عبلة «وسبعةً» بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام ، وكأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام ، كقوله :

{ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 15 ] فإن قلت : فما فائدة الفذلكة؟ قلت : الواو قد تجىء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين . ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة ، وأيضاً ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم . وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ، وكذلك { كَامِلَةٌ } تأكيد آخر . وفيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزل : الله الله لا تقصر . وقيل : كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي . وفي قراءة أبيّ : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» { ذلك } إشارة إلى التمتع ، عند أبي حنيفة وأصحابه . لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه؛ وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه . وعند الشافعي : إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً . وحاضرو المسجد الحرام : أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبي حنيفة . وعند الشافعي : أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة { واتقوا الله } في المحافظة على حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن خالف ليكون علمكم بشدة عقابه لطفاً لكم في التقوى .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

أي وقت الحج { أَشْهُرٍ } كقولك : البرد شهران . والأشهر المعلومات : شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة عند أبي حنيفة . وعند الشافعي : تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر . وعند مالك : ذي الحجة كله . فإن قلت : ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت : فائدته أن شيئاً من أفعال الحجّ لا يصحّ إلا فيها ، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضاً عند الشافعي في غيرها . وعند أبي حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه . فإن قلت : فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهر؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد . بدليل قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] فلا سؤال فيه إذن ، وإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات . وقيل : نُزِّل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، أو على عهد فلان ، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر ، وإنما رآه في ساعة منها . فإن قلت : ما وجه مذهب مالك وهو مرويّ عن عروة بن الزبير؟ قلت : قالوا إنّ العمرة غير مستحبة فيها عند عمر وابن عمر؛ فكأنها مخلصة للحج لا مجال فيها للعمرة . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان يخفق الناس بالدّرة وينهاهم عن الاعتمار فيهنّ . وعن عمر رضي الله عنه قال لرجل : إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهللت المحرّم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة . وقالوا : لعل من مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر { معلومات } معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم . وفيه أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه ، وإنما جاء مقرّراً له { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } فمن ألزم نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه عند أبي حنيفة وعند الشافعي بالنية { فَلاَ رَفَثَ } فلا جماع؛ لأنه يفسده . أو فلا فحش من الكلام { وَلاَ فُسُوقَ } ولا خروج عن حدود الشريعة وقيل : هو السباب والتنابز بالألقاب { وَلاَ جِدَالَ } ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين : وإنما أمر باجتناب ذلك . وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة؛ والتطريب في قراءة القرآن . والمراد بالنفي وجوب انتفائها ، وأنها حقيقة بأن لا تكون . وقرىء المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع . وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع؛ والآخر بالنصب : لأنهما حملا الأوّلين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ، ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة؛ وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرّد إلى وقت واحد وردّ الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج . واستدلّ على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم :

( 109 ) « من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه » وأنه لم يذكر الجدال { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } حث على الخير عقيب النهي عن الشر؛ وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البرّ والتقوى؛ ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة . أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه ، وينصره قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها . وقيل :

( 110 ) كان أهل اليمن لا يتزوّدون ويقولون : نحن متوكلون ونحن نحج بيت الله أفلا يُطعمنا فيكونون كلاًّ على الناس ، فنزلت فيهم . ومعناه : وتزوّدوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم ، فإن خير الزاد التقوى { واتقون } وخافوا عقابي { ياأولي الالباب } يعني أن قضية اللب تقوى الله ، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

{ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } عطاء منه وتفضلاً ، وهو النفع والربح بالتجارة ، وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج ، وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء فلم تقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج بالتجارة الداجّ . ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج . وقيل : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم . وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا ، فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم ، وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة ، وعن ابن عمر رضي الله عنه :

( 111 ) أن رجلاً قال له : إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا ، فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت فلم يردّ عليه ، حتى نزل { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فدعا به فقال : أنتم حجاج . وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : «فضلاً من ربكم في مواسم الحج» . ( أَنْ تبتغوا ) في أن تبتغوا { أَفَضْتُمْ } دفعتم بكثرة ، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول كما ترك في دفعوا من موضع كذا وصبوا . وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : «صب في دقران وهو يخرش بعيره بمحجنه» ويقال : أفاضوا في الحديث وهضبوا فيه . و { عرفات } علم للموقف سمي بجمع كأذرعات . فإن قلت : هلا مُنعت الصرف وفيها السببان : التعريف والتأنيث؟ قلت : لا يخلو من التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد؛ فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ولا يصح تقدير التاء فيها ، لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا يقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها . وقالوا : سميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما أبصرها عرفها . وقيل : إن جبريل حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها فقال : قد عرفت . وقيل : التقى فيها آدم وحوّاء فتعارفا . وقيل : لأنّ الناس يتعارفون فيها والله أعلم بحقيقة ذلك ، وهي من الأسماء المرتجلة لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف . وقيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 112 ) " الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج " { فاذكروا الله } بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات . وقيل : بصلاة المغرب والعشاء . و { المشعر الحرام } قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة . وقيل : المشعر الحرام : ما بين جبل المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام . والصحيح أنه الجبل ، لما روى جابر رضي الله عنه :

( 113 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلّى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس ، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر . وقوله تعالى : { عِندَ المشعر الحرام } معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه ، وذلك للفضل ، كالقرب من جبل الرحمة ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر . أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر . والمشعر : المعلم ، لأنه معلم العبادة . ووصف بالحرم لحرمته . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون . وقيل : سميت المزدلفة وجمعاً : لأنّ آدم صلوات الله عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها ، أي دنا منها . وعن قتادة : لأنه يجمع فيها بين الصلاتين . ويجوز أن يقال : وصفت بفعل أهلها ، لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقرّبون بالوقوف فيها { كَمَا هَدَاكُمْ } ما مصدرية أو كافة . والمعنى : واذكروهُ ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة أواذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ، لا تعدلوا عنه { وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ } من قبل الهدى { لَمِنَ الضالين } الجاهلين ، لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه . وإِن هي مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة { ثُمَّ أَفِيضُواْ } ثم لتكن إفاضتكم { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } ولا تكن من المزدلفة . وذلك لما كان عليه الحمس من الترفع على الناس والتعالي عليهم وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف . وقولهم : نحن أهل الله وقطان حرمه فلا تخرج منه ، فيقفون بجمع وسائر الناس بعرفات؟ فإن قلت : فكيف موقع ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبُعد ما بينهما؛ فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال : ثم أفيضوا لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ . وقيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وهم الحمس ، أي من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات . وقرىء : «من حيث أفاض الناس» بكسر السين أي الناسي وهو آدم ، من قوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آد م مِن قَبْلُ فَنَسِىَ } [ طه : 115 ] يعني أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تخالفوا عنه { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } أي فإذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } فأكثروا ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم . وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل ، فيعدّدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم . { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كَذِكْرِكُمْ } كما تقول كذكر قريش آباءهم ، أو قوم أشدّ منهم ذكراً . أو في موضع نصب عطف على آباءكم ، بمعنى أو أشدّ ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } معناه أكثروا ذكر الله ودعاءه فإنّ الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أعراض الدنيا ، ومكثر يطلب خير الدارين ، فكونوا من المكثرين { آتنا فِى الدنيا } اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة { وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } أي من طلب خلاقي وهو النصيب . أو ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب ، لأنّ همه مقصور على الدنيا .

والحسنتان ما هو طلبةُ الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير ، وطلبتهم في الآخرة من الثواب . وعن علي رضي الله عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء . وعذاب النار : امرأة السوء . { أولئك } الداعون بالحسنتين { لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } أي نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة ، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة . أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : { مما خطيئاتهم أغرقوا } [ نوح : 25 ] . أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم [ منه ] ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة . وسمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال ، والأعمال موصوفة بالكسب : بما كسبت أيديكم . ويجوز أن يكون ( أولئك ) للفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا { والله سَرِيعُ الحساب } يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد . فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة ، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه . روي : أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة . وروى في مقدار فواق ناقة . وروي في مقدار لمحة .

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

والأيام المعدودات . أيام التشريق ، وذكر الله فيها : التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله ، حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف { فَمَن تَعَجَّلَ } فمن عجّل في النفر أو استعجل النفر . وتعجل ، واستعجل : يجيئان مطاوعين بمعنى عجل . يقال : تعجل في الأمر واستعجل : ومتعديين ، يقال : تعجل الذهاب واستعجله . والمطاوعة أوفق لقوله : { وَمَن تَأَخَّرَ } كما هي كذلك في قوله :

قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِه ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

لأجل المتأني { فِى يَوْمَيْنِ } بعد يوم النحر يوم القرّ وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس ، واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمي الجمار كما يفعل الناس اليوم وهو مذهب الشافعي ويروى عن قتادة . وعند أبي حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر { وَمَن تَأَخَّرَ } حتى رمى في اليوم الثالث . والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة . وعند الشافعي لايجوز . فإن قلت : كيف قال : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } عند التعجل والتأخر جميعاً؟ قلت : دلالة على أنّ التعجل والتأخر مخير فيهما ، كأنه قيل : فتعجلوا أو تأخروا . فإن قلت : أليس التأخر بأفضل؟ قلت : بلى ، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل وقيل : إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من جعل المتعجل آثماً ، ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما جميعاً { لِمَنِ اتقى } أي ذلك التخيير ، ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي : لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأنّ ذا التقوى حذّر متحرّز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند الله . ثم قال : { واتقوا الله } ليعبأ بكم . ويجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } [ الروم : 38 ] .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

{ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } أي يروقك ويعظم في قلبك . ومنه : الشىء العجيب الذي يعظم في النفس . وهو الأخنس بن شريق كان رجلاً حلو المنطق ، إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال : يعلم الله أني صادق . وقيل : هو عامّ في المنافقين ، كانت تحلو لي ألسنتهم ، وقلوبهم أمرّ من الصَّبِرِ ، فإن قلت : بم يتعلق قوله : { فىلحيوة الدنيا } ؟ قلت : بالقول ، أي يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا؛ لأن ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول؛ فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة . ويجوز أن يتعلق بيعجبك ، أي قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك ، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أي يحلف ويقول : الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام . وقرىء : «ويشهد الله» . وفي مصحف أبيّ : «ويستشهد الله» : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين . وقيل : كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك ومواشيهم وأحرق زروعهم . والخصام : المخاصمة . وإضافة الألدّ بمعنى في ، كقولهم : ثبت الغدر . أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة . وقيل الخصام : جمع خصم ، كصعب وصعاب ، بمعنى وهو أشدّ الخصوم خصومة { وَإِذَا تولى } عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا } كما فعل بثقيف . وقيل : { وَإِذَا تولى } وإذا كان والياً فعل ما يفعل ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل . وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل . وقرىء : ( ويهلكُ الحرث والنسلُ ) ، على أن الفعل للحرث والنسل ، والرفع للعطف على سعى . وقرأ الحسن بفتح اللام ، وهي لغة . نحو : أبى يأبى . وروى عنه : «ويهلك» ، على البناء للمفعول { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } من قولك : أخذته بكذا ، إذا حملته عليه وألزمته إياه ، أي حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأن لا يخلي عنه ضراراً ولجاجاً . أو على ردّ قول الواعظ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

{ يَشْرِى نَفْسَهُ } يبيعها أي يبذلها في الجهاد . وقيل : يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى يقتل ، وقيل :

( 114 ) نزلت في صهيب بن سنان : أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه ، فقال لهم : أنا شيخ كبير ، إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي . فقبلوا منه ماله وأتى المدينة { والله رَءوفٌ بالعباد } حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

{ السلام } بكسر السين وفتحها . وقرأ الأعمش بفتح السين واللام ، وهو : الإستسلام والطاعة ، أي استسلموا لله وأطيعوه { كَافَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته . وقيل هو الإسلام . والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم . ويجوز أن يكون كافة حالا من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب . قال :

السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالحْرَبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها . وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة . أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يُخلوا بشيء منها . وعن عبد الله بن سلام .

( 115 ) أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل و ( كافة ) من الكف ، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { فَإِن زَلَلْتُمْ } عن الدخول في السلم { مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات } أي الحجج والشواهد على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يعجزه الانتقام منكم { حَكِيمٌ } لا ينتقم إلا بحق . وروي أنّ قارئًا قرأ غفور رحيم ، فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم ، لا يذكر الغفران عند الزلل ، لأنه إغراء عليه . وقرأ أبو السّمال : «زللتم» بكسر اللام وهما لغتان ، نحو : ظللت وظللت .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

إتيان الله إتيان أمره وبأسه كقوله : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] ، { فجاءهم بأسنا } [ الأنعام : 43 ] ويجوز أن يكون المأتي به محذوفاً ، بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله : { إنالله عَزِيزٌ } { فِي ظُلَلٍ } جمع ظلة وهي ما أظلك . وقرىء : «ظلال» وهي جمع ظلة ، كقلة وقلال أو جمع ظل . وقرىء والملائكة بالرفع كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } [ الأنعام : 158 ] وبالجر عطف على ظلل أو على الغمام . فإن قلت : لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت : لأنّ الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث . ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب الله قوله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] . { وَقُضِىَ الأمر } وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه . وقرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه : «وقضاء الأمر» ، على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة . وقرىء : «ترجِع» ، «وترجَع» ، على البناء للفاعل والمفعول بالتأنيث والتذكير فيهما .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

{ سَلْ } أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ، وهذا السؤال سؤال تقريع كما تسأل الكفرة يوم القيامة { كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم ، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام ، و { نِعْمَةَ اللَّهِ } آياته ، وهي أجل نعمة من الله ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة . وتبديلهم إياها : أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب ضلالتهم ، كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : كم استفهامية أم خبرية؟ قلت : تحتمل الأمرين . ومعنى الاستفهام فيها للتقرير . فإن قلت : ما معنى { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } . قلت : معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها ، كقوله : { ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه } [ البقرة : 75 ] ؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها ، فكأنها غائبة عنه : وقرىء { وَمَن يُبَدِلْ } بالتخفيف .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

المزين هو الشيطان ، زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها . ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين له تزيينا ، ويدل عليه قراءة من قرأ { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } على البناء للفاعل { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } كانت الكفرة يسخرون من المؤمنين الذين لا حظ لهم من الدنيا كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم ، أي لا يريدون غيرها . وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها ، أو ممن يطلب غيرها { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } لأنهم في عليين من السماء ، وهم في سجين من الأرض ، أو حالهم عالية لحالهم؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان . أو هم عالون عليهم متطاولون يضحكون منهم كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ويرون الفضل لهم عليهم ، { فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير ، يعني أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة وهي استدراجكم بالنعمة . ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم . فإن قلت : لم قال : { مِنَ الذين ءَامَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } ؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي ، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } متفقين على دين الإسلام { فَبَعَثَ الله النبيين } يريد : فاختلفوا فبعث الله . وإنما حذف لدلالة قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } عليه . وفي قراءة عبد الله : «كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله» . والدليل عليه قوله عز وعلا { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } [ يونس : 19 ] وقيل : كان الناس أمة واحدة كفارًا ، فبعث الله النبيين ، فاختلفوا عليهم . والأوّل الوجه . فإن قلت : متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت : عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا . وقيل : هم نوح ومن كان معه في السفينة { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } يريد الجنس ، أو مع كل واحد منهم كتابه { لِيَحْكُمَ } الله ، أو الكتاب ، أو النبيّ المنزل عليه { فِيمَا اختلفوا فِيهِ } في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق { وَمَا اختلف فِيهِ } في الحق { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف ، أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب ، وجعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الاختلاف واستحكامه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } حسدًا بينهم وظلمًا لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم . و { مِنَ الحق } بيان لما اختلفوا فيه ، أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

{ أَمْ } منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده . ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات - تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له - قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ : { أم حسبتم } { وَلَمَّا } فيها معنى التوقع ، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات . والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر { مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ } حالهم التي هي مثل في الشدة . و { مَسَّتْهُمْ } بيان للمثل وهو استئناف ، كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل؟ فقيل : مستهم البأساء { وَزُلْزِلُواْ } وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع { حتى يَقُولَ الرسول } إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها { متى نَصْرُ الله } أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك . ومعناه طلب الصبر وتمنيه ، واستطالة زمان الشدة . وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم ، لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } على إرادة القول ، يعني فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر . وقرىء : { حتى يَقُولَ } بالنصب على إضمار أن ومعنى الاستقبال؛ لأنّ «أن» علم له . وبالرفع على أنه في معنى الحال ، كقولك : شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرُّ بطنه . إلا أنها حال ماضية محكية .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

فإن قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله : { قُلْ مَا أَنفَقْتُم } وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت : قد تضمن قوله { ما أنفقتم مّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف؛ لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها . قال الشاعر :

إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَة ... حَتَّى يُصَابَ بهَا طَرِيقُ الْمصنَعِ

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هِمّ وله مال عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت . وعن السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة . وعن الحسن : هي في التطوّع .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة بدليل قوله : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، كقولها :

فَآنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ... كأنه في نفسه لفرط كراهتهم له . وإما أن يكون فعلاً بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز ، أي وهو مكروه لكم . وقرأ السلمي - بالفتح - على أن يكون بمعنى المضموم ، كالضَّعف والضُّعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على طريق المجاز ، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم . ومنه قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] ، وعلى قوله تعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } جميع ما كلفوه ، فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه وتحب خلافه { والله يَعْلَمُ } ما يصلحكم وما هو خير لكم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك } .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

( 116 ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيرًا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهرًا يأمن فيه الخائف ويبذعرّ فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير ، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة . والمعنى : يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام . و { قِتَالٍ فِيهِ } بدل الاشتمال من الشهر . وفي قراءة عبد الله : «عن قتال فيه» ، على تكرير العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وقرأ عكرمة : «قتل فيه قل قتل فيه كبير» ، أي إثم كبير . وعن عطاء : أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام؟ فحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه ، وما نسخت . وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } مبتدأ وأكبر خبره ، يعني وكبائر قريش من صدّهم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، وكفرهم بالله وإخراج أهل المسجد الحرام وهم رسول الله والمؤمنون { أَكْبَرُ عِندَ الله } مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن أعما { والفتنة } الإخراج أو الشرك . والمسجد الحرام : عطف على سبيل الله ، ولا يجوز أن يعطف على الهاء في { بِهِ } . { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم } إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم ، وحتى معناها التعليل كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ، أي يقاتلونكم كي يردّوكم . و { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوّه : إن ظفرت بي فلا تبق عليَّ . وهو واثق بأنه لا يظفر به { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ } ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه { فَيَمُتْ } على الردّة { فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة } لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام ، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة . وبها احتج الشافعي على أن الردّة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها . وعند أبي حنيفة أنها تحبطها وإن رجع مسلمًا . { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } روي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر ، فنزلت { أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله } وعن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمّة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون . وإنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

( 117 ) نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة { وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال . ثم إن عمر ومعاذًا ونفرًا من الصحابة قالوا؛ يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسًا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } فقل من يشربها . ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافياً ، فنزلت { إِنَّمَا الخمر والميسر } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . وعن عليّ رضي الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : لو أدخلت أصبعي فيه لم تتبعني . وهذا هو الإيمان حقاً ، وهم الذين اتقوا الله حق تقاته . والخمر : ما غلى واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب ، وهو حرام ، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم غلى واشتدّ ذهب خبثه ونصيب الشيطان ، وحلّ شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبي حنيفة . وعن بعض أصحابه : لأن أقول مرارًا هو حلال ، أحبّ إليّ من أن أقول مرة هو حرام ، ولأن أخر من السماء فأتقطع قطعاً أحبّ إليّ من أن أتناول منه قطرة . وعند أكثر الفقهاء هو حرام كالخمر ، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب . وسميت خمرًا لتغطيتها العقل والتمييز كما سميت سكرًا لأنها تسكرهما ، أي تحجزهما ، وكأنها سميت بالمصدر من «خمرة خمراً» إذا ستره للمبالغة . والميسر : القمار ، مصدر من يسر ، كالموعد والمرجع من فعلهما . يقال : يسرته ، إذا قمرته ، واشتقاقه من اليسر ، لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ، أو من اليسار . لأنه سلب يساره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال :

أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنيِ ... أي يفعلون بي ما يفعل الياسرون بالميسور . فإن قلت : كيف صفة الميسر؟ قلت : كانت لهم عشرة أقداح ، وهي : الأزلام والأقلام ، والفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلى والمنيح والسفيح ، والوغد .

لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء . وقيل : ثمانية وعشرين إلا لثلاثة ، وهي المنيح والسفيح والوغد . ولبعضهم :

لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ

وَأسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمنيحُ

للفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة؛ وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة ، ويضعونها على يدي عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المرسوم به ذلك القدح . ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله . وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها . ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، ويسمونه البرم . وفي حكم الميسر : أنواع القمار ، من النرد والشطرنج وغيرهما . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 118 ) " إياكم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فإنهما من ميسر العجم " وعن عليّ رضي الله عنه : أنّ النرد والشطرنج من الميسر وعن ابن سيرين : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر . والمعنى : يسألونك عما في تعاطيهما ، بدليل قوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } ، { وَإِثْمُهُمَآ } وعقاب الإثم في تعاطيهما { أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار ، والطرب فيهما ، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشرتهم ، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ، وسلب الأموال بالقمار ، والافتخار على الأبرام . وقرىء : «إثم كثير» - بالثاء - وفي قراءة أبيّ : «وإثمهما أقرب» . ومعنى الكثرة : أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة { العفو } نقيض الجهد؛ وهو أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع ، قال :

خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... ويقال للأرض السهلة : العفو . وقرىء بالرفع والنصب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .

( 119 ) " أنّ رجلاً أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه ، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه؛ فقال : هاتها مغضباً ، فأخذها فخذفه بها خذفاً لو أصابه لشجه أو عقره ، ثم قال : «يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناسا إنما الصدقة عن ظهر غنىً " { فِى الدنيا والأخرة } إمّا أن يتعلق بتتفكرون ، فيكون المعنى : لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين؛ فتأخذون بما هو أصلح لكم؛ كما بينت لكم أنّ العفو أصلح من الجهد في النفقة ، أوتتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع . ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا . حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم .

وإمّا أن يتعلق { يبين } على معنى : يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون ، لما نزلت { إِنَّ الذى يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] اعتزلوا اليتامى وتحاموهم وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم ، فشق ذلك عليهم وكاد يوقعهم في الحرج . فقيل { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } وتعاشروهم ولم تجانبوهم { ف } هم { إخوانكم ْ } في الدين ، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه ، وقد حملت المخالطة على المصاهرة { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } أي لا يخفى على الله من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته ، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح { وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم . وقرأ طاوس : «قل إصلاح إليهم» . ومعناه إيصال الصلاح وقرىء : «لعنتكم» ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وكذلك { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } . { إنالله عَزِيزٌ } [ البقرة : 173 ] غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه { حَكِيمٌ } لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

{ وَلاَ تَنْكِحُواْ } وقرىء بضم التاء ، أي لا تتزوّجوهنّ أو لا تزوّجوهن . و { المشركات } الحربيات ، والآية ثابتة . وقيل المشركات الحربيات والكتابيات جميعاً ، لأن أهل الكتاب من أهل الشرك ، لقوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله تعالى : { سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وهي منسوخة بقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] . وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط . وهو قول ابن عباس والأوزاعي وروي .

( 120 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق ، فأتته وقالت : ألا نخلو؟ فقال : ويحكا إن الإسلام قد حال بيننا . فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ، فاستأمره فنزلت { وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ } ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة ، وكذلك { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } لأنّ الناس كلهم عبيد الله وإماؤه { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها ، فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك { أولئك } إشارة إلى المشركات والمشركين ، أي يدعون إلى الكفر فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال { والله يَدْعُو إلى الجنة } يعني وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة { والمغفرة } وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن يؤثروا على غيرهم { بِإِذْنِهِ َ } بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة . وقرأ الحسن : «والمغفرةُ بإذنه» - بالرفع - أي والمغفرة حاصلة بتيسيره .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ المحيض } مصدر . يقال : حاضت محيضاً ، كقولك : جاء مجيئاً وبات مبيتاً { قُلْ هُوَ أَذًى } أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة منه وكراهة له { فاعتزلوا النساء } فاجتنبوهنّ؛ يعني فاجتنبوا مجامعتهنّ . روي :

( 121 ) أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس ، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ فأخرجوهنّ من بيوتهن ، فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة ، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت؛ وإن استأثرنا بها هلكت الحِيَّضُ : فقال عليه الصلاة والسلام : " إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم " وقيل : إنّ النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين ، وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال ، فأبو حنيفة وأبو يوسف : يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج ، وروى محمد حديث عائشة رضي الله عنها : أنّ عبد الله بن عمر سألها : هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت : تشدّ إزارها على سفلتها ، ثم ليباشرها إن شاء . وما روى زيد بن أسلم :

( 122 ) أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : " لتشدّ عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها " ، ثم قال : وهذا قول أبي حنيفة . وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وقرىء «يطهرن» بالتشديد ، أي يتطهرن ، بدليل قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } وقرأ عبد الله : «حتى يتطهرن» . و«يطهرن» بالتخفيف . والتطهر : الاغتسال . والطهر : انقطاع دم الحيض . وكلتا القراءتين مما يجب العمل به ، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل ، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة . وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتُطَهَّر ، فتجمع بين الأمرين ، وهو قول واضح . ويعضده قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } . { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل { إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين } مما عسى يندر منهم من ارتكاب مانهوا عنه من ذلك { وَيُحِبُّ المتطهرين } المتنزهين عن الفواحش . أو إنّ الله يحبّ التوّابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار : كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل ، وإتيان ما ليس بمباح ، وغير ذلك { حَرْثٌ لَّكُمْ } مواضع الحرث لكم . وهذا مجاز ، شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور . وقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم . لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً وهو موضع الحرث . وقوله : { هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء } ، { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدّبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم . وروي :

( 123 ) أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته وهي مجبية من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال كذبت اليهود ونزلت . { وَقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ } ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتكم عنه . وقيل : هو طلب الولد ، وقيل : التسمية على الوطء { واتقوا الله } فلا تجترئوا على المناهي { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } فتزوّدوا ما لا تفتضحون به { وَبَشّرِ المؤمنين } المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات فإن قلت : ما موقع قوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مما قبله؟ قلت : موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } يعني أنّ المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ، ترجمة له وتفسيراً ، أو إزالة للشبهة ، ودلالة على أنّ الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة ، فلا تأتوهنّ إلا من المأتي الذي يتعلق به هذا الغرض . فإن قلت : ما بال { َيَسْألُونَكَ } جاء بغير واو ثلاث مرات ، ثم مع الواو ثلاثاً؟ قلت : كان سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرّقة ، فلم يؤت بحرف العطف لأنّ كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ . وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن الإنفاق ، والسؤال عن كذا وكذا .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

العرضة : فعلة بمعنى مفعول ، كالقبضة والغرفة ، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه . تقول : فلان عرضة دون الخير . والعرضة أيضاً : المعرض للأمر . قال :

فَلاَ تجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ ... ومعنى الآية على الأولى : أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات ، من صلة رحم ، أو إصلاح ذات بين ، أو إحسان إلى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني ، فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه ، فقيل لهم : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم } أي حاجزاً لما حلفتم عليه . وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة :

( 124 ) " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك " أي على شيء مما يحلف عليه . وقوله : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ } عطف بيان لأيمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس . فإن قلت : بم تعلقت اللام في لأيمانكم؟ قلت : بالفعل ، أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً وحجازاً . ويجوز أن يتعلق ب { عُرْضَةً } لما فيها من معنى الاعتراض ، بمعنى لا تجعلوه شيئاً يعترض البر ، من اعترضني كذا . ويجوز أن يكون اللام للتعليل ، ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا . ومعناها على الأخرى : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] بأشنع المذامّ وجعل الحلاف مقدّمتها . وأن ( تبروا ) علة للنهي ، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، لأن الحلاف مجترىء على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم . اللغو : الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره . ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل «لغو» واللغو من اليمين : الساقط الذي لا يعتدّ به في الأَيمان ، وهو الذي لا عقد معه . والدليل عليه { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] ، { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } واختلف الفقهاء فيه ، فعند أبي حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه ، ثم يظهر خلافه . وعند الشافعي : هو قول العرب : لا والله ، وبلى والله ، بما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف . ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك ، ولعله قال : لا والله ألف مرة . وفيه معنيان : أحدهما { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ } أي لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم ، أي اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس . والثاني : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ } أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم ، أي بما نوت قلوبكم وقصدت من الإيمان ، ولم يكن كسب اللسان وحده { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قرأ عبد الله : «آلوا من نسائهم» . وقرأ ابن عباس : «يقسمون من نسائهم» : فإن قلت : كيف عدي بمن ، وهو معدى بعلى؟ قلت : قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين . ويجوز أن يراد لهم { مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } كقوله : لي منك كذا . والإيلاء من المرأة أن يقول : والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعداً على التقييد بالأشهر . أو لا أقربك على الإطلاق . ولا يكون في ما دون أربعة أشهر ، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي . وحكم ذلك : أنه إذا فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز : صح الفيء ، وحنث القادر ، ولزمته كفارة اليمين ، ولا كفارة على العاجز . وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبي حنيفة . وعند الشافعي : لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ثم يوقف المولى ، فإما أن يفيء وإما أن يطلق وإن أبى طلق عليه الحاكم . ومعنى قوله : { فَإِن فَآءُوا } فإن فاؤا في الأشهر ، بدليل قراءة عبد الله : «فإن فاؤا فيهن» { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من الغيل ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } فتربصوا إلى مُضيِّ المدة { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعلى قول الشافعي رحمه الله معناه { فَإِن فَآءُوا } { وَإِنْ عَزَمُواْ } بعد مضي المدة . فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت : موقع صحيح لأن قوله { فَإِن فَآءُوا } ، { وَإِنْ عَزَمُواْ } تفصيل لقوله { لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ } والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر ، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره ، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل . فإن قلت : ما تقول في قوله : { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت : الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار ، لا يخلو من مقاولة ودمدمة ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان { والمطلقات } أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء . فإن قلت : كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم؟ قلت : بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك . فإن قلت : فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت : هو خبر في معنى الأمر . وأصل الكلام : وليتربص المطلقات . وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر ، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص . فهو يخبر عنه موجوداً . ونحوه قولهم في الدعاء : رحمك الله ، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة ، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها ، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد . ولو قيل : ويتربص المطلقات ، لم يكن بتلك الوكادة . فإن قلت : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ، كما قيل { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص . والقروء : جمع قرء أو قرء ، وهو الحيض ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام :

( 125 ) " دعي الصلاة أيام أقرائك " وقوله :

( 126 ) " طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان " ولم يقل طهران . وقوله تعالى { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار . ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم ، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر ، ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة . ويقال أقرأت المرأة ، إذا حاضت . وامرأة مقرىء . وقال أبو عمرو بن العلاء : دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها ، أي تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء . فإن قلت : فما تقول : في قوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] والطلاق الشرعي ، إنما هو في الطهر؟ قلت : معناه مستقبلات لعدتهن ، كما تقول : لقيته لثلاث بقين من الشهر ، تريد مستقبلاً لثلاث ، وعدتهنّ الحيض الثلاث . فإن قلت : فما تقول في قول الأعشى :

لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكا ... قلت : أراد : لما ضاع فيها من عدّة نسائك ، لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن ، أي من مدّة طويلة كالمدة التي تعتد فيها النساء ، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في الحروب والغارات . وأنه تمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها ، أو أراد من أوقات نسائك ، فإنّ القرء والقارىء جاء في معنى الوقت ، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً . فإن قلت : فعلام انتصب { ثلاثة قُرُوء } ؟ قلت : على أنه مفعول به كقولك : المحتكر يتربص الغلاء ، أي يتربصن مضيّ ثلاثة قروء ، أو على أنه ظرف ، أي : يتربصن مدة ثلاثة قروء فإن قلت : لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت : يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية . ألا ترى إلى قوله : { بِأَنفُسِهِنَّ } وما هي إلا نفوس كثيرة ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء ، فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل ، فيكون مثل قولهم : ثلاثة شسوع . وقرأ الزهري : «ثلاثة قرو» ، بغير همزة { مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } من الولد أو من دم الحيض . وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض : قد طهرت ، استعجالاً للطلاق . ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر } تعظيم لفعلهن ، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم . والبعولة : جمع بعل ، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة . ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة ، يعني : وأهل بعولتهن { أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } برجعتهن . وفي قراءة أبيّ : «بردّتهن» { وَفِي ذلكم } في مدة ذلك التربص . فإن قلت : كيف جُعلوا أحق بالرجعة ، كأن للنساء حقاً فيها؟ قلت : المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها ، إلا أن لها حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُواْ } بالرجعة { إصلاحا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارّتهنّ { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ } ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهنّ ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه . والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة ، لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ، ولكن يقابله بما يليق بالرجال { دَرَجَةً } زيادة في الحق وفضيلة . قيل : المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل ، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

{ الطلاق } بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير ، كقوله : { ثم ارجع البصر كرّتين } [ الملك : 4 ] أي كرّة بعد كرّة ، لا كرّتين اثنتين . ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير قولهم : لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك . وقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم . وقيل : معناه الطلاق الرجعي مرّتان ، لأنه لا رجعة بعد الثلاث ، فإمساك بمعروف أي برجعة ، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة ، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها . وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث . وروي :

( 127 ) أنّ سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " أو تسريح بإحسان " وعند أبي حنيفة وأصحابه : الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه ، لما روي في حديث ابن عمر :

( 128 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة " وعند الشافعي . لا بأس بإرسال الثلاث .

( 129 ) لحديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها ثلاثًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه . روي :

( 130 ) أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، ما أطيقه بغضاً ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً فنزلت ، وكان قد أصدقها حديقة فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام . فإن قلت : لمن الخطاب في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } ؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت : يجوز الأمران جميعاً : أن يكون أوّل الخطاب للأزواج ، وآخره للأئمة والحكام ، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره ، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم ، فكأنهم الآخذون والمؤتون { مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } مما أعطيتموهنّ من الصدقات { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية ، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت { فِيمَا افتدت بِهِ } فيما فدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر . والخلع بالزيادة على المهر مكروه وهو جائز في الحكم . وروي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضي الله عنه ، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف وجدت مبيتك؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقر لعيني منهن . فقال لزوجها : اخلعها ولو بقرطها . قال قتادة : يعني بمالها كله ، هذا إذا كان النشوز منها ، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئاً . وقرىء «إلا» أن يخافا ، على البناء للمفعول وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير ، وهو من بدل الاشتمال كقولك : خيف زيد تركه إقامة حدود الله . ونحوه

{ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] ويعضده قراءة عبد الله «إلا أن تخافوا» وفي قراءة أبي : «إلا أن يظنا» . ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن . يقولون : أخاف أن يكون كذا ، وأفرق أن يكون ، يريدون أظن { فَإِن طَلَّقَهَا } الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } واستوفى نصابه . أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرّتين { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } من بعد ذلك التطليق . { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } حتى تتزوّج غيره ، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كما التزوج . ويقال : فلانة ناكح في بني فلان . وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب . والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة ، لما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها :

( 131 ) أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجني ، وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك " وروي :

( 132 ) أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت فقالت : إنه كان قد مسني ، فقال لها : كذبت في قولك الأوّل ، فلن أصدّقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت : أأرجع إلى زوجي الأوّل . فقال : قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال ، فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه قالت مثله لعمر رضي الله عنه فقال : إن أتيتني بعد مرّتك هذه لأرجمنك ، فمنعها . فإن قلت فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت : ذهب سفيان والأوزاعي وأبو عبيد ومالك وغيرهم إلى أنه غير جائز ، وهو جائز عند أبي حنيفة مع الكراهة . وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 133 ) « أنه لعن المحلل والمحلل له » وعن عمر رضي الله عنه : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وعن عثمان رضي الله عنه : لا نكاح إلا نكاح رغبة غير مدالسة { فَإِن طَلَّقَهَا } الزوج الثاني . { أَن يَتَرَاجَعَا } أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج { إِن ظَنَّا } إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية . ولم يقل : إن علماً أنهما يقيمان ، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله عز وجل . ومن فسر الظن ههنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ، لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم ، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنما يظن ظناً .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها . والأجل يقع على المدّة كلها ، وعلى آخرها ، يقال لعمر الإنسان : أجل ، وللموت الذي ينتهي به : أجل ، وكذلك الغاية والأمد ، يقول النحويون «من» لابتداء الغاية ، و «إلى» لانتهاء الغاية . وقال :

كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْرِ ... وَمُودٍ إذَاانْتَهَى أمَدُهْ

ويتسع في البلوغ أيضاً فيقال : بلغ البلد إذا شارفه وداناه . ويقال : قد وصلت ، ولم يصل وإنما شارف ، ولأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضِّي الأجل لا وجه له ، لأنها بعد تقضيه غير زوجة له [ و ] في غير عدّة منه ، فلا سبيل له عليها { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة { أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وإما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها وتبين من غير ضرار { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ، ثم يراجعها لا عن حاجة ، ولكن ليطوّل العدة عليها ، فهو الإمساك ضراراً { لّتَعْتَدُواْ } لتظلموهنّ . وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بتعريضها لعقاب الله { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا } أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها ، وارعوها حق رعايتها ، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً . ويقال لمن يجدّ في الأمر : إنما أنت لا عب وهازىء . ويقال : كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة . وقيل : كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول : كنت لاعباً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 134 ) " ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ : الطلاق والنكاح والرجعة " { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } بالإسلام وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة } من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يَعِظُكُمْ بِهِ } بما أنزل عليكم { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً ، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج . والمعنى : أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ ، وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ روي :

( 135 ) أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل . وقيل : في جابر بن عبد الله حين عضل بنت عم له . والوجه أن يكون خطاباً للناس ، أي لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين . والعضل : الحبس والتضييق . ومنه : عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج . وأنشد لابن هرمة :

وَإنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاح

وبلوغ الأجل على الحقيقة . وعن الشافعي رحمه الله : دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين { إِذَا تراضوا } إذا تراضى الخطاب والنساء { بالمعروف } بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط وقيل : بمهر المثل .

ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا . فإن قلت : لمن الخطاب في قوله : { ذلك يُوعَظُ بِهِ } ؟ قلت : يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد . ونحوه { ذلك خير لكم وأطهر } [ المجادلة : 12 ] { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } من أدناس الآثام ، وقيل : ( أزكى وأطهر ) أفضل وأطيب { والله يَعْلَمُ } ما في ذلك من الزكاء والطهر { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ه ، أو : والله يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

{ يُرْضِعْنَ } مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد { كَامِلَيْنِ } توكيد كقوله { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] لأنه مما يتسامح فيه فتقول : أقمت عند فلان حولين ، ولم تستكملهما . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : «أن يكمل الرضاعة» : وقرىء : «الرِّضاعة» . بكسر الراء . «والرضعة» . «وأن تتم الرضاعة» و«أن يتم الرضاعة» ، برفع الفعل تشبيهاً ل «أن» ب «ما» لتأخيهما في التأويل . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { لِمَنْ أَرَادَ } بما قبله؟ قلت : هو بيان لمن توجه إليه الحكم ، كقوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] لك بيان للمهيت به ، أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع . وعن قتادة : حولين كاملين ، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } أراد أنه يجوز النقصان ، وعن الحسن : ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر . وقيل : اللام متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء ، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه . ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رحمه الله ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح . وعند الشافعي يجوز . فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق . فإن قلت : فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت : إما أن يكون أمراً على وجه الندب ، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار . وقيل : أراد الوالدات المطلقات . وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرنَفْسٌ إِلاَّ وضاع { وَعلَى المولود لَهُ } وعلى الذي يولد له وهو الوالد . و { لَهُ } في محل الرفع على الفاعلية ، نحو { عَلَيْهِمْ } في { المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] فإن قلت لم قيل { المولود } له دون الوالد . قلت : ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات . وأنشد للمأمون بن الرشيد :

فَإنمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَة ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم ، كالأظآر . ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] ، { بالمعروف } تفسيره ما يعقبه ، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا . وقرىء «لا تكلف» بفتح التاء؛ و ( لا نكلف ) بالنون . وقرىء : «لا تضارُّ» بالرفع على الإخبار ، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول ، وأن يكون الأصل : تضارر بكسر الراء ، وتضارر بفتحها . وقرأ { لاَ تُضآرَّ } بالفتح أكثر القراء . وقرأ الحسن بالكسر على النهي ، وهو محتمل للبناءين أيضاً . ويبين ذلك أنه قرىء «لا تضارَرْ» ، ولا «تضارِرْ» ، بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها . وقرأ أبو جعفر : لا «تضارْ» ، بالسكون مع التشديد على نية الوقف . وعن الأعرج «لا تضارْ» بالسكون والتخفيف ، وهو من ضاره يضيره . ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر ، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا . وعن كاتب عمر بن الخطاب : «لا تضرر» . والمعنى : لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها ، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي : اطلب له ظئرًا ، وما أشبه ذلك؛ ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده ، بأن يمنعها شيئًا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها؛ ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه ، ولا يكرهها على الإرضاع . وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أي يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، ويجوز أن يكون { تُضَارَّ } بمعنى تضر ، وأن تكون الباء من صلته ، أي لا تضرّ والدة بولدها ، فلا تسيء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها . ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد . فإن قلت : كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت : لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبيّ منها . فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد { وَعَلَى الوارث } عطف على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . فكان المعنى : وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أي إن مات المولود لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار . وقيل : هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه . واختلفوا ، فعند ابن أبي ليلى كل من ورثه ، وعند أبي حنيفة من كان ذا رحم محرم منه . وعند الشافعي : لا نفقة فيما عدا الولاد . وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ . وقيل : المراد وارث الأب وهو الصبي نفسه ، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه . وقيل ( على الوارث ) على الباقي من الأبوين من قوله :

( 136 ) «واجعله الوارث منا» { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } صادراً { عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك ، زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد . وقيل : هو في غاية الحولين لا يتجاوز ، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما : أمّا الأب فلا كلام فيه ، وأمّا الأمّ فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبي . وقرىء : «فإن أراد» . استرضع : منقول من أرضع . يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعتها الصبي ، لتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته الحاجة والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل { إِذَا سَلَّمْتُم } إلى المراضع { مَّا ءاتَيْتُم } ما أردتم إيتاءه ، كقوله تعالى :

{ إِذَا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] وقرىء : «ما أتيتم» ، من أتى إليه إحساناً إذا فعله . ومنه قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] أي مفعولاً . وروى شيبان عن عاصم : «ما أوتيتم» ، أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونحوه { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] وليس التسليم بشرط للجواز والصحة ، وإنما هو ندب إلى الأولى . ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون ، لتكون طيبة النفس راضية ، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره ، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد ، كأنه قيل : إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن { بالمعروف } متعلق بسلمتم ، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه . ناطقين بالقول الجميل ، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن ، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } على تقدير حذف المضاف ، أراد : وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن . وقيل : معناه يتربصن بعدهم ، كقولهم : السمن مَنَوَان بدرهم . وقرىء : «يتوفون» بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وهي قراءة علي رضي الله عنه . والذي يحكى : أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة ، فقال له رجل : من المتوفي - بكسر الفاء ، فقال الله تعالى . وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو- تناقضه هذه القراءة { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } يعتددن هذه المدّة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ، وقيل عشراً ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها ، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام . تقول : صمت عشراً ، ولو ذكرت خرجت من كلامهم . ومن البين فيه قوله تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ثم { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } فإذا انقضت عدّتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة وجماعة المسلمين { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التعرّض للخطاب { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع . والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهن . وإن فرّطوا كان عليهم الجناح { فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } هو أن يقول لها : إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوّج ، وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح ، فلا يقول : إني أريد أن أنكحك ، أو أتزوجك ، أو أخطبك . وروى ابن المبارك عن عبد الله بن سليمان عن خالته قالت : دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لكا! أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : أوقد فعلتا! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها ، فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها ، فما كانت تلك خطبة . فإن قلت : أي فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت : الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، كقولك : طويل النجاد والحمائل لطول القامة وكثير الرماد للمضياف . والتعريض : أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم . ولذلك قالوا :

وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا ... وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ ولا تصبرون عنه ، وفيه طرف من التوبيخ كقوله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] . فإن قلت : أين المستدرك بقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } ؟ قلت : هو محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه ، تقديره : علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ، ولكن لا تواعدوهنّ سرًا . والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء ، لأنه مما يسرّ . قال الأعشى :

وَلاَ تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا

ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا . فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة . أي لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا ، أي لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض . ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من { سِرًّا } لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض . وقيل معناه : لا تواعدوهن جماعاً ، وهو أن يقول لها إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . إلا أن تقولوا قولاً معروفاً يعني من غير رفث ولا إفحاش في الكلام . وقيل : لا تواعدوهن سراً : أي في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما يستهجن ، لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } : هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه ، وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقدة النكاح في العدّة . لأن العزم على الفعل يتقدّمه ، فإذا نهي عنه كان عن الفعل أنهى ومعناه : ولا تعزموا عقد عُقدة النكاح . وقيل : معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح : وحقيقة العزم : القطع ، بدليل قوله عليه السلام .

( 137 ) " لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل " وروي «لمن لم يبيت الصيام» { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } يعني ما كتب وما فرض من العدّة { يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } ولا تعزموا عليه . { غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بالعقوبة .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا تبعة عليكم من إيجاب مهر { إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما لم تجامعوهن { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } إلا أن تفرضوا لهن فريضة ، أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة : تسمية المهر . وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمّى لها مهر فلها نصف المسمى ، وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة . والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ } إلى قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فقوله : فنصف ما فرضتم : إثبات للجناح المنفي ثمة ، والمتعة درع وملحفة وخمار على حسب الحال عند أبي حنيفة ، إلا أن يكون مهر مثلها أقل من ذلك . فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ، ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها . و { الموسع } الذي له سعة . و { المقتر } الضيق الحال . [ و ] { قَدَرُهُ } مقداره الذي يطيقه ، لأنّ ما يطيقه هو الذي يختص به . وقرىء بفتح الدال . والقدْر والقدَر لغتان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .

( 138 ) " أنه قال لرجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً ، ثم طلقها قبل أنّ يمسها : «أمتعتها»؟ قال : لم يكن عندي شيء . قال : «متعها بقلنسوتك» " وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها ، وتستحب لسائر المطلقات ولا تجب . { متاعا } تأكيد لمتعوهن ، بمعنى تمتيعاً { بالمعروف } بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة { حَقّاً } صفة لمتاعاً ، أي متاعاً واجباً عليهم . أو حق ذلك حقاً { عَلَى المحسنين } على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع ، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال صلى الله عليه وسلم .

( 139 ) " من قتل قتيلاً فله سلبه " { إَّلا أَن يَعْفُونَ } يريد المطلقات . فإن قلت : أي فرق بين قولك : الرجال يعفون . والنساء يعفون؟ قلت : الواو في الأوّل ضميرهم ، والنون علم الرفع . والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهنّ ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل وهو في محل النصب ويعفو : عطف على محله . و { الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } الوليّ يعني إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر ، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً ، أو يعفو الولي الذي يلي عقد نكاحهن ، وهو مذهب الشافعي . وقيل هو الزوج ، وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملاً ، وهو مذهب أبي حنيفة والأوّل ظاهر الصحة . وتسمية الزيادة على الحق عفواً فيها نظر ، إلا أن يقال كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوّج ، فإذا طلقها استحقّ أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها . أو سماه عفواً على طريق المشاكلة . وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . وعنه : أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوّجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوّجتها؟ فقال : عرضها عليّ فكرهت ردّه . قيل : فلم بعثت بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟ و { الفضل } التفضل . أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض وتتمرؤا ولا تستقصوا ، وقرأ الحسن «أن يعفوْ الذي» بسكون الواو وإسكان الواو والياء في موضع النصب تشبيه لهما بالألف لأنهما أختاها . وقرأ أبو نُهيك : «وأن يعفو» ، بالياء . وقرىء : «ولا تنسو الفضل» ، بكسر الواو .

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

{ والصلاة الوسطى } أي الوسطى بين الصلوات ، أو الفضلى ، من قولهم للأفضل : الأوسط . وإنما أفردت وعطفت على الصلاة لانفرادها بالفضل وهي صلاة العصر . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب .

( 140 ) " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم ناراً " وقال عليه الصلاة و السلام .

( 141 ) " إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب " وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف :

( 142 ) إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فأملت عليه : والصلاة الوسطى صلاة العصر وروي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم : والصلاة الوسطى وصلاة العصر؛ بالواو . فعلى هذه القراءة يكون التخصيص لصلاتين : إحداهما الصلاة الوسطى ، إمّا الظهر ، وإمّا الفجر وإمّا المغرب ، على اختلاف الروايات فيها ، والثانية : العصر ، وقيل : فضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : هي صلاة الظهر لأنها في وسط النهار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهاجرة ، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحابه منها . وعن مجاهد : هي الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل . وعن قبيصة بن ذؤيب : هي المغرب ، لأنها وتر النهار ولا تنقص في السفر من الثلاث وقرأ عبد الله : «وعلى الصلاة الوسطى» : وقرأت عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى» بالنصب على المدح والاختصاص . وقرأ نافع : «الوصطى» ، بالصاد { وَقُومُواْ لِلَّهِ } في الصلاة { قانتين } ذاكرين لله في قيامكم . والقنوت : أن تذكر الله قائماً . وعن عكرمة كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا . وعن مجاهد : هو الركود وكف الأيدي والبصر . وروي : أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا { فَإِنْ خِفْتُمْ } فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره { فَرِجَالاً } فصلوا راجلين ، وهو جمع راجل كقائم وقيام ، أو رجل يقال : رجل رجل ، أي راجل . وقرىء : «فرجالا» . بضم الراء ، «ورجالاً» بالتشديد «ورجلاً» . وعند أبي حنيفة رحمه الله : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف : وعند الشافعي رحمه الله : يصلون في كل حال ، والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } فإذا زال خوفكم { فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } من صلاة الأمن ، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن ، واذكروه بالعبادة ، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

تقديره فيمن قرأ وصية بالرفع : ووصية الذين يتوفون ، أو وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم ، أو والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم . وفيمن قرأ بالنصب : والذين يتوفون يوصون وصية ، كقولك : إنما أنت سير البريد ، بإضمار تسير . أو والزم الذين يتوفون وصية . وتدل عليه قراءة عبد الله : «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعاً إلى الحول» ، مكان قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم متاعا إِلَى الحول } وقرأ أبيّ : «متاع لأزواجهم متاعاً» . وروي عنه : «فمتاع لأزواجهم» . ومتاعاً نصب بالوصية ، إلا إذا أضمرت يوصون ، فإنه نصب بالفعل . وعلى قراءة أبيّ متاعاً نصب بمتاع ، لأنه في معنى التمتيع؛ كقولك : الحمد لله حمد الشاكرين ، وأعجبني ضرب لك زيداً ضرباً شديداً . و { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } مصدر مؤكد كقولك : هذا القول غير ما تقول . أو بدل من متاعاً . أو حال من الأزواج ، أي غير مخرجات . والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً ، أي ينفق عليهنّ من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخت المدة بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقيل : نسخ ما زاد منه على هذا المقدار ، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن . واختلف في السكنى ، فعند أبي حنيفة وأصحابه : لا سكنى لهن { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التزين والتعرض للخطاب { مِن مَّعْرُوفٍ } مما ليس بمنكر شرعاً . فإن قلت : كيف نسخت الآية المتقدمةُ المتأخرةَ؟ قلت : قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل ، كقوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهاء } [ البقرة : 142 ] مع قوله { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } [ البقرة : 144 ] .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

{ وللمطلقات متاع } عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المطلقة غير المدخول بها ، وقال : { حَقّا عَلَى المتقين } كما قال ثمة : { حقا على المحسنين } . وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري : أنها واجبة لكل مطلقة . وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعاً . وقيل : المراد بالمتاع نفقة العدة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

{ أَلَمْ تَرَ } تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين ، وتعجيب من شأنهم . ويجوز أن يخاطب به من لم يَرَ ولم يسمع ، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب . روي : أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها الطاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله وقضائه . وقيل مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى ، فأوحى إليه : ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ، فنادى ، فنظر إليهم قياماً يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت ، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } فيه دليل على الألوف الكثيرة . واختلف في ذلك ، فقيل : عشرة ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : سبعون . ومن بدع التفاسير . { أُلُوفٌ } متآلفون ، جمع آلف كقاعد وقعود . فإن قلت : ما معنى قوله : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } ؟ قلت : معناه فأماتهم ، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر ، فأولى أن يكون في سبيل الله . { لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون ، كما بصر أولئك ، وكما بصركم باقتصاص خبرهم . أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا ، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث . والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله . { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون { عَلِيمٌ } بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

إقراض الله : مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه . والقرض الحسن : إما المجاهدة في نفسها ، وإما النفقة في سبيل الله { أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قيل : الواحد بسبعمائة . وعن السدي : كثيرة لا يعلم كنهها إلا الله { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } يوسع على عباده ويقتر ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبد لكم الضيقة بالسعة { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على ما قدّمتم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

{ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ } هو يوشع أو شمعون أو اشمويل { ابعث لَنَا } أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره ، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها ، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره . وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم { نقاتل } قرىء بالنون والجزم على الجواب . وبالنون والرفع على أنه حال ، أي ابعثه لنا مقدّرين القتال . أو استئناف كأنه قال لهم : ما تصنعون بالملك؟ فقالوا : نقاتل . وقرىء : «يقاتل» بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لملكا . وخبر ( عسيتم ) { أَلاَّ تقاتلوا } والشرط فاصل بينهما . والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول : عسيتم أن لا تقاتلوا ، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون . وأراد بالاستفهام التقرير ، وتثبيت أنّ المتوقع كائن ، وأنه صائب في توقعه ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] معناه التقرير . وقرىء «عسيتم» بكسر السين وهي ضعيفة { وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل } وأيّ داع لنا إلى ترك القتال ، وأي غرض لنا فيه { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين . { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } قيل كان القليل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

{ طَالُوتَ } اسم أعجمي كجالوت وداود . وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته ، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم . ووزنه إن كان من الطول « فعلوت» منه ، أصله طولوت ، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه ، إلا أن يقال : هو اسم عبراني وافق عربياً ، كما وافق حنطاء حنطة ، وبشمالاها لها رحمانا رحيماً بسم الله الرحمن الرحيم ، فهو من الطول كما لو كان عربياً ، وكان أحد سببيه العجمة لكونه عبرانياً { أنى } كيف ومن أين ، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له . فإن قلت ، ما الفرق بين الواوين في { وَنَحْنُ أَحَقُّ } ، { وَلَمْ يُؤْتَ } ؟ قلت : الأولى للحال ، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً ، قد انتظمتهما معاً في حكم واو الحال . والمعنى : كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك ، وأنه فقير ولا بدّ للملك من مال يعتضد به . وإنما قالوا ذلك لأنّ النبوّة كانت في سبط لاوي بن يعقوب والملك في سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أحد السبطين ، ولأنه كان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً . وروي : أنّ نبيهم دعا الله تعالى حين طلبوا منه ملكاً ، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم ، فلم يساوها إلا طالوت { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } يريد أنّ الله هو الذي اختاره عليكم ، وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكم الله . ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة . والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب . ويجوز أن يكون عالماً بالديانات وبغيرها . وقيل : قد أوحي إليه ونبىء . وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم ، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب . والبسطة : السعة والامتداد . وروي أن الرجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه { يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ } أي الملك له غير منازع فيه ، فهو يؤتيه من يشاء : من يستصلحه للملك { والله واسع } الفضل والعطاء ، يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر { عَلِيمٌ } بمن يصطفيه للملك .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

{ التابوت } صندوق التوراة . وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرّون . والسكينة : السكون والطمأنينة ، وقيل : هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان ، فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه ، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر ، وعن عليّ رضي الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة { وَبَقِيَّةٌ } هي رضاض الألواح وعصى موسى وثيابه وشيء من التوراة ، وكان رفعه الله تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، فكان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت . وقيل : كان مع موسى ومع أنبياء بني إسرائيل بعده يستفتحون به . فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت ، فلما أراد الله أن يملّك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن ، فقالوا : هذا بسبب التابوت بين أظهرنا ، فوضعوه على ثورين ، فساقهما الملائكة إلى طالوت . وقيل كان من خشب الشمشار مموّها بالذهب . نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين . وقرأ أبيّ وزيد بن ثابت : «التابوه» بالهاء وهي لغة الأنصار . فإن قلت : ماوزن التابوت؟ قلت : لا يخلو من أن يكون فعلوتا أو فاعولاً ، فلا يكون «فاعولا» لقلته ، نحو : سلس وقلق ، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه ، فهو إذاً «فعلوت» من التوب ، وهو الرجوع : لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه ، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته . وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده ، إلا فيمن جعل هاءه بدلاً من التاء ، لاجتماعهما في الهمس وأنهما من حروف الزيادة . ولذلك أبدلت من تاء التأنيث . وقرأ أبو السمال : «سَكِّينة» ، بفتح السين والتشديد وهو غريب . وقرىء : «يحمله» ، بالياء ، فإن قلت : مَن { ءَالُ موسى وَءَالُ هارون } ؟ قلت : الأنبياء من بني يعقوب بعدهما . لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب فكان أولاد يعقوب آلهما . ويجوز أن يراد : مما تركه موسى وهارون . والآل مقحم لتفخيم شأنهما .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

{ فَصْلٌ } عن موضع كذا : إذا انفصل عنه وجاوزه ، وأصله : فصل نفسه ، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل . وقيل : فصل عن البلد فصولاً . ويجوزأن يكون : فصله فصلاً ، وفصل فصولاً كوقف وصدّ ونحوهما . والمعنى : انفصل عن بلده { بالجنود } روي أنه قال لقومه : لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها ، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ . فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة ، فسألوا أن يجري الله لهم نهراً ، ف { قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم } بما اقترحتموه من النهر { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه { فَلَيْسَ مِنّي } فليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني ، كأنه بعضه؛ لاختلاطهما واتحادهما . ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ومن لم يذقه ، من طعم الشيء ، إذا ذاقه . ومنه طِعم الشيء ، لمذاقه . قال :

وَإنْ شِئْت لَمْ أطْعَمْ نَقَاخاً وَلاَ بَرْدَا ... ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم . ويقال : ما ذقت غماضاً . ونحوه من الابتلاء : ما ابتلى الله به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعاً ، بل هو أشد منه وأصعب . وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي . وإن كان نبياً كما يروي عن بعضهم فبالوحي . وقرىء «بنهر» بالسكون . فإن قلت : ممَّ استثنى قوله : { إِلاَّ مَنِ اغترف } ؟ قلت : من قوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي } والجملة الثانية في حكم المتأخرة ، إلا أنها قدّمت للعناية كما قدم { والصابئون } [ المائدة : 69 ] في قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } ومعناه : الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع ، والدليل عليه قوله : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } أي فكرعوا فيه { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } وقرىء : «غَرفة» بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف . وقرأ أبيّ والأعمش : «إلا قليل» ، بالرفع . وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية . فلما كان معنى { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } في معنى فلم يطيعوه ، حمل عليه ، كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . ونحوه قول الفرزدق :

. . . . . . . . . . . . لمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلاّ مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ

كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف . وقيل : لم يبق مع طالوت إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً { والذين ءامَنُواْ } يعني القليل { قَالَ الذين يَظُنُّونَ } يعني الخُلّص منهم الذين نصبوا بين أعينهم لقاه الله وأيقنوه . أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله ، والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة . وقيل : الضمير في { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا } للكثير الذين انخذلوا ، والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه ، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما . يظهر أولئك عذرهم في الانخذال ، ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به . وروي : أنّ الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته . والذين شربوا منه اسودّت شفاههم وغلبهم العطش .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

و ( جَالُوتَ ) جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ، وكانت بيضته فيها ثلثمائة رطل { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوّة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب . كان إيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحي إلى اشمويل أنّ داود بن إيشى هو الذي يقتل جالوت ، فطلبه من أبيه ، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت ، فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله ، وزوّجه طالوت بنته . وروي أنه حسده وأراد قتله ثم تاب { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدّسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود { والحكمة } والنبوّة { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } من صنعة الدروع ، وكلام الطير والدواب وغير ذلك { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم ، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض . وقيل : ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين . أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

{ تِلْكَ آيات الله } يعني القصص التي اقتصها ، من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم ، وتمليك طالوت وإظهاره بالآية التي هي نزول التابوت من السماء ، وغلبة الجبابرة على يد صبي { بالحق } باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار .

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

{ تِلْكَ الرسل } إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة ، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام . وقرىء : «كلم الله» بالنصب . وقرأ اليماني : «كالم الله» ، من المكالمه ، ويدل عليه قولهم : كليم الله ، بمعنى مكالمه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة . والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر . ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس . ويقال للرجل : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال ، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه . وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره . ويجوز أن يريد : إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم من الرسل . وعن ابن عباس رضي الله عنه .

( 143 ) كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء ، فذكرنا نوحاً بطول عبادته ، وإبراهيم بخلته ، وموسى بتكليم الله إياه ، وعيسى برفعه إلى السماء ، وقلنا : رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم ، بعث إلى الناس كافة؛ وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء فدخل عليه السلام فقال : " فيم أنتم؟ فذكرنا له . فقال : لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهمَّ بها " فإن قلت : فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة . ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات ، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل . وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره . ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها .

كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع ، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين { وَلَوْ شَاءَ الله } مشيئة إلجاء وقسر { مَا اقتتل الذين } من بعد الرسل ، لاختلافهم في الدين ، وتشعب مذاهبهم ، وتكفير بعضهم بعضاً { ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ } لالتزامه دين الأنبياء { وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } إعراضه عنه { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا } كرّره للتأكيد { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } من الخذلان والعصمة { أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يسامحكم أخلاؤكم به . وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات . لأنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير { والكافرون هُمُ الظالمون } أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، فقال { والكافرون } للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج { وَمَن كَفَرَ } [ النور : 55 ] مكان : ومن لم يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } [ فصلت : 6 ] وقرىء : «لا بيعُ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ» بالرفع .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

{ الحى } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر . و { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه . وقريء : «القيام» ، «والقيم» والسنة : ما يتقدّم النوم من الفتور الذي يسمي النعاس . قال ابن الرقاع العاملي :

وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

أي لا يأخذه نعاس ولا نوم وهو تأكيد للقيوم؛ لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً . ومنه حديث موسى .

( 144 ) أنه سأل الملائكة ( وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية ) : أينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوءتين . فأخذهما ، وألقى الله عليه النعاس فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا . { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ } بيان لملكوته وكبريائه . وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، كقوله تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم . والضمير لما في السموات والأرض لأنّ فيهم العقلاء ، أو لما دل عليه { مَّن ذَا } من الملائكة والأنبياء { مّنْ عِلْمِهِ } من معلوماته { إِلاَّ بِمَا شَاءَ } إلا بما علم . ( الكرسي ) ما يجلس عليه ، ولا يفضل عن مقعد القاعد . وفي قوله { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } أربعة أوجه : أحدها أنّ كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثمة ولا قعود ، ولا قاعد ، كقوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] من غير تصوّر قبضة وطيّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسيّ . ألا ترى إلى قوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } والثاني : وسع علمه وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم . والثالث : وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك . والرابع : ما روي : أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض ، وهو إلى العرش كأصغر شيء . وعن الحسن : الكرسي هو العرش { وَلاَ يَؤُودُهُ } ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ العلى } الشأن { العظيم } الملك والقدرة . فإن قلت : كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟ قلت : ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب : بين العصا ولحائها ، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه . والثانية لكونه مالكاً لما يدبره . والثالثة لكبرياء شأنه . والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة ، وغير المرتضى . والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره . فإن قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد منه قوله صلى الله عليه وسلم :

( 145 ) « ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا عليّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها » وعن عليّ رضي الله عنه : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول :

( 146 ) « من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمّنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله » وتذاكر الصحابة رضوان الله عليهم أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليّ رضي الله عنه .

( 147 ) أين أنتم عن آية الكرسي ، ثم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عليّ ، سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي » قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار . وبهذا يعلم أنّ أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم أهل العدل والتوحيد ولا يغرّنك عنه كثرة أعدائه :

فإنَّ الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً ... وَلاَ تَرَى لِلئَامِ النَّاسِ حُسَّادًا .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والاختيار . ونحوه قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الاختيار { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان بالله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } من الحبل الوثيق المحكم ، المأمون انفصامها ، أي انقطاعها . وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن به . وقيل : هو إخبار في معنى النهي ، أي لا تتكرهوا في الدين . ثم قال بعضهم : هو منسوخ بقوله : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] وقيل : هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية وروي .

( 148 ) أنه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزلت : فخلاهما

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

{ الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } أي أرادوا أن يؤمنوا يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان { والذين كَفَرُواْ } أي صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك . أو الله وليّ المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين { والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ } الشياطين { يُخْرِجُونَهُم } من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

{ أَلَمْ تَرَ } تعجيب من محاجة نمروذ في الله وكفره به { أَنْ آتاه الله الملك } متعلق بحاجَّ على وجهين :

أحدهما حاجّ لأن آتاه الله الملك ، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوَّ فحاجّ لذلك ، أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه الله الملك ، فكأن المحاجة كانت لذلك ، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان . ونحوه قوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .

والثاني : حاجّ وقت أن آتاه الله الملك . فإن قلت : كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟ قلت : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا . وقيل : ملكه امتحاناً لعباده . و { إِذْ قَالَ } نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت { أَنَاْ أُحْىِ وَأُمِيتُ } يريد أعفو عن القتل وأقتل . وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء . وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة . وقريء : «فبهت الذي كفر» أي فغلب إبراهيم الكافر . وقرأ أبو حيوة : «فبهت» ، بوزن قرب . وقيل : كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال له : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . { أَوْ كالذى } معناه . أو أرأيت مثل الذي مرَّ فحذف لدلالة { أَلَمْ تَرَ } عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب . ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ ، كأنه قيل : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية . والمارّ كان كافراً بالبعث ، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي : ( أنى يُحْيىِ ) . وقيل : هو عزير أو الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام . وقوله : { أَنَّى يُحْىِ } اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء ، واستعظام لقدرة المحيي . والقرية : بيت المقدس حين خربه بختنصر . وقيل : هي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } تفسيره فيما بعد { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على الظن . روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم . وروي : أن طعامه كان تيناً وعنباً . وشرابه عصيراً أو لبناً ، فوجد التين والعنب كما جنيا ، والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يتغير ، والهاء أصلية أو هاء سكت . واشتقاقه من السنة على الوجهين ، لأن لامها هاء أو واو ، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان . وقيل : أصله يتسنن ، من الحمأ المسنون ، فقلبت نونه حرف علة ، كتقضي البازي . ويجوز أن يكون معنى { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه ، يعني هو بحاله كما كان كأنه لم يلبث مائة سنة . وفي قراءة عبد الله : «فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن» . وقرأ أبيّ : «لم يسَّنه» ، بإدغام التاء في السين { وانظر إلى حِمَارِكَ } كيف تفرّقت عظامه ونخرت ، وكان له حمار قد ربطه . ويجوز أن يراد : وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته ، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه ، وقيل : أتى قومه راكب حماره وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة فأخذ يهذها هذاً عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفاً ، فقالوا : هو ابن الله . ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية . وقيل : رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب ، فإذا حدّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة { وانظر إِلَى العظام } هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم { كَيْفَ نُنشِزُهَا } كيف نحييها . وقرأ الحسن : «ننشرها» ، من نشر الله الموتى ، بمعنى : أنشرهم فنشروا ، وقريء بالزاي ، بمعنى نحرّكها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . وفاعل ( تَّبَيَّنَ ) مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً . ويجوز : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعني أمر إحياء الموتى . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : «فلما تبين له» على البناء للمفعول . وقرىء : «قال اعلم» ، على لفظ الأمر : وقرأ عبد الله : «قيل اعلم» . فإن قلت : فإن كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله؟ قلت : كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

{ أَرِنِى } بصرني ، فإن قلت : كيف قال له { أَوَ لَمْ تُؤْمِنَ } وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين . و { بلى } إيجاب لما بعد النفي ، معناه بلى آمنت { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك . فإن قلت : بم تعلقت اللام في { لّيَطْمَئِنَّ } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } قيل : طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهنّ واضممهنّ إليك قال :

وَلكنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا ... وقال :

وَفَرْعٍ يَصيرُ الجْيِدَ وَحْفٍ كَأنَّه ... عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ

وقرأ ابن عباس رضي الله عنه «فصرهن» بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء ، من صره يصره ويصره إذا جمعه ، نحو ضره ويضره ويضره . وعنه «فصرّهن» من التصرية وهي الجمع أيضاً { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يريد : ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال . والمعنى : على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك . وقيل : كانت أربعة أجبل . وعن السدّي : سبعة { ثُمَّ ادعهن } وقل لهن : تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن . فإن قلت : ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت : ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك قال : يأتينك سعياً . وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها ، وأن يمسك رؤسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال ، على كل جبل ربعاً من كل طائر . ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله ، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤسهن ، كل جثة إلى رأسها . وقريء : «جزأ» بضمتين . «وجّزّاً» ، بالتشديد . ووجهه أنه خفف بطرح همزته ، ثم شدد كما يشدد في الوقف ، إجراء للوصل مجرى الوقف .

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

{ مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ } لا بد من حذف مضاف ، أي مثل نفقتهم كمثل حبة ، أو مثلهم كمثل باذر حبة . والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء . ومعنى إنباتها سبع سنابل ، أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب ، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف ، كأنها ماثلة بين عيني الناظر . فإن قلت : كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت : بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ ، ولو لم يوجد لكان صحيحاً على سبيل الفرض والتقدير : فإن قلت : هلا قيل : سبع سنبلات ، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال : { وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ } [ يوسف : 53 ] ؟ قلت : هذا لما قدمت عند قوله : { ثلاثة قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها { والله يضاعف لِمَن يَشَاءُ } أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء ، لا لكل منفق ، لتفاوت أحوال المنفقين . أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

المن : أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه ، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له : وكانوا يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها . ولبعضهم :

وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَىَّ صَنِيعَةً ... وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ

وفي نوابغ الكلم : صنوان من منح سائله ومنّ ، ومن منع نائله وضنّ . وفيها طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ . والأذى : أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه : ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] . فإن قلت : أي فرق بين قوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } وقوله فيما بعد : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ؟ قلت : الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط . وضمنه ثمة . والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر ، وطرحها عار عن تلك الدلالة .

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } ردّ جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤل أو : ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل ، أو : وعفو من جهة السائل لأنه إذا ردّه ردّا جميلاً عذره { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًىً } وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { والله غَنِىٌّ } لا حاجة به إلى منفق يمنُّ ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة ، وهذا سخط منه ووعيد له . ثم بالغ في ذلك بما أتبعه { كالذى يُنفِقُ مَالَهُ } أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله { رِئَاءَ الناس } لا يريد بإنفاقه رضاء الله ولا ثواب الآخرة { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان بحجر أملس عليه تراب . وقرأ سعيد بن المسيب : «صفوان» بوزن كروان { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه . ومنه : صلد جبين الأصلع إذا برق { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْءٍ مّمَّا كَسَبُواْ } كقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال : أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق . فإن قلت : كيف قال : { لاَّ يَقْدِرُونَ } بعد قوله : { كالذى يُنفِقُ } ؟ قلت : أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان فكأنه قيل : كمن ينفق .

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

{ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح . وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان؛ لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها ، وبالعكس ، فكان إنفاق المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين . ويجوز أن يراد : وتصديقاً للإسلام . وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم؛ لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله ، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه . «ومن» على التفسير الأوّل للتبعيض ، مثلها في قولهم : هز من عطفه ، وحرك من نشاطه . وعلى الثاني لابتداء الغاية ، كقوله تعالى : { حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] ويحتمل أن يكون المعنى : وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه . وتعضده قراءة مجاهد : «وتبيينا من أنفسهم» . فإن قلت : فما معنى التبعيض؟ قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] والمعنى : ومثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّةِ } وهي البستان { بِرَبْوَةٍ } بمكان مرتفع . وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً { أَصَابَهَا وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَأَتَتْ أُكُلَهَا } ثمرتها { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها . أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده . وقرىء : «كمثل حبة» ، و«بربوة» بالحركات الثلاث و«أكلها» بضمتين .

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } للإنكار . وقرىء : له جنات ، وذرية ضعاف . والإعصار : الريح التي تستدير في الأرض ، ثم تسطع نحو السماء كالعمود . وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله . فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة ، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغ الكبر ، وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم ومنتعشهم ، فهلكت بالصاعقة . وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عنها الصحابة فقالوا : الله أعلم ، فغضب وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال : قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك . قال : ضربت مثلاً لعمل . قال : لأي عمل؟ قال : لرجل غني يعمل الحسنات . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها . وعن الحسن رضي الله عنه : هذا مثلٌ قلّ والله يعقله من الناس ، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته ، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا . فإن قلت : كيف قال { جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ثم قال : { لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } قلت : النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع ، خصهما بالذكر ، وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات . ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها كقوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } [ الكهف : 34 ] بعد قوله : { جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } [ الكهف : 32 ] فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَصَابَهُ الكبر } ؟ قلت : الواو للحال لا للعطف . ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر . وقيل : يقال : وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا ، فحمل العطف على المعنى ، كأنه قيل : أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

{ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم } من الحب والثمر والمعادن وغيرها . فإن قلت : فهلا قيل : وما أخرجنا لكم ، عطفاً على { مَّا كَسَبْتُم } حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت معناه : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } تخصونه بالإنفاق ، وهو في محل الحال . وقرأ عبد الله : «ولا تأمموا» ، وقرأ ابن عباس : «ولا تيمموا» ، بضم التاء . ويممه وتيممه وتأممه ، سواء في معنى قصده { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك : أغمض فلان عن بعض حقه ، إذا غضّ بصره . ويقال للبائع : أغمض ، أي لا تستقص ، كأنك لا تبصر . وقال الطِّرِمَّاح :

لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ ... وَلِلضَّيْمِ رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بالإِغمَاضِ

وقرأ الزهريّ : «تغمضوا» . وأغمض وغمض بمعنى . وعنه : «تغمِضُوا» ، بضم الميم وكسرها . من غمض يغمض ويغمض . وقرأ قتادة : «تُغِمَضُوا» ، على البناء للمفعول ، بمعنى إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه . وقيل : إلا أن توجدوا مغمضين . وعن الحسن رضي الله عنه : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه .

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

أي يعدكم في الإنفاق { الفقر } ويقول لكم أنّ عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا . وقريء : «الفقر» ، بالضم . «والفقر» بفتحتين والوعد يستعمل في الخير والشر . قال الله تعالى : { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] { وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب : البخيل { والله يَعِدُكُم } في الإنفاق { مَغْفِرَةٍ } لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلاً } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو ثواباً عليه في الآخرة .

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

{ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ } يوفق للعلم والعمل به . والحكيم عند الله : هو العالم العامل وقرىء : «ومن يؤت الحكمة» بمعنى ومن يؤته الله الحكمة . وهكذا قرأ الأعمش . و { خَيْراً كَثِيراً } تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتي أيّ خير كثير { وما يذكر إلا أولو الألباب } . يريد الحكماء العلام العمال . والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق .

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

{ وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } في سبيل الله ، أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ } في طاعة الله ، أو في معصيته { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا للظالمين } الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو لا يفون بالنذور ، أو ينذرون في المعاصي { مِنْ أَنصَارٍ } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه .

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

«ما» في { نِعِمَّا } نكرة غير موصولة ولا موصوفة . ومعنى { فَنِعِمَّا هِىَ } فنعم شيئاً إبداؤها . وقريء بكسر النون وفتحها { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء } وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالإخفاء خير لكم . والمراد الصدقات المتطوّع بها ، فإنّ الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً» وإنما كانت المجاهرة بالفرائض أفضل ، لنفي التهمة ، حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوّع إن أراد أن يقتدى به كان إظهاره أفضل { نُكَفِّر } وقرىء بالنون مرفوعاً عطفاً على محل ما بعد الفاء ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ونحن نُكَفِّر . أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة ، ومجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده ، لأنه جواب الشرط . وقرىء : «ويكفّر» ، بالياء مرفوعاً ، والفعل لله أو للاخفاء . وتكفر بالتاء ، مرفوعاً ومجزوماً ، والفعل للصدقات . وقرأ الحسن رضي الله عنه بالياء والنصب بإضمار أن ومعناه : إن تخفوها يكن خيراً لكم ، وأن يكفر عنكم .

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } من مال { فَلاِنفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وَمَا تُنفِقُونَ } وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله ولطلب ما عنده ، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافاً مضاعفة ، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه ، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها . وقيل : حجت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فأتتها أمها تسألها وهي مشركة ، فأبت أن تعطيها ، فنزلت ، وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين . وروي : أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام ، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم . وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك . واختلف في الواجب ، فجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره .

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

الجار متعلق بمحذوف . والمعنى : اعمدوا للفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، كقوله تعالى : { في تسع آيات } [ النمل : 12 ] ويجوزأن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي صدقاتكم للفقراء . و { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } هم الذين أحصرهم الجهاد { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الارض } للكسب . وقيل هم أصحاب الصفة ، وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ، ويرضخون النوى بالنهار . وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما :

( 149 ) وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : « أَبْشِرُوا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أَمْتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي في الجنة » { يَحْسَبُهُمُ الجاهل } بحالهم { أَغْنِيَاءَ مِنَ التعفف } مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بسيماهم } من صفرة الوجه ورثاثة الحال . والإلحاف : الإلحاح ، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه . من قولهم : لحفني من فضل لحافه ، أي أعطاني من فضل ما عنده . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .

( 150 ) « إنّ الله تعالى يحبّ الحَيّيِ الحليم المتعفف ، ويبغض البذيّ السئال الملحف » ومعناه : أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا وقيل : هو نفي للسؤال والإلحاف جميعاً كقوله :

عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... يريد نفي المنار والاهتداء به .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

{ الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال . وقيل : نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السرّ ، وعشرة في العلانية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في عليّ رضي الله عنه : لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية . وقيل : نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية .

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

{ الرباا } كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع { لاَ يَقُومُونَ } إذا بعثوا من قبورهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أي المصروع . وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع . والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء ، فورد على ما كانوا يعتقدون . والمس : الجنون . ورجل ممسوس ، وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجنيَّ يمسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل : معناه ضربته الجنّ ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات . فإن قلت : بم يتعلق قوله : { مِنَ المس } ؟ قلت : ب ( لا يقومون ) ، أي لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع . ويجوز أن يتعلق بيقوم ، أي كما يقوم المصروع من جنونه . والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين ، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون ، إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإيفاض { ذَلِكَ } العقاب بسبب قولهم { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا } . فإن قلت : هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب أن يقال : إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه ، وكانت شبهتهم أنهم قالوا : لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهماً بدرهمين؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة ، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع . وقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا } إنكار لتسويتهم بينهما ، ودلالة عل أنّ القياس يهدمه النص ، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ } فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا { فانتهى } فتبع النهي وامتنع { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فلا يؤخذ بما مضى منه ، لأنه أخذ قبل نزول التحريم { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } يحكم في شأنه يوم القيامة ، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به { وَمَنْ عَادَ } إلى الربا { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق . وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقي ، ولأنها في معنى الوعظ . وقرأ أبيٌّ والحسن : «فمن جاءته» . { يَمْحَقُ الله الرباا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : الربا وإن كثر إلى قلّ . { وَيُرْبِى الصدقات } ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه . وفي الحديث .

( 151 ) " ما نقَّصَتْ زكاةٌ من مال قط " { كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين .

أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا ، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها . روي : أنها نزلت في ثقيف ، وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا . وقرأ الحسن رضي الله عنه : «ما بقى» ، بقلب الياء ألفاً على لغة طيىء : وعنه «ما بقيْ» بياء ساكنة . ومنه قول جرير :

هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمُو ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ

{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن صح إيمانكم ، يعني أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به . وقرىء : «فآذنوا» ، فأعلموا بها غيركم ، وهو من الإذن وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم . وقرأ الحسن : «فأيقنوا» ، وهو دليل لقراءة العامّة . فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت : كان هذا أبلغ ، لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله . وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يديْ لنا بحرب الله ورسوله . { وَإِن تُبتُمْ } من الارتباء { فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ } المديونين بطلب الزيادة عليها { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقصان منها . فإن قلت : هذا حكمهم إن تابوا ، فما حكمهم لو لم يتوبوا قلت : قالوا : يكون مالهم فيئاً للمسلمين ، وروى المفضل عن عاصم : ( لا تظلمون ولا تظلمون ) { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار : وقرا عثمان رضي الله عنه . «ذا عسرة» على وإن كان الغريم ذا عسرة . وقرىء : ( ومن كان ذا عسرة ) { فَنَظِرَةٌ } أي فالحكم أو فالأمر نظرة وهي الإنظار . وقرىء : «فنظْرة» بسكون الظاء . وقرأ عطاء : «فناظره» . بمعنى فصاحب الحق ناظره : أي منتظره ، أو صاحب نظرته على طريقة النسب كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل . وعنه : فناظرْه ، على الأمر بمعنى فسامحه بالنظرة وياسره بها { إلى مَيْسَرَةٍ } إلى يسار وقرىء بضم السين ، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة . وقرىء بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله :

وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا ... وقوله تعالى : { وإقام الصلاة } [ النور : 37 ] . { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ندب إلى أن يتصدقوا برؤس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها ، كقوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] . وقيل : أريد بالتصدق الإنظار لقوله صلى الله عليه وسلم .

( 152 ) " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم فتعملوا به ، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه . وقرىء «تصدّقوا» بتخفيف الصاد على حذف التاء { تُرْجَعُونَ } قرىء على البناء للفاعل والمفعول : وقرىء : «يرجعون» بالياء على طريقة الالتفات . وقرأ عبد الله : «تردّون» : وقرأ أبيّ : «تصيرون» . وعن ابن عباس : أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام ، وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة . وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً . وقيل : أحداً وثمانين . وقيل : سبعة أيام . وقيل : ثلاث ساعات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

{ إِذَا تَدَايَنتُم } إذا داين بعضكم بعضاً . يقال : داينت الرجل عاملته { بِدَيْنٍ } معطياً أو آخذاً كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك . قال رؤبة :

دَايَنْتُ أرْوَى والدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا

والمعنى : إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه . فإن قلت : هلا قيل : إذا تداينتم إلى أجل مسمى وأي حاجة إلى ذكر «الدين» كما قال : داينت أروى ، ولم يقل : بدين؟ قلت : ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن . ولأنه أبين بتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مُّسَمًّى } قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم يجز لعدم التسمية . وإنما أمر بكتبة الدين ، لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والأمر للندب . وعن ابن عباس : أن المراد به السلم ، وقال : لما حرم الله الرّبا أباح السلف . وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية . { بالعدل } متعلق بكاتب صفة له ، أي كاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط . لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص . وفيه : أن يكون الكاتب فقيها عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع . وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً دينا { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب { أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير . وقيل هو قوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] أي ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها . وعن الشعبي : هي فرض كفاية ، وكما علمه الله : يجوز أن يتعلق بأن يكتب ، وبقوله فليكتب . فإن قلت : أي فرق بين الوجهين؟ قلت : إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم قيل له { فَلْيَكْتُبْ } يعني فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد ، وإن علقته بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيدة { وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به . والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ } [ الفرقان : 5 ] . { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ } من الحق { شَيْئاً } والبخس : النقص . وقرىء «شياً» ، بطرح الهمزة : «وشياً» ، بالتشديد { سَفِيهًا } محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف { أَوْ ضَعِيفًا } صبياً أو شيخاً مختلاً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } الذي يلي أمره من وصيّ إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...