ج5. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
وقال
ابن خطيب زَمَلَّكى : « الأوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ محذوفٌ بعد الهمزة وقيل الفاء
تكونُ الفاءُ عاطفةً عليه ، ولو صرح به لقيل : أتؤمنون به مدةَ حياته فإنْ مات
ارتدَدْتم فتخالِفوا سُنَنَ اتِّباع الأنبياءِ قبلَكم في ثباتِهم على مِلَلِ
أنبيائِهم بعد مَوْتِهم » وهذا هو مذهب الزمخشري ، إلاَّ أنَّ الزمخشري هنا عَبَّر
بعبارةٍ لا تقتضي مذهبَه الذي هو حَذْفُ جملةٍ بعد الهمزةِ فإنه قال : « الفاءُ
مُعَلَّقةٌ للجملةِ الشرطيةِ بالجملةِ قبلَها على معنى التسبيبِ ، والهمزةُ
لإِنكار أَنْ يَجْعَلُوا خُلُوَّ الرسلِ قبلَه سبباً لانقلابِهم على أَعْقابِهم
بعدَ هلاكِه بموتٍ أو قَتْلٍ ، مع عِلْمِهِم أَنَّ خُلُوَّ الرسلِ قبله وبقاءَ
ديِنهم مُتَمَسَّكاً به يجبُ أَنْ يُجْعَلَ سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه
وسلم لا للانقلابِ عنه » فظاهرُ هذا الكلام أنَّ الفاءَ عَطَفَتْ هذه الجملةَ
المشتملة على الإِنكارِ على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } مِنْ غير تقديرِ
جملةٍ أخرى .
وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنَّه قال : « الهمزةُ عند سيبويه في موضِعها ،
والفاء تدلُّ على تعلُّقِ الشرطِ بما قبله » . انتهى . لا يقال : إنه جَعَل
الهمزةَ في موضعِها فيُوهِمُ هذا أنَّ الفاءَ ليست مُقَدَّمَةً عليها لأنه جَعَلَ
هذا مقابلاً لمذهبِ يونس ، فإنَّ يونس يزعم أنَّ هذه الهمزةَ في مِثْلِ هذا
التركيبِ داخلةٌ على جوابِ الشرط ، فهي في مَذْهَبِه [ في ] غيرِ موضِعها . وسيأتي
تحريرُ هذا كلِّه .
و « إنْ » شرطيةٌ . و « ماتَ » و « انقلبتم » شرطٌ وجزاءٌ ، ودخولُ الهمزةِ على
أداةِ الشرطِ لا يغيِّر شيئاً مِنْ حكمِها ، وزَعَم يونس أنَّ الفعلَ الثاني الذي
هو جزاءُ الشرطِ ليس بجزاءٍ للشرطِ ، إنما هو المُسْتَفْهَمُ عنه ، وأنَّ الهمزةَ
داخلةٌ عليه تقديراً فيُنْوى به التقديمُ وحينئذ فلا يكونُ جواباً ، بل الجوابُ
محذوفٌ ، ولا بد إذ ذاك من أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً ، إذ لا يُحْذَفُ الجوابُ
إلا والشرطُ ماضٍ ، ولا اعتبارَ بالشعرِ فإنه ضرورةٌ ، فلا يجوزُ عندَه أَنْ تقولَ
: « أإنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك » [ لا بجَزْمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني ]
لأنَّ الشرط مضارعٌ ، ولا : « أإن أكرمتني أكرمْك » بجزم « أكرمْك » لأنه ليس
الجوابَ بل دالاً عليه ، والنيةُ به التقديمُ ، فإنْ رَفَعْتَ « أكرمك » وقلت : «
أإنْ أكرَمْتَني أكرمُك » صَحَّ عنده ، فالتقديرُ عند يونس : آنقلبتم على أعقابِكم
إنْ ماتَ محمدٌ؟ لأنَّ الغرضَ إنكارُ انقلابِهم على أعقابِهم بعد مَوْتِه .
وبقولِ يونس قال كثيرٌ من المفسرين ، فإنَّهم يقولون : ألفُ الاستفهامِ دَخَلَتْ
في غير موضعها ، لأنَّ الغرضَ إنما هو : أتنقلبون إنْ ماتَ محمد « . وقال أبو
البقاء : » وقال يونُس : الهمزةُ في مثلِ هذا حَقُّها أَنْ تَدْخُلِ على جوابِ
الشرطِ تقديرُه : « أتنقلبون إنْ مات »؛ لأنَّ الغرضَ التنبيهُ أو التوبيخُ على
هذا الفعلِ المشروط .
ومذهبُ
سيبويه الحقُّ لوجهينِ ، أحدهما : أنك لو قَدَّمْتَ الجوابَ لم يكن للفاءِ وجهٌ إذ
لا يَصِحُّ أَنْ تقولَ : « أتزورُوني فإنْ زُرْتُكِ » ، ومنه قولُه تعالى : {
أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] ، والثاني : أنَّ الهمزةَ
لها صدرٌ الكلام ، و « إنْ » لها صدرُ الكلامِ ، فقد وقعا في موضِعِهما ، والمعنى
يَتِمُّ بدخولِ الهمزةِ على جملةِ الشرط والجواب ، لأنهما كالشيءِ الواحد « انتهى
. وقد رَدَّ النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } فإنَّ
الفاءَ في قولِه : » فهم « تُعَيِّنُ أن يكون جواباً للشرط . ولهذه المسألةِ موضعٌ
هو أليقُ بها من هذا الكتاب . وأتى هنا ب » إنْ « التي تقتضي الشك ، والموتُ أمرٌ
محقق ، إلا أنه أُورد مَوْرِدَ المشكوك فيه للتردُّدِ بين الموتِ والقتلِ .
قوله : { على أَعْقَابِكُمْ } فيه و جهان ، أظهرُهما : أنَّه متعلِّقٌ ب » انقلبتم
« . والثاني : أنه حالٌ من فاعلِ » انقلبتم « كأنه قيل : انقلبتم راجعين . وقرأ
ابن أبي إسحاق : » ومَنْ ينقلِبْ علىعَقِبه « بالإِفراد . و » شيئاً « نُصِبَ على
المصدرِ أي : شيئاً مِنَ الضررِ لا قليلاً ولا كثيراً . وقد تقدَّم نظيرُه .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
قوله
تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } : « أًَنْ تموتَ » في محل رفع
اسماً ل « كان » . و : « لنفس » خبرٌ مقدم فيتعلَّقُ بمحذوف و { إِلاَّ بِإِذْنِ
الله } حالٌ من الضمير في « تموت » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وهو استثناء مفرغ ،
والتقدير : وما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها ، والباء للمصاحبة .
وقال أبو البقاء : و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } الخبر ، واللامُ للتبيينِ متعلقةٌ ب
« كان » . وقيل : هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه : الموتُ لنفس ، و « أن تموت »
تبيينٌ للمحذوفِ ، ولا يجوز أَنْ تتعلَّقَ اللامُ ب « تموت » لِما فيه من تقديمِ
الصلةِ على الموصولِ « . وقال بعضُهم : » إنَّ « كان » زائدةٌ فيكونُ « أَنْ تموتَ
» مبتدأ ، و « لنفسٍ » خبره « . وقال الزجاج : » تقديرُه : وما كانت نفسٌ لتموتَ ،
ثم قُدِّمَتِ اللامُ « فجُعِل ما كان اسماً ل » كان « وهو » أن تموتَ « خبراً لها
، وما كان خبراً وهو » لنفسٍ « اسماً لها . فهذه خمسةُ أقوالٍ ، أظهرُها الأول .
أمَّا قولُ أبي البقاء » واللامُ للتبيين فتتعلَّقُ بمحذوفٍ « ففيه نظرٌ من وجهين
، أحدُهما : أنَّ » كان « الناقصةَ لا تعمل في غيرِ اسمِها وخبرِها ، ولئِنْ
سُلِّم ذلك فاللامُ التي للتبيين إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وقد نَصُّوا على ذلك في
نحوِ : » سُقياً لك « .
وأمَّا مَنْ جَعَل » لنفسٍ « متعلقةً بمحذوفٍ تقديرُه : » الموتُ لنفسٍ « ففاسِدٌ
لأنه ادَّعى حَذْفَ شيءٍ لا يجوزُ ، لأنه إنْ جَعَل » كان « تامةً أو ناقصةً امتنع
حَذْفُ مرفوعِها لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ ، وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ المصدر
وإبقاءَ معمولِه وهو لا يجوزُ . وكذلك قولُ مَنْ جَعَلَ » كان « زائدةً . وأمَّا
قولُ الزجاجِ فإنَّه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ فتعودُ الأقوالُ أربعةً/ .
قوله : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مصدرٌ
مؤكِّد لمضمونِ الجملة التي قبلَه ، فعاملُه مضمرٌ تقديرُه : » كَتَب الله ذلك
كتاباً « ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] { وَعْدَ الله } [ النساء : 122
] ، و { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . والثاني : أنه منصوبٌ على
التمييزِ . ذكره ابنُ عطية ، وهذا غيرُ مستقيمٍ؛ لأنَّ التمييزَ منقولٌ وغيرُ
منقولٍ ، وأقسامُه محصورةٌ وليس هذا شيئاً منها . وأيضاً فأين الذاتُ المبهمةُ
التي تحتاج إلى تفسير . والثالثُ : أنه منصوب على الإِغراءِ ، والتقديرُ : الزَموا
كتاباً مؤجلاً وآمِنوا بالقدر ، وليس المعنى على ذلك .
وقرأ ورش : » مُوَجَّلاً « بالواوِ بدلَ الهمزةِ وهو قياسُ تخفيفِها .
قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ } » مَنْ « مبتدأُ وهي شرطيةٌ . وفي خبرِ هذا
المبتدأِ الخلافُ المشهورُ . وأَدْغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلافٍ
عنه دالَ » يُرِدْ « في الثاء ، والباقون بالإِظهار .
وقرأ
أبو عمرو بالإِسكانِ في هاء « نؤتيه » في الموضعين وَصْلاً ووقفاً ، وقالون وهشام
بخلاف عنه بالاختلاسِ وَصْلاً ، والباقون بالإِشباعِ وصلاً . فامَّا السكونُ
فقالوا : إنَّ الهاء لَمَّا حَلَّتْ مَحَلَّ ذلك المحذوفِ أُعْطيت ما كان
يَسْتَحِقُّه من السكون . وأمَّا الاختلاسُ فلاستصحابِ ما كانَتْ عليه الهاءُ قبلَ
حذفِ لامِ الكلمة ، فإنَّ الأصل : نُؤتيه ، فَحُذِفَتْ الياءُ للجزم ، ولم
يُعْتَدَّ بهذا العارِض فبقيتِ الهاءُ على ما كانت عليه . وأمَّا الإِشباعُ فنظراً
إلى اللفظِ لأنَّ الهاءَ بعد متحرِّكٍ في اللفظِ ، وإنْ كانت في الأصلِ بعد ساكن
وهو الياء التي حُذِفَتْ للجزم . والأَوْلى أَنْ يُقال : إن الاختلاسَ والإِسكانَ
بعد المتحرك لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب ، حكى الكسائي : « لَهْ مالٌ
وبِهْ داءٌ » بسكونِ الهاء ، واختلاسِ حركتها ، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ قولَ مَنْ قال
: « إسكانُ الهاءِ واختلاسُها في هذا النحو لا يجوزُ إلا ضرورةً » ليس بشيءٍ ،
أمَّا غيرُ بني عُقَيْل وبني كلاب فنعم لا يوجد ذلك عندهم إلا في ضرورةٍ كقولِه :
1454 لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حادٍ ... إذا طَلَبَ الوسيقَةَ أو زميرُ
باختلاسِ هاء « كأنه » ، وقول الآخر :
1455 وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها
بسكونِها . وجعل ابنُ عصفور أنَّ الضرورةَ في البيت الثاني أحسنُ منها في الأولِ
قال : « لأنه إذهابٌ للحركةِ وصلتِها فهي جَرْيٌ على الضرورةِ إجراءً كاملاً »
وإنما ذَكَرْتُ هذه التعليلاتِ لكثرة ورودِ هذه المسألة نحو { يَرْضَهُ لَكُمْ } [
الزمر : 7 ] و { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وقُرىء : « يُؤْتِه »
بياء الغائب ، والضميرُ لله تعالى ، وكذلك : { وَسَيَجْزِي الشاكرين } بالنون
والياء .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
قوله
تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ } : هذه اللفظةُ قيل : مركبةٌ من كافِ التشبيه
ومن « أيٍّ » ، وحَدَثَ فيه بعد التركيب معنى التكثيرِ المفهومُ من « كم » الخبرية
، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التكثير : « كذا » في قولِهم : « له عندي كذا كذا
درهماً » والأصلُ : كاف التشبيه و « ذا » الذي هو اسمُ إشارةٍ ، فلمَّا رُكِّبا
حَدَثَ فيهما معنى التكثير ، وكم الخبريةُ و « كأيِّن » و « كذا » كلُّها بمعنى
واحد ، وقد عَهِدْنا في التركيب إحداثَ معنى أخرَ ، ألا تَرَى أنَّ « لولا »
حَدَثَ لها معنىً جديد . وكأيِّن مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير
نونٍ ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً ، إلا أنَّ الصحابة كتبتها : « كأيِّن »
بثبوتِ النونِ ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراء بالنون إتباعاً لرسم
المصحف . ووقف أبو عمرو وسَوْرة بن مبارك عن الكسائي عليها : « كأي » من غير نونٍ
على القياس . واعتلَّ الفارسي لوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّل بها ، منها : أنَّ
الكلمة لَمَّا رُكِّبت خَرَجَتْ عن نظائِرها ، فَجُعِل التنوينُ كأنه حرفُ أصلي من
بنية الكلمة . وفيها لغاتٌ خمس . أحدها : كَأَيِّنْ « وهي الأصل ، وبها قرأ
الجماعة إلاَّ ابنَ كثير . وقال الشاعر :
1456 كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ ... أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُ
والثانية : » كائِنْ « بزنةِ » كاعِنْ « وبها قرأ ابن كثير وجماعةٌ ، وهي أكثرُ
استعمالاً من » كَأَيِّن « وإنْ كانت تلك الأصلَ . قال الشاعر :
1457 وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ ... يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا
وقال :
1458 وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
واختلفوا في توجيهِ هذه القراءة فنُقل عن المبرد أنها اسم فاعل من : كان يكون فهو
كائن ، واستبعده مكي قال : » لاتيانِ « مِنْ » بعده ولبنائِه على السكون « . وكذلك
أبو البقاء قال : » وهو بعيدُ الصحة ، لأنه لو كان كذلك لكان مُعْرباً ، ولم يكن
فيه معنى التكثير « لا يقال : هذا يُحْمَلُ على المبرد ، فإنَّ هذا لازمٌ لهم
أيضاً ، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً ، لأنَّ التركيبَ عُهِد فيه
مثلُ ذلك كما تقدم في » كذا « و » لولا « ونحوِهما ، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى
معنى ويُبْنى من غير سبب فلم يُوجَدْ له نظير . وقيل : هذه القراءةُ أصلُها »
كأيِّنْ « كقراءة الجماعة إلا أنَّ الكلمةَ دخلها القلبُ فصارَتْ » كائِن « مثل »
جاعِن « .
واختلفوا في تصييرها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنه قُدِّمت الياءُ
المشددة على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهما
الياءُ المشددة ، ثم حُذِفَتِ الياءُ الثانية لثِقَلِها بالحركة والتضعيف كما
قالوا في » أيُّهما « : أيْهُما ، ثم قُلِبت الياءُ الساكنة ألفاً كما قَلَبُوها
في نحو : » آية « والأصل : أَيَّة ، وكما قالوا : طائي ، والأصل : طَيْئِي ، فصارَ
اللفظُ : كائِن كجاعِن كما ترى ، ووزنُه » كَعْفٍ «؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرت إلى
موضعِ اللامِ ، واللامُ قد حُذِفَتْ .
الوجه
الثاني : أنه حُذِفَتِ الياءُ الساكنةُ التي هي عينٌ وقُدِّمَتِ المتحركةُ التي هي
لامٌ ، فتأخَّرتِ الهمزةُ التي هي فاءٌ ، وقُلِبَت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها
وانفتاحِ ما قبلَها فصارَ « كائِن » ووزنُه : كَلْفٍ .
الوجه الثالث : ويُعْزى للخليل أنه قُدِّمَتْ إحدى الياءَين في موضع الهمزةِ
فَحُرِّكت بحركة الهمزة وهي الفتحةُ ، وصارَت الهمزةُ ساكنةً في موضعِ الياء ،
فتَحَرَّكتِ الياءُ وانفتح اما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان : الألفُ
المنقبلةُ عن الياءِ والهمزةُ بعدها ساكنةٌ ، فكُسِرت الهمزةُ على أصل التقاءِ
الساكنين ، وبقيت إحدى الياءين متطرفةً فأذهبها التنوينُ بعد سَلْبِ حركتِها كياءِ
قاضٍ وغازٍ .
الوجه الرابع : أنه قُدِّمَتِ الياءُ المتحركةُ فانقلبت ألفاً ، وبقيت الأخرى
ساكنةً فحذفها التنوينُ مثل قاضٍ ، ووزنُه على هذين الوجهين أيضاً كَلْفٍ لِما
تقدَّم مِنْ حَذْفِ العينِ وتأخيرِ الفاء ، وإنما الأعمالُ تختلف .
اللغة الثالثة : « كَأْيِن » بياء خفيفةٍ بعد الهمزة على مثالِ : كَعْيِن ، وبها
قرأ ابن محيصن والأشهب العقيلي ، ووجْهُها أنَّ الأصلَ : كَأَيِّن كقراءة الجماعة
: فَحُذِفَتْ الياء الثانيةٌ استثقالاً فالتقى ساكنان : الياءُ والتنوينُ ،
فكُسِرت الياءُ لالتقاءِ الساكنين ثم سَكَنَتِ الهمزةُ تخفيفاً لثقلِ الكلمةِ
بالتركيبِ فصارَتْ كالكلمةِ الواحدةِ كما سَكَّنوا : « فهو » و « فهي » .
اللغة الرابعة : « كَيْئِن » بياء ساكنةٍ بعدَها همزةٌ مكسورةٌ ، وهذه مقلوبُ
القراءةِ التي قبلَها ، وقرأ بها بعضُهم .
واللغةُ الخامسةُ : « كَئِنْ » على مثال كَعٍ ، ونَقَلها الداني قراءةً عن ابن
محيصن أيضاً . وقال الشاعر :
1459 كَئِنْ مِنْ صديقٍ خِلْتُه صادقَ الإِخا ... أبانَ اختباري أنَّه لي مُداهِنُ
وفيها وجهان أحدُهما : أنه حَذَفَ الياءَيْن دفعةً واحدةً لامتزاجِ الكلمتين
بالتركيبِ ، والثاني : أنه حَذَفَ إحدى الياءَيْن على ما تقدَّم تقريرُه ، ثم
حَذَف الأخرى لالتقائِها ساكنةً مع التنوينِ ، ووزنُه على هذا : « كَفٍ » لِحَذْفِ
العينِ واللامِ منه . /
واختلفوا في « أيٍّ » : هل هي مصدرٌ في الأصل أم لا؟ فذهب جماعةٌ إلى أنها ليسَتْ
مصدراً وهو ظاهرُ قولِ أبي البقاء فإنه قال : « وكأيِّن الأصلُ فيه : » أي « التي
هي بعض من كل ، أُدْخِلَتْ عليها كافُ التشبيه » وفي عبارتهِ عن « أي » بأنها بعض
من كلٍّ نظرٌ ، لأنها ليست بمعنى بعض من كل ، نعم إذا أُضيفت إلى معرفةٍ فحكمُها
حكمُ « بعض » في مطابقةِ الخبرِ وَعُودِ الضميرِ نحو : أيُّ الرجلين قام؟ ولا تقول
: « قاما » ، وليست هي التي « بعض » أصلاً .
وذهب ابن جني أنها في الأصل مصدر « أَوَى يَأْوي » إذا انضمَّ واجتمع ، والأصلُ :
أَوْيٌ نحو : طَوَى يَطْوي طَيَّاً ، الأصلُ : طَوْي ، فاجتمعت الياءُ والواو
وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَت الواوُ ياءً وأُدْمت في الياء ، وكأنَّ ابن
جني ينظر إلى معنى المادة من الاجتماعِ الذي يدل عليه « أيّ » فإنها للعمومِ ،
والعمومُ يستلزمُ الاجتماع .
وهل
هذه الكافُ الداخلةُ على « أي » تتعلَّق بشيء كغيرها من حروف الجرِّ أم لا؟
والصحيحُ أنها لا تتعلَّقُ بشيء أصلاً لأنَّها مع « أي » صارتا بمنزلةِ كلمةٍ
واحدةٍ وهي « كم » ، فلم تتعلَّقْ بشيءٍ؛ ولذلك هُجِر معناها الأصلي وهو التشبيه .
وزعم الحوفي أنها تتعلَّق بعاملٍ ، ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لتقفَ عليه فإنه
كلام غريب . قال : أما العاملُ في الكاف فإن جَعَلْنَاها على حكمِ الأصل فمحمولُ
على المعنى ، والمعنى : أصابَتْكم كإصابةِ مَنْ تقدَّم مِن الأنبياء وأصحابِهم ،
وإنْ حَمَلْنا الحكمَ على الانتقالِ إلى معنى « كم » كان العاملُ بتقديرِ الابتداء
وكانت في موضعِ رفع ، و « قُتِل » الخبر ، و « مِنْ » متعلقة بمعنى الاستقرار ،
والتقدير الأول أَوضحُ لحَمْل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في «
أي » وإذا كانَتْ « أي » على بابها من معاملة اللفظِ ف « مِنْ » متعلقةٌ بما
تعلَّقت به الكافُ من المعنى المدلولِ عليه « . انتهى .
واختار الشيخ أَنَّ » كأيِّنْ « كلمةٌ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ وأنَّ آخرَها نون هي من
نفس الكلمة لا تنوينٌ ، لأنَّ هذه الدَّعاوي المتقدمة لا يقومُ عليها دليل ،
والشيخُ سَلَكَ في ذلك الطريقَ الأسهلَ ، والنحويون ذَكَروا هذه الأشياءَ محافظةً
على أصولِهم ، مع ما ينضَمُّ إلى ذلك مِنَ الفوائِدِ وتشحيذِ الذهن وتمرينِه . هذا
ما يتعلَّق ب » كأيِّن « من حيث الإِفرادُ .
أمَّا ما يتعلق بها من حيث التركيب فموضعُها رفعٌ بالابتداء وفي خبرِها أربعةُ
أوجه ، أحدُها : أنه » قُتِل « فإنَّ فيه ضميراً مرفوعاً به يعودَ على المبتدأ
والتقدير : كثيرٌ من الأنبياء قتل . قال أبو البقاء : » والجيدُ أَنْ يعودَ
الضميرُ على لفظِ « كأيِّنْ » كما تقولُ : « مئة نبي قُتِل » فالضميرُ للمئة ، إذ
هي المبتدأ . فإنْ قلت : لو كان كذلك لأنَّثْتَ فقلت : « قُتِلَتْ . قيل : هذا
محمولٌ على المعنى ، لأنَّ التقديرَ : كثير من الرجال قُتِل . انتهى » كأنه يعني
بغير الجيد عَوْدَه على لفظ « نبي » ، فعلى هذا يكون « معه ربِّيُّون » جملةً في
محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « قُتِل » [ وهو أَوْلَى لأنه من قبيلِ
المفردات ، وأصلُ الحالِ والخبرِ والصفة أن تكونَ مفردةً ] . ويجوزُ أَنْ يكونَ «
معه » وحده هو الحالَ و « رِبِّيُّون » فاعلٌ به ، ولا يَحْتاج هنا إلى واوِ الحال
لأنَّ الضمير هو الرابطُ ، أعني الضمير في « معه » ، ويجوز أن يكونَ حالاً من «
نبي » وإن كان نكرة لتخصيصه بالصفةِ حينئذ ، ذكره مكي ، وعَمِل الظرفُ هنا
لاعتمادِه على ذي الحال .
قال
الشيخ : « هي حكايةُ حالٍ ماضيةٍ فلذلك ارتفع » ربِّيُّون « بالظرف وإن كان
العاملُ ماضياً لأنه حكى الحال الماضية كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ
ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وهذا على رأي البصريين ، وأما الكسائي فيُعْمِل اسمَ
الفاعلِ العاري من أل مطلقاً » . وفيه نظرٌ لأنَّا لا نسلِّم أنَّ الظرفَ يتعلق
باسم فاعل حتى يَلزمَ عليه ما قال من تأويله اسمَ الفاعل بحال ماضية ، بل نَدَّعي
تعلقَه بفعل تقديره : استقر معه ربيون .
الوجه الثاني : أن يكون « قُتِل » جملةً في محل جر صفةً ل « نبي » و « معه ربيون »
هو الخبر ، ولك الوجهان المتقدمان في جعله حالاً ، أعني إن شئت أن تجعل « معه »
خبراً مقدماً و « ربيون » مبتدأً مؤخراً ، والجملةُ خبر « كأين » ، وإن شئت أن
تجعلَ « معه » وحدَه هو الخبرَ ، و « ربيون » فاعلٌ به ، لاعتمادِ الظرف على ذي
خبر .
الوجه الثالث : أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديره : « في الدنيا » أو « مضى » او «
صائر » ونحوه ، وعلى هذا فقولُه : « قتل » في محلِّ جر صفة ل « نبي » ، و « معه
ربيون » حال من الضمير في « قتل » على ما تقدم تقريره ، ويجوز أن يكون « معه ربيون
» صفةً ثانية ل « نبي » وُصِفَ بصفتين : بكونه « قتل » وبكونه « معه ربيون » .
الوجه الرابع : أن يكون « قُتِل » فارغاً من الضمير مسنداً إلى « ربيون » ، وفي
هذه الجملة حينئذ احتمالان ، أَحدُهما : أن تكونَ خبراً ل « كائن » ، والثاني : أن
تكونَ في محلِّ جر صفة ل « نبي » ، والخبر محذوف على ما تقدَّم ، وادِّعاءُ حذفِ
الخبرِ ضعيفٌ لاستقلال الكلام بدونه . وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أَنْ يكونَ »
قُتِل « صفة لربيين ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة » نبي « ويجوز أن تكون
خبراً ، فيصير في الخبر أربعةُ أوجه ، ويجوزُ أن تكونَ صفة ل » نبي « والخبرُ
محذوفٌ على ما ذكرنا » . أَمَّا قولُه « صفة ل » ربيين « يعني أن القتل من صفتهم
في المعنى . وقوله : » فيصير فيه أربعة أوجه « يعني مع ما تقدَّم له من أوجهٍ
ذكرَها . وقولُه : فلا ضميرَ فيه على هذا ، والجملةُ صفةُ نبي » غلطٌ لأنَّه يبقى
المبتدأ بلا خبرٍ .
فإنْ
قلت : إنَّما يزعم هذا لأنهُ يُقَدِّر خبراً محذوفاً . قلت : قد ذَكَر هذا وجهاً
آخرَ حيث قال : « ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل » نبي « والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا »
.
ورَجَّح كونَ « قُتِل » مسنداً إلى ضميرِ النبي أنَّ القصةَ بسبب غزوة أحد وتجادل
المؤمنين حين قيل : إنَّ محمداً قد مات مقتولاً ، ويؤيِّدهُ قولُه : { أَفإِنْ
مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وإليه ذهب ابن عباسِ والطبري وجماعةٌ ،
وعن ابن عباس في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161
] : « النبي يُقْتل فكيف لا يُخان . وذهب الحسن وابن جبير وجماعة إلى أنَّ
القَتْلَ للربّيّين قالوا : لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حربٍ قط . ونَصَر الزمخشري
هذا بقراءة » قُتِّل « بالتشديد ، يعني أن التكثير لا يتأتَّى في الواحد وهو النبي
. وهذا الذي ذَكَره الزمخشري سَبَقَهُ إليه ابن جني ، وسيأتي تأويل هذا .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : » قُتِل « مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك إلا أنه
شدَّد التاء ، وباقي السبعة : » قاتَل « ، وكلٌّ مِنْ هذه الأفعال يَصْلُح أَنْ
يرفعَ ضمير » نبي « وأن يرفعَ ربِّيِّين على ما تقدَّم تفصيلُه . وقال ابن جني : »
إنَّ قراءة « قُتِّل » بالتشديد يتعيَّن أن يُسْنَدَ الفعل فيها إلى الظاهر ، أعني
ربيين . قال : « لأنَّ الواحدَ لا تكثيرَ فيه » . قال أبو البقاء : « ولا يمتنعُ
أنْ يكونَ فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة » انتهى . يعني أنَّ « من نبي »
المرادُ به الجنسُ فالتكثيرُ بالنسبة لكثرةِ الأشخاصِ لا بالنسبةِ إلى كلِّ فردٍ
فردٍ ، إذ القتلُ لا يتكثَّر في كلِّ فرد . وهذا الجوابُ الذي أجابَ به أبو البقاء
استشعر به أبو الفتح وأجابَ عنه . قال : « فإِنْ قيل : يُسْنَدُ إلى » نبي «
مراعاةً لمعنى » كم « فالجوابُ : أنَّ اللفظَ قد فَشَا على جهةِ الإِفرادِ في قوله
: { مِّن نَّبِيٍّ } ، ودلَّ الضميرُ المفردُ في » معه « على أن المرادَ إنما هو
التمثيلُ بواحدٍ ، فخرج الكلامُ عن معنَى » كم « . قال : » وهذه القراءةُ تُقَوِّي
قولَ مَنْ قال : إنَّ « قُتِل » و « قاتَل » يُسْندان إلى الربِّيِّين .
قال الشيخ : « وليس بظاهر لأنَّ » كأين « مثلُ » كم « ، وأنت إذا قلت : » كم مِنْ
عانٍ فككتُه « [ فأفرَدْتَ ] راعَيْت لفظَها ، ومعناها جَمعٌ ، فإذا قلت : »
فَكَكْتُهم « راعيتَ المعنى ، فلا فرق بين » قُتل معه ربيون « و » قُتِل معهم
رِبِّيُّون « ، وإنما جاز مراعاةُ اللفظِ تارةً والمعنى أخرى في » كم « و » كأين «
لأنَّ معناهما » جَمْعٌ « ، و » جَمْعٌ « يجوزُ فيه ذلك ، قال تعالى :
{
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر }
[ القمر : 44-45 ] فراعى اللفظَ في قولِه « منتصِرٌ » والمعنى في قوله : «
يُوَلُّون » .
ورجَّح بعضُهم قراءةَ « قاتل » لقوله بعد ذلك : { فَمَا وَهَنُواْ } قال : « وإذا
قُتِلوا فكيف يُوصفون بذلك؟ إنما يُوصف بهذا الأحياءُ ، والجوابُ : أنَّ معناه »
قُتِل بعضُهم « ، كما تقول : » قُتل بنو فلان في وقعة كذا ثم انتصروا « . وقال ابن
عطية : » قراءةُ مَنْ قرأ « قاتل » أعمُّ في المدح ، لأنه يدخُل فيها مَنْ قُتِل
ومَنْ بقي ، ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ إسنادُ الفعلِ إلى الربِّيِّين ، وعلى
قراءة « قُتِل » إسنادُه إلى « نبي » . قال الشيخ : « بل » قُتِل « أمدحُ/ وأبلغُ
في مقصودِ الخطاب ، فإنَّ » قُتِل « يستلزم المقاتلة من غير عكس » .
وقوله : { مِّن نَّبِيٍّ } تمييز ل « كأيِّن » لأنها مثل « كم » الخبرية . وزعم بعضُهم
أنه يلزمُ جَرُّه ب « مِن » ، ولهذا لم يَجِيءْ في التنزيل إلا كذا ، وهذا هو
الأكثرُ الغالِبُ كما قال ، وقد جاء تمييزها منصوباً قال :
1460 اطرُدِ اليأسَ بالرجاء فكائِنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وقال آخر :
1461 وكائِنْ لنا فَضْلاً عليكم ورحمةً ... قديماً ولا تَدْرُون ما مَنُّ مُنْعِمِ
وأمَّا جرُّه فممتنع لأنَّ آخرَها تنوينٌ وهو لا يَثْبُتُ مع الإِضافةِ .
والربيُّون : جمعُ « رِبِّي » وهو العالمُ منسوبٌ إلى الرَّبِّ ، وإنما كُسرت راؤه
تغييراً في النسب نحو : « إمْسِيّ » بالكسرِ منسوبٌ إلى « أَمْس » . وقيل : كُسِر
للإِتباع ، وقيل : لا تغييرَ فيه وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ . وهذه
القراءةُ بكسرِ الراء قراءة الجمهور ، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس والحسن : «
رُبِّيُّون » بضمِّ الراء ، وهو من تغيير النسب إنْ قلنا هو منسوبٌ إلى الرَّبِّ ،
وقيل : لا تغييرَ وهو منسوب إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ ، وفيها لغتانِ : الكسر
والضم ، وقرأ ابن عباس في رواية قتادة : « رَبِّيُّون » بفتحِها على الأصل ، إنْ
قلنا : منسوبٌ إلى الرَّبِّ ، وإلاَّ فَمِنْ تغييرِ النسب إنْ قلنا : إنَّه منسوبٌ
إلى الرُّبَّة . قال ابن جني : « والفتحُ لغة تميم » . وقال النقاش : هم
المُكْثِرون العلمَ من قولهم : « رَبا يربُو » إذا كَثُر « . وهذا سَهْوٌ منه
لاختلافِ المادتين ، لأنَّ تَيْكَ من راء وباء وواو ، وهذه من راء وباء مكررةٍ . و
» كثيرٌ « صفة ل » ربّيّون « وإنْ كان بلفظِ الإِفراد لأنَّ معناه جمعٌ .
قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } الضميرُ في » وَهَنوا « يعودُ على الرِّبِّيين بجملتهم
إنْ كان » قُتِل « مسنداً إلى ضمير النبي ، وكذا في قراءة » قاتل « سواء كان
مسنداً إلى ضمير النبي أو إلى الربِّيِّين ، وإنْ كان مسنداً إلى الربيين فالضميرُ
يعودُ على بعضِهم ، وقد تقدَّم ذلك عند الكلام في ترجيح قراءة » قاتل « .
والجمهورُ
على « وَهَنوا » بفتحِ الهاء ، والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرِها ، وهما لغتان :
وَهَن يَهِنُ ، كوعَد يَعِدُ ، ووَهِنَ يَوْهَن كوَجِل يَوْجَل ، ورُوِي عن أبي
السَّمَّال أيضاً وعكرمة : « وَهْنوا » بكسونِ الهاء ، وهو من تخفيفِ فَعِل لأنه
حرفُ حلق نحو : نَعْم وشَهْد في : نَعِم وشَهِد .
و « لَمَّا » متعلِّقٌ ب « وَهَنوا » ، و « وما » يجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً
اسميةً أو مصدريةً أو نكرةً موصوفةً . والجمهورُ قرؤوا : « ضَعُفوا » بضمِّ العَيْن
، وقُرىء : « ضَعَفوا » بفتحها ، وحكاها الكسائي لغةً .
وقوله : { وَمَا استكانوا } فيه ثلاثةُ أقوالٍ : أحدُها : أنه استَفعل من الكونِ ،
والكونُ : الذُّلُّ ، وأصلُه : اسْتَكْوَن ، فَنُقِلَتْ حركةُ الواو على الكاف ،
ثم قُلِبَتِ الواوُ ألفاً . وقال الأزهري وأبو عليّ : « هو من قول العرب : » بات
فلان بِكَيْنَةِ سوءٍ « على وزِن » جَفْنة « أي : بحالةِ سوءٍ » فألفُه على هذا من
ياءِ ، والأصلُ : اسْتَكْيَنَ ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها .
الثالث : قال الفراء : « وزنُه افْتَعَل من السكون ، وإنما أُشْبعت الفتحةُ فتولدُ
منها ألفٌ كقوله :
1462 أعوذُ باللهِ من العَقْرابِ ... الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ
يريد : العَقْرَب الشائلةَ » . ورُدَّ على الفراء بأنَّ هذه الألفَ ثابتةٌ في جميع
تصاريفِ الكلمةِ نحو : استكانَ يَسْتكين فهو مُسْتَكِين ومُسْتَكان إليه استكانةً
، وبأنَّ الإِشباعَ لا يكونُ إلا في ضرورةٍ . وكلاهما لا يَلْزَمُه : أمَّا
الإِشباعُ فواقعٌ في القراءاتِ السبعِ كما سيمرُّ بك ، وأمَّا ثبوتُ الألفِ في
تصاريف الكلمةِ فلا يَدُلُّ أيضاً؛ لأنَّ الزائد قد يلزَمُ ألا ترى أنَّ الميمَ في
تَمَنْدل وتَمَدْرَعَ زائدةٌ ، ومع ذلك هي ثابتةٌ في جميعِ تصاريفِ الكلمة قالوا :
تَمَنْدل يَتَمَنْدَلُ تَمَنْدُلاً فهو مُتَمَنْدِلٌ ومُتَمَنْدَلٌ به ، وكذا
تَمَدْرَع ، وهما من النَّدْل والدِّرْع . وعبارةُ أبي البقاء أحسنُ في الردِّ
فإنه قال : « لأنَّ الكلمة في جميعِ تصاريفِها ثبتَتْ عينُها والإِشباعُ لا يكونُ
على هذا الحدِّ » .
ولم يَذْكُر متعلِّقَ الاستكانة والضعف فلم يَقُل « فما ضَعُفُوا عن كذا ، وما
استكانوا لكذا » للعمل به أو للاقتصارِ على الفعلين نحو : { كُلُواْ واشربوا } [
البقرة : 60 ] لِيَعُمَّ ما يَصْلُحُ لهما .
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
قوله
تعالى : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } : الجمهورُ على نصبِ « قولَهم » خبراً مقدماً
، والاسمُ هو « أَنْ » وما في حَيِّزها تقديرُه : وما كان قولَهم إلا قولُهم هذا
الدعاءَ ، أي : هو دَأْبُهم ودَيْدَنُهم . وقرأ ابن كثير وعاصم في روايةٍ عنهما
برفع « قولُهم » على أنه اسم ، والخبر « أَنْ » وما في حَيِّزها . وقراءةُ الجمهور
أَوْلى؛ لأنه إذا اجتمعَ معرفتان فالأَوْلى أن يُجْعَل الأعرفُ اسماً ، و « أن »
وما في حَيِّزها أعرفُ ، قالوا : لأنها تُشْبِهُ المُضْمَرَ مِنْ حيثُ إنها لا
تُضْمَرُ ولا تُوصَفُ ولا يُوصف بها ، و « قولهم » مضافٌ لمضمرٍ فهو في رتبة
العَلَم فهو أقلُّ تعريفاً .
ورَجَّح أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين ، أحدهما هذا ، والآخر : أنَّ ما بعد «
إلاَّ » مُثْبَتٌ ، والمعنى : كان قولُهم : ربنا اغفر لنا دَأْبَهم في الدعاء وهو
حسن ، والمعنى : وما كان قولُهم شيئاً من الأقوال إلا هذا القولَ الخاص .
و { في أَمْرِنَا } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بالمصدر قبله يقال :
أَسْرَفْت في كذا . والثاني : أنه يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال منه أي : حالَ
كونِه مستقراً في أمرنا ، والأولُ أَوْجَهُ .
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
وقرأ الجحدري : { فأثابهم } : من لفظِ الثواب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
وقوله تعالى : { يَرُدُّوكُمْ } : جوابُ { إِن تُطِيعُواْ } . و { خَاسِرِينَ } حال .
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
قوله تعالى : { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ } : مبتدأ وخبر ، وقرأ الحسن : « اللهَ » بنصب الجلالة على إضمار فعل يَدُلُّ عليه الشرط الأول ، والتقدير : « لا تُطيعوا الذين كفروا بل أطيعوا الله » . و { مَوْلاَكُمْ } صفته . قال مكي : « وأجاز الفراء : بل اللهَ بالنصب » كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
قوله
تعالى : { سَنُلْقِي } : الجمهورُ بنون العظمة وهو التفات من الغيبة في قوله : {
وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } ، وذلك لتنبيه على عِظَم ما يُلقيه تعالى . وقرأ أيوب
السختياني : « سيُلقي » بالغيبة جَرْياً على الأصل . وقُدِّم المجرورُ على المفعول
به اهتماماً بذكر المحلِّ قبل ذِكْرِ الحالِّ . والإِلقاء هنا مجاز لأن أصله في
الأجرام ، فاستعير هنا كقوله :
1463 هما نَفَثا في فِيِّ مِنْ فَمَوَيْهِما ... على النابحِ العاوي أشدُّ رِجامِ
وقرأ ابن عامر والكسائي : « الرُّعُب » و « رُعُباً » بالضم ، والباقون بالإِسكان
. فقيل : لغتان ، وقيل : الأصلُ الضمُّ وخُفِّف ، وهذا قياسٌ مُطَّرد ، وقيل :
الأصلُ السكونُ ، وضُمَّ إتباعاً كالصُّبْح والصُّبُح ، وهذا عكسُ المعهودِ من
لغةِ العرب .
[ والرعبُ : الخَوْفُ . يقال : رَعَبْتُه فهو مَرْعُوب ، وأصلُه من الامتلاء ،
يقال : رَعَبْتُ الحوض أي : ملأتُه ، وسيل راعِب ، أي : ملأ الوادي . والسلطان :
الحُجَّة والبرهان ، واشتقاقُه : إمَّا مِنْ سَلِيط السِّراج الذي يُوقَدُ به . .
. . . . ، لإِنارتِه ووضوحه ، وإمَّا من السَّلاطة وهي الحِدَّةُ والقَهْر ] .
و { فِي قُلُوبِ } متعلِّقٌ بالإِلقاءِ . وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ، ولا
يَضُرُّ تعلُّق الحرفين لاختلافِ معناهما ، فإنَّ « في » للظرفية والباءَ للسببية
. و « ما » مصدريةٌ . و « ما » الثانيةٌ مفعولٌ به ل « أشْركوا » ، وهي موصولةٌ
بمعنى الذي ، أو نكرةٌ موصوفة . والراجعُ الهاءُ في « به » ، ولا يجوز أن تكونَ
مصدريةً عند الجمهور لعَوْد الضمير عليها . وتَسَلَّط النفيُ على الإِنزال لفظاً
والمقصودُ نفيُ السلطان ، أي : الحُجَّة ، كأنه قيل : لا سلطانَ على الإِشراكِ
فَيُنَزَّلَ كقوله :
1464 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا تَرَى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي : لا ينجحر الضبُّ بها فيُرى ، وقولِه :
1465 على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
أي : لا منارَ له فيُهْتدى به ، فالمعنى على نفيِ السلطان والإِنزالِ معاً . و «
سلطاناً » مفعول ل « يُنَزِّل » .
وقوله : { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : مثواهم ، أو
النار . والمَثْوى : مَفْعَل من ثَوَيْتُ أي : أَقَمْتُ ، فلامه ياء ، وقُدِّم
المأوى وهو المكان الذي يَأْوي إليه الإِنسان على المَثْوى وهو مكانُ الإِقامةِ ،
لأنه على الترتيبِ الوجودي يأوي ثم يَثْوي ، ولا يلزم من المأوى الإِقامةُ ،
بخلافِ عَكْسِه .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قوله
تعالى : { صَدَقَكُمُ } : « صَدَقَ » يتعدَّى لاثنين ، أحدهما بنفسِه والآخرُ
بالحرفِ ، وقد يُحْذَفُ كهذهِ الآيةِ ، والتقدير : صَدَقَكم في وعدِه كقولهم : «
صدقتُه الحديث » ، و « في الحديث » . و « إذ تَحُسُّونهم » معمولٌ ل « صَدَقَكم »
أي : صَدَقَكم في ذلك الوقت ، وهو وقتُ حَسِّهم أي قَتْلِهم . وأجاز أبو البقاء أن
يكون معمولاً للوعد في قوله : « وعدَه » ، وفيه نظرٌ لأنَّ الوعدَ متقدم على هذا
الوقت . يقال : « حَسَسْتُه أَحُسُّه » أي : قتلتُه . وقرأ أبو عبيد : «
تُحِسُّونهم » رباعياً أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل . و « بإذنه » متعلِّقٌ بمحذوفٍ
لأنه حال من فاعل « تُحِسُّونهم » أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك/ .
قوله : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } في « حتى » هذه قولان ، أحدهما : أنها حرف جر
بمعنى « إلى » وفي متعلَّقها حينئذ ثلاثة أوجه : أحدها : أنها متعلقةٌ ب «
تَحُسُّونهم » أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . والثاني : أنها متعلقةٌ ب « صدقكم »
، وهو ظاهرُ قول الزمخشري قال : « ويجوز أن يكونَ المعنى : صَدَقَكم اللهُ وعدَه
إلى وقت فشلكم » . والثالث : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه السياق ، قال أبو
البقاء : « تقديره : دامَ لكم ذلك إلى وقتِ فشلكم » .
القول الثاني : أنها حرفُ ابتداءٍ داخلةٌ على الجملة الشرطية ، و « إذا » على
بابها من كونها شرطية ، وفي جوابها حينئذ ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه « وتنازعتم »
قال الفراء : « وتكونُ الواوُ زائدةً » . والثاني : أنه « ثُمَّ صَرَفَكُم » و «
ثُمَّ » زائدةٌ ، وهذا القولان ضعيفان جداً . والثالث وهو الصحيح : أنه محذوفٌ ،
واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدَّره ابن عطية : « انهزمتم » ، وقَدَّره الزمخشري
: « مَنَعَكم نَصْرَه » ، وقَدَّره أبو البقاء : « بان لكم أمرُكم » ، ودل على ذلك
قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } ،
وقَدَّره غيره : « امتُحِنْتُم » ، وقَدَّره الشيخ : « انقسمتم إلى قسمين ،
وَيَدُلُّ عليه ما بعده ، وهو نظير : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ
مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] . قال الشيخ : » لا يُقال كيف يقال : انقسمتم إلى
مريدِ الدنيا وإلى مريد الآخرة فيمَنْ فَشِل وتنازع وعصى؛ لأنَّ هذه : الأفعالَ لم
تصدُرْ من كلِّهم بل من بعضِهم « .
واختلفوا في » إذا « هذه ، هل هي على بابها أم بمعنى » إذ «؟ والصحيح الأول سواءً
قلنا إنها شرطيةً أم لا .
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } عطفٌ على ما قبله ، والجملتان من قوله : { مِنكُم
مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } اعتراضٌ بين المتعاطفين .
وقال أبو البقاء : » ثم صرفكم « معطوفٌ على الفعل المحذوف » يعني الذي قَدَّره
جواباً للشرط ، ولا حاجة إليه . « وليبتليَكم » متعلِّقٌ ب « صرفكم » و « أََنْ »
مضمرةٌ بعد اللام .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
قوله
تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ } : العاملُ في « إذ » قيل : مضمر أي : اذكروا . وقال
الزمخشري : « صَرَفَكم إذ ليبتلِيَكم » . وقال أبو البقاء : « ويجوز أن تكونَ
ظرفاً ل » عَصَيْتُم « أو » تنازَعْتم « أو فَشِلتم » . وقيل : « هو ظرفٌ ل » عفَا
عنكم « . وكلُّ هذه الوجوهِ سائغةٌ ، وكونُه ظرفاً ل » صرفكم « جيدٌ من جهة المعنى
، ول » عفا « جيدٌ من جهة القرب . وعلى بعض الأقوال تكونُ المسألة من باب التنازع
، وتكون على إعمالِ الأخير منها لعدم الإِضمار في الأول ، ويكون التنازُع في أكثر
من عاملين .
والجمهور على » تُصْعدون « بضم التاء وكسر العين من أصْعد في الأرض إذا ذهب فيها ،
والهمزة فيه للدخول نحو : » أصْبح زيدٌ « أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ
تَدْخُلون في الصُّعود ، ويبيِّن ذلك قراءةُ أُبيّ : » تُصْعِدون في الوادي « .
والحسن والسلمي : » تَصْعَدون « من صَعِد في الجبل أي رَقِي ، والجمع بين
القراءتين : أنهم أولاً أَصْعَدوا في الوادي ، ثم لَمَّا حَزَبهم العدوُّ صَعِدوا
في الجبل ، وهذا على رأي مَنْ يفرِّقُ بين : أَصْعَدَ وصَعِد . وأبو حيوة : »
تَصَعَّدُون « بالتشديد ، وأصلها : تَتصَعَّدون ، فحُذفت إحدى التاءين : إمَّا
تاءُ المضارعة أو تاء تَفَعَّل ، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم .
والجمهور » تُصْعِدون « بتاء الخطاب ، وابن محيصن ويروى عن ابن كثير بياء الغَيْبة
على الالتفات وهو حسن ، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي : والله ذو فضل على
المؤمنين إذ يُصْعِدون ، فالعامل في إذ : » فَضْل « .
يقال : أصعد : أبعد في الذهاب ، قال القتبي : » كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع « قال
الشاعر :
1466 ألا أيُّهذا السائلي أينَ أَصْعَدَتْ ... فإنَّ لَها في أهل يَثْربَ مَوْعدا
وقال آخر :
1467 قد كُنْتِ تبكين على الإِصعادِ ... فاليومَ سُرِّحْتِ وصاح الحادي
وقال الفراء وأبو حاتم : » الإِصعادُ : ابتداء السفر والمخرج ، والصعود مصدر صَعِد
[ إذا ] رَقِي من سُفْل إلى علوّ « ففرَّقوا هؤلاء بين صَعِد وأَصْعد . وقال
المفضل : » صَعِد وصَعَّد وأَصْعد بمعنى واحد ، والصعيدُ وجهُ الأرض « .
{ وَلاَ تَلْوُونَ } الجمهورُ على » تلْوون « بواوين . وقُرىء بإبدال الأولى همزة
كراهيةَ اجتماعِ واوين ، وليس بقياس لكونِ الضمَّةِ عارضةً ، والواوُ المضمومةُ
تُبْدَلُ همزةً بشروط تقدَّم ذكرها في البقرة : ألاَّ تكونَ الضمةُ عارضةً كهذه
الكلمة ، وألاَّ تكونَ مزيدة نحو : » تَرَهْوَك « ، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها نحو : »
سُوُر « و » نُوُر « جمعُ سِوار ونُوار لأنه يمكن تسكينها فتقول : سُوْر ونُوْر
فيخِفُّ اللفظ بها ، وألاَّ يُدْغَم فيها نحو : » تَعَوُّد « مصدر تَعَوَّدَ ،
فنحُو » فُوُوج « يَطَّرد إبدالُه لاستكمال الشروط .
ومعنى
لا تَلْوون : لا تَرْجعون ، يقال : « لَوَى به » [ أي ] : ذهب به ، ولَوَى عليه :
عَطَف . قال :
1468 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أخو الجَهْد لا
يَلْوي على مَنْ تَعَذَّرا
وأصل تَلْوون : تَلْوِيُون فأُعِلَّ بحذفِ اللام ، وقد تقدَّم في قوله : {
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } [ آل عمران : 78 ] .
وقرأ الأعمش : ورُوِيَتْ عن عاصم « تُلْوون » بضم التاء . من أَلْوى وهي لغةٌ في «
لَوَى » ففَعَل وأفْعَلَ بمعنىً . وقرأ الحسن : « تَلُون » بواو واحدة ،
وخَرَّجوها على أنه أَبدلَ الواوَ همزةً ، ثم نَقَل حركةَ الهمزةَ على اللام ثم
حَذَف الهمزةَ على القاعدة ، فلم يَبْقَ من الكلمة إلا الفاءُ وهي اللامُ . وقال
ابن عطية : « وحُذِفَتْ إحدى الواوين للساكنين » ، وكان قد قَدَّم أن هذه القراءةَ
مركبةٌ على لغة مَنْ يهمزُ الواو وينقل الحركة ، وهذا عجيبٌ بعد أَنْ يجعلَها من
باب نَقْل حركة الهمزة كيف يعود يقول : حُذفت إحدى الواوين؟
ويمكنُ تخريجُ قراءةِ الحسن على وجهين آخرين ، أحدُها : أَنْ يُقالَ :
استُثْقِلَتِ الضمةُ على الواوِ لأنها أختُها ، فكأنه اجتمعَ ثلاثةُ واوات ،
فَنُقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان : الواو التي هي عين الكلمة والواو التي هي
ضمير ، فحُذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أَوْلى .
والثاني : أن يكونَ « تَلُون » مضارَع « ولِيَ كذا » من الوِلاية ، وإنما عُدِّي ب
« على » لأنه ضُمِّن معنى العطف .
وقرأ حميد بن قيس : « على أُحُد » بضمتين ، يريد الجبل ، والمعنى على مَنْ في جبل
أحد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : « والقراءةُ الشهيرة أقوى
لأنه لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرَّ الناس عنه ، وإصعادُهم إنما كان وهو
يَدْعوهم » .
قوله : { والرسول يَدْعُوكُمْ } مبتدأٌ وخبر في محلِّ نصب على الحال ، العامل فيها
: « تَلْوُون » .
قوله : { فَأَثَابَكُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه معطوفٌ على « تُصْعِدون » و «
تَلْوون » ، ولا يَضُرُّكونُهما مضارعين ، لأنهما ماضيان في المعنى ، لأنَّ « إذ »
المضافة إليهما صَيِّرتهما ماضيين ، فكأن المعنى : إذا صَعِدتم وأَلْويتم .
والثاني : أنه معطوفٌ على « صَرَفكم » . قال الزمخشري : « فأثابكم » عطفٌ على «
صَرَفَكم » . وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ . وفي فاعِله قولان ، أحدُهما : أنه الباري
تعالى ، والثاني : أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم . قال الزمخشري : « ويجوز أَنْ
يكونَ الضميرُ في » فأثابكم « للرسولِ ، أي : فآساكم في الاغتمامِ ، وكما غَمَّكم
ما نَزَل به من كسرِ رباعيته غَمَّه ما نَزَل بكم من فَوْتِ الغنيمة .
و » غَمَّاً « مفعولٌ ثانٍ ، و » بغمٍّ « يجوزُ في الباءِ أوجهٌ ، أحدها : أن
تكونَ للسببية ، على معنى أنَّ متعلَّق الغم الأول الصحابة ، ومتعلَّق الغمِّ
الثاني قَتْلُ المشركين يوم بدر ، والمعنى : فأثابكم غَمَّاً بالغمِّ الذي أَوْقعه
على أيديكم بالكفار يوم بدر .
وقيل
: « متعلَّقُ الغمِّ الرسولُ ، والمعنى : أذاقكم الله غَمَّاً بسبب الغَمِّ الذي
أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشَلِكم ، أو فأثابكم الرسولُ ، أي : آساكم
غَمَّاً بسبب غمٍ اغتممتموه لأجله . والثاني : أن تكونَ الباءُ للمصاحبة أي :
غَمَّاً مصاحباً لغَمٍّ ، ويكون الغَمَّان للصحابة ، فالغَمُّ الأول الهزيمة
والقتل . والثاني : إشرافُ خالد بخيل الكفار ، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام ،
فعلى الأول تتعلَّق الباء ب » أَثَابكم « . قال أبو البقاء : » وقيل : المعنى بسبب
غَمٍّ ، فيكونُ مفعولاً به « . وعلى الثاني تتعلَّقُ بمحذوفٍ ، لأنه صفةٌ لغَمّ ،
أي : غَمَّاً مصاحِباً لغَمٍّ ، أو مُلْتَبِساً بغَمٍّ . وأجازَ أبو البقاء أن
تكونَ الباءُ بمعنى » بعد « أو بمعنى » بَدَل « ، وجَعَلَها في هذين الوجهين صفةً
ل غَمَّا » ، وكونُها بمعنى « بعد » و « بدل » بعيدٌ ، وكأنه يريد تفسيرَ المعنى ،
وكذا قال الزمخشري : « غَمَّاً بعد غم » .
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ } هل هو حقيقةٌ أو مجاز؟ فقيل : مجاز ، كأنه جَعَلَ
الغَمَّ قائماً مقام الثواب/ الذي كان يحصُل لولا الفِرارُ ، فهو كقوله :
1469 أخافُ زياداً أَنْ يكونَ عَطاؤُه ... أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا
وقوله :
1470 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تحيةُ بيْنِهم ضَرْبٌ
وَجِيعُ
جعل القيودَ والسياطَ بمنزلة العطاء ، والضربَ بمنزلة التحية . وقال الفراء : «
الإِثابَةُ هنا بمعنى المعاقبة ، وهو يَرْجِعُ إلى المجاز » .
قوله : { لِّكَيْلاَ } هذه لامُ « كي » ، وهي لام جر ، والنصبُ هنا ب « كي » لئلا
يلزمَ دخولَ حرفِ جر على مثله . وفي متعلَّق هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : أنه «
فأثابكم » ، وفي « لا » على هذا وجهان ، أحدهما : أنها زائدةٌ ، لأنه لا يترتَّبُ
على الاغتمام انتفاءُ الحزنِ ، والمعنى : أنه غَمَّهم ليُحْزِنَهم عقوبةً لهم على
تركِهم مواقعَهم ، قاله أبو البقاء . الوجه الثاني : أنها ليست زائدةً ، فقال
الزمخشري : « معناه : لكي لا تحزنوا لتتمرَّنوا على تَجَرُّعِ الغُموم ، وتَضْرَوا
باحتمالِ الشدائدِ فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع ، ولا على مصيبٍ في
المضارِّ » وقال ابن عطية : « المعنى : أنَّ ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم
وَرَّطْتُم أنفسَكم ، وعادةُ البشرِ أن يصبرَ للعقوبة إذا جنى ، وإنما يكثُرُ
قَلَقُه إذا ظَنَّ البراءةَ من نفسه .
والثاني : أنَّ اللامَ تتعلَّق ب » عَفا « لأنَّ عَفْوَه أذْهَبَ كلَّ حزنٍ . وفيه
بُعْدٌ من جهةِ طولِ الفصلِ .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
قوله
تعالى : { أَمَنَةً نُّعَاساً } : في نَصْبِ كلٍّ منهما أربعة أوجه ، الأولُ من
وجوه « أَمَنَةً » : أنها مفعولُ « أَنْزَل » . الثاني : أنها حال من « نُعاساً »
لأنها في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّمتْ نُصِبَتْ حالاً . الثالث : أنها مفعولٌ
من أجله ، وهو فاسدٌ لاختلالِ شرطٍ وهو اتحادُ الفاعل ، فإنَّ فاعل « أَنْزل »
غيرُ فاعلِ الأمَنةِ . الرابع ، أنه حالٌ من المخاطبين في « عليكم » ، وفيه حينئذٍ
تأويلان : إمَّا على حَذْفِ مُضافٍ أي : ذوي أمنةٍ ، وإمَّا أن يكونَ « أَمَنَةً »
جمعَ « آمِن » نحو : بار وبَرَرة ، وكافِر وكَفَرة .
وأَمَّا « نُعاساً » فإنْ أَعْربنا « أمنةً » مفعولاً به كان بدلاً ، وهو بدلُ
اشتمال ، لأنَّ كلاًّ مِنْ الأمنةِ والنعاس يشتمل على الآخر ، أو عطفَ بيانٍ عند
غيرِ الجمهور ، فإنهم لا يشترطون جريانَه في المعارف ، أو مفعولاً من أجلِه وهو
فاسدٌ بما تقدَّم ، وإنْ أَعْرَبْنا « أمنةً » حالاً كان مفعولاً ب « أَنْزل »
عطفٌ على قولِه : « فأثابكم » ، وفاعلُه ضميرُ اللهِ تعالى ، وأل في « الغمّ »
للعهدِ ، لتقدُّم ذِكْرِه .
ورَدَّ الشيخ على الزمخشري كونَ « أمنةً » مفعولاً له بما تقدَّم ، وفيه نظرٌ ،
فإنَّ الزمخشري قال : « أو مفعولاً له بمعنى : نَعِسْتُمْ أَمَنَةً » فقدَّر له
عاملاً يتَّحِدُ فاعلُه مع فاعل « أمنةً » فكأنه استشعر السؤالَ ، فلذلك قَدَّر
عاملاً ، على أنه قد يُقال : إنَّ الأمَنة من الله تعالى ، بمعنى أنه أَوْقَعها
بهم ، كأنه قيل : أنزل عليكم النُّعاس ليُؤْمِنَكم به ، و « أمنة » كما تكون
مصدراً لمِنْ وَقَع به الأمن تكونُ مصدراً لِمَنْ أَوْقعه .
وقرأ [ الجمهور : « أَمَنَةً » بفتح الميم : إمَّا مصدراً بمعنى الأمن ، أو جمع «
آمِن » على ما تقدَّم تفصيله . والنخعي وابن محيصن ] بسكون الميم ، وهو مصدرٌ فقط
، وكلاهما للمَرَّة .
قوله : { يغشى } قرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالياء من تحت ،
وخَرَّجوا قراءةَ حمزة والكسائي على أنها صفةُ ل « أمَنَة » مراعاةً لها . ولا
بُدَّ من تفصيلٍ وهو : إنْ أَعْرَبوا « نُعاساً » بدلاً أو عطفَ بيان أَشْكَلَ
قولُهم مِنْ وجهين ، أحدُهما : أنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ
والبدلُ أوعطفُ البيان ، قُدِّمتِ الصفةُ وأُخِّر غيرُها . وهنا قد قَدَّموا
البدلَ أو عطفَ البيانِ عليها . والثاني : أن المعروفَ في لغة العرب أن تُحَدِّث
عن البدل لا عن المبدل منه تقول : « هندٌ حسنُها فاتِنٌ » ولا يجوزُ : « فاتنةٌ »
إلا قليلاً ، فَجَعْلُهم « نُعاساً » بدلاً من « أمنة » يَضْعُفُ بهذا ، فإنْ قيل
: قد جاءَ مراعاةُ المبدلِ منه في قوله :
1471
فكأنه لَهِقُ السَّراةِ كأنه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فقال : « مُعَيَّن » مراعاةً للهاء في « كأنه » ، ولم يراعِ البدلَ وهو « حاجَبْيه
» ومثلُه قولُه :
1472 إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها ... تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْن الأعْضَبِ
فقال : « تَرَكَتْ » مراعاةً للسيوف ، ولو راعَى البدلَ لقال : « تركا » . فالجواب
: أن هذا وإنْ كان قد قال به بعض النحويين مستنداً إلى هذين البيتين مؤولٌ بأنَّ «
مُعَيَّن » خبرٌ عن « حاجبيه » لجريانهما مَجْرى الشيء الواحدِ في كلام العرب ،
وأنَّ نَصْبَ « غدوها ورواحها » على الظرفِ لا على البدل ، وقد تقدَّم لنا شيء من
هذا عند قوله : { عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 102 ]
.
وإنْ أَعربوا « نُعاساً » مفعولاً من أجلِه لَزِم الفصلُ بين الصفة والموصوفِ
بالمفعولِ له ، وكذا إنْ أَعْربوا « نعاساً » مفعولاً به ، و « أَمَنَةً » حالاً
يلزم الفصلُ أيضاً ، وفي جوازه نظرٌ . والأحسنُ حينئذٍ أن تكونَ هذه الجملةُ
استئنافيةً جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : ما حكمُ هذه الأمَنَة؟ فأخبرَ بقوله «
تَغْشى » ، ومَنْ قرأ بالياء أعاد الضمير على « نُعاساً » وتكون الجملةُ صفةً له .
و « منكم » صفة ل « طائفة » فيتعلق بمحذوف .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } في هذه الواو ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها :
أنَّها واوُ الحالِ ، وما بعدها في محلِّ نصب على الحالِ ، والعاملُ فيها « يغشى »
والثاني : أنها واوُ الاستئنافِ ، وهي التي عَبَّر عنها مكي بواوِ الابتداءِ ،
والثالث : أنها بمعنى « إذ » ذكره مكي وأبو البقاء وهو ضعيفٌ . و « طائفةٌ » مبتدأ
، والخبرُ « قد أَهَمَّتْهُمْ أنفسُهم » ، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأحد شيئين :
إمَّا للاعتماد على واوِ الحال ، وقد عَدَّه بعضُهم مُسَوِّغاً ، وإنْ كان الأكثرُ
لم يذكروه ، وأنشد :
1473 سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاءَ فمذْ بدا ... مُحيِّاكِ أَخْفَى ضَوْءُه كلَّ شارِقِ
وإمَّا لأنَّ الموضعَ موضعُ تفصيلٍ ، فإنَّ المعنى : يَغْشى طائفةً ، وطائفةٌ لم
يَغْشَهم ، فهو كقولِه :
1474 إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
ولو قُرىء بنصب « طائفةً » على أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال لم يكن ممتنعاً
إلا من جهة النقل فإني لم أحفظه قراءة .
وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجه ، أحدها : أنه « قد أَهَمَّتْهُم » كما تقدم ،
الثاني : أنه « يظنون » والجملةُ قبلَه صفةٌ ل « طائفة » . الثالث : أنه محذوفٌ ،
أي ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل ، والجملتان صفتان ل « طائفة » ،
أو يكونُ « يظنون » حالاً من مفعول « أهمَّتْهم » أو مِنْ « طائفة » لتخصُّصه
بالوصف ، أو خبراً بعد خبر إنْ قلنا إنَّ « قد أهمتهم » خبرٌ أولُ ، وفيه من
الخلافِ ما مَضَى غيرَ مرة .
الرابع
: أنَّ الخبر « يقولون » ، والجملتان قبلَه على ما تقدَّم من كونهما صفتين أو
خبرين ، أو إحداهما خبرٌ والأخرى حالٌ ، ويجوزُ أَنْ يكون « يقولون » صفةً ، أو
حالاً أيضاً إنْ قلنا : إنَّ الخبرَ الجملة التي قبله ، أو قلنا إنَّ الخبرَ مضمر
.
وقوله : { يَظُنُّونَ } له مفعولان ، فقال أبو البقاء : « غيرَ الحق » مفعولٌ أولُ
أي : أمراً غير الحق ، و « بالله » هو المفعول الثاني . وقال الزمخشري : « غير
الحق » في حكم المصدر ، ومعناه : يَظُنُّون باللهِ غيرَ الحق الذي يجب أن يُظَّنَّ
به ، و « ظنَّ الجاهلِية » ، بدلٌ منه ، ويجوز أن يكونَ المعنى : « يظنون باللهِ
ظَنَّ الجاهلِية » ، و « غيرَ الحق » تأكيدٌ ل « يظنون » كقولِك : « هذا القولُ
غيرُ ما تقول » ، فَعَلى ما قال لا يتعدَّى « ظنَّ » إلى مفعولين ، بل تكونُ
الباءُ ظرفيةً للظن ، كقولك : « ظننت بزيد » أي : جعلْتُه مكانَ ظنِّي « ، وعلى
هذا المعنى حَمَل النحويين قوله :
1475 فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ
أي : اجعلوا ظنكم في أَلفَي مُدَجَّج . وتحصَّل في نصب » غير الحق « وجهان ،
أحدهما : أنه مفعولٌ أولُ ل » يظنون « . والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملةِ التي
قبلَه بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشري .
وفي نصب » ظنَّ الجاهليةَ « وجهان أيضاً : البدلُ من » غيرَ الحق « ، أو أنه مصدرٌ
مؤكد ل » يظنون « ، و » بالله « : إمَّا متعلق بمحذوف على جَعْله/ مفعولاً ثانياً
، وإمَّا بفعل الظن على ما تقدم وإضافةُ » الظن « إلى » الجاهلية « قال الزمخشري :
» كقولك : « حاتمُ الجودِ ، ورجلُ صدقٍ » يريد الظنَّ المختصَّ بالملةِ الجاهلية ،
ويجوز أن يراد : ظنَّ أهلِ الجاهلية « وقال غيرُه : » المعنى : المدة الجاهلية أي
: القديمة قبل الإِسلام نحو : حَمِيَّة الجاهلية « .
قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } : » مِنْ « في » من شيء « زائدةٌ في
المبتدأ ، وفي الخبر وجهان ، وأصحُّهما أنه » لنا « ، فيكون » من الأمر « في محلِّ
نصب على الحال من » شيء « لأنه نعت نكرةٍ قُدِّم عليها فينتصبُ حالاً . ويتعلق
بمحذوف . والثاني : أجازه أبو البقاء أن يكون » من الأمر « هو الخبر ، و » لنا «
تبيين ، وبه تتِمُّ الفائدةُ كقولِه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [
الإخلاص : 4 ] ، وهذا ليس بشىء لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذ يتعلَّق بمحذوف ،
وإذا كان كذلك فيصير » لنا « من جملةٍ أخرى ، فتبقى الجملة من المبتدأ أو الخبر
غيرَ مستقلة بالفائدة ، وليس نظيراً لقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
} فإن » له « فيها متعلِّق بنفس » كفواً « لا بمحذوفٍ ، وهو نظيرُ : » لم يكن أحد
قائلاً لبكر « ف » لبكر « متعلق بنفس الخبر .
وهل
هذا الاستفهامُ على حقيقتِه؟ فيه وجهان أظهرهما : نعم ، ويعنون بالأمر : النصرَ
والغلبةَ . والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر أي النصر
شيءٌ ، وإليه ذهب قتادة وابن جريج ، ولكن يضعف هذا بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر
كُلَّهُ للَّهِ } فإنَّ مَنْ نَفَى عن نفسِه شيئاً لا يُجاب بأَنْ يُثْبَتَ لغيرِه
، لأنه مُقِرٌّ بذلك ، اللهم إلا أَنْ يُقَدِّر جملةً أخرى ثبوتيةً مع هذه الجملةِ
فكأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيء ، بل لِمَنْ أَكْرَهَنا على الخروج ،
وحَمَلَنا عليه ، فحينئذ يَحْسُن الجواب بقوله { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ
} لقولهم هذا .
وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراضٌ بين الجمل التي جاءت بعد قوله : { وَطَآئِفَةٌ }
فإنَّ قولَه : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم } وكذا « يقولون » الثانية : إمَّا خبرٌ
عن « طائفة » أو حال مِمَّا قبلها .
وقرأ الجماعة « كلَّه » بالنصب ، وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه تأكيدٌ لاسم « إن » .
والثاني حكاه مكي عن الأخفش أنه بدلٌ منه ، وليس بواضحٍ . و « لله » خبرُ « إنْ »
. وقرأ أبو عمرو : « كلُّه » رفعاً وفيه وجهان ، أشهرُهما : أنه رفع بالابتداء ، و
« لله » خبرُه ، والجملةُ خبرُ « إنَّ » نحو : « إنَّ مالَ زيد كلُّه عنده » .
والثاني : أنه توكيدٌ على المحلِّ ، ف « إنَّ » اسمُها في الأصل مرفوعٌ بالابتداء
، وهذا مذهبُ الزجاج والجرميّ ، يُجْرون التوابع كلها مُجْرى عطفِ النسق ، فيكونُ
« لله » خبراً ل « إنَّ » أيضاً . و « يُخْفون » : إمَّا خبرُ ل « طائفة » أو حالٌ
مِمَّا قبله كما تقدم . وأما « يقولون » فيحتمل هذين الوجهين ، ويحتمل أَنْ يكون
تفسيراً لقوله « يُخْفون » فلا محلَّ له حينئذ .
وقوله : { مَّا قُتِلْنَا } جوابُ « لو » ، وجاء على الأفصحِ : فإنَّ جوابَها إذا
كان منفياً ب « ما » فالأكثر عدمُ اللامِ ، وفي الإِيجاب بالعكس . وقوله : { لَوْ
كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } كقوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ }
وقد عُرِف الصحيحُ من الوجهين .
وقد أَعْرَب الزمخشري هذه الجملَ الواقعة بعد قوله : { وَطَآئِفَةٌ } إعراباً أفضى
إلى خروجِ المبتدأ بلا خبر ، ولا بد من إيراد نَصِّه ليتبيَّنَ ذلك ، قال رحمه
الله : « فإنْ قلت كيف مواقعُ هذه الجمل التي بعد قوله : » وطائفة «؟ قلت : » قد
أهَمَّتْهُمْ « صفةٌ ل » طائفة « و » يظنون « صفةٌ أخرى أو حال ، بمعنى : قد
أهمَّتْهم أنفسهم ظانِّين ، أو استئناف على وجه البيان للجملةِ قبلها ، و » يقولون
« بدلٌ من » يظنون « .
فإن
قلت : كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألةٌ عن الأمر بدلاً من الإِخبار بالظن؟ قلت :
كانت مسألتهم صادرةً عن الظن فلذلك جاز إبدالُه منه ، و « يُخفون » حال من «
يقولون » ، و { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } اعتراضٌ بين الحال وذي الحال ،
و « يقولون » بدلٌ من « يُخْفون » ، والأجودُ أَنْ يكون استئنافاً « انتهى كلامه .
وهذا من أبي القاسم بناءً على أن الخبر محذوف كما قَدَّمْتُ لك تقريرَه [ في ] : »
ومنكم طائفةٌ « لأنه موضعُ تفصيل .
قوله : { لَبَرَزَ } جاء على الأفصح ، وهو ثبوت اللام في جوابها مثبتاً ،
والجمهورُ » لبرز « مخففاً مبيناً للفاعل ، وأبو حيوة : » لبُرِّز « مشدداً مبنياً
للمفعول ، عدَّاه بالتضعيف . وقرىء » كَتَب « مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، »
القتلَ « مفعولاً به ، والحسن : » القتالُ « رفعاً .
قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ } فيه خمسةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلقٌ بفعلٍ قبله ،
تقديرُه : فَرَض اللهُ عليكم القتالَ ولم ينصُرْكم يومَ أُحد ليبتلي ما في صدوركم
وقيل : بفعلٍ بعده ، أي : ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء . وقيل : الواوُ زائدةٌ
واللام متعلقة بما قبلها ، وقيل : » وليبتلي « عطفٌ على » ليبتلي « الأولى ، وإنما
كُرِّرت لطولِ الكلام ، فعُطِف عليه » وليمحِّص « قاله ابن بحر . وقيل : هو عطفٌ
على علةٍ محذوفةٍ تقديرُه : ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي ، وجَعَلَ متعلَّقَ
الابتلاءِ ما انطوى عليه الصدورُ ، والذي انطوى عليه الصدر هو القلب ، لقوله : {
القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] ، وجَعَل متعلَّقَ التمحيص وهو التصفية ما
في القلب وهو النيَّاتُ والعقائد .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
وقوله
تعالى : { الجمعان } : إنما ثُنِّي وإن كان اسمَ جمع وقد نَصَّ النحاةُ على أنه لا
يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ إلا شذوذاً لأنه أُريد به النوعُ ، فإنَّ المعنى : جَمْعُ
المؤمنين وجَمْعُ المشركين ، فلما أُريد به ذلك ثُنِّي كقوله :
1476 وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رحلٍ وإنْ هما ... تعاطَى القَنا قوماً هما أخَوان
والسين في « استَنْزَلَهم » للطلب ، والظاهرُ أن استفعل هنا بمعنى أَفْعَل لأنَّ
القصةَ تَدُلُّ عليه ، فالمعنى حَمَلَهم على الزلة ، ويكون كاسْتَبَلَّ وأَبَلَّ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قولُه
تعالى : { إِذَا ضَرَبُواْ } : « إذا » ظرفٌ مستقبل فلذلك اضطربت أقوالُ
المُعْرِبين هنا من حيث إنَّ العاملَ فيها : « قالوا » وهو ماضٍ ، فقال الزمخشري :
« فإنْ قلت : كيف قيل : » إذا ضَرَبوا « مع » قالوا «؟ قلت : هو حكايةٌ حالٍ
ماضيةٍ كقولك » حين يضربون في الأرض « . وقال أبو البقاء بعد قوله قريباً من قول
الزمخشري : » ويجوز أن يكونَ « كفروا » و « قالوا » ماضيين ، ويرادُ بهما
المستقبلُ المحكيُّ به الحالُ ، فعلى هذا يكون التقديرُ : يكفرون ويقولون « انتهى
. ففي كِلا الوجهين حكايةٌ حالٍ ، لكنْ في الأولِ حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ ، وفي الثاني
مستقبلةٌ ، وهو من هذه الحيثيَّةِ كقوله تعالى : { حتى يَقُولَ الرسول والذين
آمَنُواْ } [ البقرة : 214 ] وقد تقدَّم . ويجوزُ أَنْ يُراد ب » قال « الاستقبالُ
لا على سبيلِ الحكاية ، بل لوقوعِه صلةً لموصولٍ ، وقد نَصَّ بعضُهم على أنَّ
الماضيَ إذا وقَع صلةً لموصولٍ صَلَح للاستقبال نحو : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن
قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 34 ] ، وإلى هذا نحا ابن عطية ،
قال : » ودخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث « الذين » اسمٌ مُبْهَمٌ يَعُمُّ مَنْ
قَال في الماضي ومَنْ يقول في الاستقبال ، ومِنْ حيث هذه النازلةُ تُتَصَوَّرُ في
مستقبلِ الزمان « يعني فتكون حكايةَ حالٍ مستقبلة .
وقيل : » إذا « بمعنى » إذْ « وليس بشيء . وقَدَّرَ الشيخ مضافاً محذوفاً هو عاملٌ
في » إذا « تقديرُه : » وقالوا لهلاكِ إخوانهم « أي مخافةَ أن يَهْلَكَ إخوانُهم
إذا سافروا أو غزَوا ، فقدَّر العاملَ مصدراً مُنْحَلاًّ ل » أَنْ « والمضارع حتى
يكونَ مستقبلاً قال : » ولكنْ يصيرُ الضميرُ في قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا
} عائداً على « إخوانهم » في اللفظ وهو لغيرهم في المعنى أي : يعودُ على إخوانٍ
آخرين وهم الذي تقدَّمَ موتُهم بسببِ سفرٍ أو غزو ، وقَصْدُهم بذلك تثبيطُ الباقين
، وهو نظيرُ : « درهمٌ ونصفه » ، { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ
مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] وقول النابغة :
1477 قالَتْ : ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتِنا ونصفُه فَقَدِ
أي . نصفُ درهمٍ آخرَ ، ومُعَمَّرٍ أخرَ ، وحمامٍ آخرَ « .
واللامُ في » لإِخوانهم « للعلةِ ، وليسَتْ هنا للتبليغ كالتي في قولِك : » قلت
لزيدٍ : افعل كذا « .
والجمهورُ على » غُزَّى « بالتشديد جمع » غازٍ « وقياسُه : غُزَاة كرام ورُماة ،
ولكنهم حَمَلوا المعتلَّ على الصحيح في نحو : ضارِب وضُرَّب ، وصائم وصُوَّم .
والزهري والحسن : » غُزَى « بتخفيفها ، وفيه وجهان : أنه خَفَّف الزايَ كراهيةَ
التثقيلِ في الجمعِ . والثاني : أنَّ أصلَه » غُزاة « كقُضاة ورُماة ، ولكنه
حَذَفَ تاءَ التأنيث ، لأنَّ نفسَ الصيغةِ دالَّة على الجمعِ ، فالتاءُ مستغنىً
عنها .
وقال
ابن عطية : وهذا الحذف كثيرٌ في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي :
1478 أبى الذَّمُّ أخلاقَ الكسائي وانْتَحى ... به المجدُ أخلاقَ الأُبُوِّ
السَّوابقِ
يريد : « الأبوة » جمع أب ، كما ان « العمومة » جمع عَمّ « ، و » البُنُوَّة «
جمعُ ابن ، وقد قالوا : ابن وبُنُوّ . وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا : بأنَّ الحَذْفَ
ليس بكثيرٍ ، وأنَّ قوله : » حُذِفَت التاءُ من « عُمومة » ليس كذلك ، بل الأصل «
عُموم » من غير تاء/ ، ثم أَدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع ، فما جاء على « فُعول
» من غير تاءٍ فهو الأصلُ نحو : عُموم وفُحول ، وما جاءَ فيه التاءُ فهو الذي
يَحْتاج إلَى تأويِلِه بالجمعِ ، لم يُبْنَ على هذه التاءِ حتى يُدَّعى حَذْفُها ،
وهذا بخلاف « قُضاة » وبابِه بُني عليها فيمكنُ ادِّعاءُ الحَذْفِ فيه ، وأما «
أُبُوّة » و « بُنُوّة » فليسا جَمْعَيْن بل مصدَرَيْن وأمَّا « أُبُوّ » في البيت
فهو شاذ عند النحاةِ من جهةِ أنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يُعِلَّه فيقول : « أُبِيّ
» بقلبِ الواوين ياءين نحو : عُصِيّ .
ويُقال : غُزَّاء بالمدِّ أيضاً وهو شاذٌّ ، وتَحَصَّل في « غازٍ » ثلاثةُ جموعٍ
في التكسير : غُزاة كقُضاة ، وغُزَّى كصُوَّم ، وغُزَّاء كصُوّام ، وجمعٌ رابع
جمعُ سلامة ، والجملةُ كلها في محل نصب بالقول .
قوله : { لِيَجْعَلَ الله } في هذه اللام قولان ، أحدهما : أنها لام « كي »
والثاني : أنها لام العاقبة والصيرورة ، وعلى القول الأول فبِمَ تتعلَّق هذه
اللام؟ وفيه وجهان ، فقيل : التقدير : أَوْقَعَ ذلك أي القول أو المُعْتَقَد
ليجعلَه حسرةً ، أو نَدَمُهم ، كذا قَدَّره أبو البقاء ، وأجاز الزمخشري : أن
تتعلَّقَ بجملة النهي ، وذلك على معنيين باعتبارِ ما يرُاد باسمِ الإِشارة على ما
سيأتي بيانُه في كلامِه : أمَّا الاعتبارُ الأول فإنه قال : « يعني : لا تكونوا
مثلَهم في النطق بذلك القول واعتقادِه ليجعله اللهُ حسرةً في قلوبِهم خاصة ،
ويصونَ منها قلوبَكم » فجعل « ذلك » إشارةً إلى القولِ والاعتقادِ . وأمَّا
الاعتبارُ الثاني فإنه قال : « ويجوزُ أَنْ يكونَ » ذلك « إشارةً إلى ما دَلَّ
عليه النهيُ أي : لا تكونوا مثلَهم ليجعلَ اللهُ انتفاءَ كونكم مثلَهم حسرةً في
قلوبهم ، لأنَّ مخالَفَتهم فيما يقولون ، ويعتقدون مِمَّا يَغُمُّهُمْ ويَغيظهم »
.
وقد رَدَّ عليه الشيخ المعنى الأولَ بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، ولا بد من
إيراده ليتبيَّنَ لك . قال بعد ما حكى عنه ما نقلْتُه في المعنى الأول : « وهذا
كلام مثبج لا تحقيقَ [ فيه ] لأَنَّ جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا .
إنما يكونُ سبباً لحصولِ امتثالِ النهي ، وهو انتفاء المماثلةِ ، فحصولُ ذلك
الانتفاء والمخالفةِ فيما يقولون ويعتقدون يَحْصُل عنه ما يَغيظهم ويَغُمُّهُمْ إذ
لم يُوافِقُوهم فيما قالوه واعتَقَدُوه فلا تَضْرِبوا ولا تَغْزوا ، فالتبس على
الزمخشري استدعاءُ انتقاءِ المماثلةِ بحصولِ الانتفاء ، وفَهْمُ هذا فيه خَفاءٌ
ودِقَّةٌ » انتهى .
ولا
أدري ما وجهُ تثبيجِ كلام أبي القاسم ، وكيفَ ردَّ عليه على زعمه بكلامه؟
وقال الشيخ أيضاً : « وقال ابنُ عيسى يعني الرماني وغيرُه اللامُ متعلقةٌ بالكون ،
أي لا تكونوا كهؤلاءِ ليجعلَ اللهُ ذلك حسرة في قلوبهم دونَكم ، ومنه أخَذَ الزمخشري
في قولِه ، لكنَّ ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص ، وقد
بَيَّنَّا فسادَ هذا القول » . انتهى . وقوله : « وذلك لم ينصَّ » بل قد نَصَّ ،
وقال : « فإنْ قلت ما متعلَّقُ ليجعلَ؟ قلت : » قالوا « إلى آخره ، أو بقوله : »
لا تكونوا « ، وأيُّ نصٍ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوزُ تَعَلُّق هذه اللامِ ومعناها
التعليل ب » قالوا « لفساد المعنى ، لأنهم لم يقولوه لذلك بل لتثبيطِ المؤمنينِ عن
الجهاد .
وعلى القولِ الثاني أعني كونَها للعاقبةِ تتعلَّقُ ب » قالوا « والمعنى : أنَّهم
قالوا ذلك لغرضٍ من أغراضِهم ، فكانَ عاقبةُ قولِهم ومصيرُه إلى الحسرةِ
والنَّدامَةِ كقولِه : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً
وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، لم يلتِقطوه لذلك ، لكنْ كان مآلُه لذلك ، ولكنَّ
كونَها للصيرورةِ لم يَعْرِفْه أكثرُ النحويين ، وإنما هو شيء يَنْسِبونَه للأخفش
، وما وَرَدَ من ذلك يؤولونه عَلى العكسِ من الكلام نحو : { فَبَشِّرْهُم
بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وهذا رأي الزمخشري ، فإنه شَبَّه هذه اللام
باللام في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } ، ومذهبُه في تَيْكَ أنها للعلة بالتأويل
المذكور . والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير ، و » حسرةً « مفعولٌ ثانٍ ، و » في قلوبهم
« يجوزُ أن يتعلَّق بالجَعْل وهو أبلغُ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للنكرة قبله .
واختُلف في المُشار إليه بذلك : فعن الزجاج : هو الظن ، ظنوا أنهم لو لم يَحْضُروا
لم يُقْتَلوا . وقال الزمخشري : » هو النطق بالقول والاعتقاد « . وقريبٌ منه قول
ابن عطية ، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يكونَ للنهي والانتهاء معاً . وقيل هو مصدرُ »
قال « المدلولِ عليه به .
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : » يَعْملون «
بالغيبةَ ردَّاً على الذين كفروا ، والباقون بالخطابَ ردَّاً على قوله : { لاَ
تَكُونُواْ } فهو خطابٌ للمؤمنين . وجاء هنا بصفة البصر ، قال الراغب : » عَلَّق
ذلك بالبصر لا بالسمعِ ، وإنْ كان الصادرُ منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً ،
لمَّا كان ذلك القولُ من الكافر قصداً منه إلى عمل يُحاوِلُه ، فَخَصَّ البصرَ
بذلك ، كقولك لمَنْ يقولُ شيئاً وهو يَقْصِدُ فِعْلاً يُحاوله : أنا أرى ما تفعله
« .
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
قوله
تعالى : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } : اللامُ هي الموطِّئةُ لقسمٍ محذوف ، وجوابُه
قولُه : { لَمَغْفِرَةٌ } وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه
لكونِه دالاًّ عليه ، وهو الذي عَنَاه الزمخشري بقوله : « وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ
الشرط » ولا يعني بذلك أنَّه من غيرِ حذفٍ . واللام لام الابتداء ، وهي وما بعدها
جواب القسم كما تقدم .
و « مغفرةٌ » فيها وجهان ، أظهرهُما : أنها مرفوعةٌ بالابتداء ، والمسوِّغات هنا
كثيرة : لام الابتداء والعطف عليها في قوله : { وَرَحْمَةٌ } ووصفُها ، فإنَّ قوله
: { مِّنَ الله } صفةٌ لها ، ويتعلق حينئذٍ بمحذوف ، و { خَيْرٌ } خبرٌ عنها .
والثاني : أن تكونَ مرفوعة على خبر ابتداء مضمر ، إذا أُريد بالمغفرةِ والرحمةِ
القتلُ أو الموتُ في سبيل الله ، لأنهما مقترنان بالموتِ في سبيلِ الله ، فيكونُ
التقدير : فذلك أي الموتُ أو القتلُ في سبيلِ الله مغفرةٌ ورحمةٌ خير ، ويكون « خير
» صفةً لا خبراً ، وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال : « وتحتمل الآية أن يكونَ
قولُه : { لَمَغْفِرَةٌ } إشارةً إلى الموت أو القتل في سبيل الله ، فَسَمَّى ذلك
مغفرةً ورحمة ، إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقدير : فذلك مغفرةٌ ورحمة ، وترتفعُ
المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : » خير « صفةٌ لا خبرٌ ابتداء » انتهى
. ولكنَّ الوجهَ الأولَ أظهرُ ، و « خير » هنا على بابِها من كونِها للتفضيلِ ،
وعن ابن عباس : « خيرٌ من طِلاع الأرض ذهبةً حمراءَ » .
وقوله : { وَرَحْمَةٌ } أي : ورحمةٌ من الله ، فَحُذِفَتْ صفتُها لدلالة الأولى
عليها ، ولا بُدَّ من حَذْفٍ آخر مُصَحِّحٍ للمعنى ، تقديرُه : لمغفرة من الله لكم
ورحمةً منه لكم . وجاء بالمغفرةِ والرحمةِ نكرتين إيذاناً بأنَّ أَدنى خيرٍ وأقلَّ
شيء خيرٌ من الدنيا وما فيها الذي يجمعونه ، وهو نظير { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله
أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، والتنكيرُ قد يُشْعِرُ بالتقليل ، و « ما » في قولِه
{ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً
، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ أي : مِنْ جَمْعِكم المالَ ونحوه .
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
وقرأ
أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : { مُتُّم } و { مُتُّ } : وبابه
بضم الميم ، ووافقهم حفص هنا خاصة في الموضعين ، والباقون بالكسر . فأمّا الضم
فلأنه فَعَل بفتح العين من ذوات الواو ، وكل ما كان كذلك فقياسه إذا أسند إلى ياء
المتكلم وأخواتها أن تضم فاؤه : إمَّا من أول وهلة ، وإمَّا بأن نبدلَ الفتحةَ
ضمةً ثم نَنْقُلَها إلى الفاء على اختلاف بين التصريفيين ، فيقال في « قام » وقال
وطال : قُمت وقُمنا وقُمن وطُلت وطُلن وما أشبه ، ولهذا جاء مضارعُه على يَفْعُل
نحو : يَمُوت . وأما الكسر فالصحيح من قول أهل العربية أنه من لغة مَنْ يقول : مات
يمات كخاف يخاف ، والأصلُ : مَوِت بكسر العين كَخوِف فجاء مضارعه على يَفْعَل بفتح
العين . قال الشاعر :
1479 بُنَيَّتي سيدةَ البنات ... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أَنْ تَماتي
فجاء بمضارعه على يَفْعَل بالفتح ، فعلى هذه/ اللغة يَلْزَم أن يقال في الماضي
المسند إلى التاءِ وإحدى أخواتها : « مِتُّ » بالكسرِ ليس إلا ، وهو أنَّا
نَقَلْنا حركةَ الواو إلى الفاء بعد سَلْبِ حركتِها دلالةً على بنيةِ الكلمة في
الأصلِ . وهذا أَوْلى مِنْ قولِ مَنْ يقولُ : إنَّ « مِتَّ » بالكسر مأخوذٌ من لغة
من يقول : « يَمُوت » بالضم في المضارع ، وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في
الاستعمال كالمازني وأبي علي الفارسي ، ونقله بعضهم عن سيبويه صريحاً ، وإذا
ثَبَتَ ذلك لغةً فلا معنى إلى ادِّعاء الشذوذ فيه . وأمَّا حفص فجمع بين اللغتين .
وقرأ الجماعة : « تَجْمَعُون » بالخطاب جرياً على قوله : « ولئن قُتِلتم » ، وحفص
بالغيبة : إمَّا على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب
المؤمنين .
وهذه ثلاثة مواضع : تقدَّم الموتُ على القتل في الأول منها وفي الأخير ، والقتلُ
على الموت في المتوسط ، وذلك أنَّ الأول لمناسبةِ ما قبله من قوله : { إِذَا
ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فرجعَ الموتُ لِمَنْ ضَرَب في الأرض ،
والقتلُ لِمَنْ غزا ، وأما الثاني فلأنه مَحَلُّ تحريضٍ على الجهاد فَقَدَّم
الأهمَّ الأعرفَ ، وأمَّا الآخرُ فلأنَّ الموتَ أغلبُ .
وقوله : { لإِلَى الله } اللامُ جوابُ القسم فهي داخلةٌ على { تُحْشَرُونَ } ، و «
إلى الله » متعلقٌ به ، وإنما قُدِّم للاختصاصِ أي : إلى الله لا إلى غيره يكونُ
حشرُكُم ، أو للاهتمام ، وحَسَّنَه كونُه فاصلةً ، ولولا الفصلُ لوجب توكيدُ الفعل
بنونٍ ، لأنَّ المضارعَ المثبت إذا كانَ مستقبلاً وَجَبَ توكيدُه مع اللام خلافاً
للكوفيين ، حيثُ يجيزون التعاقبَ بينهما ، كقوله :
1480 وقتيلِ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
فجاءَ بالنونِ دونَ اللامِ ، وقوله :
1481 لِئَنْ تكُ قد ضَاقَتْ عليكم بيوتُكم ... لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فجاء باللامِ دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورةَ . فإنْ فُصِل بين اللام
بالمعمول كهذه الآية أو ب « قد » نحو : « والله قد أقوم » وقوله :
1482 كَذَبْتِ لقد أُصْبي على المَرْء عِرْسَه ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
أو بحرفِ تنفيس نحو : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ } [ الضحى : 4 ] فلا يجوزُ توكيده
حينئذ بالنون . قال الفارسي : « دخلتِ النونُ فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء
، ولامُ الابتداء لا تدخل على الفَضْلة ، فبدخول لام اليمين على الفَضْلة حَصَلَ
الفرقُ فلم يُحْتَجْ إلى النون ، وبدخولِها على » سوف « حَصَل الفرقُ أيضاً فلا
حاجةً إلى النونِ ، ولامُ الابتداء لا تَدْخُل على الفعلِ إلا إذا كان حالاً ،
أمَّا مستقبلاً فلا » .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قوله
تعالى : { فَبِمَا } : في « ما » وجهان ، أحدهُما : أنها زائدةٌ للتوكيدِ
والدلالةِ على أن لِينَه لهم ما كان إلا برحمةٍ من الله ، ونظيرُه : { فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] . والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ ، بل
هي نكرة وفيها وجهان ، أحدهُما : أنها موصوفةٌ برحمة ، أي : فبشيء رحمةٍ والثاني :
أنها غيرُ موصوفة ، و « رحمةٍ » بدلٌ منها ، نقله مكي عن ابن كيسان . ونقل أبو
البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ ، و « رحمةٍ » بدلٌ منها ، كأنه
أَبْهم ثم بَيَّن بالإِبدال . وجَوَّز بعضُ الناس وعَزاه الشيخ لابن خطيب الريّ
أنَّ « ما » استفهاميةٌ للتعجب تقديرُه : فبأي رحمةٍ لِنْتَ لهم ، وذلك فإنَّ
جنايتَهم لَمَّا كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر تغليظاً في القول ولا خشونةً في الكلام
علموا أنَّ ذلك لا يتأتَّى إلا بتأييد ربَّاني قبلَ ذلك . وردَّ عليه الشيخ هذا
بأنه لا يَخْلُو : إمَّا أَنْ تُجْعَلَ « ما » مضافةً إلى « رحمة » ، وهو ظاهرُ
تقديرِه كما حكاه عنه ، فيَلْزَمُ إضافةُ « ما » الاستفهاميةِ ، وقد نَصُّوا على
أنه لا يُضاف من أسماءِ الاستفهام إلا « أيّ » اتفاقاً ، و « كم » عند الزجاج ،
وإمَّا أَنْ لا تجعلَها مضافةً ، فتكونُ « رحمةٍ » بدلاً منها ، وحينئذ يلزمُ
إعادةُ حرف الاستفهام في البدل كما تقرَّر في علم النحو ، وأنحى عليه في كلامه
فقال : « وليته كان يُغْنيه عن هذا الارتباكِ والتسلُّقِ إلى ما لا يُحْسِنُه قولُ
الزجاج في » ما « هذه إنها صلةٌ فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين » انتهى .
وليس لقائلٍ أن يقولَ له : أَنْ يجعلَها غيرَ مضافةٍ ولا يجعلَ « رحمة » بدلاً حتى
يلزمَ إعادةُ حرفِ الاستفهامِ بل يَجْعَلُها صفةً؛ لأنَّ « ما » الاستفهامية لا
تُوصف ، وكأنَّ مَنْ يَدَّعي فيها أنها غيرُ مزيدةً يَفِرُّ من هذه العبارة في
كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي ، كان لا يُجَوِّزُ أن يقال في
القرآن : « هذا زائدٌ » أصلاً . وهذا فيه نظرٌ ، لأنَّ القائلين بكون هذا زائداً
لا يَعْنُون أنه يجوزُ سقوطُه ولا أنه مهمل لا معنى له ، بل يقولون : زائدٌ
للتوكيد ، فله أُسْوَةٌ بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن ، و « ما » كما
تزاد بين الباءِ ومجرورِها تزاد أيضاً بين « عَنْ » و « مِنْ » والكاف ومجرورها
كما سيأتي .
وقال مكي : « ويجوز أن ترتفعَ » رحمةٍ « على أَنْ تَجْعَلَ » ما « بمعنى الذي ،
وتُضْمِرَ » هو « في الصلة وتَحْذِفَها كما قرىء : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ
} .
وقولُه
: « ويجوزُ » يعني من حيث الصناعةُ ، وأمَّا كونُها قراءةً فلا أحفظها .
والفَظَاظَة : الجَفْوَةَ في المُعاشرة قولاً وفعلاً . قال :
1483 أَخْشَى فَظاظَة عَمٍّ أو جفاءَ أخٍ ... وكنتُ أَخْشَى عليها مِنْ أَذَى
الكَلِمِ
والغُِلْظُ : تكثير الأجزاء ، ثم تُجُوِّز به في عدمِ الشفقةِ وكثرةِ القسوة في
القلب قال :
1484 يُبْكَى علينا ولا نَبْكي على أحدٍ ... لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإِبلِ
وقال الراغب : الفظُّ كريه الخُلُق وذلك مستعارٌ من الفَظِّ وهو ماءٌ الكَرِش ،
وذلك مكروه شربُه إلا في ضرورةٍ « ، قال : » الغِلْظَةُ : ضدُّ الرِّقة ، ويقال :
غُلْظة وغِلْظة أي بالكسر والضم « وعن الغِلْظَة تنشأ الفظاظةُ فَلِمَ قُدِّمَتْ؟
فقيل : قُدِّم ما هو ظاهرٌ للحِسِّ على ما هو خافٍ في القلب ، لأنه كما تقدَّم
أنَّ الفَظاظةَ : الجَفْوَةُ في العِشْرَةِ قولاً وفِعْلاً ، والغِلْظُ : قساوةُ
القلب ، وهذا أحسنُ مِنْ قولِ مَنْ جعلهما بمعنىً ، وجُمِع بينهما تأكيداً .
والانفضاضُ : التفرُّق في الأجزاءِ وانتشارُها ومنه : » فُضَّ خَتْمُ الكتابِ « ثم
استُعير عنه » انفضاضُ الناسِ « ونحوِهم .
وقوله : { فاعف عَنْهُمْ } إلى أخره جاء على أحسنِ النسق ، وذلك أنه أَمَر أولاً
بالعفوِ عنهم فيما يتعلَّقُ بخاصةِ نفسِه ، فإذا انتهَوا إلى هذا المقام أُمِرَ أن
يَسْتغفِرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاحَ عنهم التَّبِعَتان ، فلمَّا
صاروا إلى هذا أُمِر بأنْ يُشاوِرَهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التَّبِعَتَيْن
مُصَفَّيْن منهما ، والأمرُ هنا وإنْ كان عاماً فالمرادُ به الخصوص ، قال أبو
البقاء : » إذ لم يُؤْمَرْ بمشاورتِهم في الفرائضِ ، ولذلك قرأ ابن عباس : « في
بعضِ الأمر » . وهذا تفسيرٌ لا تلاوة .
وقوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ } الجمهورُ على فتح التاء خطاباً له عليه السلام .
وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها ، على أنها لله تعالى على معنى : فإذا أرشَدْتُك
إليه وجَعَلْتُكَ تَقْصِدُه ، وجاء قوله : { عَلَى الله } من الالتفات ، إذ لو جاء
على نَسَقِ هذا الكلامِ لقيل : فتوكَّلْ عليَّ ، وقد نُسِبَ العزمُ إليه تعالى في
قول أم سلمة : « ثم عَزَمَ الله لي » وذلك على سبيل المجاز .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } جارٍ مَجْرى العلةِ الباعثةِ على
التوكيلِ عند الأخْذِ في كلِّ الأمر/ .
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
قوله
تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ } : شرطٌ وجوابُه . وقوله : { وَإِن
يَخْذُلْكُمْ } مثلُه ، وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، كذا قاله الشيخ ،
يعني من الغَيْبة في قوله : { لِنتَ لَهُمْ } و { لاَنْفَضُّواْ } و { فاعف
عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ } . وفيه نظرٌ . وجاء قولُه : { فَلاَ
غَالِبَ } جواباً للشرط وهو نفيٌ صريح ، وقولُه { فَمَن ذَا الذي } وهو متضمِّنٌ
للنفي جواباً للشرط الثاني تلَطُّفاً بالمؤمنين حيث صَرَّح لهم بعدم الغَلَبةِ في
الأولِ ، ولم يُصَرِّحْ لهم بأنه لا ناصِرَ لهم في الثاني ، بل أتى في صورةِ
الاستفهامِ وإنْ كان معناه نفياً .
وقوله : { فَمَن ذَا الذي } قد تقدَّم مثلُه في البقرة وأقوالُ الناس فيه .
والهاءُ في « مِنْ بعدِه » فيها وجهان ، أحدُهما وهو الأظهر أنها تعودُ على اللهِ
تعالى ، وفيه احتمالان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ
بعدِ خِذْلانِه . والثاني : أنه لا يُحتاج إلى ذلك ، ويكون معنى الكلام : إنكم إذا
جَوَّزْتموه إلى غيرِه وقد خَذَلكم فَمَنْ تجاوزون إليه وينصُركم؟ والوجه الثاني :
أن تعودَ على الخِذْلان المفهوم من الفعلِ وهو نظيرُ : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [
المائدة : 8 ] .
وقوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } إنَّما قَدَّم الجارَّ ليؤذن
بالاختصاص أي : ليخُصَّ المؤمنون ربَّهم بالتوكُّل عليه والتفويضِ لعلمهم أنه لا
ناصرَ لهم سواه ، وهو معنىً حسن ذكره الزمخشري . وقرأ الجمهور : « ويَخْذُلْكم »
بفتح الياء مِنْ « خَذَله » ثلاثياً ، وقرأ عبيد بن عمير : « يُخْذِلْكم » بضمها
مِنْ أخذل رباعياً ، والهمزةُ فيه لجَعْل الشيءِ ، أي : يَجْعَلْكم مخذولين .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
قوله
تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } : [ « أَنْ يَغُلًّ » في محلِّ
رفعٍ اسمَ كان ، و « لنبي » خبرٌ مقدم ] أي : ما كان له غُلول أو إغْلال على
حَسَبِ القراءتين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ «
غَلَّ » مبنياً للفاعل ، ومعناه : أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول
لتنافِيهما ، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة . وقرأ الباقون « يُغَلَّ »
مبنِيّاً للمفعول . وهذه القراءةُ فيها احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ من « غَلَّ
» ثلاثياً ، والمعنى : ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه ، فهو نفيٌ
في معنى النهي أي : لا يَغُلُّه أحدٌ . والاحتمال الثاني : أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ
رباعياً ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ من أَغَلَّه : أي نَسَبه إلى
الغُلول كقولِهم : أَكْذَبْتُه أي : نَسَبْتُه إلى الكذب ، وهذا في المعنى كالذي
قبله أي : نفيٌ في معنى النهي أي : لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول . والثاني : أن
يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم : أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه
وأجبنتُه أي : وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً . والظاهر أن قراءة « يَغُلَّ »
بالياء للفاعل لا يُقَدَّر فيها مفعولٌ محذوفٌ؛ لأنَّ الغَرَضَ نفيُ هذه الصفة عن
النبي من غيرِ نظرٍ إلى تَعَلُّقٍ بمفعولٍ كقولك : « هو يعطي ويمنع » تريدُ إثباتَ
هاتَين الصفتين . وقَدَّر له أبو البقاء مفعولاً فقال : « تقديرُه : أَنْ يَغُلَّ
المالَ أو الغنيمةَ » .
واختار أبو عبيد والفارسي قراءةَ البناء للفاعل قالا : لأنَّ الفعلَ الواردَ بعدُ
« ما كان لكذا أن يفعل » أكثرُ ما يَجِيءُ منسوباً إلى الفاعل نحو : { وَمَا كَانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل
عمران : 179 ] وبابه ورجَّحها بعضُهم بقولِه : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا
غَلَّ } فهذا يُوافِقُ هذه القراءةَ ، ولا حُجَّة في ذلك لأنها موافقةٌ للأخرى .
والخَذْلِ والخِذْلاَنِ ضد النصر ، وهو تَرْكُ مَنْ تَظُنُّ به النُّصْرة . وأصلُه
منْ « خَذَلَتِ الظَّبْيَةُ ولدَها » أي : تركَتْه منفرداً ، ولهذا قيل لها :
خاذِل . ويقال للولدِ المتروك أيضاً : خاذِل ، وهذا على النسب ، والمعنى أنها
مخذولةٌ ، قال بُجَيْر :
1485 بجيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ ... من الظِّباءِ تُراعي منزلاً زِيَمَا
ويُقال له أيضاً : خَذول ، فَعُول بمعنى مَفْعول . قال :
1486 خَذُولٌ تُراعِي رَبْرَباً بخميلةٍ ... تَنَاولُ أطرافَ البَريرِ وترْتَدي
ومنه يُقال : تَخاذَلَتْ رِجْلا فلانٍ « قال الأعشى :
1487 بينَ مَغْلوبٍ تليلٍ خَدُّهُ ... وخذولِ الرِّجْلِ من غيرِ كَسَحْ
ومعنى المادة : هذا الترك الخاص .
والغُلول في الأصلِ : تَدَرُّع الخِيانَةِ وتوسُّطها ، والغَلَلُ : تَدَرُّعُ
الشيء وتوسُّطه ، ومنه : » الغَلَلُ « للماءِ الجاري بين الشجرِ ، والغِلُّ :
الحِقْدُ لكُمونه في الصدر ، وتَغَلْغَلَ في كذا : إذا دخَل فيه وتوسَّط ، قال :
1488 تَغَلْغَلَ حيث لم يَبْلُغْ شَرابٌ ... ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
فالغُلولُ
الذي هو الأخْذُ في خُفْيَةٍ مأخوذٌ من هذا المعنى ، ومنه : « أَغَلَّ الجازِرُ »
إذا سرق أو ترك في الإِهاب شيئاً من اللحم . وفَرَّقت العربُ بين الأفعالِ
والمصادرِ فقالوا : غَلَّ يَغُلُّ غُلولاً بالضَّمِّ في المصدر والمضارع إذا خان ،
وغل يَغِلُّ غِلاًَّ بالكسر فيهما . قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم
مِّنْ غِلٍّ } [ الأعراف : 43 ] أي حِقد .
قوله : { وَمَن يَغْلُلْ } الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ لا محلَّ
لها من الإِعراب ، وإنما جِيء بها للرَّدْع عن الإِغلالِ . وزعم أبو البقاء أنها
يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ، ويكونُ التقديرُ : في حال علم الغَالِّ بعقوبةِ الغُلول
، وهذا وإنْ كان محتَمَلاً ولكنه بعيدٌ . و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، فالعائدُ
محذوفٌ أي : غِلُّه ، ويَدُلُّ على ذلك الحديثُ : « إنَّ أحدَهم يأتي بالشيء الذي
أخذَه على رقبتِه » . ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً ، وتكونُ على حَذْفِ مضاف أي :
بإثمِ غلولِه .
وقولُه : { ثُمَّ توفى } هذه الجملةُ معطوفةٌ على الجملة الشرطية ، وفيها إعلامٌ
أنَّ الغالَّ وغيرَه مِنْ جميعِ الكاسبين لا بُدَّ وأن يُجازوا فيندرجَ الغالُّ
تحت هذا العموم أيضاً فكأنه ذُكِر مرتين . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : هَلاَّ قيل
: » ثم يُوَفَّى ما كسَب « ليتصلَ به . قلت : جِيء بعامٍّ دخَل تحتَه كلُّ كاسبٍ
من الغالِّ وغيرِه فاتَّصل به من حيثُ المعنى ، وهو أثبتُ وأبلغُ » .
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
قوله
تعالى : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } : الكلامُ على مثلِه قد تقدَّم مِنْ
أنَّ الفاءَ النيةُ بها التقديمُ على الهمزةِ ، وأن مذهبَ الزمخشري تقديرُ فعلٍ
بينهما . قال الشيخ : « وتقديرُه في مثلِ هذا التركيبِ متكلَّفٌ جداً » . انتهى .
والذي يَظْهَرُ من التقديرات : « أحَصَل لكم تمييزٌ بين الضالِّ والمُهْتدي ،
فَمَنِ اتَّبع رضوانَ اللهِ واهتدى ليس كَمَنْ باءَ بسخطِه وغلَّ » . لأنَّ
الاستفهامَ هنا للنفي . و « مَنْ » هنا موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفع بالابتداء
، والجارُّ والمجرورُ الخبرُ . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تكونَ شرطاً ،
لأنَّ » كَمَنْ « لا يصلُح أن يكونَ جواباً » يعني لأنَّه كان يَجِبُ اقترانُه
بالفاءِ ، ولأنَّ المعنى يأْباه .
و « بسَخَطٍ » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعلِ أي : رَجَع بسَخَطِه ، ويجوزُ
أَنْ يكونَ حالاً فيتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : رجَع مصاحباً لسَخَطه أو ملتبساً به . و
« مِنَ الله » صفتُه . والسَّخَط : الغضبُ الشديد ، ويقال : « سَخَط » بفتحتين وهو
مصدرٌ قياسي ، ويقال : « سُخط » بضمِّ السين وسكونِ الخاء ، وهو غيرُ مقيسٍ ،
ويقال : « هو في سُخْطَةِ المَلِك » بالتاءِ أي : في كراهةٍ منه له .
قوله : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } في هذه الجملةِ احتمالان : أن تكون مستأنفةً ،
أخبر أنَّ مَنْ باءَ بسَخَطِه أَوَى إلى جهنَّم . ويُفْهَمُ منه مقابله وهو : أنَّ
مَنِ اتَّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة ، وإنما سَكَتَ عن هذا ونَصَّ على ذلك
ليكونَ أبلغَ في الزجر ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ في هذه الجمل تقديرُه : أفَمَنْ
اتبع ما يؤولُ به إلى رضا الله فباء برِضاه كَمَنِ اتَّبع ما يَؤُول به إلى سَخَطه
.
والثاني : أنها داخلةٌ في حَيِّز الموصولِ ، فتكونُ معطوفةً على « باء بسخط » ،
فيكونُ قد وَصَل الموصولَ بجملتين اسميةٍ وفعلية ، وعلى كلا الاحتمالَيْن لا محلَّ
لها من الإِعراب . والمخصوصُ بالذمِّ محذوف أي : وبئس المصيرُ جهنمُ . واشتملت هذه
الآياتُ على الطباق في قوله : « يَنْصُرْكم ويَخْذُلْكم » ، وفي قولِه : « رضوان
الله وسخطه » ، والتجنيسُ المماثِلُ في قولِه : « يَغْلُلْ » و « بما غلَّ » .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
قوله
تعالى : { لَقَدْ مَنَّ الله } : جوابٌ لقسم محذوف . وقرىء « لِمنْ مَنِّ الله » ب
« مِنْ » الجارة ، و « مَنِّ » بالتشديدِ مجرورٌ بها . وخَرَّجه الزمخشري على
وجهين ، أحدُهما : أَن يكونَ هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديرُه : «
لِمنْ مَنِّ الله على المؤمنين مَنُّه أو بَعْثُه إذ بعث ، فحُذِف لقيام الدلالة ،
والثاني : أنه جُعِل المبتدأُ نفسَ » إذ « بمعنى وقت ، وخبرُها الجارُّ قبلَها
تقديرُه : لِمْن مَنِّ اللهِ على المؤمنين وقتُ بعثه ، ونَظَّره بقولِهم : »
أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ إذا كان قائماً « . وهذان الوجهانِ في هذه القراءةِ
مِمَّا يَدُلاَّن على رسوخِ قدمِه في هذا العلمِ .
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ عليه الوجَه الثاني بأنَّ » إذ « غيرُ متصرفةٍ ، لا
تكونُ إلا ظرفاً ، أو مضافاً إليها اسمُ زمان ، أو مفعولةً باذكر على قولٍ .
ونَقَل قولَ أبي علي فيها وفي » إذا « أنهما لا تكونان فاعلين ولا مفعولين ولا
مبتدأين . قال : » ولا يُحْفَظُ مِنْ كلامِهم : « إذ قام زيدٌ طويلٌ » يريد : وقتُ
قيامِه طويلٌ ، وبأنَّ تنظيرَه القراءةَ بقولِهم : « أخطبُ » إلى آخره خطأ ، من
حيث إنَّ المشبه مبتدأٌ والمُشَبَّه [ به ] ظرفٌ في موضعِ الخبرِ عند مَنْ يُعْرِبُ
هذا الإِعرابَ ، ومِنْ حيث إنَّ هذا الخبرَ الذي قد أبْرزه ظاهراً واجبُ الحذفِ
لسدِّ الحالِ مسدَّه ، نصَّ عليه النحويون الذين يُعْرِبونه هكذا فكيف يُبْرِزُه
في اللفظِ « . وجوابُ هذا الردِّ واضحٌ ، وليت أبا القاسم لم يَذْكُرْ تخريجَ هذه
القراءةِ حتى كنا نسمع .
والجمهورُ على ضَمِّ السين من » أنفسهم « أي : مِنْ جملتهم وجنسهم . وقرأت عائشة
وفاطمة والضحاك ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم بفتح الفاء من النَّفاسة ، وهي
الشرف أي : أشرفِهم نسباً وخَلْقاً وخُلُقاً . وعن علي عنه عليه السلام : » أنا
أَنْفَسُكم نَسَباً وحَسَباً وصِهْراً « .
وهذا الجارُّ يَحْتمل وجهين أحدُهما : أَنْ يتعلَّق بنفس » بعث « . والثاني : أن
يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ ل » رسولاً « فيكونُ منصوبَ المحلِّ ، ويَقْوى هذا
الوجهُ على قراءةِ فتح الفاء وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } في محل حال أو مستأنف
، وقد تقدَّم نظيرُها في البقرة .
وقوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي } هي » إنْ « المخففةُ واللام فارقة ،
وقد تقدَّم الكلامُ على تحقيق هذا والخلافِ فيه . إلاَّ أنَّ الزمخشري ومكيّاً هنا
حين جعلاها مخففةً قدَّرا لها اسماً محذوفاً ، فقال الزمخشري : » تقديرُه : وإنَّ
الشأنَ والحديثَ كانوا من قبل « . وقال مكي : » وأمَّا سيبويهِ فإنه يقول إنَّها
محففةٌ واسمُها مضمرٌ « ، والتقديرُ : على قولِه : » وإنهم كانوا « . وهذا ليس
بجيد ، لأنَّ » إنْ « المخففةَ إنما تعمل في الظاهرِ على غير الأفصحِ ، ولا عمل لها
في المضمر ، ولا يُقَدَّرُ لها اسمٌ محذوفٌ البتَّةَ ، بل تُهْمَلُ أو تعمل على ما
تقدَّم ، مع أنَّ الزمخشري لم يُصَرِّحْ بأنَّ اسمَها محذوفٌ ، بل قال : » إنْ هي
المخففةُ واللامُ فارقةٌ ، وتقديرُه : وإنَّ الشأن والحديثَ كانوا « فقد يكونُ هذه
تفسيرَ معنىً لا إعرابٍ .
وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ
والثاني : في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعولِ في » يُعَلِّمُهم « وهو الأظهرُ .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
قوله
تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ } : الهمزةُ للإِنكار ، وجَعَلَها ابن عطية
للتقرير ، والواوُ عاطفةٌ ، والنيةُ بها التقديمُ على الهمزةَ على ما تقرر . وقال
الزمخشري : « و » « لَمَّا » نصبٌ بقلتم ، و « أصابَتْكم » في محل الجر بإضافة «
لَمَّا » إليه ، وتقديره ، « قلتم حين أصابتكم » و « أنَّى » هذا نُصِب لأنه مقولٌ
والهمزةُ للتقريعِ والتقريرِ . فإنْ قلت : علامَ عَطَفَتِ الواوُ هذه الجملةَ؟ قلت
: على ما مضى من قصةِ أُحُد من وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } ،
ويجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على محذوفٍ تقديرُه : أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ كذا «
انتهى .
أمَّا جَعْلُه » لَمَّا « بمعنى » حين « أي ظرفاً فهو مذهبُ الفارسي ، وقد تقدَّم
تقريرُ المذهبين ، وأمَّا قولُه : » عَطْفٌ على قصةِ أُحُد «؛ فهذا غيرُ مذهبِه؛
لأنَّ الجاريَ من مذهبه إنما هو تقديرُ جملةٍ يُعْطَفُ ما بعد الواوِ عليها أو
الفاءِ أو ثم كما قَرَّره هو في الوجه الثاني .
و » أنى هذا « أنَّى : بمعنى » مِنْ أين « كما تقدَّم في قولِه { أنى لَكِ هذا } [
آل عمران : 37 ] . ويَدُلُّ عليه قولُه : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } و { مِنْ
عِندِ الله } قاله الزمخشري . ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الظرفَ إذا وقَعَ خبراً لا
يُقَدَّر داخلاً عليه حرفُ جر غيرُ » في « ، » أمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخلاً عليه
« مِنْ » فلا ، لأنه إنما انتصبَ على إسقاطِ « في » ولذلك إذا أُضْمِر الظرفُ
تعدَّى إليه [ الفعلُ ] ب « في » إلاَّ أَنْ يُتََّسَعَ فيه . قال : « فتقديرُه
غيرُ سائغٍ واستدلاله بقولِه : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } { مِنْ عِندِ الله }
وقوفٌ مع مطابقةِ السؤالِ للجواب في اللفظِ وذُهولٌ عن هذه القاعدةِ » . واختار
الشيخُ أنَّ « أَنَّى » بمعنى « كيف » قال : « وأنَّى سؤالٌ عن الحالِ هنا ، ولا
تناسِبُ أَنْ تكونَ بمعنى » أين « أو » متى «؛ لأنَّ الاستفهامَ لم يَقَعْ عن
مكانٍ ولا زمانٍ هنا ، إنما وقع عن الحالِ التي اقتضَتْ لهم ذلك ، سألوا عنها على
سبيل التعجُّبِ ، وجاءَ الجوابُ من حيثُ المعنى لا من حيث اللفظُ في قولِه : {
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } . قال : » والسؤالُ « ب » أنَّى « سؤالٌ عن
تعيين كيفيةِ حصولِ هذا الأمرِ ، والجوابُ بقولِه : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }
يضمَّن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السببِ تتعيَّن الكيفيةُ مِنْ حيث المعنى ، لو
قيل على سبيلِ التعجبِ : كيف لا يَحُجُّ زيدٌ الصالحُ!! فقيل في جوابه : » لعدم
استطاعته « لحصل الجوابُ وانتظم من المعنى أنه لا يَحُجُّ وهو غيرُ مستطيعٍ »
انتهى .
أمَّا
قولُه : « لا يُقَدَّر الظرفُ بحرفِ جرٍ غير » في « فالزمخشري لم يُقَدِّر » في «
مع » أنَّى « حتى يلزَمَه ما قال ، إنما جَعَل » أنَّى « بمنزلةِ » من أين « في
المعنى . وأمَّا عدوله عن الجوابِ المطابقِ لفظاً فالعكسُ أولى .
وقوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محلِّ رفعٍ صفةً ل » مصيبة « . و » قلتم « على
مذهبِ سيبويه جوابُ ل » لَمَّا « ، وعلى مذهبِ الفارسي ناصبٌ لها ، على حَسَبِ ما
تقدَّم من مذهبيهما . والضميرُ في قوله » قل « هو راجع على المصيبة من حيث المعنى
. ويجوز/ أن يكون على حذف مضاف مُرَاعَىً أي : سببُها ، وكذلك الإِشارةُ بقولِه :
» أنّى هذا « لأنَّ المرادَ المصيبةُ .
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
قوله
تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ } : « ما » موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ
بالابتداء . و { فَبِإِذْنِ الله } الخبر ، وهو على إضمارٍ تقديرُه : فهو بإذنِ
الله ، ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو : « الذي يأتيني فله
درهم » وهذا على ما قَرَّره الجمهورُ مُشْكِلٌ ، وذلك أنهم قَرَّروا أنه لا يجوز
دخولُ هذه الفاء زائدةً في الخبر إلا بشروط ، منها أن تكون الصلة مستقبلة في
المعنى ، وذلك لأنَّ الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط ، والشرط إنما يكونُ في
الاستقبالِ لا في الماضي ، لو قلت : « الذي أتاني أمس فله درهم » لم يَصِحَّ ، و «
أصابَكم » هنا ماضٍ في المعنى لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فكيف جاز دخولَ هذه الفاءِ؟
وأجابوا عنه بأنه يُحْمَلُ على التبيين أي : « وما تبَيَّن إصابته إياكم » كما
تأوَّلوا : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 27 ] أي : إنْ
تَبَيَّن ، وهذا شرطٌ صريح . قلت : وإذا صح هذا التأويل فَلتُجْعل « ما » هنا
شرطاً صريحاً ، وتكونُ الفاء داخلةً وجوباً لكونِها واقعة جواباً للشرط . وقال ابنُ
عطية : « يَحْسُن دخولُ الفاءِ إذ1ا كان سببَ الإِعطاءِ ، وكذلك ترتيبُ هذه ،
فالمعنى إنما هو : وما أَذِن اللهُ فيه فهو الذي أصابكم ، لكنْ قَدَّم الأهَمَّ في
نفوسِهم والأقربَ إلى حِسِّهم . والإِذْنُ : التمكين من الشيء مع العلم به » وهذا
حسنٌ مِِنْ حيث المعنى ، فإنَّ الإِصابةَ مترتبةٌ على الإِذْن من حيث المعنى .
وأشارَ بقولِه « الأهَمَّ والأَقربَ » إلى ما أصابَهم يوم التقى الجَمْعان .
قوله : « وَلِيعٍلَمَ » في هذه اللامِ قَوْلان : أحدُهما : أنها معطوفةٌ على معنى
قوله : { فَبِإِذْنِ الله } عطفَ سببٍ على سببٍ ، فتتعلَّقُ بما تتعلَّق به الباءُ
. والثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي : ولِيَعْلَمَ فَعَلَ ذلك ، أي : أصابكم
والأول أَوْلَى ، وقد تقدَّم أنَّ معنى « ولِيَعْلَمَ اللهُ كذا » أي تمييزاً
ويُظْهرَ للناسِ ما كان في عِلْمِه . وزعم بعضُهم أن ثم مضافاً أي : ليعلم إيمانَ
المؤمنين ونفاق الذين ، ولا حاجة إليه .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
قوله
تعالى : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ } : هذه الجملةُ تحتمل وجهين ،
أحدهما : أن تكونَ استئنافيةً ، أخبر الله أنهم مأمورون : إمَّا بالقتالِ وإمَّا بالدَّفعِ
أي : تكثيرِ سواد المسلمين : والثاني : أن تكون معطوفة على « نافقوا » ، فتكون
داخلةً في حَيِّز الموصول أي : وليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقولُ بكذا ، و «
تعالوا » « وقاتِلوا » كلاهما قائمٌ مقام الفاعل ل « قيل » لأنه هو المقولُ ، وقد
تقدَّم ما فيه . قال أبو البقاء : « وإنما لم يَأْتِ بحرفِ العطفِ يعني بين تعالوا
وقاتِلوا لأنه قَصَدَ أن تكونَ كلُّ من الجملتين مقصودةً بنفسِها ، ويجوز أَنْ
يُقال إنَّ المقصودَ هو الأمرُ بالقتال ، و » تعالَوا « ذَكَر ما لو سَكَتَ عنه
لكان في الكلام ما يَدُلُّ عليه ، وقيل : الأمر الثاني حال » . يعني بقوله : «
وتعالوا ذكرَ ما لو سَكَت » أي : المقصودُ إنما هو أمرُهم بالقتالِ لا مجيئُهم
وحدَه ، وجَعْلُه « قاتلوا » حالاً من « تعالوا » فاسدٌ؛ لأنَّ الجملة الحالية
يُشْترط أن تكون خبريةً وهذه طلبيةٌ .
قوله : { أَوِ ادفعوا } « أو » هنا على بابِها من التخييرِ والإِباحة . وقيل :
بمعنى الواو لأنه طَلَبَ منهم القتالَ والدفعَ ، والأولُ هو الصحيح . وقوله : «
قالوا : لو نعلمُ » إنما لم يأتِ في هذه الجملةِ بحرفِ عطفٍ لأنها جوابٌ لسؤالِ
سائلٍ : كأنه قيل : فما قالوا لَمَّا قيل لهم ذلك؟ فأُجيب بأنهم قالوا ذلك . و «
نعلمُ » وإنْ كان مضارعاً فمعناه المُضِيُّ لأن « لو » تُخَلِّص المضارع إذ كانت
لِما سيقع لوقوع غيره [ للمضيّ ] . ونكَّر « قتالاً » أي : لو عَلِمْنا بعضَ قتالٍ
ما .
قوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ } « هم » مبتدأٌ و « أقربُ » خبرُه
، وهو أفعلُ تفضيلٍ ، و « للكفر » متعلقٌ به ، وكذلك « للإِيمان » . فإنْ قيل : «
لا يتعلَّقُ حرفا جر متحدان لفظاً ومعنىً بعامل واحدٍ ، إلاَّ أن يكون أحدُهما
معطوفاً على الآخر أو بدلاً منه ، فكيف تعلَّقاً ب أقرب »؟ فالجواب أنَّ هذا خاصٌّ
بأفعلِ التفضيل قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإنَّ قولَك : « زيدٌ أفضلُ من عمرو
» معناه : يزيدُ فضلُه على فضل عمر . وقال أبو البقاء : « وجاز أن يعملَ » أقربُ «
فيهما لأنهما يُشْبِهان الظرف ، وكما عمل » أطيبُ « في قولهم : » هذا بُسْراً
أطيبُ منه رُطباً « في الظرفينِ المقدَّرين ، لأنَّ » أفعلَ « يَدُلُّ على معنيين
: على أصل الفعل وزيادتِه ، فيعملُ في كلِّ واحدٍ منهما بمعنى غيرِ الآخر ،
فتقديرُه : يَزيدُ قربُهم إلى الكفرِ على قُرْبِهم إلى الإِيمان » .
ولا
حاجة إلى تشبيه الجارَّيْنِ بالظرفين ، لأن ظاهره أن المسوِّغَ لتعلُّقِهما بعاملٍ
واحدٍ شِبْهُهُما بالظرفين ، وليس كذلك ، وقولُه : « الظرفين المقدرين » يعني أنَّ
المعنى : هذا في أوانِ بُسْرِيَّتِه أطيبُ منه أوانَ رُطَبِيَّتِه .
و « أقربُ » هنا من القُرْب الذي هو ضد البُعْد ، ويتعدَّى بثلاثةِ حروفٍ : اللام
و « إلى » و « مِنْ » ، تقولُ : قَرُبْتُ لك وإليك ومنك ، فإذا قلت : « زيدٌ أقربُ
من العلمِ من عمروٍ » ف « مِنْ » الأولى المُعَدِّيةُ لأصلِ معنى القرب ،
والثانيةٌ هي الجارة للمفضولِ . وإذا تقرَّر هذا فلا حاجةَ إلى ادِّعاء أنَّ
اللامَ بمعنى إلى .
و « يومئذ » متعلِّقٌ ب « أقربُ » ، وكذا « منهم » ، و « مِنْ » هذه هي الجارَّةُ
للمفضولِ بعد أَفْعل ، وليسَتْ هي المُعَدِّيةَ لأصلِ الفعل . ومعنى { هُمْ
لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } أنهم كانوا قبلَ هذا
الوقتِ كاتمين للنفاق ، فكانوا في الظاهرِ أبعدَ مِنَ الكفر ، فلمَّا ظَهَرَ منهم
ما كانوا يكتُمُونه صاروا أقربَ للكفر .
و « إذ » مضافَةٌ لجملةٍ محذوفةٍ عُوِّضَ منها التنوينُ كما تَقَدَّم تقريرُه ،
وتقديرُ هذه الجملةِ ، « هم للكفرِ يومَ إذ قالوا : لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم »
وقيل : المعنى على حَذْفِ مضافٍ أي : هم لأهلِ الكفر أقربُ لأهلِ الإِيمان .
وفُضِّلوا هنا على أنفسِهم باعتبارِ حالين ووقتين . ولولا ذلك لم يَجُزَ . تقولُ :
« زيدٌ قاعداً أفضلُ منه قائماً » أو : « زيدٌ قاعداً اليومَ أفضلُ منه قاعداً
غداً » ولو قلت : « زيدٌ اليومَ قاعداً أفضلُ منه اليومَ قاعداً » لم يجز .
وحكى النقاش عن بعض المفسرين أنَّ « أقرب » هنا ليست من معنى القرب الذي هو ضد
البعد ، وإنما هي من القَرَب بفتح القاف والراء ، وهو طَلَب الماء ، ومنه « قاربَ
الماء » ، ليلةُ القَرَب : ليلةُ الورود ، فالمعنى : هم أطلبُ للكفر ، وعلى هذا
فتتعيَّن التعديةُ باللام ، على حَدِّ قولك : « زيدٌ أضربُ لعمروٍ » .
قوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها
مستأنفةٌ لا محلَّ لها . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في : «
أقرب » أي : قَرُبوا للكفر قائلين هذه المقالة . وقوله : « بأفواهِهم » قيل :
تأكيدٌ كقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
والظاهرُ أنَّ القولَ يُطلق على اللسانيّ والنفسانيّ فتقييدُه بأفواههم تقييدُ
لأحدِ محتملين ، اللهم إلا أَنْ يُقال : إنَّ إطلاقَه على النفساني مجازٌ . قال الزمخشري
: « وذِكْرُ القلوبِ مع الأفواه تصويرٌ لنفاقِهم ، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم
فقط » وبهذا الذي قاله الزمخشري ينتفي كونُه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة .
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
قوله
تعالى : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } : جَوَّزوا في موضع « الذين » الألقابَ
الثلاثة : الرفعَ والنصبَ والجرَّ ، فالرفعُ من ثلاثة أوجه ، أحدها : أَنْ يكونَ
مرفوعاً على خبرِ مبتدأ محذوف تقديره : هم الذين . الثاني : أنه بدل من واو «
يكتمون » . الثالث : أنه مبتدأ ، والخبرُ قولُه : { قُلْ فَادْرَءُوا } ولا بد من
حَذْفِ عائدٍ تقديرُه : قل لهم فادرؤوا . والنصبُ من ثلاثة أوجه أيضاً ، أحدُها :
النصبُ على الذم أي أذُمُّ الذين قالوا . والثاني : أنه بدل من « الذين نافقوا »
الثالث : أنه صفةٌ لهم . والجَرُّ من وجهين : البدل من الضميرِ في « بأفواهِهم » ،
أو من الضمير في « قلوبِهم » كقولِ الفرزدق :
1490 على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً ... على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ
بجر « حاتم » على أنه بدلٌ من الهاءِ في « جوده » ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه
المسألة .
وقال الشيخ : وجَوَّزوا في إعرابِ « الذين » وجوهاً : الرفع على النعت ل « الذين
نافقوا » ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من الواو في « يكتمون »
، والنصبُ فذكره إلى أخره . وهذا عجيبٌ منه لأنَّ « الذين نافقوا » منصوبٌ بقوله «
وليعلَم » ، وهم في الحقيقة عَطْفٌ على « المؤمنين » ، وإنما كَرَّر العاملَ
توكيداً ، والشيخُ لا يَخْفى عليه ما هو أشكلُ من هذا ، فيُحتمل أن يكونَ تبع غيره
في هذا السهو ، وهو الظاهر في كلامه ، ولم يَنْظُر في الآية اتكالاً على ما رآه
منقولاً ، وكثيراً ما يقع الناس فيه ، وأَنْ يُعْتَقَدَ أنَّ « الذين » فاعلٌ
بقوله : « وليعلَم » أي : « فَعَلَ الله ذلك ليَعْلم هو المؤمنين وليَعْلم
المنافقون » ولكنَّ مثل هذا لا ينبغي أن يجوزَ البتة .
قوله : { وَقَعَدُواْ } يجوز في هذه الجملة وجهان أحدهما : أن تكون حالية من فاعل
« قالوا » و « قد » مرادةٌ ، أي : وقد قعدوا ، ومجيء الماضي حالاً بالواو وقد ، أو
بأحدهما ، أو بدونهما ثابتٌ من لسان العرب . والثاني : أنها معطوفةٌ على الصلةِ
فتكونُ معترضةً بين « قالوا » ومعمولِها وهو « لو أطاعونا » .
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين } : مفعول أول ، و « أمواتاً » مفعولٌ ثان ،
والفاعلُ : إمَّا ضميرُ كل مخاطب أو ضميرُ الرسول عليه السلام كما تقدَّم في
نظائره .
وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه « يَحْسَبَنَّ » بياء الغيبة . وفي الفاعلِ
وجهان ، أحدهما : أنه مضمرٌ : إمَّا ضميرُ الرسول ، أو ضمير مَنْ يَصْلُح
للحُسْبان أَيِّ حاسبٍ . والثاني : قاله الزمخشري وهو أن يكون « الذين قُتِلوا »
قالِ : « ويجوزُ أَنْ يكون » الذين قُتِلوا « فاعلاً ، والتقدير : ولا
يَحْسَبَنَّهم الذين قتلوا أمواتاً أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً .
فإنْ قلت : كيف جاز حَذْفُ المفعول الأول؟ قلت : هو في الأصل مبتدأ فَحُذِف كما
حُذِف المبتدأ في قوله : » بل أحياءٌ « أي : هم أحياءٌ ، لدلالة الكلام عليهما .
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديمِ الضميرِ على مفسَّره ، وذلك
لا يجوزُ إلا في أبوابٍ محصورةٍ ، وعدَّ باب : رُبَّه رجلاً ، ونِعْم رجلاً زيدٌ ،
والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه ، والبدلُ على خلاف فيه ، وضمير الأمر .
قال : » وزاد بعضُ أصحابنا أن يكون [ الظاهر ] المفسِّر خبراً ، وبأنّ حَذْفَ أحد
مفعولي « ظن » اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليلٌ جداً ، نَصَّ عليه
الفارسي ، ومَنَعه ابن ملكون البتة « .
وهذا من تَحَمُّلاته عليه . أمَّا قولُه » يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره «
فالزمخشري لم يقدِّرْه صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود ، ولذلك لَمَّا أراد أن
يُقَدَّر الصناعة النحويةَ قَدَّره بلفظ » أنفسهم « المنصوبةِ وهي المفعول الأول ،
وأظنُ أنَّ الشيخَ تَوَهَّم أنها مرفوعةٌ تأكيدٌ للضمير في » قُتلوا « ، ولم ينتبه
أنه إنما قَدَّرها مفعولاً أولَ منصوبةً . وأمَّا تمشيتُه قولَه على مذهب الجمهور
فيكفيه ذلك ، وما عليه من ابنِ مَلْكون؟ وستأتي مواضع يَضْطَرُّ هو وغيرُه إلى
حَذْفِ أحد المفعولين كما ستقف عليه قريباً . وتقدَّم الكلام على مادة » حَسِب «
ولغاتِها وقراءاتها .
وقرأ ابن عامر : » قُتِّلوا « بالتشديد ، وهشام وحده في » لو أطاعونا ما قُتِّلوا
« ، والباقون بالتخفيف . فالتشديد للتكثير ، والتخفيف صالح لذلك .
وقرأ الجمهور » أحياءٌ « رفعاً على » بل هم أحياء « وقرأ ابن أبي عبلة : » أحياءً
« وخَرَّجها أبو البقاء على وجهين ، أحدهما : أن تكون عطفاً على » امواتاً « قال :
» كما تقول : « ظننت زيداً قائماً بل قاعداً » . والثاني : وإليه ذهب الزمخشري
أيضاً أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ تقديره : بل أحسَبُهم أحياءً « . وهذا الوجه
سبق إليه أبو إسحاق الزجاج ، إلاَّ أنَّ الفارسي رَدَّه عليه في » الإِغفال « قال
: » لأنَّ الأمرَ تعيَّن فلا يجوزُ أن يُؤمر فيه بمحسبة ، ولا يَصِحُّ أن يُضْمَرَ
له إلا فعلُ المحسبة ، فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن تُضْمِر فعلاً غيرَ المحسبة :
اعتقِدْهم أو اجْعَلْهم ، وذلك ضعيفٌ إذ لا دلالة في الكلام على ما يُضْمَر «
انتهى .
وهذا
تحاملٌ من أبي عليّ . أمَّا قوله : « إنَّ الأمر تعيَّن » يعني أنَّ كونَهم أحياءً
أمرٌ متيقن ، فكيف يُقال فيه : « أَحْسَبُهم » بفعل يقتضي الشك؟ وهذا غيرُ لازم
لأنَّ « حَسِبَ » قد تأتي لليقين . قال :
1491 حَسِبْتُ التُّقَى والجودَ خيرَ تجارةٍ ... رَباحاً إذا ما المرءُ أَصبح
ثاقِلا
وقال آخر :
1492 شهدْتِ وفاتوني وكنتُ حَسِبْتُني ... فقيراً إلى أَنْ يَشْهدوا وتَغِيبي
ف « حَسِب » في هذين البيتين لليقين ، لأنَّ المعنى على ذلك ، وقوله : « وذلك ضعيف
» يعني من حيث عدمُ الدلالةِ اللفظيةِ ، وليس كذلك ، بل إذا أَرْشَد المعنى إلى
شيء يُقَدَّر ذلك الشيءٌ لدلالة المعنى عليه من غير ضَعْف ، وإنْ كان دلالةُ
اللفظِ أحسنَ . وأمَّا تقديرُه هو « أو اجْعَلْهم » قال الشيخ : « هذا لا يَصِحُّ
البتة سواء جَعَلْتَ » أجْعَلْهم « بمعنى : » اخْلُقْهم أو صَيِّرهم أو سَمِّهم أو
الْقَهُمْ « .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ خبراً ثانياً
ل » أحياءٌ « على قراءة الجمهور . الثاني : أن يكونَ ظرفاً ل » أحياء « لأنَّ
المعنى : يَحْيَوْن عند ربِّهم . الثالث : أن يكونَ ظرفاً ل » يُرْزقون « أي :
يقعُ رِزْقُهم في هذا المكانِ الشريف . الرابع : أن يكون صفةً ل » أحياء « ،
فيكونَ في محلِّ رفعٍ على قراءةِ الجمهورِ ونصبٍ على قراءة ابن أبي عبلة . الخامس
: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في » أحياء « والمرادُ بالعندية المجازُ
عن قربهم بالتكرمة . قال ابن عطية : » هو على حَذْفِ مضاف إي : عند كرامةِ ربهم «
ولا حاجةَ إليه ، لأنَّ الأولَ أليق .
قوله : { يُرْزَقُونَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ خبراً ثالثاً
لأحياء ، أو ثانياً إذا لم تَجْعَلِ الظرفَ خبراً . الثاني : أنه صفةٌ ل » أحياء «
بالاعتبارين المتقدمين ، فإِنْ أعربنا الظرفَ وصفاً أيضاً فيكونُ هذا جاءَ على
الأحسنِ ، وهو أنه إذا وُصِف بظرفٍ وجملةٍ فالأحسنُ تقديمُ الظرفِ وعديلِه لأنه
أقربُ إلى المفرد . الثالث : أنه حالٌ من الضمير في » أحياء « أي : يَحْيَون
مرزوقين . والرابع : أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الظرف ، والعاملُ فيه
في الحقيقة العاملُ في الظرف . قال أبو البقاء في هذا الوجه : » ويجوزُ أن يكونَ
حالاً من الظرفِ إذا جَعَلْتَه صفةً « أي : إذا جَعَلْت الظرف ، وليس ذلك مختصاً
بجَعْلِه صفةً فقط ، بل لو جَعَلْتَه حالاً جاز ذلك أيضاً ، وهذه تُسَمَّى الحالَ
المتداخلة ، ولو جَعَلْتَه خبراً كان كذلك .
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
قوله
تعالى : { فَرِحِينَ } : فيه خمسةُ أوجه ، أحدها : أن يكونَ حالاً من الضمير في «
أحياءٌ » . الثاني : من الضمير في الظرف . الثالث : من الضمير في « يُرْزَقون » :
الرابع أنه منصوب على المدح . الخامس أنه صفةٌ ل « أحياء » ، وهذا يختصُّ بقراءة
ابن أبي عبلة . و « بما » يتعلَّقُ ب « فرحين » .
قوله : { مِن فَضْلِهِ } في « مِنْ » وجهان ، أحدُهما : أنَّ معناها السببيّة أي :
بسبب فضله أي : الذي آتاهم الله متسبِّبٌ عن فضله . الثاني : أنها لابتداءِ الغاية
، وعلى هذين الوجهين تتعلق بآتاهم . الثالث : أنها للتعبيضِ أي : بعضَ فضله ، وعلى
هذا فتتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير العائد على الموصول ، ولكنه حُذِف
والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فضله .
قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكونَ من باب عطفِ
الفعلِ على الاسم لكونِ الفعلِ في تأويلهِ ، فيكونُ عطفاً على « فرحين » كأنه قيل
: فَرِحين ومستبشرين ، ونَظَّروه بقوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] . والثاني : أنه أيضاً/ يكونُ من باب عطف الفعل على
الاسم ، لكنْ لأنَّ الاسم في تأويل الفعل . قال أبو البقاء : « هو معطوفٌ على »
فرحين «؛ لأنَّ اسم الفاعل هنا يُشْبه الفعل المضارع » يعني أنَّ « فرحين » بمنزلة
« يفرحون » ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ
} [ الحديد : 18 ] ، والتقديرُ الأولُ أَوْلى ، لأنَّ الاسمَ وهو « فرحين » لا
ضرورةَ بنا إلى أَنْ نجعلَه في مَحلِّ فعلٍ مضارعٍ حتى نتأَوَّل الاسمَ به ،
والفعلُ فرعٌ عليه ، فينبغي أن يُرَدَّ إليه ، وإنما فعلنا ذلك في الآيةِ لأنَّ أل
الموصولةَ بمعنى الذي ، و « الذي » لا تُوصَلُ إلا بجملة أو شبههِا ، وذلك
الشَّبَهُ في الحقيقةِ يِتأوَّل بجملة .
الثالث : أَنْ يكونَ مستأنفاً ، الواو للعطف عَطَفْت فعليةً على اسمية .
الرابع : أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي : وهم يستبشرون ، وحينئذ يجوز وجهان ،
أحدُهما : أن تكونَ الجملةُ حاليةً من الضمير المستكِنِّ في « فرحين » أو من
العائد المحذوف من « آتاهم » ، وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جَعْلِنا إياها
حالاً لأنَّ المضارع المثبت لا يجوز اقترانُه بواو الحال لِما تقدَّم غيرَ مرة .
والثاني من هذين الوجهين : أن تكونَ استئنافية عَطَفَتْ جملةً اسميةً على مثلها .
واستفعل هنا ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجردِ نحو : « استغنى الله ، واستمجد
المَرْخ والعَفار » بمعنى غَنِي ومَجُد . وقد سمع « بَشِر الرجل » بكسر العين
فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابن عطية . ويجوز أن يكونَ مطاوعَ أبشر نحو : « أكأنه
فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأَحْكمه فاستحكم » وهو كثير .
وجَعَله
الشيخ أظهرَ مِنْ حيث إنَّ المطاوعة تدلُّ على الانفعال عن الغير ، فحصلت لهم
البشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزمُ إذا كان بمعنى المجرد .
قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارِّ وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب «
يَلْحقوا » على معنى أنهم قد بَقُوا بعدهم ، وهم قد تقدَّموهم . والثاني : أن
يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من فاعل « يلحقوا » أي : لم يلحقوا بهم حالَ
كونِهم مُتَخَلِّفين عنهم أي : في الحياة .
قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ } فيه وجهان أحدُهما : أنَّ « أَنْ » وما في حَيِّزها في
محل جر بدلاً من « بالذين » بدلَ اشتمال أي : يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم فهم
المُسْتَبْشَرُ به في الحقيقة لأنَّ الذواتِ لا يُسْتَبْشَر بها . والثاني : أنها
في محل نصب على أنها مفعولٌ من أجله أي : لأنهم لا خوف . و « أَنْ » هذه هي
المخففةُ ، واسمها ضمير الشأن ، وجملةُ النفي بعدها في محلِّ الخبر ، والذواتُ لا
يُسْتبشر بها كما تقدَّم فلا بد من حذف مضاف مناسبٍ ، والتقدير : ويستبشرون
بسلامةِ الذين ، أو لُحوقهم بهم في الدرجة .
وقال مكيّ بعد أَنْ حَكَى أنها بدلُ اشتمال : « ويجوز أن تكون » أَنْ « في موضع
نصب على معنى » بأن لا « . وهذا هو بعينِه هو وجه البدلِ المتقدم ، غايةُ ما في
الباب أنه أعاد مع البدلِ العاملَ في تقديره ، اللهم أَنْ يعني أنها وإنْ كانت
بدلاً من » الذين « فليست في محلِّ جر بل في محلِّ نصب ، لأنها سقطت منها الباءُ
فإنَّ الأصل » بأَنْ لا « و » أَنْ « إذا حُذِف منها حرفُ الجر كانت في محلِّ نصب
على رأي سيبويه والفراء . وهو بعيد .
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قوله
تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ } : قرأ الكسائي بكسر « إنَّ » على الاستئناف
. وقال الزمخشري : « إنَّ قراءةَ الكسرِ اعتراضٌ » واسشكل كونَها اعتراضاً ،
لأنَّها لم تقع بين شيئين متلازمين « ويمكن أن يُجاب عنه بأن » الذين استجابوا «
يجوز أن يكون تابعاً ل » الذين لم يلحقوا « نعتاً أو بدلاً على ما سيأتي ، فعلى
هذا يُتَصَوَّرُ الاعتراض . ويؤيِّد كونَها للاستئنافِ قراءةُ عبد الله ومصحفه : »
والله لا يُضيع « . وقرأ باقي السبعة بالفتح عطفاً على قوله : » بنعمةٍ « لأنها
بتأويل مصدر أي : يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ منه وعدمِ إضاعةِ اللهِ أجرَ
المؤمنين .
وقوله : { يَسْتَبْشِرُونَ } من غيرِ حرف عطف فيه أوجه ، أحدها : أنه استئنافٌ
متعلِّق بهم أنفسِهم دونَ » الذين لم يلحقوا بهم « لاختلاف متعلَّق البشارتين .
والثاني : أنه تأكيدٌ للأول لأنه قَصَد بالنعمة والفضل بيانَ متعلَّق الاستبشار
الأول ، وإليه ذهب الزمخشري . الثالث : أنه بدل من الفعل الأول ، ومعنى كونه بدلاً
أنه لَمَّا كان متعلَّقُه بياناً لمتعلَّق الأول حَسُن أن يقال : بدلٌ منه ،
وإلاَّ فكيف يُبْدَلُ فِعْلٌ مِنْ فعلٍ موافقٍ له لفظاً ومعنى؟ وهذا في المعنى
يََؤُول إلى وجه التأكيد . والرابع : أنه حال من فاعل » يحزنون « ، ويحزنون عامل
فيه أي : ولاهم يحزنون حالَ كونهم مستبشرين بنعمة . وهو بعيدٌ لوجهين ، أحدهما :
أنَّ الظاهرَ اختلافُ مَنْ نَفَى عنه الحزن ومن استَبْشَر . والثاني : أنَّ نَفْيَ
الحزن ليس مقيداً ليكون أبلغَ في البشارة ، والحالُ قيدٌ فيه فيفوتُ هذا المعنى .
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
قوله
تعالى : { الذين استجابوا } : فيه ستة أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : {
لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ } . وقال مكيّ هنا : « وخبرُه {
مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح } » . وهذا غلطٌ لأنَ هذا ليس بمفيد البتة ، بل
« مِنْ بعد » متعلِّقٌ باستجابوا . والثاني : خبر مبتدأ مضمر أي : هم الذين .
والثالث : أنه منصوبٌ بإضمار « أعني » . وهذان الوجهان يَشْملُهما قولُك « القطع »
. الرابع : أنه بدل من « المؤمنين » . الخامس : أنه بدل من « الذين لم يلحقوا »
قاله مكي . السادس : أنه بدلٌ من « المؤمنين » . ويجوز فيه وجهٌ سابع : وهو أن
يكون نعتاً لقوله : « الذين لم يلحقوا » قياساً على جَعْلِه بدلاً منهم عند مكي .
و « ما » في « بعدما أصابَهم » مصدريةٌ ، و « للذين أحسنوا » خبرٌ مقدم .
و « منهم » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ من الضمير في « أحسنوا » وعلى هذا ف «
مِنْ » تكون تبعيضيةً . والثاني : أنها لبيان الجنس . قال الزمخشري : « مثلُها في
قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم } [ الفتح : 29
] لأنَّ الذين استجابوا قد أحسنوا كلُّهم واتقوا لا بعضُهم » . و « أجرٌ » مبتدأ
مؤخر ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره : إمَّا مستأنفة أو حالٌ إن لم نُعْرِبْ
الذين استجابوا مبتدأ ، وإمَّا خبرٌ إنْ أعربناه مبتدأ كما تقدَّم تقريره .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
قوله
تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } : فيه من الأوجه ما تقدم في « الذين » قبله
، إلاَّ في رفعه بالابتداء .
قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } في فاعلِ « زاد » ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه
ضمير يعود على المصدر المفهوم من « قال » أي : فزادهم القولُ بكيت وكيت إيماناً
نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] . والثاني : أنه يعودُ على
المقولِ الذي هو { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } كأنه قيل : قالوا
لهم هذا الكلامَ فزادهم إيماناً . الثالث : أنه يعود على الناس ، إذ أريد واحدٌ
فردٌ كما نقل في القصة ، وسبب النزول وهو نُعَيْم بن مسعود الأشجعي ، نقل هذه
الثلاثةَ الأوجهَ الزمخشري . واستضعف الشيخ الوجهين الأخيرين ، قال : « مِنْ حيث
إنَّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به لا هو في نفسه ، ومن حيث إنَّ الثاني
إذا أُطلْق على المفردِ لفظُ الجمع مجازاً فإنَّ الضمائرَ تَجْري على ذلك الجمعِ
لا على المفرد . تقول : » مفارقُه شابَتْ « باعتبارِ الجمع ، ولا يجوز : »
مفارِقُه شاب « باعتبار : مَفْرِقُه شاب » .
وفيما قاله الشيخ نظرٌ ، لأنَّ المقولَ هو الذي في الحقيقة حَصَل به زيادةُ
الإِيمان . وأمَّا قوله : « تَجرْي على الجمع لا على المفرد » فغير مُسَلَّم .
ويَعْضُده أنهم نَصُّوا على أنه يجوزُ اعتبارُ لفظِ الجمعِ الواقعِ موقعَ المثنى
تارةَ ومعناه أخرى فأجازوا : « رؤوس الكبشين قطعتُهُنَّ وقطعتهما » وإذا ثَبَتَ
ذلك في الجمع الواقعِ موقعَ المثنى فليَجُزْ في الواقعِ موقع المفرد . ولقائلٍ
أَنْ يُفَرِّق بينهما وهو أنه إنما جازَ أَنْ يُراعَى معنى التثنيةِ المُعَبَّرِ
عنها بلفظ الجمع لقَرْبها منه ، من حيث إنَّ كلاً منهما فيه ضَمُّ شيء إلى مثلِه
بخلافِ المفردِ فإنه بعيدٌ من الجمعِ لعدَمِ الضمِّ فلا يَلْزَمُ مِنْ مراعاة معنى
التثنية في ذلك مراعاةُ معنى المفرد .
قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } عَطَفَ « قالوا » على « فزادهم » والجملةُ
بعد القولِ في محلِّ النصب به . وقد تقدَّم أنَّ « حَسْب » بمعنى اسم الفاعل أي :
« مُحْسِب » بمعنى الكافي ، ولذلك كانت إضافتُه غيرَ محضةٍ عند قوله في البقرة : {
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } [ الآية : 206 ] .
وقوله : { وَنِعْمَ الوكيل } / المخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ أي الله .
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
قولُه
تعالى : { بِنِعْمَةٍ } : فيه وجهان أحدهما : أنها متعلقةٌ بنفس الفعل على أنها
باءُ التعدية . والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضميرِ في «
انقلبوا » والباءُ على هذا للمصاحبةِ كأنه قيل : فانقلبوا ملتبسينَ بنعمةٍ
ومصاحبين لها .
قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } هذه الجملةٌ في محل نصب على الحال أيضاً ، وفي
ذي الحال وجهان أحدهما : أنه فاعلُ « انقلبوا » أي : انقلبوا سالمين من السوء . والثاني
: أنه الضميرُ المستكنُّ في « بنعمة » إذا كانت حلاً ، والتقديرُ : فانقلبوا
مُنَعَّمين بريئين من السوء ، والعامل فيها العاملُ في « بنعمة » فهما حالان
متداخلتان ، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب « لم » وفيها ضميرُ ذي الحال جاز
دخولُ الواو وعدمُه ، فمِن الأول قولُه تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ
وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] وقولُ كعب :
1493 لا تَأْخُذَنِّي بأقوالِ الوشاةِ ولم ... أُذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فِيَّ
الأقاويلُ
ومن الثاني هذه الآيةُ وقَولُه : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ
لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] ، وقولُ قيس بن الأسلت :
1494 وأضرِبُ القَوْنَسَ يوم الوغى ... بالسيفِ لم يَقْصُرْ به باعِي
وبهذا يُعْرف غلط الأستاذ ابن خروف حيث زعم أنه الواو لازمةٌ في مثل هذا ، سواءً
كان في الجملة ضميرٌ أم لم يكن .
قوله : { واتبعوا } يجوز في ِهذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها عطف على « انقلبوا
» . والثاني : أنها حال من فاعل « انقلبوا » أيضاً ، ويكونُ على إضمار « قد » أي :
وقد اتبعوا .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان } : « إنما » حرف مكفوف ب « ما » عن العمل ، وقد
تقدَّم القول فيها أولَ هذا الكتاب . وفي إعراب هذه الجملةِ خمسةُ أوجه ، أحدها :
أن يكون « ذلكم » مبتدأ و « الشيطان » خبره ، و { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } حالٌ
بدليل قوع الحال الصريحة في مثل هذا التركيب نحو : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود
: 72 ] { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
الثاني : أن يكونَ « الشيطانُ » بدلاً أو عطف بيان ، و « يُخَوِّفُ » الخبر ذكره
أبو البقاء . الثالث : أن كونَ « الشيطان » نعتاً لاسمِ الإِشارة ، و « يُخَوِّفُ
» الخبر ، على أن يُراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان . ذكره الزمخشري . قال الشيخ :
« وإنما قال : » والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان « لأنه لا يكونُ نعتاً
والمرادُ به إبليس لأنه إذ ذاك يكون علماً بالغلبة كالعَيُّوق ، إذ هو في الأصل
صفةٌ ثم غَلب على إبليس » وفيه نظر . الرابع : أن يكون « ذلكم » ابتداءً وخبراً ،
و « يُخَوِّف » جملةً مستأنفة بيانٌ لشيطنته ، والمرادُ بالشيطان هو المُثَبِّط
للمؤمنين . الخامس : أن يكون : « ذلكم » مبتدأ ، و « الشيطانُ » مبتدأ ثانٍ ، و «
يُخَوِّف » خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُه خبر الأول قاله ابن عطية . وقال « وهذا
الإِعرابُ خيرٌ في تناسق المعنى من أن يكون » الشيطان « خبر » ذلكم « لأنه يَجِيء
في المعنى استعارةً بعيدة .
وَردَّ عليه الشيخ هذا الإِعرابَ إنْ كان الضمير في » أولياءه « عائداً على
الشيطان؛ لخلوِّ الجملة الواقعة خبراً مِنْ رابط يربطها بالمبتدأ وليست نفسَ
المبتدأ في المعنى نحو : » هِجِّيرى أبي بكر : لا إله إلا الله « ، وإن عاد على »
ذلكم « ويُراد بذلكم غيرُ الشيطان جاز ، ويصير نظيرَ : » إنما هند زيدٌ يضربُ
عبدها « والمعنى : إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطانُ يخوفكم أنتم أولياءَه أي
: أولياءَ الركب أو أولياء أبي سفيان .
والمشار إليه ب » ذلكم « هل هو عينٌ أو معنى؟ فيه احتمالان ، أحدهما : أنه إشارة
إلى ناس مخصوصين كنعيم وأبي سفيان وأشياعهما على ما تقدم . والثاني : أنه إشارة
إلى جميع ما جرى من أخبار الركب وإرسال أبي سفيان وجَزَعِ مَنْ جَزَعَ ، وعلى هذا
التقدير فلا بد من حذف مضاف أي : فِعْلَ الشيطان ، وقَدَّره الزمخشري : » قولَ
الشيطان « أي : قولَه السابق وهو { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم }
وعلى كلا التقديرين أعني كون الإِشارة لأعيانٍ أو معان فالإِخبار بالشيطان عن »
ذلكم « مجاز ، لأنَّ الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعالِ الصادرة من
الكفارِ ليست نفسَ الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جاز ذلك .
قوله
: { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدَّم ما محلُّه من الإِعراب ، والتضعيفُ فيه
للتعدية ، فإنه قبل التضعيف متعدٍّ إلى واحدٍ وبالتضعيفِ يكتسب ثانياً ، وهو من
باب أعطى ، فجوزُ حَذْفُ مفعوليه أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية
الكريمة يَحْتمل أوجهاً ، أحدها : أن يكون المفعولُ الأول محذوفاً تقديره :
يُخَوِّفكم أولياءه ، ويُقَوِّي هذا التقديرَ قراءةُ ابن عباس وابن مسعود هذه
الآيةَ كذلك ، والمراد بأوليائه هنا الكفارُ ، ولا بد من حذف مضاف أي : شَرَّ
أوليائه ، لأنَّ الذواتِ لا يُخاف منها . والثاني : أن يكونَ المفعول الثاني هو
المحذوف ، و « أولياءه » هو الأول ، والتقدير : يُخَوِّف أولياءه شر الكفار ،
ويكون المرادَ بأوليائه على هذا الوجه المنافقون ومَنْ [ في ] قلبه مرض مِمَّن
تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ، والمعنى : أنَّ تخويفه
بالكفار إنما يَحْصُل للمنافقين الذي هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يَصِل إليكم
تخويفُه . والثالث ذكره بعضهم أن المفعولين محذوفان ، و « أولياءه » نصب على
إسقاطِ حرف الجر ، والتقدير : يُخوِّفكم الشرَّ بأوليائه ، والباء للسبب أي : بسبب
أوليائه ، فيكونون هم آلة التخويف ، وكأن هذا القائل رأى قراءة أُبيّ والنخعي : «
يُخَوِّف بأوليائه » فظنَّ أن قراءة الجمهور مثلُها في الأصل ، ثم حُذِفت الباء ،
وليس كذلك ، بل تخريجُ قراءة الجمهور على ما تقدَّم ، إذ لا حاجة إلى ادِّعاء ما
لا ضرورة له . وأمَّا قراءةُ أُبَيّ فتحتمل الباءُ أن تكون زائدةً كقوله :
1495 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا
يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
فتكونُ كقراءةِ الجمهورِ في المعنى ، ويُحتمل أن تكونَ للسببِ والمفعولان محذوفان
كما تقدَّم تقريرهُ .
قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوبِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه
يعودُ على أوليائِه أي : فلا تَخافوا أَولياءَ الشيطان ، هذا إنْ أُريد بالأولياء
كفارُ قريش . والثاني : أن يعود على « الناس » من قوله : { إِنَّ الناس قَدْ
جَمَعُواْ لَكُمْ } إنْ كان المرادَ بأوليائه المنافقون . والثالث : أن يعودَ على
الشيطان على المعنى . قال أبو البقاء : « إنما جُمِع الضميرُ لأنَّ الشيطانَ جنس »
. والياءُ في قوله : « وخافونِ » من الزوائد ، فأثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحذفَها
وقفاً على قاعدتِه ، والباقون يحذفونها مطلقاً .
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابُه محذوفٌ أو متقدِّم عند مَنْ يرى ذلك
، وهذا من بابِ الإِلهاب والتهييج ، وإلاَّ فهم متلبِّسون بالإِيمان .
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
قوله
تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين } : قرأ نافع « يُحْزِنْك » بضم حرف المضارعة من
« أحزن » رباعياً في سائر القرِآن إلا التي في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع
الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] فإنه كالجماعة . والباقون بفتح الياء من حَزَنه
ثلاثياً ، فقيل : هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأَفْعَل بمعنىً ، وقيل : باختلافِ
معنى ، فَحَزَنَه جعل فيه حُزْناً نحو : دَهَنه وكَحَله أي : جعل فيه دُهْناً
وكُحْلاً ، وأحزنْتُه إذا جَعَلْتُه حزيناً ، ومثلُ حَزَنَه وأَحْزَنَه : فَتنَه
وأَفْتَنَه ، قال سيبويه : « وقال بعضُ الأعرابِ : أَحْزَنْتُ الرجل وأفْتَنْتُه
أي : جَعَلْتُه حزيناً وفاتناً » . وقيل : حَزَنْتُه أحدثْتُ له الحُزْنَ ،
وَأَحْزَنْتُه عَرَّضْتُه للحزن ، قاله أبو البقاء . وقد تقدَّم في البقرة اشتقاقُ
هذه اللفظة وما قيل فيها . وتقدَّم أيضاً أنه يُقال : حَزِن الرجلُ بالكسر ، فإذا
أرادوا تعديتَه عَدَّوْه بالفتحةِ فيقولون : « حَزَنْتُه » . ك « شَتِرَتْ عينه
وشَتَرها الله » . والحقُّ أَنَّ حَرَنَه وأَحْزَنَه لغتان فاشيتان لثبوتهما
متواترتين وإنْ كان أبو البقاء قال : « إنَّ أحزن لغةٌ قليلةٌ » .
ومِنْ عجيبِ ما اتفق أن نافعاً رحمه الله يقرأ هذه المادة من « أحزن » إلا التي في
الأنبياء كما تقدم ، وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرؤها من « حَزَنه »
ثلاثياً إلا التي في الأنبياء ، وهذا من الجمع بين اللغتين ، والقراءةُ سُنَّةٌ
مُتَّبَعةٌ .
ويُقْرأ : « يُسارعون » بالفتحِ والإِمالةِ . وقرأ النحوي : « يُسْرعون » من
أَسْرع في جميع القرآن . قال ابن عطية : « وقرءاةُ الجماعةِ أبلغُ ، لأنَّ الذي
يُسارعُ غيرَه أشدُّ اجتهاداً/ مِن الذي يُسْرِعُ وحده .
وقوله : » شيئاً « فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ أي : لا يَضُرُّونه شيئاً من
الضرر . والثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض أي : لن يضروه بشيء ، وهكذا كلُّ
موضعٍ أشبهه ففيه الوجهان .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قوله
تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } ؛ قرأ الجمهور «
يَحْسَبَنَّ » بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزجاج عن خلقٍ كثير كقراءةِ حمزة
إلا أنَّهم كسروا « إنما » ونصبوا « خيراً » وأنكرها ابن مجاهد ، وسيأتي إيضاح ذلك
، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر « إنما » ، وحكى عنه الزمخشري أيضاً أنه قرأ بكسر «
إنما » الأولى وفتح الثانية مع الغَيْبة . فهذه خمسُ قراءات .
فأمَّا قراءةُ الجمهور فتخريجُها واضحٌ ، وهو أنه يجوز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً
إلى « الذين » ، و « أنَّ » وما اتصل بها سادٌّ مسدَّ المفعولين عند سيبويه
ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش حَسْبما تقدم غير مرة . ويجوز أن يكون
مسنداً إلى ضمير غائب يُراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي : ولا يحسبن النبيُّ
عليه السلام ، فعلى هذا يكون « الذين كفروا » مفعولاً أول ، وأما الثاني فسيأتي
الكلام عليه في قراءة حمزة ، فتتَّحِدُ هذه القراءةُ على هذا الوجه مع قراءة حمزة
رحمه الله ، وسيأتي تخريجها . و « ما » يجوز أَنْ تكونَ موصولة اسمية ، فيكونُ
العائد محذوفاً لاستكمال الشروط ، أي : أنَّ الذي نُمْليه ، وأن تكونَ مصدرية أي :
إملاءنَا ، وهي اسم « أنَّ » و « خير » خبرُها . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ
أَنْ تكونَ كافةً ولا زائدةً ، إذ لو كانت كذلك لانتصَبَ » خيرٌ « ب » نُمْلي « ،
واحتاجت » أنَّ « إلى خبرٍ إذا كانت » ما « زائدةً ، أو قُدِّر الفعلُ يليها ،
وكلاهما ممتنعٌ » . انتهى . وهو من الواضحات ، وكتبوا « أنما » في الموضعين متصلةً
، وكان من حقِّ الأولى الفصلُ لأنها موصولة .
وأمَّا قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوالُ الناس وتخاريجُهم حتى إنه نُقِل عن أبي
حاتم أنها لحن . قال النحاس : « وتابعه على ذلك خلقٌ كثير » وهذا لا يُلْتفت إليه
لتواتُرها . وفي تخريجها ستةٌ أوجهٍ ، أحدها : أن يكون فاعلُ « تحسَبَنَّ » ضميرَ
النبي صلى الله عليه وسلم ، و { الذين كَفَرُواْ } مفعولٌ أولُ ، و { أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مفعولٌ ثانٍ . ولا بد على هذا التخريجِ مِنْ حَذْفِ مضافٍ
: أمَّا من الأولِ تقديرُه : « ولا تَحْسَبَنَّ شأنَ الذين كفروا » ، وإمَّا من
الثاني تقديرُه : « أصحابَ أنَّ إملاءنا خيرٌ لهم » ، وإنما احتجنا إلى هذا
التأويل؛ لأنَّ « أنما نُمْلي » بتأويلِ مصدرٍ ، والمصدرُ معنىً من المعاني لا
يَصْدُق على الذين كفروا ، والمفعولُ الثاني في هذا البابِ هو الأولُ في المعنى .
الثاني : أن يكونُ { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } بدلٌ من { الذين كَفَرُواْ } وإلى
هذا ذهب الكسائي والفراء وتَبِعهما جماعةٌ منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش .
قال
الكسائي والفراء : « وجهُ هذه القراءةِ التكريرُ والتأكيدُ ، والتقدير : ولا
تَحْسَبَنَّ الذين كفروا ولا تحْسَبَنَّ أنما نُمْلي » . قال الفراء : « ومثلُه :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ } [ الزخرف : 66 ] أي : ما
ينظرون إلاَّ أَنْ تأتِيَهم » انتهى . وقد رَدَّ بعضُهُم قول الكسائي والفراء
بأَنْ حَذْفَ المفعولِ الثاني في هذه الأفعالِ لا يجوزُ عند أحدٍ ، وهذا الردُّ
ليس بشيءٍ ، لأنَّ الممنوعَ إنما هو حَذْفُ الاقتصارِ ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
وقال ابن الباذش : « ويكونُ المفعولُ الثاني حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه ، ويكونُ
التقديرُ : » ولا تحسبنُ الذين كفروا خيريةَ إملائنا لهم ثابتةً أو واقعةً « .
وقال الزمخشري : » فإنْ قلت : كيف صَحَّ مجيءُ البدلِ ولم يُذْكَرْ إلا أحدُ
المفعولين ، ولا يجوزُ الاقتصارُ مِنْ فعلِ الحُسْبان على مفعولٍ واحدٍ؟ قلت :
صَحَّ ذلك من حيث إنَّ التعويلَ على البدلِ ، والمبدلُ منه في حُكمِ المُنَحَّى ،
ألا تراك تقول : « جعلت متاعك بعضه فوق بعضٍ » مع امتناعِ سكوتِك على « متاع » .
وهل البدلُ بدلُ اشتمالٍ وهو الظاهرُ أو بدلُ كلٍ من كل فيكونُ على حذفٍ مضافٍ
تقديرُه : « ولا تَحْسَبَنَّ إملاء الذين » فَحَذَف « إملاء » وأبدلَ منه « أنما
نملي »؟ قولان مشهوران .
الثالث : وهو أغربُها أن يكونَ « الذين » فاعلاً ب « تَحْسَبَنَّ » على تأويلِ
أَنْ تكونَ التاءُ في الفعلِ للتأنيثِ كقولِه : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [
الشعراء : 105 ] أي : « ولا تَحْسَبَنَّ القومَ الذين كفروا » و « الذين » وصفُ «
القوم » كقوله : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ } [ الأعراف : 137 ] فعلى
هذا تَتَّحد هذه القراءةُ مع قراءة الغَيْبة ، وتخريجُها كتخريجِها ، ذكر ذلك أبو
القاسم الكرماني في تفسيرِه المسمى : ب « اللباب » . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ «
الذين » جارٍ مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، والجمعُ المذكرُ السالمُ لا يجوز تأنيثُ
فعلِه عند البصريين ، لا يجوزُ : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون . وأمَّا
اعتذارُه عن ذلك بأنَّ « الذين » صفةٌ للقوم الجائزِ تأنيثُ فعلِهم وإنما حُذِفَ
فلا ينفعه ، لأنَّ الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدَّرِ ، لا يُجيز أحدٌ
من البصريين : « قامت المسلمون » على إرادة « القوم المسلمون » البتة . وقال أبو
الحسن الحوفي : « أنَّ وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ نصبٍ على البدلِ ، و » الذين «
المفعولُ الأولُ ، والثاني محذوفٌ » ، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم .
الرابع : أن يكونَ { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } بدلاً من { الذين كَفَرُواْ } بدلَ
الاشتمالِ أي : إملاءَنا ، و « خيرٌ » بالرفعِ خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو خيرٌ
لأنفسهم ، والجملةُ هي المفعولُ الثاني . نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن
بعضهم ، قال : قلت : ومثلُ هذه القراءة بيتُ الحماسة :
1496
مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القوم يَحْسَبُنا ... أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح « أنَّا » بعد ذِكْر المفعولِ الأول ، فعلى هذا يجوز أن
تقول : « حَسِبْتُ زيداً أنه قائمٌ » أي : حَسِبْتُه ذا قيامٍ ، فوجهُ الفتحِ أنها
وقعت مفعولةً ، وهي وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ مفردٍ وهو المفعولُ الثاني لحسبت «
انتهى . وفيما قاله نظر؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر » إنَّ « إذا وقعت مفعولاً
ثانياً والأولُ اسمُ عينٍ ، وأنشدوا البيت المذكور على ذلك ، وعللوا وجوبَ الكسر
بأنَّا لو فَتَحْنا لكانت في محل مصدر فليزَمُ الإِخبارُ المعنى عن العين .
الخامس : أن يكون { الذين كَفَرُواْ } مفعولاً أولَ ، و { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
ليزدادوا إِثْمَاً } في موضع المفعول الثاني ، و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
} مبتدأ وخبر ، اعترض به بين مفعولي » وَتحْسَبَنَّ « ، وفي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ
، نُقِل ذلك عن الأخفش . قال أبو حاتم : » سمعت الأخفش يذكر فتحَ « أَنَّ » يحتجُّ
بها لأهل القَدَر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديمِ والتأخير ، كأنه قال : «
ولا تَحْسَبَنَّ الذين [ كفروا ] إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، أنما نملي لهم
خيرٌ لأنفسِهم » انتهى . وإنما جاز أن تكون « أَنَّ » المفتوحة مبتدأً بها أولُ
الكلامِ لأنَّ مذهب الأخفشِ ذلك ، وغيرُه يمنع ذلك ، فإنْ تَقَدَّم خبرُها عليها
نحو : « في ظني أنك منطلقٌ » أو أمَّا التفصيلية نحو : « أما أنك منطلقٌ فعندي »
جاز ذلك إجماعاً ، وقولُ أبي حاتم : « يذكرُ فتحَ أنَّ » يعني بها التي في قولهِ :
{ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } . ووجهُ تمسُّكِ القَدَريَّة به أنَّ الله
تعالى لا يجوزُ أَنْ يُملي لهم إلا ماهو خيرٌ لأنفسِهم ، لأنه يجبُ عندهم رعايةُ
الأصلحِ .
[ السادس : قال المهدوي : « وقال قوم ] قدَّم { الذين كَفَرُواْ } توكيداً ، ثم
حالَهم مِنْ قولِه : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ردَّاً عليهم ، والتقدير : ولا
تحسبنُ أنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم » انتهى .
وأمَّا قراءة يحيى بكسر « إنما » مع الغيبة فلا يخلو : إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ
مسنداً إلى « الذين » أو إلى ضمير غائب ، فإن كان الأولُ كانت « إنما » وما في
حيزها معلِّقَةً ل « يحسبن » وإنْ لم تكن اللام في خبرها لفظاً فهي مقدرةٌ ، فتكون
« إنما » بالكسر في موضع نصب؛ لأنها معلقةٌ لفعلِ الحسبان مع نية اللام ، ونظيرُ
ذلك تعليقُ أفعالِ القلوب عن المفعولين الصريحين لتقديرِ لامِ الابتداء في قولِه :
1497 كذاك أُدِّبْتُ حتى صار مِنْ خُلُقي ... إني رأيتُ مِلاكُ الشيمةِ الأَدَبُ
فلولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ نصبُ « مِلاك » و « الأدب » ، وكذلك في الآية ، لولا
تقديرُ اللامِ لوجَبَ فتحُ « إنما » ، ويجوزُ أَنْ يكون المفعولُ الأولُ قد حُذِف
وهو ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه ، والأصلُ : ولا
يحسَبَنَّه أي : الأمرَ ، و « إنما نُمْلِي » في موضع المفعول الثاني وفي
المفسِّرة للضمير .
وإن
كان الثاني كان « الذين » مفعولاً أول ، و « إنما نملي » في موضع الثاني .
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خَرَّجها هو فقال : « على معنى : ولا
يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنَّ إملاءَنا لازدياد الإِثم كما يفعلون ، وإنما هو
ليتوبوا ويَدْخلوا في الإِيمان ، وقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لأَنْفُسِهِمْ } اعتراضٌ بين الفعلِ ومعمولِه ، معناه : أنَّ إملاءَنا خيرٌ
لأنفسِهم إنْ عَمِلوا فيه وَعَرَفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المُدَّة وتَرْكِ
المعاجَلَة بالعقوبة » انتهى . فعلى هذا يكون « الذين » فاعلاً ، و « أنما »
المفتوحة سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو أحدِهما على الخلاف ، واعتُرِض بهذه الجملة
بين الفعل ومعموله . قال النحاس : « وقراءةُ يحيى بن وثاب بكسر إنَّ » حسنةٌ ، كما
تقول : « حسبت عمراً أبو ه خارجٌ » .
وأمَّا ما حكاه الزجاج قراءةً عن خلق كثير وهو نَصْبُ « خيراً » على الظاهر من
كلامه فقد ذكر هو تخريجَها على أنَّ { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْراً
لأَنْفُسِهِمْ } بدلٌ من « الذين » و « خيراً » مفعولٌ ثانٍ . ولا بُدَّ من إيرادِ
نَصِّه ليظهرَ لك ، قال رحمه الله : « مَنْ قَرَأَ » ولا تَحْسَبَنَّ « بالتاء لم
يجز عن البصريين إلا كسرُ » إنَّ « والمعنى : لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاؤنا
خيرٌ لهم ، ودخلت » إنَّ « مؤكدةً ، فإذا فَتَحْتَ صار المعنى : ولا تَحْسَبَنَّ
الذين كفروا إملاءنا خيراً لهم قال : » وهو عندي يجوزُ في هذا الموضعِ على البدلِ
من « الذين » المعنى : ولا تَحْسَبَنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم ، وقد قرأَ
بها خَلْقٌ كثير ، ومثلُ هذه القراءةِ من الشعر :
1498 فما كانَ قَيْسٌ هُلْكُه هلكَ واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما
جَعَل « هُلْكُه » بدلاً من « قيس » المعنى : فما كان هُلْكُ قيسٍ هُلْكَ واحد
يعني : « فهُلْك » الأول بدلٌ من المرفوع ، فبقي « هُلْكَ واحدٍ » منصوباً خبراً ل
« كان » ، كذلك { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } : « أن » واسمُها وهو « ما »
الموصولةُ وصلتُها والخبرُ وهو « لهم » في محل نصبٍ بدلاً من الذين كفروا ، فبقي «
خيراً » منصوباً على أنه مفعولٌ ثانٍ ل « تحسبن » .
إلاَّ أنَّ الفارسي قد رَدَّ هذا على أبي إسحاق بأنَّ هذه القراءةَ لم يَقرأ بها
أحدٌ أعني نصبَ « خيراً » قال أبو عليّ الفارسي : « لا يَصِحُّ البدلُ إلا بنصب »
خير « من حيث كان المفعول الثاني ل » حسبت « ، فكما انتصب » هلك واحدٍ « في البيت
لَمَّا أبدلَ الأولَ من » قيس « بأنه خبرٌ لكان كذلك ينتصبُ » خيراً لهم « إذا أبدل
الإِملاءَ من { الذين كَفَرُواْ } بأنه مفعولٌ ثانٍ لتحسَبَنَّ » قال : « وسألْتُ
أحمدَ بن موسى عنها فَزَعم أنَّ أحداً لم يَقْرأ بها » يعني بأحمد هذا أبا بكر بن
مجاهد الإِمامَ المشهور .
وقال
في « الحجة » له : « الذين كفروا في موضعِ نصبٍ بأنَّها المفعول الأول ، والمفعولُ
الثاني هو الأولُ في هذا الباب في المعنى ، فلا يجوزُ إذاً فَتْحُ » أنَّ « في
قولِه : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } لأنَّ إملاءَهم لا يكون إياهم » قال : « فإنْ
قلت : لِمَ لا يجوزُ الفتحُ في » أنَّ « وتجعلُها بدلاً من { الذين كَفَرُواْ }
كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ]
وكما كان » أنَّ « من قولِه تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين
أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] . قيل : لا يجوزُ ذلك ، وإلا لزمك أَنْ
تَنْصِبَ » خيراً « على تقدير : لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيراً لأنفسهم
، حيث كان المفعول الثاني ل » تحسبنَّ « ، وقيل : إنه لم يقرأ به أحد ، فإذا لم
يُنْصَبْ عُلِم أنَّ البدلَ فيه لا يَصِحُّ وإذا لم يَصِحَّ البدلُ لم يَجُزْ إلا
كسرُ » إنَّ « على أن تكون » إنَّ « وخبرُها في موضع المفعول الثاني من » تحسبن «
انتهى ما رد به عليه ، فلم يبقَ إلا الترجيحُ بين نقل هذين الرجلين ، أعني الزجاج
وابن مجاهد ، ولا شك أن ابن مجاهد أَعْنى بالقراءات ، إلا أن الزجاج ثقةٌ ، ويقول
: » قرأ بها خلق كثير « ، وهذا يُبْعِدُ غَلَطه فيه ، والإِثباتُ مقدَّمٌ على النفي
. وما ذكره أبو علي من قولِه : » وإذا لم يَجُزْ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ إنَّ «
إلى آخره ، هذا أيضاً مِمَّا لم يقرأ به أحدٌ . قال مكي : » وجهُ القراءةِ لِمَنْ
قَرَأ بالتاء يعني بتاءِ الخطاب أنْ يكسر « إنما » فتكونُ الجملةُ في موضعِ
المفعول الثاني ولم يَقْرأ به أحدٌ عَلِمْتُه « .
وقد نقل أبو البقاء نصبَ » خيراً « قراءةً شاذة قال : » وقد قِرِىء شاذاً بالنصبِ
على أَنْ يكونَ « لأنفسهم » خبرَ « أنَّ » ، و « لهم » تبيينٌ أو حالٌ من « خيراً
» يَعْني أنه لَمَّا جعل لأنفسهم الخيرَ جعل « لهم » : إمَّا تبييناً تقديرُه :
أعني لهم ، وإمَّا حالاً من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصلِ صفةً لها ،
والظاهرُ على هذه القراءةِ ما قَدَّمْتُه مِنْ كونِ « لهم » هو الخبرَ ، ويكونُ «
لأنفسِهم » في محلِّ نصبٍ صفةً ل « خيراً » كما كانَ صفةً له في قراءةِ الجمهور ،
ونَقَلَ أيضاً قراءةَ كسر « إنَّ » وهي قراءة يحيى ، وخَرَّجها على أنها جوابُ
قسمٍ محذوف ، والقسمُ وجوابُه يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولين ولا حاجة إلى ذلك ، بل
تخريجُها على ما تقدَّم أولى ، لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ .
والإِملاء
: الإِمهالُ والمَدُّ في العمر ، ومنه : « مَلاَوَةُ الدهر » للمدة الطويلة ،
والمَلَوان : الليل والنهار ، وقولهم « مَلاَك اللهُ بنعمةٍ » أي : مَنَحَكها
عمراً طويلاً . وقيل : المَلَوان : تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما ، بدليلِ
إضافتهما إليهما في قول الشاعر :
1499 نهارٌ وليلٌ دائمٌ مَلَواهُما ... على كلِّ حالِ المرءِ يَخْتلفان
فلو كانا الليلَ والنهارَ لما أُضيفا إليهما ، إذا الشيءُ لا يضاف إلى نفسِه .
وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أصلُ الياءِ واو ، وإنما قُلِبَتْ ياءً
لوقوعها رابعةً .
قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا } قد تقدَّم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر
الأولى وفتح هذه ، فيما نقله عنه الزمخشري ، وتقدَّم تخريجُها ، إلا أنَّ الشيخَ
قال : « إنه لم يَحْكِها عنه غيرُ الزمخشري ، بل الذين نقلوا قراءةَ يحيى إنما
نقلوا كسره للأولى فقط » قال : « وإنما الزمخشري لِوَلُوعه بمذهبه يرومُ رَدَّ
كلِّ شيء إليه » . وهذا تحاملٌ عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يُرْوَ .
وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان ، أحدهما : أنها جملة مستأنفة تعليلٌ للجملةِ
قبلَها كأنه قيل : ما بالُهم يَحْسَبون الإِملاءَ خيراً؟ فقيل : إنما نملي لهم
ليزدادوا إثماً . و « إنَّ » هنا مكفوفةٌ ب « ما » ، ولذلك كُتِبَتْ متصلةً على
الأصل ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ولا حرفيةً؛ لأنَّ لام كي لا يَصِحُّ
وقوعُها خبراً للمبتدأ ولا لنواسِخِه .
والوجه الثاني : أنَّ هذه الجملةَ تكريرٌ للأولى . قال أبو البقاء : « وقيل » أنما
« تكريرٌ للأولِ ، و » ليزدادوا « هو المفعولُ الثاني ل » تَحْسَبَنَّ « هذا على
قراءةِ التاء ، والتقديرُ : لا تَحْسَبَنَّ يا محمد إملاءَ الذين كفروا خيراً
ليزدادوا إثماً ، بل ليزدادوا إيماناً ، ويُرْوى أنَّ بعض الصحابة قرأه كذلك »
انتهى . قلت : وفي هذا نظرٌ من حيث إنه جَعَل « ليزدادوا » هو المفعولَ الثاني ،
وقد تقدَّم أنَّ لامَ « كي » لا تقعُ خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأنَّ هذا إنما
يَتِمُّ له على تقديرِ فتح الثانية ، وقد تقدَّم أن أحداً لم ينقُلْها إلا
الزمخشري عن يحيى ، والذي يقرأ « تحسبن » بتاء الخطاب لا يفتحها البتة .
واللامُ في « ليزدادوا » فيها وجهان : أحدُهما : أنها لامُ كي ، والثانيةُ أنها
لامُ الصيرورة .
وقوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ } في هذه الواوِ قولان ، أحدُهما : أنها للعطف ،
والثاني : أنها للحالِ . وظاهرُ قولِ الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن وثاب
فقط ، فإنه قال « فإنْ قلت : ما معنى هذه القراءة؟ يعني على قراءةِ يحيى التي
نقلَها هو عنه قلت : معناه » ولا يَحْسَبَنَّ أنَّ إملاءَنا لزيادةِ الإِثمِ
والتعذيبِ ، والواوُ للحالِ ، كأنه قيل : ليزدادوا إثماً مُعَدَّاً لهم عذابٌ مهين
« قال الشيخ : بعد ما ذكر من إنكارِه عليه نقلَ فتحَ الثانية عن يحيى كما قدمته لك
، » ولَمَّا قرَّر في هذه القراءة أنَّ المعنى على نهي الكافر أَنْ يَحْسَب أنما
يُمْلي الله لزيادة الإِثم ، وأنه إنما يملي لزيادةِ الخير كان قولُه : { وَلَهْمُ
عَذَابٌ مُّهِينٌ } يَدْفَعُ هذا التفسيرَ ، فَخَرَّج ذلك على أن الواوَ للحالِ
ليزولَ هذا التدافُعُ الذي بين هذه القراءةِ وبين آخرِ الآية « .
وأصل
« ليزدادوا » : ليزتادوا بالتاء ، لأنه افتعالٌ من الزيادة ولكنَّ تاء الافتعالِ
تُقْلَبُ دالاً بعد ثلاثةِ أحرف : الزاي والذال والدال نحو : ادَّكر وادَّان .
والفعلُ هنا متعدٍّ لواحدٍ وكانَ في الأصلِ متعدياً لاثنين نحو : { فَزَادَهُمُ
الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] ، ولكنه بالافتعالِ ينقُص أبداً مفعولاً ، فإنْ
كان الفعلُ قبل بنائِه على افتعل للمطاوعةِ متعدياً لواحدٍ صار قاصراً بعد
المطاوعةِ نحو « مدَدْتُ الحبل فامتدَّ » ، وإنْ كان متعدياً لاثنين صار بعد
الافتعالِ متعدياً لواحدٍ كهذه الآيةِ .
وخُتِمَتْ كلُّ واحدةٍ من هذه الآياتِ الثلاثِ بصفةٍ للعذاب غيرِ ما خُتمت به
الأخرى لمعنى مناسب ، وهو أنَّ الأولى تضمَّنَتْ الإِخبارَ عنهم بالمسارعةِ في
الكفر ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرةُ إلى تحصيلِه تقتضي جلالته وعظمته ، فجُعِل
جزاءُهم « عذابٌ عظيمٌ » مقابلةً لهم ، ويَدُلُّ ذلك على خساسةِ ما سارَعُوا فيه .
وأمَّا الثانيةُ فتضمَّنَتْ اشتراءَهم الكفرَ بالإِيمان ، والعادةُ سرورُ المشتري
واغتباطُه بما اشتراه ، فإذا خَسِرَ تألم ، فخُتِمت هذه الآيةُ بألمِ العذابِ كما
يجدُ المُشتري المغبون ألم خسارته . وأمَّا الثالثةُ فتضمَّنَتْ الإِملاء وهو
الإِمتاعُ بالمال وزينةُ الدنيا ، وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّر والجبروتَ
فخُتِمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانَتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبُّرهم .
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قوله
تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } : هذه تُسَمَّى لامَ الجحود ، وينصبُ بعدَها
المضارعُ بإضمار « أن » ولا يجوزُ إظهارها . والفرقُ بنيها وبين لام كي أنَّ هذه
على المشهور شرطُها أن تكون بعد كونٍ منفي ، ومنهم مَنْ يشترط مُضِيَّ الكونِ ،
ومنهم مَنْ لم يَشْترط الكون ، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو
استغنيت عنها هنا بما ذكرْتُه في « شرح التسهيل » .
وفي خبر « كان » في هذا الموضع وما أشبهه قولان ، أحدهما : وهو قول البصريين أنه
محذوفٌ وأنَّ اللامَ مقويةٌ لتعديةِ ذلك الخبر المقدر لضعفِه ، والتقدير : ما كان
اللهُ مريداً لأنْ يَذَر ، ف « أن يذر » هو مفعول « مُريداً » ، والتقديرُ : ما
كانَ اللهُ مريداً تَرْكَ المؤمنين . والثاني قول الكوفيين : أنَّ اللامَ زائدةٌ
لتأكيدِ النفي وأنَّ الفعلَ بعدها هو خبر « كان » ، واللامُ عندهم هي العاملةُ
النصبَ في الفعلِ بنفسِها لا بإضمار « أَنْ » ، والتقديرُ عندهم : ما كان الله
يَذَرُ المؤمنين .
وضَعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنَّ النصبَ قد وُجِد بعد هذه اللامِ ، فإنْ
كان النصبُ بها نفسِها فليست زائدةً ، وإن كان النصب بإضمار « أَنْ » فَسَدَ من
جهة المعنى لأنَّ « أَنْ » وما في حَيِّزها بتأويل مصدر ، والخبرُ في باب « كان »
هو الاسمُ في المعنى فيلزم أن يكونَ المصدرُ الذي هو معنىً من المعاني صادقاً على
اسمِها وهو مُحال « .
أمَّا قولُه : » إنْ كان النصبُ بها فليست زائدةً « فممنوعٌ؛ لأنَّ العمل لا يمنع
الزيادةَ ، ألا ترى أنَّ حروفَ الجر/ تُزاد وهي عاملةٌ ، وكذلك » أَنْ « عند
الأخفش و » كان « في قوله :
1500 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجيرانٍ لنا كانوا
كرامِ
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في غيرِ موضع .
و » يَذَرُ « فعلٌ لا يَتَصرَّف ك » يَدَعُ « استغناءً عنه بتصرُّف مُرادفِه وهو »
ترك « ، وحُذِفَتِ الواوُ من » يَذَرُ « من غير موجبٍ تصريفي ، وإنما حُمِلت على »
يَدَعُ « لأنها بمعناها ، و » يَدَعُ « حُذِفَتْ منه الواو لموجبٍ وهو وقوعُ
الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة ، وأمَّا الواوُ في » يَذَرُ « فوقعت بين ياءٍ وفتحة
أصلية ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه عند قوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ
مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ] .
قوله : { حتى يَمِيزَ } » حتى « هنا قيل : للغاية المجردة بمعنى » إلى « ، والفعلُ
بعدَها منصوبٌ بإضمار » أَنْ « ، وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة . والغايةُ هنا
مشكلةٌ على ظاهرِ اللفظِ؛ لأنه يصيرُ المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما
أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييزُ بين الخبيث والطيب ، ومفهومُه أنه إذا
وُجِدت الغايةُ تَرَك المؤمنين على ما أنتم عليه .
وهذا
ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قطعاً ، ويصيرُ هذا نظيرَ
قولِك : « لا أُكَلِّم زيداً حتى يَقْدُمَ عمروٌ » فالكلامُ منتفٍ إلى قدومِ عمرو
. والجوابُ عنه : أن « حتى » غايةٌ لما يُفْهَمُ من معنى هذا الكلامِ ، ومعناه أنه
تعالى يُخَلِّص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أَنْ يَميزَ الخبيثَ من الطيب .
وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال : « يُمَيِّز » بالتشديد ، والباقون بالتخفيف
. وعن ابن كثير أيضاً « يُميز » من أماز ، فهذه ثلاث لغات ، يقال مازَه ومَيَّزه
وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل ، لأنَّ الفعل قبلهما متعدٍ ، وإنما فَعَّل
بالتشديد وأَفْعَل بمعنى المجرد ، وهل ماز ومَيّز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين؟
قولان . ثم القائلون بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال « ماز » إلا في كثير
من كثير ، فأما واحد من واحد فَمَيَّزت ، ولذلك قال أبو معاذ : يقال : « مَيَّزْتُ
بين الشيئين ومِزْتُ بين الأشياء » . وقال بعضُهم عكسَ هذا : مِزْتُ بين الشيئين
ومَيَّزْتُ بين الأشياءِ ، وهذا هو القياسُ ، فإنَّ التضعيفَ يُؤْذِنُ بالتكثير
وهو لائقٌ بالمتعددات . ورجَّح بعضُهم « مَيَّز » بالتشديد بأنه أكثر استعمالاً ،
ولذلك لم يُسْتعمل المصدرُ إلا منه فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا : « المَيْز »
يعني لم يقولوه سماعاً وإلا فهو جائز قياساً .
قوله : { وَلَكِنَّ الله } هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم ، لأنه لَمَّا قال
تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } تُوُهِّم أنه لا يُطْلِعَ أحداً على
غيبِه لعمومِ الخطابِ فاستدرك الرسلَ ، والمعنى : ولكنَّ اللهَ يجتبي أي يصطفي
مِنْ رسلِه من يشاء فيُطْلِعُه على الغيب ، فهو ضدُّ لما قبلَه في المعنى ، وقد
تقدَّم أنها تقعُ بني ضِدِّيْنِ ونقيضين ، وفي الخلافين خلافٌ .
و « يَجْتَبي » : يَصْطَفي ويَخْتار ، يَفْتَعل من جَبَوْتُ المالَ والماءَ
وجَبَتْهُما لغتان ، فالياءُ في « يَجْتَبي » يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ عَلى أصلِها ،
وأَنْ تكونَ منقلبةً من واوٍ لانكسارِ ما قبلَها .
ومفعول « يشاءُ » محذوفٌ ، وينبغي أَنْ يُقَّدَّر ما يليقُ بالمعنى ، والتقديرُ :
مَنْ يشاءُ إطْلاعَه على الغيب .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قوله
تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } : قرأ حمزة بالخطاب ، والباقون
بالغيبة . فأمَّا قراءةُ حمزة ف « الذين » مفعولٌ أولُ ، و « خيراً » هو الثاني ،
ولا بُدَّ من حذف مضاف لِيَصْدُقَ الخبرُ على المبتدأِ ، تقديرُه : ولا
تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون . قال أبو البقاء : « وهو ضعيفٌ لأنَّ فيه إضمارَ
البخلِ قبل ذِكْر ما يَدُلُّ عليه » وفيه نظرٌ ، لأنَّ الدلالةَ على المحذوف قد
تكونُ متقدمةً وقد تكون متأخرةً ، وليس هذا من بابِ الإِضمارِ في شيء حتى
يُشْتَرَطَ فيه تقدُّمُ ما يَدُلُّ على ذلك الضميرِ .
و « هو » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه فَصْلٌ بين مفعولي « تحسبن » . والثاني قاله
أبو البقاء : أنه توكيدٌ ، وهو خطأ ، لأنَّ المضمر لا يُؤكِّد المُظْهَر ،
والمفعول الأول اسمٌ مظهر ولكنه حُذِف كما تقدم ، وبعضُهم يُعَبِّر عنه فيقول : «
أُضمر المفعولُ الأولُ » يعني حُذِفَ فلا يُغْتَرَّ بهذه العبارةِ ، و « هو » في
هذه المسألةِ يتعيَّن فَصْلِيَّتُه لأنه لا يخلو : إمَّا أَنْ يكونَ مبتدأً أو
بدلاً أو توكيداً ، والأولُ منتفٍ لنصبِ ما بعده وهو خيراً وكذا الثاني لأنه كان
يلزمُ أَنْ يوافِقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فكان ينبغي أَنْ يُقالَ إياه لا « هو »
، وكذا الثالثُ لِما تقدَّم .
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فيجوزُ فيها أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى ضمير غائب :
إمَّا الرسولُ أو حاسِبٌ ما ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مسنداً إلى « الذين » ، فإنْ كان
مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ ف « الذين » مفعولٌ أولُ على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم ذلك
في قراءةِ حمزة أي : بخلَ الذين ، والتقدير : ولا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو أحدُ
بخلَ الذين يبخلون خيراً . و « هو » فصل كما تقدَّم ، فتتحدُ القراءاتان معنىً
وتخريجاً . وإنْ كان مسنداً ل « الذين » ففي المفعولِ الأولِ وجهان ، أحدُهما :
أنه محذوفٌ لدلالةِ « يبخلون » عليه كأنه قيل : « ولا يَحْسَبَنَّ الباخِلون
بخلَهم هو خيراً لهم » و « هو » فصلٌ . قال ابن عطية : « ودَلَّ على هذا البخلِ »
يبخلون « كما دَلَّ » السفيه « على » السَّفَه « في قوله :
1501 إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالَفَ والسفيهُ إلى خلافِ
أي : جرى إلى السفة » . قال الشيخ : « وليست الدلالةُ فيها سواءً لوجهين ، أحدُهما
: أنَّ دلالةَ الفعلِ على المصدرِ أَقْوى مِنْ دلالةِ اسمِ الفاعلِ عليه وأكثرُ ،
ولا يوجَدُ ذلك إلا في هذا البيت أوغيرِه إن ورد . الثاني : أنَّ البيتَ فيه
إضمارٌ لا حذفٌ ، والآيةُ فيها حَذْفٌ .
الوجه الثاني : أنَّ المفعولَ نفس » هو « ، وهو ضميرُ البخل الذي دَلَّّ عليه »
يبخلون « كقولِه :
{
اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، قاله أبو البقاء ، وهو غلطٌ أيضاً؛
لأنه ينبغي أَنْ يأتِيَ به بصيغةِ المنصوب فيقول : « إياه » لكونِه منصوباً ب «
يَحْسَبَنَّ » ، ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نَدَّعي أنه من بابِ استعارةِ ضميرِ
الرفع مكانَ النصبِ كقولِهم « ما أنا كأنت ، ولا أنت كأنا » فاستعار ضميرَ الرفعِ
مكانَ ضميرِ الجر .
وفي الآية وجهٌ آخرُ غريبٌ خَرَّجه الشيخ قال : « وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ
الإِعمال إذا جَعَلْنا الفعلَ مسنداً ل » الذين « ، وذلك أنَّ » يَحْسَبَنَّ «
يطلب مفعولين و » يَبْخلون « يطلبُ مفعولاً بحرفِ جر ، فقولُه : { مَآ آتَاهُمُ
الله مِن فَضْلِهِ } يطلبه » يحسبن « مفعولاً أولَ ويكون » هو « فَصْلاً ، و »
خيراً « المفعولُ الثاني ، ويطلبه » يبخلون « بتوسُّطِ حرفِ الجر ، فأعملَ الثانيَ
على الأفصحِ وعلى ما جاء في القرآن وهو » يبخلون « فَعُدِّي بحرف الجر ، وأخذ
معموله ، وحَذَفَ معمول » يحسبن « الأولَ وبقي معمولُه الثاني ، لأنه لم يُتنازع
فيه ، وإنما جاء التنازعُ في الأول ، وساغ حذفُه وحدَه كما ساغ حَذْفُ المفعولين
في مسألة سيبويه : » متى رأيت أو قلت : زيد منطلق « ف » رأيت « و » قلت « تنازعا
في » زيدُ منطلقٌ « وفي الآيةِ لم يتنازعا إلا في الأولِ ، وتقديرُ المعنى : » ولا
يَحْسَبَنَّ ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناسُ الذي يَبْخلون به « فعلى
هذا التقديرِ يكونُ » هو « فَصْلاً ل » ما آتاهم « المحذوفِ لا لبخلِهم المقدَّرِ
في قول الجماعة ، ونظيرُ هذا التركيب : » ظنَّ الذي مَرَّ بِهندٍ هي المنطلقةَ «
المعنى : ظَنَّ هنداً الشخصُ الذي مَرَّ بها هي المنطلقةَ » فالذي تنازعه الفعلان
هو المفعول الأول ، فاعمل الفعل الثاني فيه ، وبقي الأولُ يطلبُه محذوفاً ويطلبُ
الثانيَ مثبتاً إذ لم يقع فيه التنازعُ . انتهى « .
ومع غرابة هذا التخريجِ وتطويلِه بالنظيرِ والتقدير فيه نظرٌ ، وذلك أنَّ
النحويينَ نَصُّوا على أنه إذا أعملنا الثانيَ ، واحتاج الأولُ إلى ضمير المتنازع
فيه ، فإنْ كان يطلبه مرفوعاً أُضْمِرَ فيه وإنْ كان يَطْلُبُه غيرَ مرفوعٍ حُذِف
، إلاَّ أَنْ يكون أحدَ مفعولي » ظَنَّ « فلا يُحْذَفُ ، بل يُضْمَرُ ويُؤَخَّر ،
وعَلَّلوا ذلك بأنه لو حُذِفَ لبقي خبرٌ دون مُخْبَرٍ عنه أو بالعكسِ ، هذا مذهبُ
البصريين ، وفيه بحثٌ ، فإنَّ لقائلٍ أن يقولَ : حُذِفَ اختصاراً لا اقتصاراً ،
وأنتم تجيزون حَذْفَ إحداهما اختصاراً في غيرِ التنازع فليَجُزْ في تنازعٍ إذ لا
فارقَ ، وحينئذ يَقْوى تخريجُ الشيخِ بهذا البحثِ أو يُلْتَزَمُ القولُ بمذهب
الكوفيين فإنهم يُجيزون الحَذْفَ فيما نحن فيه .
وذكر مكي ترجيحَ كلٍّ مِن القراءتين فقال :
وميراث مصدرٌ كالمِيعاد ، وياؤُه من واوٍ ، قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلها وهي ساكنةٌ
لأنَّها من الوارثةِ كالميقاتِ والميزانِ من الوقتِ والوزن .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير : » يَعْمَلُون « بالغَيْبة جرياً على قوله : { الذين
يَبْخَلُونَ } ، والباقون بالخطاب ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه التفاتُ ،
فالمرادُ الذي يبخلون . والثاني : رَدّاً على قوله : { وَإِن تُؤْمِنُواْ
وَتَتَّقُواْ } .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
قوله
تعالى : { قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ } : العامل في « إنَّ » هو « قالوا » ف « إنَّ
» وما في حَيِّزها/ منصوب المحل ب « قالوا » لا بالقول . وأجاز أبو البقاء أن
تكونَ المسألة من باب التنازع أعني بين المصدر وهو « قول » وبين الفعل وهو « قالوا
» تنازعا في « أَنْ » وما في حَيِّزها ، قال : « ويجوز أن يكون معمولاً ل » قول «
المضافِ لأنه مصدرٌ ، وهذا تخريجٌ على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو قولٌ ضعيف
، ويزداد هنا ضعفاً بأن الثاني فعلٌ والأولُ مصدرٌ ، وإعمالُ الفعل أقوى » .
وظاهرُ كلامه أنَّ المسألةَ من التنازع ، وإنما الضعف عنده من جهةِ إعمال الأول
فلو قَدَّرْنا إعمالَ الثاني كان ينبغي أن يجوزَ عنده ، لكنه يمنع من ذلك مانعٌ
آخر وهو : أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ولا يجوزُ حذفُه ، وهو
هنا غير مذكور ، فدل على [ هذا ] أنها عنده ليست من التنازع إلا على قول الكوفيين
، وهو ضعيف كما ذكر . وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملةَ على ما أسندوه إليه
تعالى وإلى عدمِ ذلك فيما أسندوه لأنفسِهم كأنه عند الناس أمرٌ معروف .
قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و « ما »
وصلتُها قائمٌ مقامَ الفاعلِ . و « قَتْلُهم » بالرفعِ عطفاً على الموصولِ ، و «
يقول » بياء الغيبة . والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف « ما » منصوبةٌ المحلِّ
، و « قتلَهم » بالنصبِ عطفاً عليها ، و « نقولُ » بالنون أيضاً . وقرأ طلحة ابن
مصرف : « سَتُكْتب » بتاءِ التأنيث على تأويلِ « ما قالوا » بمقالتهم . وقرأ ابن
مسعود وكذلك هي في مصحفه : « سنكتب ما يقولون ويُقال » . والحسن والأعرج : «
سَيَكْتب » بالغيبة مبنياً للفاعل أي : الله تعالى أو الملك ، و « ما » في جميع
ذلك يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر وحُذِفَ العائِدُ لاستكمالِ شروطِ
الحذفِ تقديرُه : سنكتب الذي يقولونه . ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي : قولَهم ،
ويُراد به إذ ذاك المفعولُ به أي : مقولَهم ، كقولهم : « ضَرْب الأمير » .
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قوله
تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ } : مبتدأ وخبر تقديره : ذلك مستحق بما قَدَّمَتْ ،
كذا قدره أبو البقاء ، وفيه نظرٌ تقدَّم مثله . و « ما » يجوز فيها أن تكونَ
موصولة وموصوفةً . و « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم من عقابِهم . وهذه الجملةُ
تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ في محل نصب بالقول عطفاً على « ذُوقوا » كأنه
قيل : ونقول لهم أيضاً : ذلك بما قَدَّمَتْ أيديكم ، وُبِّخوا بذلك ، وذَكَر لهم
السببَ الذي أوجب لهم العقابَ . والثاني : ألاَّ تكونَ داخلةً في حكايةِ القول ،
بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ نزولِ الآيةِ ، وذُكِرت
الأيدي لأن أكثرَ الأعمالِ تُزاوَلُ بها .
قوله : { وَأَنَّ الله } عطفٌ على « ما » المجرورةِ بالباءِ أي : ذلك العقابُ
حاصلٌ بسببِ كَسْبكم وعدمِ ظلمهِ لكم . وهنا سؤال : وهو أن « ظَلاَّماً » صيغةُ
مبالغةٍ تقتضي التكثيرَ ، فهي أخصُّ من « ظالمِ » ، ولا يَلْزَمُ من نفي الأخصِّ
نفيُ الأعَمِّ ، فإذا قلت : « زيدٌ ليس بظلاَّم » أي : ليس يُكْثِرُ الظلم ، مع
جوازِ أَنْ يكونَ ظالماً ، وإذا قلت : « ليس بظالم » انتفى الظلمُ مِنْ أصلِه ،
فكيف قال تعالى : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؟ وفي ذلك خمسَةُ أوجهٍ ،
ذكر أبو البقاء منها أربعة .
الأول : أن « فَعَّالاً » قد لا يُراد به التكثيرُ كقوله طرفة :
1502 ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاعِ لبيته ... ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ
أَرْفِدِ
لا يُريد هنا أنه يَحُلُّ التلاعَ قليلاً؛ لأنَّ ذلك يَدْفَعُه آخرُ البيت الذي
يَدُلُّ على نفي البخلِ على كلِّ حال ، وأيضاً تمامُ المدحِ لا يَحْصُل بإرادة
الكثرة . الثاني : أنه للكثرة ، ولكنه لَمَّا كان مقابَلاً بالعباد وهم كثيرون
ناسب أن يُقابَلُ الكثيرُ بالكثير . والثالث : أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى
القليلُ ضرورةً؛ لأن الذي يَظْلم إنما يَظْلِمُ لانتفاعِه بالظلمِ ، فإذا تَرَكَ
الظلمَ الكثيرَ مع زيادةِ نَفْعِه في حَقِّ مَنْ يجوزُ عليه النفعُ والضُّرُّ كان
للظلمِ القليلِ المنفعةِ أتركَ . الرابع : أن يكونَ على النسبِ أي : لا يُنْسَبُ
إليه ظلمٌ ، فيكونُ من باب : بَزَّار وعَطَّار ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم البتة .
والخامس : قال القاضي أبو بكر : « العذاب الذي تَوَعَّد أَنْ يفعلَه بهم لو كان
ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حَدِّ عظمته لو كان ثابتاً » .
وقال الراغب بعد تفرقَتِه بين جَمْعَي « عَبْد » على عبيد وعِباد : فالعبيدُ إذا
أُضيف إلى الله تعالى أَعَمُّ من العباد ، ولهذا قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ
لِّلْعَبِيدِ } فنبَّه على أنه لا يَظْلِمُ مَنْ تخصَّص بعبادتِه ومَنِ انتسَبَ
إلى غيرِه مِن الذين تَسَمَّوْا بعبدِ الشمس وعبدِ اللات « ، وكان الراغبَ قد
قَدَّم الفرقَ بين » عبيد « و » عِباد « فقال : » وجَمْعُ العبدِ الذي هو مسترقٌّ
« : » عبيد « ، وقيل : » عِبِدَّى « ، وجمعُ العبد الذي هو العابد » عِباد « . وقد
تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ وجموعُها وما قيل فيها .
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
قوله
تعالى : { الذين قالوا } : يجوزُ في مَحَلِّه الألقابُ الثلاثة : فالجَرُّ من
ثلاثةِ ِأوجه ، الأولُ : أنه صفةٌ ل « الذين » المخفوضِ بإضافة « قول » إليه .
الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه صفةٌ ل « العبيد » أي : ليس بظلاَّم للعبيد
الذين قالوا كيتَ وكيتَ ، قاله الزجاج . قال ابنُ عطية : « وهذا مُفْسِدٌ للمعنى
والرصفِ » .
والرفعُ : على القطع بإضمار مبتدأ أي : هم الذين . وكذلك النصبُ على القطعِ أيضاً
بإضمارِ فعلٍ لائقٍ أي « اَذُمُّ الذين » .
قولُه : { أَلاَّ نُؤْمِنَ } في « أَنْ » وجهان ، أحدُهما : أنها على حذفِ حرفِ
الجر ، والأصلُ : في أن لا نؤمِنَ ، وحينئذ يَجِيء فيها المذهبان المشهوران : أهي
في محلِّ جر أو نصب . والثاني : أنها مفعولٌ بها على تضمينِ : « عهد » معنى
أَلْزَمَ ، تقول : « عَهِدْتُ إليه كذا » أي : أَلْزَمْته إياه ، فهي على هذا في
محلِّ نصب فقط .
و « أَنْ » تُكتب متصلةً ومنفصلةً اعتباراً بالأصلِ أو بالإِدغام . ونَقَل أبو
البقاء أنَّ منهم مَنْ يَحْذِفُها في الخطِّ اكتفاءً بالتشديد . وحكى مكيّ عن
المبرد أنها إنْ أُدْغِمَتْ بغنةٍ كُتِبت متصلةً وإلاَّ فمنفصلةً ، ونُقِل عن
بعضِهم أنها إنْ كانت مخففةً كُتِبَتْ منفصلةً ، وإنْ كانَتْ ناصبةً كُتِبَتْ
متصلةً ، والفرقُ أنَّ المخففةَ معها ضمير مقدرٌ ، فكأنه فاصلٌ بينهما بخلافِ
الناصبة ، وقولُ أهل الخطِّ في مثل هذا : « تُكْتب متصلة » عبارةٌ عن حَذْفِها في
الخطِّ بالكلية اعتباراً بلفظ الإِدغام لا أنَّهم يكتبونها متصلةً ، ويُثْبتون لها
بعضَ صورتِها فيكتبون : أَنْلا ، والدليلُ على ذلك أنهم لَمَّا قالوا في « أم من »
و « أم ما » ونحوِه بالاتصال إنما يعنون به كتابةَ حرفٍ واحد فيكتبون : أمّن
وأمَّا . وفهم أبو البقاء أنَّ الاتصال في ذلك عبارةٌ عن كتابتهم لها بعضَ صورتها
ملصقةً ب « لا » ، والدليلُ على أنه فَهِم ذلك أنه قال : « ومنهم مَنْ يَحْذِفُها
في الخط اكتفاءً بالتشديد » فَجَعَلَ الحذف قسيماً للوصلِ والفصلِ ، ولا يقولُ
أحدٌ بهذا .
وتَعَدَّى « نُؤْمِنُ » باللامِ لتضمُّنِه معنى الاعترافِ ، وقد تقدَّم في أولِ
البقرة .
وقرأ عيسى بن عمر : « بقُرُبان » بضمتين . قال ابن عطية : « إتباعاً لضمةِ القافِ
، وليس بلغةٍ لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين ، وحكى سيبويه : »
السُّلُطان « بضم اللام ، وقال : » إن ذلك على الإِتباع « . قال الشيخ : ولم
يَقُلْ سيبويه إنَّ ذلك على الإِتباع بل قال : » ولا نعلمُ في الكلامِ فِعِلان ولا
فُعُلان ولكنه قد جاء فُعُلان وهو قليل ، قالوا : « السُّلُطان » وهو اسمٌ « قال الشارحُ
لكلام سيبويه » صاحبُ هذه اللغمة لا يُسَكِّن ولا يُتْبعُ « وكذا ذكر التصريفيون
أنه بناءٌ مستقلٌ ، قالوا ولم يجىء فُعُلان إلا اسماً وهو قليلٌ نحو : » سُلُطان «
.
قلت
: أمَّا ابنُ عطية فَمُسَلَّمٌ أنه وَهِمَ في النقل عن سيبويه في « سُلُطان »
خاصةً ، ولكنَّ قولَه في « قُرُبان » صحيحٌ لأِنَّ أهلَ التصريفِ لم يَسْتَثْنُوا
إلا السُّلُطان .
والقُرْبان في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به المفعول كالرَّهْنِ فإنه في الأصلِ مصدرٌ
ولا حاجةَ إلى حذْفٍ مضاف . وزعم أبو البقاء أنه على حَذْفِ مضافٍ أي : بتقريبِ
قُرْبانٍ ، قال : « أي يُشَرِّع لنا ذلك » . و « تأكلُه النارُ » صفةٌ لقُرْبان ،
وإسنادُ الأكلِ إليها مجازٌ عَبَّر عن إفنائها الأشياءَ بالأكل .
و « من قبلي » و « بالبينات » كلاهما متعلِّقٌ ب « جاءكم » ، والباء تحتملُ
المعيةَ والتعديةَ أي : مصاحبين للآيات .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله
تعالى : { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ } : ليس جواباً للشرط ، بل الجوابُ محذوفٌ أي :
فَتَسَلَّ « ونحوُه ، لأنَّ هذا قد مَضَى وتحقَّق ، وفيه كلامٌ طويلٌ تقدَّم لك
نظيرُه . والجملةُ من » جاؤوا « في محلِّ رفعِ صفة ل » رُسُل « و » من قبلك «
متعلقٌّ ب » كُذِّبَ « . والباءُ في » بالبينات « تحتملُ الوجهين كنظيرتِها .
وقرأ جمهورُ الناس : » والزبرِ و الكتابِ « مِنْ غيرِ ذكرِ باء الجر ، وقرأ ابنُ
عامر : » وبالزبرِ « بإعادتها ، وهشامٌ وحدَه عنه : » وبالكتاب « بإعادتها أيضاً ،
وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابن عامر رحمه الله . والخَطْبُ فيه سهلٌ ، فَمَنْ
لم يأتِ بها اكتفى بالعطف ، ومَنْ أتى بها كان ذلك تأكيداً/ .
والزُّبُر : جمع زَبُور بالفتح ، ويقال : زُبور بالضم أيضاً ، وهل هما بمعنىً واحد
أو مختلفان؟ سيأتي الكلامُ عليهما في قوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [
الآية : 163 ] في النساء .
واشتقاقُ اللفظةِ من » زَبَرْتُ « أي : كَتَبْتُ ، وزَبَرْتُه قرأتُه ، وزَبَرْتُه
: حَسَّنْتُ كتابتَه ، وزَبَرْتُه : زجرته ، فَزَبور بالفتح فَعُول بمعنى مَفْعول
كالرَّكوب بمعنى المركوبِ ، و الحَلوب بمعنى المَحْلوب ، قال امرؤ القيس :
1503 لِمَنْ طَلَلٌ أبصرْتُه فشَجاني ... كخَطِّ زَبورٍ في عَسيبِ يماني
وقيل : اشتقاقُ اللفظِ من الزُّبْرَة ، وهي قطعة الحديد المتروكة بحالها . و »
المنير « اسم فاعل من أنار أي : أضاء .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
قوله
تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } : مبتدأٌ وخبر ، وسَوَّغَ الابتداءَ
بالنكرةِ العمومُ أو الإِضافةُ . والجمهورُ على { ذَآئِقَةُ الموت } . بخفض «
الموت » بالإِضافة ، وهي إضافةُ غيرُ محضةٍ لأنَّها في نيةِ الانفصالِ . وقرأ
اليزيدي : « ذائقةٌ الموتَ » بالتنوين والنصبِ في « الموت » على الأصل . وقرأ
الأعمش بعدمِ التنوين ونصبِ « الموت » ، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين
وإرادته ، وهو كقول الآخر :
1504 فألفَيْتُه غيرَ مُسْتَغْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
بنصب الجلالة ، وقراءة من قرأ : { قل هو الله أحدُ اللهُ } بحذف التنوين من « أحد
» لالتقاء الساكنين .
ونقل أبو البقاء فيها قراءةً غريبةً وتخريجاً غريباً قال : « ويُقْرأ أيضاً شاذاً
: { ذَآئِقَةُ الموت } على جعل الهاء ضمير » كل « على اللفظ ، وهو مبتدأ أو خبر »
. انتهى . وإذا صَحَّتْ هذه قراءةً فيكونُ « كل » مبتدأً ، و « ذائقُةُ » خبرٌ
مقدمٌ ، و « الموتُ » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « كل » ، وأضيف « ذائق » إلى ضمير
« كل » باعتبار لفظها ، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأنَّ النفسَ هي التي
تذوقُ الموتَ وليس الموتُ يذوقُها ، وهنا جَعَلَ الموتَ هو الذي يذوق النفس قلباً
للكلام لفهم المعنى ، كقولهم : « عَرَضْتُ الناقة على الحوض » ، ومنه : { وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } [ الأحقاف : 20 ] و « أَدْخَلْت القَلنسوة
في رأسي » . وقوله :
1505 مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بلغَتْ ... نجرانُ أو بُلِّغَتْ سواءِتهمْ
هَجَرُ
الأصلُ : عَرَضْتُ الحوض على الناقةِ ، ويَوْم تُعْرَضُ النارُ عليهم ، وأدخلت
رأسي في القَلَنْسوة ، وبُلِّغَتْ سوءاتُهم هجراً ، فَقَلب ، وسيأتي خلاف الناس في
القلب بأشبعَ من هذا عند موضعِه ، وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أنَّ
التأنيثَ في « ذائقة » إنما هو باعتبار معنى « كل » ، وقال : « لأنَّ كلَّ نفسٍ
نفوسُ ، ولو ذُكِّر على لفظِ » كل « جاز » ، يعني أنه لو قيل : « كلُّ نفس ذائقٌ
كذا » جاز ، وقد تقدَّم لك أو البقرةِ أنه يَجِبُ اعتبارُ لفظِ ما تُضاف إليه « كل
» إذا كان نكرةً ، ولا يجوزُ أن تَعْتَبِر « كلَ » ، وتحقيقُ هذه المسألةِ هناك .
قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } « ما » كافةٌ ل « إنَّ » عن العمل وقد تقدَّم
مثلُها . وقال مكي : « ولا يجوزُ أَنْ تكونَ » ما « بمعنى الذي لأنه يلزم رفعُ »
أجوركم « ، ولم يَقْرأ به أحدٌ؛ لأنَّه يصير التقديرُ : » وإنَّ الذي تُوَفَّوْنه
أجورُكم ، كقولك : « إنَّ الذي أكرمتموه عمروٌ » وأيضاً فإنك تفرِّق بين الصلةِ
والموصولِ بخبر الابتداء « يعني لو كانت » ما « موصولةً لكانت اسمَ » إنَّ «
فيلزمُ حينئذٍ رفعُ » أجوركم « على خبرها كقولِه تعالى :
{
إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] ، ف « ما » هنا يجوزُ أن تكونَ
بمعنى الذي أو مصدريةً تقديرُه : إنَّ الذي صَنَعوه أو : إنَّ صُنْعَهم ، ولذلك
رُفِع « كيد » خبراً لها . وقولُه : « وأيضاً فإنَّك تفرِّقُ » يعني أن « يوم
القيامة » متعلِّقٌ ب « تُوَفَّوْن » فهو من تمامِ الصلة ، فلو كانت « ما »
موصولةً لفَصَلْتَ بالخبرِ الذي هو « أجوركم » بين أبعاضِ الصلةِ التي هي الفعلُ
ومعموله ، ولا يُخْبَر عن موصولٍ إلا بعد تمام صلتِه ، وهذا وإنْ كانَ من
الواضحاتِ إلا أنَّ فيه تنبيهاً على أصولِ العلمِ .
وأدغم أبو عمرو الحاءَ من « زُحْزِحَ » في العينِ هنا خاصة قالوا : لطول الكلمةِ
وتكريرِ الحاء ، دونَ قولِه : { ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] { المسيح
عِيسَى } [ آل عمران : 45 ] ونُقِل عنه الإِدغامُ مطلقاً وعدمُه مطلقاً ،
والنحويون يمنعون ذلك ، ولا يُجيزونه إلا بعد أنْ يَقْلبوا العينَ حاءً ،
ويُدْغِمون الحاءَ فيها قالوا : « لأنَّ الأقوى لا يُدْغَمُ في الأضعفِ ، وهذا
عكسُ الإِدغامِ ، لأنَّ الإِدغامَ أَنْ تَقْلِبَ فيه الأولَ للثاني ، إلا في
مسألتين إحداهما : هذه ، والثانية الحاء في الهاء نحو : » امدحْ هذا « لا تُقْلَبُ
الهاء حاء أيضاً » ، ولذلك طَعَنَ بعضُهم على قراءةِ أبي عمرو ، ولا يُلْتَفت إليه
.
والغُرور : [ يجوزُ أَنْ يكون مصدراً وأَنْ يكونَ ] جمعاً . وقرأ عبد الله بفتح
الغين ، وفُسِّر بالشيطان ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَعولاً بمعنى مَفْعول أي : متاع
المغرور ، أي : المَخْدوع ، وأصل الغَرَر : الخَدْع .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله
تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ } : هذا جوابُ قسم محذوف تقديره : واللهِ لَتُبْلَوُنَّ .
وهذه الواو هي واو الضمير ، والواو التي هي لام الكلمة حُذِفت لأمر تصريفيّ ، وذلك
أن أصله : لَتُبْلَوُوْنَنَّ ، فالنون الأولى للرفع حُذِفت لأجل نون التوكيد ،
وتَحَرَّكت الواو التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها فَقُلبت ألفاً ، فالتقى
ساكنان : الألف وواو الضمير ، فَحُذفت الألف لئلا يلتقيا ، وضُمَّت الواو دلالةً
على المحذوف ، وإنْ شئت قلت : استُثْقِلَت الضمةُ على الواو الأولى فَحُذِفت
فالتقى ساكنان ، فحذفت الواو الأولى ، وحُرِّكت الواوُ بحركة مجانسةٍ دلالةً على
المحذوف . ولا يجوز قلبُ مثلِ هذه الواو همزةً لأنها حركةٌ عارضةٌ ولذلك لم
تُقْلَبْ ألفاً وإنْ تحركت وانفتح ما قبلها .
وأصلُ لَتَسْمَعُنَّ : تسمعونَنَّ ، ففُعِل فيه ما تقدَّم ، إلا أن . هنا حُذِفَتْ
واوُ الضمير لأنَّ قبلَها حرفاً صحيحاً .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
قوله
تعالى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } : هذا جوابٌ لِما تضمَّنه الميثاق من
القسم . وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر بالياء جرياً على الاسم الظاهر وهو
كالغائبِ وحَسَّن ذلك قولُه بعدَه : « فنبذوه » . والباقون بالتاء خطاباً على
الحكاية تقديرُه : « وقلنا لهم » ، وهذا كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني
إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 83 ] بالتاء والياء ، وتقدَّم تحريره .
وقوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يَحتمل وجهين ، أحدهما : واو الحال ، والجملةُ
بعدَها نصبٌ على الحال أي : لتُبَيِّنُنَّه غيرَ كاتمين . والثاني : أنها للعطف ،
وأنَّ الفعلَ بعدها مقسمٌ عليه أيضاً ، وإنما لم يُؤكَّد بالنون لأنه منفيٌّ ،
تقول : « واللهِ لا يقومُ زيد » من غيرِ نونٍ . وقال أبو البقاء : « ولم يأتِ بها
في » تكتمونه « اكتفاءً بالتوكيدِ في الأول لأنَّ » تكتمونَه « توكيدٌ » ، وظاهرُ
عبارتِه أنه لو لم يكن بعدَ مؤكَّدٍ بالنونِ لزم توكيدُه ، وليس كذلك لِما تقدَّم
. وقوله : « لأنه توكيدٌ » يعني أنَّ نَفْيَ الكتمان عنهم من قوله : {
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } ، فجاءَ قولُه : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في
المعنى .
واستحسن الشيخ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ الواوِ عاطفةً لا حاليةً قال : « لأن هذا
الوجه الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ بعد الواو حتى تصيرَ الجملةُ اسميةً ، لأنَّ
المضارع المنفيّ ب » لا « لا يَصِحُّ دخولُ الواو عليه . وغيره يقول : إنها تمتنع
إذا كان مضارعاً مثبتاً فيفهم من هذا أن المضارع المنفيَّ بكلِّ نافٍ لا يمتنع
دخولُها عليه .
وقرأ عبد الله » لَتُبَيِّنُونه « من غير توكيد . قال ابن عطية : » وقد لا تلزم
هذه النونُ لامَ التوكيد ، قال سيبويه « انتهى . والمعروف من مذهب البصريين
لزومُهما معاً ، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سَعة الكلام ، وأنشدوا :
1506 وعَيْشِك يا سلمى لأُوقِنُ أنني ... لِما شِئْتِ مُسْتَحْلٍ ولو أنَّه القتلُ
وقال آخر :
1507 يميناً لأَبْغَضُ كلَّ امرىءٍ ... يُزَخْرِفُ قولاً ولا يفعلُ
فأتى باللامِ وحدها ، وقد تقدَّم هذا مرةً أخرى بأشبع من هذا الكلام .
وقرأ ابن عباس : » ميثاقَ النبيين « . والضميرِ في قوله : » فنبذوه « يعود على
الناس المبيَّن لهم ، لاستحالةِ عوْدِه على النبيين ، وكان قد تقدَّم لك في قوله
تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم } [ آل عمران :
81 ] أنه في أحد الأوجه على حذف مضاف ، أي : أولاد النبيين ، فلا بُعْدَ في
تقديرِه هنا ، أعني قراءة ابن عباس .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
قوله
تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «
لاتَحْسَبَنَّ فلا يَحْسَبُنَّهم » بالياءِ فيهما ورفع باء « يَحْسَبُنَّهم » .
وقرأ الكوفيون بتاء الخطاب وفتحِ الباء فيهما معاً ، ونافع وابن عامر بياءِ
الغَيْبة في الأولِ ، وبالخطاب في الثاني ، وفتح الباءِ فيهما . وقرىء شاذاً بتاءِ
الخطابِ وضَمِّ الباء فيهما معاً . [ وقُرىء فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما وفتح
الباء فيهما أيضاً ، فهذه خمس قراءات ] .
فأمَّا قراءةُ ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة أوجه ، وذلك أنه لا يخلو : إمَّا
أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ الأولُ مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ أو إلى الموصولِ ، فإنْ
جَعَلْناه مسنداً إلى ضميرِ غائب : إمَّا الرسولِ عليه السلام أو غيرِه ففي
المسألة وجهان ، أحدُهما : أنَّ/ « الذين » مفعولٌ أولُ ، والثاني محذوفٌ لدلالةِ
المفعولِ الثاني للفعلِ الذي بعده عليه وهو « بمفازة » ، والتقدير : لا
يَحْسَبَنَّ الرسول أو حاسبٌ الذين يفرحون بمفازة ، فلا يَحْسَبُنَّهم بمفازة ،
فأسند الفعلَ الثاني لضميرِ « الذين » ، ومفعولاه : الضميرُ المنصوبُ و « بمفازةٍ
» .
الوجه الثاني : أنَّ « الذين » مفعولٌ أولُ أيضاً ، ومفعولهُ الثاني هو « بمفازة »
الملفوظِ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوفٌ لدلالةِ مفعولِ الأولِ
عليه ، والتقديرُ : لا يَحْسَبَنَّ الرسول الذين يفرحون بمفازةٍ فلا يَحْسَبُنَّهم
كذلك ، والعمل كما تقدم . وهذا بعيدٌ جداً للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول
بكلامٍ طويل من غير حاجةٍ . والفاءُ على هذين الوجهين عاطفةٌ ، والسببية فيها
ظاهرة .
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصولِ ففيه ثلاثة أوجه ، أولها : أَنَّ الفعل الأول
حُذِف مفعولاه اختصاراً لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما تقديره : لا
يَحْسَبَنَّ الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يَحْسَبُنَّهم فائزين كقول الآخر :
1508 بأيَّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً علي وتَحْسَبُ
أي : وتَحْسَبُ حُبَّهم عاراً ، فحَذَف مفعولي الفعل الثاني لدلالة مفعولي الأول
عليهما ، وهو عكسُ الآية الكريمة حيث حُذِف فيها من الفعل الأول .
الوجه الثاني : أنَّ الفعلَ الأول لم يَحْتَجْ إلى مفعولين هنا . قال أبو علي : «
يَحْسَبَنَّ » لم يقع على شيء ، و « الذين » رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعالُ لغواً
في حكم الجمل المفيدة كقوله :
1509 وما خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودةٍ ... عِراضُ المَذَاكي المُسْنِفِاتِ
القلائِصا
وقال الخليل : « العربُ تقول : ما رأيتُ يقول ذلك إلا زيدٌ ، وما ظننته يقول ذلك
إلا عمرو » يعني أبو علي : أنها في هذه الأماكنِ ملغاة لا مفعولَ لها .
الثالث : أن يكونَ المفعولُ الأول محذوفاً . الثاني هو نفس « بمفازة » ويكون « فلا
يَحْسَبُنَّهم » تأكيداً للفعل الأول . وهذا رأي الزمخشري ، فإنه قال بعد ما حكى
هذه القراءة : « على أنَّ الفعلَ اللذين يفرحون ، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ على
معنى : » لا يَحْسَبَنَّهم الذين يفرحون بمفازةٍ « بمعنى : لا يَحْسَبَنَّ أنفسَهم
الذين يفرحون فائزين ، و » فلا يَحْسَبُنَّهم « تأكيد انتهى .
قال
الشيخ : « وتقدَّم لنا الردُّ على الزمخشري في تقديره : » لا يَحْسَبَنَّهم الذين
« في قوله : { لاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [ آل عمران :
178 ] وأن هذا التقدير لا يَصِحُّ » . قلت : قد تقدم ذلك والجواب عنه بكلام طويل ،
لكن ليس هو في قوله : { لاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } بل في
قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ آل عمران : 169
] في قراءةِ مَنْ قرأه بياء الغيبة ، فهناك ردَّ عليه بما قال ، وقد أَجَبْتُ عنه
والحمد لله ، وإنما نَبَّهْتُ على الموضع لئلا يُطْلَبَ هذا البحثُ من المكان الذي
ذكره فلم يوجد .
ويجوز أن يقال في تقرير هذا الوجه الثالث : إنه حَذَف من أحد الفعلين ما أثبتَ
نظيرَه في الآخر ، وذلك أن « بمفازة » مفعولٌ ثان للفعل الأول حُذِفَتْ من الفعل
الثاني ، و « هم » في : « فلا يَحْسَبُنَّهم » مفعولٌ أول للفعل الثاني ، وهو
محذوفٌ من الأول . وإذا عَرَفْتَ ذلك فالفعل الثاني على هذه الأوجه الثلاثة تأكيدٌ
للأول .
وقال مكي : « إن الفعل الثاني بدلٌ من الأول » ، وتسمية مثلِ هذا بدلاً فيه نظر لا
يخفى ، وكأنه يريد أنَّه في حكم المكرِر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد ، ولذلك قال
بعضُهم : « والثاني معادٌ على طريق البدل مشوباً بمعنى التأكيد » وعلى هذين
القولينِ أعني كونَه توكيداً أو بدلاً فالفاءُ زائدةٌ ليسَتْ عاطفةً ولا جواباً .
وقوله : « فَلاَ يَحْسَبُنَّهُمْ » أصله : يَحْسَبُونَنَّهم بنونين ، الأولى نون
الرفع والثانية للتأكيد ، وتصريفُه لا يَخْفى من القواعد المتقدمة . وتعدَّى هنا
فعلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل ، وهو خاصٌّ بباب الظن وب « عَدِمَ
وفَقَد دونَ سائر الأفعالِ لو قلت : » أكرمتُني « أي : » أكرمت أنا نفسي « لم
يَجُزْ ، وموضعُ تقريرِه غير هذا .
وأما قراءة الكوفيين فالفعلان فيها مسندان إلى ضمير المخاطب : إمَّا الرسولِ عليه
السلام ، أو كلِّ مَنْ يصلح للخطاب ، والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما
في قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعل الأول مسندٌ لضمير غائب .
والفعل الثاني تأكيدٌ للأول أو بدلٌ منه ، والفاءُ زائدة كما تقدَّم في توجيه
قراءة أبي عمرو وابن كثير على قولنا إن الفعلين مسندان للموصول لأن الفاعل فيها
واحد . واستدلوا على أن الفاء زائدة بقوله :
1510 لا تَجْزَعي إنْ مُنْفِساً أهلكتُه ... وإذا هَلَكْتُ فعند ذلك فاجْزَعي
ويقول الآخر :
1511 لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيم جِرْمُها ... فتركْتُ ضاحي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ
أي : تركت . وقولِ الآخر :
1512 حتى تَرَكْتُ العائداتِ يَعُدْنَه ... فيقلن : لا يَبْعَدْ وقلت له : ابعَدِ
إلا أن زيادةَ الفاء ليس رأيَ الجمهور ، إنما قال به الأخفش .
وأمَّا
قراءةُ نافع وابن عامر بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني فوجْهُها أنهما غايرا
بين الفاعلين ، والكلام فيها يُؤْخَذُ مِمَّا تقدم ، فيؤخذ الكلامُ في الفعل الأول
من الكلام على قراءةِ أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة
الكوفيين بما يَليق به ، إلا أنه يَمْتنع هنا أن يكونَ الفعلُ الثاني تأكيداً
للأول أو بدلاً منه لاختلافِ فاعليهما ، فتكون الفاءُ هنا عاطفةً ليس إلا . وقال
أبو علي في « الحجة » : « إنَّ الفاء زائدةٌ والثاني بدل من الأول » ، قال : « ليس
هذا موضعَ العطفِ لأنَّ الكلامَ لم يتِمَّ ، ألا ترى أنَّ المفعول الثاني لم
يُذْكَر بعدُ » . وفيه نظر لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما .
وأمَّا قراءةُ الخطاب فيهما مع ضَمِّ الباء فيهما فالفعلان مسندان لضميرِ المؤمنين
المخاطبين ، والكلامُ في المفعولين كالكلامِ فيهما في قراءة الكوفيين .
وأمَّا قراءةُ الغيبة وفتحِ الباء فيهما فالفعلان مسندان إلى ضمير غائب أي : لا
يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو حاسِبٌ ، والكلامُ في المفعولين للفعلين كالكلامِ في
القراءة التي قبلها . والثاني من الفعلين تأكيدٌ أو بدلٌ ، والفاءُ زائدةٌ على
هاتين القراءتين لاتحادِ الفاعل .
وقرأ النخعي ومروان بن الحكم : « بما آتَوا » ممدوداً أي : أعطَوا . وقرأ أُبيّ «
أُوتوا » مبنياً للمفعول .
قوله : { مِّنَ العذاب } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «
مفازة » أي : بمفازةٍ كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنا « مفازة » مكاناً أي : بموضع
فوز . قال أبو البقاء « لأنَّ المفازة مكانٌ ، والمكانُ لا يعمل » ، يعني فلا
يكونُ متعلقاً بها ، بل بمحذوف على أنه صفةٌ لها ، إلاَّ أنَّ جَعْلَه صفةً مشكلٌ
، لأنَّ المفازة لا تتصف بكونِها من العذاب ، اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوفُ
الذي يتعلق به الجار شيئاً خاصاً [ حتى يصح ] المعنى ، تقديرُه : بمفازةٍ منجيةٍ
من العذاب ، وفيه الإِشكالُ المعروفُ وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوفُ في مثلِه إلا
كوناً مطلقاً .
الوجه الثاني : أنه يتعلَّق/ بنفس « مفازة » على أنها مصدر بمعنى الفوز تقول : «
فزت منه » أي : نَجَوْتُ ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها ،
وليست الدالَّةَ على التوحيد فهو كقوله :
1513 فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا كالمَوارِدِ
فأعمل « رهبةٌ » في « عقابَك » وهو مفعول صريح فهذا أَوْلى . وقالَ أبو البقاء : «
ويكون التقدير : فلا تَحْسَبَنَّهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعل » انتهى .
فإنْ أراد تفسير المعنى فذاك ، وإنْ أراد أنه بهذا التقديرِ يَصِحُّ التعلُّقُ فلا
حاجةَ إليه ، إذ المصدرُ مستقل بذلك لفظاً ومعنى .
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
قوله
تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ } : فيه خمسة أوجه ، أولها : أنه نعت ل « أُولِي » ،
فهو مجرورٌ . وثانِيها : أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : هم الذين . وثالثها : أنه
منصوبٌ بإضمار « أعني » ، وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع ، وقد تقدم ذلك مراراً
. الرابع : أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : يقولون : ربَّنا . قاله أبو البقاء .
وخامسها : أنه بدلٌ من « أُولي » ذكره مكي . وأول الوجوه هو الأحسن .
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالان من فاعل « يَذْكُرون » . و { وعلى جُنُوبِهِمْ }
حالٌ أيضاً فيتعلَّقُ بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ،
فَعَطَفَ الحالَ المؤولة على الصريحة ، عكسَ الآية الأخرى وهي قوله : { دَعَانَا
لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] ، حيث عطف الصريحةَ على
المؤولة . و « قياماً » و « قعوداً » جمعان ل « قائم » و « قاعد » . وأُجيز أن
يكونا مصدرين ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى ذوي قيام وقعود ، ولا حاجةَ إلى هذا .
قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان ، أظهرُها : أنها عطف على الصلةِ فلا محلَّ
لها . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال عطفاً على « قياماً » أي : يذكرونه
متفكرين . فإنْ قيل : هذا مضارعٌ مثبت فكيف دخلت عليه الواوُ؟ فالجوابُ أن هذه
واوُ العطف ، والممنوعُ إنما هو واو الحال .
و « خَلْق » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ على أصله أي : يتفكرون في صنعة هذه
المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله . والثاني : أنه بمعنى المفعول
أي : في مخلوق السماوات والأرض ، وتكون إضافتُه في المعنى إلى الظرف أي : يتفكرون
فيما أودع الله هذين الظرفين من الكواكب وغيرِها . وقال أبو البقاء : « وأن يكون
بمعنى المخلوق؛ ويكون من إضافةِ الشيءِ إلى ما هو في المعنى » وهذا كلامٌ متهافتٌ
إذ لا يُضاف الشيءُ إلى نفسِه ، وما أَوْهم ذلك يُؤَوَّل .
قوله : « ربَّنا » هذه الجملة في محلِّ نصب بقول محذوف تقديره : يقولون . والجملةُ
القولية فيها وجهان ، أظهرهما : أنها حال من فاعل « يتفكرون » أي : يتفكرون قائلين
: ربنا ، وإذا أعربنا « يتفكرون » حالاً كما تقدم فتكونُ الحالان متداخلتين .
والوجه الثاني : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ل « الذين » على قولِنا بأنه مبتدأ ،
كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء .
و « هذا » في قوله : { مَا خَلَقْتَ هَذا } إشارةٌ إلى الخَلْق إن أريد به المخلوق
. وأجاز أبو البقاء حالَ الإِشارة إليه ب « هذا » أن يكون مصدراً على حالِه لا
بمعنى المخلوق . وفيه نظرٌ ، أو إلى السماوات والأرض ، وإنْ كانا شيئين كلٌّ منهما
جَمْعٌ ، لأنهما بتأويل : هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجمع فأُشير
إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع .
قوله
: { بَاطِلاً } في نصبه خمسةُ أوجه ، أحدها : نعت لمصدر محذوف أي : خلقاً باطلاً ،
وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثلَ هذا حالاً من ضميرِ ذلك المصدر . الثاني : أنه حالٌ
من المفعول به وهو « هذا » . الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ وهو الباء ،
والمعنى : ما خلتقهما بباطلٍ بل بحقٍّ وقُدرةٍ . الرابع : أنه مفعول من أجله ، و «
فاعِل » قد يجيء مصدراً كالعاقبةِ والعافيةِ . الخامس : أنه مفعول ثاني ب « خَلَق
» قالوا : و « خلق » إذا كانت بمعنى جعل التي تتعدى لاثنين تعدَّت لاثنين ، وهذا
غير معروف عند أهل العربية ، بل المعروف أنَّ « جَعَلَ » إذا كانت بمعنى « خَلَقَ
» تعدَّتْ لواحد فقط . وأحسنُ هذه الأعاريبِ أن يكونَ حالاً من « هذا » ، وهي حالُ
لا يُسْتغنى عنها ، لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله : { وَمَا
خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] .
و { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه وهو معترضٌ بين قوله : « ربنا » وبين قوله : «
فَقِنا » ، وقال أبو البقاء : « دخلت الفاء لمعنى الجزاء ، والتقدير : إذا
نَزَّهناك أو وحَّدْناك فَقِنا » . وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبُّبُ فيها ظاهر ،
تسبَّب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ }
طَلَبُهُمْ وقايةَ النار . وقيل : هي لترتيب السؤال على ما تضمَّنه « سبحان » من
معنى الفعل أي : سبحانك فقِنا ، وأبعدَ مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيبِ على ما
تضمَّنه النداء .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
قوله
تعالى : { مَن تُدْخِلِ } : « مَنْ » شرطيةٌ مفعولٌ مقدَّم واجبُ التقديمِ لأنَّ
له صدرَ الكلام ، و « تُدْخِل » مجزوم بها . و { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } جوابُها .
وحكى أبو البقاء عن بعضهم قولين غريبين . أحدهما : أن تكونَ « مَنْ » منصوبةً
بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره قوله : « فقد أَخْزَيْتَه ، وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ
الاشتغالِ صحةَ تسلُّط ما يُفَسِّر على ما هو منصوب ، والجواب لا يعمل فيما قبل
فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدَّم على الشرط . الثاني : أن » مَنْ « مبتدأ ، والشرطُ
وجوابُه خبر هذا المبتدأ ، وهذان الوجهان غَلَطٌ . والله أعلم . وعلى الأقوالِ
كلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً ل » إنَّ « .
ويُقال : خَزَيْتُه وأَخْزَيْتُه ثلاثياً ورباعياً ، والأكثرُ الرباعي ، وخَزِيَ
الرجلُ يَخْزَى خِزْياً إذا افتضح ، وخَزاية إذا استحيا فالفعلُ واحد ، وإنما
يتميز بالمصدر كما تقدم .
قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } » مِنْ « زائدة لوجود الشرطين ،
وفي مجرورها وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأ وخبرُه الجارِّ قبله ، وتقديمُه هنا جائزٌ
لا واجبٌ لأنَّ النَّفْيَ مُسَوِّغ ، وحَسَّنَ تقديمَه كونُ مبتدئِه فاصلةً .
الثاني : أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله لاعتمادِه على النفي ، وهذا جائزٌ عند الجميع .
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
قوله
تعالى : { سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي } : « سمع » إنْ دَخَلَتْ على ما يَصِحُّ
أن يُسْمع نحو : « سمعت كلامك وقراءتك » تعدَّت لواحد ، وإنْ دخلت على ما لا
يَصِحُّ سماعُه بأنْ كان ذاتاً فلا يَصِحُّ الاقتصارُ عليه وحدَه ، بل لا بد من
الدلالةِ على شيء يُسْمع نحو : « سمعت رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم » .
وللنحويين في هذه المسألة قولان ، أحدُهما : أنها تتعدى فيه أيضاً إلى مفعولٍ واحد
، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفةٌ إنْ كان قبلَها نكرةٌ ، وحالاً إنْ كان معرفة
. والثاني : قول الفارسي وجماعة تتعدَّى لاثنين الجملةُ في محلِّ الثاني منهما .
فعلى قولِ الجمهور يكون « يُنادي » في محلِّ نصب لأنه صفةٌ لمنصوبٍ قبلَه ، وعلى
قول الفارسي يكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول ثان .
وقال الزمخشري : « تقول : سمعت رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، فَتُوْقِعُ
الفعلَ على الرجل ، وتَحْذِف المسموع لأنك وَصَفْتَه بما يسمع أو جعلته حالاً منه
فأغناك عن ذكره ، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بَدٌّ ، وأن تقولَ : سَمِعْتُ
كلامَ فلانٍ أو قولَه » . وهذا قولُ الجمهور الذي قَدَّمْتُ لك ذكرَه . إلاَّ أنَّ
الشيخ اعترض عليه فقال : « قوله : ولولا الوصفُ أو الحال إلى آخره ليس كذلك ، بل
لا يكونُ وصفٌ ولا حالٌ ومع ذلك تَدْخُل » سمع « على ذاتٍ لا على مسموع » كقوله
تعالى : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكرُ
ظرفِ الدعاءِ من المسموعِ « .
وأجاز أبو البقاء في » يُنادي « أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من الضميرِ
المستكن في » مناديا « .
فإن قيل : فما الفائدة في الجَمْع بين » منادٍ « و » ينادي «؟ فأجاب الزمخشري بأنه
ذَكَر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإِيمان تفخيماً لشأن المنادي لأنه لا مناديَ
أعظمُ من منادٍ للإِيمان ، وذلك أنَّ المنادِيَ إذا أطلق ذَهَب الوهمُ إلى منادٍ
للحرب أو لإِطفاء الثائرة أو لإِغاثة المكروب أو لكفاية بعضِ النوازِل أو لبعضِ
المنافعِ ، فإذا قلت : » ينادِي للإِيمان « فقد رَفَعْتَ من شأن المنادي وفَخَّمته
.
وأجاب أبو البقاء عنه بثلاثة أجوبة/ أحدها : التوكيد نحو : قم قائماً . الثاني :
أنه وُصِل به ما حَسَّن التكريرَ وهو » للإِيمان « . الثالث : أنه لو اقْتُصِر على
الاسمِ لجاز أن نسمع معروفاً بالنداء يَذْكُر ما ليس بنداء فلمَّا قال » يُنادِي «
ثبتَ أنهم سمعوا نداءَه في هذه الحال .
ومفعولُ » ينادي « محذوف أي : ينادي الناس . ويجوزُ ألاَّ يرادَ مفعول نحو : {
أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] . و » نادى « و » دعا « يتعدَّيان باللام تارة
وب » إلى « أخرى ، وكذلك » ندب « .
قال
الزمخشري : « وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً » فاللامُ
في موضِعها ، ولا حاجةَ إلى أَنْ يقال : إنها بمعنى « إلى » ولا إنها بمعنى الباء
، ولا إنها لام العلة أي : لأجل الإِيمان كما ذهب إلى ذلك بعضهم .
قوله : { أَنْ آمِنُواْ } في « أَنْ » قولان ، أحدهما : أنها تفسيرية لأنها
وَقَعتْ بعد فعلٍ بمعنى القول لا حروفِه ، وعلى هذا فلا موضعَ لها من الإِعراب .
والثاني : أنها المصدريةُ وُصِلَتْ بفعل الأمر ، وفي وصلها به نظرٌ من حيث إنها
إذا انسبك منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ تفوتُ الدلالة على الأمرية ، واستدلُّوا على
وَصْلِها بالأمر بقولهم : « كَتَبْتُ إليه بأنْ قم » فهي هنا مصرية ليس إلا ،
وإلاَّ يلزمْ تعليقُ حرف الجر . ولهذا موضعُ هو أليقُ به ، وإذ قيل بأنها مصدرية
فالأصل التعدِّي إليها بالباء أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبان المشهوران :
الجر والنصب .
وقوله : { فَآمَنَّا } عطف على « سمعنا » ، والعطفُ بالفاءِ مؤذنٌ بتعجيل القبول
وتسبُّبِ الإِيمان عن السماع من غير مُهْلة ، والمعنى : فآمَنَّا بربنا .
قوله : { مَعَ الأبرار } ظرفٌ متعلِّق بما قبله أي : تَوَفَّنا معدودين في صحبتهم
. وقيل : تُجُوَّز به هنا عن الزمان . ويجوز أن يكون حالاً من المفعول فيتعلَّق
بمحذوف ، وأجاز مكي وأبو البقاء أن تكونَ صفةً لمحذوف أي : أبراراً مع الأبرار
كقوله :
1514 كأنَّك مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خلفَ رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جَمَل من جمال . قال أبو البقاء : « ويكون » أبراراً « حالاً ، ولا حاجة
إلى دعوى ذلك . والأبرارُ يجوز أن يكون جمع » بارّ « كصاحِب وأَصْحاب ، أو بَرّ
بزنة » كَتِف « نحو : كَتِف وأكتاف .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
قوله
تعالى : { على رُسُلِكَ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه متعلق ب « وَعَدْتَنا »
قال الزمخشري : « على » هذه صلةُ للوعد في قولك : « وعد الله الجنة على الطاعة »
والمعنى : ما وَعَدْتنا في تصديقِ رسلك . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها
حال من المفعول وقَدَّره الزمخشري بقوله : « مُنَزَّلاً على رسلك ، أو محمولاً على
رسلك؛ لأنَّ الرسل مُحَمَّلون ذلك : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } [ النور
: 54 ] . ورَدَّ الشيخ عليه بأن الذي قدَّره محذوفاً كون مقيد ، وقد عُلِم من
القواعد أن الظرف والجار إذا وقعا حالين أو وصفين أو خبرين أو صلتين تعلَّقا بكون
مطلق ، والجارُّ هنا وقع حالاً فكيف يُقَدَّر متعلَّقُه كوناً مقيداً وهو »
مُنَزَّل « أو » محمول «؟ الثالث : ذكره أبو البقاء أن تتعلق » على « ب » آتِنا «
، وقَدَّر مضافاً محذوفاً فقال : » على ألسنة رسلك « وهو حسن .
والميعاد : اسمُ مصدرٍ بمعنى الوعد . و » يوم القيامة « فيه وجهان ، أحدهما : أنه
مصوبٌ ب » لا تُخْزِنا « ، والثاني : أجازه الشيخ أن يكون من باب الإِعمال؛ إذ
يصلح أن يكون منصوباً ب » لا تُخْزِنا « وب » آتِنا ما وعدتنا « إذا كان الموعودُ
به الجنةَ . وقرأ الأعمش : » رُسْلِك « بسكون السين .
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قوله
تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ } : الجمهورُ على فتح « أَنَّ » والأصل : بأني ،
فيجيء فيها المذهبان . وقرأ أُبَيّ : « بأني » على هذا الأصل . وقرأ عيسى بن عمر
بالكسرِ وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على إضمارِ القول أي : وقال إني . والثاني :
أنه على الحكاية ب « استجاب » لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين .
و « استجاب » بمعنى أجاب ، ويتعدَّى بنفسه وباللام ، وتقدَّم تحقيق ذلك في قوله :
{ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } [ البقرة : 186 ] . ونقل تاج القُرَّاء أن « أجاب »
عام ، و « استجاب » خاص في حصول المطلوب .
والجمهورُ : « أُضيع » من أضاع وقرىء بالتشديد والتضعيف ، والهمزةُ فيه للنقل
كقوله :
1515 كمُرْضِعَة أولادَ أُخرى وضَيَّعَتْ ... بني بَطْنِها ، هذا الضلالُ عن
القصدِ
قوله : « منكم » في موضعِ جر صفةً ل « عامل » أي كائنٍ منكم .
وأمَّا « مِنْ ذَكَرٍ » ففيه خمسة أوجه ، أحدُها : أنها لبيان الجنس ، بَيَّنَ جنس
العامل ، والتقدير : الذي هو ذكر أو أنثى ، وإن كان بعضُهم قد اشترط في البيانية
أن تدخل على مُعَرَّف بلام الجنس ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك . الثاني : أنها زائدة
لتقدُّم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون « مِنْ ذَكَر » بدلاً من نفسِ « عامل »
كأنه قيل : عاملٍ ذَكَرٍ أو أنثى ، ولكنْ فيه نظرٌ من حيث إنَّ البدلَ لا يُزاد
فيه « مِنْ » . الثالث : أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في «
منكم » ، لأنه لَمَّا وقع صفة تَحَمَّل ضميراً ، والعاملُ في الحالِ العاملُ في «
منكم » أي : عاملٍ كائن منكم كائناً من ذكر . الرابع : أَنْ يكونَ « مِنْ ذكرٍ »
بدلاً مِنْ « منكم » ، قال أبو البقاء « وهو بدلُ الشيء من الشيء وهما لعينٍ
واحدةٍ » يعني فيكونُ بدلاً تفصيلياً بإعادةِ العاملِ كقوله : { لِلَّذِينَ
استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن
لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] . وفيه إشكالٌ من وجهين ، أحدهما : أنه بدلٌ
ظاهرٍ من حاضر في بدلِ كلٍّ من كل وهو لا يجوزُ إلا عند الأخفش . وقَيَّد بعضُهم
جوازَه بأَنْ يفيدَ إحاطةَ كقوله :
1516 فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مَقامِنا ... ثلاثتُنا حتى أُزيروا المنائيا
قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ]
فلمَّا أفادَ الإِحاطةَ والتأكيدَ جاز . واستدلَّ الأخفشُ بقوله :
1517 بكمْ قريشٍ كُفِينا كلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأمَّ نهَجَ الهدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وقول الآخر :
1518 وشَوْهاءَ تَعْدُو بي إلى صارخِ الوغَى ... بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفَنيق
المُدَجَّل
ف « قريش » بدلٌ من « كم » ، و « بُمْستلئم » بدل من « بي » بإعادة حرفِ الجرِّ ،
وليس ثَمَّ لا إحاطةٌ ولا تأكيدٌ ، فمذهبه يمشي على رأيِ الأخفشِ دونَ الجمهور .
الثاني : أنَّ البدل التفصيلي لا يكون ب « أو » ، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع
كقوله :
1519
وكنت كذي رِجْلَيْن رِجْلٍ صحيحةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى منها الزمانُ فَشَلَّتِ
وقد يُمكن أن يجابَ عنه بأن « أو » قد تأتي بمعنى الواو كقوله :
1520 قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ... ما بينَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
ف « أو » بمعنى الواو ، لأنَّ « بين » لا تَدْخُل إلا على متعدد ، وكذلك هنا
لَمَّا كان « عاملٍ » عامًّاً أُبدل منه على سبيل التوكيد ، وعُطِف على أحد
الجزأين ما لا بد منه ، لأنه لا يؤكَّد العمومُ إلا بعموم . الخامس : أن يكون «
مِنْ ذَكرٍ » صفةً « ثانية » ل « عامل » قَصَد بها التوضيحَ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ
كالتي قبلها .
قوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبرٌ ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنَّ
هذه الجملة استئنافيةٌ جيء بها لتبيين شِرْكَةِ النساء مع الرجال في الثواب الذي
وَعَد الله به عبادَه العاملين ، لأنه يُروى في الأسباب أنَّ أم سلمة رضي الله
عنها سألَتْه عليه السلام عن ذلك فنزلت ، والمعنى : كما أنكم من أصل واحد ، وأنَّ
بعضكم مأخوذٌ من بعض فكذلك أنتم في ثواب العملِ لا يُثاب رجلٌ عاملٌ دونَ امرأة
عاملة .
وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنها جملةٌ معترضةٌ . قال : « وهذه جلمةٌ معترضةٌ
بُيِّنَتْ بها شِرْكةُ النساء من الرجالِ فيما وعَدَ اللهُ العاملين » ويعني
بالاعتراضِ أنها جِيءَ بها بين قولِه { عَمَلَ عَامِلٍ } وبينَ ما فُصِّلَ به عملُ
العاملِ مِنْ قولِه : { فالذين هَاجَرُواْ } ، ولذلك قال الزمخشري : « فالذين
هاجروا تفصيلٌ لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم .
والثاني : أن هذه الجملة صفة . الثالث : أنها حالٌ ، ذكرهما أبو البقاء ، ولم
يعيِّن الموصوفَ ولا ذا الحال ، وفيه نظر .
قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } مبتدأٌ ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } جوابُ قسمٍ
محذوفٍ تقديرُه : واللهِ لأكفِّرَنَّ ، وهذا القسمُ وجوابُه خبرٌ لهذا المبتدأ ،
وفي هذه الآيةِ ونظائرِها من قوله : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
} [ العنكبوت : 69 ] . وقول الشاعر :
1521 جَشَأَتْ فقلتُ اللَّذْ خَشِيْتِ ليأتِيَنْ ... وإذا أتاكِ فلاتَ حين مَناصِ
رَدٌّ على ثعلب حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبراً . وله أن يقول : هذه
معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ هو الخبرُ ، وله نظائر .
والظاهرُ أنَّ هذه الجمل التي بعد الموصول كلُّها صلاتٌ له ، فلا يكون الخبر إلا
لِمَنْ جمع بين هذه الصفات : المهاجرة والقتل والقتال ، ويجوز أن يكون ذلك على
التنويع ، ويكون قد حَذَف الموصولاتِ لفَهْم المعنى ، وهو مذهب الكوفيين ، وقد
تقدَّم القول فيه ، والتقدير : فالذين هاجروا ، والذين أُخرجوا ، والذين قاتلوا ،
فيكون الخبر بقوله : لأكفرنَّ عَمَّن اتصف بواحدة من هذه/ .
وقرأ جمهور السبعة : » وقاتَلوا وقُتِلوا « ببناء الأول للفاعل من المفاعلة ،
والثاني للمفعول ، وهي قراءةُ واضحة . وابن عامر وابن كثير كذلك ، إلا أنهما
شَدَّدا التاء من » قُتِّلوا « للتكثير ، وحمزة والكسائي بعكس هذا ، ببناء الأول
للمفعول ، والثاني للفاعل .
وتوجيهُ
هذه القراءةِ بأحدِ معنيين : إما أنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيب فلذلك قُدِّم معها
ما هو متأخرٌ في المعنى ، هذا إن حملنا ذلك على اتِّحاد الأشخاص الذين صَدَر منهم
هذان الفعلان . الثاني : أن يُحْمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم مَنْ قُتِل ومنهم
مَنْ قاتل . وهذه الآية في المعنى كقوله : { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
فَمَا وَهَنُواْ } [ آل عمران : 146 ] ، والخلافُ في هذه كالخلاف في قوله {
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ الآية : 111 ] في براءة ، والتوجيهُ هناك كالتوجيه
هنا .
وقرأ عمر بن عبد العزيز : « وقَتَلوا وقُتِلوا » ببناء الأول للفاعل من « فَعَل »
ثلاثياً ، والثاني للمفعول ، وهي كقراءة الجماعة .
وقرأ محارب بن دثار : « قَتَلوا وقاتلوا » ببنائهما للفاعل . وقرأ طلحة ابن مصرف :
« وقُتِّلوا وقاتَلوا » كقراءةِ حمزة والكسائي ، إلاَّ أنَّه شدَّد التاءَ ،
والتخريجُ كتخريج قراءتهما . ونقل الشيخ عن الحسن وأبي رجاء : « قاتلوا وقُتِّلوا
» بتشديد التاء من « قُتِّلوا » ، وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر كما تقدَّم ،
وكأنه لم يَعْرف أنها قراءتُهما .
قوله : « ثواباً » في نصبه ثمانيةُ أوجه ، أحدها : أنه نصب على المصدرِ المؤكَّدِ
، لأنَّ معنى الجملة قبله يقتضيه ، والتقدير : لأُثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً ،
فوضع « ثواباً » موضعَ أحدِ هذين المصدرين ، لأنَّ الثواب في الأصل اسمٌ لِما
يُثاب به كالعَطاء : اسمٌ لما يُعْطى ، ثم قد يقعان موقع المصدر ، وهو نظيرُ قولهِ
: { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، و { وَعْدَ الله } [ النساء : 122 ] في كونهما
مؤكِّدين . الثاني : أن يكونَ حالاً من « جنات » أي : مُثاباً بها ، وجاز ذلك وإنْ
كنت نكرةً لتخصُّصها بالصفة .
والثالث : أنه حال من ضميرِ المفعول أي : مُثابِين . الرابع : أنه حالٌ من الضمير
في « تجري » العائدِ على « جنات » . وخَصَّص أبو البقاء كونَه حالاً بجَعْلِه
بمعنى الشيء المُثابِ به . قال : « وقد يقع بمعنى الشيء المثاب بِه كقولك : » هذا
الدرهَمُ ثوابُك « فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير الجنات أي : مُثاباً بها ،
ويجوز أن يكون حالاً من ضمير المفعول به في لأَدْخِلنهم » . الخامس : نصبُه بفعلٍ
محذوف أي : يُعطيهم ثواباً السادس : أنه بدلٌ من « جنات » ، وقالوا : على تضمين «
لأدْخلنهم » . لأَعْطِيَنَّهم لَمَّا رأوا أن الثواب لا يَصِح أن يُنْسَبَ إليه الدخولُ
فيه احتاجوا إلى ذلك . ولقائلٍ أن يقول : جَعَل الثوابَ ظرفاً لهم مبالغةً ، كما
قيل في قوله : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] . السابع : أنه نصب
على التمييز وهو مذهب الفراء . الثامن : أنه منصوب على القطع ، وهو مذهب الكسائي ،
إلاَّ أنَّ مكيّاً لمَّا نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحال ، وعلى
الجملةِ فهذان وجهان غريبان يُبْعُد فهمهما .
و { مِّن عِندِ الله } صفةٌ له .
وقوله : { والله عِندَهُ حُسْنُ } الأحسنُ أن يرتفعَ « حسن الثواب » على الفاعلية
بالظرفِ قبله ، لاعتماده على المبتدأ قبله ، والتقدير : والله استقر عنده حسنُ
الثواب ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ والظرفُ قبلَه خبرُه ، والجملة خبرُ الأول ،
وإنما كان الوجهُ الأولُ أحسنَ لأنَّ فيه الإِخبارَ بمفرد وهو الأصلُ ، بخلافِ
الثاني فإنَّ الإِخبار فيه بجملة .
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
وقرأ ابن أبي إسحاق : { لاَ يَغُرَّنَّكَ } : بتخفيف النون ، وكذلك : { لاَ يَغُرَّنْكمْ } [ فاطر : 5 ] و { فَلاَ يَصُدَّنْك } [ طه : 16 ] و { وَلاَ يَصُدَّنْكم } [ الزخرف : 62 ] .
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
قوله تعالى : { مَتَاعٌ } : خبرُ مبتدأ محذوف دَلَّ عليه الكلام تقديره : تَقَلُّبهم أو تَصَرُّفهم متاع قليل ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : ولبئسَ المهادُ جهنمُ .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قوله
تعالى : { لَكِنِ الذين } : قرأ الجمهورُ بتخفيفِها ، وأبو جعفر بتشديدِها ، فعلى
القراءةِ الأولى : الموصولُ رفعٌ بالابتداء ، وعند يونس يجوز إعمالُ المخففة ،
وعلى الثانية في محل نصب . ووقعت « لكن » هنا أحسنَ موقع ، فإنَّها وقعت بين ضدين
: وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيلٌ إلى تعذيبِ الكفار وتنعيمِ
المتقين ، ووجهُ الاستدراك أنَّه لَمَّا وَصَفَ الكفارَ بقلةِ نفعِ تَقَلُّبهم في
التجارة وتصرُّفهم في البلادِ لأجلها جازَ أن يَتَوَّهَّمَ متوهِّمٌ أن التجارة من
حيث هي متصفةٌ بذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يَضُرُّهم ذلك
وأنَّ لهم ما وعدهم به .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملة أجاز مكي فيها وجهين ، أحدهما
: الرفع على النعت ل « جنات » . والثاني : النصب على الحالِ من الضمير المُسْتكنِّ
في « لهم » قال : « وإنْ شِئْتَ في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في » لهم
«؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إنْ رَفَعْتَ » جنات « بالابتداء ، فإنْ
رَفَعْتَها بالاستقرار لم يكن في » لهم « ضميرٌ مرفوع إذ هو كالفعل المتقدم » .
يعني أن « جنات » يجوز رفعُها من وجهين ، أحدُهما : الابتداءُ والجارُّ قبلها
خبرها والجملةُ خبر « الذين اتقوا » . والثاني : بالفاعليةِ لأنَّ الجارَّ قبلَها
اعتمد بكونِه خبراً للذين اتقوا ، وقد تقدَّم أنَّ هذه أَوْلى لقربِه من المفرد ،
فإنْ جَعَلْنا رفعَها بالابتداءِ جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وجهان
: الرفعُ على النعت والنصبُ على الحالِ من الضمير المرفوعِ في « لهم » لِتحمُّلِه
حينئذ ضميراً ، وإنْ جَعَلْنا رفعَها بالفاعليِةِ تعيَّن أن تكونَ الجملةُ بعدَها
في موضعِ رفعٍ نعتاً لها ، ولا يجوزُ النصبُ على الحال؛ لأنَّ « لهم » ليس فيه
حينئذ ضميرٌ لرفعِه الظاهرَ . و « خالدين » نصبٌ على الحالِ من الضميرِ في « لهم »
، والعاملُ فيه معنى الاستقرار .
قوله : « نُزُلاً » النُّزْلُ : ما يُهيَّأ للنزيل وهو الضيف . قال أبو الشعراء
الضبي :
1522 وكنا إذا الجبارُ بالجيشِ ضافَنا ... جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ له
نُزْلا
هذا أصلُه ثم اتُّسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء ، وإنْ لم يكن لضيف ، ومنه : {
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ الواقعة : 93 ] وفيه قولان : هل هو مصدر أو جمع نازل ،
نحو قول الأعشى :
1523 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أو تَنْزِلون فإنَّا
مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا عَرَفْتَ هذا ففي نصبه ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوب على المصدر المؤكِّد؛
لأنَّ معنى « لهم جنات » نُنْزلُهم جناتٍ نُزُلاً . وقَدَّره الزمخشري بقوله : «
رزقاً وعطاءً من عند الله » . الثاني : نصبُه بفعل مضمر أي : جَعَلهم لهم نُزُلاً
. الثالث : نصبُه على الحال من « جنات » لأنها تخصصت بالوصف .
الرابع
: أن يكون حالاً من الضمير في « فيها » أي : مُنَزَّلةً إذا قيل : بأن « نُزُلاً »
مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاء . الخامس : أنه حال من الضمير المستكنِّ في «
خالدين » إذا قلنا إنه جمع نازل ، قاله الفارسي في « التذكرة » . السادس وهو قول
الفراء : نصبه على التفسير أي : التمييز ، كما تقول : « هو لك هبةً أو صدقة » ،
وهذا هو القول بكونه حالاً .
والجهورُ على ضم الزاي . وقرأ الحسن والأعمش/ والنخعي بسكونها وهي لغة ، وعليها
البيت المتقدم ، وقد تقدم لك أن مثل هذا يكون فيه المسكَّنُ مخففاً من المثقل أو
بالعكس ، والحق : الأول .
قوله : { مِّنْ عِندِ الله } فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إنْ جَعَلْتَ « نُزُلاً »
مصدراً كان الظرف صفةً له ، فيتعلق بمحذوف أي : نزلاً كائناً من عند الله على سبيل
التكريم ، وإنْ جَعَلْتَه جمعاً كان في الظرفِ وجهان ، أحدهما : جَعْلُه حالاً من
الضمير المحذوف تقديره : نُزُلاً إياها . والثاني : أنه خبر محذوف أي : ذلك من عند
الله ، نقل ذلك أبو البقاء .
قوله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ } : « ما » موصولةٌ ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء ،
والخبر : « خَيْر » ، و « للأبرار » صفة ل « خير » ، فهو في محلِّ رفع ، ويتعلَّقُ
بمحذوف . وظاهرُ عبارة الشيخ أنه متعلق بنفس « خير » فإنه قال : « وللأبرار » متعلق
« بخير » . وأجاز بعضهم أن يكون « للأبرار » هو الخبرَ ، و « خيرٌ » خبر ثان . قال
أبو البقاء : « والثاني أي الوجه الثاني أن يكون الخبر » للأبرار « ، والنية به
التقديم ، أي : والذي عند الله مستقر للأبرار ، و » خير « على هذا خبرٌ ثان » ،
وفي ادِّعاء التقديم والتأخير نظرٌ؛ لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكونَ بالاسمِ
الصريح ، فإذا اجتمع خبرٌ مفردٌ صريحٌ وخبرٌ مؤول به بُدِىء بالصريحِ من غيرِ عكسٍ
، كالصفة ، فإذا وقعا في الآيةِ على الترتيبِ المذكورِ فكيف يُدَّعى فيهما
التقديمُ والتأخير؟ .
ونقل أبو البقاء عن بعضِهم أنه جَعَل « للأبرار » حالاً من الضمير في الظرف ، و «
خير » خبر المبتدأ ، قال : « وهذا بعيدٌ ، لأنَّ فيه الفصلَ بين المبتدأ وخبره
بحالٍ هي لغيره ، والفصلَ بين الحال وصاحبها بخبر المبتدأ ، وذلك لا يَجُوز في
الاختيار .
وقال الشيخ : » وقيل : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : الذي عند الله للأبرارِ خيرٌ ،
قال : « وهذا ذهولٌ عن قاعدِة العربية : من أنَّ المجرورَ إذ ذاك يتعلق بما تعلَّق
به الظرفُ الواقعُ صلةً للموصول ، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة ، ولا يُخْبر
عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها » .
فإنْ
عنى الشيخُ بالتقديمِ والتأخيرِ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ « للأبرار » حالاً من
الضمير في الظرف فصحيحٌ ، لأنَّ العاملَ في الحال حينئذ الاستقرارُ الذي هو عاملٌ
في الظرفِ الواقعِ صلةً ، فيلزَمُ ما قاله ، وإنْ عنى به الوجهَ الأول أعني جَعْلَ
« للأبرار » خبراً ، والنيةُ به التقديمُ ، وب « خير » التأخيرُ كما ذكر أبو
البقاء فلا يَلْزَم ما قال ، لأنَّ « للأبرار » حينئذٍ يتعلَّقُ بمحذوفٍ آخر غيرِ
الذي تعلَّق به الظرف .
و « خير » هنا يجوز أن تكون للتفضيل وأن لا تكون فإنْ كانت للتفضيل كان المعنى :
وما عند الله خيرٌ للأبرار مِمَّا لهم في الدنيا ، ويحتمل : خير لهم مما
يَتَقَلَّب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قوله
تعالى : { لَمَن يُؤْمِنُ } : اللام لام الابتداء دَخَلَتْ على اسم « إنَّ »
لتأخُّره عنها . و { مِنْ أَهْلِ } خبرٌ مقدم ، و « مَنْ » يجوزُ أن تكونَ موصولةً
، وهو الأظهرُ ، وموصوفةً أي : لقوماً ، و « يؤمِنْ » صلةٌ على الأول فلا محلَّ له
، وصفةٌ على الثاني فمحلُّه النصب وأتَى هنا بالصلةِ مستقبلةً وإن كان ذلك قد مضى
، دلالةً على الاستمرارِ والديمومة .
قوله : { خَاشِعِينَ } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه حالٌ من الضمير في « يؤمنُ »
، وجَمَعَه حَمْلاً على معنى « مَنْ » كما جَمَع في قوله : « إليهم » ، وبدأ
بالحمل على اللفظ في « يُؤمِنُ » على الحمل على المعنى لأنه الأَوْلى . الثاني :
أنه حالٌ من الضمير في « إليهم » ، فالعامل فيه « أنزل » . الثالث : أنه حالٌ من
الضمير في « يَشْترون » ، وتقديمُ ما في حَيِّز « لا » عليها جائزٌ على الصحيح ،
وتقدَّم شيء من ذلك في الفاتحة . الرابع : أنه صفةٌ ل « مَنْ » إذ قيل بأنها نكرةٌ
موصوفةٌ ، وأمَّا الأوجهُ فجائزةٌ سواءً كانت موصولةً أو نكرةً موصوفة .
قوله : « لله » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب « خاشعين » أي لأجلِ الله .
والثاني : أن يتعلَّقَ ب « لا يَشْتُرون » ذكره أبو البقاء ، قال : « وهو في نيةِ
التأخير ، أي : لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله » .
قوله : { لاَ يَشْتَرُونَ } كقولِه : « خاشعين » إلا في الوجه الثالث لتعذُّرِه ،
ونزيد عليه وجهاً آخرَ : وهو أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في « خاشعين » أي
: غيرَ مشترين . وتقدَّم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه وفي الباء في البقرة .
قوله : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ } « أولئك » مبتدأ . وأمَّا { لَهُمْ
أَجْرُهُمْ } ففيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون « لهم » خبراًً مقدماً ، و «
أجرهم » مبتدأ مؤخرٌ ، والجملةُ خبر الأول ، وعلى هذا فالظرف فيه وجهان ، أحدُهما
: أنه متعلقٌ ب « أجرهم » ، والثاني : أنه حالٌ من الضمير في « لهم » وهو ضميرُ
الأجرِ لأنه واقعٌ خبراً .
الوجه الثاني : أن يرتفعَ « أجرُهم » بالجارِّ قبله ، وفي الظرف الوجهان ، إلاَّ
أنَّ الحالَ من « أجرهم » الظاهرُ ، لأنَّ « لهم » لا ضميرَ فيه حينئذٍ . الثالث :
أنَّ الظرفَ هو خبرُ « أجرهم » و « لهم » متعلق بما تعلَّقَ به هذا الظرفُ من
الثبوتِ والاستقرار . ومن هنا إلى آخر السورة تقدَّم إعراب نظائره .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قوله
تعالى : { مِّن نَّفْسٍ } : متعلق ب « خَلَقكم » فهو في محل نصب . و « مِنْ »
لابتداء الغاية . وكذلك « منها زوجَها » ، و « بَثَّ منهما » . وابن أبي عبلة : «
واحدٍ » من غير تاء ، وله وجهان ، أحدهما : مراعاةُ المعنى ، لأن المراد بالنفس
آدم عليه السلام . والثاني : أن النفسَ تُذَكَّر وتؤنث ، وعليه :
1524 ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
قوله : « وخَلَقَ » فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه عطفٌ على معنى « واحدة » لِما
فيه من معنى الفعل كأنه قيل : « مِنْ نفسٍ وَحُدتْ » أي انفردت ، يُقال : « وَحُد
، يَحِد ، وَحْداً وحِدَة » ، بمعنى انفرد . الثاني : أنه عطفٌ على محذوف ، قال
الزمخشري : « كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها وإنما حُذِف
لدلالة المعنى عليه ، والمعنى : شَعَبَكم من نفس واحدة هذه صفتُها » بصفةٍ هي
بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خَلْقهِم منها . وإنما حَمَلَ الزمخشري والقائلَ الذي قبله
على ذلك مراعاةُ الترتيبِ الوجودي؛ لأنَّ خَلْقَ حواء ، وهي المُعَبَّرُ عنها
بالزوجِ ، قبل خلقنا ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً على
الصحيح .
الثالث : أنه عطفٌ على « خَلَقَكم » فهو داخلٌ في حَيِّز الصلةِ ، والواوُ لا
يُبالى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً . إلا أن الزمخشري خَصَّ هذه الوجهَ بكونِ
الخطابِ في { ياأيها الناس } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : « والثاني :
أن يُعْطَفَ على » خلقكم « ويكون الخطابُ للذين بُعِث إليهم الرسول ، والمعنى :
خَلَقكم من نفس آدم ، لأنَّهم مِنْ جملةِ الجنسِ المفرَّعِ منه ، وخَلَقَ منها
أُمَّكم حواء » . فظاهرُ هذا خصوصيَّةُ الوجهِ الثاني بكون الخطابِ للمعاصرين ،
وفيه نَظَرٌ . وقَدَّر بعضُهم مضافاً في « منها » أي : « مِنْ جنسِها زوجَها » ،
وهذا عند مَنْ يرى أن حواء لم تُخْلق من آدم ، وإنما خُلِقت من طينة فَضَلَتْ من
طينة آدم ، وهذا قولٌ مرغوب عنه .
وقرىء : « وخالِقٌ وباثٌّ » بلفظِ اسمِ الفاعل . وخَرَّجه الزمخشري على أنه خبرُ
مبتدأ محذوفٍ أي : وهو خالقٌ وباثٌّ . يقال : بَثَّ وأَبَثَّ بمعنى « فَرَّق »
ثلاثياً ورباعياً .
وقوله : { كَثِيراً } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه نعتٌ ل « رجالاً » قال أبو
البقاء : « ولم يؤنِّثْه حَمْلاً على المعنى ، لأنَّ » رجالاً « عدد أو جنس أو جمع
، كما ذكَّر الفعلَ المسندَ إلى جماعة المؤنث كقوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف
: 30 ] .
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهما بَثّاً كثيراً . وقد تقدم أن مذهب
سيبويه في مثله النصبُ على الحال . فإن قيل : لِم خَصَّ الرجالَ بوصفِ الكثرة دون
النساء؟ ففيه جوابان ، أحدُهما : أنه حَذَفَ صفتَهنْ لدلالةِ ما قبلها عليها [ أي
] : ونساءً كثيرة .
والثاني
أنَّ الرجال لشهرتِهم يناسِبُهم ذلك بخلافِ النساء فإنَّ الألْيَقَ بهنَّ الخمولُ
والإِخفاء .
قوله : { تَسَآءَلُونَ } قرأ الكوفيون : « تَساءلون » بتخفيف السين على حذف إحدى
التاءين تخفيفاً ، والأصل : تَتَساءلون ، وقد تقدَّم لنا الخلاف : هل المحذوفُ
الأولى أو الثانية؟ وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين لأنها
مقارِبَتُها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين قالوا : « ست » والأصل : « سِدْسٌ
» .
وقرأ عبد الله : « تَسْأَلون » من سأل الثلاثي . وقرىء « تَسَلون » بنقل حركة
الهمزة على السين .
و « تَساءلون » على التفاعل فيه وجهان ، أحدهما : المشاركة في السؤال . والثاني :
أنه بمعنى فَعَل ، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله . قال أبو البقاء : « ودخَل حرف
الجر في المفعول لأن المعنى : تتحالفون » يعني : أن الأصل كان تعدية « تسألون »
إلى الضمير بنفسِه ، فلما ضُمِّن معنى « تتحالفون » عُدِّي تَعْدِيَتَه .
قوله : { والأرحام } الجمهور/ على نصب ميم « والأرحام » وفيه وجهان ، أحدهما : أنه
عطفٌ على لفظ الجلالة أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها . وقَدَّر بعضهم مضافاً
أي : قَطْعَ الأرحام ، ويقال : « إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام ،
وذلك أن معنى اتقوا الله : اتقوا مخالفَتَه ، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها » .
والثاني : أنه معطوفٌ على محل المجرور في « به » نحو : مررت بزيد وعمراً ، لَمَّا
لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع . ويؤيد هذا قراءة عبد الله
: « وبالأرحام » . وقال أبو البقاء : « تُعَظِّمونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به
تعظيمٌ له » .
وقرأ حمزة « والأرحامِ » بالجر ، وفيها قولان ، أحدهما : أنه عطفٌ على الضمير
المجرور في « به » من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تقدَّم
تحقيقُ القول في هذه المسألة ، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاجُ كل فريق في
قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد } [ البقرة : 217 ] .
وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه
جوازُ ذلك أنه قال : « حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال : »
والأرحامِ « بخفض الأرحام هو كقولهم : » أسألك بالله والرحمِ « قال : » وهذا قبيحٌ
« لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه » .
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ
القسم مُقْسَمٌ به ، وجوابُ القسم : « إنَّ الله كان عليكم رقيباً » . وضُعِّف هذا
بوجهين ، أحدهما : أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في « بالأرحام » يمنعان من
ذلك ، والأصل توافقُ القراءات . والثاني : أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى
والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك .
وقدَّر
بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : « تقديره : وربِّ الأرحام : قال أبو البقاء :
وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله » يعني الحلف بالله تعالى . ولقائل [ أن يقول : ] «
إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل ،
وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك » ، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ
، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير ، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ
مَنْ طَعَن فيها ، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة
.
وقرأ عبد الله أيضاً : « والأرحامُ » رفعاً وهو على الابتداء ، والخبر محذوفٌ
فقدَّره ابن عطية : « أهلٌ أَنْ توصل » ، وقَدَّره الزمخشري : و « الأرحامُ مِمَّا
يتقى ، أو : مما يُتَساءل به » ، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية ، بخلاف
الأول ، فإنه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّره أبو البقاء : « والأرحامُ محترمة »
أي : واجبٌ حرمتُها .
وقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } جارٍ مجرىٍ التعليل . والرقيب :
فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُب رَقْباً ورُقوباً ورِقْباناً إذا أحَدَّ النظرَ
لأمر يريد تحقيقَه ، واستعمالُه في صافت الله تعالى بمعنى الحفيظ ، قال :
1525 كمقاعِد الرُّقباءِ للضُّرَبَاءِ أيديهم نواهِدْ ... والرقيب أيضاً : ضرب من
الحَيَّات . والرقيب : السهم الثالث من سهام الميسر وقد تقدمت في البقرة .
والارتقاب : الانتظار .
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
قوله
تعالى : { بالطيب } : هو المفعول الثاني ل « تتبدَّلوا » ، وقد تقدم في البقرة
قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ الآية : 59 ] أن المجرور بالباء هو
المتروكُ والمنصوبَ هو الحاصل . وتفعَّل هنا بمعنى استفعل وهو كثير ، نحو :
تَعَجَّل وتأخر بمعنى استعجل واستأخر . ومن مجيء تبدّل بمعنى استبدل قول ذي الرمة
:
1526 فياكرَمَ السَّكْنِ الذين تَحَمَّلوا ... عن الدارِ والمُسْتَخْلِفِ
المُتَبَدِّلِ
أي : المستبدل .
قوله : { إلى أَمْوَالِكُمْ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن « إلى » بمعنى « مع »
كقوله : { إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ] ، وهذا رأي الكوفيين . والثاني : أنها
على بابها ، وهي ومجرورها متعلقة بمحذوف على أنها حال ، أي : مضمومةً أو مضافةً
إلى أموالكم . والثالث : أن يضمَّن « تأكلوا » معنى « تَضُمُّوا » كأنه قيل : ولا
تضمُّوها إلى أموالكم آكلين . قال الزمخشري : « فإن قلت : قد حَرَّم عليهم أكل مال
اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلِمَ وَرَدَ النهيُّ عن أكلها معها؟ قلت : لأنهم إذا
كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رَزَقهم الله من الحلال ، وهم مع ذلك يَطْمعون
فيها كان القبحُ أبلغَ والذمُّ ألحقَ ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك ، فنعى عليهم
فِعْلَهم ، وشنَّع بهم ليكون أزجر لهم » .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً } في الهاءِ ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها تعودُ على
الأكلِ المفهوم من « لا تأكلوا » . والثاني : على التبدُّل المفهومِ من « لا
تَتَبدَّلوا » . والثالث : عليهما ، ذهاباً به مذهبَ اسمِ الإِشارة نحو : {
عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ، ومنه :
1527 كأنَّه في الجِلْدِ تَوْليعُ البَهقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة ، والأولُ
أَوْلى ، لأنه أقربُ مذكور .
وقرأ الجمهور : « حُوباً » بضم الحاء . والحسن بفتحها ، وبعضهم : « حَاباً »
بالألف ، وهي لغات في المصدر ، والفتح لغة تميم . ونظير الحَوْب والحاب : القول
والقال ، والطُّرد والطَّرْد وهو الإِثم وقيل : المضمومُ اسم مصدر . والمفتوحُ
مصدر ، وأصلُه مِنْ حَوْب الإِبل وهو زَجْرها ، فَسُمِّي به الإِثم ، لأنه يُزْجَر
به ، ويُطلق على الذنب أيضاً ، لأنه يزجر عنه ، ومنه قوله عليه السلام : « إن
طلاقَ أمِّ أيوب لَحَوْب » أي : لذنب عظيم ، يقال : حابَ يَحُوب حَوْباً وحُوباً
وحاباً وحَوُوباً وحِيابة « . قال المخبَّل السعدي :
1528 فلا يَدْخُلَنَّ الدهرَ قبرك حُوبٌ ... فإنَّك تلقاهُ عليك حَسِيبُ
وقال الآخر :
1529 وإنَّ مهاجِرَيْنِ تَكَنَّفاه ... غداتئذٍ لقد خَطِئا وحابا
والحَوْبة : الحاجة ، ومنه في الدعاء : » إليك أرفع حَوْبتي « وأوقع الله به
الحَوْبة ، وتحوَّب فلان : إذا خَرَجَ من الحَوْب ، كتحرَّج وتأثَّم ، فالتضعيف
فيه للسَلْب .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قوله
تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ } : شرطٌ ، وفي جوابه وجهان ، أحدهما : أنه قوله : {
فانكحوا } ، وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ والعشر ولا يقومون بحقوقهن ، فلمَّا
نزلت : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ } أخذوا يتحرَّجون من ولاية اليتامى ، فقيل
لهم : إنْ خفتم من الجَوْر في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجَوْر في حقوق
النساء فانكِحوا هذا العدد ، لأنَّ الكثرة تُفْضي إلى الجور ولا تنفع التوبةُ من
ذنبٍ مع ارتكاب مثله .
والثاني : أنَّ الجوابَ قولُه : « فواحَدةً » والمعنى : أن الرجل منهم كان يتزوج
اليتيمة التي في ولايته ، فلمَّا نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم
تحرَّجوا من ذلك ، فقيل لهم : إنْ خفتم من نكاح النساء اليتامى فانحكوا ما طابَ من
الأجنبيات ، أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم ، فعلى هذا يَحْتاج إلى تقدير/ مضاف ، أي
: في نكاح يتامى النساء . فإن قيل : « فواحدةً » جواب لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تَعْدِلُواْ } فكيف يكون جواباً للأول؟ أُجيب عن ذلك بأنه أعادَ الشرط
الثاني ، لأنه كالأول في المعنى ، لمَّا طال الفصلُ بين الأولِ وجوابِه ، وفيه
نظرٌ لا يخفى . على متأمله .
والخوف هنا على بابه ، فالمراد به الحَذَر ، وقال أبو عبيدة : إنه بمعنى اليقين ،
وأنشد :
1530 فقلتُ لهم خافوا بألفَي مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُم في الفارسي المُسَرَّدِ
أي : أيقِنوا ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك والردُّ عليه ، وأنَّ في المسألة ثلاثة
أقوالٍ عند قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [
البقرة : 229 ] .
قوله : { أَلاَّ تُقْسِطُواْ } إنْ قَدَّرْتَ أنها على حذفِ حرف جر أي : « مِنْ أن
لا » ففيها الخلافُ المشهورُ : أهي في محل نصب أو جر ، وإنْ لم تقدِّر ذلك بل
وَصَل الفعل إليها بنفسه ، كأنك قلت : « فإن حذرتم » فهي في محلِّ نصب فقط ، كما
تقدَّم في البقرة .
وقرأ الجمهور : « تُقْسطوا » بضم التاء من « أقسط » إذا عدل ، ف « لا » على هذه
القراءة نافيةٌ ، والتقديرُ : وإنْ خِفْتم عدم الإِقساط أي : العدل . وقرأ إبراهيم
النخعي ويحيى بن وثاب بفتحِها من « قسط » ، وفيها تأويلان ، أحدهما : أنَّ « قَسَط
» بمعنى جار ، وهذا هو المشهور في اللغة ، أعني أنَّ الرباعي بمعنى عَدَل ،
والثلاثي بمعنى جار ، وكأن الهمزةَ فيه للسَلْبِ ، فمعنى « أقسط » أي : أزالَ
القسط وهو الجور ، و « لا » على هذا القول زائدةٌ ليس إلا ، وإلاَّ يفسدِ المعنى ،
كهي في قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] . والثاني : حكى الزجاج :
أن « قسط » الثلاثي يُستعمل استعمالَ « أقسط » الرباعي ، فعلى هذا تكون « لا »
غيرَ زائدة ، كهي في القراءة الشهيرة ، إلا أنَّ التفرقةَ هي المعروفة لغة .
قال الراغب : « القِسْط » : أن يأخذ قِسْطَ غيرِه ، وذلك جَوْرٌ ، والإِقساط : أن
يُعْطِيَ قِسْطَ غيره ، وذلك إنصافٌ ، ولذلك يقال : « قَسَط الرجل إذا جار ، وأقسط
: إذا عَدَل ، قال تعالى :
{
وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] ، وقال تعالى :
{ وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ] .
ومن غريبِ ما يحكى أن الحجَّاج لما أَحْضر الحَبْر الشهير سعيد ابن جبير ، قال له
: « ما تقول فِيَّ؟ » قال : « قاسط عادل » ، فأعجب الحاضرين ، فقال لهم الحجاج : «
ويلكم . لم تفهموا . عنه ، إنه جعلني جائراً كافراً ، ألم تسعموا قوله تعالى : {
وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } وقوله تعالى : { ثْمَّ الذين
كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] وقد تقدم استيفاءُ الكلام في
هذه المادة في قوله : { قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
قوله : { مَا طَابَ } في » ما « هذه أوجه أحدُها : أنها بمعنى الذي ، وذلك عند
مَنْ يرى أنَّ » ما « تكون للعاقل ، وهي مسألةٌ مشهورة ، قال بعضُهم : » وحَسَّن
وقوعَها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصاتُ العقول . وبعضهم يقول : هي لصفاتِ
مَنْ يعقِل . وبعضُهم يقول : لنوعِ مَنْ يعقل ، كأنه قيل : النوع الطيب من النساء
، وهي عباراتٌ متقاربة ، ولذلك لم نَعُدَّها أوجهاً .
الثاني : أنها نكرةٌ موصوفة أي : انكِحوا جنساً طيباً ، أو عدداً طيباً .
الثالث : أنها مصدريةٌ ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسم فاعل تقديره : فانكحوا الطيب
. وقال الشيخ هنا : « والمصدرُ مقدرٌ هنا باسم الفاعل ، والمعنى : فانكحوا النكاح
الذي طاب لكم » ، والأول أظهر .
الرابع : أنها ظرفيةٌ ، والظرفيةُ تستلزم المصدريةَ ، والتقدير : فانكحوا مدةَ
يطيب فيها النكاح لكم . إذا تقرر هذا فإن قلنا : إنها موصولةٌ اسمية أو نكرة
موصوفة أو مصدرية والمصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعل كانت « ما » مفعولاً ب « انكحوا
» . ويكون « من النساء » فيه وجهان ، أحدهما : أنها لبيانِ الجنس المبهم في « ما »
عند مَنْ يثبت لها ذلك . والثاني : أنها تبعيضية ، أي : بعض النساء ، وتتعلق
بمحذوف على أنها حال من « ما طاب » . وإن قلنا : إنها مصدريةٌ ظرفية أو مصدرية
محضة ، ولم يُوقَعِ المصدرُ موقعَ اسم فاعل كما تقدمت حكايتُه عن الشيخ كان مفعول
« فانكحوا » قوله « من نساء » ، نحو قولك : أكلت من الرغيف ، وشربت من العسل « أي
: شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل . فإنْ قيل : لِمَا لا تَجْعل على هذا » مَثْنى
« وما بعدها مفعولَ » فانكحوا « أي : فانكحوا هذا العدد؟ فالجوابُ : أن هذه
الألفاظ المعدولةَ لا تلي العوامل .
وقرأ ابن أبي عبلة : » مَنْ طاب « وهو مرجِّحٌ كونَ » ما « بمعنى الذي للعاقل .
وفي مصحف أبي بن كعب : » طِيب « بالياء ، وهذا ليس بمبني للمفعول ، لأنه قاصر ،
وإنما كتب كذلك دلالة على الإمالةِ وهي قراءة حمزة .
قوله
: { مَثْنى } منصوب على الحال من « ما طاب » . وجعله أبو البقاء حالاً من « النساء
» . وأجاز هو وابن عطية أن يكونَ بدلاً من « ما » . وهذان الوجهان ضعيفان : أمَّا
الأول فلأنَّ المُحَدَّث عنه إنما هو الموصول ، وأتى بقوله : « من النساءِ »
كالتبيين . وأما الثاني فلأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العامل ، وقد تقدَّم أنَّ
هذه الألفاظَ لا تباشر العواملَ .
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولةَ فيها خلافٌ ، وهل يجوز فيها القياسُ أم يُقتصر
فيها على السماع؟ قولان : قول البصريين عدمُ القياس ، وقول الكوفيين وأبي إسحاق
جوازُه ، والمسموعُ من ذلك أحدَ عشر لفظاً : أُحاد ومَوْحَد ، وثُناء ومَثْنى ، وثُلاث
وَمَثْلَث ، ورُباع ومَرْبع ، ومَخْمس ، ولم يُسمع خُماس ، وعُشار ومَعْشر .
واختلفوا أيضاً في صرفها وعدمِه : فجمهورُ النحاةِ على منعة ، وأجاز الفراء صرفها
، وإن كان المنعُ عنده أَوْلى .
واختلفوا أيضاً في سببِ مَنْعِ الصرف فيها على أربعة مذاهب ، أحدُها : مذهب سيبويه
، وهو أنها مُنِعَتِ الصرفَ للعدل والوصف : أمَّا الوصفُ فظاهر ، وأمَّا العدلُ
فلكونها معدولةً من صيغة إلى صيغة ، وذلك أنها معدولةٌ عن عددٍ مكرر ، فإذا قلت :
جاء القوم أحادَ أو مَوْحَدَ ، أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ كان بمنزلة قولك : « جاؤوا
واحداً واحداً/ وثلاثةً ثلاثة » . ولا يُراد بالمعدول عنه التوكيدُ ، إنما يراد به
تكريرُ العدد كقولهم : « عَلَّمْتُه الحسابَ باباً باباً » .
والثاني : مذهب الفراء ، وهو العدلُ والتعريف بِنِيَّةِ الألف واللام ، ولذلك
يَمْتنع إضافتُها عنده لتقديرِ الألف واللام ، وامتنع ظهورُ الألف واللام عنده
لأنها في نية الإِضافة .
الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عَدْلُها عن عددٍ مكرر ، وعَدْلُها عن التأنيث .
والرابع : نقله الأخفش عن بعضهم أنه تكرارُ العدل ، وذلك أنه عُدل عن لفظ اثنين
اثنين ، وعن معناه لأنه قد لا يستعمل في موضع تُستعمل فيه الأعدادُ غيرُ المعدولةِ
تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا تقول : « جاءني مَثْنى وثلاث » حتى يتقدَّم قبله
جمعٌ ، لأن هذا الباب جُعِل بياناً لترتيبِ الفعلِ . فإذا قلت : « جاء القوم
مَثْنَى » أفادَ أنَّ مجيئَهم وقع من اثنينِ اثنين ، بخلافِ غيرِ المعدولة ، فإنها
تفيدُ الإِخبار عن مقدارِ المعدودِ دونَ غيرِه ، فقد بانَ بما ذكرنا اختلافُهما في
المعنى ، فلذلك جاز أن تقومَ العلةُ مَقام علتين لإِيجابها حكمين مختلفين . انتهى
. ولهذه المذاهبِ أدلةٌ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ ليس هذا موضعَها .
وقال الزمخشري : « إنما مُنِعت الصرفَ لما فيها من العدل : عدلِها عن صيغتِها ،
وعدلِها عن تكررها ، وهن نكراتٌ يُعَرَّفْنَ بلام التعريف ، يقال : » فلان ينكح
المَثْنى والثُلاث « . قال الشيخ : » وما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا أعلم أحداً
قاله ، بل المذاهب فيه أربعة « ، وذكرها كما تقدم ، وقد يقال : إن هذا هو المذهب
الرابع ، وعَبَّر عن العدل في المعنى بعدلِها عن تكررها .
وناقشه
الشيخ أيضاً في مثاله بقوله : « ينكح المثنى » من وجهين ، أحدهما : دخول « أل »
عليها ، قال : « وهذا لم يَذْهب إليه أحد ، بل لم تستعمل في لسان العرب إلا نكراتٍ
» . الثاني : أنه أولاها العوامل ، ولا تلي العوامل ، بل يتقدمهما شيء يلي
العواملَ ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام : « صلاةٌ الليلِ مَثْنى مثنى »
، أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة ، أو صفاتٍ نحو قوله تعالى : { أولي أَجْنِحَةٍ
مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] ، وقوله :
1531 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ذئابٌ تَبَغَّى
الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ
وقد وقعت إضافتُها قليلاً كقوله :
1532 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بمَثْنى الزُّقاقِ
المُتْرَعات وبالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضُهم على إيلائها العواملَ على قلة بقوله :
1533 ضربْتُ خُماسَ ضربةَ عبشمِيٍّ ... أدارُ سداسَ أن لا يستقيما
ويمكنُ تأويله على حذف المفعول لفهمِ المعنى تقديرُه : ضربتهم خماسَ .
ومن أحكام هذه الألفاظ ألاَّ تؤنَّثَ بالتاء ، لا تقول : « مَثْناة » ولا « ثُلاثَة
» ، بل تَجْري على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً .
وقرأ النخعي وابن وثاب : « ورُبَعَ » من غير ألف . وزاد الزمخشري عن النخعي : «
وثُلَثَ » أيضاً ، وغيرُه عنه : « ثُنَى » مقصوراً من « ثُناء » . حَذَفوا الألف
من ذلك كله تخفيفاً ، كما حذفها الآخر في قوله :
1534 وصِلِّيانا بَرِدا ... يريد : بارداً .
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، جوابه : « فواحدة » ، وقد تقدم أن منهم مَنْ جعل
« فواحدة » جواباً للأول ، وكرر الثاني لما طال الفصل ، وجعل قوله : { فانكحوا }
جملةَ اعتراض ، ويُعْزَى لأبي عليّ ، ولعله لا يَصِحُّ عنه . قال الشيخ : « لأنه
إذا أُنتج من الآيتين : هذه وقوله : { وَلَن تستطيعوا } [ النساء : 129 ] ما
أنْتَج من الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة أو يتسرَّى بما ملكَتْ
يمينُه ، ويبقى الفصلُ بجملةِ الاعتراض لا فائدةَ له ، بل يكون لَغْواً على زعمِه
» .
والجمهور على نصبِ « فواحِدةَ » بإضمار فعلٍ أي : فانكحوا واحدة وطَؤُوا ما ملكت
أيمانكم ، وإنما قَدَّرْنا ناصباً آخر لمِلْكِ اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في
مِلْكِ اليمين إلا أن يريدَ به الوطْءَ في هذا والتزوج في الأول ، فليزم استعمالُ
المشتركِ في معنييه أو الجمعُ بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مقولٌ به ، وهذا
قريبٌ من قوله :
1535 عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
وبابِه .
وقرأ الحسن وأبو جعفر : « فواحدةٌ » بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : الرفعُ بالابتداء
، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة اعتمادُها على فاء الجزاء ، والخبرُ محذوف أي :
فواحدةٌ كافية . الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : فالمُقْنِعُ واحدة . الثالث :
أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر أي : فيكفي واحدة .
و « أو » على بابها مِنْ كونِها للإِباحةِ أو التخيير . و « ما » في « ما مَلَكَتْ
» كهي في قوله : « ما طابَ » .
وأضافَ
المِلْك لليمين لأنها محلُّ المحاسن ، وبها تُتَلَقَّى راياتُ المجد . ورُوي عن
أبي [ عمرو ] : « فما ملكت أيمانكم » ، والمعنى : إنْ لم يَعْدل في عُشْرةِ واحدةٍ
فما ملكت يمينه . وقرأ ابن أبي عبلة : « أو مَنْ ملكت أيمانكم » .
قوله : { ذلك أدنى } مبتدأ وخبر ، و « ذلك » إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي
. و « أَدْنى » أفعلُ تفضيل من دنا يدنو أي : قَرُب أي : أقربُ إلى عدِم العَوْل .
و { أَن لاَ تَعُولُواْ } في محلِّ نصب أو جَرٍّ على الخلافِ المشهور في « أن »
بعد حذف حرف الجر ، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : « إلى » أي :
أدنى إلى ألاَّ تعولوا . والثاني : « اللام » والتقدير : أدنى لئلا تعولوا .
والثالث : وقَدَّره الزمخشري : مِنْ أن لا تميلوا ، لأن أفعل التفضيل يَجْري مجرى
فِعله ، فما تعدَّى به فعلُه تعدَّى هو به ، وأَدْنى من دنا ، و « دنا » يتعدَّى ب
إلى واللام ومِنْ . تقول : دَنَوْت إليه وله ومنه .
وقرأ الجمهور : « تَعُولوا » مِنْ عالَ يَعُول إذا مال وجار ، والمصدر : العَوْل
والعِيالة ، وعالَ الحاكم أي : جار ، قال أبو طالب في النبيّ صلى الله عليه وسلم :
1536 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... له حاكمٌ من نفسِه غيرُ
عائِل
وعالَ الرجل عيالَه يَعُولهم أي : مانَهم من المَؤُونة ، ومنه : « ابدَأْ بنفسك ثم
بمن تعول » ، وحكى ابن الأعرابي : عال الرجل يعول : كثر عياله ، وعالَ يَعِيل
افتقر وصار له عائلةٌ . والحاصل : أن « عال » يكونُ لازماً ومتعدياً ، فاللازمُ
يكون بمعنى مالَ وجارَ ، ومنه « عال الميزانُ » ، وبمعنى كَثُر عيالُه ، وبمعنى
تفاقم الأمرُ ، والمضارعُ من هذا كلِّه يعولُ ، وعالَ الرجل ، افتقر ، وعالَ في
الأرض ذهب فيها ، والمضارع من هذين يَعِيل ، والمتعدي يكون بمعنى أثقل وبمعنى مان
من المؤونة وبمعنى غَلَب ، ومنه « عيل صبري » / ، ومضارع هذا كله : يَعُول ،
وبمعنى أعجز ، تقول : أعالني الأمر أي : أعجزني ، ومضارع هذا يَعيل ، والمصدر
عَيْل ومَعِيل . فقد تلخص من هذا أن « عال » اللازم يكون تارة من ذوات الواو وتارة
من ذوات الياء باختلاف المعنى ، وكذلك « عال » المتعدي أيضاً .
وفَسَّر الشافعي « تَعُولوا » بمعنى : يكثرُ عيالُكم ، وردَّ هذا القولَ جماعة
كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب « النظم » . قال الرازي : « هذا غلطٌ من
جهة المعنى واللفظ : أما الأول فلإِباحة السراري مع أنه مَظَنَّة كثرة العيال
كالتزوج ، وأما اللفظ فلأن مادة » عال « بمعنى كَثُر عياله من ذوات الياء لأنه من
العَيْلَة ، وأما » عال « بمعنى جار فمِنْ ذواتِ الواو فاختلفت المادتان ، وأيضاً
فقد خالَفَ المفسرين » . وقال صاحب النظم : « قال أولاً » ألاَّ تعدلوا « فوجَبَ
أن يكونَ ضدُّه الجورَ » .
وقد
ردَّ الناسُ على هؤلاء ، أمَّا قولهم : التسرِّي أيضاً يكثُر معه العيال من أنه
مباح « فممنوعٌ ، وذلك لأنَّ الأمةَ ليست كالمنكوحةِ ، ولهذا يَعْزِلُ عنها بغيرِ
إذنها ويُؤْجرُها ويأخذ أُجرتها ينفقها عليه وعليها وعلى أولادها . وقال الزمخشري
: » وجهُه أَنْ يُجعل من قولِك : « عالَ الرجل عِياله يعولهم » كقولك : مانَهم
يَمُونهم أي : أنفق عليهم ، لأنَّ مَنْ كثر عياله لزمه أن يَعُولهم ، وفي ذلك ما
يَصْعُب عليه المحافظة من كسبِ الحلال والأخذِ من طيب الرزق « ثم أثنى على الشافعي
ثناءً جميلاً ، وقال : » ولكنْ للعلماء طرقٌ وأساليبُ ، فسلك في تفسير هذه الكلمة
مَسْلَكَ الكنايات « . انتهى .
وأمَّا قولُهم : » خالفَ المفسرين « فليس بصحيح ، بل قاله زيد ابن أسلم وابن زيد .
وأمَّا قولُهم » اختلف المادتان « فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن
الأعرابي عن العرب : » عال الرجل يَعُول : كثر عياله « ، وحكاها الكسائي أيضاً ،
قال : » يقال : عال الرجل يَعُول ، وأعال يُعيل : كَثُر عياله « ونقلها أيضاً
الدوري المقرىء لغةً عن حِمْير وأنشد :
1537 وإنَّ الموتَ يأخذُ كلَّ حَيٍّ ... بلا شك وإنْ أَمْشى وعَالا
أمشى : كثرت ماشيته ، وعال : كَثُر عياله ، ولا حجةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكونَ »
عال « من ذوات الياء ، وهم لا يُنْكرون أنَّ » عال « يكون بمعنى كَثُر عياله ،
ورُوي عنه أيضاً أنه فسَّر » تَعُولوا « بمعنى تفتقروا ، ولا يُريد به أنَّ
تَعولوا وتَعيلوا بمعنى ، بل قصدَ الكناية أيضاً ، لأن كثرة العيال سببُ الفقر .
وقرأ طلحة : » تَعيلوا « بفتح تاء المضارعة من عالَ يعيل : افتقر ، قال :
1538 وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يَدْري الغنيُّ متى يَعِيل
وقرأ طاوس : » تُعيلوا « بضمها من أعال : كَثُر عياله ، وهي تعضُد تفسيرَ الشافعي
المتقدم من حيث المعنى . وقال الراغب : » عاله وغاله يتقاربان ، لكن الغَوْل فيما
يُهْلِك ، والعَوْل فيما يُثْقِل ، وعالت الفريضة : إذا زادت في القِسمة المسماة
لأصحابها بالنصِّ « .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
قوله
تعالى : { صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } : مفعولٌ ثان ، وهي جمع « صَدُقة » بفتحِ
الصاد وضم الدال بزنة « سَمُرة » ، والمرادُ بها المَهْر ، وهذه القراءةُ المشهورة
، وهي لغةُ الحجاز . وقرأ قتادة : « صُدْقاتهن » بضم الصاد وإسكان الدال ، جمعُ
صُدْقة بزنة غُرْفة . وقرأ مجاهد وابن أبي عبلة بضمِّهما ، وهي جمعُ صُدُقة بضم
الصاد والدال ، وهي تثقيلُ الساكنة الدالِ للإِتباع . وقرأ ابن وثاب والنخعي : «
صُدُقَتَهُنَّ » بضمهما مع الإِفراد . قال الزمخشري : « وهي تثقيل » صُدْقة «
كقولهم في » ظُلْمة « : » ظُلُمة « . وقد تقدم لنا خلاف : هل يجوزُ تثقيل الساكنِ
المضمومِ الفاءِ؟ وقرىء : » صَدْقاتِهن « بفتح الصاد وإسكان الدال ، وهي تخفيف
القراءة المشهورة كقولهم في عَضُد : عََضْد .
وفي نصب » نِحْلة « أربعة أوجه ، أحدُها : أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها
الفعل قبلها؛ لأن » آتُوهُنَّ « بمعنى انحِلوهُنَّ ، فهي مصدرٌ على غير الصدرِ نحو
: » قَعَدْت جلوساً « .
الثاني : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثةُ احتمالات ، أحدها :
أنه الفاعل في » فآتُوهُنَّ « أي : فآتوهن ناحِلين . الثاني : أنه المفعولُ الأولُ
وهو » النساء « . الثالث : أنه المفعولُ الثاني وهو » صدقاتهن « أي : منحولات .
الوجه الثالث : أنها مفعول من أجله؛ إذا فُسِّرت بمعنى » شِرْعة « .
الوجه الرابع : انتصابُها بإضمارِ فعلٍ بمعنى شَرَع ، أي : نحل الله ذلك نِحْلة أي
: شَرَعه شِرْعة وديناً .
والنِّحْلة : العَطيَّةُ عن طِيبِ نفس ، والنِّحْلة : الشِّرْعة ، ومنه » نِحْلة
الإِسلام خير النِحَل « ، وفلان ينتحل بكذا أي : يَدِين به ، والنِّحْلة : الفريضة
.
قال الراغب : » والنِّحْلة والنَّحْلة : العَطِيَّةُ على سبيلِ التبرع ، وهي أخصُّ
من الهِبة ، إذ كل هبةٍ نِحْلة من غير عكس ، واشتقاقُه فيما أرى من النَّحْل نظراً
إلى فِعله ، فكأن « نَحَلْتُه » أعطيته عطيةَ النحل « ثم قال : » ويجوز أن تكونَ
النِّحْلة أصلاً فسُمِّي النحلُ بذلك اعتباراً بفعله « وقال الزمخشري : » مِنْ
نَحَله كذا : أعطاه إياه ، ووهبَه له عن طيبِ نفسِه ، نِحْلة ونَحْلاً ، ومنه
حديثُ أبي بكر رضي الله عنه : « إني كنت نَحَلْتُكِ جَدادَ عشرينَ وَسْقاً » .
قوله : « منه » في محل جر ، لأنه صفة ل « شيء » فيتعلق بمحذوف أي : عن شيء كائنٍ
منه . و « مِنْ » فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتبعيض ، ولذلك لا يجوز لها أن
تَهَبَهُ كلَّ الصَّداق . وإليه ذهب الليث . والثاني : أنها للبيان ، ولذلك يجوزُ
أن تَهَبَه كل الصَّداق . قال ابن عطية : « و » مِنْ « لبيان الجنس ههنا ، ولذلك
يجوز أن تَهَبَ المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك » .
انتهى
. وقد تقدَّم أن الليث يمنع ذلك فلا يُشْكِل كونها للتعبيض .
وفي هذا الضمير أقوال ، أحدها : أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب «
صَدُقاتِهِنَّ » . الثاني : أنه يعود على « الصَّدُقات » لسدِّ الواحدِ مَسَدَّها
، لو قيل : « صَداقَهُنَّ » لم يختلَّ المعنى ، وهو شبيهٌ بقولِهم : « هو أحسنُ
الفتيان وأجملُه » لأنه لو قيل : « هو أحسن فتىً » لصحَّ المعنى ، ومثلُه :
1539 وطابَ ألبانُ اللِّقاح وبَرَدْ ... في « برد » ضميرٌ يعود على « ألبان »
لسدِّ « لَبَن » مسدَّها . الثالث : أنه يعودُ على « الصَّدُقات » أيضاً ، لكن
ذهاباً/ بالضمير مذهبَ الإِشارة ، فإن اسم الإِشارة قد يُشار به مفرداً مذكراً إلى
أشياء تقدَّمته كقولِه : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } [ آل عمران
: 15 ] بعد ذِكْرِه أشياءَ قبله ، وقد تقدَّم لك في البقرة ما حُكِي عن رؤبة
لَمَّا قيل له في قوله :
1540 فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ
« أردْتُ ذلك » ، فَأَجْرى الضميرُ مجرى اسم الإِشارة . الرابع : أنه يعودُ على
المال ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، لأنَّ الصَّدُقات تَدُلُّ عليه . الخامس : أنه
يعودُ على الإِيتاء المدلول عليه ب « آتُوا » قال الراغب وابن عطية . السادس : قال
الزمخشري : « ويجوزُ أن يُذَكَّر الضمير لينصرف إلى الصَّداق الواحد ، فيكون
متناولاً بعضَه ، ولو أُنِّث لتناول ظاهرُه هبةَ الصَّداق كلِّه ، لأنَّ بعض الصَّدُقات
واحد منها فصاعداً . وقال الشيخ : » وأقولُ حَسَّن تذكيرَ الضميرِ أنَّ معنى «
فإنْ طِبْنَ » : فإنْ طابَتْ كلُّ واحدةٍ ، فلذلك قال « منه » أي : مِنْ صَداقِها
، وهو نظير : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [ يوسف : 31 ] أي : لكلِّ
واحدةٍ ، ولذلك أفردَ « مُتَّكأً » .
قوله : « نَفْساً » منصوب على التمييز ، وهو هنا منقولٌ من الفاعل ، إذ الأصل :
فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ ، ومثله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، وهذا
منصوب عن تمام الكلام . وجِيء بالتمييز هنا مفرداً ، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدمِ
اللَّبْسِ ، إذ من المعلوم أنَّ الكلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفس واحدة ، ومثله : «
قَرَّ الزيدون عيناً » ويجوز « أنفساً » و « أعيناً » . ولا بد من التعرُّضِ
لقاعدةٍ يَعُمُّ النفعُ بها : وهي أنه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمامِ
الكلام فلا يخلو : إمَّا أَنْ يكونَ موافقاً لِما قبله في المعنى أو مخالفاً له ،
فإن كان الأولَ وَجَبَتْ مطابقةُ التمييز لِما قبله نحو : « كَرُمَ الزيدون رجالاً
» كما يطابقُه خبراً وصفةً وحالاً .
وإن كان الثانيَ : فإمَّا أن يكونَ مفردَ المدلول أو مختلفَه ، فإن كان مفردَ
المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : « كَرُم بنو زيد أباً أو
أصلاً » ، أي : إنَّ لهم جميعاً أباً واحداً متصفاً بالكرم ، ومثله : « كَرُم
الأتقياءُ سَعْياً » إذا لم تقصدِ بالمصدرِ اختلافَ الأنواع لاختلاف مَحالِّه .
وإنْ
كان مختلفَ المدلول : فإما أَنْ يُلْبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أو لا ، فإن
أَلْبَسَ وَجَبَت المطابقة نحو : كَرُم الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحدٍ أباً
غيرَ أب الآخر يتصفُ بالكرم ، ولو أُفردت هنا لتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أب واحدِ
، والغرضُ خلافه . وإنْ لم يُلْبِس جاز الأمران : المطابقةُ والإِفراد ، وهو
الأَوْلى ، ولذلك جاءت عليه الآيةُ الكريمةُ ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمعِ .
وحَسَّن الإِفرادَ أيضاً هنا ما تقدَّم مِنْ مُحَسِّنِ تذكيرِ الضمير وإفرادِه في
« منه » وهو أن المعنى : فإنْ طابت كلُّ واحدة نفساً . وقال بعض البصريين : « إنما
أفردَ لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدرٌ ، والمصادرُ لا تُثَنَّى ولا
تُجْمع » وقال الزمخشري : « ونفساً تمييزٌ ، وتوحيدُها لأنَّ الغرضَ بيانُ الجنسِ
، والواحدُ يدل عليه » . ونحا أبو البقاء نحوه ، وشَبَّهه ب « درهماً » في قولك :
« عشرون درهماً » .
واختلفَ النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عاملِه إذا كان متصرفاً ، فمنعَه
سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعةٌ مستدلين بقولهم :
1541 أَتَهْجُرُ ليلى بالفراقِ حبيبها ... وما كان نفساً بالفراقِ تَطِيب
وقوله :
1542 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . إذا عِطْفاه ماءً
تَحَلَّبا
والأصل : تطيبُ نفساً ، وتحلَّبا ماء . وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه .
وحجةُ سيبويه في منع ذلك أنَّ التمييزَ فاعل في الأصل ، والفاعل لا يتقدم فكذلك ما
في قوته . واعتُرِض على هذا بنحو : « زيداً » من قولك : « أخرجْتُ زيداً » فإنَّ «
زيداً » في الأصل فاعل قبل النقل ، إذ الأصل : « خرج زيد » . والفرق لائح .
وللتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم .
والجارَّان في قولِه : « فإن طِبْنَ لكم عن شيءٍ متعلِّقان بالفعلِ قبلَهما مضمناً
معنى الإِعراض ، ولذلك عُدِّي ب » عَنْ « كأنه قيل : فإنْ أَعْرَضْنَ لكم عن شيءٍ
طيباتِ النفوس . والفاء في » فَكُلوه « جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ ، والهاءُ في »
فَكُلوه « عائدةٌ على » شيء « .
قوله : { هَنِيئاً مَّرِيئاً } في نصبِ » هنيئاً « أربعةُ أقوال : أحدُها : أنه
منصوبٌ على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف ، تقديره : أكلاً هنيئاً . الثاني : أنه منصوبٌ
على الحالِ من الهاء في » فكلوه « أي : مُهَنَّأً أي : سهلاً . الثالث : أنه منصوب
على الحال بفعل لا يجوز إظهارُه البتة ، لأنه قَصَدَ بهذه الحال النيابةَ عن فعلها
نحو : » أقائماً وقد قعد الناس « ، كما ينوب المصدرُ عن فعلِه نحو : » سُقْياً له
ورَعْياً « . الرابع : أنهما صفتان قامتا مقامَ المصدرِ المقصودِ به الدعاءُ
النائبِ عن فعله . قال الزمخشري : » وقد يُوقف على « فكلوه » ويُبْتدأ « هنيئاً
مريئاً » على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هَنْئاً
مَرْءاً « .
قال
الشيخ : « وهذا تحريفٌ لكلام النحاة ، وتحريفُه هو جَعْلُهما أٌقيما مُقام المصدر
، فانتصابُهما انتصابَ المصدر ، ولذلك قال : » كأنه قيل : هَنْئاً مَرْءاً ، فصار
كقولك « سُقْياً لك » و « رَعْياً لك » ، ويَدُلُّ على تحريفِه وصحةِ قولِ النحاة
أنَّ المصادر المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : « سقياً الله لك »
ولا : « رعياً الله لك » وإن كان ذلك جائزاً في أفعالها ، و « هنيئاً مريئاً »
يرفعان الظاهرَ بدليل قوله :
1543 هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ ... لعَزَّةَ مِنْ أَعْراضِنا ما
استحَلَّتِ
ف « ما » مرفوعٌ ب « هنيئاً » أو ب « مريئاً » على الإِعمال ، وجاز ذلك وإنْ لم
يكن بين العاملين ربطٌ بعطفٍ ولا غيرِه ، لأنَّ « مريئاً » لا يُسْتعمل إلا تابعاً
ل « هنيئاً » فكأنهما عاملٌ واحد ، ولو قلت : « قام قعد زيد » لم يكن من الإِعمال
إلا على نِيَّة حرف العطف « . انتهى .
إلاَّ أن في عبارة سيبويه ما يُرْشِدُ لِما قاله الزمخشري ، فإنه قال : » هنيئاً
مريئاً : صفتان نصبُهما نصبُ المصادرِ المدعُوِّ بها بالفعلِ غيرِ المستعملِ
إظهارُه المختَزَلِ لدلالةِ الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثَبَت ذلك هنيئاً مريئاً
« ، فأولُ العبارةِ يساعدُ الزمخشري ، وآخرُها وهو تقديرُه بقولِه : » كأنهم قالوا
: ثَبَتَ ذلك هنيئاً « يُعَكِّر عليه . فعلى القولين الأوَّلَيْن يكونُ » هنيئاً
مريئاً « متعلقَيْنِ بالجملةِ قبلَهما لفظاً ومعنى ، وعلى الآخِرَيْن مقتطعين
لفظاً ، لأنَّ عاملَهما مقدرٌ من جملةٍ أخرى كما تقدَّم تقريره .
واختلف النحويون في قولِك لِمَن قال : » أصاب فلان خيراً هنيئاً له ذلك « هل » ذلك
« مرفوعٌ بالفعلِ/ المقدَّرِ تقديرُه : ثبت له ذلك هنيئاً فحَذف » ثبت « وقام »
هنيئاً « الذي هو حالٌ مَقامه ، أو مرفوعٌ ب » هنيئاً « نفسِه ، لأنه لمَّا ق
مقامَ الفعلِ رَفَع ما كان الفعلُ يرفعه ، كما أنَّ قولَك : » زيدٌ في الدار « »
في الدار « ضميرٌ كان مستتراً في الاستقرار ، فلمَّا حُذِف الاستقرار وقامَ الجار
مَقامَه رفعَ الضمير الذي كان فيه . ذهب إلى الأول السيرافي ، وجعل في » هنيئاً «
ضميراً عائداً على » ذلك « ، وذهب إلى الثاني أبو علي ، وجعل » هنيئاً « فارغاً من
الضمير لرفعه الاسمَ الظاهرَ . وإذا قلت : » هنيئاً « ولم تقل » ذلك « ، فعلى مذهب
السيرافي يكون في » هنيئاً « ضميرٌ عائد على ذي الحال ، وهو ضميرُ الفاعلِ الذي
استتر في » ثَبَتَ « المحذوفِ ، وعلى مذهب الفارسي يكون في » هنيئاً « ضميرٌ فاعل
بها ، وهو الضميرُ الذي كان فاعلاً ل » ثَبَتَ « ، ويكونُ » هنيئاً « قد قام مقام
الفعلِ المحذوفِ فارغاً من الضمير .
وأمَّا
نصبُ « مريئاً » فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه صفة ل « هنيئاً » ، وإليه ذهب
الحوفي . والثاني : أنه انتصب انتصاب « هنيئاً » ، وقد تقدَّم ما فيه من الوجوه .
ومنع الفارسي كونَه صفةً ل « هنيئاً » قال : « لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل
والفعلُ لا يوصف ، فكذا ما قامَ مقامَه » ، ويؤيِّد ما قاله الفارسي أنَّ اسم
الفاعل واسم المفعول وأمثلةَ المبالغة والمصادر إذا وُصِفت لم تَعْمَلْ عملَ
الفعلِ .
ولم يُستعمل « مريئاً » إلا تابعاً ل « هنيئاً » . ونَقَلَ بعضُهم أنه قد يَجيء
غيرَ تابع ، وهو مردودٌ ، لأنَّ العرب لم تستعمِلْه إلا تابعاً . وهل « هنيئاً
مريئاً » في الأصلِ اسما فاعلٍ على زنةِ المبالغةِ أم هما مصدران جاءا على وزِن
فعيل كالصهيل والهدير؟ خلاف . نقل الشيخ القول الثاني عن أبي البقاء قال : « وأجاز
أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فَعيل كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما
يَطَّرد فيه فعيل في المصدر » . انتهى . وأبو البقاء في عبارته إشكالٌ فلا بد من
التعرض إليها ليُعرف ما فيها ، قال : « هنيئاً جاء على وزن فَعِيل ، وهو نعت
لمصدرٍ محذوفٍ أي : أَكْلاً هنيئاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء ،
والتقديرُ : مُهَنَّأً و » مريئاً « مثلُه ، والمَرِيء فَعيل بمعنى مُفْعِل ، لأنك
تقول : » أمرأني الشيء « . ووجهُ الإِشكال : أنه بعد الحكم عليهما بالمصدرية كيف
يجعلهما وصفين لمصدر محذوف ، وكيف يفسِّر » مريئاً « المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
وذهب الزمخشري إلى أنهما وصفان ، قال : » الهَنِيءُ والمَرِيءُ صفتان من هَنُؤ
الطعامُ ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه « . انتهى .
وهَنا يَهْنَا بغير همز لغة ثانيةٌ أيضاً . ويقال : هَنَأني الطعامُ ومَرَأني ،
فإن أفردت » مَرَأني « لم يُسْتعمل إلا رباعياً فتقول » أَمْرأَني « وإنما استُعمل
ثلاثياً للتشاكلِ مع » هَنأَني « ، وهذا كما قالوا : » أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث
« بضم دال » حدث « مشاكلة ل » قَدُم « ، ولو أُفرد لم يستعمل إلا مفتوح الدال ،
وله نظائر أخر . ويقال : هَنَأْتُ الرجل أَهْنِئُه بكسرِ العين في المضارع أي :
أعطيته . واشتقاقُ الهنِيْء من الهِناءِ وهو ما يُطلى به البعيرِ من الجرب ، قال :
1544 مُتَبَذِّلاً تَبْدُو محاسِنُه ... يَضَع الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ
والمَرِيءُ : ما ساغ وسَهُل في الحلق ، ومنه قِيل لمجرى الطعام من الحُلْقوم إلى
فم المعدة : مَرِيء .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
قوله
تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } أصل تُؤتوا : تُؤْتِيُوا مثل :
تُكْرِموا ، فاستثقلت الضمةُ على الياءِ ، فَحُذِفت الضمة فالتقى ساكنان : الياء
وواو الضمير ، فَحُذِفت الياءُ لئلا يلتقيَ ساكنان .
والسُّفهاء جمعُ سفيه ، وعن مجاهد : « المراد بالسفهاء النساء » ، وضَعَّفه بعضُهم
بأن فَعِيلة إنما تجمع على فَعائل أو فَعِيلات ، قاله ابن عطية . وقد نَقل بعضُهم
أنَّ سفيهة تُجْمع على سُفَهاء كالمذكر ، وعلى هذا لا يَضْعُف قول مجاهد ، وجمعُ
فَعِيلة الصفةِ على فُعَلاء وإن كان نادراً إلا أنه نُقِل في هذا اللفظِ خصوصاً ،
وتخصيصُ ابن عطية جمعَ فَعِيلة بفعائل أو فَعيلات ليس بظاهرٍ ، لأنها يَطَّرد فيها
أيضاً « فِعال » نحو : كَريمة وكِرام وظَرِيفة وظِراف ، وكذلك إطلاقُه فَعِيلة
وكان من حقه أَنْ يقيِّدها بألاَّ تكون بمعنى مَفْعولة تَحَرُّزاً من قتيلة فإنها
لا تُجمع على فَعائِل .
والجمهورُ على { التي جَعَلَ الله لَكُمْ } بلفظِ الإِفراد صفةً للأموال ، وإنْ
كانت جمعاً؛ لأنَّه تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمع ما لا يعقل في الكثرة ، أو لم يكن له
إلا جمعٌ واحدٌ ، الأحسنُ فيه أن يُعامَل معاملةَ الواحدة المؤنثة ، والأموال من
هذا القبيل لأنها جمعُ ما لا يعقلِ ، ولم تُجْمع إلا على أَفْعال ، وإن كانت بلفظِ
القلة لأنَّ المرادَ بها الكثرة .
وقرأ الحسن والنخعي : « اللاتي » مطابقةً للفظِ الجمع ، وكان القياسُ ألاَّ يوصفَ
ب « اللاتي » إلا ما يُوصَفُ مفرده ب « التي » ، والأموال لا يُوصف مفردُها وهو «
مال » ب « التي » . وقال الفراء : « العربُ تقولُ في النساء : » اللاتي « أكثرَ
مِمَّا تقول » التي « ، وفي الأموال : » التي « أكثر مما تقول » اللاتي « .
وكلاهما في كليهما جائز . وقرىء : » اللواتي « وهي جمعُ اللاتي ، فهي جمعُ الجمع ،
أو جمع » التي « نفسِها .
قوله : » قياماً « إنْ قلنا إنَّ » جَعَلَ « بمعنى صَيَّر ف » قياماً « مفعول ثانٍ
، والأولُ محذوفٌ وهو عائد الموصول ، والتقدير : » التي جعلها « أي : صَيَّرها لكم
قياماً . وإنْ قلنا إنَّها بمعنى » خَلَقَ « ف » قِياماً « حال من ذلك العائدِ
المحذوفِ ، التقديرُ : جَعَلَها أي : خلقها وأوجدها في حالِ كونها قياماً .
وقرأ نافع وابن عامر : » قِيَماً « وباقي السبعة : » قِياماً « وابن عمر : »
قِواماً « بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : » قَواماً « بفتحها ، ويروى عن أبي
عمرو . وقرىء » قِوَماً « بزنة عِنَب .
فأما قراءة نافع وابنِ عامر ففيها ثلاثة أوجه ، أحدهما : أنَّ » قِيَماً « مصدرٌ
كالقيام وليس مقصوراً منه ، قال الكسائي والأخفش والفراء ، فهو مصدر بمعنى القيام
الذي يُراد به الثباتُ والدوامُ .
وقد
رُدَّ هذا القول بأنه كان ينبغي أن تَصِحَّ الواو لتحصُّنِها بتوسُّطِها ، كما
صَحَّت واو « عِوَض » و « حِوَل » . وأُجيب عنه بأنه تبع فعلَه في الإِعلال . فكما
أُعِلَّ فعلُه أُعِلَّ هو ، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِل عليه في الإِعلال .
وحَكَى الأخفَشُ : قِيَماً وقِوَماً قال : « والقياسُ تصحيحُ الواو ، وإنما
اعتلَّت على وجهِ الشذوذِ كقولهم : » ثِيَرة « ، وقولِ بني ضبة : » طِيال « في جمع
طويل ، وقولِ الجميع » جِياد « جمع جَواد ، وإذا أعلُّوا » دِيَماً « لاعتلالِ »
دِيْمة « فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أَوْلى ، ألا ترى إلى صحة الجمع مع
اعتلالِ مفردِه في معيشة ومعايش ، ومقامة ومقاوِم ، ولم يصححوا مصدراً أعلُّوا
فِعْلَه .
الثاني : أنه مقصورٌ من » قيام « ، فحذفوا الألف تخفيفاً كما قالوا : خيَم في »
خِيام « و » مِخْيَط « و » مِقْول « في : » مِخْياط « و » مِقْوال « .
والثالث : أنه جمع » قِيمة « ك » دِيَم « في جمع دِيْمَة ، والمعنى : أنَّ
الأموالَ كالقيم للنفوس لأنَّ بقاءها بها . وقد رَدَّ الفارسي هذا الوجهَ ، وإنْ
كان هو قولَ البصريين غيرَ الأخفش بأنه قد قُرِىء قوله تعالى : { دِيناً قِيَماً
مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 161 ] وقوله : { البيت الحرام قِيَماً
لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] ولا يَصِحُّ معنى القِيَمة فيهما . وقد ردَّ عليه
الناس بأنه لا يلزَمُ من عدم صحةِ معناه في الآيتين المذكورتين ألاَّ يصِحَّ هنا ،
إذ معناه هنا لائقٌ ، وهناك معنىً آخرُ يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي .
وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فهو مصدرُ » قام « والأصلُ قِوام ، فَأُبْدلت الواوُ
ياءً للقاعدةِ المعروفة ، والمعنى : التي جَعَلَها الله سبب قيامِ أبدانكم أي :
بقائِها . وقال الزمخشري : » أي تقومون بها وتنتعشون « .
وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان ، أحدهما : أنه مصدر قاوَمَ ك لاوَذَ
لِواذاً ، صحَّت الواو في المصدر/ كما صحت في الفعل . والثاني : أنه اسم لما يقوم
به الشيء ، وليس بمصدرٍ كقولهم : هذا مِلاك الأمر » أي ما يُمْلك به .
وأما قراءة الحسن ففيها وجهان ، أحدهما : أنه اسم مصدر كالكَلام والدوام والسلام .
والثاني : أنه لغة في القِوام المراد به القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سببَ
بقاءِ قاماتكم ، يقال : جارية حسنةُ القِوام والقَوام والقَامة ، كلُّه بمعنىً
واحد . وقال أبو حاتم : « قَوام بالفتح خطأٌ » قال : « لأنَّ القوام امتداد القامة
» ، وقد تقدَّم تأويل ذلك على أن الكسائي قال : « هو بمعنى القِوام » أي بالكسرِ ،
يعني أنه مصدر .
وأمَّا « قِوَماً » فهو مصدرٌ جاء على الأصلِ ، أعني تصحيحَ العين كالحِوَل
والعِوَض .
قوله : « فيها » فيه وجهان ، أحدُهما أنَّ « في » على بابها مِن الظرفية أي :
اجْعَلوا رزقَهم فيها . والثاني : أنه بمعنى « مِنْ » أي : بعضها ، والمراد : من
أرباحِها بالتجارة .
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
قوله
تعالى : { حتى إِذَا بَلَغُواْ } : في « حتى » هذه وما أشبهها أعني الداخلةَ على «
إذا » قولان ، أشهرُهما : أنها حرف غاية دَخَلَتْ على الجملةِ الشرطية وجوابِها ،
والمعنى : وابْتَلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دَفْعَ أموالِهم بشرطِ
إيناس الرُّشْد ، فهي حرف ابتداء كالداخلة على سائر الجمل كقوله :
1545 وما زالَتِ القَتْلى تَمُجُّ دماءها ... بِدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ
أَشْكَلُ
وقول امرىء القيس :
1546 سَرَيْتُ بهم حتى تَكِلَّ مَطِيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ
والثاني : وهو قول جماعة منهم الزجاج وابن دُرُسْتويه أنَّها حرف جر ، وما بعَدها
مجرور بها ، وعلى هذا ف « إذا » تتمحَّض للظرفيةِ ، ولا يكون فيها معنى الشرط ،
وعلى القولِ الأولِ يكونُ العاملُ في « إذا » ما تخلَّص من معنى جوابِها تقديرُه :
إذا بلغوا النكاح راشِدين فادْفَعوا .
وظاهرُ عبارةِ بعضهم أنَّ « إذا » ليست بشرطية ، قال : « وإذا ليست بشرطيةٍ لحصول
ما بعدَها ، وأجاز سيبويه أن يُجازى بها في الشعرِ ، وقال : » فَعلوا ذلك مضطرين «
، وإنما جُوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، وبأنه يَليها الفعلُ ظاهراً أو مضمراً ،
واحتجَّ الخليل على عدمِ شرطيَّتِها بحصولِ ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول : » أجيئك
إذا احمرَّ البُسْر « ، ولا تقولُ : » إنْ احمرَّ « . قال الشيخ : » وكلامُه يدل
على أنها تكونُ ظرفاً مجرداً ليس فيها معنى الشرط ، وهو مخالفٌ للنحويين ، فإنهم
كالمجمِعين على أنها ظرفٌ فيها معنى الشرط غالباً ، وإن وجد في عبارةِ بعضِهم ما
يَنْفي كونَها أداةَ شرطٍ فإنما يعني أنها لا يُجْزم بها لا أنها لا تكون شرطاً «
. وقَدَّر بعضهُم مضافاً قال : » تقديره : بلغوا حَدَّ النكاح أو وقتَه ، والظاهرُ
أنه لا يُحتاج إليه ، إذ المعنى : صَلَحوا للنكاح . والفاءُ في قوله : { فَإِنْ
آنَسْتُمْ } جوابُ « إذا » ، وفي قولِه « فادْفَعُوا » جوابُ « إنْ » .
وقرأ ابن مسعود : « فإن أحَسْتُم » والأصل : أحْسَسْتُم فَحَذَفَ إِحدى السينين ،
ويُحتمل أن تكونَ العينَ أو اللام ، ومثلُه قول أبي زبيد :
1547 سِوى أنَّ العِتاقَ من المَطايا ... حَسِيْنَ به فهنَّ إليه شوسُ
وهذا حذفٌ لا ينقاس ، ونَقَلَ بعضُهم أنها لغة سُلَيْم ، وأنها مُطَّردة في عين كل
فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضمير أو نونُه .
ونكَّر « رُشْداً » دلالةً على التنويعِ ، والمعنى : أيُّ نوعٍ حَصَل من الرشدِ
كان كافياً . وقرأ الجمهور : « رُشْداً » بضمة وسكون ، وابن مسعود والسلمي بفتحتين
، وبعضُهم بضمتين . وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف مشبعاً إن شاء الله تعالى .
وآنَسَ كذا : أحسَّ به وشَعَر ، قال :
1548 آنَسَتْ نَبْأَةً وأَفزعها القُن ... اصُ عَصْراً وقد دَنا الإِمساءُ
وقيل
: « وجد » عن الفراء ، وقيل : « أبصر » .
قوله : { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنهما منصوبان على
المفعول من أجله أي : لأجلِ الإِسرافِ والبِدار . ونقل عن ابن عباس أنه قال : «
كان الأولياء يستغنمون أكل مالِ اليتيمِ ، لئلا يكبرَ ، فينتزعَ المالَ منهم » .
والثاني : أنَّهما مصدران في موضعِ الحال أي : مسرفين ومُبادرين . و « بِداراً »
مصدرُ بادرَ ، والمفاعَلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابِها ، بمعنى « أنَّ
الوليَّ يبادر اليتيم إلى أخذِ مالِه ، واليتيم يبادِرُ إلى الكبر ، ويجوزُ أن
يكونَ من واحد بمعنى : أن فاعَلَ بمعنى فعل نحو : سافر وطارَقَ .
قوله : { أَن يَكْبَرُواْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبِداراً
كِبَرُهم ، كقولِه : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [
البلد : 14-15 ] ، وفي إعمال المصدرِ المنونِ خلافٌ مشهور . والثاني : أنه مفعول
من أجله على حَذْفٍ ، أي : مخافةَ أن يَكْبَروا ، وعلى هذا فمفعولُ » بِداراً «
محذوفٌ . وهذه الجملةُ النَّهْيِيَّة فيها وجهان ، أصحُّهما : أنها استئنافية ،
وليست معطوفةً على ما قبلها . والثاني : أنها عطفٌ على ما قبلها وهو جوابُ الشرط ب
» إنْ « أي : فادْفَعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسدٌ ، لأنَّ الشرطَ وجوابَه مترتِّبان
على بلوغِ النكاح ، وهو معارضٌ لقوله { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } فيلزَمُ منه
سَبْقُه على ما ترتَّبَ عليه وذلك ممتنع .
قوله : { وكفى بالله حَسِيباً } في » كفى « قولان ، أحدهما : أنها اسم فعل .
والثاني : وهو الصحيح أنها فِعْلٌ ، وفي فاعِلها قولان : أحدُهما وهو الصحيح أنه
المجرورُ بالباءِ ، والباءُ زائدةٌ فيه وفي فاعلِ مضارعه نحو : { أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ } [ فصلت : 53 ] باطِّراد . قال أبو البقاء : » زيدت لتدلَّ على معنى
الأمرِ إذ التقدير : اكتفِ بالله « . والثاني : أنه مضمر ، والتقدير : كَفَى الاكتفاءُ
، و » بالله « على هذا في موضعِ نصب لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأيُ ابنِ
السراج . ورُدَّ هذا بأنَّ إعمال المصدر المحذوف لا يجوزُ عند البصريين إلا
ضرورةًَ كقوله :
1549 هل تَذْكُرون إلى الدَّيْرَيْنِ هِجْرَتَكم ... ومَسْحَكم صُلْبَكُمْ
رُحْمانَ قُرْبانا
أي : قولَكم يا رُحمان . وقال الشيخ : » وقيل : الفاعل مضمر ، وهو ضمير الاكتفاء ،
أي : كفى هو ، أي : الاكتفاء ، والباءُ ليست زائدةً ، فيكون في موضع نصب ،
ويتعلَّق إذ ذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يَسُوغ على مذهب البصريين؛ لأنه لا يجوزُ
عندهم إعمالُ المصدرِ مضمراً وإنْ عَنَى بالإِضمارِ الحذفَ امتنع عندهم أيضاً
لوجهين : حَذْفِ الفاعل ، وإعمالِ المصدر محذوفاً وإبقاءِ معمولِه « . وفيه نظر ،
إذ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل » كفى « مضمرٌ لا نعلق » بالله « بالفاعلِ
حتى يَلْزم ما ذَكَر ، بل نعلِّقه بنفس الفعل كما تقدَّم ، وهذا القول سبقه إليه
مكي والزجاج فإنه قال : » دَخَلَتِ الباءُ في الفاعل ، لأَنَّ معنى الكلام الأمرُ
، أي : اكتفوا بالله « ، وهذا الكلامُ يُشْعِرُ أنَّ الباءَ ليست بزائدة ، وهو
كلامٌ غيرُ صحيح ، لأنه من حيث المعنى الذي قَدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين ، و
» بالله « متعلقٌ به ، ومِنْ حيث كونُ الباءِ دخلت في الفاعلِ يكونُ الفاعلُ هو
اللهَ تعالى فتناقض .
وفي
كلامِ ابن عطية « نحوٌ من قولِه أيضاً ، فإنه قال : » بالله « في موضعِ رفعٍ
بتقديرِ زيادةِ الخافض ، وفائدةُ زيادتِه تبيينُ معنى الأمر في صورةِ الخبر أي :
اكتفوا بالله ، فالباءُ تَدُلُّ على المرادِ من ذلك » ، وفي هذا ما رُدَّ به على
الزجاج وزيادَةُ جعلِ الحرفِ زائداً وغيرَ زائدٍ . وقال ابن عيسى : « إنما دخلَتِ
الباءُ في » كفى بالله « لأنه كان يتصل اتصالَ الفاعل ، وبدخولِ الباءِ اتصل
اتصالَ المضافِ واتصالَ الفاعل؛ لأن الكفايةَ منه تعالى ليست كالكفايةِ من غيرِه ،
فضوعف لفظُها لمضاعفةِ معناها » ويَحْتاج إلى فكر .
قوله : { حسيباً } فيه وجهان ، أصحُّهما : أنه تمييزٌ يَدُلُّ على ذلك صلاحيةُ
دخولِ « مِنْ » عليه ، وهي علامةُ التمييز . والثاني : أنه حال .
و « كفى » هنا متعديةٌ لواحدٍ ، وهو محذوفٌ تقديرُه : وكفاكم اللهُ « . وقال أبو
البقاء : » وكفى « تتعدَّى إلى مفعولين حُذِفا هنا تقديرُه : كفاك اللهُ شرَّهم
بدليل قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] . والظاهر أنَّ معناها
غيرُ معنى هذه . قال الشيخ بعد أَنْ ذكر أنها متعدية لواحدٍ : » وتأتي بغيرِ هذا
المعنى متعدية إلى اثنين كقولِه : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } . وهو محلُّ نظر .
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
قوله
تعالى : { مِّمَّا تَرَكَ الوالدان } : هذا الجارُّ في محل رفع لأنه صفةٌ للمرفوعِ
قبلَه أي : نصيبٌ كائن أو مستقر ، ويجوز أن يكون في محل نصبٍ متعلقاً بلفظ « نصيب
» لأنَّه من تمامه .
وقوله : { مِمَّا قَلَّ } في هذا الجارِّ أيضاً وجهان أحدُهما : أنه بدلٌ من « ما
» الأخيرةِ في « مِمَّا ترك » بإعادة حرفِ الجر في البدل ، والضميرُ في « منه »
عائدٌ على « ما » الأخيرةِ ، وهذا البدلُ مرادٌ أيضاً في الجملةِ الأولى حُذِفَ
للدلالةِ عليه ، ولأنَّ المقصودَ به التأكيدُ لأنه تفصيلٌ/ للعمومِ المفهومِ من
قولِه : { مِّمَّا تَرَكَ } فجاءَ هذا البدلُ مفصِّلاً لحالتَيْه من الكثرةِ
والقلة . والثاني : أنه حالٌ من الضمير المحذوف من « ترك » أي : مِمَّا تركه
قليلاً أو كثيراً أو مستقراً مِمَّا قل .
و « نصيباً » فيه أوجهٌ أحدها : أن ينتصِبَ على أنه واقعٌ موقعَ المصدر ، والعاملُ
فيه معنى ما تقَّدم ، إذ التقديرُ : عطاءً أو استحقاقاً ، وهذا معنى قولِ مَنْ
يقولُ منصوبٌ على المصدرِ المؤكد . قال الزمخشري : « كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ
الله } [ النساء : 11 ] كأنه قيل : قسمةً مفروضةً » . وقد سَبَقه الفراء إلى هذا
قال : « نُصِبَ لأنه أُخْرِج مُخْرَج المصدرِ ، ولذلكَ وَحَّده كقولك : » له عليَّ
كذا حقاً لازماً « ونحوه : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } ولو كان اسماً صحيحاً لم
يُنْصَبْ ، لا تقول : » لك عليَّ حق درهماً « .
الثاني : أنه منصوبٌ على الحال ، ويُحتمل أن يكونَ صاحبُ الحال الفاعلَ في » قَلَّ
أو كَثُر « ، ويُحتمل أن يكونَ » نصيب « وإن كان نكرة لتخصُّصِه : إمَّا بالوصفِ
وإمَّا بالعمل ، والعاملُ في الحال الاستقرارُ الذي في قوله : » للرجالِ « . وإلى
نصبِه حالاً ذهب الزجاج ومكي ، قالا : » المعنى لهؤلاءِ أَنْصِباء على ما ذكرناها
في حالِ الفرض « .
الثالث : أنه منصوبٌ على الاختصاص ، بمعنى : أعني نصيباً ، قاله الزمخشري . قال
الشيخ : إنْ عنى الاختصاصَ المصطلحَ عليه فهو مردودٌ بكونِه نكرةً ، وقد نَصُّوا
على اشتراطِ تعريفِه » .
الرابع : النصبُ بإضمار فعلٍ أي : أُوجبت أو جُعِلت لهم نصيباً . الخامس : أنه
مصدرٌ صريحٌ أي : نَصَبْتُه نصيباً .
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
قوله تعالى : { فارزقوهم مِّنْهُ } : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها : [ أن ] يعودَ على المالِ لأنَّ القسمةَ تدل عليه بطريقِ الالتزام . الثاني : أنْ يعودَ على « ما » في قولِه : « مِمَّا ترك » . الثالث أَنْ يَعودَ على نفسِ القسمةِ وإن كان مذكراً مراعاةً للمعنى ، إذ المرادُ بالقسمةِ الشيءُ المقسوم ، وهذا على رأي مَنْ يرى ذلك ، وأمَّا مَنْ يقولُ : القسمةُ من الاقتسام كالخِبْرة من الاختبار ، أو بمعنى القَسَم فلا يتأتَّى ذلك .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قوله
تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين } : قرأ الجمهورُ بسكون اللام في الأفعال الثلاثةِ .
وهي لامُ الأمر ، والفعلُ بعدها مجزومٌ بها . وقرأَ الحسن وعيسى بن عمر بكسرِ
اللامِ في الأفعالِ الثلاثةِ ، وهو الأصلُ ، والإِسكانُ تخفيفٌ إجراءً للمنفصل
مُجْرى المتصل ، فإنهم شَبِّهوا « وَلْيخش » ب « كَتِف » وهذا كما تقدَّم الكلامُ
في نحو : « وهي » و « لَهْي » في أول البقرة .
و « لو » هذه فيها احتمالان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها مِنْ كونِها حرفاً لِما
كان سيقع لوقوع غيره ، أو حرفَ امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين . والثاني :
أنها بمعنى « إنْ » الشرطية . وإلى الاحتمال الأولِ ذهب ابن عطية والزمخشري . قال
الزمخشري : « فإنْ قلت : ما معنى وقوعِ » لو تركوا « وجوابِه صلةً ل » الذين «؟
قلت : معناه : وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أَنهم لو شارَفوا أَنْ يَتْرُكُوا
خلفَهم ذريةً ضِعافاً ، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياعَ بعدهم لذهابِ
كافلهم وكاسبهم ، كما قال القائل :
1550 لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبَّاً ... بناتِي أنَّهن من الضِعافِ
أُحاذِرُ أن يَرَيْنَ البؤس بعدي ... وأن يَشْرَبْنَ رنْقاً بعد صافي
وقال ابن عطية : » تقديرُه : لو تَرَكُوا لخافُوا ، ويجوزُ حذفُ اللامِ من جواب لو
« ، ووجهُ التمسُّكِ بهذه العبارةِ أنه جَعَلَ اللامَ مقدرةً في جوابِها ، ولو
كانت » لو « بمعنى » إنْ « الشرطية لَما جاز ذلك ، وقد صَرَّح غَيرُهما بذلك ،
فقال : » لو تركوا « » لو « يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، و » خافوا « جوابُ »
لو « .
وإلى الاحتمال الثاني ذهب أبو البقاء وابن مالك ، قال ابن مالك : » لو « هنا
شرطيةٌ بمعنى » إنْ « ، فتقلِبُ الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتقدير : وَلْيخش
الذين إنْ تركوا ، ولو وقع بعد » لو « هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بعد » إنْ
« وأنشد :
1551 لا يُلْفِكُ الرَّاجوك إلا مُظْهِراً ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيما
أي : وإنْ تكن عديماً . ومثلُ هذا البيتِ الذي أنشده قولُ الآخر :
1552 قومٌ إذا حارَبُوا شدَّوا مآزِرَهُمْ ... دونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطْهارِ
والذي ينبغي : أن تكونَ على بابِها من كونِها تعليقاً في الماضي .
وإنما حَمَل ابنَ مالك وأبا البقاء على جَعْلِها بمعنى » إنْ « توهُّمُ أنه لَمَّا
أمر بالخشية والأمرُ مستقبل ومتعلَّقُ الأمر موصولٌ لم يَصِحَّ أن تكون الصلةُ
ماضيةً على تقدير دلالتِه على العَدَمِ الذي يُنَافي امتثالَ الأمر ، وحَسَّنَ
مكانَ » لو « لفظُ » إنْ « ، ولأجلِ هذا التوَهُّمِ لم يُدْخِل الزمخشري » لو «
على فعل مستقبل ، بل أتى بفعلٍ ماضٍ مسندٍ للموصولِ حالةَ الأمر فقال : » وَلْيخش
الذين صفتُهم وحالُهم أنهم لو شارَفُوا أن يتركوا « .
قال
الشيخ : « وهذا الذي توهَّموه لا يلزم ، إلا إنْ كانت الصلةُ ماضيةً في المعنى
واقعةً بالفعل ، إذ معنى » لو تركوا من خلفهم « أي : ماتوا فتركوا مِنْ خلفهم ،
فلو كان كذلك لَلزم التأويلُ في » لو « أَنْ تكونَ بمعنى » إنْ « إذ لا يجامِعُ
الأمرُ بإيقاعِ فعلٍ مَنْ مات بالفعل ، أمَّا إذا كان ماضياً على تقديرٍ فيصِحُّ
أن يقع صلةً . وأن يكونَ العاملُ في الموصولِ الفعلَ المستقبل ، نحو قولِك :
ليزُرْنا الذي لو مات أمسِ لبكيناه » انتهى .
وأمَّا البيتان المتقدِّمان فلا يلزمُ مِنْ صحةِ جَعْلِها فيهما بمعنى « إنْ » أن
تكونَ في الآيةِ كذلك . لأنَّا في البيتين نضطرُ إلى ذلك : أمَّا البيتُ الأولُ
فلأنَّ جوابَ « لو » محذوفٌ مدلولٌ عليه بقولِه : « لا يُلْفِك » وهو نَهْيٌ ،
والنهيُ مستقبلٌ فلذلك كانت « لو » تعليقاً في المستقبل . أما البيتُ الثاني
فلدخولِ ما بعدَها في حَيِّزِ « إذا » ، و « إذا » للمستقبل .
ومفعول « وَلْيَخْشَ » محذوفٌ أي : وَلْيخش الله . ويجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من
بابِ التنازع ، فإنَّ « وَلْيخش » يطلبُ الجلالةَ ، وكذلك « فليتقوا » ، ويكونُ من
إعمالِ الثاني للحذفِ من الأول .
قوله : { مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه متعلِّقٌ ب « تركوا »
ظرفاً له . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « ذرية » ، لأنَّه في
الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً .
وأمال حمزةُ ألفَ « ضِعافاً » ولم يُبالِ بحرفِ الاستعلاءِ لانكسارِه ، ففيه
انحدارٌ فلم ينافِرِ الإِمالةَ .
وقرأ ابن محيصن : « ضُعُفاً » بضمِّ الضاد والعين ، وتنوين الفاء . والسلمي وعائشة
: « ضعفاء » بضمِّ الضاد وفتح العين والمد ، وهو جمع مقيس في فعيل صفةً نحو :
ظَريف وظُرَفاء وكريم وكُرَماء . وقرىء « ضَعافَى » بالفتحِ والإِمالة نحو : سَكارى
. وظاهر عبارةِ الزمخشري أنه قُرِىءَ : « ضُعافى » بضم الضاد مثل سُكارى ، فإنه
قال : « وقُرىء ضُعَفَاء وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى » فيُحتملِ أَنْ يريد
أنه قُرِىء بضم الضاد وفتحِها ، ويُحتمل أن يريدَ أنه قُرىء : « ضَعافى » بفتح
الضاد دونَ إمالة ، و « ضَعافَى » بفتحِها مع الإِمالة كسَكارى بفتحِ السين دونَ
إمالة ، وسَكارى بفتحها مع الإِمالة ، والظاهرُ الأولُ ، والغالبُ على الظن أنها
لم تُنْقل قراءة .
وأمال حمزة ألفَ « خاف » للكسرةِ المقدرةِ في الألف ، إذ الأصل « خَوِف » بكسر
العين بدليلِ فتحِها في المضارع نحو : « يخاف » ، وعَلَّل أبو البقاء ذلك بأنَّ
الكسر قد يَعْرِض في حال من الأحوال ، وذلك إذا أُسْنِدَ الفعل إلى ضمير المتكلم/
أو إحدى أخواته نحو : خِفْت وخِفْنا ، والجملةُ من « لو » وجوابِها صلةُ « الذين »
.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
قوله
تعالى : { ظُلْماً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ من أجله ، وشروطُ النصبِ
موجودةٌ . والثاني : أنه مصدرٌ في محل نصب على الحال أي : يأكلونه ظالِمين ،
والجملةُ مِنْ قولِه : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ } في محلِّ رفعٍ خبراً ل « إنَّ » ،
وفي ذلك دلالةٌ على وقوعِ خبر « إنَّ » جملةً مصدرةً ب « إنَّ » وفي ذلك خلافٌ .
قال الشيخ : « وحَسَّنة هنا وقوعُ اسمِ » إنَّ « موصولاً فطال الكلامُ بصلةِ
الموصولِ ، فلمَّا تباعَدَ لم يُبالَ بذلك ، وهذا أحسنُ مِنْ قولِك : » إنَّ زيداً
إنَّ أباه منطلقٌ « . ولقائلٍ أن يقول : » ليس فيها دلالةٌ على ذلك؛ لأنَّها
مكفوفةٌ ب « ما » ، ومعناها الحصرُ فصارت مثلَ قولِك في المعنى : « إنَّ زيداً ما
انطلق إلا أبوه » وهو مَحَلُّ نظر .
قوله : { فِي بُطُونِهِمْ } فيه وجهان أحدُهما : أنه متعلِّقٌ ب « يأكلون » أي :
بطونُهم أوعيةٌ للنار : إمَّا حقيقةً بأن يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونها في
بطونِهم ، أو مجازاً بأَنْ أطلق المُسَبَّبَ وأراد السببَ . الثاني : أنه متعلقٌ
بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ مِنْ « ناراً » ، وكان في الأصلِ صفةً للنكرة فلمَّا قُدِّمَتْ
انتصبَتْ حالاً .
وذَكَر أبو البقاء هذا الوجهَ عن أبي علي في « تذكرته » ، وحَكَى عنه أنه منع أن
يكونَ ظرفاً ل « يأكلون » ، فإنَّه قال : { فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } قد تقدَّم في
البقرة منه شيءٌ ، ويخصُّ هذا الموضع أن « في بطونهم » حالٌ من « ناراً » أي :
ناراً كائنةً في بطونِهم ، وليس بظرفٍ ل « يأكلون » ، ذكره في « التذكرة » . وفي
قوله : « والذي يَخُصُّ هذال الموضع » فيه نظر ، فإنه كما يجوز أن يكونَ « في
بطونهم » حالاً من « نار » هنا يجوز أن يكونَ حالاً من « النار » في البقرة ، وفي
إبداء الفرقِ عُسْرٌ ، ولم يظهر في منعِ أبي علي كونَ « في بطونهم » ظرفاً للأكل
وجهٌ ظاهر .
قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ } قرأ الجمهور بفتحِ الياء واللام ، وابن عامر وأبو بكر
بضمِّ الياء مبنياً للمفعول من الثلاثي . ويَحْتمل أن يكونَ من أصلى ، فلمَّا بُني
للمفعولِ قام الأولُ مقامَ الفاعلِ . وابن أبي عبلة بضمِّهما مبنياً للفاعلِ من
الرباعي ، والأصلُ على هذه القراءة : سيُصْلِيُون من أصلى مثل يُكْرِمون من أكرم ،
فاستثقِلَت الضمةُ على الياءِ فَحُذِفت فالتقى ساكنان ، فحُذِفَ أولُهما وهو
الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو لتصِحَّ .
و « أَصْلَى » : يُحتمل أَن ْ تكونَ الهمزةُ فيه للدخول في الشيء ، فيتعدَّى لواحد
وهو « سعيراً » وأن تكونَ للتعديةِ ، فالمفعولُ محذوفٌ ، أي : يُصْلُون أنفسَهم
سعيراً .
وأبو
حيوة بضمِّ الياءِ وفتحِ الصاد ، واللام مشددة ، مبنياً للمفعول من « صَلَّى » مضعفاً
. قال أبو البقاء : « والتضعيفُ للتكثيرِ » .
والصِّلْيُ : الإِيقادُ بالنارِ ، يقال : صَلِي بكذا بكسر العين ، وقوله : { لاَ
يَصْلاَهَآ } [ الليل : 15 ] أي يَصْلَى بها . وقال الخليل : « صَلِي الكافرُ
النارَ » قاسَى حَرَّها . وصلاه النارَ وأَصْلاه غيرُه ، هكذا قال الراغب ، وظاهرُ
هذه العبارةِ أنَّ فَعِل وأَفْعَل بمعنىً ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ
الجر ، وقد يُحْذَف . وقال غيرُه : « صَلِيَ بالنارِ أي : تَسَخَّن بقربها » ، ف «
سعيراً » على هذا منصوبٌ على إسقاط الخافض . ويَدُلُّ على أنَّ أصلَ « يَصْلاها »
يَصْلَى بها قولُ الشاعر :
1553 إذا أَوْقَدُوا ناراً لحربِ عَدُوِّهم ... فقد خابَ مَنْ يَصْلَى بها
وسعيرِها
وقيل : يُقال صَلَيْتُه النارَ : أَدْنَيْتُه منها ، فيجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً
مِنْ غيرِ إسقاطِ خافضٍ . والسعيرُ في الأصلِ : الجَمْرُ المشتعل ، سَعَرْتُ
النارَ : أَوْقَدْتُها ، ومنه : « مُسْعِرُ حربٍ » على التشبيهِ . والمِسْعَرُ :
الآلة التي تُحَرَّك بها النار .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
قوله
تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر ،
يُحْتمل أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ ب « يُوصي » لأِنَّ المعنى : يَفْرض لكم ، أو
يُشَرِّع في أولادكِم ، كذا قاله أبو البقاء ، وهذا يَقْرُبُ من مذهبِ الفراء فإنه
يُجْري ما كان بمعنى القولِ مُجْراه في حكايةِ الجملِ بعده . قال الفراء : « ولم
يَعْمل » يُوصيكم « في » مِثْل « ، إجراءً له مُجْرى القول في حكايةِ الجمل ،
فالجملةُ في موضع نصبٍ ب » يُوصيكم « . وقال مكي : » للذَّكَرِ مثلُ حظ « ابتداءٌ
وخبر في موضع نصب ، تبيينٌ للوصية وتفسيرٌ لها . وقال الكسائي : » ارتفع « مثل »
على حذْفِ « إنَّ » تقديره : « أنَّ للذكرِ مثلَ حظ » . وبه قرأ ابن أبي عبلة .
ويُحْتمل ألأَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب ، بل جِيءَ بها للبيانِ والتفسيرِ ،
فهي جملةٌ مفسِّرة للوصية ، وهذا أحسنُ وجارٍ على مذهب البصريين ، وهو ظاهرُ
عبارةِ الزمخشري فإنَّه قال : « وهذا إجمالٌ تفصيلُه { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأنثيين } . وقوله : » للذَّكر « لا بدَّ من ضمير [ فيه ] يعود على » أولادكم «
من هذه الجملة ، فيُحتمل أن يكون محذوفاً ، أي : للذكر منهم نحو : » السَّمْنُ
مَنَوانِ بدرهم « قاله الزمخشري . ويُحْتمل أن يكونَ قامَ مقامَه الألفُ واللامُ
عند مَنْ يَرَى ذلك ، والأصلُ : لِذَكَرِهم .
و » مثلُ « صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : للذَّكرِ منهم حَظُّ مثلُ حَظِّ الأنثيين . و
{ في أَوْلاَدِكُمْ } قيل : ثَمَّ مضافٌ محذوف أي : في أولادِ موتاكم . قالوا :
لأنه لا يَجُوزُ أَنْ يُخاطَبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولادِه ويُفْرََضَ عليه
ذلك . وقال بعضُهم : » إنْ قلنا : إنَّ معنى « يُوصيكم » « يبيِّن لكم » لم يحتج
إلى هذا التقدير « . وقَدَّر بعضُهم قبل » أولادكم « مضافاً أي : في شأنِ أولادِكم
، أو في أمرِ أولادكم .
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : » يُوَصِّيكم « بالتشديد ، وقد تقدَّم أنَّ أوصي
ووصَّى لغتان .
قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً } الضميرُ في » كُنَّ « يعودُ على الإِناث اللاتي
شَمَلَهُنَّ قولُه { في أَوْلاَدِكُمْ } . فإنَّ التقدير : في أولادكم الذكورِ
والإِناثِ ، فعادَ الضميرُ على أحدِ قِسْمَي الأولادِ ، وإذا عاد الضمير على جمعِ
التكسيرِ العاقلِ المرادِ به مَحْضُ الذكور في قوله عليه السلام : » وربَّ
الشياطين ومَنْ أَضْلَلْن « كعَوْدِه على جماعةِ الإِناث ، فَلأنْ يعودَ كذلك على
جمع التكسيرِ الشاملِ للإِناثِ بطريقِ الأَوْلَى والأحرى ، وهذا معنى قولِ الشيخ .
وفيه نظرٌ لأنَّ عودَه هناك كضميرِ الإِناث إنما كان لمعنىً مفقودٍ هنا ، وهو طلبُ
المشاكلة لأنَّ قبلَه » اللهم ربََّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ، وربَّ الأرضين
وما أَقْلَلْنَ « ذَكَر ذلك النحويون .
وقيل
: الضمير يَعُود على المتروكات أي : فإنْ كانت المتروكات ، ودَلَّ ذِكْرُ الأولاد
عليه ، قاله أبو البقاء ومكي . وقَدَّرَه الزمخشري : « فإنْ كان البنات أو
المولودات » .
فإذا تقرَّر هذا ف « كُنَّ » كان واسمُها ، و « نساءً » خبرُها ، و « فوق اثنتين »
ظرف في محل نصب صفةً ل « نساء » وبهذه الصفةِ تحصُل فائدةُ الخبرِ ، ولو اقتُصِر
عليه لم تَحْصُلْ فائدةُ ، ألا ترى أنه لو قيل : « إن كان الزيدون رجالاً كان كذا
» لم يَكُنْ فيه فائدةٌ .
وأجاز الزمخشري في هذه الآية وَجْهين غريبين ، أحدهما : أن يكونَ الضميرُ في «
كنَّ » ضميراً مبهماً ، و « نساءً » منصوبٌ على أنه تفسيرٌ له يعني تمييزاً ، وكذلك
قال في الضمير الذي في « كانت » من قوله « وإنْ كانت واحدة » على أنَّ « كان »
تامة . والوجهُ الآخر : أن يكونَ « فوق اثنتين » خبراً ثانياً ل « كُنَّ » ،
ورَدَّهما عليه الشيخ : أمَّا الأولُ فلأنَّ « كان » ليسَتْ من الأفعالِ التي
يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بعدَه ، بل هذا مختصٌّ من الأفعالِ ب « نعم » و
« بئس » وما جَرى مَجْراهما ، وبابِ التنازع عند إعمالِ الثاني . وأما الثاني
فلِما تقدَّم من الاحتياجِ إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أَنْ تستقلَّ به
فائدةُ الإِسنادِ ، وقد تقدَّم أنه لو اقتَصَر على قولِه : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً
} لم يُفِدْ شيئاً ، لأنه معلوم .
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة : « ثُلْثا » و « الثلْث » و « النصْف » و « الرُّبْع »
و « الثُّمْن » كلُّ ذلك بإسكان الوسط . والجمهور بالضم ، وهي لغةُ الحجاز وبني
أسد . قال النحاس : « من الثلث إلى العشر » . وقال الزجاج : « هي لغةٌ واحدة ،
والسكونُ تخفيف » .
قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً } قرأ نافع : « واحدةٌ » رفعاً على أنَّ « كان »
تامة أي : وإنْ وُجِدَتْ واحدةٌ ، والباقون « واحدة » نصباً على أنَّ « كانت »
ناقصةً ، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة ، و « واحدةً » نصبٌ
على خبرِ « كان » ، وقد تقدَّم أن الزمخشري أجاز أن يكونَ في « كان » ضميرٌ مبهمٌ
مفسَّر بالمنصوب بعدُ .
وقرأ السلمي : « النُّصف » بضم النون ، وهي قراءةُ على وزيد بن ثابت رضي الله
عنهما ، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [
الآية : 237 ] .
قوله : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس } « السدس » مبتدأ و «
لأبويه » خبر مقدم ، و « لكلِّ واحدٍ » بدلٌ من « لأبويه » وهذا ما نَصَّ عليه
الزمخشري فإنه قال : « لكلَّ واحد منهما » بدل من « لأبويه » بتكريرِ العاملِ ،
وفائدةُ هذا البدلِ أنه لو قيل : « ولأبويه السدسُ » لكان ظاهرُه اشتراكهما فيه ،
ولو قيل : « لأبويه السدسان » لأَوْهَمَ قسمةَ السدسين عليهما بالتسويةِ وعلى
خلافِهما .
فإنْ
قلت : فهلا قيل : « ولكلِّ واحدٍ من أبويه السدس » وأيُّ فائدةٍ في ذِكْرِ الأبوين
أولاً ثم في الإِبدالِ منهما؟ قلت : لأنَّ في الإِبدال والتفصيل بعد الإِجمال
تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمعِ بين المفسَّر والتفسيرِ . و « السدس »
مبتدأ ، وخبره « لأبويه » ، والبدلُ متوسط بينهما للبيانِ « . انتهى .
وناقَشَه الشيخ في جَعْلِه » لأبويه « الخبرَ دونَ قوله » بكلِّ واحد « قال : »
لأنه ينبغي أن يكونَ البدلُ هو الخبرَ دونَ المبدلِ منه « يعني أنَّ البدلَ هو
المعتمدُ عليه ، والمبدلُ منه صارَ في حكمِ المُطَّرح ، ونَظَّره بقولك : » إنًَّ
زيداً عينُه حسنة « فكما أنَّ » حسنة « خبر عن » عينه « دون » زيد « لأنّه في حكم
المُطَّرح فكذلك هذا ، ونَظَّره أيضاً بقولك : » أبواك كلُّ واحد منهما يَصنع كذا
« ف » يَصنع « خبرٌ عن » كل واحد « منهما ، ولو قلت : » أبواك كلُّ واحدٍ منهما
يَصْنعان كذا « لم يَجُزْ » .
وفي هذه المناقشةِ نظرٌ لأنه إذا قيل لك : ما مَحَلُّ « لأبويه » من الإِعرابِ؟
نضطر إلى أَنْ نقولَ : في محلِّ رفعٍ خبراً مقدماً ، ولكنه نَقَل نسبةَ الخبرية
إلى « لكلِّ واحدٍ منهما » دونَ « لأبويه » . قال : « وقال بعضُهم » : « السدسُ »
رفعٌ بالابتداء ، و « لكلِّ واحدٍ » الخبرُ ، و « لكلِّ » بدلٌ من الأبوين ، و «
منهما » نعتٌ لواحد ، وهذا البدلُ هو بعضُ من كل ، ولذلك أتَى معه بالضمير ، ولا
يُتَوَهَّمُ أنه بدلُ شيء من شيء وهما لعينٍ واحدة لجوازِ « أبواك يَصْنعان كذا »
وامتناع « أبواكَ » كلُّ واحدٍ منهما يصنعان كذا « بل تقول : » يَصْنع « . انتهى .
والضميرُ في » لأبويه « عائدٌ على ما عادَ عليه الضمير في » ترك « ، وهو الميتُ
المدلولُ عليه بقوةِ الكلام . والتثنية في » أبويه « من التغليب ، والأصلُ : لأبيه
وأمه ، وإنما غَلَّب المذكرَ على المؤنث كقولهم : القَمَران والعُمَران وهي تثنيةٌ
لا تنقاس .
قوله : » فلأِمه « قرأ الجمهور » فلإِمه « وقولُه : { في أُمِّ الكتاب } [ الآية :
4 ] في سورةِ الزخرف ، وقولُه : { حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا } [ الآية : 59 ] في
القصص ، وقوله : { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } في [ النحل : 78 ] و [ الزمر : 6
] ، وقوله : { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ الآية : 61 ] في النور ، و { فِي
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }
[
الآية : 32 ] في النجم ، بضم الهمزة من « أُمّ » وهو الأصلُ وقرأ حمزة والكسائي
جميعَ ذلك بكسر الهمزة ، وانفرد حمزة بزيادةِ كسرِ الميم من « أمَّهات » في
الأماكنِ المذكورةِ ، هذا كله في الدَّرْج . أمَّا في الابتداءِ بهمزةِ « الأم » و
« الأمهات » فإنه لا خِلافَ في ضَمِّها .
وأمَّا وجهُ قراءةِ الجمهور فظاهرٌ لأنه الأصلُ كما تقدَّم . وأمَّا قراءةُ حمزة
والكسائي بكسر الهمزة فقالوا : لمناسبةِ الكسرةِ أو الياء التي قبل الهمزة ،
فكُسِرت الهمزةُ إتباعاً لِما قبلَها ، ولاستثقالهم الخروجَ من كَسْرٍ أو شبهه إلى
ضم ، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزةِ ضمَّاها لزوالِ الكسر أو الياء . وأمَّا كسرُ حمزةَ
الميمَ من « أمهات » في المواضع المذكورة فللإِتباعِ ، أتبعَ حركةَ الميمِ لحركةِ
الهمزةِ ، فكسرةُ الميمِ تَبَع التبعِ ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح
الميمَ لما تقدم من زوالِ موجب ذلك . وكسرُ همزة « أم » بعد الكسرة أو الياء حكاه
سيبويه لغةً عن العرب ، ونَسَبها الكسائي والفراء إلى هوازن وهذيل .
قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } « إخوة » أعَمُّ من أن يكونوا ذكوراً أو
إناثاً أو بعضهم ذكوراً وبعضهم إناثاً ، ويكون هذا من باب التغليب . وزعم قوم أنَّ
الإِخوةَ خاص بالذكور ، وأن الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثلث إلى السدس ،
قالوا : لأن إخوة جمع أخ ، والجمهورُ على أنَّ الإِخوة وإنْ كانوا بلفظِ الجمع
يَقَعُون على الاثنين ، فيَحْجَبُ الأخوان أيضاً الأمَّ من الثلث إلى السدس ،
خلافاً لابن عباس فإن لا يَحْجُب بهما والظاهر معه .
قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أنه متعلق بما تقدَّمه
من قسمةِ المواريث كلِّها لا بما يليه وحدَه ، كأنه قيل : قسمةٌ هذه الأنْصباء من
بعد وصيةٍ ، قالَهَ الزمخشري ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله { يُوصِيكُمُ الله } وما
بعدَه . والثاني : ذكره الشيخ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي : يَسْتَحِقُّون ذلك كما
فُصِّل من بعد وصية . والثالث : أنه حال من السدس تقديره/ مستحِقاً من بعد وصية ،
والعاملُ الظرفُ ، قاله أبو البقاء . وجَوَّزَ فيه وجهاً آخر قال : [ « ويجوز أن
يكون ظرفاً ] أي : يتسقر لهم ذلك بعد إخراجِ الوصيةِ ، ولا بد من تقديرِ حذف
المضاف؛ لأنَّ الوصيةَ هنا المالُ الموصَى به ، وقد تكونُ الوصيةُ مصدراً مثلَ
الفريضة » . وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وجهٌ . وقوله : « والعامل الظرف يعني
بالظرف الجارَّ والمجرور في قوله { فَلأُمِّهِ السدس } فإنه شبيه بالظرفيةِ ،
وعَمِل في الحال لِما تضمَّنه من الفعلِ لوقوعِه خبراً . و » يوصي « فعل مضارع
المرادُ به المضمر أي : وصيةٍ أوصَى بها . و » بها « متعلقٌ به ، والجملةُ في
محلِّ جرٍ صفةً ل » وصية « .
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر » يُوصَى « مبنياً للمفعول في الموضعين ، وافقهم
حفص في الأخير ، والباقون مبنياً للفاعل ، وقُرىء شاذاً : » يُوَصَّى « بالتشديد
مبنياً للمفعول ، ف » بها « في قراءةِ البناءِ للفاعل في محلِّ نصب ، وفي قراءة
البناء للمفعول في محلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل .
قوله
: { أَوْ دَيْنٍ } « أو » هنا لأحدِ الشيئين . قال أبو البقاء « ولا تَدُلُّ على
ترتيبٍ ، إذ لا فرقَ بين قولك : » جاءني زيد أو عمرو « وبين قولك : » جاءني عمرو
أو زيد « لأن » أو « لأحد الشيئين ، والواحدُ لا ترتيب فيه ، وبهذا يفسد قول من
قال : » من بعد دَيْن أو وصية « ، إنما يقع الترتيبُ فيما إذا اجتمعا فَيُقَدَّم
الدينُ على الوصية » .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلت : فما معنى » أو «؟ قلت : معناها الإِباحةُ ، وأنه إنْ
كان أحدُهما أو كلاهما قُدَّم على قِسمة الميراثِ كقولك : » جالسِ [ الحسنَ ] أو
ابنَ سيرين « ، فإنْ قلت : لِمَ قُدِّمَتِ الوصية على الدَّيْن ، والدَّيْن
مُقَدَّم عليها في الشريعة؟ قلت : لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهةً للميراث في كونِها
مأخوذةً من غيرِ عوض كان إخراجُها مِمَّا يَشُّقُّ على الورثةِ بخلافِ الدَّيْن
فإنَّ نفوسَهم مطمئنةٌ إلى أدائه ، فلذلك قُدِّمت على الدَّيْن بعثاً على وجوبِها
والمسارعةِ إلى إخراجها مع الدَّيْن؛ لذلك جِيء بكلمةٍ » أو « للتسويةِ بينهما في
الوجوب » .
قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } مبتدأٌ ، و « لا تَدْرُون » وما في حيِّزه في
محلِّ الرفع خبراً له ، و « أيُّهم » فيه وجهان ، أشهرُهما عند المُعْرِبين أن
يكونَ « أيُّهم » مبتدأ وهم أسمُ استفهامٍ ، و « أقربُ » خبرُه ، والجملة من هذا
المبتدأ وخبرِه في محلِّ نصب ب « تَدْرون » لأنها من أفعالِ القلوبِ ، فعلَّقها
اسمُ الاستفهامِ عن أَنْ تعملَ في لفظِه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَعْمل فيه ما قبلَه
في غيرِ الاستثبات .
والثاني : أنه يجوزُ أن تكونَ « أيُّهم » موصولةً بمعنى الذي ، و « أقربُ » : خبرٌ
مبتدأٍ مضمر هو عائدٌ الموصولِ ، وجازَ حذفُه لأنه يجوز ذلك مع « أي » مطلقاً أي :
أطالت الصلةُ أم لم تَطُلْ ، والتقديرُ : أيُّهم هو أقربُ ، وهذا الموصولُ وصلتُه
في محلِّ نصب على أنه مفعول به ، نصبَه « تَدْرون » ، وإنما بُني لوجودِ شرطَي
البناءِ : وهما أَنْ تُضاف « أي » لفظاً وأَنْ يُحْذَفَ صدرُ صلتِها ، وصارت هذه
الآيةُ نظيرَ الآيةِ الأخرى وهي { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ
أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] فصارَ التقديرُ : لا تدرون الذي هو أقربُ . قال الشيخ : «
ولم أرَهم ذكروه » يعني هذا الوجه . قلت : ولا مانعَ منه لا من جهةِ المعنى ولا من
جهةِ الصناعةِ . فعلى القولِ الأولِ تكونُ الجملةُ سادَّةً مسدَّ المفعولين ، ولا
حاجةَ إلى تقدير حذف ، وعلى الثاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولَ ،
ويكون الثاني محذوفاً ، وبعدمِ الاحتياجِ إلى حَذْفِ المفعول الثاني يترجَّح
الوجُه الأول .
ثم
هذه الجملةُ أعني قولَه : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ } لا محلَّ
لها من الإِعراب لأنها جملة اعتراضية . قال الزمخشري : بعد أن حكى في معانيها
أقوالاً اختار منها الأولَ « لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضية ، ومن حقِّ الاعتراضِ
أَنْ يؤكِّد ما اعتَرَض بينه وبين ما يناسِبُه » يعني بالاعتراض أنها واقعةٌ من
قصة المواريث ، إلا أنَّ هذا الاعتراضَ غيرُ مرادِ النحويين ، لأنهم لا يَعْنُون
بالاعتراضِ في اصطلاحهم إلاَّ ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراضِ بين المبتدأ
وخبره ، والشرطِ وجزائه ، والقسمِ وجوابه ، والصلةِ وموصولها . ثم ذكر في معانيها
أقوالاً أحدها : وهو الذي اختاره أَنْ جَعَلَها متعلقةً بالوصية فقال : « ثم أكَّد
ذلك يعني الاهتمام بالوصية ورَغَّب فيه بقوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } أي :
لا تَدْرُون مَنْ أنفعُ لكم من آبائكم وأبنائِكم الذين يَمُوتون ، أَمَنْ أَوصى
منهم أم من لم يوصِ ، يعني أنَّ مَنْ أوصى ببعضِ مالِه فعرَّضكم لثوابِ الآخرةِ
بإمضاء وصيته فهو أقربُ لكم نفعاً وأحضَرُ جدوى ممَّن ترك الوصيَّة فوفَّر عليكم
عَرَض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقربَ وأَحْضَرَ مِنْ عرض الدنيا ، ذهاباً إلى
حقيقة الأمر ، لأن عَرَضَ الدنيا وإنْ كان قريباً عاجلاً في الصورة إلا أنه فانٍ ،
فهو في الحقيقةِ الأبعدُ الأقصى ، وثوابُ الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق ، فهو
في الحقيقةِ الأقربُ الأدنى » .
وانتصبَ « نفعاً » على التمييز من « أقرب » ، وهو منقول من الفاعلية ، واجبُ النصب
، لأنه متى وقع تمييزُ بعد أَفْعلِ التفضيل : فإنْ صَحَّ أَنْ يصاغَ منها فعلٌ
مسندٌ إلى ذلك التمييز على جهة الفاعلية وجب النصب كهذه الآية ، إذ يصح أن يقال :
أيُّهم قَرُبَ الكم نَفْعُه ، وإن لم يصِحَّ ذلك وجَبَ جَرُّه نحو : « زيد أحسنُ
فقيه » بخلاف « زيد أحسنُ فقهاً » وهذه قاعدةٌ مفيدة . و « لكم » متعلق ب « أقرب »
.
قوله : { فَرِيضَةً } فيها ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمون
الجملة السابقة من الوصية ، لأنَّ معنى « يوصيكم » فرض الله عليكم ، فصار المعنى :
« يوصيكم الله وصيةَ فرض » فهو مصدر على غير الصدر . والثاني : أنها مصدر منصوب
بفعل محذوف من لفظها . قال أبو البقاء : و « فريضةً » / مصدر لفعل محذوف أي : فرض
الله ذلك فريضة « والثالث : قاله مكي وغيره أنها حالٌ لأنها ليست مصدراً ، وكلامُ
الزمخشري محتمل للوجهين الأَوَّلَيْن فإنه قال : » فريضة « نُصِبت نَصْبِ المصدر
المؤكد ، أي : فرض ذلك فرضاً » .
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
قوله
تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } : هذه الآية مما ينبغي أن
يُطَوَّل فيها القول لإِشكالها واضطراب أقوال الناس فيها . ولا بد قبل التعرض
للإِعراب من ذكر معنى الكَلالة واشتقاقِها واختلاف الناس فيها ، ثم نعود بعد ذلك
لإِعرابها ، لأنه متوقفٌ على ما ذكرنا فنقول وبالله العون : اختُلِفَ في معنى
الكَلالة فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنه الميت الذي لا وَلَدَ له ولا والد ،
وقيل : الذي لا والدَ له فقط . وقيل : الذي لا ولد له فقط ، وقيل : هو مَنْ لا
يَرثُه أب ولا أم ، وعلى هذه الأقوالِ كلِّها فالكَلالةٌ واقعةٌ على الميت . وقيل
: الكلالة : الوَرَثَةُ ما عدا الأبوين والولد ، قاله قطرب ، وسُمُّوا بذلك لأنَّ
الميت بذهاب طَرَفَيْه تُكَلله الورثة أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويؤيد هذا
القولَ بأنّ الآيةَ نزلت في جابر ، ولم يكن له يومَ أُنْزِلَتْ أبٌ ولا ابن . وقل
: الكلالة : المال الموروث . وقيل : الكلالة : القرابة ، وقيل : هي الوراثة . فقد
تلخص مِمَّا تقدم أنها : إمَّا الميتُ الموروثُ أو الوارثُ أو المال الموروث أو
الإِرث أو القرابة .
وأمَّا اشتقاقُها فقيل : هي مشتقة مِنْ تَكَلَّله الشيء أي : أحاط به ، وذلك أنَّه
إذا لم يَتْرك ولداً ولا والداً فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي مالُه
الموروثُ لِمَنْ يتكلَّله نسبه أي : يحيط به كالإِكليل ، ومنه « الروضة
المُكَلَّلة » أي : بالزهر ، وعليه قول الفرزدق :
1554 وَرِثْتُمْ قناةَ المجدِ لا عن كَلالةِ ... عن ابنَيْ منافٍ عبدِ شمس وهاشمِ
وقيل : اشتقاقها من الكَلال وهو الإِعياءُ ، فكأنه يصير الميراث للوارث من بعد
إعياء . وقال الزمخشري : « والكلالة في الأصل : مصدرٌ بمعنى الكَلال وهو ذهابُ
القوة من الإِعياء . قال الأعشى :
1555 فآليْتُ لا أَرْثي لها مِنْ كَلالةٍ ... ولا مِنْ وَحَىً حتى تُلاقِي
مُحَمَّدا
فاستُعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإِضافة إلى قرابتهما كأنها
كالَّةٌ ضعيفة » . وأجاز فيها أيضاً أن تكونَ صفةً على وزن فَعالة قال : «
كالهَجاجَة والفَقاقَة للأحمق » .
إذا تقرر هذا فَلْنَعُدْ إلى الإِعراب فنقول والعون بالله : يجوز في « كان » وجهان
أحدهما : أن تكون ناقصة ، و « رجلٌ » اسمها ، وفي الخبر احتمالان ، أحدهما : أنه «
كلالة » إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل إنها الوارث أو غيرَ ذلك فتُقَدِّر حذفَ
مضاف أي : ذا كلالة ، و « يُورثُ » حينئذٍ في محلِّ رفعٍ صفةً ل « رجل » وهو فعلٌ
مبني للمفعول ، ويتعدَّى في الأصل لاثنين أُقيم الأول مقامَ الفاعل وهو ضمير الرجل
، والثاني محذوف تقديره : يُورَثُ هو مالَه .
وهل هذا الفعلُ من وَرِث الثلاثي أو أورث الرباعي؟ فيه خلافٌ ، إلا أنَّ الزمخشري
لَمَّا جعله من الثلاثي جعَله يتعدَّى إلى الأول من المفعولين ب « مِنْ » فإنه قال
: « ويُوْرَثُ مِنْ ورث ، أي : يورث منه » يعني أنه في الأصل يتعدَى ب « مِنْ » ،
وقد تُحْذَفُ ، تقول : « وَرِثْتُ زيداً مالَه » أي : مِنْ زيد ، ولَمَّا جَعَلَه
مَنْ « أورث » جَعَل الرجل وارثاً لا موروثاً فإنه قال : « فإنْ قلت : فإنْ
جَعَلْت » يورَث « على البناء للمفعول من » أورث « فما وجهُه؟ قلت : الرجلُ حينئذٍ
الوارثُ لا الموروثُ » وقال الشيخ : « إنه من » أورث « الرباعي المبني للمفعول »
ولم يقِّيْده بالمعنى الذي قيَّده الزمخشري .
الاحتمال
الثاني : أن يكونَ الخبرُ الجملةَ من « يُورَث » ، وفي نصب « كلالة » حينئذ أربعةُ
أوجه ، أحدها : أنها حال من الضمير في « يُورَث » إنْ أريد بها الميتُ أو الوارثُ
، إلا أنه يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي : يُورَث ذا كلالة؛
لأن الكلالة حينئذ ليست نفسَ الضمير المستكنِّ في « يُورث » . قال أبو البقاء على
جَعْلِها بمعنى الميت : « ولو قُرِىء » كلالةٌ « بالرفع على أنها صفة أو بدل من
الضمير في » يُورث « لجاز ، غير أني لم أعرف أحداً قرأ به فلا يُقْرَأْنَ إلا بما
نُقل » يعني بكونِها صفة أنها صفةٌ ل « رجل » .
الثاني : أنها مفعولٌ من أجله إنْ قيل : إنها بمعنى القرابة أي : يورَثُ لأجل
الكلالة . الثالث : أنه مفعول ثان ل « يورث » إنْ قيل إنها بمعنى المال الموروث .
الرابعُ : أنها نعتٌ لمصدر محذوف إن قيل : إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثَة
كلالة ، وقدَّر مكي في هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ قال : « تقديرُه ذات كلالة » .
وأجازَ بعضُهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكونَ حالاً .
والوجه الثاني من وجهي كان : أن تكونَ تامةً فيُكْتَفَى بالمرفوع أي : وإنْ وجد
رجل ، و « يُورَثُ » في محلِّ رفع صفةً ل « رجل » و « كلالة » منصوبةٌ على ما
تقدَّم من الحال أو المفعولِ من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدرٍ محذوفٍ على
حَسَب ما قُرِّر من معانيها . وَيَخُصُّ هذا وجهٌ آخرُ ذكره مكي : وهو أن تكون «
كلالة » منصوبة على التفسير ، قال مكي : « كان أي : وقع ، و » يورث « نعتٌ للرجل ،
و » رجل « رفع ب » كان « ، و » كلالة نَصْبٌ على التفسير ، وقيل : هو نصبٌ على
الحال ، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين « وفي جَعْلِها تفسيراً أي
تمييزاً نظرٌ لا يَخْفى .
وقرأ الجمهور : » يُورَثُ « مبنياً للمفعول وقد تقدَّم توجيهُه .
وقرأ
الحسن : « يُورِثُ » مبنياً للفاعل ، ونُقِل عنه أيضاً وعن أبي رجاء كذلك ، إلاَّ
أنَّهما شَدَّدا الراء ، وتوجيهُ القراءتين واضحٌ مِمَّا تقدَّم : وذلك أنه إنْ
أُريد بالكلالةِ الميتُ فيكون المفعولان محذوفين ، و « كلالةً » نصب على الحال أي
: وإنْ كان رجلٌ يورِث وارثَه أو أهلَه مالَه في حال كونِه كلالةً ، وإنْ أريد بها
القرابة فتكونُ منصوبة على المفعول من أجله ، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما
تقدَّم تقريره ، وإنْ أريدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً ، والأول محذوف أي :
يورِث أهله ماله ، وأنْ أريد بها الوارثُ فبالعكسِ أي يورِث مالَه أهلَه .
وقوله : { أَو امرأة } عطفٌ على « رجلٌ » ، وحُذف منها ما أُثبت في المعطوف عليه
للدلالة على ذلك ، التقديرُ : أو امرأةٌ تورَثُ كلالةً ، وإنْ كان لا يلزمُ من
تقييدِ المعطوفِ عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس ، إلا أنه هو الظاهر .
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبر في محلِّ نصب على الحال ، والواوُ
الداخلةُ عليها واوُ الحال ، وصاحبُ الحالِ : إمَّا « رجل » إنْ كان « يورَثُ »
صفةً له ، وإمَّا الضميرُ المستتر في « يورَث » . ووحَّدَ الضمير في قوله : « وله
»؛ لأنَّ العطفَ ب « أو » وما وَرَدَ على خلاف ذلك أُوِّلَ عند الجمهور ، كقوله :
{ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وإنما
أَتَى به مذكراً لأنه يجوزُ إذا تقدَّم متعاطفان ب « أو » مذكرٌ ومؤنثٌ كنت
بالخيار : بين أن تراعيَ المتقدِّمَ أو المتأخرَ فتقول : « زيدٌ أو هند قام » ،
وإن شئت : « قامت » / ، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه ، أحدها : أنه
يعودُ على الرجل وهو مذكر مبدوءٌ به . الثاني : أنه يعود على أحدهما ، ولفظ « أحد
» مفرد مذكر . والثالث : أنه يعود على الميت أو الموروثِ لتقدُّم ما يدل عليه « .
والضميرُ في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان ، أحدهما : أنه
يعودُ على الأخِ والأخت . والثاني : أنه يعودُ على الرجل وعلى أخيه أو أختِه ، إذا
أريد بالرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ } أنه وارثٌ لا موروث ، كما
تقدَّمت حكايتُه عن الزمخشري . قال الزمخشري بعد ما حكيناه عنه : فإنْ قلت :
فالضميرُ في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } إلى مَنْ يرجِعُ حينئذ؟ قلت
: على الرجل وعلى أخيه أو أخته ، وعلى الأول : إليهما ، فإنْ قلت : إذا رجع الضمير
إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر للأنثى ، فهل تبقى هذه
الفائدة قائمةً في هذا الوجه؟ قلت : نعم لأَنَّك إذا قلت : السدس له ، أو لواحدٍ
من الأخ أو الأخت على التخييرِ فقد سَوَّيْتَ بين الذكر والأنثى » انتهى .
وقرأ أُبي : « أخ أو أخت من الأم » .
وقرأ
سعد بن أبي وقاص : « من أم » بغيرِ أداة تعريف . وأجمع الناس على أن المراد بالأخ
والأخت من الأم كقراءتهما ، ولأنَّ ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون : للأختِ
النصفُ ، وللأختين الثلثان ، وللأخوة الذكور والإِناث للذَّكَر مثلُ حظ الانثيين .
قوله : { فَإِن كانوا } الواوُ ضميرُ الإِخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله : {
أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } ، والمرادُ الذكورُ والإِناث ، وأتى بضمير الذكور في قوله : «
كانوا » وقوله « فهم » تغليباً للمذكر على المؤنث ، و « ذلك » إشارةٌ إلى الواحد ،
أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإن كان مَنْ يرث زائداً على الواحد؛ لأنه لا
يَصِحُّ أن يقال : « هذا أكثرُ من واحد » إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد
، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه .
وقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى } قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثلُه .
قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } « غيرَ » نصبٌ على الحال من الفاعل في « يوصَى » وهو
ضمير يعود على الرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } ، هذا إنْ أُريد بالرجلِ
الموروثُ ، وإن أريد به الوارث كما تقدم فيعود على الميت الموروث المدلولِ عليه
بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام كما دل عليه في قولِه : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا
تَرَكَ } أي : تَرَكَه الموروث ، فصار التقدير : يوصَى بها الموروث ، هكذا أعربه
الناس فجعلوه حالاً : الزمخشري وغيره .
إلا أن الشيخ رَدَّ ذلك بأنه يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وعامِلها بأجنبي
منهما ، وذلك أنَّ العاملَ فيها « يوصَى » كما تقرر ، وقوله : { أَوْ دَيْنٍ }
أجنبي لأنه معطوف على « وصية » الموصوفة بالعامل في الحال ، قال : « ولو كان على
ما قالوه مِن الإِعراب لكانَ التركيب : » مِنْ بعد وصيةٍ يُوصَى بها غيرَ مُضارٍّ
أو دينٍ « . وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني بناءَ الفعلِ للفاعل أو
المفعول ، وتزيد عليه قراءةُ البناء للمفعول وجهاً آخرَ ، وهو أَن صاحب الحال غيرُ
مذكور ، لأنه فاعلٌ في الأصل حُذِفَ وأقيم المفعول مُقامَه ، ألا ترى أنك لو قلت :
» تُرْسَلُ الرياح مبشِّراً بها « بكسر الشين ، يعني : » يرسلُ اللهُ الرياحَ
مبشِّراً بها « فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مُقامَه ، وجئت بالحال من الفاعل لم
يَجُزْ فكذلك هذا » . ثم خَرَّجه على أحد وجهين : إمَّا بفعل يدل عليه ما قبله من
المعنى؛ ويكون عامًّاً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدين وتقديره :
يلزم ذلك مالَه ، أو يُوجبه فيه غيرَ مُضارٍّ بورثته بذلك الإِلزامِ أو الإِيجاب .
وإمَّا بفعلٍ مبني للفاعل لدلالةِ المبني للمفعولِ عليه أي : يوصي غير مُضارٍّ ،
فيصير نظير قوله : { يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور :
36-37 ] على قراءةِ منْ فتح الباء .
قوله
: { وَصِيَّةً } في نصبها أربعة أوجه؛ أحدُها : أنها مصدر مؤكِّد ، أي يوصيكم الله
بذلك وصيةً الثاني : أنها مصدر في موضع الحالِ ، والعامل فيها يُوصيكم . قاله ابن
عطية ، والثالث : أنها منصوبةٌ على الخروج : إمَّا من قولِه : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِّنْهُمَا السدس } أو من قوله : { فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } وهذه عبارةٌ تشبه
عبارة الكوفيين . والرابع : أنها منصوبةٌ باسمِ الفاعل وهو « مُضارّ » ،
والمُضارَّةُ لا تقع بالوصية بل بالورثة ، لكنه لمَّا وصّى الله تعالى بالوَرَثة
جَعَل المُضارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصية مبالغةً في ذلك ، ويؤيد هذا
التخريج قراءةُ الحسن : « غيرَ مُضارِّ وصيةٍ » بإضافة اسم الفاعل إليها على ما
ذكرناه من المجاز ، وصارَ نظيرَ قولِهم : « يا سارقَ الليلةِ » التقدير : يا
سارقاً في الليلة ، ولكنه أضافَ اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً ، فكذلك
هذا ، أصله : غيرَ مضارٍّ في وصيةٍ من الله ، فاتُّسع في هذا إلى أن عُدِّي بنفسه
من غيرِ واسطةٍ ، لِما ذكرت لك من قصد المبالغة .
وهذا أحسنُ تخريجاً من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين ،
أحدُهما : أنه على حذف « أهل » أو ذي أي : غيرَ مضارِّ أهلِ وصيةٍ أو ذي وصية .
والثاني : على حذف وقت أي : وقتَ وصية قال : « وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ،
ويقرب من ذلك قولُهم : » هو فارسُ حربٍ « أي : فارس في الحرب ، وتقول : » هو فارسُ
زمانه « أي : في زمانه ، كذلك تقديرُ القراءة : غيرَ مضار في وقت الوصية .
ومفعول » مُضارّ « محذوفٌ إذا لم تُجْعَلُ » وصيةً « مفعولةً أي : غيرَ مضارٍّ
ورثتِه بوصية .
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
قوله
تعالى : { يُدْخِلْهُ } : حَمَلَ على لفظ « مَنْ » فَأْفْرَدَ الضميرَ في قوله : «
يُطِعْ » و « يُدْخِلْه » ، وعلى معناها فجمع في قوله « خالدين » . وهذا أحسنُ
الحَمْلين ، أعني الحملَ على اللفظ ثم المعنى ، ويجوزُ العكس وإن كان ابن عطية قد
منعه ، وليس بشيء لثبوتِه عن العرب ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرةٍ وفيه تفصيلٌ ، وله
شروط مذكورةٌ في كتب النحو .
وفي نصبِ « خالدين » وجهان ، أظهرهما : أنه حال من الضمير المنصوبِ في « يُدْخِلُه
» ، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما
تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى ، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ .
والثاني : أن يكونَ نعتاً ل « جنات » من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو
لغيرِه معنىً نحو : مررت برجلٍ قائمةٍ أمه ، وبامرأة حسنٍ غلامُها ، ف « قائمة » و
« حسنٍ » وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً ، أجاز
ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي ، إلاَّ أنّ الصفة إذا جَرَتْ على غير
مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين : أَلْبس أو لم يُلْبِس .
وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون : إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له : فإن أَلْبس
وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو : « زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو » إذا كان
الضرب واقعاً من زيد على عمرو وإن لم يُلْبِس لم يَجِبِ الإِبرازُ نحو : « زيدٌ
هندٌ ضاربُها » ، إذا تقرَّر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشَّى على رأي
الكوفيين ، وهو مذهب حسن .
واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع ، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ : { إلى
طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] بجر « غير » مع عدمِ بروزِ
الضمير ، ولو أَبْرزه لقال : « غيرِ ناظرين إناه أنتم » ومنه قولُ الآخَر :
1556 قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ ... بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ
ولم يقل : بانُوها هم ، وقد خَرَّج بعضُهم البيت على حذف مبتدأ تقديره : هم بانوها
، ف « قومي » مبتدأ أول « و » ذرا « مبتدأ ثان ، و » هم « مبتدأ ثالث ، و » بانوها
« خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .
وقد منع الزمخشري كونَ » خالدين « و » خالداً « صفةً ل » جنات « و » ناراً « بعدم
بروز الضمير فقال : » فإنْ قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين ل « جنات » و « ناراً »؟
قتل : لا ، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له ، فلا بد من الضمير في قولك : «
خالدين هم فيها ، وخالداً هو فيها » .
ومَنَع
أبو البقاء ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع « خالداً » ، ولم يتعرض لذلك مع «
خالدين » ، ولا فرق بينهما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنعُ على مذهبِ
البصريين كما تقدم .
وقرأ نافع وابن عامر هنا « نُدْخِلْه » في الموضعين ، وفي سورة التغابن والطلاق
والفتح بنونِ العظمة ، والباقون بالياء ، والضمير لله تعالى ، وإنما جمع « خالدين
» في الطائعين ، وأَفْرَد « خالداً » في العاصين ، قالوا : لأنّ أهلَ الطاعة أهلُ
الشفاعة ، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلك الجمعَ ، والعاصي
لا يَدْخُلُ به غيرُه النارَ فناسَبَ ذلك الإِفرادُ .
والجملةُ من قولِه { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محلِّ نصبٍ صفةً ل « جنات
» وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ المنصوبَ بعد « دخل » من الظروف هل نصبُه نصبُ الظروف
أو نصبُ المفعولِ به؟ الأول قول الجمهور ، والثاني قول الأخفش ، فكذلك « جنات » و
« ناراً » .
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
قوله
تعالى : { واللاتي } : اللاتي : جمع « التي » في المعنى لا في اللفظ؛ لأنَّ هذه
صيغٌ موضوعةٌ للتثنية والجمع ، وليست بتثنية ولا جمع حقيقةً . وقال أبو البقاء : «
اللاتي جمع » التي « على غير قياس ، وقيل : هي صيغة موضوعة للجمع » ومثل هذا لا
ينبغي أَنْ يَعُدَّه خلافاً . ولها جموعٌ كثيرة : ثلاثَ عشرةَ لفظة ، وهي : اللاتي
واللواتي واللائي ، وبلا ياءات فهذه ست ، واللاي بالياء من غيرِ همزٍ ، واللا من
غير ياءٍ ولا همزٍ ، واللَّواء بالمد ، واللَّوا بالقصر ، و « الأُلى » كقوله :
1557 فأمَّا الأُلى يَسْكُنَّ غَوْرَ تهامةٍ ... فكلُّ فتاةٍ تترُكُ الحِجْلَ
أَفْصَما
إلا أنَّ الكثيرَ أن تكونَ جمْعَ « الذي » . و « اللاءاتِ » مكسوراً مطلقاً أو
معرباً إعراب جمع المؤنث السالم كقوله :
1558 أولئك إخواني الذين عَرَفْتُهُمْ ... وأخْدانُك اللاءاتُ زُيِّنَّ بالكَتَمْ
برفعِ « اللاءات » .
وفي محلِّ « اللاتي » قولان ، أحدُهما : أنه رفعٌ بالابتداء ، وفي الخبر حينئذٍ
وجهان ، أحدُها : الجملةُ مِنْ قوله : « فاسْتَشْهدوا » ، وجازَ دخولُ الفاءِ
زائدةً في الخبرِ وإن لم يَجُزْ زيادتُها في نحو : « زيدٌ فاضرِبْ » على رأي
الجمهور ، لأنَّ المبتدأ أَشْبَهَ الشرطَ في كونِه موصولاً عاماً صلتُه فعلٌ
مستقبل ، والخبرُ مستحقٌ بالصلةِ .
الوجه الثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، والتقدير : « فيما يتلى عليكم حكُم اللاتي »
، فحُذفَ الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ للدلالة عليهما ، وأُقيم المضافُ إليه
مُقامَه ، وهذا نظيرُ ما فَعَله سيبويه في نحو : { الزانية والزاني فاجلدوا } [
النور : 2 ] و { السارق والسارقة فاقطعوا } [ المائدة : 38 ] أي : فيما يتلى عليكم
حكمُ الزاينة ، ويكونُ قولُه « فاستشهِدوا » و « فاجْلدوا » دالاً على ذلك الحكم
المحذوفِ لأنه بيانٌ له .
والقول الثاني : أنَّ محلَّه نصبٌ ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ بفعلٍ
مقدرٍ لدلالةِ السياقِ عليه لا على جهةِ الاشتغالِ لِما سنذكره ، والتقدير :
اقصِدوا اللاتي يأتين ، أو تعمَّدوا . ولا يجوز أن ينتصَبَ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره
قولُه « فاستشهدوا » فتكونُ المسألة من باب الاشتغال ، لأنَّ هذا الموصولَ أشبهَ
اسمَ الشرطِ كما تقدَّم تقريره ، واسمُ الشرطِ لا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على
الاشتغالِ لأنه لا يعمل فيه ما قبله ، فلو نصبناه بفعلٍ مقدرٍ لزم أن يعملَ فيه ما
قبلَه . هذا ما قاله بعضهم ، ويَقْرُبُ منه ما قاله أبو البقاء فإنه قال : « وإذا
كان كذلك أي كونَه في حكم الشرط لم يَحْسُنِ النصبُ؛ لأنَّ تقديرَ الفعل قبل أداةِ
الشرط لا يجوز ، وتقديرُه بعد الصلةِ يحتاج إلى إضمارِ فعلٍ غيرِ قوله » فاستشهدوا
« لأنَّ » استشهدوا « لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في » اللاتي « وفي عبارِته مناقشةٌ
يطول بذكرها الكتاب .
والثاني
: أنه منصوبٌ على الاشتغال/ ، ومَنْعُهم ذلك بأنه يلزُم أَنْ يعملَ فيه ما قَبلَه
جوابُه أنَّا نقدِّرُ الفعلَ بعده لا قبله ، وهذا خلافٌ مشهورٌ في أسماءِ الشرط
والاستفهام : هل يَجْري فيها الاشتغال أم لا؟ فمنعَه قومٌ لِما تقدَّم ، وأجازه
آخرون مقدِّرين الفعل بعد الشرطِ والاستفهام ، وكونُه منصوباً على الاشتغال هو
ظاهر كلام مكي فإنه ذكر ذلك في قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ
فَآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] والآيتان من وادٍ واحد ، ولا بدَّ من إيراد نصَّه
ليتَّضحَ لك قولُه ، قال رحمه الله : « واللذانِ يأتيانِها » الاختيارُ عند سيبويه
في « اللذان » الرفع ، وإنْ كان معنى الكلامِ الأمرَ ، لأنه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ
تمكَّن معنى الشرط فيه إذ لا يقع على شيءٍ بعينه ، فلمَّا تمكَّن معنى الشرط
والإِبهام جرى مَجْرى الشرطِ في كونه لم يَعْمل فيه ما قبله كما لا يعمل في الشرط
ما قبله من مضمرٍ أو مظهر « . ثم قال : » والنصبُ جائزٌ على إضمارِ فعل لأنه إنما
أشبه الشرطَ ، وليس الشبيهُ بالشيء كالشيءِ في حكمه « . انتهى . وليس لقائل أن
يقولَ : مرادُه النصبُ بإضمار فعل النصب لا على الاشتغال ، بل بفعلٍ مدلولٍ عليه ،
كما تقدم نَقْلُه عن بعضِهم ، لأنه لم يكن لتعليله بقوله : » لأنه إنما أشبه الشرط
إلى آخره « فائدةٌ إذ النصبُ كذلك لا يَحْتاج إلى هذا الاعتذار .
وقوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل من » يِأْتِين «
، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : يأتين كائناتٍ من نسائكم . وأما قوله » منكم « ففيه
وجهان ، أحدُهما : أن يتعلقَ بقوله : » فاستشهدوا « . والثاني : أن يتعلَّق
بمحذوفٍ على أنه صفة ل » أربعة « ، فيكون في محل نصبٍ تقديرُه : فاستشهدوا عليهنَّ
أربعة كائنة منكم .
قوله » حتى « ، » حتى « بمعنى إلى ، فالفعل بعدها منصوب بإضمار » أن « وهي متعلقة
بقوله : » فأمسكوهن « غاية له . وقوله : » أو يجعلَ « فيه وجهان ، أحدهما : أن
تكون » أو « عاطفة فيكون الجَعْلُ غاية لإِمساكهن أيضاً ، فينتصبُ » يجعلَ «
بالعطف على » يتوفَّاهن « . والثاني : أن تكون » أو « بمعنى » إلا « كالتي في
قولهم » لألزَمَنَّك أو تقضيَني حقي « على أحدِ المعنيين ، والفعلُ بعدها منصوبٌ
أيضاً بإضمار » أن « كقوله :
1559 فَسِرْ في بلادِ اللهِ والتمسِ الغِنَى ... تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموت
فَتُعْذَرا
أي : إلا أَنْ تموتَ . والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غايةً
لإِمساكِهِنَّ في البيوت .
قوله : » لهن « فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه متعلقٌ ب » يَجْعَلَ « . والثاني : أنه
متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من » سبيل « ، إذ هو في الأصلِ صفةُ نكرةِ قُدِّم عليها
فَنُصِب حالاً ، هذا إنْ جُعِل الجَعْلُ بمعنى الشرع أو الخلق ، وإنْ جُعِل بمعنى
التصيير فيكون » لَهُنَّ « مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول وهو » سبيل « ،
وتقديمُه هنا واجبٌ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديمُ هذا الخبرِ
لكونهِ جارَّاً ، والمبتدأُ نكرةٌ لا مسِّوغَ لها غيرُ ذلك .
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
قوله
تعالى : { واللذان } : الكلامُ عليه كالكلامِ على « اللاتي » إلا أنَّ في كلامِ
أبي البقاء ما يُوهِمُ جوازَ الاشتغالِ فيه ، فإنه قال : « الكلام في » اللذان «
كالكلام في » اللاتي « ، إلا أنَّ مَنْ أجاز النصبَ يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من
جنس المذكور تقديرُه : آذُوا اللذين ، ولا يجوز أن يعملَ ما بعد الفاء فيما قبلها
ههنا ولو عَرِي من الضمير؛ لأن الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط ،
وتلك تقطع ما بعدها عما قبلها » فقولُه : « مَنْ أجازَ النصبَ » يَحْتمل مَنْ أجاز
النصب المتقدم في « اللاتي » بإضمارِ فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو
بنحو « اقصِدوا » ، ويَحْتمل مَنْ أجازَ النصبَ على الاشتغال من حيث الجملةُ ، إلا
أنَّ هذا بعيدٌ لأنَّ الآيتين من وادٍ واحدٍ فلا يُظَّنُّ به أنه يمنع في إحداهما
ويجيز في الأخرى ، ولا ينفع كونُ الآيةِ الأولى فيها الفعلُ الذي يفسِّر متعدٍ
بحرفِ جر ، والفعلُ الذي في هذه الآية مُتَعَدٍّ بنفسه فيكون أقوى إذ لا أثرَ لذلك
في باب الاشتغال . والضميرُ المنصوب في « يأتِيانها » للفاحشة .
وقرأ عبد الله : « يأتينَ بالفاحشةِ » أي يَجِئْنَ بها ، ومعنى قراءةِ الجمهور «
يَغْشَيْنَها ويخالطنها » .
وقرأ الجمهور : « واللذانِ » بتخفيف النون ، وقرأ ابن كثير : « واللذان » هنا ، و
« اللذين » في حم السجدة بتشديد النون . ووجهُها جَعَل إحدى النونين عوضاً من
الياء المحذوفة التي كان ينبغي أن تبقى ، وذلك أن « الذي » مثل « القاضي » ، و «
القاضي » تثبت ياؤه في التثنية ، فكان حقُّ ياء الذي والتي أن تثبت في التثنية
ولكنهم حَذَفُوها : إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غيرِ القياسِ ، لأنَّ المبهماتِ لا
تُثَنَّى حقيقةً ، إذ لا يثنى إلا ما يُنَكَّر ، والمبهمات لا تنكر ، فجعلوا
الحذفَ مَنْبَهَةً على هذا ، وإمَّا لطولِ الكلامِ بالصلةِ . وزعم ابن عصفور أنَّ
تشديدَ النونِ لا يجوزُ إلا مع الألفِ كهذه الآية ، ولا يجوز مع الياء في الجر
والنصب ، وقراءةُ ابن كثير في حم السجدة : { أَرِنَا اللذيْنِّ أَضَلاَّنَا } [
الآية : 29 ] حجةٌ عليه .
وقُرىء : « اللَّذَأَنِّ » بهمزةٍ وتشديدِ النون ، ووجهُها أنه لَمَّا شَدَّد
النونَ التقى ساكنان فَفَرَّ من ذلك بإبدالِ الألفِ همزةً ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك
في الفاتحة .
وقرأ عبد الله : « والذين يَفْعَلُونه منكم » ، وهذه قراءةُ مشكلةٌ لأنها بصيغة
الجمع ، / وبعدَها ضميرُ تثنية ، وقد يُتَكَلَّفُ لها تخريجٌ : هو أنَّ « الذين »
لمَّا كان شاملاً لصنفي الذكورِ والإِناث عاد الضمير عليه مثنى اعتباراً بما اندرج
تحته ، وهذا كما عاد ضمير الجمع على المثنى الشامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحتَه
كقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] ، {
هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] كذا قال الشيخ وفيه نظر ، فإنَّ الفرقَ
ثابتٌ؛ وذلك لأنَّ « الطائفة » اسمٌ لجماعة وكذلك « خصم »؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ
فأُطْلِقَ على الجمعِ .
وأصلُ فآذُوهما : فآذِيُوهما ، فاستثقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت الياء التي
هي لام ، وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ .
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } : قد تقدَّم الكلام على « إنما » في أول
البقرة وما قيل فيها . و « التوبة » مبتدأ ، وفي خبرها وجهان ، أظهرهما : أنه «
على الله » أي : إنما التوبة مستقرة على فضل الله ، ويكون « للذين » متعلقاً بما
تعلَّق به الخبر . وأجاز أبو البقاء عند ذِكْرِه هذا الوجهَ أن يكونَ « للذين »
متعلقاً بمحذوف على أنه حال قال : « فعلى هذا يكون » للذين يعملون السوء « حالاً
من الضمير في الظرف وهو » على الله « ، والعاملُ فيها الظرفُ أو الاستقرار أي :
كائنةً للذين ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في الحالِ التوبة لأنه قد فُصِل
بينهما بالخبر » ، وهذا الذي قاله فيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه .
الثاني : أن يكونَ الخبرُ « للذين » و « على الله » متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال
من شيء محذوف ، والتقدير : « إما التوبةُ إذا كانت أو إذ كانت على الله للذين
يعملون » ، ف « إذا » و « إذ » معمولان ل « الذين »؛ لأنَّ الظرفَ يتقدم على عامله
المعنوي . و « كان » هذه التامَّةُ وفاعلُها هو صاحب الحال . ولا يجوز أن تكون «
على الله » حالاً من الضمير المستتر في « للذين » ، والعامل فيها « للذين » لأنه
عامل معنوي ، والحال لا تتقدم على عامِلها المعنوي . هذا ما قاله أبو البقاء ،
ونَظَّر هذه المسألةَ بقولِهم : « هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطَباً » يعني أنَّ
التقديرَ هنا : إذ كان بُسْراً أطيبُ منه إذْ كان رُطَباً ، ففي هذه المسألة أقوال
كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب . وقدَّر الشيخ مضافين حُذِفا من المبتدأ
والخبر فقال : « التقديرُ : إنما قبولُ التوبةِ مترتبٌ على فضلِ الله ، ف » على «
باقيةٌ على بابها » يعني من الاستعلاء .
قوله : { بِجَهَالَةٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من
فاعل « يعملون » ، ومعناها المصاحبة أي : يعملون السوءَ ملتبسين بجهالةٍ أي :
مصاحبين لها ، ويجوز أن يكون حالاً من المفعولِ أي : ملتبساً بجهالة ، وفيه بُعْدٌ
وَتَجَوُّزٌ .
والثاني : أن يتعلق ب « يعملون » على أنها باء السببية . قال الشيخ : « أي :
الحاملُ لهم على عملِ السوءِ هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على
المعصية متذكرين له حالَ عملها لم يَقْدُموا عليها كقوله : » لا يَزْني الزاني حين
يزني وهو مؤمن « لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً .
قوله : { مِن قَرِيبٍ } فيه وجهان : أحدهما : أن تكون » من « لابتداءِ الغاية أي :
تبتدىء التوبة من زمانٍ قريب من زمان المعصية لئلا يقعَ في الإِصرار ، وهذا إنما
يتأتَّى على قول الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون » مِنْ « لابتداء
الغاية في الزمان ، ويتأوَّلون ما جاء منه ، ويكون مفهومُ الآية أنه لو تاب من
زمانٍ بعيد لم يدخُلْ في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبولِ التوبة على الله المذكورةِ في
هذه الآية ، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم » فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم « .
والثاني
: أنها للتبعيض أي : بعضَ زمانٍ قريب ، يعني : أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى
بالتوبة فيه فهو تائب من قريب . وعلى الوجهين ف « مِنْ » متعلقة ب « يتوبون » ، و
« قريب » صفة لزمان محذوف كما تقدَّم تقريره ، إلا أنَّ حَذْفَ هذا الموصوف
وإقامةَ هذه الصفةِ مُقامه ليس بقياسٍ ، إذ لا ينقاس الحَذْفُ إلا في صور ، منها
أن تكونَ الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد كالأبطح والأبرق ، أو كانت خاصةً
بجنس الموصوف نحو مررت بكاتبٍ ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها نحو : « اسقِني ماءً ولو
بارداً ، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك .
وفي قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ } إعلامٌ بسَعَةِ عفوه ، حيث أتى بحرف التراخي .
والفاء في قوله » فأولئك « مؤذنةٌ بتسبُّبِ قَبول الله توبتَهم إذا تابوا من قريب
. وضَمَّن » يتوب « معنى يَعْطِفُ فلذلك عَدَّى ب » على « . ، وأمَّا قولُه : {
إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } فراعَى المضافَ المحذوف إذ التقدير : إنما قبولُ
التوبةِ على الله ، كذا قال الشيخ وفيه نظر .
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
قوله
تعالى : { حتى إِذَا } : حتى حرفُ ابتداء ، والجملةُ الشرطية بعدها غايةٌ لِما
قبلها أي : ليست التوبةُ لقومٍ يعملون السيئات ، وغاية عَمِلهم إذا حضرهم الموتُ
قالوا : كيت وكيت ، وهذا وجه حسن ، ولا يجوز في « حتى » أن تكونَ جارةً ل « إذا »
أي : يعملون السيئات إلى وقت حضورِ الموت من حيث إنها شرطيةٌ ، والشرطُ لا يعمل
فيه ما قبله ، وإذا جعلنا « حتى » جارةً تعلَّقت ب « يعملون » ، وأدواتُ الشرط لا
يعمل فيها ما قبلها ، ألا ترى أنه يجوزُ : « بمَنْ تمرر أمرر » ، ولا يجوز :
مَرَرْتُ بمن يَقُمْ أكرمْه ، لأنَّ له صدرَ الكلام ، ولأن « إذا » لا تتصرف على
المشهور كما تقدم تقريره في أول البقرة واستدلَّ ابن مالك على تصرُّفها بوجوه ،
منها : جَرُّها ب « حتى » نحو : { حتى إِذَا جَآءُوهَا } [ الزمر : 71 ] { حتى
إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] ، وفيه من الإِشكال ما ذكرته لك ، وقد تقدم تقرير
ذلك عند قوله : { حتى إِذَا بَلَغُواْ } [ النساء : 6 ] .
قوله : { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ } « الذين » مجرورُ المحل عطفاً على قوله « للذين
يعملون » أي ليست التوبةُ لهؤلاء ولا لهؤلاء ، فَسَوَّى بين مَنْ مات كافراً وبين
مَنْ لم يتب إلا عند معاينةِ الموتِ في عدم قبول توبتِه ، والمرادُ بالعاملين
السيئاتِ المنافقون .
وأجاز أبو البقاء في « الذين » أن يكونَ مرفوعَ المحل على الابتداء ، وخبرُه «
أولئك » وما بعدَه ، معتقداً أن اللام لام الابتداء ، وليست ب « لا » النافية .
وهذا الذي قاله من كونِ اللامِ لامَ الابتداء لا يَصِحُّ إلا أن يكون قد رُسِمَتْ
في المصحف لامٌ داخلة على « الذين » فيصير « وللذين » ، وليس المرسوم كذلك ، إنما
هو لام وألف ، وألف لام التعريف الداخلة على الموصول ، وصورته : ولا الذين .
قوله : « أولئك » مبتدأ ، و « أَعْتَدْنا » خبرُه ، و « أولئك » يجوز أن يكونَ
إشارةً إلى « الذين يموتون وهم كفار/ ، لأنَّ اسم الإِشارة يَجْري مَجْرى الضميرِ
فيعودُ لأقربِ مذكور ، ويجوزُ أَنْ يُشارَ به إلى الصِّفتين : الذين يعملون
السيئات والذين يَمُوتون وهم كفار . وأعتدنا أي : أَحْضَرْنا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
قوله
تعالى : { أَن تَرِثُواْ } : في محلِّ رفعٍ على الفاعلية ب « يَحِلُّ » أي : لا
يَحِلُّ لكم إرثُ النساءِ . وقرىء « لا تَحِلُّ » بالتاء من فوق على تأويل أن
ترثوا : بالوراثة ، وهي مؤنثةٌ ، وهذا كقراءة : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ
إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] بتأنيث « تكن » ونصبِ « فتنتهم » بتأويل «
ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتُهم » ، إلا أن في آية الأنعامِ مسوغاً وهو الإِخبار
عنه بمؤنث كما سيأتي .
و « النساءَ » مفعول به : إمَّا على حَذْف مضاف أي : أن ترثوا أموال النساء إنْ
كان الخطاب للأزواج؛ لأنه رُوي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها
حتى تموتَ فيرثَها ، أو تَفْتَدِيَ منه بمالِها إنْ لم تمت . وإما من غير حذفٍ ،
على معنى أن يَكُنَّ بمعنى الشيء الموروث إنْ كان الخطابُ للأولياء أو الأقرباء
الميت ، فقد نُقل أنه إذا مات أحدُهم وتَرَكَ امرأة وابناً من غيرها كان أحقَّ بها
مِنْ نفسها . وقيل : كان الوليُّ إنْ سبق وأَلْقى عليها ثوبَه كان أحق بها ، وإنْ
سَبَقَتْ إلى أهلها كانت أحقَّ بنفسِها ، فنُهوا أن يجعلوهُنَّ كالأشياء المواريث
، وعلى ما ذكرْتُ فلا يُحتاج إلى حَذْفِ أحدِ المفعولين : إمَّا الأول أو الثاني
على جَعْلِ « أن ترثوا » متعدياً لاثنين كما فعل أبو البقاء قال : « والنساءَ فيه
وجهان : أحدُهما : هُنَّ المفعول الأول ، والنساء على هذا هن الموروثاتُ ، وكانت
الجاهليةُ تَرِثُ نساء آبائهم وتقول : نحن أحقُّ بنكاحِهِنَّ . والثاني : أنه
المفعول الثاني والتقدير : أن ترثوا من النساء المالَ » انتهى . قوله : « هُنَّ
المفعول الأول » يعني والثاني محذوف تقديرُه : أَنْ تَرِثوا من آباءكم النساء .
و « كُرْهاً » مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي : أن ترثوهن كارهات أو
مكرهات . وقرأ الأخوان « كرهاً » هنا وفي براءة والأحقاف بضم الكاف ، وافقهما عاصم
وابن عامر من رواية ابن ذكوان عنه على ما في الأحقاف ، والباقون بالفتح . وقد
تقدَّم الكلام في الكُره والكَره : هل هما بمعنى واحد أم لا؟ في البقرة فأغنى عن
إعادته . ولا مفهومَ لقوله « كرهاً » يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يَكْرَهْن ذلك
لخروجه مَخْرج الغالبِ .
قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مجزوم ب « لا »
الناهية ، عَطَفَ جملةَ نهي على جملةٍ خبرية ، فإنْ لم تُشْترط المناسبةُ بين
الجمل كما مذهبُ سيبويه فواضحٌ ، وإن اشترطنا ذلك كما هو رأيُ بعضِهم فلأنَّ
الجملةَ قبلَها في معنى النهي ، إذ التقديرُ : لا ترثِوا النساءَ كرهاً فإنه غيرُ
حلالٍ لكم . وجعله أبو البقاء على هذا الوجهِ مستأنفاً ، يعني أنه ليس بمعطوفٍ على
الفعل قبله .
والثاني
: أجازه ابن عطية وأبو البقاء أن يكون منصوباً عطفاً على الفعل قبله . قال ابن
عطية : « ويُحتمل أن يكونَ » تَعْضُلوهن « نصباً عطفاً على » تَرِثوا « ، فتكون
الواوُ مُشَرِّكةً عاطفة فِعْلاً على فعل » .
وقرأ ابن مسعود : « ولا أَنْ تَعْضُلوهن » فهذه القراءة تُقَوِّي احتمال النصب
وأنَّ العَضْل مِمَّا لا يَحِلُّ بالنص . ورَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنك إذا عطفت
فعلاً منفياً ب « لا » على مثبت وكانا منصوبين فإنَّ الناصب لا يُقَدَّر إلا بعد
حرف العطف لا بعد « لا » ، فإذا قلت : « أريدُ أن أتوبَ ولا أدخلَ النار » فإنَّ
التقدير : أريد أن أتوبَ وأَنْ لا أدخلَ النار ، لأنَّ الفعلَ يطلبُ الأولَ على
سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي ، فالمعنى : أُريد التوبةَ وانتفاء دخولي
النارَ ، فو كان الفعلُ المتسلطُ على المتعاطِفَيْنِ منفياً فكذلك ، ولو قَدَّرْتَ
هذا التقديرَ في الآية لم يَصِحَّ لو قت : « لا يَحِلُّ أن لا تَعْضُلوهُنَّ » لم
يَصِحَّ إلا أن تجعل « لا » زائدة لا نافيةً ، وهو خلاف الظاهر ، وأما أَنْ تقدِّر
« أَنْ » بعد « لا » النافية فلا يَصِحُّ ، وإذا قَدَّرْتَ « أن » بعد « لا » كان
من عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس
على ابن عطية العطفان ، وَظنَّ أنه بصلاحية تقدير « أَنْ » بعد « لا » يكونُ من
عطفِ الفعل على الفعلِ ، وفَرْقٌ بين قولِك : [ لا ] أريد أن تقومَ وأن لا تخرج «
وقولك : » لا أريدُ أن تقومَ ولا أن تخرج « ففي الأول نفى إرادةَ وجودِ قيامِه ،
وأراد انتقاءَ خروجهِ فقد أرادَ خروجَه ، وفي الثانية نَفَى إرادةَ وجودِ قيامِه
ووجودِ خروجِه ، فلا يريدُ لا القيامَ ولا الخروج . وهذا في فهمه بعضُ غموضٍ على
منْ لم يتمرَّنْ في علم العربية » انتهى ما رَدَّ به .
وفيه نظرٌ : من حيث إنَّ المثال الذي ذكره في قوله : « أريد أن أتوب ولا أدخل
النار » فِإنَّ تقديرَ الناصب فيه قبل « لا » واجب من حيث إنه لو قُدِّر بعدها
لفسد التركيب ، وأمَّا في الآية فتقدير « أن » بعد « لا » صحيحٌ ، فإنَّ التقدير
يصير : لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن . [ ويؤيد ما قلته وما ذهب
إليه ابن عطية قولُ الزمخشري فإنه قال : فإن قلت : ] تعضُلوهن ما وجهُ إعرابه؟ قلت
: النصبُ عطفاً على « أن ترثوا » و « لا » لتأكيدِ النفي أي : لا يَحِلُّ لكم أن
ترثوا النساء ولا أن تعضُلوهن « ، فقد صَرَّح الزمخشري بهذا المعنى وصَرَّح بزيادة
» لا « التي جَعَلَها الشيخ خلاف الظاهر .
وفي
الكلام حذفٌ تقديرُه : « ولا تَعْضُلوهن من النكاح » إنْ كان الخطابُ للأولياء ،
أو : « ولا تعضُلوهن من الطلاق » إنْ كان الخطاب للأزواجِ . وتقدَّم معنى العَضْل
في البقرة .
قوله : { لِتَذْهَبُواْ } اللام متعلقةٌ ب « تَعْضُلوهن » ، والباء في « ببعض »
فيها وجهان ، أحدُها : أنها باءُ التعديةِ المرادفةُ لهمزتها اي : لِتَذْهَبُوا [
بعضَ ] ما آتيتموهن . والثاني : أنها للمصاحبةِ ، فيكون الجارُّ في محلّ نصبٍ على
الحال ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ، و « ما » موصولةٌ بمعنى
الذي أو نكرة موصوفة ، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوفٌ ، وفي تقديره إشكالٌ
تقدَّمَ الكلامُ عليه في البقرة عند قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }
[ الآية : 3 ] فليلتفت إليه .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطعٌ ،
فيكونُ « أن يأتينَ » في محلِّ نصب والثاني : أنه متصلٌ ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه ،
أحدُها : أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره : « ولا تعضُلوهنَّ في وقتٍ من
الأوقات إلا وقتَ إتيانهنَّ بفاحشة . الثاني : أنه مستثنى من الأحوال العامة
تقديره : لا تَعْضُلوهن في حال من الأحوال إلا في حالِ إتيانهن بفاحشة . الثالث :
أنه مستثنى من العلة العامة تقديره : لا تعضُلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن
بفاحشة . / وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجهَ الانقطاع : » والثاني : هو في
موضع الحال تقديرُه : إلاَّ في حالِ إتيانِهِنَّ بفاحشةٍ ، وقيل : هو استثناء متصل
، تقديرُه : ولا تَعْضُلوهن في حال إلا في حالِ إتيان الفاحشة « انتهى . وهذا
الوجهان هما في الحقيقة وجهٌ واحد ، لأنَّ القائلَ بكونِه منصوباً على الحال لا
بُدَّ أن يقدِّر شيئاً عاماً يجعلُ هذه الحالَ مستثناةً منه .
وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم : » مُبَيَّنة « بفتح الياء اسمَ مفعول في جميع
القرآن ، أي : بَيَّنَها مَنْ يَدَّعيها وأوضحها . والباقون بكسرها اسمَ فاعل وفيه
وجهان ، أحدهما : أنه من » بيَّن « المتعدي ، فعلى هذا يكون المفعول محذوفاً تقديره
مبيِّنةً حالَ مرتكبها . والثاني : أنه من بَيَّن اللازم ، فإنَّ » بَيَّن « يكون
متعدياً ولازماً يقال : بانَ الشيء وأبان واستبان وبَيَّن وتبيَّن بمعنى واحد أي :
ظَهَر . وقرأ بعضهم : مُبيِنَة بكسرِ الباءِ وسكونِ الياء اسم فاعل من » أبان « ،
وفيها الوجهان المتقدمان في المشددة المكسورة ، لأنَّ » أبان « أيضاً يكون متعدياً
ولازماً ، وأمَّا » مُبَيِّنات « فقرأهن الأخَوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر
الياء اسمَ فاعل ، والباقون بفتحها اسمَ مفعول ، وقد تقدَّم وجهُ ذلك .
قوله : { بالمعروف } في الباء وجهان ، أظهرُهما : أنها باءُ الحالِ : إمَّا من
الفاعل أي : مصاحبين لهنَّ بالمعروف ، أو من المفعول أي : مصحوباتٍ بالمعروف .
والثاني
: أنها باءُ التعدية . قال أبو البقاء : « بالمعروفِ » مفعول أو حالٍ « .
قوله : { فعسى } الفاء جواب الشرط ، وإنما اقترنت بها » عسى « لكونِها جامدةً .
قال الزمخشري : » فإنْ قلت : مِنْ أيِّ وجهٍ صَحَّ أن يكون « فعسى » جزاءً للشرط؟
قلت : من حيث إنَّ المعنى : فإنْ كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة ، فلعل لكم
فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه « .
وقرىء » ويَجْعَلُ « برفع اللام . قال الزمخشري : » على أنه حال « ، يعني ويكونُ
خبراً لمبتدأ محذوف؛ لئلا يلزمَ دخول الواو على مضارع مثبت . و » عسى « هنا تامةٌ
لأنها رَفَعَتْ » أنْ « وما بعدها ، والتقدير : فقد قَرُبَتْ كراهتكم ، فاستغنت عن
تقدير خبر ، والضمير في » فيه « يعود على » شيء « أي : في ذلك الشيء المكروهِ وقيل
: يعودُ على الكره المدلول عليه بالفعل . وقيل : يعود على الصبر وإن لم يَجْرِ له
ذكر .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
قوله
تعالى : { مَّكَانَ زَوْجٍ } : ظرفٌ منصوبٌ بالاستبدال ، والمرادُ بالزوج هنا
الجمعُ أي : وإنْ أردتم استبدالَ أزواجٍ مكانَ أزواج ، وجاز ذلك لدلالةِ جمعِ
المستبدِلين ، إذ لا يُتَوَهَّم اشتراك المخاطبين في زوجٍ واحد مكانَ زوجٍ واحد ،
ولإِرادة معنى الجمع عادَ الضميرُ من قوله : « إحداهُنَّ » على « زوج » جمعاً .
والتي نَهَى عن الأخذ منها هي المستبدلُ مكانَها ، لأنها آخذةٌ منه بدليل قوله : {
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } وهذا إنما هو في
القديمةِ لا المُسْتحدثةِ .
وقال : { إِحْدَاهُنَّ } ليدلَّ على أن قوله : { وَآتَيْتُمْ } المراد منه : وآتى
كلُّ واحد منكم إحداهن ، أي : إحدى الأزواج ، ولم يقل : « آتيتموهن قنطاراً » لئلا
يُتَوَهَّم أن الجميع المخاطبين آتَوا الأزواج قنطاراً ، والمراد : آتى كلُّ واحد
زوجَه قنطاراً ، فدل لفظ « إحداهن » على أن الضمير في « آتيتم » المرادُ منه كلُّ
واحدٍ واحدٍ كما دَلَّ لفظ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ }
على أنَّ المرادَ استبدالُ أزواجٍ مكانَ أزواج ، فأُريد بالمفرد هنا الجمعُ
لدلالةِ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ } .
وأُريد بقوله { وَآتَيْتُمْ } كلُّ واحد واحد ، لدلالة « إحداهن » وهي مفردة على
ذلك . ولا يُدَلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجزَ ولا أفصحَ من هذا التركيب .
وتقدَّم معنى القنطار واشتقاقه في آل عمران . والضمير في « منه » عائد على «
قنطاراً » .
وقرأ ابن محيصن : « آتيتم احداهن » بوصل ألف « إحدى » كما قرىء : { إِنَّهَا
لاحْدَى الكبر } [ المدثر : 35 ] حَذَفَ الهمزة تخفيفاً كقوله :
1560 إنْ لم أقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
وبهذا الذي ذكرته يتضح معنى الآية .
وقد طَوَّل أبو البقاء فيها ولم يأت بطائل ، ولا بد من التعرُّض لما قاله والتنبيه
عليه . قال : « وفي قوله { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } إشكالان ،
أحدهما : أنه جَمَع الضميرَ والمتقدمُ زوجان . والثاني : أن التي يريد أن يُسْتبدل
بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً فينهاه عن أخذِه ، فأما التي يريد أن يستحدِثها
فلم يكن أعطاها شيئاً حتى ينهى عن أَخْذِه ، ويتأيَّد ذلك بقولِه : { وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } . والجوابُ عن الأول : أنَّ
المرادَ بالزوجِ الجمعُ ، لأنَّ الخطاب لجماعة الرجال ، وكلٌّ منهم قد يريد
الاستبدالَ ، ويجوز أن يكونَ جُمِع لأن التي يريد أن يستحدِثَها يُفْضي حالُها إلى
أن تكونَ زوجاً ، وأن يريد أن يستبدلَ بها كما استبدل بالأولى فجُمِع على هذا
المعنى . وأمَّا الإِشكال الثاني فييه جوابان أحدهما : أَنه وَضَعَ الظاهر
مَوْضِعَ المضمر ، والأصل : وآتيتموهن . والثاني : أنَّ المستبدلَ بها مبهمةٌ فقال
» إحداهن « إذ لم تتعيَّن حتى يَرْجِع الضمير إليها ، وقد ذكرنا نحواً مِنْ هذا في
قوله : { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } [ البقرة : 282 ] انتهى .
وفي
قوله : « وََضَع الظاهرَ موضعَ المضمر » نظرٌ ، لأنَّه لو كانَ الأصل كذلك لأوهم
أنَّ الجميعَ آتوا الأزواج قنطاراً كما تقدَّم ، وليس كذلك .
قوله : { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً } الاستفهام للإِنكار أي : أتفعلونه مع
قُبْحِه . وفي نصب « بهتاناً وإثماً » وجهان : أحدهما : أنهما منصوبان على المفعول
من أجلِه أي : لِبهتانكم وإثْمِكم . قال الزمخشري : « وإنْ لم يكن غَرَضاً كقولِك
: قعدَ عن القتالِ جُنْباً » . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال ، وفي صاحبها
وجهان : أظهرهما : أنه الفاعل في « أتأخذونه » [ أي ] باهتين وآثمين . والثاني :
أنه المفعول أي : أتأخذونه مُبْهِتاً مُحَيِّراً لشَنْعَتِه وقُبح الأُحدوثة عنه .
وبُهْتان : فُعْلان من البَهْت ، وقد تقدَّم معناه في البقرة ، وتقدم أيضاً الكلام
في « كيف » ومحلِّها من الإِعراب في البقرة أيضاً في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ
} [ البقرة : 28 ] .
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قوله تعالى : { وَقَدْ أفضى } : الواو للحال ، والجملة بعدها في محل نصب ، وأتى ب « قد » لِيَقْرُبَ الماضي من الحال ، وكذلك « أَخَذْنَ » و « قد » مقدرةٌ معه لتقدُّمِ ذِكْرِها . و « منكم » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه متعلقٌ ب « أَخَذْنَ » . وأجاز فيه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من « ميثاقاً » قُدِّم عليه ، كأنه لَمَّا رأى أنه يجوز أن يكونَ صفةً لو تأخَّر لجاز ذلك وهو ضعيف . و « أفضى » معناه ذهب إلى فضائِه أي : ناحيةٍ سَعَتِه ، يقال : فَضَا يفضو ، فألف « أَفْضى » عن ياءٍ أصلُها واو .
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
قوله
تعالى : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } : في « ما » هذه قولان أحدهما : أنها موصولة
اسمية واقعة على أنواعِ مَنْ يَعْقِل ، كما تقدم ذلك في قوله { مَا طَابَ لَكُمْ }
[ النساء : 3 ] ، وهذا عند مَنْ لا يجيز وقوعَها على آحاد العقلاء . فأمَّا مَنْ
يُجيز ذلك فيقول : إنها واقعة موقعَ « مَنْ » ، ف « ما » مفعول به بقوله { وَلاَ
تَنكِحُواْ } ، والتقدير : ولا تتزوجوا مَنْ تزوج آباؤكم . والثاني : أنها مصدرية
ِأي : ولا تَنْكحوا مثلَ نكاح آبائكم الذي كان في الجاهلية وهو النكاح الفاسد
كنكاح الشِّغار وغيرِه ، واختار هذا القولَ جماعة منهم ابن جرير الطبري قال : «
ولو كان معناه : ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضعُ » ما « »
من « . انتهى . وتبيَّن كونُه حراماً أو فاسداً [ من ] قوله : { إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَمَقْتاً } . قوله : { مِّنَ النسآء } : تقدَّم نظيرُه أولَ السورة .
قوله : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطعٌ
، إذ الماضي لا يُجامع الاستقبال ، / والمعنى : أنه لَمَّا حَرَّم عليهم نكاحَ ما
نكح آباؤهم تطرَّق الوهمُ إلى ما مضى في الجاهلية ما حكمُه؟ فقيل : إلا ما قد
سَلَفَ أي : لكن ما سلف فلا إثمَ فيه . وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضاً : » إن
المراد بالنكاح العقدُ الصحيح « وحَمَل { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } على ما كا ن
يتعاطاه بعضُهم من الزنا فقال : » إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا
بالنساء فذلك جائزٌ لكم زواجُهم في الإِسلام ، وكأنه قيل : ولا تَعْقِدوا على مَنْ
عَقَد عليه آباؤُكم إلا ما قد سلف مِنْ زِناهم ، فإنه يجوزُ لكم أن تتزوَّجُوهم
فهو استثناءٌ منقطع أيضاً .
والثاني : أنه استثناءٌ متصل وفيه معنيان ، أحدهما : أن يُحْمل النِّكاحُ على
الوطء ، والمعنى : أنه نهى أن يَطَأ الرجلُ امرأةً وَطِئها أبوه إلا ما قد سلف من
الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة فإنه يجوز للابن تزويجها . نُقِل هذا المعنى عن
ابن زيد أيضاً ، إلا أنه لا بد من التخصيص في شيئين : أحدُهما قولُه : { وَلاَ
تَنكِحُواْ } أي ولا تَطَؤوا وَطْئاً مباحاً بالتزويج . والثاني : التخصيص في قوله
: { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } بوطء الزنا ، وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون
وَطْئاً غيرَ زنا ، وقد يكون زنا ، فيصير التقدير : ولا تَطَؤوا ما وطِىء آباؤكم
وطئاً مباحاً بالتزويج إلا مَنْ كان وَطْؤُها فيما مضى وطءَ زنا . ويجوز على هذا
المعنى الذي ذهب إليه ابن زيد أن يُراد بالنكاحِ الأولِ العقدُ ، وبالثاني الوطءُ
، اي : ولا تتزوجوا مَنْ وَطِئها آباؤكم إلا من كان وطؤها وطءَ زنا .
والمعنى الثاني : « ولا تَنْكِحوا مثلَ نكاحِ آبائكم في الجاهلية إلا ما تقدَّم
منكم مِنْ تلك العقودِ الفاسدةِ فمباحٌ لكم الإِقامةُ عليها في الإِسلام إذا كان
مما يقِّرُ الإِسلامُ عليه » وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ « ما » مصدريةً وقد
تقدَّم .
وقال
الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف استثنى » ما قد سلف « من » ما نكح آباؤكم «؟ قلت :
كما استثنى » غيرَ أنَّ سيوفهم « من قوله : » ولا عيبَ فيهم « يعني : إنْ أمكنكم
أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يَحِلُّ لكم غيرُه ، وذلك غير ممكن ، والغَرضُ
المبالغةُ في تحريمه وسَدُّ الطريق إلى إباحته ، كما تعلق بالمُحالِ في التأبيد في
نحو قولهم : » حتى يَبْيَضَّ القارُّ « و » حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط
« . انتهى . أشار رحمه الله إلى بيت النابغة في قوله :
1561 ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بِهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ
يعني إنْ وُجِد فيهم عَيْبٌ فهو هذا ، وهذا لا يَعُدُّه أحدٌ عيباً فانتفى العيب
عنهم بدليله . ولكن هل الاستثناءُ على هذا المعنى الذي أبداه الزمخشري من قبيلِ
المنقطعِ أو المتصل؟ والحقُّ أنه متصلٌ لأنَّ المعنى : ولا تَنْكِحوا ما نكح
آباؤكم إلا اللائي مَضَيْنَ وفَنِين ، وهذا مُحالٌ ، وكونُه مُحالاً لا يُخْرِجُه
عن الاتصال . وأمَّا البيتُ ففيه نظرٌ ، والظاهر أن الاستثناءَ فيه متصلٌ أيضاً ،
لأنه جَعَلَ العيبَ شامِلاً لقولِه » غيرَ أنَّ سيوفَهم « بالمعنى الذي أراده .
وللبحثِ فيه مجالٌ .
وتَلَخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ المرادَ بالنكاحِ في هذه الآية العقدُ الصحيحُ أو
الفاسدُ أو الوطء ، أو : يُرادُ بالأول العقدُ وبالثاني الوَطْءُ ، وقد تقدَّم
القولُ في البقرةِ : هل هو حقيقةٌ فيهما أو في أحدِهما؟ واختلافُ الناسِ في ذلك .
وزعم بعضُهم أنَّ في الآيةِ تقديماً وتأخيراً والأصلُ : ولا تَنْكِحوا ما نكح
آباؤكم من النساء ، إنه كان فاحشة ومَقْتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف . وهذا
فاسدٌ من حيث الإِعراب ومن حيث المعنى : أمَّا الأولُ فلأنَّ ما في حَيِّز » إنَّ
« لا يتقدَّم عليها ، وأيضاً فالمستثنى لا يتقدَّمُ على الجملة التي هو من
متعلَّقاتها سواءً كان متصلاً أم منقطعاً ، وإنْ كان في هذا خلافٌ ضعيفٌ . وأما
الثاني فلأنه أَخْبر أنه فاحشةٌ ومَقْت في الزمان الماضي بقوله » كان « فلا
يَصِحُّ أن يُسْتثنى منه الماضي ، إذ يصير المعنى : هو فاحشةٌ في الزمانِ الماضي
إلا ما وقع منه في الزمانِ الماضي فليس بفاحشة .
والمَقْتُ : بُغْضٌ مقرونٌ باستحقارٍ فهو أخصُّ منه . والضمير في قوله » إنه «
عائدٌ على النكاح المفهوم من قولِه : { وَلاَ تَنكِحُواْ } ، ويجوز أن يعودَ على
الزنى إذا أريد بقوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } الزنى و » كان « هنا لا تدل على
الماضي فقط لأن معناها هنا معنى لم يَزَلْ ، وهذا المعنى هو الذي حَمَل المبردَ
على قوله » إنها زائدة « .
ورُدَّ
عليه بوجودِ الخبر والزائدةُ لا خبرَ لها ، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرته من كونها
لا تَدُلُّ على الماضي فقط ، فَعَبَّر عن ذلك بالزيادة .
قوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } في « ساء » قولان ، أحدهما : أنها جارية مَجْرى « بئس
» في الذم والعمل ، ففيها ضميرٌ مبهمٌ يُفَسِّره ما بعده وهو « سبيلاً » والمخصوصُ
بالذم محذوف تقديره : « وساء سبيلاً سبيلُ هذا النكاحِ » كقوله : « بِئْسَ الشراب
» أي : ذلك الماء . والثاني : أنها لا تَجْري مَجْرى « بِئْس » في العمل بل هي
كسائر الأفعالِ ، فيكونُ فيها ضميرٌ يَعُود على ما عاد عليه الضميرُ في « إنه » ،
و « سبيلاً » على كلا التقديرين تمييزٌ .
وفي هذه الجملة وجهان أحدهما : أنه لا محل لها بل هي مستأنفة ، ويكون الوقفُ على
قوله : « ومقتاً » ثم يستأنف « وساء سبيلاً » أي : وساءَ هذا السبيل منْ نكاح مَنْ
نكحهن من الآباء . والثاني : أن يكونَ معطوفاً على خبر « كان » ، على أَنْ
يُجْعَلَ محكيّاً بقول مضمر ، ذلك القولُ هو المعطوفُ على الخبر ، والتقدير :
ومَقُولاً فيه : ساء سبيلاً ، هكذا قَدَّره أبو البقاء . ولقائلٍ أن يقولَ : يجوز
أَنْ يكونَ عطفاً على خبر « كان » مِنْ غيرِ إضمارِ قول ، لأنَّ هذه الجملةَ في
قوة المفرد ، ألا ترى أنه يقعُ خبراً بنفسه تقول : « زيدٌ ساءَ رجلاً » و « كان زيدا
ساء رجلاً » ، فغاية ما في الباب أنك أتيت بأخبار « كان » أحدُهما مفردَ والآخرُ
جملة ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ : إن هذه جملةٌ إنشائيةٌ ، والإِنشائية لا تقع خبراً
ل « كان » ، فاحتاج إلى إضمار القول وفيه بحث .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قوله
تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } : « أمهات » جمع « أم » فالهاءُ
زائدةٌ في الجمع ، فرقاً بين العقلاء وغيرهم . يقال في العقلاء : « أمهات » وفي
غيرهم : « أُمَّات » كقوله :
1562 وأُمَّاتِ أَطْلاءٍ صغارِ . . . . . ... هذا هو المشهور ، وقد يقال : «
أُمَّات » في العقلاء : و « أمهات » في غيرهم وقد جَمَع الشاعر بين الاستعمالين في
العقلاء فقال :
1563 إذا الأمَّهاتُ قَبُحْنَ الوجوهَ ... فَرَجْتَ الظلامَ بأُمَّاتِكا
وقد سُمع « أُمَّهة » في « أُم » بزيادةِ هاء ، بعدَها تاءُ تأنيث قال :
1564 أُمَّهتي خِنْدِفُ والياسُ أبي ... فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ « أمهات » جمعَ «
أُمَّهة » المزيدِ فيها الهاء ، والهاءُ قد أتت زائدةً في مواضع/ قالوا : هِبْلَع
وهِجْرَع من البَلْعِ والجَرْع .
قوله : { وَبَنَاتُكُمْ } عطفٌ على « أُمَّهاتكم » . وبنات جمع بنت ، وبنت تأنيث
ابن ، وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى اشتقاقِه ووزنِه في البقرة في قوله : { يَابَنِي
إِسْرَائِيلَ } [ الآية : 40 ] ، إلا أن أبا البقاء حَكَى عن الفراء أنَّ « بنات »
ليس جمعاً ل « بنت » يعني بكسرِ الباء بل جمع « بَنة » يعني بفتحِها ، قال :
وكُسِرت الباء تنبيهاً على المحذوف « . قلت : هذا إنما يجيء على اعتقادِ أنَّ
لامها ياء ، وقد تقدم لنا خلافٌ في ذلك وأن الصحيحَ أنها واو ، وحَكَى عن غيره أن
أصلها : بَنوَة ، وعلى ذلك جاء جمعُها ومذكرها وهو بنون ، قال : » وهو مذهبُ
البصريين « قلت : لا خلاف بين القولينِ في التحقيق ، لأنَّ مَنْ قال : بنات جمعُ »
بَنة « بفتح الباء لا بد وأَنْ يعتقد أنَّ أصلها » بَنَوة « حُذِفَت لامُها
وعُوِّض منها تاءُ التأنيث ، والذي قال : بنات جمع » بَنَوة « لَفَظَ بالأصل فلا
خلاف .
واعلم أنَّ تاء » بنت « و » أخت « تاءُ تعويضٍ عن اللام المحذوفة كما تقدَّم
تقريره ، وليست للتأنيثِ ، ويَدُلُّ على ذلك وجهان ، أحدهما : أنَّ تاء التأنيث
يلزَمُ فتحُ ما قبلها لفظاً أو تقديراً نحو : ثمرة وفتاة ، وهذه ساكنٌ ما قبلَها .
والثاني : أنَّ تاءَ التأنيث تُبْدَلُ في الوقفِ هاء ، وهذه لا تُبْدَلُ بل
تُقَرُّ على حالِها . وقال أبو البقاء : » فإنْ قيل : لِمَ رُدَّ المحذوف في «
أخوات » ولم يُرَدَّ في « بنات »؟ قيل : حُمِل كل واحد من الجمعين على مذكَّرِهِ ،
فمذكر « بنات » لم يُرَدَّ إليه المحذوف بل قالوا فيه « بنون » ، ومذكر « أخوات »
رُدَّ فيه محذوفه قالوا في جمع أخ : إخْوة وإخْوان « .
وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أَخَذَ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً ل »
أَخَوات « جمعَ التصحيح ، فقال : رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة ، وهذا أيضاً
موجود في » بنات «؛ لأنَّ مذكره في التكسير رُدَّ إليه المحذوف .
قالوا
: ابن وأبناء ، ولَمَّا جمعوا أخاً جمع السلامة قالوا فيه « أَخُون » بالحذف ،
فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفَهما ، ولم يَرُدَّوا في تصحيحهما ، فبان فساد ما
قال .
قوله : { وَخَالاَتُكُمْ } ألف « خالة » و « خال » منقلبة عن واو ، بدليل جمعه على
« أخوال » ، قال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ } [ النور : 61 ] .
قوله : { مِّنَ الرضاعة } : في موضعِ نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره :
وأخواتُكم كائناتٍ من الرضاعة . وقرأ أبو حيوة : « من الرِّضاعة » بكسر الراء . {
مِّن نِّسَآئِكُمُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من « ربائبكم » تقديره : «
وربائبكم كائناتٍ من نسائكم » . والثاني : أنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في قوله :
{ فِي حُجُورِكُمْ } لأنه لَمَّا وقع صلةً تَحَمَّل ضميراً ، أي : اللاتي
استَقْرَرْنَ في حُجُوركم .
والربائب : جمع « ربيبة » وهي بنت الزوج أو الزوجة ، والمذكر : ربيب ، سُمِّيا
بذلك؛ لأن أحد الزوجين يَرُبُّه كما يَرُبُّ ابنه . وقوله : { اللاتي فِي
حُجُورِكُمْ } لا مفهومَ له لخروجه مخرج الغالب . الحُجُور : جمع « حِجْر » بفتحِ
الحاءِ وكسرها ، وهو مقدَّمُ ثوبِ الإِنسان ثم استعملت اللفظُ في الحِفْظ والستر .
قوله : { اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } صفةٌ ل « نسائكم » المجرورِ ب « مِنْ » ،
اشترط في تحريم الربيبة أن يُدْخَلَ بأمها .
ولا جائزٌ أن تكونَ صفة ل « نسائكم » الأولى والثانية لوجهين ، أحدهما : من جهة
الصناعة ، وهو أن « نسائكم » الأولى مجرورةٌ بالإِضافة والثانية مجرورة ب « من »
فقد اختلف العاملان ، وإذا اختلفا امتنع النعت ، لا تقول : « رأيت زيداً ومررت
بعمرٍو العاقلين » على أن يكون « العاقلين » نعتاً لهما . والثاني من جهة المعنى :
وهو أن أم المرأة تَحْرُم بمجردِ العَقْدِ على البنت دَخَلَ بها أو لم يَدْخُل بها
عند الجمهور ، والربيبةُ لا تَحْرُم إلا بالدخولِ على أمها .
وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يَجوز أَنْ يكونَ هذا الوصفُ راجعاً إلى الأولى
في المعنى فإنه قال : { مِّن نِّسَآئِكُمُ } متعلق ب « ربائبكم » ومعناه : أن
الربيبة من المرأةِ المدخولِ بها مُحَرَّمةٌ على الرجل حلالٌ له إذا لم يدخل بها .
فإن قلت : هل يَصِحُّ أن يتعلق بقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } ؟ قلت : لا
يخلو : إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بهن وبالربائب فتكون حرمُتهن وحرمةُ الربائب غيرَ
مبهمتين جميعاً ، وإمَّا أَنْ يتعلَّق بهن دونَ الربائبِ ، فتكونُ حرمتُهن غيرَ
مبهمة وحرمةُ الربائب مبهمةً ، ولا يجوز الأول لأن معنى « من » مع أحد المتعلقين
خلافُ معناها مع الآخر ، ألا تراك إذا قلت : « وأمهاتُ نسائكم من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن » فقد جَعَلْتَ « مِنْ » لبيان النساء وتمييزاً للمدخولِ بهنَّ مِنْ
غيرِ المدخول بهنَّ ، وإذا قلت : « وربائبكم من نسائِكم اللاتي دَخَلْتُم بهن »
فإنك جاعلٌ « مِنْ » لابتداءِ الغاية كما تقولُ : « بنات رسول الله صلى الله عليه
وسلم من خديجة » ، وليس بصحيحٍ أَنْ يَعْني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين
مختلفين ، ولا يجوز الثاني لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليقُ به ما لم
يَعْرِضْ أمرٌ لا يُرَدُّ ، إلا أَنْ تَقول : أُعَلِّقُه بالنساء والربائب ، وأجعل
« من » للاتصال كقوله تعالى :
{
المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] ، [ وقال ] :
1565 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإني لستُ مِنْكَ ولَسْتَ
مِنِّي
[ وقوله ] :
1566 ما أنا من ددٍ ولا ددٌ مِنِي ... وأمهاتُ النساء متصلات بالنساء لأنهن
أمهاتُهن ، كما أن الربائب متصلاتٌ بأمهاتهن لأنهن بناتُهن ، هذا وقد اتفقوا على
أن التحريم لأمهاتِ النساء مبهمٌ « . انتهى . ثم قال : » إلا ما رُوي عن علي وابن
عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا « وأمهاتُ نسائكم اللاتي دَخَلْتُم
بهن » فكان ابن عباس يقول : « واللهِ ما أُنزل إلا هكذا » فقوله : « أعلقه بالنساء
والربائب » إلى آخره يقتضي أن القيد الذي في الربائب وهو الدخول في أمهات نسائكم ،
كما تقدم حكايته عن علي وابن عباس . قال الشيخ : « ولا نعلم أحداً أثبتَ ل » مِنْ
« معنى الاتصال ، أما الآية والبيت والحديث فمؤولة .
قوله : { وَحَلاَئِلُ } جمع » حليلة « وهي الزوجة ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَحُلُّ
مع زوجها حيث كان ، فهي فَعِيلة بمعنى فاعلة ، والزوج حليل كذلك ، قال :
1567 أغشى فتاةَ الحَيِّ عند حليلِها ... وإذا غَزَا في الجيشِ لا أَغْشاها
وقيل : اشتقاقها من لفظ الحلال؛ إذ كلٌّ منهما حلال لصاحبه ، وهو قول الزجاج
وجماعة ، ف » فَعِيل « بمعنى مفعول أي : مُحَلَّلة له وهو محللٌ لها ، إلا أنَّ
هذا يُضْعفُه دخولُ التأنيث ، اللهم إلا أن يقال إنه جرى مَجْرى الجوامد/ كالنطيحة
والذبيحة . وقيل : هما من لفظ » الحَلّ « ضد العَقْد؛ لأنَّ كلاً منهما يَحُلُّ
إزارَ صاحبِه .
و { الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } صفةٌ مبينة؛ لأنَّ الابن قد يُطْلق على
المُتَبَنَّى به وليست امرأتُه حراماً على مَنْ تَبَنَّاه ، وأمَّا الابن من
الرضاع فإنه وإنْ كان حكمُه حكمَ ابن الصُّلْب في ذلك فمبيَّنٌ بالسنة فلا يَرِد
على الآية الكريمة .
وأَصْلاب : جمع » صُلْب « وهو الظهرُ ، سُمِّي بذلك لقوته اشتقاقاً من الصَّلابة ،
وأفصحُ لغتَيْه : صُلْب بضمِ الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز ، وبنو تميم وأسد
يقولون » صَلَباً بفتحهما ، حكى ذلك الفراء عنهم في كتاب « لغات القرآن » له ،
وأنشد عن بعضهم :
1568 في صَلَبٍ مثلٍ العِنانِ المُؤْدَمِ ... وحكى عنهم : « إذا أَقُوم اشتكى
صَلَبي » .
قوله : { وَأَن تَجْمَعُواْ } في محلِّ رفع عطفاً على مرفوع « حُرِّمت » أي :
وحُرِّم عليكم الجمعُ بين الأختين ، والمرادُ الجمعُ بينهما في النكاح ، أمَّا في
الملِْك فجائزٌ اتفاقاً ، وأمَّا الوطءُ بمِلكْ اليمين ففيه خلافٌ ليس هذا موضعَه
.
قولُه : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناءٌ منطقع ، فهو منصوبٌ المحل كما تقدَّم في نظيره أي : لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يَغْفِره . وقيل : المعنى إلا ما عَقَد عليه قبل الإِسلام ، فإنه بعد الإِسلام يبقى النكاح على صحته ، ولكن يَخْتار واحدةً منهما ويفارق الأخرى ، وكان قد تقدَّمَ قريبٌ من هذا المعنى في { مَا قَدْ سَلَفَ } الأولِ ويكون الاستثناء عليه متصلاً ، وهنا لا يتأتَّى الاتصال البتة لفساد المعنى .
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
قوله
تعالى : { والمحصنات } : قرأ الجمهور هذه اللفظة سواء كانت معرفة ب « أل » أم نكرة
بفتح الصاد ، والكسائي بكسرها في الجمع إلا قوله { والمحصنات مِنَ النسآء } في رأس
الجزء فإنه وافق الجمهور . فأمَّا الفتحُ ففيه وجهان ، أشهرهما : أنه أَسْند
الإِحصان إلى غيرهن ، وهو إمَّا الأزواج أو الأولياء ، فإن الزوج يُحْصِنُ امرأته
أي : يُعِفُّها ، والوليَّ يُحصِنُها بالتزويجِ أيضاً والله يُحْصِنُها بذلك .
والثاني : أن هذا المفتوحَ الصادِ بمنزلة المكسور ، يعني أنه اسمُ فاعل ، وإنما
شَذَّ فتحُ عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظَ : أَحْصَنَ فهو مُحْصَن وأَلْقح فهو
مُلْقَح ، وأَسْهَب فهو مُسْهَب .
وأمَّا الكسر فإنه أسند الإِحصان إليهن؛ لأنهن يُحْصِنَّ أنفسهن بعفافهن ، أو
يُحْصِنَّ فروجهن بالحفظ ، أو يُحْصِنَّ أزواجهن . وأما استثناء الكسائي التي في
رأس الجزء قال : « لأن المراد بهن المُزَوَّجات فالمعنى : أن أوزاجَهُنَّ أحصنوهن
، فهن مفعولاتٌ » ، وهذا على أحدِ الأقوال في المحصنات هنا مَنْ هن؟ على أنه قد
قرىء شاذاً التي في رأس الجزء بالكسر أيضاً ، وإنْ أُريد بهن المزوَّجات؛ لأنَّ
المراد أحصنَّ أزواجهنّ أو فروجهنّ ، وهو ظاهر . وقرأ يزيد بن قطيب : و «
المُحْصُنات » بضم الصاد ، كأنه لم يَعْتَدَّ بالساكن فأتبعَ الصاد للميم كقولهم :
« مُنْتُن » .
وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على المَنْعِ ومنه « الحِصْن » لأنه يُمْنع به ، و «
حِصان » للفرس من ذلك . ويقال : أَحْصَنَتِ المرأةُ وحَصُنَتْ ، ومصدرُ حَصُنَت :
« حُصْن » عن سيبويه و « حَصانة » عن الكسائي وأبي عبيدة ، واسمُ الفاعلِ من
أَحْصَنَتْ مُحْصَنة ، ومن حَصُنت حاصِن ، قال :
1569 وحاصِنٍ من حاصناتٍ مُلْسِ ... مِن الأذى ومن قِراف الوَقْسِ
ويقال لها : « حَصان » أيضاً بفتح الحاء ، قال حسان يصف عائشة رضي الله عنها :
1570 حَصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ... وتصبحُ غَرْثَى مِنْ لُحومِ الغَوافل
والإِحصانُ في القرآن وَرَد ، ويُراد به أحدُ أربعة معان : التزوج والعفة والحرية
والإِسلام ، وهذا تنفعك معرفته في الاستثناء الواقع بعده : فإن أُريد به هنا
التزوُّجُ كان المعنى : وحُرِّمت عليكم المحصنات أي : المزوجات إلا النوعَ الذي
ملكته أيمانكم : إما بالسَّبْي أو بمِلْكٍ مِنْ شَرْي وهبة وإرثٍ ، وهو قولُ بعضِ
أهل العلم ، ويدلُ على الأول قولُ الفرزدق :
1571 وذاتِ حَليلٍ أَنْكَحَتْها رماحُنا ... حَلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم
تُطَلَّقِ
يعني : أنَّ مجردَ سبائِها أحلَّهَا بعد الاستبراءِ . وإنْ أُريد به الإِسلام أو
العفةُ فالمعنى أنَّ المسلماتِ أو العفيفاتِ حرامٌ كلهن ، يعني فلا يُزْنى بهن إلا
ما مُلِك منهن بتزويجٍ أو مِلْك يمين ، فيكون المرادُ ب { مَا مَلَكْتَ
أَيْمَانُكُمْ } التسلُّطَ عليهن وهو قَدْرٌ مشترك ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة
يكونُ الاستثناء متصلاً . وإنْ أريد به الحرائرُ فالمرادُ إلا ما مُلِكت بمِلْكِ
اليمينِ ، وعلى هذا فالاستثناءُ منقطع .
وقوله
: { مِنَ النسآء } في محلِّ نصبٍ على الحالِ كنظيرِه المتقدم . وقال مكي : «
فائدةُ قولِه { مِنَ النسآء } أنَّ المُحْصَناتِ تقع على الأنفسِ ، فقولُه { مِنَ
النسآء } يرفعُ ذلك الاحتمال ، والدليلُ على أنه يُراد بالمحصناتِ الأنفسُ قولُه :
{ والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] فلو أريد به النساءُ خاصة لَما حُدَّ
مَنْ قذف رجلاً بنص القرآن ، وقد أجمعوا على أنّ حَدَّه بهذا النصِّ » . انتهى .
وهذا كلامٌ عجيب لأنه بعد تسليم ما قاله في آية النور كيف يَتَوهَّم ذلك هنا أحدٌ
من الناس؟
قوله : { كِتَابَ الله } في نصبه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه منصوبٌ على أنه مصدر
مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله : « حُرِّمت » ، ونصبُه بفعل مقدر أي :
كَتَبَ الله ذلك عليكم كتاباً . وأبعد عبيدة السلماني في جَعْلِه هذا المصدَر
مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3
] .
الثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراء ب « عليكم » والتقدير : عليكم كتابَ الله أي :
الزموه كقوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ المائدة : 105 ] ، وهذا رأي الكسائي
ومَنْ تابعه ، أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإِغراء مستدِلِّين بهذه الآيةِ ،
وبقولِ الآخر :
1572 يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا ... إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا
ف « دلوي » منصوبٌ ب « دونَك » وقد تقدَّم . والبصريون يمنعون ذلك ، قالوا : لأنَّ
العاملَ ضعيف ، وتأوَّلوا الآيةَ على ما تقدم ، والبيتَ على أن « دلوي » منصوبٌ ب
« المائح » أي : الذي ماح دَلْوي .
والثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : الزموا كتاب الله ، وهذا قريبٌ من الإِغراء .
وقال أبو البقاء في هذا الوجه : « تقديره : الزموا كتاب الله » و « عليكم » إغراء
، يعني أن مفعوله قد حُذف للدلالة ب « كتاب الله » عليه ، أي : عليكم ذلك ، فيكون
أكثر تأكيداً . وأمَّا « عليكم » فقال أبو البقاء : إنها على القول بأن « كتاب »
مصدرٌ يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصبِ ل « كتاب » ولا يتعلَّق بالمصدر « قال : »
لأنه هنا فَضْله « . قال : » وقيل : يتعلَّق بنفسِ المصدر/ لأنه ناب عن الفعل ،
حيث لم يُذكر معه فهو كقولك : مروراً بزيد قلت : وأمَّا على القول بأنه إغراء فلا
محلَّ له لأنه واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر ، وأمَّا على القولِ بأنه منصوبٌ بإضمار
فِعْلٍ أي : الزموا ف « عليكم » متعلِّقٌ بنفس « كتاب » أو بمحذوف على أنه حال منه
.
وقرأ أبو حيوة « كَتَبَ اللهُ » على أن « كتب » فعل ماض ، و « الله » فاعل به ،
وهي تؤيد كونَه منصوباً على المصدر المؤكد . وقرأ ابن السَّمَيْفَع اليماني : «
كُتُبُ الله » جعله جمعاً مرفوعاً مضافاً لله تعالى على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ،
تقديره : هذه كتبُ الله عليكم .
قوله
: { وَأُحِلَّ } قرأ الأخوان وحفص عن عاصم : « أَحَلَّ » مبنياً للمفعول ،
والباقون مبنياً للفاعل ، وكلتا القراءتين الفعلُ فيهما معطوفٌ على الجملةِ
الفعليةِ من قولِه : « حُرِّمَتْ » والمُحَرِّمُ والمُحَلِّلُ هو الله تعالى في
الموضعين ، سواءً صَرَّحَ بإسناد الفعلِ إلى ضميره أو حَذَف الفاعل للعلم به .
وادَّعى الزمخشري أن قراءة « أُحِلَّ » مبنياً للمفعول عطفٌ على « حُرِّمت » ليُعْطَفَ
فعلٌ مبني للمفعول على مثله ، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفاً على
الفعل المُقدَّر الناصب ل « كتاب » كأنه قيل : كَتَب الله عليكم تحريمَ ذلك
وأَحَلَّ لكم ما وراء ذلكم . قال الشيخ : « وما اختاره يعني من التفرقه بين
القراءتين غيرُ مختار؛ لأنَّ الناصبَ ل » كتابَ الله « جملةٌ مؤكدة لمضمون الجملة
من قوله » حُرِّمت « إلى آخره ، وقوله » وأَحَلَّ لكم « جملةٌ تأسيسية فلا يناسِبُ
أن تُعْطَفَ إلا على تأسيسية مثلِها لا على جملةٍ مؤكدة ، والجملتان هنا متقابلتان
، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل ، فالمناسب أن تُعطف إحداهما على الأخرى لا
على جملة أخرىغيرِ الأولى ، وقد فَعَلَ هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن
هذا مثلَه » وفي هذا الردَّ نظر .
و { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } مفعولٌ به : إمَّا منصوبُ المحل أو مرفوعُه على
حَسَبِ القراءتين في « أحلَّ » .
قوله : { أَن تَبْتَغُواْ } في محلِّه ثلاثةُ أوجه : الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ
على أنه بدل من { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } على قراءة « أُحِلَّ » مبنياً للمفعول؛
لأن « ما » حينئذ قائمةٌ مقامَ الفاعل ، وهذا بدلٌ منها بدلُ اشتمال . وأمَّا
النصبُ فالأجودُ أن يكون على أنه بدل من « ما » المتقدمة على قراءة « أَحَلَّ »
مبنياً للفاعل ، كأنه قال : وأَحَلَّ الله لكم الابتغاء بأموالكم من تزويج أو
مِلْك يمين . وأجاز الزمخشري أن يكونَ نصبُه على المفعول من أجله ، قال « بمعنى :
بَيَّن لكم ما يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُم إرادةَ أن يكون ابتغاؤكم بأموالِكم التي جعل
الله لكم قياماً في حال كونِكم محصنين » .
وأنحى عليه الشيخ ، وجَعَلَه إنما قصد بذلك دسيسةَ الاعتزال ثم قال : « وظاهرُ
الآية غيرُ ما فهمه ، إذ الظاهر أنه تعالى أَحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المحرماتِ
السابقِ ذكرُها بأموالنا حالةَ الإِحصان لا حالةَ السِّفاح ، وعلى هذا الظاهر لا
يجوز أن يُعْرَبَ » أن تبتغوا « مفعولاً له ، لأنه فات شرطٌ من شروطِ المفعولِ له
وهو اتحادُ الفاعلِ في العامل والمفعول له ، لأنَّ الفاعلَ ب » أحلَّ « هو الله
تعالى والفاعلَ في » تبتغوا « ضميرُ المخاطبين فقد اختلفا ، ولمَّا أحسَّ الزمخشري
إن كان أحسَّ جعل » أن تبتغوا « على حذفِ » إرادة « حتى يتحدَ الفاعل في قوله »
وأحلَّ « وفي المفعولِ له ، ولم يجعل » أن تبتغوا « مفعولاً له إلا على حذف مضاف
وإقامتِه مقامَه ، وهذا كلُّه خروج عن الظاهر » .
انتهى
.
ولا أدري ما هذا التَحمُّلُ ، ولا كيف يَخْفى على أبي القاسم شرطٌ اتحاد الفاعل في
المفعول له حتى يقول « إن كان أحسَّ »!!!
وأجاز أبو البقاء فيه النصبَ على حذف حرف الجر ، قال أبو البقاء : « وفي » ما «
يعني من قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وجهان ، أحدُهما : هي بمعنى
» مَنْ « ، فعلى هذا يكون قوله » أن تبتغوا « في موضع جر أو نصب على تقدير : بأن
تبتغوا أو لأنْ تبتغوا ، أي : أُبيح لكم غيرُ مَنْ ذكرنا من النساء بالمهور ،
والثاني : أن » ما « بمعنى الذي ، والذي كنايةٌ عن الفعل أي : وأحَلَّ لكم تحصيلَ
ما وراء ذلك الفعلِ المحرَّمِ ، و » أن تبتغوا « بدلٌ منه ، ويجوز أن يكونَ أصلُه
بأن تبتغوا ، أو لأن تبتغوا . وفي ما قاله نظر لا يخفى .
وأمَّا الجرُّ فعلى ما ذكره أبو البقاء . وقد تقدَّم ما فيه .
و { مُّحْصِنِينَ } حال من فاعل » تَبْتغوا « ، و » غيرَ مسافحين « حالٌ ثانية ،
ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في » مُحْصِنين « ، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف
أي : مُحْصِنين فروجَكم غير مسافحين الزواني ، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن
المُحْصِن غيرُ مسافِحٍ . ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من » محصنين « فيما علمت .
قوله : { فَمَا استمتعتم بِهِ } يجوزُ في » ما « وجهان ، أحدهما : أن تكونَ شرطيةً
. والثاني : أن تكونَ موصولةً . وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكونَ المرادُ بها
النساءَ المستمتَع بهن أي : النوعَ المُسْتمتع به ، وأن يراد بها الاستمتاعُ الذي
هو الحدثُ . وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء ، فإنْ كانت
شرطيةً ففي خبرها الخلاف المشهور : هل هو فعلُ الشرط أو جوابُه أو كلاهما؟ وقد
تقدَّم تحقيقُه في البقرة . وإن كانت موصولةً فالخبرُ قولُه : { فَآتُوهُنَّ } ،
ودخلت الفاءُ لشبهِ الموصولِ باسم الشرط ، وقد تقدَّم أيضاً تحقيقه . ثم إنْ أُريد
بها النوعُ المستمتعُ به فالعائدُ على المبتدأ سواءً كانت » ما « شرطاً أو موصولةً
الضميرُ المنصوب في » فآتوهن « ، ويكون قد راعَى لفظَ » ما « تارة فأَفْرد في قوله
» به « ومعناها أخرى ، فَجَمع في قوله » منهن « و » فآتوهن « ، فيصيرُ المعنى :
أيَّ نوع من النساء استمتعتم به فآتوهُنَّ ، أو النوعَ الذي استمتعتم به من النساء
فآتوهن ، وإنْ أريد بها الاستمتاع فالعائدُ حينئذ محذوفٌ تقديره : فأيَّ نوع من
الاستمتاع استمتعتم به من النساء فآتوهُنَّ أجورهن لأجلِه ، أو : أيَّ نوع من
الاستمتاع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهُنَّ لأجله .
و
« مِنْ » في « منهم » تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون للبيان . والثاني : أن تكون
للتبعيض ، ومحلُّها النصب على الحال من الهاء في « به » ولا يجوز في « ما » أن
تكون مصدرية لفسادِ المعنى ، ولعَوْدِ الضميرِ في « به » عليها . /
والسِّفاح : الزنا ، وأصله الصَبُّ ، لأن الزاني يَصُبُّ فيه ، وكانوا يقولون :
سافحيني وماذيني . والمسافِحُ : مَنْ تظاهر بالزنا ، ومتخذ الأخدان مَنْ تَسَتَّر
فاتخذ واحدة خفية .
قوله : { فَرِيضَةً } حالٌ من « أجورهن » أو مصدرٌ مؤكِّد أي : فرض الله ذلك فريضة
، أو مصدرٌ على غير الصدر؛ لأن الإِيتاء مفروض فكأنه قيل : فآتوهُنَّ أجورَهنَّ
إيتاءً مفروضاً .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قوله
تعالى : { وَمَن لَّمْ } : « مَنْ » شرطية وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون موصولةً .
وقوله : « فممَّا ملكت » : إمَّا جوابُ الشرط وإما خبر الموصول ، وشروطُ دخولِ
الفاء في الخبر موجودةٌ . و « منكم » في محل نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « يستطِعْ »
.
وفي نَصْب « طَوْلاً » ثلاثة أوجه أظهرها : أنه مفعول ب « يستطع » ، وفي قوله : «
أن ينكحَ » على هذا ثلاثة أقوال ، القول الأول : أنه في محلِّ نصب ب « طَوْلاً »
على أنه مفعولٌ بالمصدر المنون؛ لأنه مصدر « طُلْت الشيء » أي : نِلْتُه ،
والتقدير : ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات . ومثلُه قول الفرزدق :
1573 إن الفرزدق صخرةٌ ملمومَةٌ ... طالَتْ فليسَ ينالها الأوعالا
أي : طالت الأوعال فلم تَنَلْها ، وإعمالُ المصدر المنون كثير ، قال :
1574 بضربٍ بالسيوف رؤوسَ قومٍ ... أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيل
وقولُ الله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا } [
البلد : 14-15 ] ، وهذا الوجه ذهب [ إليه ] الفارسيّ .
القول الثاني : أنَّ « أَنْ ينكحَ » بدلٌ من « طَوْلاً » بدلُ الشيء من الشيء؛
لأنَّ الطَّوْل هو القدرةُ أو الفَصْلُ ، والنكاحُ قدرةٌ وفَصْلٌ .
القول الثالث : أنَّه على حذفِ حرفِ الجر ، ثم اختلف هؤلاء : فمنهم مَنْ قَدَّره ب
« إلى » أي : طَوْلاً إلى أن ينكحَ ، ومنهم مَنْ قَدَّره باللام ، أي : لأنْ
ينكِحَ ، وعلى هذين التقديرين فالجارُّ في محل الصفة ل « طَوْلاً » فيتعلق بمحذوفٍ
، ثم لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجر جاء الخلاف المشهور في محل « أَنْ » أنصبُ هو أم جر؟
وقيل : اللامُ المقدرة مع « أنْ » هي لامُ المفعول من أجله أي : طَوْلاً لأجل
نكاحِهِنَّ .
الوجه الثاني مِنْ نصب « طولاً » أن يكونَ مفعولاً له على حذف مضافٍ أي : ومَنْ لم
يستطعْ منكم لعدمِ طَوْل نكاح المحصنات ، وعلى هذا ف « أن ينكح » مفعولٌ « يستطع »
أي : ومَنْ لم يستطِعْ نِكاح المحصناتِ لعدمِ الطَّوْل .
الوجه الثالث : أن يكونَ منصوباً على المصدر ، قال ابن عطية : « ويَصِحُّ أن يكونَ
» طَوْلاً « نصباً على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة لأنهما بمعنى ، و » أن ينكح
« على هذا مفعولٌ بالاستطاعة أو بالمصدر » يعني أن الطَّوْل هو استطاعةٌ في المعنى
فكأنه قيل : ومَنْ لم يستطع منكم استطاعةً .
قوله : « فممَّا » الفاء قد تقدم أنها : إمَّا جوابُ الشرط ، وإما زائدةٌ في الخبر
على حَسَب القولين في « مَنْ » . وفي هذه الآية سبعة أوجه ، أحدها : أنها متعلقة
بفعل مقدر بعد الفاء تقديره : فلينكحْ مِمَّا مَلَكَتْه أيمانكم ، و « ما » على
هذا موصولةٌ بمعنى الذي ، أي : النوعَ الذي ملكته ، ومفعولُ ذلك الفعل المقدر
محذوف تقديره : فلينكح امرأة أو أَمَةً مِمَّا ملكته أيمانكم ، ف « مما » في
الحقيقة متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لذلك المفعولِ المحذوفِ ، و « مِنْ » للتبعيض نحو
: أكلت من الرغيف ، و « من فتياتكم » في محل نصب على الحال من الضمير المقدر في «
مَلَكَتْ » العائدِ على « ما » الموصولة ، و « المؤمناتِ » صفةٌ ل « فتياتِكم » .
الثاني
: أن تكونَ « مِنْ » زائدةً و « ما » هي المفعولةُ بذلك الفعل المقدر أي : فلينكح
ما ملكَتْه أَيْمانكم . الثالث : أن « مِنْ » في « من فتياتكم » زائدة ، و «
فتياتِكم » هو مفعولُ ذلك الفعل المقدر أي : فلينكح فتياتِكم ، و « مِمَّا ملكت »
متعلقٌ بنفسِ الفعل ، و « من » لابتداء الغاية ، أو بمحذوفٍ على أنه حال من «
فتياتكم » قُدِّمَ عليها ، و « مِنْ » للتبعيض . الرابع : أن مفعول « فلينكح » هو
المؤمنات أي : فلينكح الفتيات المؤمنات ، و « مِمَّا ملكت » على ما تقدم في الوجه
قبله ، و « من فتياتكم » حالٌ من ذلك العائد المحذوف . الخامس : أنَّ « مما » في
محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فالمنكوحة مما ملكت . السادس : أن « ما » في
« ممَّا » مصدريةٌ أي : فلينكح مِنْ مِلْك أيمانكم ، ولا بد أن يكونَ هذا المصدرُ
واقعاً موقع المفعول نحو : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] ليَصِحَّ وقوع
النكاح عليه . السابع وهو أغربُها ونُقِل عن جماعة منهم ابن جرير « أن في الآية
تقديماً وتأخيراً وأن التقدير : ومَنْ لم يستطع منكم طوْلاً أن ينكح المحصنات
المؤمنات فلينكح بعضُكم من بعض الفتيات ، ف » بعضُكم « فاعل ذلك الفعل المقدر ،
فعلى هذا يكون قوله : { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } معترضاً بين ذلك الفعل
المقدر وفاعِله . ومثلُ هذا لا ينبغي أن يقال .
قوله : { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، وجيء بها بعد
قوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } ليفيدَ أنَّ الإِيمان الظاهر كافٍ في نكاحِ
الأَمَةِ المؤمنةِ ظاهراً ، ولا يشترط في ذلك أَنْ يَعْلَمَ إيمانَها علماً يقيناً
، فإنَّ ذلك لا يطَّلِعُ عليه إلا اللهُ تعالى ، وفيه تأنيس أيضاً بنكاحِ الإِماء
فإنهم كانوا يَنْفِرون من ذلك .
قوله : { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأٌ وخبر أيضاً ، جيء بهذه الجملة أيضاً
تأنيساً بنكاح الإِماء كما تقدم ، والمعنى : أن بعضكم من جنس بعض في النسب والدين
، فلا يترفَّع الحُرُّ عن نكاح الأمةِ عند الحاجة إليه ، وما أحسنَ قولَ أمير
المؤمنين علي : » الناسُ من جهة التمثيل أَكْفاء ، أبوهم آدم والأم حواء « .
قوله : { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } متعلق ب » انكحوهن « ، وقَدَّر بعضهم مضافاً
محذوفاً أي بإذنِ أهل ولايتهن ، وأهلُ ولايةِ نكاحهنَّ هم المُلاَّك .
و
« بالمعروف » فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه متعلق ب « آتوهُنَّ » أي : آتوهن
مهورَهنَّ بالمعروف . / الثاني أنه حال من « أجورهن » أي : ملتبساتٍ بالمعروف يعني
غيرَ ممطولةٍ . والثالث : أنه متعلق بقوله : « فانكِحوهن » أي : فانكِحوهن
بالمعروف بإذن أهلهن ومَهْرِ مثلهن والإِشهاد عليه ، وهذا هو المعروف . وقيل : في
الكلام حذف تقديره : وآتوهُنَّ أجورهن بإذن أهلهن ، فحذف من الثاني لدلالة الأولِ
عليه نحوُ : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] أي :
الذاكرات اللهَ . وقيل : ثَمَّ مضافٌ مقدر أي : وآتوا مواليَهن أجورَهُنَّ ، لأنَّ
الأَمَة لا يُسَلَّمُ لها شيءٌ من المهر .
قوله : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حالان من مفعول « فآتوهن » ومحصنات
على هذا بمعنى مُزَوَّجات . وقيل : محصنات حالٌ من مفعول « فانكحوهن » ، ومحصنات
على هذا بمعنى عفائفَ أو مسلمات ، والمعنى : فانكحوهن حالَ كونهن محصناتٍ لا حالَ
سِفاحِهن واتخاذِهِنَّ للأخْدان . وقد تقدَّم أن « محصنات » بكسرِ الصادِ وفتحِها
، وما معناها ، وأنَّ « غيرَ مسافحين » حالٌ مؤكدة .
{ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ } عطفٌ على الحال قبله . والأخْدان مفعول ب « متخذات » لأنه
اسمُ فاعل ، وأخدان جمع « خِدْن » ، ك : عِدل وأَعْدال ، والخِدْن : الصاحب ، وقد
تقدَّم أن المسافح هو المجاهر بالزنى ومتخذَ الأخدانِ هو المستترُ به ، وكذلك هو
في النساء ، وكان الزنى في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين .
قوله : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن
عاصم : « أُحْصِنَّ » بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول ، والباقون
بفتحهما على البناء للفاعل ، فمعنى الأولى : « فإذا أُحْصِنَّ بالتزوج »
فالمُحْصِنُ لهنّ هو الزوج ، ومعنى الثانية : « فإذا أَحْصَنَّ فروجَهن أو
أزواجَهن » وهو واضح مما تقدم .
والفاء في « فإنْ » جواب « إذا » وفي « فعليهن » جواب « إنْ » ، فالشرطُ الثاني
وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأول ، ونظيره : « إن أكلت فإنْ ضربت عمراً فأنت حر »
لا يُعْتق حتى يأكلَ أولاً ثم يضربَ عمراً ثانياً ، ولو أسقطت الفاء الداخلة على «
إن » في مثل هذا التركيب انعكس الحكمُ ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثم يأكل ثانياً .
وهذا يُعْرف من قواعد النحو ، وهو أن الشرط الثاني يُجعل حالاً فيجب التلبُّسُ به
أولاً .
قوله : { مِنَ العذاب } متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في صلةِ «
ما » وهو « على » ، فالعاملُ فيها معنوي ، وهو في الحقيقةِ ما تعلَّق به هذا الجار
، ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً من « ما » المجرورةِ بإضافة « نصف » إليها؛ لأنَّ
الحالَ لا بد أن يعمل فيها ما يعمل في صاحبها ، و « نصفُ » هو العامل في صاحبِها
الخفضَ بالإِضافة ، ولكنه لا يعمل في الحال لأنه ليس من الأسماء العاملة ، إلاَّ
أن بعضهم يَرى أنه إذا كان جزءاً من المضافِ جازَ ذلك فيه ، والنصفُ جزءٌ فيجوز
ذلك .
قوله
: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ } « ذلك » مبتدأ ، و « لِمَنْ خشي » جارٌّ ومجرور خبرُه
، والمشار إليه ب « ذلك » إلى نكاح الأمة المؤمنة لِمَنْ عَدِم الطَّوْلَ .
والعَنَتْ في الأصل انكسارُ العظم بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة ، وأُريد به هنا
ما يَجُرُّ إليه الزنى من العقاب الدنيوي والأخروي ، و « منكم » حالٌ من الضمير في
« خَشِي » أي : في حالِ كونه منكم . ويجوز أن تكونَ « مِنْ » للبيان .
قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } مبتدأ وخبر لتأوُّلِه بالمصدر وهو
كقوله : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] .
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
قوله
تعالى : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ } : في مثلِ هذا التركيبِ للناسِ مذاهبُ :
مذهب البصريين أن مفعول « يريد » محذوف تقديره : يريد الله تحريمَ ما حَرَّمَ
وتحليلَ ما حَلَّل وتشريعَ ماتقدَّم لأجلِ التبيين لكم ، ونَسَبه بعضُهم لسيبويه ،
فمتعلَّقُ الإِرادة غيرُ التبيين وما عُطِف عليه ، وإنما تأولوه بذلك لئلا يلزَم
تعدِّيَ الفعلِ إلى مفعولِه المتأخر عنه باللام وهو ممتنعٌ ، وإلى إضمارِ « أَنْ »
بعد اللام الزائدة .
والمذهب الثاني : ويعزى أيضاً لبعض البصريين أَنْ يُقَدَّر الفعلُ الذي قبل اللام
بمصدرِ في محل رفع بالابتداء ، والجار بعده خبره ، فيقدر { يُرِيدُ الله
لِيُبَيِّنَ } إرادةُ الله للتبيين ، وقوله :
1575 أريدُ لأنْسَى ذِكْرَها . . . . . . . . ... أي : إرادتي ، وقوله تعالى : {
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } أي : أُمِرْنا بما أُمِرْنا [ به ] لنسلمَ ، وفي هذا
القولِ تأويلُ الفعل بمصدر من غير حرف مصدر ، وهو ضعيف نحو : « تَسْمَعُ
بالمُعَيْدَيِّ خيرٌ مِنْ تراه » قالوا : تقديره : « أنّْ تسمعَ » فلمَّا حَذَفَ «
أن » رَفَع الفعل ، وهو في تأويل المصدر لأجل الحرف المقدر فكذلك هذا ، فلامُ الجر
على الأول في محل نصب لتعلُّقها ب « يريد » وعلى هذا الثاني في محلِّ رفع لوقوعها
خبراً .
الثالث : وهو مذهب الكوفيين أن اللامَ هي الناصبة بنفسها من غير إضمار « أَنْ » ،
وهي وما بعدها مفعول الإِرادة ، ومنع البصريون ذلك؛ لأن اللامَ ثَبَت لها الجر في
الأسماء ، فلا يجوز أن يُنْصَبَ بها ، فالنصب عندهم بإضمار « أن » كما تقدم .
الرابع : وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء أن اللامَ زائدة ، و « أَنْ » مضمرة
بعدها ، والتبيينُ مفعولُ الإِرادة . قال الزمخشري : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ }
يريد اللهُ أن يبيِّن ، فزيدت اللامُ مؤكدة لإِرادة التبيين ، كما زيدت في « لا
أبا لك » لتأكيد إضافة الأب « . وهذا كما رأيت خارجٌ عن أقوال البصريين والكوفيين
، وفيه أنَّ » أنْ « تضمر بعد اللام الزائدة ، وهي لا تُضْمر فيما نص النحويون بعد
لامٍ وتلك اللامُ للتعليل أو للجحود .
وقال بعضهم : اللامُ هنا لام العاقبة كهي في قوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً
وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، ولم يَذْكُر مفعولَ التبيين ، بل حَذَفه للعلم به ،
فقدَّره بعضهم : » ليبين لكم ما يقرِّبكم « ، وبعضُهم : » أن الصبر عن نكاح الأماء
خيرٌ « ، وبعضُهم : » ما فَصَّل من الشرائع « ، وبعضهم : » أمرَ دينكم « وهي متقاربة
.
ويجوز في الآية وجهٌ آخرُ حسنٌ : وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من باب الإِعمال : تنازع
» يبيِّن « و » يَهْدي « في { سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } ؛ لأنَّ كلاً منهما
يَطْلبه من جهة المعنى ، وتكونُ المسألة من إعمال الثاني ، وحَذَفَ الضميرَ من
الأول تقديرُه : ليبيِّنهَا لكم ويهديَكم سنن الذين من قبلكم ، والسُّنَّة :
الطريقة ، ويؤيد هذا أن المفسرين نقلوا أنَّ كل ما بَيَّن لنا تحريمَه وتحليلَه من
النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكمُ كذلك أيضاً في الأمم السالفة ، أو أنه
بَيَّن لكم المصالحَ؛ لأنَّ الشرائعَ وإنْ كانت مختلفةً في نفسِها إلا أنها متفقةٌ
في المصلحة .
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
وزَعم
بعضُهم أنَّ في قوله تعالى : { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } : تكريراً
لقولِه : { يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } المعطوفَ على « ليبين » . قال ابن عطية : «
وتكرارُ إرادة الله للتوبة على عباده تقويةٌ للإِخبار الأول ، وليس القصدُ في
الآيةِ إلا الإِخبارَ عن إرادة الذين يتَّبعون الشهوات ، فَقُدِّمت إرادةُ اللهِ
توطئةً مُظْهِرَةً لفسادِ إرادةِ مُتَّبعي الشهوات » . وهذا الذي قاله إنما
يتمشَّى على أنَّ المجرور باللام في قوله « ليبين » مفعول به للإِدارة لا على
كونِه علةٍ ، وقد تقدَّم أن ذلك قولُ الكوفيين وهو ضعيف وقد ضَعَّفه هو أيضاً .
وإذا تقرَّر هذا فنقولُ : لا تكرار في الآية؛ لأنَّ تعلُّقَ الإِرادة بالتوبة في
الأولِ على جهة العِلَّيَّة ، وفي الثاني على جهةِ المفعولية ، فقد اختلف
المتعلَّقان .
قوله : { وَيُرِيدُ الذين } بالرفعِ عطفاً على « والله يريد » عَطَفَ جملةً فعلية
على جملة اسمية ، ولا يجوز أن يتنصِبَ لفساد المعنى ، إذ يصير التقدير : « والله
يريدُ أن يتوبَ ويريدُ أن يريدَ الذين » . واختار الراغب أن الواوَ للحال تنبيهاً
على أنه يريد التوبةَ عليكم في حال ما يريدون أن تَميلوا ، فخالف بين الإِخبارين
في تقديمِ المُخْبَرِ عنه في الجملة الأولى وتأخيره في الثانية ، ليبين أنَّ
الثاني ليس على العَطفِ « . وقد رُدَّ عليه بأن إرادةَ اللَّهِ التوبةَ ليست
مقيدةً بإرادةِ غيرِه الميلَ ، وبأن الواوَ باشَرَتِ المضارعَ المثبت . وأتى
بالجملةِ الأولى اسميةً دلالةً على الثبوتِ ، وبالثانيةِ فعليةً دلالةِ على
الحُدوث .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
قوله
تعالى : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ } : في هذه الجملة احتمالان أحدهما : وهو
الأصحُّ أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب . والثاني : أنها حالٌ من قوله : {
والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ } العامل فيها « يريد » أي : واللهُ يريدُ أن يتوبَ
عليكم يريد أن يخفف عنكم . وفي هذا الإِعرابِ نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنه
يؤدِّي إلى الفصل بين الحال وبين عاملها بجملةٍ معطوفة على جملةِ العامل في الحال
ضِمْنَ تلك الجملة المعطوف عليها ، والجملةُ المعطوفة وهي « ويريد الذين يتبعون »
جملةٌ أجنبية من الحال وعامِلها . والثاني : أن الفعل الذي وقع حالاً رفع الاسم
الظاهرَ فوقعَ الربطُ بالظاهر ، لأنَّ « يريد » رفَعَ اسم الله/ وكان من حقه أن
يرفع ضميرَه ، والربطُ بالظاهر إنما وقع في الجملة الواقعة خبراً أو صلة ، أما
الواقعةُ حالاً وصفةً فلا ، إلا أَنْ يَرِدَ به سماع ، ويصير هذا الإِعراب نظيرَ :
« بكر يخرج يضربُ بكر خالداً » . ولم يذكر مفعولَ التخفيف فهو محذوفٌ فقيل :
تقديرُه : يخفف عنكم تكليفَ النظرِ وإزالةَ الحيرة . وقيل : إثمَ ما ترتكبون .
قوله : « ضعيفاً » في نصبه أربعة أوجه ، الأظهر : أنه حال من « الإِنسان » وهي حال
مؤكدة . الثاني : أنه تمييز قالوا : لأنه يَصْلُح لدخول « مِنْ » وهذا غلط .
الثالث : أنه على حذف حرف الجر ، والأصل : خُلِق من شيء ضعيف أي : من ماء مهين أو
من نطفة ، فلما حُذف الموصوف وحرف الجر وَصَل الفعل إليه بنفسه فنصبه . والرابع :
وإليه أشار ابن عطية أنه منصوبٌ على أنه مفعول ثان ب « خلق » ، قالوا : ويَصِحُّ
أن يكون « خُلِق » بمعنى « جُعِل » فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين ، فيكون
قوله « ضعيفاً » مفعولاً ثانياً ، وهذا الذي ذكره غريبٌ لم نرهم نصُّوا على أن «
خلق » يكون ك « جعل » فيتعدى لاثنين مع حَصْرهم للأفعال المتعدية لاثنين ، بل
رأيناهم يقولون : إن « جعل » إذا كانت بمعنى « خلق » تَعَدَّتْ لواحد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
قوله
تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ } : في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : وهو الأصح
أنه استثناء منقطع لوجهين ، أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة
بالباطل حتى يستثنى عنها ، سواء فَسَّرت الباطل بغير عوض أو بغير طريق شرعي .
والثاني : أن المستثنى كون ، والكونُ ليس مالاً من الأموالِ . والثاني : أنه متصلٌ
، واعتلَّ صاحب هذا القول بأن المعنى : لا تأكلوها بسببٍ إلاَّ أَنْ تكونَ تجارةً
. قال أبو البقاء : « وهو ضعيف ، لأنه قال : » بالباطل « ، والتجارةُ ليست من جنس
الباطل ، وفي الكلام حذفُ مضاف تقديره : إلا في حال كونِها تجارةً أو في وقت
كونِها تجارةً » . انتهى . ف « أن تكون » في محلِّ نصبٍ على الاستثناء وقد تقدَّم
لك تحقيقُ ذلك .
وقرأ الكوفيون : « تجارةً » نصباً على أنَّ « كان » ناقصة ، واسمُها مستتر فيها
يعود على الأموالِ ، ولا بد من حذف مضاف من « تجارة » تقديره : إلا أن تكونَ
الأموال أموالَ تجارة ، ويجوز أن يُفَسَّر الضمير بالتجارة بعدها أيَ : أن تكون
التجارةُ تجارةً كقوله :
1576 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا كان يوماً ذا
كواكبَ أَشْنعا
أي : إذا كان اليومُ يوماً ، واختار أبو عبيد قراءة الكوفيين . وقرأ الباقون «
تجارةٌ » رفعاً على أنها « كان » التامة . قال مكي : « الأكثرُ في كلام العرب أنَّ
قولهم : { إِلاَّ أَن تَكُونَ } في الاستثناء بغيرِ ضمير فيها ، على معنى يَحْدُث
ويَقَعُ » . وقد تقدم القول في ذلك في البقرة .
و { عَن تَرَاضٍ } متعلق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل « تجارة » ، فموضعه رفع أو نصب على
حَسَبِ القراءتين . وأصل « تراض » « تراضِوٌ » بالواو ، لأنه مصدر تراضى تفاعلَ من
رَضِي ، ورَضِي من ذوات الواو بدليل الرُّضوان ، وإنما تطرَّفت الواو بعد كسرة
فقلبت ياء فقلت : تراضياً . و « منكم » صفة ل « تراضٍ » فهو في محل جر ، و « من »
لابتداء الغاية . وقرأ علي رضي الله عنه : « تُقَتِّلوا » بالتشديد على التكثير ،
والمعنى : لا يقتلْ بعضكم بعضاً .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قوله
تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ } : « مَنْ » شرطية مبتدأ ، والخبر : « فسوف » ، والفاء
هنا واجبة لعدم صلاحية الجواب للشرط ، و « ذلك » إشارةٌ إلى قَتْل الأنفس . و «
عدواناً وظلماً » حالان أي : معتدياً ظالماً أو مفعولٌ من أجلِها ، وشروطُ النصب
متوفرة . وقرىء : « عِدواناً » بكسر العين .
وقرأ الجمهور « نُصْليه » من أصلى والنون للتعظيم . وقرأ الأعمش : « نُصَلِّيه »
مشدداً ، وقرىء « نَصليه » بفتح النون ، من صَلَيْتُه النار . ومنه « شاة
مَصْلِيَّة » . و « يَصْليه » بياء الغيبة . وفي الفاعلِ احتمالان ، أحدُهما : أنه
ضمير الباري تعالى . والثاني : أنه ضمير عائد على ما أشير ب « ذلك » إليه من القتل
، لأنه سببٌ في ذلك . ونَكَّر « ناراً » تعظيماً .
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
وقرأ
ابن جبير وابن مسعود { كبير } : بالإِفراد ، والمراد به الكفر . وقرأ المفضل «
يُكَفِّرْ » و « يُدْخِلْكم » بياء الغيبة لله تعالى . وابن عباس « مِنْ سيئاتكم »
بزيادة « من » .
وقرأ نافع وحده هنا وفي الحج : « مَدْخَلاً » بفتح الميم ، والباقون بضمها ، ولم
يختلفوا في ضم التي في الإِسراء . فأما المضمومُ الميمِ فإنه يحتمل وجهين ، أحدهما
: أنه مصدر ، وقد تقرَّر أن اسم المصدر من الرباعي فما فوقَه كاسمِ المفعول ،
والمَدْخول فيه على هذا محذوفٌ أي : ويُدْخِلْكم الجنة إدخالاً . والثاني : أنه
اسم مكان الدخول ، وفي نصبِه حينئذ احتمالان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على الظرف ،
وهو مذهبُ سيبويه . والثاني : أنه مفعولٌ به وهو مذهب الأخفش . وهكذا كلُّ مكان
مختص بعد « دخل » فإن فيه هذين المذهبين وهذه القراءةُ واضحةٌ؛ لأنَّ اسم المصدر
والمكان جاريان على فعليهما .
وأمَّا قراءة نافع فتحتاج إلى تأويل ، وذلك لأن المفتوح الميم إنما هو من الثلاثي
، والفعلُ السابق لهذا كما رأيت رباعي ، فقيل : إنه منصوب بفعلٍ مقدر مطاوع لهذا
الفعل ، والتقدير : يُدْخلكم فتدخلون مَدْخلاً ، و « مَدْخلاً » منصوب على ما تقدم
: إمَّا المصدريةِ وإمَّا المكانيةِ بوجهيها . وقيل : هو مصدر على حذف الزوائد نحو
: { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] على أحد القولين .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
و
{ ما } في قوله تعالى : { مَا فَضَّلَ الله } : موصولةٌ أو نكرة موصوفة ، والعائدُ
الهاءُ في « به » . و « بعضَكم » مفعول ب « فَضَّل » و « على بعض » متعلق به .
قوله : { واسألوا } : الجمهورُ على إثباتِ الهمزة في الأمر من السؤال الموجَّه نحو
المخاطب إذا تقدَّمه واو أو فاء نحو : { فَاسْأَلِ الذين } [ يونس : 94 ] {
واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] . وابن كثير والكسائي بنَقْل حركةِ
الهمزة إلى السين تخفيفاً لكثرةِ استعماله . فإنْ لم تتقدَّمه واو ولا فاء فالكل
على النقل نحو : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] ، وإن كان لغائب
فالكل على الهمز نحو : { وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } [ الممتحنة : 10 ] .
ووهم ابن عطية فنقل اتفاقَ القراء على الهمز في نحو : { وَاسْأَلُواْ مَآ
أَنفَقْتُمْ } [ الممتحنة : 10 ] وليس اتفاقهم في هذا بل في { وَلْيَسْأَلُواْ مَآ
أَنفَقُواْ } كما تقدم . وتخفيفُ الهمز لغة الحجاز ، ويحتمل أن يكون ذلك من لغةِ
مَنْ يقول : « سال يسال » بألفٍ محضة ، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة عند « سَلْ
بني إسرائيل » فعليك بالالتفات إليه ، وهذا إنما يتأتَّى في « سل » و « فسل » وأما
« وسَلوا » فلا يتأتَّى فيه ذلك؛ لأنه كان ينبغي أن يُقال : سالوا كخَافوا ، وقد
يقال : إنه التزَم الحذفَ لكثرةِ الدَّوْر .
وهو يتعدَّى لاثنين ، والجلالةَ مفعول أول ، وفي الثاني قولان ، أحدهما : أنه
محذوف فقدَّره ابن عطية : « أمانيَّكم » ، وقدره غيره : شيئاً من فضله ، فحذف
الموصوف وأبقى صفته نحو : « أطعمته من اللحم » أي : شيئاً منه ، و « مِنْ »
تبعيضية . والثاني : أن « مِنْ » زائدة ، والتقدير : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ
} ، وهذا إنما يتمشى على رأي الأخفش لفقدانِ الشرطين ، وهما تنكيرُ المجرور وكونُ
الكلام غيرَ موجَبٍ .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
قوله
تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا } : فيه ستة أوجه ، وذلك يستدعي مقدمة قبله ، وهو
أن « كل » لا بُدَّ لها من شيءٍ تُضاف إليه . واختلفوا في تقديره : قيل : تقديرُه
: « ولكلِّ إنسانٍ » ، وقيل : لكل مال ، وقيل : لكل قوم ، فإنْ كان التقدير : «
لكلِّ إنسان » ففيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : « ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا مواليَ »
أي : وُرَّاثاً مِمَّا ترك ، ففي « ترك » ضمير عائد على « كل » وهنا تم الكلام ،
ويتعلق « مِمَّا ترك » ب « مواليَ » لِما فيه من معنى الوراثة ، أو بفعل مقدَّرٍ
أي : يَرِثون مما . « مواليَ » مفعول أول ل « جعل » بمعنى صَيَّر ، و « لكل » جارٌ
ومجرور هو المفعول الثاني قُدِّم على عامِلِه ، ويرتفع « الوالدان » على خبر مبتدأ
محذوف ، أو بفعل مقدر أي : يَرِثون مما ، كأنه قيل : ومَنْ الوارث؟ فقيل : هم
الوالدان والأقربون ، والأصل : « وجعلنا لكلِّ ميتٍ وُرَّاثاً يَرِثون ممَّا تركه
هم الوالدان والأقربون .
والثاني : أنَّ التقديرَ : » ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جَعَلنا وُرَّاثاً مما ترك ذلك
الإِنسان « ثم بَيَّن الإِنسانَ المضافَ إليه » كل « بقوله : الوالدان ، كأنه قيل
: ومَنْ هو هذا الإِنسانُ الموروث؟ فقيل : الوالدان والأقربون . والإِعرابُ كما
تقدَّم في الوجهِ قبله . وإنما الفرق بينهما أن الوالدين في الأول وارثون ، وفي
الثاني مَوْروثون ، وعلى هذين الوجهين فالكلام جملتان ، ولا ضمير محذوف في » جعلنا
« ، و » موالي « مفعول أول ، و » لكل « مفعول ثان .
الثالث : أن يكون التقدير : ولكل إنسان وارثٍ مِمَّنْ تركه الوالدان والأقربون
جعلنا موالي أي : موروثين ، فيُراد بالمَوْلى الموروثُ ، ويرتفع » الوالدان « ب »
ترك « ، وتكون » ما « بمعنى » مَن « ، والجار والمجرور صفةٌ للمضافِ إليه » كل « ،
والكلامُ على هذا جملةٌ واحدة ، وفي هذا بُعْدٌ كبير .
الرابع : وإنْ كان التقدير : » ولكل قوم « فالمعنى : ولكل قوم جعلناهم مواليَ
نصيبٌ مِمَّا تركه والدُهم وأقربوهم ، ف » لكل « خبر مقدم ، و » نصيب « مبتدأٌ
مؤخر ، و » جَعَلْناهم « صفةٌ لقوم ، والضمير العائد عليهم مفعولُ » جَعَل « و »
مواليَ « : إمَّا ثانٍ وإمَّا حالٌ ، على أنها بمعنى » خلقنا ، و « مِمَّا ترك »
صفة للمبتدأ ، ثم حُذِف المبتدأ وبقيت صفتُه ، وحُذِف المضاف إليه « كل » وبقيت
صفتُه أيضاً ، وحُذِف العائد على الموصوفِ . ونظيرُه : « لكلِّ خلقه الله إنساناً
مِنْ رزق الله » أي : لكل أحد خلقه الله إنساناً نصيبٌ من رزق الله .
الخامس
: وإنْ كان التقدير : « ولكلِّ مال » فقالوا : يكون المعنى : ولكلِّ مال مِمَّا
تركه الولدان والأقربون جعلنا مواليَ أي : وُرَّاثاً يَلُونه ويَحُوزونه ، وجعلوا
« لكل » متعلقةً ب « جعل » ، و « مما ترك » صفة ل « كل » ، الوالدان فاعلٌ ب « ترك
» فيكون الكلام على هذا وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً ، وهذا وإن كان حسناً إلا
أن فيه الفصلَ بين الصفة والموصوف بجملةٍ عاملةٍ في الموصوف . قال الشيخ : « وهو نظير
قولك : » بكلِّ رجلٍ مررت تميميٍ « وفي جواز ذلك نظر » . قلت : ولا يحتاج إلى نظر؛
لأنه قد وُجد الفصلُ بين الموصوف وصفته بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف ،
كقوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات } [
الأنعام : 14 ] ف « فاطر » صفةٌ ل « الله » ، وقد فُصِل بينهما ب « أتَّخِذُ »
العامل في « غير » فهذا أولى .
السادس : أَنْ يكونَ « لكلِّ مال » مفعولاً ثانياً ل « جعل » على أنها تصييرية ، و
« مواليَ » مفعول أول ، والإِعراب على ما تقدم . وهذا نهايةُ ما قيل في هذه الآية
فلله الحمد .
قوله : { والذين عَاقَدَتْ } في مَحَلِّه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ والخبر
قوله : « فآتوهم » . الثاني : أنه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل ، وهذا أرجحُ من
حيث إنَّ بعده طَلَباً . والثالث : أنه مرفوعٌ عطفاً على « الوالدان والأقربون »
فإنْ أريد بالوالدين أنهم موروثون عادَ الضميرُ مِنْ « فآتوهم » على « موالي » ،
وإنْ أُريد أنهم وارثون جازَ عَوْدُه على « مواليَ » وعلى الوالدين وما عُطف عليهم
. الرابع : أنه منصوبٌ عطفاً على « مواليَ » ، قال أبو البقاء : « أي وَجَعَلْنا
الذين عاقَدَتْ وُرَّاثاً ، وكان ذلك ونُسِخ » ، وَردَّ عليه الشيخ بفساد العطفِ ،
قال : « إذ يصير التقدير : ولكلِّ إنسان ، أو لكل شيءٍ من المالِ جَعَلْنا
وُرَّاثاً والذين عاقَدَتْ أَيْمانكم » ثم قال : « فإنْ جُعِل من عطفِ الجمل
وحًُذِفَ المفعولُ الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي : جَعَلْنا وُرَّاثاً
لكلِّ شيء من المالِ ، أو لكلِّ إنسانٍ ، وجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً
، وفيه بعد ذلك تكلفٌ » . انتهى .
وقرأ الكوفيون : « عَقَدَتْ » والباقون : « عاقَدَتْ » بألف ، ورُويَ عن حمزة
التشديد في « عَقَّدت » . والمفاعلة هنا ظاهرة لأن المراد المحالفةُ . والمفعولُ
محذوفٌ على كلٍّ من القراءات ، أي : عاقَدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ونسبةُ
المعاقدةِ أو العقدِ إلى الأيمان مجازٌ ، سواءً أُريد بالأيمان الجارحةُ أم
القَسَم . وقيل : ثَمَّ مضاف محذوف أي : عقدت ذوو أيمانكم .
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
وقوله
تعالى : { عَلَى النسآء } : متعلِّقٌ ب « قَوَّامون » وكذا « بما » ، والباء سببية
، ويجوز أن تكونَ للحال ، فتتعلَّق بمحذوف؛ لأنها حال من الضمير في « قَوَّامون »
تقديرُه : مستحقين بتفضيل الله إياهم . و « ما » مصدريةٌ وقيل : بمعنى الذي . وهو
ضعيفٌ لحَذْفِ العائد من غير مُسَوِّغ . والبعضُ الأولُ المرادُ به الرجال والبعضُ
الثاني النساء ، وعَدل عن الضميرين فلم يَقُلْ : بما فَضَّلهم الله عليهنَّ
للإِبهام الذي في « بعض » . و « بما أنفقوا » متعلقٌ بما تعلَّق به الأولُ . و «
ما » يجوز هنا أن تكونَ بمعنى الذي من غيرِ ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوغاً أي : وبما
أنفقوه مِنْ أموالِهم .
و { مِنْ أَمْوَالِهِمْ } متعلقٌ ب « أَنْفَقوا »؛ أو بمحذوف على أنه حال من
الضمير المحذوف . قوله : { فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ } « الصالحات » :
مبتدأ وما بعده خبران له . و « للغيب » متعلق ب « حافظات » . وأل في « الغيب »
عوضٌ من الضمير عند الكوفيين كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي :
رأسي وقوله :
1577 لَمْياءُ في شَفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها
شَنَبُ
أي : لِثاتِها :
والجمهورُ على رفع الجلالة من « حَفِظ اللهُ » . وفي « ما » على هذه القراءةِ
ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها مصدريةٌ والمعنى : بحِفْظِ الله إياهن أي : بتوفيقِه
لهن أو بالوصية منه تعالى عليهن . والثاني : أن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف أي
: بالذي حفظه الله لهنَّ مِنْ مهورِ أزوجِهِنَّ والنفقة عليهن قاله الزجاج .
والثالثُ : أن تكونَ « ما » نكرة موصوفةً ، والعائد محذوف أيضاً كما تقرر في
الموصولة بمعنى الذي .
وقرأ أبو جعفر بنصبِ الجلالة ، وفي « ما » ثلاثةُ أوجهً أيضاً ، أحدُها : أنها
بمعنى الذي ، والثاني : نكرة موصوفة ، وفي « حَفِظ » ضميرٌ يعود على « ما » أي :
بما حَفِظ من البر والطاعة . ولا بد من حذف مضافٍ تقديرُه : بما حفظ دينَ الله أو
أَمْرَ الله ، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يحفظها أحد . والثالث : أن تكونَ « ما »
مصدريةً ، والمعنى بما حفظن الله في امتثال أمره ، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على
جمعِ الإِناثِ لأنهن في معنى الجنس ، كأنه قيل : مِمَّنْ صَلَحَ ، فعادَ الضميرُ
مفرداً بهذا الاعتبار ، ورد الناسُ هذا الوجهَ بعدم مطابقة الضمير لما يعود عليه وهذا
جوابه . وجعله ابن جني مثلَ قول الشاعر :
1578 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ الحوادِثَ أودى بها
أي : أَوْدَيْنَ ، وينبغي أن يقال : الأصلُ بما حَفِظَتِ اللهَ ، والحوادث
أَوْدَت؛ لأنها يجوز أن يعود الضمير على جمع الإِناث كعوده على الواحدة منهن ،
تقول : « النساءُ قامت » ، إلا أنَّه شَذَّ حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى
ضمير المؤنث .
وقرأ
عبد الله وهي في مصحفه كذلك « فالصوالحُ قوانتٌ حوافظٌ » بالتكسير . قال ابن جني :
« وهي أشبهُ بالمعنى لإِعطائها الكثرةَ ، وهي المقصودةُ هنا » ، يعني أنَّ فواعل
من جموع الكثرة ، وجمعُ التصحيحِ جمعُ قلة ما لم يَقْتَرِنْ بالألفِ واللام .
وظاهرُ عبارة أبي البقاء أنه للقلة وإن اقترن ب « أل » فإنه قال : « وجَمْعُ
التصحيح لا يَدُلُّ على الكثرة بوضعه ، وقد استُعْمل فيها كقوله تعالى : { وَهُمْ
فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] . وفيما قاله أبو الفتح وأبو البقاء نظرٌ ،
فإنَّ » الصالحات « في القراءة المشهورة معرفةٌ بأل ، وقد تقدَّم أنه تكونُ للعموم
، إلا أنَّ العمومَ المفيدَ للكثرةِ ليس مِنْ صيغةِ الجمع ، بل من » أل « ، وإذا
ثبت أن الصالحات جمعُ كثرة لزم أن يكون » قانتات « و » حافظات « للكثرة لأنه خبرٌ
عن الجميع ، فيفيدُ الكثرة ، ألا ترى أنك إذا قلت : » الرجال قائمون « لَزِم أن
يكونَ كلُّ واحدٍ من الرجال قائماً ، ولا يجوز أن يكون بعضهم قاعداً ، فإذاً
القراءة الشهيرة وافية بالمعنى المقصود .
قوله : { فِي المضاجع } فيه وجهان ، أحدهما : أن » في « على بابها من الظرفية
متعلقة ب » اهجروهن « أي : اتركوا مضاجعتهن أي : النومَ معهن دونَ كلامِهن
ومؤاكلتهن . والثاني : أنها للسبب قال أبو البقاء : » واهجروهُنَّ بسبب المضاجع
كما تقول : « في هذه الجنايةِ عقوبةٌ » وجَعَل مكي هذا الوجه متعيناً ، ومنع الأول
، قال : « ليس » في المضاجع « ظرفاً للهجران ، وإنما هو سبب لهجران التخلف ،
ومعناه : فاهجروهن من أجلِ تخلُّفِهِنَّ عن المضاجعة معكم » . وفيه نظرٌ لا يَخْفى
وكلامُ الواحدي يُفْهِم أَنه يجوز تعلُقه ب « نشوزهن » فإنه قال بعدما حكى عن ابن
عباس كلاماً : « والمعنى على هذا : واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع » ، والكلامُ
الذي حكاه عن ابن عباس هو قوله : « هذا كلُّه في المضجع إذا هي عَصَتْ أن تضطجع
معه » ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي . وقَدَّر
بعضُهم معطوفاً بعد قوله : « واللاتي تخافون » أي : واللاتي تخافون نشوزهن
ونَشَزْنَ ، كأنه يريد أن لا يجوز الإِقدامُ على الوعظ وما بعده بمجردِ الخوفِ .
وقيل : لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأن الخوفَ بمعنى اليقين ، وقيل : غلبةُ الظنِّ في ذلك
كافية/ .
قوله : { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } في نصب « سبيلا » وجهان ، أحدهما
: أنه مفعولٌ به ، والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، وهذان الوجهان مبنيان على
تفسير البغي هنا ما هو؟ فقيل : هو الظلم من قوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } [ القصص :
76 ] ، فعلى هذا يكون لازماً ، و « سبيلاً » منصوبٌ بإسقاط الخافض أي : بسبيل .
وقيل : هو الطلب من قولهم : بَغَيْتُه أي طلبته . وفي « عليهن » وجهان ، أحدهما :
أنه متعلق ب « تبغوا » . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من « سبيلاً »
لأنه في الأصل صفةُ النكرة قُدِّم عليها .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
قوله
تعالى : { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } : فيه وجهان ، أحدهما : أن الشقاق مضاف إلى « بين
» ومعناها الظرفية ، والأصل : « شقاقاً بينهما » ولكنه اتُّسِعَ فيه فَأُضيف الحدث
إلى ظرفه ، وظرفيتهُ باقيةٌ نحو : سَرَّني مسير الليلة ، ومنه { مَكْرُ الليل } [
سبأ : 33 ] . والثاني : أنه خرج عن الظرفية ، وبقي كسائر الأسماء كأنه أريد به
المعاشرةُ والمصاحبة بين الزوجين ، وإلى هذا مَيْلُ أبي البقاء قال : « والبَيْنُ
هنا الوصلُ الكائنُ بين الزوجين » .
و { مِنْ أَهْلِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ ب « ابعثوا » فهي
لابتداءِ الغاية . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ للنكرةِ أي : كائناً
من أهلِه فهي للتبعيضِ .
قوله : { إِن يُرِيدَآ } الضميران في « يُريدا » و « بينهما » يجوز أن يعودا على
الزوجين أي : إنْ يُرِدِ الزوجان إصلاحاً يُوَفِّق الله بين الزوجين ، وأَنْ يعودا
على الحكمين ، وأَنْ يعودَ الأول على الحكمين ، والثاني على الزوجين ، وأن يكونَ
بالعكس ، وأُضْمِر الزوجان وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة ذِكْرِ الرجال
والنساء عليهما . وجَعَل أبو البقاء الضمير في « بينهما » عائداً على الزوجين فقط
، سواءً قيل بأن ضمير « يريدا » عائد على الحكمين أو الزوجين .
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
قوله
تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } : تقدَّم نظيرتها في البقرة ، إلا أنَّ هنا قال
: { وَبِذِي القربى } بإعادة الباء ، وذلك لأنها في حَقِّ هذه الأمةِ فالاعتناءُ
بها أكثرُ ، وإعادةُ الباءِ يَدُلُّ على زيادة تأكيد فناسب ذلك هنا بخلافِ آية
البقرة فإنها في حق بني إسرائيل . وقرأ ابن أبي عبلة « إحسانٌ » بالرفع ، على أنه
مبتدأٌ وخبرُه الجار قبله ، والمرادُ بهذه الجملةِ الأمرُ بالإِحسان وإن كانت
خبريةً كقوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 83 ] .
قوله : { والجار ذِي القربى } الجمهورُ على خفضِ « الجار » والمراد به القريبُ النسب
، وبالجارِ الجَنْبِ البعيدُ النسب . وعن ميمون بن مهران : « والجارِ ذي القربى
أريد به الجار القريب » قال ابن عطية : « وهذا خطأٌ لأنه على تأويله جمع بين » أل
« والإِضافة ، إذ كان وجه الكلام » وجارِ ذي القربى « . ويمكنُ تصحيحُ كلام ابن
مهران على أن » ذي القربى « بدلٌ من » الجار « على حذف مضاف أي : والجار جارِ ذي
القربى كقوله :
1579 نَضَر اللهُ أعظماً دفنوها ... بسجستانَ طلحةِ الطَّلَحاتِ
أي : أعظمَ طلحة ، ومِنْ كلامهم : » لو يعلمون : العلمُ الكبيرةِ سنةٌ « أي : علم
الكبيرة سنة ، فحَذَف البدلَ لدلالةِ الكلام عليه .
وقرأ بعضُهم : » والجارَ ذا القربى « نصباً . وخَرَّجه الزمخشري على الاختصاص
كقوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] .
والجُنُب صفةٌ على فُعُل نحو : ناقة سُرُح ، ويستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع
مذكراً ومؤنثاً نحو : رجال جُنُب ، قال تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } [
المائدة : 6 ] ، وبعضُهم يُثَنِّيه ويجمعه ، ومثله : شُلُل . وعن عاصم : » والجار
الجَنْب « بفتح الجيم وسكون النون ، وهو وصفٌ أيضاً بمعنى المجانب كقولهم : رجلٌ
عَدْل وألفُ الجار عن واو لقولهم : تجاوروا وجاوَرْتُه ، ويُجمع على جِيرة وجيران
. والجَنابة : البُعْد . قال :
1580 فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابةٍ ... فإني أمرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
لأنَّ الإِنسان يُتْركُ جانباً ، ومنه : { واجنبني وَبَنِيَّ } [ إبراهيم : 35 ] .
قوله : { بالجنب } يجوز في الباء وجهان : أحدهما : أن تكون بمعنى » في « . والثاني
: أن تكونَ على بابها وهو الأولى ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بمحذوف لأنها حال
من الصاحب . و { وَمَا مَلَكَتْ } يجوز أن يريد غيرَ العبيد والإِماء ب » ما « ،
حَمْلاً على الأنواع كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] وأن يكونَ
أُريدَ جميعُ ما ملكه الإِنسان من الحيواناتِ فاختلط العاقل بغيره فأتى ب » ما « .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
قوله
تعالى : { الذين يَبْخَلُونَ } : فيه سبعةُ أوجه ، أحدها : أن يكون منصوباً بدلاً
من « مَنْ » وجُمع حَمْلاً على المعنى . الثاني : أنه نصب على البدل من « مختالاً
» وجُمع أيضاً لما تقدم . الثالث : أنه نصب على الذم . الرابع : أنه مبتدأ وفي
خبره قولان ، أحدهما : أنه محذوف ، فقدَّره بعضهم : « مُبْغَضُون لدلالة { إِنَّ
الله لاَ يُحِبُّ } ، وبعضهم : » معذبون « لقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
عَذَاباً } ، وقَدَّره الزمخشري : » أَحِقَّاء بكل مَلامة « ، وقَدَّره أبو البقاء
: » أولئك قرناؤهم الشيطان « . والثاني : أن قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ
مِثْقَالَ } ويكون قوله : { والذين يُنْفِقُونَ } عطفاً على المبتدأ والعائد محذوف
، والتقدير : الذين يبخلون ، والذين يُنْفقون أموالَهم رئاءَ الناس ، إن الله لا
يظلمهم مثقال ذرة ، أو مثقال ذرة لهم ، وإليه ذهب الزجاج ، وهذا متكلفٌ جداً
لكثرةِ الفواصل ، ولقلق المعنى أيضاً . الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هم الذين
. السادس : أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في » فخوراً « ، ذكره أبو البقاء ، وهو
قلقٌ . السابع : أنه صفةٌ ل » مَنْ « ، كأنه قيل : لا يُحِبُّ المختال الفخورَ البخيلَ
.
و » بالبخل « فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلق ب » يأمرون « فالباءُ للتعدية على
حَدِّ : أمرتك بكذا . والثاني : أنها باء الحالية ، والمأمور محذوف ، والتقدير :
ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل ، فيكون في المعنى كقول الشاعر :
1581 أجْمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضاعَ الحَزْمُ بينهما ... تِيْهَ الملوكِ وأفعالَ
المماليكِ
والمُخْتال : التيَّاه الجَهُول ، والمُخْتال اسمُ فاعل من اختال يختال أي :
تكبَّر وأُعجب بنفسه ، وألفه عن ياءٍ لقولِهم : الخُيَلاء والمَخْيِلة ، وسُمِع
أيضاً : خَالَ الرجلُ يَخال خَوْلاً بالمعنى الأول ، فيكون لهذا المعنى مادتان :
خَيَل وخَوَل . والفخر : عَدُّ مناقبِ الإِنسان ومحاسنِه ، وفخور صيغة مبالغة .
وفي البخل أربع لغات : فتح الخاء والباء وبها قرأ حمزة والكسائي ، ويضمهما ، وبها
قرأ الحسن وعيسى بن عمر ، وبفتح الباء وسكون الخاء وبها قرأ قتادة وابن الزبير ،
وبضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ جمهور الناس . والبُّخْل والبَخَل كالحُزْن
والحَزَن والعُرْب والعَرَب . و { مِن فَضْلِهِ } يجوز أن يتعلَّق ب » آتاهم « أو
بمحذوفٍ على أنه حالٌ من » ما « أو مِنَ العائدِ عليها .
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
قوله
: { والذين يُنْفِقُونَ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون مرفوعاً عطفاً على «
الذين يبخلون » والخبر { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ } ، وقد تقدم ذلك وضَعْفُه .
الثاني : أنه مجرور عطفاً على « الكافرين » أي : أعتدنا للكافرين وللذين ينفقون
أموالهم رئاءَ الناس ، قاله ابن جرير . الثالث : أنه مبتدأُ وخبرهُ محذوف أي :
مُعَذَّبون ، أو : قرينهم الشيطان ، فعلى الأوَّلين يكونُ من عطفِ المفردات ، وعلى
الثالث مِنْ عطفِ الجمل .
قوله : { رِئَآءَ الناس } فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مفعول من أجله ، وشروطُ
النصب متوفرة . والثاني : أنه حالٌ من فاعل « ينفقون » يعني مصدراً واقعاً موقعَ
الحال أي : مُرائين . والثالث : أنه حالٌ من نفسِ الموصولِ ذكره المهدوي . و «
رئاءَ » مصدرٌ مضاف إلى المفعول .
قوله : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مستأنف . والثاني :
أنه عطف على الصلة ، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ له من الإِعراب . والثالث : أنه
حالٌ من فاعل « ينفقون » . إلا أن هذين الوجهين الأخيرين أعني العطفَ على الصلة
والحالية يمتنعان على الوجه المحكي عن المهدوي ، وهو كونُ « رئاءَ » حالاً من نفس
الموصول؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين أبعاضِ الصلة أو بين الصلةِ ومعمولِها بأجنبي وهو
« رثاءَ »؛ لأنه حالٌ من الموصولِ لا تعلُّقَ له بالصلة ، بخلاف ما إذا جَعَلْناه
مفعولاً له أو حالاً من فاعل « ينفقون » فإنه على الوجهين معمولٌ ل « ينفقون »
فليس أجنبياً ، فلم يُبالَ بالفصل به .
وفي جَعْلِ { وَلاَ يُؤْمِنُونَ } حالاً نظرٌ من حيث/ إنَّ بعضَهم نصَّ على أن
المضارع المنفيَّ ب « لا » كالمثبت في أنه لا تدخل عليه واو الحال ، وهو محلُّ
تَوَقُّف . وكررت « لا » في قوله : « ولا باليوم » وكذا الباء إشعاراً بأن
الإِيمان منتفٍ عن كلِّ على حِدَتِه لو قلت : « لا أضرب زيداً وعمراً » احتمل نفيَ
الضرب عن المجموع ، ولا يلزم منه نفيُ الضربِ عن كلِّ واحدٍ على انفراده ، واحتمل
نفيَه عن كل واحد بانفرادِه ، فإذا قلت : « ولا عمراً » تعيَّن هذا الثاني .
قوله : { فَسَآءَ قِرِيناً } في « ساء » هذه احتمالان أحدهما : أنها نُقِلَتْ إلى
الذمِّ فجرت مجرى « بئس » ، ففيها ضميرٌ فاعل لها مفسَّرٌ بالنكرة بعده ، وهي «
قريناً » ، والمخصوصُ بالذم محذوف أي : فساء قريناً هو ، وهو عائدٌ : إما على
الشيطان وهو الظاهر ، وإما على « من » وقد تقدَّم حكمُ نعم وبئس . والثاني : أنها
على بابها فهي متعدية ومفعولُها محذوفٌ ، و « قريناً » على هذا منصوبٌ على الحال
أو على القطع ، والتقديرُ : فساءَه أي : فساءَ الشيطانُ مُصَاحِبَه .
واحتجوا
للوجه الأول ، بأنه كان ينبغي أن يَحْذِف الفاءَ من « فساء » أو تقترن به « قد »؛
لأنه حينئذ فعل متصرفٌ ماض ، وما كان كذلك ووقع جواباً للشرط تجرَّدَ من الفاءِ أو
اقترن ب « قد » ، هذا معنى كلام الشيخ . وفيه نظرٌ لقولِه تعالى : { وَمَن جَآءَ
بالسيئة فَكُبَّتْ } [ النمل : 90 ] { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] فما يُؤَوَّلُ به هذا ونحوُه يتأوَّل به هذا .
ومِمَّنْ ذهب إلى أنَّ « قريناً » منصوبٌ عل الحالِ ابنُ عطية ، ولكن يحتمل أن
يكونَ قائلاً بأنَّ « ساء » متعديةٌ ، وأن يكونَ قائلاً برأي الكوفيين ، فإنهم
ينصبون ما بعد نعم وبئس على الحال .
والقرينُ : المصاحِبُ الملازمُ ، وهو فَعِيل بمعنى مُفاعل كالخليط والجليس .
والقَرْنُ : الحبل ، لأنه يُقْرن به بين البعيرين قال :
1582 وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
قوله تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها ، وهذا يَحْتَمِل أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ هنا أي : وأيُّ شيء عليهم في الإِيمان بالله ، أو : وماذا عليهم من الوبالِ والعذابِ يومَ القيامة ، ثم استأنَفَ بقولِه : { لَوْ آمَنُواْ } ويكونُ جوابُها محذوفاً أي : لحصلت لهم السعادةُ . ويُحْتمل أن يكونَ تمامُ الكلام ب « لو » وما بعدها ، وذلك على جَعْلِ « لو » مصدريةً عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك أي : وماذا عليهم في الإِيمان ، ولا جوابَ لها حينئذٍ . وأجازَ ابنُ عطية أن يكون { َمَاذَا عَلَيْهِمْ } جواباً ل « لو » فإنْ أرادَ مِنْ جهةِ المعنى فَمُسَلَّم ، وإن أراد من جهةِ الصناعةِ ففاسدٌ؛ لأنَّ الجوابَ الصناعيَّ لا يتقدم عند البصريين ، وأيضاً فالاستفهامُ لا يُجابُ به « لو » . وأجاز أبو البقاء في « لو » أن تكونَ بمعنى « إنْ » الشرطية كما جاء في قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [ البقرة : 221 ] أي : وأيُّ شيءٍ عليهم إنْ آمنوا ، ولا حاجةَ إلى ذلك .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
قوله
تعالى : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب على أنه نعتٌ
لمصدر محذوف أي : لا يَظْلم أحداً ظلماً وزنَ ذرة ، فحذف المفعول والمصدر وأقام
نعتَه مُقامه . ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً قال :
« تقديرُه : ظلماً قَدْرَ مثقالِ ذرة ، فَحَذَفَ المصدرَ وصفته ، وأقام المضافَ
إليه مُقامهما » . ولا حاجة إلى ذلك لأنَّ المثقالَ نفسَه هو قَدْر من الأقدار ،
جُعِل معياراً لهذا القَدْر المخصوصِ . والثاني : أنه منصوب على أنه مفعول ثان ل «
يَظْلم » والأول محذوف ، كأنهم ضَمَّنوا « بظلم » معنى « بغضب » و « بنقص »
فَعَدَّوه لاثنين ، والأصل : إنَّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرة .
قوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حُذِفت النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، وهذه
قاعدة كلية ، وهو أنه يجوز حذفُ نون « يكون » مجزومةً ، بشرطِ ألاَّ يليَها ضميرٌ
متصل نحو : « لَم يَكُنْه » وألاَّ تُحَرَّك النون لالتقاء الساكنين نحو : { لَمْ
يَكُنِ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] خلافاً ليونس ، فإنه أجاز ذلك مستدلاً
بقوله :
1583 فإنْ لم تَكُ المِرْآةُ أَبْدَتْ وَسامةً ... فقد أَبْدَتِ المرآةُ جَبْهَةَ
ضَيْغَمِ
وهذا عند سيبويه ضرورةٌ ، وإنما حُذفت النون لغُنَّتِها وسكونها فأشبهت الواو ،
وهذا بخلاف سائر الأفعال نحو : « لم يَضِنَّ » و « لم يَهُنْ » لكثرة استعمال «
كان » ، وكان ينبغي أن تعود الواو عند حَذْفِ هذه النون؛ لأنها إنما حُذِفَتْ
لالتقاء الساكنين وقد زال ثانيهما وهو النونُ إلا أنها كالملفوظ بها .
وقرأ الجمهور « حسنةً » نصباً على خبر « كان » الناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود
على « مثقال » وإنما أَنَّث ضميرَه حملاً على المعنى؛ لأنه بمعنى : وإنْ تكن زنةَ
ذرة حسنة ، أو لإِضافته إلى مؤنث فاكتسب منه التأنيث . وقرأ ابن كثير ونافع « حسنة
» رفعاً على أنها التامة أي : وإنْ تقع أو توجد حسنة .
وقرأ ابن كثير وابن عامر : « يُضَعِّفْها » بالتضعيف ، والباقون « يضاعفها » . قال
أبو عبيدة : « ضاعفه » يقتضي مراراً كثيرة ، و « ضَعَّفَ » يقتضي مرتين ، وهذا
عكسُ كلام العرب؛ لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل ، فإذا شدَّدْتَ دَلَّت البُنْية
على التكثير ، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة بحسَبِ ما يكون من العدد . وقال الفارسي
: « هما لغتان بمعنًى ، يدل عليه قولُه { نُضَعِّفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [
الأحزاب : 30 ] { فَيُضَعِّفُهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقد
تقدم لنا الكلام على هذا بأبسطَ منه هنا . وقرأ ابن هرمز : » نضاعِفْها « بالنون ،
وقرىء » يُضْعِفْها « بالتخفيف مِنْ أضعفه مثل أكرم .
قوله : { مِن لَّدُنْهُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب » يُؤْتِ « و » من «
للابتداء مجازاً . والثاني : يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من » أجراً « فإنه صفةُ
نكرةٍ في الأصلِ قُدِّم عليها فانتصب حالاً .
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
قوله
تعالى : { فَكَيْفَ } : فيها ثلاثة أقوال ، أحدها : أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ
محذوف أي : فكيف حالُهم أو صنعُهم؟ والعامل في « إذا » هو هذا المقدر . والثاني :
أنها في محلِّ نصب بفعل محذوف أي : فيكف تكونون أو تَصْنَعون؟ ويَجْري فيها
الوجهان : النصب على التشبيه بالحالِ كما هو مذهبُ سيبويه ، أو على التشبيه
بالظرفية كما هو مذهب الأخفش ، وهو العاملُ في « إذا » أيضاً . والثالث : حكاه ابن
عطية عن مكي أنها معمولةٌ ل « جئنا » ، وهذا غلط فاحش .
قوله : { مِن كُلِّ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب « جئنا » . والثاني : أنه
متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « شهيد » ، وذلك على رأي مَنْ يجوُّزُ تقديمَ حالِ
المجرور بالحرف عليه ، وقد تقدم تحريره . والمشهودُ عليه محذوفٌ أي : بشهيد على
أمته/ .
والمِثْقال : مِفْعَال من الثِّقَل وهو زِنَةُ كل شيء ، والذَّرَّة : النملة
الصغيرة ، وقيل : رأسُها ، وقيل : الخَرْدَلة ، وقيل : جزء الهَباءَة ، وعن ابن
عباس : أنه أَدْخَلَ يده في التراب ثم نَفَخَها وقال : « كلُّ واحدةٍ منه ذرةٌ »
والأولُ هو المشهور؛ لأن النملة يُضْرَبُ بها المثل في القلة ، وأصغرُ ما تكون إذا
مَرَّ عليها حَوْلٌ ، قالوا لأنها حينئذ تَصْغُر جداً ، قال حسان :
1584 لو يَدِبُّ الحَوْلِيُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ ... رِ عليها لأنْدَبَتْها
الكُلُومُ
وقال امرؤ القيس :
1585 مِن القاصِراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَرِّ فوق الإِتْبِ منها
لأَثَّرا
قوله تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه ، أظهرها : أنها في
محل جر عطفاً على « جئنا » الأولى أي : فكيف تصنعون في وقت المجيئين؟ . والثاني :
أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، و « قد » مرادةٌ معها ، والعامل فيها « جئنا »
الأولى أي : جئنا من كل أمة بشهيد وقد جئنا ، وفيه نظر . والثالث : أنها مستأنفة
فلا محل لها . قال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً ، ويكون الماضي بمعنى
المستقبل » . انتهى . وإنما احتاج إلى ذلك لأنَّ المجيءَ بعدُ لم يقع ، فادَّعى
ذلك ، والله أعلم . و { على هؤلاء } متعلق ب « شهيداً » و « على » على بابها وقيل
: هي بمعنى اللام وفيه بُعْدٌ ، وأجيز أن تكون « على » متعلقةً بمحذوف على أنها
حالٌ من « شهيداً » ، وفيه بُعْدٌ ، و « شهيداً » حالٌ من الكاف في « بك » .
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله
تعالى : { يَوْمَئِذٍ } : فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه معمول ل « يود » أي :
يَوَدُّ الذين كفروا يوم إذ جئنا . والثاني : أنه معمولٌ ل « شهيداً » قاله أبو
البقاء ، قال « وعلى هذا يكون » يود « صفةً ل » يوم « ، والعائد محذوف تقديره :
فيه ، وقد ذكر ذلك في قوله { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] وفيما
قاله نظرٌ لا يَخْفى .
والثالث : أن » يوم « مبني لإضافته إلى » إذ « قاله الحوفي ، قال : لأنَّ الظرف
إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤُه معه . و » إذ « هنا اسمٌ؛ لأنَّ الظروفَ إذا
أُضيف إليها خَرَجَتْ إلى معنى الاسمية من أجل تخصيصِ المضاف إليها كما تُخَصَّصُ
الأسماءُ ، مع استحقاقِها الجر ، والجرُّ ليس من علامات الظروف » .
والتنوينُ في « إذ » تنوينُ عوضٍ على الصحيح ، فقيل : عوض من الجملة الأولى في
قوله { جِئْنَا مِن كُلِّ } أي : يومَ إذْ جِئْنا من كل أمة بشهيد ، وجِئْنا بك
على هؤلاء شهيداً ، والرسولُ على هذا اسم جنس . وقيل : عوضٌ من الجملةِ الأخيرة ،
وهي « وجِئْنا بك » ، ويكون المراد بالرسول محمداً صلى الله عليه وسلم . وكان
النظم « وعَصَوْك » ولكنْ أُبْرِزَ ظاهراً بصفةِ الرسالةِ تنويهاً بقَدْرِهِ
وشَرَفِه .
وفي قوله : { وَعَصَوُاْ } ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها جملة معطوفة على « كفروا »
فتكونُ صلةً ، فيكونون جامعين بين كفرٍ ومعصية . وقيل : بل هي صلةٌ لموصول آخر
فيكونون طائفتين . وقيل : هي في محل نصب على الحال من « كفروا » و « قد » مرادةٌ
أي : وقد عصوا . وقرأ يحيى وأبو السمَّال : « وعَصَوا الرسول » بكسر الواو على
الأصل .
قوله : { لَوْ تسوى } إنْ قيل : إنَّ « لو » على بابها كما هو قول الجمهور فمفعول
« يود » محذوف أي : يود الذين كفروا تسويةَ الأرض [ بهم ] ، ويدلُّ عليه : { لَوْ
تسوى بِهِمُ الأرض } وجوابها حينئذ محذوف أي : لَسُرُّوا بذلك . وإنْ قيل : إنها
مصدرية كانت هي وما بعدها في محل مفعول « يود » ولا جوابَ لها حينئذٍ ، وقد تقدَّم
تحقيقُ ذلك في { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [ البقرة : 96 ] قال أبو
البقاء « وعَصَو الرسول » في موضع الحال ، و « قد » مرادةٌ ، وهي معترضةٌ بين «
يود » وبين مفعولِها وهو « لو تُسَوَّى » ، و « لو » بمعنى « أَنْ » « المصدرية »
. انتهى . وفي جَعْلِه الجملةَ الحاليةَ معترضةً بين المفعولِ وعاملِه نَظَرٌ لا
يَخْفَى ، لأنها مِنْ جملةِ متعلقات العامل الذي هو صلةٌ للموصولِ ، وهذا نظير ما
لو قلت : « ضَرَبَ الذين جاؤوا مُسْرِعين زيداً » فكما لا يقال إنَّ « مسرعين »
معترض به فكذلك هذه الجملة .
وقرأ
أبو عمرو وابن كثير وعاصم « تُسَوَّى » بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول .
وقرأ حمزة والكسائي : تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ ، ونافع وابن عامر بالتثقيل .
فأما القراءة الأولى فمعناها : أنهم يَوَدُّون أن الله تعالى يُسَوِّي بهم الأرض :
إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم ، وتكون الباء بمعنى « على » ، وإمَّا على أنهم
يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم ، والأصل : يَوَّدون أن الله يُسَوِّيهم
بالأرض ، فَقُلِب إلى هذا كقولهم : « أدخلت القَلَنْسوة في رأسي » ، وإمَّا على
أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها ، وهو كمعنى القولِ الأول ، وقيل : لو تُعْدَلُ
بهم الأرض أي : يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً .
وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها « تَتَسَوَّى » بتاءين ، فحذفت إحداهما . وفي
الثالثة حُذِفت أحداهما . ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم ، فإن الأقوال
الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن ، غايةُ ما في
الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً .
قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ } فيه ستةُ أوجهٍ ، وذلك أنَّ هذه الواوَ تحتمل أن
تكونَ للعطفِ وأن تكون للحالِ : فِإنْ كانت للعطفِ احتمل أن يكون من عطف المفردات
، وأن يكونَ من عطف الجمل ، إذا تقرر هذا فيجوز أن [ يكون ] { وَلاَ يَكْتُمُونَ }
عطفاً على مفعول « يود » أي : يَوَدُّون تسويةَ الأرض بهم وانتفاءَ كتمان الحديث ،
و « لو » على هذا مصدريةٌ ، ويَبْعُدُ جَعْلُها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيرِه
، ويكونُ « ولا يكتمون » عطفاً على مفعول « يَوَدُّ » المحذوفِ . فهذان وجهان على
تقدير كونِه من عطفِ المفردات .
ويجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على جملة « يَوَدُّ » ، أَخْبَرَ تعالى عنهم بخبرين
أحدُهما : الوَدادة لكذا ، والثاني : أنهم لا يَقْدِرُون على الكتم في مواطنَ دونَ
مواطنَ ، و « لو » على هذا مصدريةٌ ، ويجوزُ أن تكونَ « لو » حرفاً لِما كان سيقع
لوقوعِ غيره ، وجوابُها محذوفٌ ، ومفعولُ « يود » أيضاً محذوفٌ ، ويكون « ولا
يكتمون » عطفاً على « لو » وما في حَيِّزها ، ويكونُ تعالى قد أخْبَرَ عنهم بثلاثِ
جمل : الوَدادةِ وجملةِ الشرط ب « لو » وانتفاءِ الكتمان ، فهذان أيضاً وجهان على
تقدير كونه من عطف الجمل .
وإنْ كانَتْ للحالِ جاز أن تكونَ حالاً من الضمير في « بهم » ، والعامل فيها «
تُسَوَّى » ، ويجوزُ في « لو » حينئذٍ أَنْ تكونَ مصدريةً وأن تكون امتناعيةً ،
والتقديرُ : يَوَدُّون تسويةَ الأرضِ بهم غيرَ كاتمين ، أو : لو تُسَوَّى بهم غيرَ
كاتمين لكان بغيتَهم ، ويجوز أن تكون حالاً من { الذين كَفَرُواْ } ، والعاملُ
فيها « يود » ، ويكونُ الحال قيداً في الوَدادةِ ، و « لو » على هذا مصدريةٌ في
محلِّ مفعولِ الودادة ، والمعنى : يومئذ يود الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير
كاتمين الله حديثاً ، ويبعد أن تكون « لو » على هذا الوجه امتناعيةً للزوم الفصل
بين الحال وعاملها بالجملة . و « يكتمون » يتعدى لاثنين ، والظاهر أنه يصل إلى
أحدهما بالحرف ، والأصل : ولا يكتمون من الله حديثاً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله
تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة } : فيه وجهان ، أحدهما : أن في الكلامِ حَذْفَ
مضافٍ تقديرُه : مواضعَ الصلاة ، والمراد بمواضعها المساجدُ ، ويؤيدُ هذا قولُه
بعد ذلك : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } في أحد التأويلين . والثاني : أنه لا حذفَ
، والنهي عن قربان نفسِ الصلاة في هذه الحالة .
قوله : { وَأَنْتُمْ سكارى } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «
تقربوا » . وقرأ الجمهورُ : « سُكارى » بضم السين وألف بعد الكاف ، وفيه قولان ،
أحدهما : وهو الصحيح أنه جمع تكسير ، نص عليه سيبويه ، قال : « وقد يُكَسِّرون
بعضَ هذا على فُعالى ، وذلك كقولِ بعضِهم » سُكارى « » وعُجالى « . والثاني : أنه
اسمُ جمع ، وزعم ابنُ الباذش أنه مذهب سيبويه ، قال : » وهو القياسُ لأنه لم يأت
من أبنيةِ الجمع شيءٌ على هذا الوزن « . وذكر السيرافي الخلافَ ، ورجَّح كونه
تكسيراً .
وقرأ الأعمش : » سُكْرى « بضم السين وسكون الكاف/ ، وتوجيهُها أنها صفةٌ على
فُعْلى كحُبْلى ، وقعت صفةً لجماعةٍ أي : وأنتم جماعةٌ سُكْرى . وحَكى جناح بن حبيش
: » كُسْلى وكَسْلى « بضم الكاف وفتحها . قاله الزمخشري . وقرأ النخعي : » سَكْرى
« بفتح السين وسكون الكاف ، وهذه تحتمل وجهين ، أحدُهما : ما تقدَّم في القراءة
قبلها وهو أنها صفةٌ مفردةٌ على فَعْلى كامرأةٍ سَكْرى وُصِفَ بها الجماعة .
والثاني : أنها جمعُ تكسيرٍ كجَرْحى ومَوْتى وهَلْكى ، وإنما جَمْعُ سَكْران على »
فَعْلى « حملاً على هذه؛ لِما فيه من الآفةِ اللاحقةِ للفعلِ ، وقد تقدَّم لك شيء
من هذا في قولهِ في البقرة عند قولِه : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى } [ الآية : 85 ]
، وقُرىء » سَكارى « بفتحِ السينِ ، والألفِ ، وهذا جمعُ تكسيرِ نحو : نَدْمان
ونَدامى وعَطْشان وعَطاشَى .
والسُّكْر لغةً : السَّدُّ ، ومنه قيل لِما يَعْرِضُ للمرءِ مِنْ شرب المُسْكِر؛
لأنه يَسُدُّ مابين المرء وعقله ، وأكثرُ ما يقال السُّكْرُ لإِزالة العقلِ
بالمُسكِر ، وقد يُقال ذلك لإِزالتِه بغضبٍ ونحوِه من عشقٍ وغيرِه قال :
1586 سُكْرانِ سُكْرُ هوىً وسُكْرُ مُدامَةٍ ... أنَّى يُفيقُ فتىً به سُكْرانِ
والسَّكْرُ بالفتح وسكون الكاف حَبْسُ الماءِ ، وبكسرِ السينِ نفسُ الموضعِ
المسدودِ ، وأمَّا » السَّكَر « بفتحهما فما يُسْكَرُ به من المشروبِ ، ومنه {
سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] ، وقيل : السُّكْر بضمِّ السين وسكون
الكاف السَّدُّ أي : الحاجزُ بين الشيئين قال :
1587 فما زِلْنَا على السُّكْرِ ... نُداوي السُّكْرِ بالسُّكْرِ
والحاصلُ : أنَّ أصلَ المادة الدلالةُ على الانسدادِ ، ومنه » سَكِرتْ عينُ البازي
« إذا خالَطَها نومٌ ، و » سَكِر النهرُ « إذا لم يَجْرِ ، وسَكَرْتُه أنا .
قوله : { حتى تَعْلَمُواْ } » حتى « جارةٌ بمعنى » إلى « ، فهي متعلقة بفعلِ النهي
، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار » أَنْ « ، وتقدَّم تحقيقُه .
و
« ما » يجوزُ فيها ثلاثة أوجه : أن تكونَ بمعنى الذي ، أو نكرةً موصوفةً ،
والعائدُ على هذين القولين محذوفٌ أي : يقولونه ، أو مصدريةً فلا حَذْفَ إلا على
رأيِ ابنِ السراجِ ومَنْ تَبِعه .
قوله : { وَلاَ جُنُباً } نصبٌ على أنه معطوفٌ على الحال قبله ، وهو قوله {
وَأَنْتُمْ سكارى } ، عَطَفَ المفردَ على الجملةِ لَمَّا كانَتْ في تأويلِه ،
وأعادَ معها « لا » تنبيهاً على أنَّ النهيَ عن قربانِ الصلاةِ مع كل واحدة من
هذين الحالين على انفرادِهما ، فالنهيُ عنها مع اجتماعِ الحالين آكدُ وأَوْلى .
والجُنُبُ : مشتقٌ من الجَنابة وهي البُعْد قال :
1588 فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابَةٍ ... فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
وسُمِّي الرجلُ جُنُباً لبُعْده عن الطهارة ، أو لأنه ضاجَعَ بجَنْبه ومَسَّ به ،
والمشهورُ أنه يُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، ومنه
الآيةُ الكريمة . قال الزمخشري : « لجَرَيانه مَجَرى المصدر الذي هو الإِجْناب »
ومن العرب مَنْ يُثَنِّيه فيقول : « جُنُبان » ويجمعه سَلامَةً فيقول : « جُنُبون
» وتكسيراً فيقول : « أَجْناب » ، ومثله في ذلك : « شُلُل » وتقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : { إِلاَّ عَابِرِي } فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب على الحال ، فهو
استثناء مفرغ ، والعامل فيها فعل النهي ، والتقدير : لا تقربوا الصلاةَ في حال
الجنابة ، إلا في حال السفر أو عبور المسجد ، على حَسَب القولين . وقال الزمخشري :
{ إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } استثناءٌ من عامة أحوالِ المخاطبين ، وانتصابُه على
الحالِ . فإنْ قلت : كيف جَمَع بين هذه الحالِ والحالِ التي قبلها؟ قلت : كأنه قيل
: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ الجنابة إلا ومعكم حالٌ أخرى تُعْذَرُون فيها وهي حال
السفر ، وعبُور السبيلِ عبارةٌ عنه « . والثاني : أنه منصوب على أنه صفةٌ لقوله :
» جُنُباً « وصفَة ب » إلا « بمعنى » غير « فظهر الإِعرابُ فيما بعدها ، وسيأتي
لهذا مزيدُ بيانٍ عند قولِه تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله
لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] كأنه قيل : لا تَقْرَبوها جُنُباً غيرَ عابري
سبيل أي : جُنُباً مُقِيمين غيرَ مَعْذُورين ، وهذا معنى واضح على تفسيرِ العبورِ
بالسفر . وأمَّا مَنْ قَدَّر مواضع الصلاة فالمعنى عنده : لاتقْربوا المساجدَ
جُنُباً إلا مجتازين لكونهِ لا ممرَّ سواه ، أو غيرِ ذلك بحَسَبِ الخلاف .
والعُبور : الجوازُ ، ومنه : » ناقةٌ عُبْرُ الهَواجِر « قال :
1589 عَيْرانَةٌ سُبُحُ اليدينِ شِمِلَّةٌ ... عُبْرُ الهواجرِ كالهِزَفِّ
الخاضِبِ
وقوله : { حتى تَغْتَسِلُواْ } كقوله : { حتى تَعْلَمُواْ } فهي متعلقةٌ بفعلِ
النهي . قوله : { أَوْ على سَفَرٍ } في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبر » كان « وهو »
مَرْضَى « وكذلك قوله : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ } { أَوْ لاَمَسْتُمُ } وفيه دليلٌ
على مجيء خبرِ » كان « فعلاً ماضياً من غيرِ » قد « ، وادِّعاء حذفِها تكلُّفٌ لا
حاجةَ إليه ، كذا استدلَّ به الشيخ ، ولا دليلَ فيه لاحتمال أن يكونَ » أو جاء «
عطفاً على » كنتم « تقديرُه : » وإنْ جاء أحد « ، وإليه ذهب أبو البقاء وهو أظهرُ
من الأول ، والله أعلم .
و
« منكم » في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل « أحد » ، فيتعلق بمحذوف و « من الغائط »
متعلِّقٌ ب « جاء » ، فهو مفعولُه . وقرأ الجمهور : « الغائِط » بزنة فاعِل ، وهو
المكانُ المطمئِنُّ من الأرض ، ثم عَبَّر به عن نفسِ الحدثِ كنايةً للاستحياء مِنْ
ذكره ، وفَرَّقت العرب بين الفعلين منه ، فقالت : « غاطَ في الأرض » أي : ذهب
وأبعد إلى مكانٍ لا يراه فيه إلا مَنْ وَقَفَ عليه ، وتغوَّط : إذا أَحْدَثَ .
وقرأ ابن مسعود : « من الغَيْطِ » وفيه قولان ، أحدُهما : وإليه ذهب ابن جني أنه
مخفف من فَيْعِل كهَيْن ومَيْت في : هيّن وميّت . والثاني أنه مصدرٌ على وزن
فَعْلَ قالوا : غاط يغيط غَيْطاً ، وغاط يَغُوط غَوطاً . وقال أبو البقاء : « هو
مصدرُ » يَغُوط « فكان القياس » غَوْطاً « فَقَلبَ الواوَ ياءً وإنْ سَكَنَتْ
وانفتَحَ ما قبلَها لِخفَّتها » كأنه لم يَطَّلع على أنَّ فيه لغةً أخرى من ذواتِ
الياء حتى ادَّعى ذلك . وقرأ الأخوان هنا وفي المائدة : « لَمَسْتم » والباقون : «
لامستم » فقيل : « فاعِل » بمعنى فَعَل ، وقيل : لمَس : جامَع ، ولامسَ لما دون
الجماع .
قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ } الفاءُ عَطَفَتْ ما بعدهَا على الشرط . وقال أبو
البقاء : « على جاء » ، لأنه جَعَل « جاء » عطفاً على « كنتم » فهو شرط عنده .
والفاءُ في قوله « فتيمَّموا » هي جوابُ الشرط ، والضمير في « تَيَمَّموا » لكلِّ
مَنْ تقدَّم من مريضٍ ومسافرٍ ومتغوِّط وملامس أو لامس ، وفيه تغليبٌ للخطابِ على
الغَيْبَةِ ، وذلك أنه تقدَّم غيبة في قوله : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ } وخطابُ في «
كنتم » و « لمستم » فَغَلَّب الخطابَ في قوله « كنتم » وما بعده عليه . وما أحسنَ
ما أتى هنا بالغيبة لأنه كنايةٌ عما يُسْتحيا منه فلم يخاطِبْهم به ، وهذا من محاسِنِ
الكلام ، ونحُوه : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] . و «
وَجَد » هنا بمعنى « لَقِي » فتعدَّت لوَاحد .
و « صعيداً » مفعولٌ به لقوله : « تَيمَّموا » أي : اقصِدوا ، وقيل : هو على
إسقاطِ حرف أي : بصعيدٍ ، وليس بشيء لعدمِ اقتياسِه . و « بوجوهكم » متعلِّقٌ ب «
امْسَحوا » وهذه الباءُ تحتمل أَنْ تكون زائدة ، وبه قال أبو البقاء ، ويحتمل أن
تكون متعدية ، لأن سيبويه حكى : « مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه » فيكون من باب : نصحته
ونصحت له . وحُذِفَ الممسوحُ به ، وقد ظهَر في آية المائدة في قوله « منه » فَحُمِلَ
عليه هذا .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
قوله تعالى : { مِّنَ الكتاب } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلق بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل « نصيباً » فهو في محل نصب ، والثاني : أنه متعلق ب « أوتوا » أي : أوتوا من الكتابِ نصيباً . و « يَشْتَرُون » حالٌ وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه واو « أوتوا » ، والثاني : أنه الموصولُ ، وهي على هذا حالٌ مقدرة ، والمشترى به محذوف أي : بالهُدى ، كما صَرَّح به في مواضعَ . و « يريدون » عطفٌ على « يشترون » . وقرأ النخعي : « ويُريدون أَنْ تَضُلُّوا » بتاءِ الخطاب ، والمعنى : وتريدون أيها المؤمنون أن تَدَّعوا الصوابَ/ . وقرأ الحسن : « أن تُضِلُّوا » من « أضلَّ » . وقرىء : « أَنْ تُضَلُّوا السبيل » بضم التاء وفتح الضاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . و « السبيل » مفعول به كقولك : « أخطأ الطريق » ، وليس بظرفٍ ، وقيل : يتعدَّى ب « عَنْ » تقول : « ضَلَلْتُ السبيل ، وعن السبيل » .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
قوله تعالى : { وكفى بالله } : قد تقدَّم الكلامُ على هذا التركيبِ أولَ السورةِ فَأَغْنى عن إعادتِه ، وكذلك تقدَّم الكلامُ في المنصوبِ بعده .
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
قوله
تعالى : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } : فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها : أَنْ
يكونَ « مِن الذين » خبراً مقدماً ، و « يُحَرِّفون » جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً
لموصوف محذوف هو مبتدأ ، تقديره : « من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون » وحَذَفُ
الموصوفِ بعد « مِنْ » التبعيضية جائزٌ ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم : « منا
ظَعَن ومنا أَقام » أي : فريق ظعن ، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي ، ومثلُه :
1590 وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي : فمنهما تارةً أموت فيها .
الثاني : قول الفراء وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً ، ولكنَّ المبتدأَ
المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره : « من الذين هادوا مَنْ يحرفون » ، ويكون قد
حَمَل على المعنى في « يُحَرِّفون » ، قال الفراء : « ومثله :
1591 فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له ... وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ
قال : » تقديرُه : « ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له » . والبصريون لا يجيزون حَذْفَ
الموصولِ لأنه جزءُ كلمة ، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم ، وتأويلُهم
أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو « آخر » ، و « أخرى » في البيتِ قبلَه ، فيكونُ في
ذلك دلالةٌ على المحذوفِ ، والتقديرُ : فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ .
الثالث : أنَّ « مِن الذين » خبرُ مبتدأ محذوف أي : هم الذين هادوا ، و «
يُحَرِّفون » على هذا حالٌ من ضمير « هادوا » . وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ
الكلامُ قد تَمَّ عند قوله « نصيراً » .
الرابع : أن يكونَ « من الذين » حالاً من فاعل « يريدون » قاله أبو البقاء ،
ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في « أوتوا » ومن « الذين » أعني في قوله : {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ } قال : « لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا
بعطفِ بعضِها على بعض » . قلت : وهذه مسألةٌ خلافٍ ، من النحويين مَنْ مَنَع ،
ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح .
الخامس : أنَّ « مِن الذين » بيانٌ للموصولِ في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين
أُوتُواْ } لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ ، قال الزمخشري ، وفيه نظرٌ من
حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي : « والله أعلم » إلى آخره ، وإذا كان
الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ
فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً .
السادس : أنه بيانٌ لأعدائِكم ، وما بينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه .
السابع : أنه متعلِّقٌ ب « نصيراً » ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب « من » . قال تعالى
:
{
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله
} [ غافر : 29 ] على أحدِ تأويلين : إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي :
منعناه من القوم ، وكذلك : وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا ، وإمَّا على
جَعْلِ « مِنْ » بِمعنى « على » والأولُ مذهبُ البصريين . فإذا جعلنا « من الذين »
بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق؟؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف ، ويَدُلُّ على ذلك
أنهم قالوا في « سُقيْاً لك » : إنَّ « لك » متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ .
وقال أبو البقاء : « وقيل : هو حالٌ من » أعدائكم « أي : واللهُ أعلمُ بأعدائِكم
كائنين من الذين هادوا ، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال » . فقوله
هذا يُعْطي أنه بيانٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف ، لكن لا على
ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان .
وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ « يُحَرِّفون » : إمَّا لا محلَّ له ، أو له محلُّ
رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم . وقرأ أبو رجاء والنخعي : « الكلام » وقرىء «
الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام جمع « كِلْمة » مخففة من كَلِمة ، ومعانيهما
متقاربةٌ .
و { عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّقٌ ب « يُحَرِّفون » ، وذكَّر الضمير في « مواضعه »
حَمْلاً على « الكَلِم » لأنها جنسٌ .
وجاء هنا : { عَن مَّوَاضِعِهِ } ، وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [
الآية : 41 ] قال الزمخشري : « أمَّا » عن مواضِعه « فَعَلى ما فَسَّرناه من
إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم
من إبدالِ غيره مكانَه ، وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له
مواضع هو قَمِنٌ بأن يكونَ فيها ، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له
بعد مواضعه ومقارِّه ، والمعنيان متقاربان » . قال الشيخ : « وقد يقال إنهما
سِيَّان ، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ الآية :
41 ] ؛ لأنَّ قولَه » عَنْ مَّواضِعِه « يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له ، وحُذِف في
ثاني المائدة » عن مواضِعِه « لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن
مواضعِه ، فالأصلُ : يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها ، فَحَذَف هنا البعدية
وهناك » عنها « توسُّعاً في العبارةِ ، وكانت البداءةُ هنا بقوله » عن مواضعِه «
لأنه أخصرُ ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على » عن « وعلى المواضعِ وإشارةٌ إلى البعدِيَّة
» .
وقال أيضاً : « والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ
العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن
مَّوَاضِعِهِ } كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا
إلى ذلك ، ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم بنقضِ الميثاق وقسوةِ
القلوب ، وحيث وُصِفوا باللين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء { مِن بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ } كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في
مواضعِها فهما سياقان مختلفان » .
وقوله
: { وَيَقُولُونَ } عطفٌ على « يُحَرِّفون » ، وقد تقدَّم ، وما بعده في محلِّ
نصبٍ به . قوله : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } في نصبه وجهان أحدهما : أنه حالٌ ، والثاني
: أنه مفعولٌ به ، والمعنى : اسمَعْ غيرَ مُسْمَع كلاماً ترضاه ، فسمعُك عنه نابٍ
. قال الزمخشري بعد حكايتِه نصبَه على الحالِ وذكرِه المعنى المتقدم : « ويجوز على
هذا أن يكون » غيرَ مُسْمَع « مفعول » اسمَعْ « أي : اسْمَعْ كلاماً غيرَ مسمعٍ
إياك لأنَّ أذنك لا تَعِيه نُبُوّاً عنه » . وهذا الكلامُ ذو وجهين : يعني أنَّه
يحتمل المدح والذم فبإرادة المدحِ تقدِّرُ : « غيرَ مُسْمِعٍ مكروهاً » ، فيكونُ
قد حذف المفعولَ الثاني ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ ، وبإرادة الذمِّ تقدِّر
: « غير مُسْمع خيراً » ، وحُذِفَ المفعولُ الثاني أيضاً .
وقال أبو البقاء : « وقيل : أرادوا غيرَ مسموعٍ منك » ، وهذا القولُ نَقَله ابن
عطية عن الطبري ، وقال : « إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد » . قال ابن عطية : « ولا
يساعِدُه التصريف » يعني أن العرب لا تقول : « أَسْمَعْتُك » بمعنى قَبْلْتُ منك ،
وإنما تقول : « أسْمَعْتُه » بمعنى سَبَبْتُه ، و « سمعت منه » بمعنى : قَبِلْتُ
منه ، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً ، وتقدَّم القولُ في {
رَاعِنَا } [ الآية : 104 ] في البقرة .
قوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً } فيهما وجهان أحدهما : أنهما مفعولٌ
من أجله ناصبُهما : « ويقولون » . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال أي :
لاوينَ وطاعنِين . وأصل لَيّاً : « لَوْيٌ » من لوى يَلْوي ، فأُدْغِمَتِ الواوُ
في الياء بعد قَلْبِها ياءً فهو مثل « طَيّ » مصدر طَوَى يَطْوي . و « بألسنتِهم »
و « في الدين » متعلقان بالمصدرين قبلهما . و { لَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ } تقدَّم
الكلامُ على ذلك في البقرة بأشبعِ قول .
قوله : { لَكَانَ خَيْراً } فيه قولان ، أظهرُهما : أنه بمعنى أفعل ، ويكونُ
المفضَّلُ عيه محذوفاً ، أي : لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ .
والثاني : أنه لا تفضيلَ فيه ، بل يكون بمعنى جيد وفاضل ، فلا حَذْفَ حينئذ ،
والباءُ في « بكفرِهم » للسببية .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه ثلاثةُ أوجه : أحدُها : أنَّه منصوبٌ على
الاستثناءِ من « لَعَنَهم » أي : لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم ، فإنهم آمنوا فلم
يَلْعَنْهم . والثاني : أنه مستثنى من الضميرِ في « فلا يؤمنون » والمرادُ
بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه . ولم يستحسن مكي هذين الوجهين : أمَّا الأول
قال : لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يستثنى منهم أحدٌ . وأمَّا الثاني : فلأنَّ
الوجهَ الرفعُ على البدلِ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ « . والثالث : أنه صفةٌ/
لمصدرٍ محذوفٍ أي : إلا إيماناً قليلاً ، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا
بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشريعته .
وعَبَّر
الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة ، كقوله :
1592 قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
قال الشيخ : « وما ذكراه من أن التقليلَ يُراد به العَدَمُ صحيح ، غير أنَّ هذا
التركيبَ الاستثنائي يأباه ، فإذا قلت : » لم أقم إلا قليلاً « فالمعنى : انتفاء
القيام إلا القليلَ فيوجد منك ، لا أنه دال على انتفاء القيامِ البتةَ بخلافَ » قَلَّما
يقولُ ذلك أحدٌ إلا زيدٌ « و » قَلَّ رجلٌ يفعل ذلك « فإنه يَحْتمل القليل المقابل
للتكثير ، ويحتمل النفيَ المحض ، أمَّا أنك تنفي ثم توجب ، ثم تريد بالإِيجاب بعد
النفي نفياً فلا ، لأنه يلزم أَنْ تجيءَ » إلاَّ « وما بعدها لغواً من غيرِ فائدة
، لأنَّ انتفاءَ القيام قد فُهِم من قولك : » لم أقم « فأيُّ فائدةٍ في استثناء
مثبت يراد به انتفاءٌ مفهومٌ من الجملة السابقة؟ وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما
بعدَ » إلا « موافقاً لِما قبلها في المعنى ، والاستثناءُ يلزم أن يكون ما بعد »
إلاَّ « مخالفاً لِما قبلها فيه » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
قوله
تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ } : متعلقٌ بالأمر في قوله : « آمنوا » ، و «
نَطْمِس » يكون متعدياً ، ومنه هذه الآية ، ومثلُها : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ }
[ المرسلات : 8 ] لبنائِه للمفعولِ من غيرِ حرفِ جرٍّ ، ويكون لازماً يقال : « طمس
المطرُ الأعلامَ » و « طَمَست الأعلامُ » ، قال كعب :
1593 من كلِّ نَضَّاخةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُها طامِسُ الأعلامِ
مجهولُ
وقرأ الجمهور : « نَطْمِس » بكسر الميم ، وأبو رجاء بضمها ، وهما لغتان في المضارع
. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي : عيونَ وجوهٍ ، ويُقَوِّيه أنَّ الطمسَ للأعينِ ، قال
تعالى : { لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] .
وقوله : { على أَدْبَارِهَآ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه متعلق ب « نَرُدَّها » .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف؛ لأنه حال من المفعول في « نردَّها » قاله أبو البقاء
، وليس بواضح .
قوله : « أو نلعَنهم » عطفٌ على « نَطْمِسَ » ، والضميرُ في « نلعنهم » يعودُ على
الوجوه ، « على حَذْفِ مضافٍ إليه » ، أي : وجوه قوم ، أو على أن يُرادَ بهم
الوُجَهاءُ والرؤساءُ ، أو يعودُ على الذين أوتوا الكتاب ، ويكون ذلك التفاتاً من
خطابٍ إلى غيبة ، وفيه استدعاؤُهم للإِيمان ، حيث لم يواجِهْهم باللعنةِ بعد أَنْ
شَرَّفهم بكونهم من أهل الكتاب . وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ الله } : أمرٌ واحدٌ
أُريد به الأمورُ . وقيل : هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به أي : مأمورُه أي : ما
أَوْجَدَه كائنٌ لا محالةَ .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
وقوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } : مستأنفٌ ، وليس عطفاً على « يَغْفر » الأولِ لفسادِ المعنى . والفاعل في « يشاء » ضميرٌ عائد على الله تعالى ، ويُفْهَمُ مِنْ كلامِ الزمخشري أنه ضميرٌ عائدٌ على « مَنْ » في « لِمَنْ »؛ المعنى عنده : إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ الشرك لمن لا يشاء أن يغفر له ، بكونهِ مات على الشرك غيرَ تائبٍ منه ، ويغفرُ ما دونَ ذلك لمَنْ يشاءُ أَنْ يغفرَ له بكونهِ مات تائباً من الشرك « ، و » لِمَنْ يشاء « متعلقٌ ب » يغفر « .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
وقوله
تعالى : { أَلَمْ تَرَ } : تقدَّم مثلُه ، و « بل » إضرابٌ عن تزكيتهم أنفسَهم .
وقَدَّر : أبو البقاء قبل هذا الإِضراب جملةً قال : « تقديره : أخطؤوا بل الله
يزكي من يشاء .
وقوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ } يجوز أن يكونَ حالاً مِمَّا تقدَّم ، وأَنْ يكونَ
مستأنفاً ، والضميرُ في » يُظْلمون « يجوز أن يعودَ على مَنْ يشاء » أي : لا
يُنْقِصُ من تزكيتهم شيئاً ، وإنما جَمَع الضميرَ حَمْلاً على معنى « مَنْ » ، وأن
يعودَ على الذين يُزَكُّون ، وأن يعود على القبيلين : مَنْ زكَّى نفسَه ومَنْ
زكَّاه الله ، فذاك لا يُنْقِصُ من عقابِه شيئاً ، وهذا لا يُنْقِصُ من ثوابِه
شيئاً . والأولُ أظهرُ؛ لأن « مَنْ » أقربُ مذكورٍ ، ولأنَّ « بل » إضرابٌ منقطعٌ
ما بعدها عَمَّا قبلها . وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً أي : مَنْ
زَكَّى نفسَه ، ومَنْ زَكَّاه الله » انتهى ، فَجَعَلَ عود الضميرِ على الفريقين
بناءً على وجهِ الاستئنافِ ، وهذا غيرُ لازمٍ ، بل يجوزُ عَوْدُه عليهما والجملةُ
حاليةٌ .
و { فَتِيلاً } مفعولُ ثانٍ ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ ، ويجوز أن يكونَ
نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، كما تقدَّم تقريرُه في { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ]
. والفتيل : خيط رقيق في شِقِّ النَّواة ، يُضْرب به المَثَلُ في القلة ، وقيل :
هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفَّيْك من الوسخ حين تفتلهما ، فهو فعيل بمعنى مفعول
، وقد ضَرَبَتِ العربُ المثلَ في القلة التافهة بأربعة أشياء اجتمعن في النواة ،
وهي : الفتيل والنقير وهو النُّقْرة التي في ظَهر النَّواة والقِطْمير وهو القشر
الرقيق فوقها وهذه الثلاثةُ واردةٌ في الكتابِ العزيز ، والثُّفْروق وهو ما بين
النواة والقِمْع الذي يكون في رأس التمرة كالعِلاقة بينهما .
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
قوله تعالى : { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ } : كيف منصوبٌ ب « يَفْتَرون » وتقدَّم الخلافُ فيه ، والجملةُ في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافضِ ، لأنها معلقةٌ ل « انظر » و « انظر » يتعدَّى ب « في » لأنَّها هنا ليست بصريةً . و « على الله » متعلقٌ ب « يفترون » وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « الكذب » قُدِّم عليه قال : « ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالكذبِ؛ لأنَّ معمولَ المصدرِ لا يقتدَّم عليه ، فإنْ جُعِل على التبيين جاز » وجَوَّز ابنُ عطية أن تكونَ « كيف » مبتدأً ، والجملةُ من قولِه « يفترون » الخبرُ ، وهذا فاسدٌ لأنَّ « كيف » لا تُرْفَعُ بالابتداء ، وعلى تقديرِ ذلك فأين الربطُ بينها وبين الجملةِ الواقعة خبراً عنها؟ ولم تكن نفسَ المبتدأ حتى تَسْتغني عن رابط . و « إثْماً » تمييزٌ ، والضميرُ في « به » عائدٌ على الكذب ، وقيل : على الافتراءِ ، وجَعَله الزمخشري عائداً على زعمِهم ، يعني مِنْ حيث التقديرُ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
قوله
تعالى : { يُؤْمِنُونَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : انه حالٌ : إمَّا من « الذين » ،
وإمَّا من واو « أُوتوا » . و « بالجِبْتِ » متعلق به ، « ويقولون » عطفٌ عليه ، و
« للذين » متعلِّقٌ ب « يقولون » واللام : إمَّا للتبليغ وإمَّا للعلِة كنظائرِها
. « وهؤلاء أَهْدَى » مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول . و « سبيلاً » تمييزٌ .
والثاني : أنَّ « يؤمنون » مستأنف ، وكأنه تعجَّبَ مِنْ حالِهم ، إذ كان ينبغي
لِمَنْ أُوتي نصيباً من الكتاب ألاَّ يفعلَ شيئاً مِمَّا ذُكِر فيكونُ جواباً
لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : ألا تعجَبُ من حالِ الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؟ فقيل :
وما حالُهم؟ فقال : يؤمنون ويقولون ، وهذان منافيان لحالِهم .
والجِبْتُ : هو الجِبْسُ بالسينِ المهملةِ ، أُبْدِلَتْ تاءً ، كالنات والأكيات
وست في : الناس والأكياس وسِدْس ، قال :
1594 . . . . . . . . . . . ... شرارُ الناتِ ليسوا بأجوادٍ ولا أَكْياتِ
والجِبْس : هو الذي لاخيرَ عنده ، يُقال : رجلٌ جِبْسٌ وجِبْتٌ أي : رَذْل ، قيل :
وإنَّما ادَّعَى قلبَ السينِ تاءً لأنَّ مادة جَ بَ تَ مهملةٌ ، وهذا قولُ قطرب ،
وغيره يجعلُها مادةً مستقلة ، وقيل : الجِبْت : الساحر بلغةِ الحبشة ، ويُطلق
الجبتُ على كل ما عُبِد مِنْ دونِ الله ، ولدلك سَمَّوا به صنماً بعينِه .
والطاغوتُ تقدَّم تفسيرُه وتصريفُه .
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } : « أم » هذه منقطعةٌ لفواتِ شرطِ الاتصال ، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة ، فتتقدَّر ب « بل » والهمزِة التي يُراد بها الإنكارُ ، وكذلك هي في قولِه { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } [ النساء : 54 ] وقوله : « فإذَنْ » حرفُ جوابٍ وجزاءٍ ونونُها أصليةٌ ، قال مكي : « وحُذَّاق النحويين على كَتْب نونِها نوناً ، وأجاز الفراء أن تُكْتَبَ ألفا » وما قاله الفراء هو قياسُ الخطِ؛ لأنه مبني على الوقف ، والوقفُ على نونِها بالألف ، وهي حرفٌ ينصِبُ المضارعَ بشروطٍ تقدَّمت ، ولكن إذا وَقَعَتْ بعد عاطف فالأحسنُ الإهمال ، وقد قرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما هنا بأَعمالها فحذفا النون من قوله « لا يؤتون » وقال أبو البقاء : « ولم يَعْمل هنا من أجل حرف العطف وهو الفاء ، ويجوز في غير القرآن أن يعمل مع الفاءِ وليس المبطلُ » لا « لأنَّ » لا « يتخطَّاها العامل ، فظاهرُ هذ العبارةِ أولاً أن المانعَ حرفُ العطف ، وليس كذلك بل المانعُ التلاوةُ ، ولذلك قال أخيراً » ويجوز في غيرِ القرآن « وقد تقدَّم قراءةُ عبد الله وعبد الله .
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
والضمير في قولِه : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } : عائدٌ على إبراهيم أو على القرآنِ أو على الرسول محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، أو على ما أوتيه إبراهيم عليه السلام . وقرأ الجمهور : « صَدَّ » بفتح الصاد ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعكرمة « صُدَّ » بضمها . وقرأ أبو رجاء وأبو الجوزاء بكسرها ، وكلتا القراءتين على البناء / للمفعول ، إلاَّ أَنَّ المضاعف الثلاثي كالمعتلِّ العينِ منه ، فيجوزُ في أولِه ثلاثُ لغات : إخلاصُ الضم ، وإخلاصُ الكسر ، والإِشمامُ . و « سعيراً » تمييز ، فإنْ كان بمعنى التهاب واحتراق فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : كفى بسعيرِ جهنم سعيراً ، إلاَّ أَنَّ توقُّدَها والتهابَها ليس إياها ، وإنْ كان بمعنى « مُسْعِر » فلا يَحْتاج إلى حذف .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
وقرأ الجمهور : { نُصْلِيهِمْ } : بضم النون من أصلَى ، وحميد بفتحها من صَلَيْتُ ثلاثياً ، وسلام ويعقوب : نُصْلِيهُم « بضم الهاء وهي لغة الحجاز وتقدم تقرير ذلك . قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ } قد تقدم الكلامُ على » كلما « وأنها ظرفُ زمانٍ ، والعاملُ فيها » بَدَّلْناهم « والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المنصوبِ في » نُصْليهم « ويجوز أن يكونَ صفة ل » ناراً « والعائدُ محذوف وليس بالقوي ، » وليذوقوا « متعلق ب » بَدَّلناهم « .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قوله
تعالى : { والذين آمَنُواْ } : فيه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره «
سَنُدْخِلُهم » والثاني : أنه في محل نصب عطفاً على اسم « إن » وهو « الذين كفروا
» ، والخبر أيضاً « سندخلهم جناتٍ » ويصيرُ هذا نظيرَ قولك : « إنَّ زيداً قائمٌ
وعمراً قاعدٌ » فعطفت المنصوب على المنصوب والمرفوع على المرفوع . : والثالث : أن
يكون في محلِّ رفعٍ عطفاً على موضع اسم « إنَّ » لأنَّ محلَّه الرفع ، ذكر ذلك أبو
البقاء وفيه نظرٌ من حيث الشناعةُ اللفظية حيث يقال : « والذين آمنوا » في موضع
نصب عطفاً على « الذين كفروا » ، وأتى بجملة الوعيد مؤكدةً ب « إنَّ » تنبيهاً على
شدة ذلك ، وبجملةِ الوعدِ خاليةً منه لتحقُّقها وأنه لا إنكار لذلك ، وأَتَى فيها
بحرفِ التنفيس القريبِ المدةِ تنبيهاً على قرب الوعد .
و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محلِّ نصبٍ صفةً ل « جنات » وقرأ بالنخعي
« سَيُدْخِلُهم » وكذلك « ويُدْخِلُهم ظِلاًّ » بياء الغَيْبة ، رَدَّاً على قوله
: { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً } والجمهورُ بالنون رَدًّاً على قوله { سَوْفَ
نُصْلِيهِمْ } و « خالدين » يجوزُ فيه ثلاثة أوجه ، أحدهما : أنه حالٌ من الضميرِ
المنصوبِ في « سَنُدْخِلُهم » ، والثاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من «
جنات » قال : « لأنَّ فيها ضميراً لكل واحدٍ منهما ، يعني أنه يجوزُ أن يكونَ
حالاً من مفعول » سندخلهم « كما تقدم ، أو من » جنات « لأن في الحال ضميرين
أحدُهما : المستتر في » خالدين « العائدُ على الذين آمنوا ، والآخر : المجرور ب »
في « العائد على » جنات « فصحَّ أن يُجعل حالاً من كل واحد لوجود الرابط وهو
الضمير . وهذا الذي قالَه فيه نظرٌ لا يَخْفى من وجهين ، أحدهما : أنه يصيرُ
المعنى : أنَّ الجناتِ خالداتٌ في أنفسِها ، لأنَّ الضميرَ في » فيها « عائدٌ
عليها ، فكأنه قيل : جناتٌ خالداتٌ في الجناتِ أنفسِها . والثاني : ان هذا الجمعَ
شرطُه العقلُ ، ولو أُريد ذلك لقيل : خالدات . والثالث . أن يكون صفةً ل » جنات « أيضاً
. قال أبو البقاء » على رأي الكوفيين « ، يعين أنه جَرَتِ الصفةُ على غير مَنْ هي
له في المعنى ، ولم يَبْرُز الضمير ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، وهو أنه إذا جَرَتْ
على غير مَنْ هي له وأُمِنَ اللَّبْسَُ لم يَجِبْ بروزُ الضميرِ كهذه الآية .
ومذهبُ البصريين وحوبُ بروزِه مطلقاً ، فكان ينبغي أَنْ يُقالَ على مذهبهم »
خالدين هم فيها « ولَمَّا لم يَقُلْ كذلك دَلَّ على فسادِ هذا القولِ ، وقد تقدَّم
لك تحقيقُ ذلك .
فإنْ قلت : فلْتكُنْ المسألةُ الأولى كذلك ، أعني أنك إذا جعلت « خالدين » حالاً من « جنات » فيكونُ حالاً منها لفظاً وهي لغيرِها ، معنى ، ولم يَبْرُز الضميرُ عل رأي الكوفيين ، ويَصِحُّ قولُ أبي البقاء فالجواب أن هذا لو قيل به لكان جيداً ، ولكن لا يَدْفَعُ الردَّ عن أبي البقاء ، فإنه خصص مذهبَ الكوفيين بوجه الصفة دون الحال . وقوله { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } مبتدأ وخبر ، ومحلُّ هذه الجملة : إمَّا النصبُ أو الرفع ، فالنصبُ : إمَّا على الحال من « جنات » أو من الضمير في « سندخلهم » ، وإمَّا على كونها صفةً ل « جنات » بعد صفة . والرفعُ على أنه خبر بعد خبر .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
قوله
تعالى : { أَن تُؤدُّواْ } : منصوبُ المحلِّ : إمَّا على إسقاط حرف الجر؛ لأنَّ
حَذْفَه يَطَّرِدُ مع « أنْ » ، إذا أُمِنَ اللَّبْسُ لطولِهما بالصلة ، وإمَّا
لأن « أَمَر » يتعدَّى إلى الثاني بنفسِه نحو : « أمرتك الخير » . فعلى الأول يجري
الخلافُ في محلِّها : أهي في محلِّ نصبٍ أم جر ، وعلى الثاني : هي في محلِّ نصبٍ
فقط . وقُرئ « الأمانةَ » .
والظاهرُ أنَّ قوله : { أَن تَحْكُمُواْ } معطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا « أي :
يأمركم بتأديةِ الأماناتِ وبالحكمِ بالعدلِ ، فيكونُ قد فصل بين حرف العطف
والمعطوف بالظرف ، وهي مسألة خلاف : ذهب الفارسي الى مَنْعِها إلا في الشعر ، وذهب
غيره إلى جوازها مطلقاً . ولننقِّحْ محلِّ الخلاف أولاً فأقول : إنَّ حرف العطف
إذا كان على حرف واحد كالواو والفاء : هل يجوزُ أن يُفْصَلَ بينه وبين ماعَطَفه
بالظرفِ وشِبْهِهِ أم لا؟ ذهب الفارسي إلى مَنْعِه مستدلاً بأنه إذا كان على حرف
واحد فقد ضَعُف ، فلا يتوسَّط بينه وبين ما عطفه شيءٌ إلا في ضروة كقوله :
1595 يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال ... عَضْب ويوماً أَدِيمَها نَغِلا
تقديره : » وترى أديمها نَغِلاً يوماً « فَفَصَل ب » يوماً . وذهب غيرُه إلى
جوازِه مُسْتَدِلاًّ بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة
حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ
إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً
ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [ يس : 9 ] { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات وَمِنَ
الأرض مِثْلَهُنّ } [ الطلاق : 12 ] { أَن تُؤدُّواْ الأمانات . . . . . } الآية .
وقال صاحب هذا القول : إن المعطوف عليه إذا كان مجروراً بحرف أُعيد ذلك الحرفُ مع
المعطوفِ نحو : « امرُرْ بزيدٍ وغداً بعمروٍ » وهذه الشواهدُ لا دليلَ فيها :
أمَّا « في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً » وقوله : « وجَعَلْنَا من بينِ أيديهم
» فلأنَّه عَطَفَ شيئين على شيئين : عَطَفَ « الآخرة » على « الدنيا » بإعادة
الخافضِ ، وعَطَفَ « حسنةً » الثانيةَ على « حسنةً » الأولى ، وكذلك عطف « مِنْ
خلفهم » على « من بين » ، و « سداً » على « سداً » وكذلك البيت عطف فيه «
أَدِيمَها » على المفعولِ الأولِ ل « تَراها » و « نَغِلا » على الثاني وهو «
كشِبْه » و « يوماً » الثاني على « يوماً » الأول ، فلا فصلَ فيه حينئذ ، وحينئذ
يقال : ينبغي لأبي عليّ أن يمنعَ مطلقاً ، ولا يَسْتثني الضرورة ، فإن ما استشهد
به مؤولٌ عل ما ذَكَرْتُ . فإنْ قيل : إنَّما لم يجعلْه أبو علي من ذلك لأنه
يؤدِّي إلى تخصيصِ الظرفِ الثاني بما وَقَعَ في الأولِ ، وهو انه تراها كشِبْه
أردية العَضْب في اليوم الأول والثاني؛ لأنَّ حكمَ المعطوف حكمُ المعطوفِ عليه فهو
نظيرُ قولك : « ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت ، ف » يومَ السبت « مقيَّدٌ بضربِ
زيد كما يُقيَّد به يوم الجمعة ، لكن الغرض أن اليوم الثاني في البيت مُقَيَّدٌ
بقيد آخر وهو رؤية أَديمِها نَغِلا ، فالجواب : انه لو تُرِكنا والظاهرَ من غيرِ
تقييد الظرف الثاني بمعنى آخر كان الحكمُ كما ذكرت؛ لأنه الظاهرُ كما ذكرت في
مثالك : » ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت « أمَّا إذا قَيَّدْته بشي آخر فقد
تُرك ذلك الظاهرُ لهذا النصِّ ، ألا تراكَ تقول : » ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً
يوم السبت « فكذلك هذا ، وهو موضعٌ يحتاج لتأمل .
وأمَّا
« فبشَّرناها بإسحاق » ف « يعقوب » ليس مجروراً عطفاً على « إسحاق » بل منصوباً
بإضمار فعل أي : ووهبا لها يعقوب ، ويدل عليه قراءة الرفع فإنها مؤذنةٌ بانقطاعِه
من البشارة به ، كيف وقد تقدَّم أنَّ هذا القائَل يقول : إنه متى كان المعطوفُ
عليه مجروراً؟ أُعيد مع المعطوفِ الجارُّ . وأمَّا { أَن تُؤدُّواْ الأمانات } فلا
دلالة فيها أيضاً لأنَّ « إذا » ظرفٌ لا بدل له من عامل ، وعاملُه : إمَّا « أَنْ
تَحْكُموا » وهو الظاهرُ / من حيث المعنى ، وإمَّا « يأمُركم » ، فالأول ممتنعٌ
وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حَيِّزِ الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين
، وأما الكوفيون فيُجيزون ذلك ، ومنه الآيةُ عندهم ، واستدلُّوا بقوله :
4596 كان جَزائي بالعصا أَنْ أُجْلَدا ... وقد جاء ذلك في المفعول الصريح في قوله
:
1597 . . . . . . . . . . . . ... وشفاءُ غَيِّك خابراً أَنْ تَسْألي
فكيف بالظرفِ وشبهِه؟ والثاني ممتنعٌ أيضاً لأنَّ الأمرَ ليس واقعاً وقت الحكم ،
كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ ، وإذا بَطَل هذان فالعامل فيه مقدرٌ يفسِّره ما بعدَه
تقديُره : وأَنْ تحكموا إذا حكمتم ، و « أن » تحكموا « الآخيرةُ دالةٌ على الأولى
.
قوله : { بالعدل } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق ب » تحكموا « فتكونَ الباءُ
للتعدية . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل » تَحْكُموا « فتكونَ
الباءُ للمصاحبَة اي : ملتبسين بالعدل مصاحبين له ، والمعنيان متلازمان .
قوله : { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّم الكلامُ على » ما «
المتصلة ب » نعم « وبئس » وما ذكر الناسُ فيها فعليك بمراجعته . إلا أن ابن عطية
نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُد مِنْ وَهْمٍ ، فلا بُدَّ من ذكره قال : و « ما »
المردفةُ على « نِعْم » إنما هي المهيئةُ لاتصالِ الفعل بها ، كما هي في « ربما »
و « مِمَّا » في قولِه : « وكان رسولُ الله عليه السلام مِمَّا يحرِّك شفتيه »
وكقوله :
1598 وإنَّا لَمِمَّا نضربُ الكبشَ ضربةً ... على رأسِه تُلْقي اللسانَ من الفم
وفي هذا هي بمنزلة « ربما » ، وهي لها مخالفةٌ في المعنى ، لأن « ربما » للتقليل و
« مِمَّا » للتكثير ، ومع أن « ما » موطئة فهي بمعنى الذي ، وما وَطَّأتْ إلا وهي
اسم ، ولكنَّ القصدَ إنما هو لِما يليها من المعنى الذي في الفعل « قال الشيخ : »
وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَها موطئةً مهيئةً لا تكون اسماً ، ومِنْ حيثُ
جَعلَها بمعنى « الذي » يلزم أن تكونَ اسماً فتدافعا « .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قوله تعالى : { مِنْكُمْ } : في محلِّ نصبٍ على الحال من « أُولي الأمر » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : وأولي الأمرِ كائنين منكم ، و « مِنْ » تبعيضية . قوله : « إنْ كنتم » شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند جمهور البصريين أي : فَرُدُّوه إلى الله . وهو متقدمٌ عند غيرِهم . و « تأويلاً » نصبٌ على التمييز .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{
يَزْعُمُونَ } : مثلُ ظنَّ وأخواتها بشرطِ ألاَّ تكونَ بمعنى كَفِل ولا كذب ولا
سَمِن ولا هَزَل ، و « أنَّ سادَّةٌ مسدَّ مفعوليها ، . وقرأ الجمهور : » أُنْزل
إليك وما أُنْزل من قبلك « مبنياً للمفعول ، وقرئا مبنيين للفاعل وهو الله تعالى .
والزعم - بفتح الزاي وضمها وكسرها - مصدرُ زَعَم ، وهو قولٌ يقترن به اعتقاد ظني
قال :
1599 فإنْ تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكُمُ ... فإني شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدَك
بالجَهْل
قال ابنُ دريد : » أكثرُ ما يقع على الباطل « وقال عليه السلام : » بئس مطيةُ
الرجلِ زعموا « وقال الأعشى :
1600 ونُبِّئْتُ قيساً ولم أَبْلُه ... كما زعموا خيرَ أهلِ اليمنْ
فقال الممدوح : » وما هو إلا الزعم « وحرمه ولم يُعْطِه شيئاً . [ وذكر صاحبُ »
العين « أنها تقع غالباً على » أنَّ « قال : » وقد تقع في الشعر على الاسم « وأنشد
بين أبي ذؤيب ، وقول الآخر ] :
1601 زَعَمَتْني شيخاً ولستُ بشيخٍ ... إنما الشيخُ مَنْ يَدِبُّ دبيباً
وتكون » زعم « بمعنى » ظَنَّ « فتتعدَّى لاثنين ، وبمعنى » كفِل « فتتعدى لواحد ،
ومنه { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] وبمعنى » رَأس « وبمعنى سَمِن » و «
هَزَل » فلا تتعدى .
قوله : { يُرِيدُونَ } حالٌ من فاعل « يَزْعُمون » أو من « الذين يزعمون » وقوله :
{ وَقَدْ أمروا } حال من فاعل « يريدون » فهما حالان متداخلان ، و « أن يكفروا »
في محلِّ نصب فقط إنْ قَدَّرْتَ تعدية « أمر » إلى الثاني بنفسِه ، وإلا ففيها
الخلافُ المشهور ، والضمير في « به » عائد على الطاغوت ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر
ويؤنث ، وما قال الناس فيه في البقرة . وقرأ عباس بن الفضل : « ان يكفُروا بهنَّ »
بضمير جميع التأنيث .
قوله : { أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً } في « ضلالاً » ثلاثة أقوال ، أحدهما : أنه
مصدر على غير الصدر نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 3 ]
والأصل « إضلال » و « إنبات » فهو اسمٌ مصدر لا مصدر . والثاني : أنه مصدرٌ لمطاوع
« أَضلَّ » أي : أضَلَّهم فضلُّوا ضلالاً . والثالث : أن يكون من وَضْعِ أحد
المصدرين موضعَ الآخر . وقد تقدم الكلامُ على « تعالوا » في آل عمران وما قال
الناس فيها ، وقراءةِ الحسن وتوجيهِها فعليك بالالتفات إليه .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
قوله تعالى : { رَأَيْتَ } : فيها وجهان ، أحدُهما : أنها من رؤية البصر أي : مجاهرة وتصريحاً . والثاني : انها من رؤية القلب أي : « علمت » ، ف « يصدُّون » في محل نصب على الحال القول الأول ، وفي محلِّ المفعول الثاني على الثاني . و « صدوداً » فيه وجهان ، احدهما : أنه اسم مصدر ، والمصدر إنما هو الصدُّ ، وهذا اختبار ابن عطية ، وعزاه مكي للخليل بن أحمد . والثاني : انه مصدر بنفسه يقال : صد صَدًّاً وصُدوداً ، وقال بعضُهم : « الصُّدود : مصدر » صَدَّ « اللازم ، والصَّدُّ مصدر » صد « المتعدي ، نحو : { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } [ النمل : 24 ] ، والفعل هنا متعدِّ بالحرف لا بنفسِه ، فلذلك جاء مصدرُه على » فُعُول « لأنَّ فُعولاً غالباً للازم » وهذا فيه نظرٌ ، إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ : هو هنا متعد ، غايةُ ما فيه أنه حَذَف المفعول أي : يَصُدُّون غيرهم - أو المتحاكمين عندك - صدوداً ، وأمَّا فُعول فاء في المتعدي نحو : لزمه لُزوماً وفتنة فُتوناً .
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
قوله تعالى : { فَكَيْفَ } : يجوز في « كيف » وجهان ، أحدهما : انها في محل نصب ، وهو قول الزجاج قال : « تقديره : فكيف تراهم » والثاني : أنها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي : فكيف صنيعُهم في وقت إصابة المصيبة إياهم؟ و « إذا معمولةٌ لذلك المقدر بعد » كيف « ، والباء في » بما « للسببية ، و » ما « يجوز أن تكونَ مصدريةً أو اسمية ، فالعائدُ محذوف . قوله : { يَحْلِفُونَ } حال من فاعل » جاؤوك « و » إنْ « نافية أي : ما أردنا و » إحسانا « مفعول به ، أو استثناء على حسب القولين في المسألة .
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
قوله
تعالى : { في أَنْفُسِهِمْ } : فيه أوجه : أَوْجهُها : أن يتعلق ب « قل » وفيه
معنيان ، الأولُ : قل لهم خالياً لا يكون معهم أحد ، لأنَّ ذلك أَدْعى إلى قَبول
النصحية . الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يَبْلُغ بهم
ما يَزْجُرهم عن العَوْدِ إلى النفاق . الثاني من الأوجهِ أَنْ يتعلَّق ب « بليغاً
» أي : قولاً مؤثِّراً في قلوبِهم يغتمُّون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً
، قال معناه الزمخشري ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا مذهبُ الكوفيين ، إذ فيه
تقديمُ معمولِ الصفة على الموصوف ، لو قلت : « جاء زيداً رجلٌ يضربُ » لم يجز عند
البصريين؛ لأنه لا يتقدم المعمولُ إلا حيث يجوز تقديم العامل ، والعامل هنا لا
يجوزُ تقديمه؛ لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف ، والكوفيون يجيزون تقديم معمولَ
الصفة على الموصوف ، وأمَّا قول البصريين : إنه لا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم
العامل ففيه بحث ، وذلك أنَّا وجدنا هذه القاعدة منخرمةً في قوله : { فَأَمَّا
اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 - 10 ] ف «
اليتيم » معمول « ل » تقهر « ، و » السائل « معمول ل » تنهر « وقد تقدًّما على »
لا « الناهية ، والعاملُ فيهما لا يجوز تقديمُه عليها إذ ، المجزوم لا يتقدَّم على
جازمه ، فقد تقدَّم المعمول حيث لا يتقدم العامل ، وكذلك قالوا في قوله :
1602 قنافِذُ هَدَّاجون حولَ بيوتِهم ... بما كان إيَّاها عطيَّةُ عَوَّدا
خَرَّجوا هذا البيتَ على أنَّ في » كان « ضميرَ الشان ، و » عَطِيَّةُ « مبتدأ و »
عَوَّدَ « خبرُه ، حتى لا يَليَ » كان « معمولُ خبرها ، وهو غيرُ ظرفٍ ولا شِبْهِه
، فلزمهم من ذلك تقديمُ المعمول وهو » إياهم « حيث لايتقدمَ العاملُ؛ لأن الخبرَ
متى كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر امتنع تقديمه على المبتدأ / لئلا يلتبسَ بالفاعل
نحو : » زيد ضرب عمراً « وأصلُ منشأ هذا البحث تقديمُ خبرِ » ليس « عليها ، أجازه
الجمهور لقوله تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [
هود : 8 ] ووجه الدليلِ أنَّ » يوم « معمولٌ ل » مصروفاً « ، وقد تقدَّم على » ليس
« وتقديمُ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديم العامل ، فَعُورضوا بما ذَكَرْتُ لك ، وللنظر
في هذا البحثِ مجالٌ ليس هذا محلَّه ، وقد أتقنت ذلك في كتابي » الشرحُ الكبير :
شرح تسهيل الفوائد « فعليك به . الثالث : ونُقِل عن مجاهد ولا أظنُّه يَصِحُّ عنه
- أنه متلعق ب » مصيبة « فهو التقديم والتأخير ، والقرآن يُنَزَّهُ عن ذلك ، وإنما
ذَكَرْتُه تنبيهاً على ضَعْفه .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
قوله
تعالى : { لِيُطَاعَ } هذه لام كي ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أن » وهذا
استثناءٌ مفرغ من المفعول له ، والتقدير : وما أرسلنا من رسولٍ لشيءٍ من الأشياء
إلا للطاعة . « وبإذن الله » فيه ثلاثة أوجه ، أحدهما : [ أنه ] متعلقٌ ب « يُطاع
» ، والباء للسببية ، وإليه ذهب أبو البقاء ، قال : « وقيل : هو مفعولٌ به أي :
بسبب أمر الله » . الثاني : أن يتعلق ب « أرسلنا » أي : وما أَرْسلنا بأمر الله أي
: بشريعته . الثالث : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير في « يطاعَ » ، وبه
بدأ أبو البقاء . وقال ابن عطية : « وعلى التعليقين : أي : تعليِقِه ب » يُطاعَ «
أو ب » أَرْسلنا « فالكلامُ عامُّ اللفظِ خاصُّ المعنى؛ لأنَّا نقطعُ أن الله
تعالى قد أراد من بعضِهم ألاَّ يُطيعوه ، ولذلك تَأوَّلَ بعضُهم الإِذنَ بالعلم
وبعضُهم بالإِرشاد » قال الشيخ : « ولا يُحتاج لذلك لأن قوله » عامُّ اللفظ «
ممنوعُ ، وذلك أن » يُطاع « مبني للمفعول ، فيقدَّر ذلك الفاعلُ المحذوفَ خاصاً ،
وتقديره : » إلا ليطيعَه مَنْ أراد اللَّهُ طاعتَه « .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ } قد تقدَّم الكلامُ على » أنَّ « الواقعةِ بعد » لو «
و » إذ « ظرفٌ معمولٌ لخبر » أنَّ « وهو » جاؤوك « وقال : { واستغفر لَهُمُ الرسول
} ولم يَقُلْ » واستغفرت « خروجاً من الخطاب إلى الغَيْبة؛ لِما في هذا الاسم
الظاهر من التشريفِ والتنويه بوصف الرسالة . و » وجَد « هنا يُحْتَملُ أن تكونَ
العِلْمية فتتعدى لاثنين ، والثاني » تواباً « وأن تكون غيرَ العِلْمية فتتعدى
لواحد ، ويكون » تواباً « حالاً . وأمَّا » رحيماً « فيحتمل أن يكون حالاً من ضمير
» تَوَّاباً « وأن يكون بدلاً من » تواباً « ويُحتمل أن يكونَ خبراً ثانياً في
الأصل بناء على تعدُّد الخبر وهو الصحيح ، فلمَّا دخل الناسخُ نُصِبَ الخبرُ
المتعدد تقول : » زيدٌ فاضلٌ شاعرٌ فقيه عالم « ثم تقول : » علمتُ زيدا فاضلاً
شاعراً فقيهاً عالماً « إلا أنه لا يَحْسُن أن يقال هنا : » وشاعراً : مفعول ثالث
، وفقيهاً : رابع ، وعالماً : خامس « .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
قوله
تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } : في هذه المسألةِ أربعة أقوال ،
أحدها : وهو قول ابن جرير أنَّ « لا » الأولى رَدٌّ لكلام تقدَّمها ، تقديرُه : «
فلا تعقِلون ، أو : ليس الأمرُ كما يزعمون من أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم
استأنف قسماً بعد ذلك ، فعلى هذا يكون الوقف على » لا « تاماً . الثاني : أن » لا
« الأولى قُدِّمَتْ على القسم اهتماماً بالنفي ، ثم كُرِّرت توكيداً ، وكان
يَصِحُّ إسقاطُ الأولى ويبقى [ معنى ] النفي ولكن تفوتُ الدلالةُ على الاهتمامِ
المذكورِ ، وكان يَصِحُّ إسقاطُ الثانيةِ ويبقى معنى الاهتمامِ ، ولكن تفوتُ
الدلالةُ النفي ، فجُمع بينهما لذلك . الثالث : أن الثانيةَ زائدةٌ ، والقَسَمُ
معترِضٌ بين حرفِ النفي والمنفي ، وكأنَّ التقديرَ : فلا يؤمنون وربِّك . الرابع :
أن الأولى زائدة ، والثانيةَ غيرُ زائدةٍ ، وهو اختيارُ الزمخشري فإنه قال : » لا
« مزيدةٌ لتأكيد معنى القسم كما زيدت في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ]
لتأكيدِ وجوبِ العلمِ ، و » لا يؤمنون « جوابُ القسم ، فإنْ قلت : هَلاَّ زعمت
أنها زِيدت لتظاهر » لا « في » لا يؤمنون « قلت : يأبى ذلك استواءُ النفيِ
والإثبات فيه ، وذلك قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ
تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 38 ] يعني أنه قد جاءت
» لا « قبل القسم حيث لم تكن » لا « موجودةً في الجواب ، فالزمخشري يرى ان » لا «
في قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون } [ الحاقة : 38 ] أنها زائدةٌ
أيضاً لتأكيدِ معنى القسم ، وهو أحدُ القولين ، والقولُ الآخر كقول الطبري المتقدم
، ومثلُ الآية في التخاريج المذكورة قولُ الآخر :
1603 فلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لَلِما بهم أبداً دواءُ
قوله { حتى يُحَكِّمُوكَ } : » حتى « غايةٌ متعلقة بقوله » لا يؤمنون « أي : ينتفي
عنهم الإيمانُ إلى هذه الغاية وهي تحكيمك وعدمُ وجدانِهم الحرجَ وتسليمُهم لأمرك .
والتفت في قوله » ربِّك « من الغَيْبة في قوله { واستغفر لَهُمُ الرسول } رجوعاً
إلى قوله » ثم جاؤوك « وقرأ أبو السَّمَّال : » شَجْر « بسكون الجيم هرباً من
توالي الحركات وهي ضعيفةٌ ، لأنَّ الفتحَ أخو السكون . و » بينهم « ظرف منصوب ب »
شجر « هذا هو الصحيح ، وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً وجعل في صاحب هذه
الحال احتمالين ، أحدُهما : أن يكون حالاً من » ما « الموصولة ، والثاني : أنه حال
من فاعل » شجر « وهو نفس الموصول أيضاً في المعنى ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، و »
ثم لا يجدوا « عطفٌ على ما بعد » حتى « ، » ويَجِدُوا « يَحْتمل أن تكون المتعديةَ
لاثنين ، فيكونُ الأول » حرجاً « والثاني الجارُّ قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوف ، وأن
تكونَ المتعدية لواحد فيجوز في » في أنفسهم « وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب »
يجدوا « تعلُّقَ الفَضَلات .
والثاني
: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « حَرَجاً » لأنَّ صفةَ النكرةِ لَمَّا
قُدِّمَتْ عليها انتصبَتْ حالاً .
و { مِّمَّا قَضَيْتَ } فيه وجان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ بنفس « حرجاً »؛ لأنك
تقول : « خَرَجْتُ من كذا » والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، فهو في محلِ نصبٍ لأنه
صفة ل « حرجاً » و « ما » يجوز أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكون بمعنى الذي ، أي :
حرجاً من قضائك ، أومن الذي قضيته ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، فالعائدُ على هذين
القولين محذوف .
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
قوله
تعالى : { أَنِ اقتلوا } : « أن » فيها وجهان ، أحدُهما : أنها المفسرةُ؛ لأنها
أتت بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه ، وهذا أَظْهَرُ . والثاني : أنها مصدريةٌ ،
وما بعدها من فعل الأمر صلتُها وفيه إشكال من حيث إنه أذا سُبِكَ منها ومِمَّا
بعدها مصدرٌ فاتت الدلالة على الأمر ، ألا ترى أنك إذا قلت : « كتبت إليه أَنْ قم
» فيه من الدلالة على طلبِ القيامِ بطريقِ الأمر ما لا في قولِك : « كتبت إليه
القيامَ » ولكنهم جَوَّزوا ذلك ، واستدلُّوا بقولهم « كتبت إليه بأَنْ قم » ،
ووجهُ الدلالةِ أنَّ حرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق ، وتحريرُ المبحثِ في ذلك في «
الشرح الكبير للتسهيل » .
وقرأ أبو عمرو بكسرِ نون « أَنْ » ، وضم واو « أو » وكسرهما حمزة وعاصم ،
وضَمَّهما باقي السبعة ، فالكسرُ على أصل التقاء الساكنين ، والضمُّ للإتباع
للثالث ، إذ هو مضمومٌ ضمةً لازمة ، وإنما فَرَّق أبو عمرو لأن الواوَ أختُ الضمةِ
، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة عند قوله : { فَمَنِ اضطر } [ الآية : 173 ] .
قوله : { مَّا فَعَلُوهُ } الهاء يُحْتمل أن تكون ضمير مصدر « اقتلوا » أو «
اخرجوا » أي : ما فعلوا القتل أو ما فعلوا الخروج . وقد أبعد فخر الدين الرازي حيث
زعم أنها تعودُ إليهما معاً ، لنُبُوِّ الصناعة عنه . [ وأجاز أبو البقاء وجهاً
رابعاً ] : وهو أن يعودَ على المكتوبِ ودَلَّ عليه « كتبنا » .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلٌ } رفعُهُ من وجهين ، أحدهما : أنه بدلٌ من فاعل « فَعَلوه
» وهو المختارُ على النصب؛ لأن الكلامَ غيرُ موجبٍ ، الثاني : أنه معطوفُ على ذلك
الضمير المرفوع ، و « إلاَّ » حرفُ عطف ، وهذا رأي الكوفيين ، ولهذه المسألةِ
موضوعٌ غير هذا . وقرأ ابن عامر وجماعة : « إلا قليلاً » نصباً وفيه وجهان ،
أشهرُهما : أنه نصب على الاستثناء وإن كان الاختيارُ الرفَع؛ لأنَّ المعنى موجودٌ
معه كما هو موجود مع النصب ، ويَزيدُ عليه بموافقة اللفظ . والثاني : أنه صفة
لمصدر محذوف تقديرُه : « إلا فعلاً قليلاً » قاله الزمخشري ، وفي نظرٌ ، إذ
الظاهرُ أنَّ « منهم » صفةٌ ل « قليلاً » ومتى حُمِل القليلُ على غير الأشخاص
يَقْلَق هذا التركيب ، إذلا فائدةَ حينئذ في ذِكْرِ « منهم » .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } قد تقدَّم الكلام على نظير هذه المسألة في
مواضع ، « وما » في « ما يوعظون » موصولةٌ اسمية . والباءُ في « به » تحتمل أن
تكونَ المعدِّيةَ دخلت على الموعوظ به ، والموعوظُ به على هذا هو التكاليف من
الأوامر والنواهي ، وتُسَمَّى أوامرُ اللَّهِ تعالى ونواهيه مواعظَ لأنها مقترنةٌ
بالوعد والوعيد ، وأَنْ تكونَ للسبية ، والتقدير : ما يوعظون بسببه أي : بسبب
تَرْكِه ، ودلَّ على التَرْكِ المحذوفِ قولُه : « ولو أنهم فعلوا » واسمُ كان
ضميرٌ عائد على الفعلِ المفهوم من قوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواُْ } أي : لكان
فعلُ ما يُوعظون به ، و « خيراً » خبرها ، و « تثبيتاً » تمييز ل « أشد » .
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
و { وَإِذاً } : حرفُ جوابٍ وجزاءٍ . وهل هذان المعنيان لازِمان لها ، أو تكونُ جواباً فقط؟ قولان ، الأول قول الشلوبين تَبَعاً لظاهر قول سيبويه . والثاني : قول الفارسي ، فإذا قال القائل : « أزورُك غداً » فقلت : « إذن أكرمَك » فهي عنده جواب وجزاء ، وإذا قلت « إذاً أظنَّك صادقاً » كانت حرفَ جواب فقط ، وكأنه أخذ هذا من قرينة الحال ، وقد تقدَّم أنها من النواصِب للمضارع بشروطٍ ذُكِرت . وقال أبو البقاء : « وإذَنْ جوابٌ ملغاةٌ » فظاهرُ هذه العبارةِ موافقٌ لقول الفارسي ، وفيه نظرٌ ، لأن الفارسيَّ لا يقول في مثلِ هذه الآية إنها جواب فقط ، وكونُها جواباً يحتاجُ إلى شيءٍ مقدَّرٍ . قال الزمخشري : وإذن جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ أيضاً فقيل : لو تثبتوا لآتيناهم لأنَّ « إذَنْ » جوابٌ وجزاء . و « مِنْ لَدُنّا » فيه وجهان أظهرُهما : أنه متعلقٌ ب « آتيناهم » والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حالٌ من « أجراً »؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها ، و « أجراً » مفعولٌ ثانٍ ل « آتيناهم » .
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
و { صِرَاطاً } : مفعولٌ ثانٍ ل « هدَيْناهم » .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
قوله
تعالى : { مِّنَ النبيين } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه بيانٌ للذين
أَنْعَم الله عليهم . والثاني : أنه حالٌ من الضميرِ المجرور في « عليهم » ،
والثالث : أنه حالٌ من الموصولِ وهو في المعنى كالأول ، وعلى هذين الوجهين فيتعلَّق
بمحذوفٍ أي : كائنين من النبيين . والرابع : أن يتعلَّق ب « يُطِعِ » قال الراغب :
« اي : ومَنْ يُطِع الله والرسول من النبيين ومن بعدهم ، ويكونُ قوله : { فأولئك
مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } إشارةً إلى الملأ الأعلى ، ثم قال : {
وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } ويُبَيِّن ذلك قولُه عليه السلام عند الموت : » اللهم
أَلْحِقْني بالرفيق الأعلى « وهذا ظاهرٌ » انتهى . وقد أفسده الشيخ من جهة لامعنى
ومن جهة الصناعة . أمَّا مِنْ جهةِ المعنى فلأِنَّ الرسولَ هنا هو محمدٌ صلى الله
عليه وسلم ، وقد أَخْبَرَ تعالى أنه مَنْ يُطِعِ الله ورسوله فهو مع ذُكر ، ولو
جُعل « مِن النبيين » متعلِّقاً ب « يُطِع » لكان « من النبيين » تفسيراً ل « مَنْ
» الشرطية « فيلزم أن يكونَ في زمانه عليه السلام أو بعده أنبياءُ يطيعونه ، وهذا
غيرُ ممكنٍ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 30 ] وقوله عليه
السلام : » لا نبيَّ بعدي « وأمَّا مِنْ جهةِ الصناعةِ فلأِنَّ ما قبل الفاء
الواقعةِ جواباً للشرط لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : » إنْ تضرب يقم عمروٌ زيداً
لم يَجُزْ « وهل هذه الأوصافُ الأربعةُ لصنفٍ واحدٍ من الناس أو لأصنافٍ مختلفة؟
قولان .
قوله : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } في نصبِ » رفيقاً « قولان ، أحدهما : أنه
تمييزٌ ، والثاني : أنه حالٌ ، وعلى تقديرِ كونِه تمييزاً في احتمالان ، أحدُهما :
أن يكونَ منقولاً من الفاعلية وتقديرهُ : » وحِسُنَ رفيقُ أولئك « فالرفيقُ على
هذا غيرُ المميِّز ، ولا يجوزُ دخولُ » مِنْ « عليه .
والثاني : ألاَّ يكونَ منقولاً ، فيكونُ نفسَ المميِّز ، وتدخل عليه » مِنْ «
وإنما أتى به هنا مفرداً لأحدِ معنيين : إمَّا لأنَّ الرفيقَ كالخليطِ والصديق في
وقوعِها على المفردِ والمثنى والمجموع بلفظٍ واحدٍ ، وإمَّا اكتفاءً بالواحد عن
الجمعِ لفَهْمِ المعنى ، وحَسَّن ذلك كونُه فاصلةً . ويجوز في » أولئك « أن يكونَ
إشارةً إلى النبيين ومَنْ بعدهم ، وأَنْ يكونَ إشارةً إلى مَنْ يُطِع اللَّهَ
ورسولَه ، وإنَّما جَمَع على معناها ، وعلى هذا فيُحتمل أَنْ يقال : إنه راعى لفظ
» مَنْ « فأفردَ في قوله » رفيقاً « ومعناها فجمع في قوله » أولئك « ، إلا أن
البَداءَةَ في ذلك بالحَمْل على اللفظ أحسنُ ، وعلى هذا فيكونُ قد جَمَعَ فيها بين
الحملِ على اللفظ في » يُطِعْ « ثم على المعنى في » أولئك « ثم على اللفظ في »
رفيقاً « .
والجمهورُ
على فتح الحاء وضم السين من « حَسُن » وقرأ أبو السمَّال بفتحِها وسكونِ السينِ
تخفيفاً نحو « عَضْد » في « عَضُد » وهي لغة تميم ، ويجوز : « وحُسْن » بضم الحاء
وسكون السين ، كأنهم نقلوا حركة العينِ إلى الفاء بعد سَلْبِها حركتَها وهذه لغةُ
بعض قيس .
وجَعَل الزمخشري هذا من بابِ التعجب فإنه قال : « فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما
أَحْسَنَ أولئك رفيقاً ، ولاستقلاِله بمعنى التعجب قُرئ » وحَسْنَ « بسكون السين ،
يقول المتعجب : » حَسُنَ الوجهُ وجهُك « و » حَسْن الوجهُ وجهك « بالفتح والضم مع
التسكين » قال الشيخ : « وهو تخليطٌ وتركيب مذهبٍ على مذهبٍ ، فنقول : اختلفوا في
» فَعُل « المرادِ به المدحُ : فذهب الفارسي وأكثر النحويين ، إلى جواز إلحاقهِ
بباب نعم وبئس فقط فلا يكون فاعلُه إلا ما يكونُ فاعلاً لهما . وذهب الأخفش
والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فيُجْعَلُ فاعلُه كفاعِلهما ، وذلك إذا لم
يَدْخُلْه معنى التعجب ، وإلى جواز ألحاقه بفعلِ التعجبِ فلا يَجْرِي مَجْرى نعم
وبئس في الفاعل ولا في بقية أحكامهما ، فتقول : » لَضَرُبَتْ يَدُكَ « و »
لَضَرُبَتِ اليدُ « ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، والتمثيل من مذهب الفارسي ،
فلم يَتَّبع مذهباً من المذهبين . وأمَّا جَعْلُه التسكينَ والنقلَ دليلاً على
كونِه مستقلاً بالتعجبِ فغيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنَّ الفراء حكى ذلك لغةً في غيرِ ما
يُراد به التعجب » .
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
قوله تعالى : { ذلك الفضل مِنَ الله } : « ذلك » مبتدأ ، وفي الخبر وجهان ، أحدُهما : أنه « الفضلُ » والجارُّ في محلِّ نصب على الحال ، والعاملُ فيها معنى الإِشارة والثاني : أنه الجارُّ ، و « الفضلُ » صفةٌ لاسم الإِشارة ، ويجوز أن يكون الفضلُ والجارُّ بعدَه خبرين ل « ذلك » على رأي مَنْ يُجيزه قوله : { وكفى بالله عَلِيماً } . قال ابن عطية « ولذلك دخلت الباءُ على اسمِ الله لتدلَّ على الأمر » / ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المسألة مستوفى .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
(
والحَذَر والحِذْر ) لغتان بمعنىً . قيل : ولم يُسْمَعْ في هذا التركيبِ إلا : «
خُذْ حِذْرك » بالكسر لا « حَذَرك » قوله : « ثُباتٍ » نصب على الحال ، وكذا [ «
جميعاً » ، والمعنى : انفروا جماعاتٍ في تفرقةٍ سَرِيَّةً بعد سرية أو مجتعين
كوكبةً واحدة ] قال الشيخ : ولم يُقْرأ فيما عَلِمْتُ إلا بكسر التاء « . انتهى .
وهذه هي اللغة الفصيحة . وبعضُ العرب ينصِبُ جمعَ المؤنثِ السالم ، إذا كان معتلِّ
اللام معوَّضاً منها تاءُ التأنيثِ بالفتحة ، وأنشد الفراء .
1604 فلمَّا جَلاها بالأُيام تَحيَّزَتْ ... ثباتاً عليها ذُلُّها واكتئابُها
وقرئ شاذاً : » ويَجْعلون لله البناتَ « بالفتحة . وحُكِي : » سمعتُ لغاتَهم «
وزعم الفارسي أنَّ الوارد من ذلك مفردٌ رُدَّتْ لامُه؛ لأنَّ الأصلَ : » لُغَوَة «
فلمَّا رُدَّتِ اللامُ قُلِبَتْ ألفاً ، وقد رُدَّ على الفارسي بأنه يلزمه الجمعُ
بين العوض والمعوض منه ، ويَرُدُّ عليه أيضاً القراءةُ المتقدمةُ في » البناتَ «
لأنَّ المفردَ منه مكسورُ الفاء ، وهذه المسألةُ قد أوْضَحتُها في كتابي » شرح
التسهيل « غايةَ الإِيضاح .
و » ثباتٍ « جمعُ ثُبَة ووزنُها في الأصلِ : فُعَلة كحُطَمة ، وإنما حُذِفت لامُها
وعُوِّض منها تاءُ التأنيث ، وهل لامُها واو أو ياء؟ قولان حجة القول الأول أنها
مشتقة من ثَبا يَثْبوا كخلا يَخْلو أي : اجتمع ، وحجةُ الثاني أنها مشتقةٌ من
ثَبَيْتُ على الرجل إذا أثنيتُ عليه كأنك جمعت محاسنَة ، وتُجمع بالألف والتاء
وبالواو والنون ، ويجوز في فائِها حين تُجمع على » ثُبين « الضمُّ والكسرُ ، وكذا
كل أشبهَها نحو : » قُلة « و » بُرة « ما لم تُجْمَعْ جمع تكسير . والثُّبَةُ :
الجماعةُ من الرجال تكون فوق العشرة . وقيل : الاثنان والثلاثة ، وتُصَغَّرُ على »
ثُبَيَّة « بردِّ المحذوفِ ، وأمَّا » ثُبَةُ الحوضِ « وهي وسَطُه فالمحذوفُ عينُها
لأنها من باب يَثُوب الماءُ أي يَرْجِعُ ، تُصَغَّر على » ثُوَيْبة « كقولك في
تصغير سَنَة : » سُنَيْهة « .
والنَّفَر : الفَزَعُ ، يقال : نَفَر إليه أي : فَزِع إليه ، وفي مضارعه لغتان :
ضمُّ العينِ وكسرُها ، وقيل : يُقال : نَفَر الرجل يَنْفِر بالكسر ، ونَفَرت
الدابةُ تنفُر بالضم فَفَرَّقوا بينهما في المضارع ، وهذا الفرق يَرُدُّه قراءة
الأعمش » فانفُروا « » أو انفُروا « بالضم فيهما . والمصدرُ : النَّفير والنُّفور
والنَّفْر ، والنَّفَر : الجماعةُ كالقوم والرهط .
قوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } » منكم « خبر مقدم ل » إنَّ «
واسمُها » لَمَنْ « دخلت اللام على الاسم تأكيداً لَمَّا فُصِل بينه وبينها بالخبر
، » ومَنْ « يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، واللامُ في »
لَيُبَطِّئَنْ « فيها قولان ، أصحُّهما : انها جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديره : أقسم
الله ليبطِّئَن ، والجملتان - أعني القسمَ وجوابه - صلةٌ ل » مَنْ « أو صفةٌ هلا
على حَسَبِ القولين المتقدمين ، والعائدُ على كلا التقديرين هو الضمير المرفوعُ ب
» ليبطِّئن « والتقديرُ : وإنَّ منكم للذي - أو لفريقاً » واللَّهِ ليبطِّئن .
واستدلَّ
بعضُ النحاةِ بهذه الآيةِ على أنه يجوز وصلُ الموصولِ بجملةِ القسمِِ وجوابِه إذا
عَرِيَتْ جملةُ القسمِ من ضمير عائد على الموصول نحو : « جاء الذي أحلفُ باللَّهِ
لقد قام أبوه » وجَعَلَه ردَّاً على قدماء النحاةِ حيث زعموا منعَ ذلك ، ولا
دَلالةً في ذلك ، إذ لقائلٍ أن يقول : ذلك القسمُ المحذوفُ لا أقدِّرُه إلا
مشتملاً على ضميرٍ عائدٍ الموصول .
والقول الثاني - نقله ابن عطية عن بعضِهم - أنها لام التأكيد بعد تأكيد ، وهذا
خطأُ من قائله . والجمهورُ على « لَيُبَطِّئَنْ » بتشديد الطاء ، ومجاهد بالتخفيف
، وعلى كلتا القراءتين يحتمل أن يكون الفعل لازماً ومتعدياً ، يقال : أَبْطَأَ
وبَطَّأَ بمعنى بَطُؤَ أي : تكاسل وتثبَّط ، فهذان لازمان ، وإنْ قَدَّر أنهما
متعدِّيان فمفعولُهما محذوفٌ أي : ليبطِّئَنْ غيرَه أي : يُثَبِّطه ويُجْبِنُه عن
القتال . و « إذا لم أكن » ظرفٌ ناصبُه « أنعم الله » .
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
قوله
تعالى : { لَيَقُولَنَّ } : الجمهورُ على فتحِ لام « ليقولَنَّ » لأنه فعل مسند
إلى ضميرِ « مَنْ » مبنيُّ على الفتح لأجل نون التوكيد . وقرأ الحسن بضمها ، فأسند
الفعل إلى ضمير « مَنْ » أيضاً لكنْ حملاً له على معناها ، والأصلُ : ليقولونَنَّ
، وقد تقدَّم تصريفه .
قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } هذه « كَأَنْ » المخففةُ من الثقيلة ، وعملُها باقٍ
عند البصريين ، وزعم الكوفيون أنَّها حين تخفيفِها لا تعمل كما لا تعمل « لكن »
مخففةً عند الجمهور ، وإعمالُها عند البصريين غالباً في ضمير الأمرِ والشأنِ وهو
واجبُ الحذفِ ، ولا تعملُ عندَهم في ضميرٍ غيرِه ولا في اسمٍ ظاهرٍ إلا ضرورةً
كقوله :
1605- وصدرٍ مشرقِ النَّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
وقول الآخر :
1606- ويوماً تُوافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٍ تَعْطُوا إلى وارِق
السَّلَمْ
في إحدى الروايات ، وظاهرُ كلام سيبويه أنها تعمل في غير ضمير الشأن في غير
الضرورة ، ونَصُّه يُطالَعُ في كتابه . والجملة المنفية بعدها في محلِّ رفع خبر
لها ، والجملةُ بعدها إن كانت فعلية فَتُتَلَقَّى ب « قدر » كقوله :
1607- لا يَهُولَنْكَ اصطلاُؤكَ للحَرْ ... بِ فمحذورُها كَأَنْ قد أَلَمَّا
أو ب « لم » كهذه الآيةِ ، وقولُه : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } [ يونس : 24 ]
وقد تُلُقِّيَتْ ب « لَمَّا » في قولِ عَمَّارِ الكلبي :
1608- بَدَّدَتْ منها الليالِي شَمْلَهمْ ... فكأنْ لمَّا يكونوا قبلُ ثَمّْ
قال الشيخ : « ويَحْتاج مثلُ هذا إلى سماعٍ من العَرَبِ » وقال ابن عطية : « و »
كَأَنْ « مضمنةٌ معنى التشبيهِ ، ولكنها ليست كالثقيلة في الاحتياجِ إلى الاسمِ
والخبرِ ، وإنما تَجِيءُ بعدَها الجملُ » وظاهرُ هذه العبارة أنها لا تعمل حين
تخفيفِِها ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين لا البصريين ، ويُحْتمل أنه أراد
بذلك أنَّ الجملةَ بعدها لا تتاثرُ بها لفظاً لأنَّ اسمَها محذوفٌ والجملةُ خبرٌ
لها .
وقرأ ابن كثير وحفص « يَكُنْ » بالياءِ ، لأن المودة في معنى الودِّ ، ولأنه قد
فُصِل بينها وبين فِعْلِها ، والباقون بالتاء اعتباراً بلفظِها . و « يكون » تحتمل
أنْ تكونَ تامةً ، فيتعلق الظرفُ بها أو بمحذوف؛ لأنه حالٌ من « مودة » إذ هو في
الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، وأَنْ تكونَ ناقصةً فيتعلَّقُ الظرفُ بمحذوفٍ على
أنه خبرها .
واختلف الناسُ في هذه الجملةِ - على ثلاثةِ أقوال : الأول : أنها لا محلَّ لها من
الإِعراب اعتراضيةٌ ، وعلى هذا فما المُعْتَرَضُ بينهما؟ وجهان الأول منهما : أنها
معترضةٌ بين جملةِ الشرطِ التي هي « فإنْ أصابَتْكم » وبين جملةِ القسم التي هي «
ولَئِنْ أصابَتْكم » والتقديرُ : « فإنْ أصابَتْكم مصيبةٌ قال : قد أَنْعَمَ
اللَّهُ عليَّ إذ لم أَكُنْ معهم شهيداً ، كأَنْ لم تكن بينكم وبينه مودةٌ ،
ولَئِنْ أصابكم فضلٌ ، فأُخِّرت الجملةُ المعتَرضُ بها أعني قولَه : { كَأَن لَّمْ
تَكُنْ بَيْنَكُمْ } والنيةُ بها التوسطُ ، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتريدي .
وردَّ
الراغب الأصبهاني هذا القول بأنه مستقبح / لأنه لا يُفْصَلُ بين بعضِ الجملة وبعضِ
ما يتعلَّق بجملةٍ أخرى . قلت : هذا من الزجاج كأنه تفسير معنى لا إعراب ، يدل على
ذلك ما أذكُره عنه من تفسير الإِعراب . الثاني من الوجهين : أن تكونَ معترضةً بين
القولِ ومفعولِه ، والأصل : « ليقولَنَّ يا ليتني كنتُ معهم كأن لم تَكُنْ » وعلى
هذا أكثر الناس ، ولكن اختلفَتْ عبارتُهم في ذلك ، ولا يظهر المعنى إلا بنقل نصوصِهم
فَلْنَنْقلها . فقال الزمخشري : « اعتراضٌ بين الفعل الذي هو » ليقولَنَّ « وبين
مفعولِه وهو » ياليتني « والمعنى : كأن لم يتقدم له معكم مودةٌ؛ لأن المنافقين
كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائلَ في الباطن ،
والظاهر أنه تهكمُ لأنهم كانوا أَعْدَى عدوٍّ للمؤمنين وأشدَّهم حسداً لهم ، فيكف
يُوصَفُون بالمودةِ إلا على وجه العكس والتهكم؟ » وقال الزجاج : « هذه الجملةُ
اعتراضٌ أخبرَ تعالى بذلك؛ لأنهم كانوا يُوادُّون المؤمنينَ » وقال ابن عطية : «
المنافِقُ يعاطِي المؤمنين المودةَ ويعاهِدُ على التزامِ كلفِ الإِسلام ، ثم
يتخلَّفُ نِفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسولِه ، ثم يتمنَّى عندما ينكشِفُ الغَيْبُ
الظفَر للمؤمنين ، فعلى هذا يجيء قولُه تعالى : { كَأَن لَّمْ تَكُن } التفاتةً
بليغةً واعتراضاً بين القول والمقول بلفظٍ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْحِ فِعْلِهم » .
وقال الرازي : « هو اعتراض في غاية الحسنِ لأنَّ مَنْ أحبَّ إنساناً فَرِحَ لفرحِه
وحزن لحزنه ، فإذا قلب القضية فذلك إظهارٌ للعداوةِ ، فحكى تعالى سرورَ المنافقِ
عند نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يَحْكِي حُزْنَه عند دَوْلِة المسلمين بسببِ
فواتِه الغنيمَةَ ، فَقَبْلَ أن يَذْكُرَ الكلامَ بتمامِه ألقى قوله : » كأن لم
تكن « والمراد التعجب ، كأنه يقول : انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق كَأَنْ لم
تَكُنْ بينكم وبينه مودةٌ ولا مخالطةٌ أصلاً ، والذي حَسَّن الاعتراضَ بهذه الجملة
- وإنْ كان محلُّها التأخيرَ - كونُ ما بعدها فاصلةً وهي ليست بفاصلة » وقال
الفارسي : « هذه الجملة من قولِ المنافقين للذين أَقْعدوهم عن الجهادِ وخَرَجوا هم
كأن لم تكن بينكم وبينه أي وبين الرسول عليه السلام [ مودةٌ ] فيُخْرِجَكم معه
لتأخذوا من الغنيمة ، ليُبْغِضُوا بذلك الرسولَ إليهم » فأعاد الضميرَ في « بينه »
على النبيّ عليه السلام .
وتبع الفارسي في ذلك مقاتلاً ، قال مقاتل : « معناه : كأنه ليس من أهل مِلَّتكم
ولا مودةَ بينكم » يريد أن المبطئَ قال لِمَنْ تخلَّف عن الغزو من المنافقين
وضَعَفَةِ المؤمنين ومَنْ تخلَّف بإذْن : كَأَنْ لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ
فَيُخْرِجْكم إلى الجهادِ فتفوزا بما فاز .
الثاني
: من الأقوال : أنها في محل نصب بالقول ، فيكون تعالى قد حكى بالقول جمليتن :
جملةَ التشبيه وجملة التمني ، وهذا ظاهرٌ على قول مقاتل والفارسي حيث زعما أنَّ
الضمير في « بينه » للرسول عليه السلام .
الثالث : انها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في « ليقولَنَّ » كما
تقول : « مررت بزيدٍ وكأَنْ لم يكنْ بينك وبينه معرفةٌ فضلاً عن مودةٍ » ونُقل هذا
عن الزجاج ، وتبعه أبو البقاء في ذلك . وإنما أطلْتُ النفَسَ في هذه الآيةِ لأني
رأيتُ أقوالَ الناسِ فيها منتشرةً فضَمَمْتُها .
و « يا » فيها قولان أحدُهما : - وهو قولُ الفارسيّ - أنها لمجردِ التنبيه فلا
يُقَدَّر منادى محذوفٌ ، ولذلك باشَرَتِ الحرفَ . والثاني : أن المنادى محذوفٌ
تقديرُه : يا هؤلاء ليتني ، وهذا الخلاف جارٍ فيها إذا باشرت حرفاً أو فعلاً ، كقراءة
الكسائي : « ألا يا اسْجُدوا » وقوله :
1609- ألا يا اسقياني قبل غارةِ سنجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
وقوله :
1610- يا حبَّذا جَبَلُ الريَّانِ من جبلٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
على القول بفعليةِ « حَبَّذا » ولا يُفعل ذلك إلا ب « يا » خاصةً دونَ سائر حروفِ
النداء لأنها أمُّ البابِ ، وقد كَثُرَتْ مباشرتُها ل « ليت » دونَ سائرِ الحروف .
قوله : { فَأَفُوزَ } الجمهور على نصبه في جواب التمني ، والكوفيون يزعمون نصبَه
بالخلاف ، والجَرْميُّ يزعم نصبَه بنفسِ الفاء ، والصحيح الأول ، لأن الفاء
تَعْطِفُ هذا المصدر المؤول مِنْ « أن » والفعلِ على مصدر متوهم ، لأن التقدير :
يا ليت لي كوناً معهم أو مصاحبتَهم ففوزاً ، ولهذه المذاهبِ تصحيحاً وإبطالاً
موضوعٌ غيرُ هذا قد نَبَّهْتُ عليه غيرَ مرةٍ . وقرأ الحسن « فأفوزُ » رفعاً على أحد
وجهين : إمَّا الاستئنافِ أي : فأنا أفوزُ ، أو عطفاً على « كنت » فيكون داخلاً في
حيِّز التمني أيضاً ، فيكون الكون معهم والفوزُ العظيم مُتَمَنَّيْن جميعاً .
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
قوله
تعالى : { الذين يَشْرُونَ الحياة } : فاعل بقوله : { فَلْيُقَاتِلْ } و « يَشْرون
» يحتمل وجهين ، أحدُهما : أن يكون بمعنى يشترون . فإنْ قيل : قد قررت أن الباء
إنما تدخُل على المتروك ، والظاهرُ هنا أنها دَخَلَتْ على المأخوذِ . فالجوابُ :
أنَّ المرادَ بالذين يشترون المنافقون المبطِّئُون عن الجهاد أمَروا بأَنْ
يُغَيِّروا ما بهم من النفاق ، ويُخْلِصوا الإِيمانَ باللَّهِ ورسولِه ، ويجاهدوا
في سبيلِ الله ، فلم تَدْخُلْ إلا على المتروك؛ لأنَّ المنافقين تاركون للآخرة
آخذون للدنيا . والثاني : أنَّ « يشرون » بمعنى يَبيعون ، ويكون المرادَ بالذين
يَشْرُون : المؤمنون المتخلفون عن الجهاد المُؤْثِرون الآجلةَ على العاجلة ،
ونظيرُ هذه الآية في كون « شرى » تحتمل الاشتراء والبيع باعتبارين قوله تعالى : {
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] وسيأتي . وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا
في أول البقرة .
والجمهورُ على سكون لام « فَلْيقاتل » لأنها وقعت بعد الفاء فأشبهت اللفظة كتفاً .
وقُرئ بكسرها وهو الأصل . والجمهور على بناء « فيُقْتل » للمفعول ، ومحارب بن دثار
ببنائه للفاعل ، والأول أظهرُ ، لقوله : « أو يَغْلِب » ويُقْتَلْ « ويُغْلِب »
عطفٌ على الشرط ، والفاء في « فسوف » جوابه ، لا يجوز حذفها . والمشهورُ إظهار هذه
الباء عند الفاء ، وأدغمها أبو عمرو والكسائي وهشام وخَلاَّد بخلاف عنه . والجمهور
على « نُؤْتيه » بنون العظمة ، وطلحة بن مصرف والأعمش بياء الغيبة ، وهما ظاهرتان
.
وقدَّم قولَه : { فَيُقْتَلْ } لأنها درجةُ شهادة وهي أعظمُ من غيرها ، وثَنَّى
بالغَلَبة وهي تشمل نوعين : قتلَ أعداءِ الله والظفرَ بالغنيمة ، والأولى أعظمُ من
الثانية .
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
قوله
تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ } : هذا استفهامٌ يُراد به التحريضُ
والأمرُ بالجهاد . و « ما » مبتدأٌ ، « و » لكم « خبرُه ، أي : أيُّ شيء استقرَّ
لكم . وجملةُ قولِه » لا تقاتلون « فيها وجهان ، أظهرهما : أنها في محلِّ نصبٍ على
الحال أي : ما لكم غيرَ مقاتلين ، أَنْكَرَ عليهم أن يكونوا على غير هذه الحالة ،
وقد صَرَّح بالحال بعد هذا التركيب في قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة
مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وقالوا في مثل هذه الحال : إنها لازمةٌ / لأنَّ
الكلامَ لايتم دونها ، وفيه نظر . والعاملُ في هذه الحال الاستقرارُ المقدَّر
كقولِك : ما لك ضاحكاً؟ والوجه الثاني : أن الأصل : » وما لكم في ألا تقتلوا «
فَحُذِفَتْ » في « فبقي » أَنْ لا تقاتلوا « فجرى فيها الخلافُ المشهور ، ثم
حُذِفَتْ » أَنْ « الناصبة فارتفع الفعل بعدها كقولهم : » تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيّ
خيرٌ من أن تراه « وقوله :
1611- ألا أيُّهذا الزاجري أحضُرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في إحدى الروايتين ، وهذا يؤيد كونَ الحالِ ليس بلازمةٍ .
قوله : { والمستضعفين } فيه ثلاثة أوجه . أظهرُها : أنه مجرورٌ عطفاً على اسم الله
تعالى أي : وفي سبيل المستضعفين . والثاني : وإليه ذهبَ الزجاج والمبرد أن يكونَ
مجرواً عطفاً على نفس » سبيل « . قال أبو البقاء بعد أَنْ حكاه عن المبرد وحده : »
وليس بشيء « كأنه لم يظهر لأبي البقاء وجهُ ذلك ، ووجهُ أنَّ تقديرَه : » وفي خلاص
المستضعفين « والثالث وإليه ذهب الزمخشري : أن يكونَ منصوباً على الاختصاص تقديره
: وأَخُصُّ من سبيلِ الله خلاصَ المستضعفين ، لأنَّ سبيلَ اللَّهِ عامٌّ في كلِّ
خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخيور . والجمهورُ
على » والمستضعفين « بواو العطف ، وقرأ ابن شهاب : » في سبيل الله المستضعفين «
وفيها تخريجان ، أحدُهما : أن يكونَ حرفُ العطف مقدراً كقولهم : » أكلت لحماً
تمراً سمكاً « والثاني : أن يكونَ بدلاً من » سبيل الله « أي : في سبيلِ الله
سبيلِ المستضعفين ، لأنَّ سبيلَهم سبيلُ الله تعالى .
قوله : { مِنَ الرجال } فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من المستضعفين .
والثاني : أنَّ » مِنْ « لبيان الجنس ، والوِلْدان قيل : جمع » وليد « وقيل : جمع
وَلَد ، كوَرَل ووِرْلان . والمراد بهم : الصبيان وقيل : العبيد والإِماء ، يقال
للعبد » وليد « وللأمة » وليدة « ، فغلَّب المذكر على المؤنث لأندارجِه فيه . و »
الذين يقولون « فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ مجروراً على أنه صفةٌ : إمَّا
للمستضعفين وإمَّا للرجال ومَنْ بعدَهم ، وغَلَّب المذكرَ على المؤنث . وقال أبو
البقاء » الذين يقولون « في موضع جر صفةً لِمَنْ عقل من المذكورين » كأنه تَوَهَّم
أن الوِلْدان [ هم ] الصبيانُ ، والصبيانُ لا يَعْقِلون ، فَجَعَله نعتاً لِمَنْ
عقل من المذكورين وهم الرجال والنساء دونَ الوِلْدان ، لأنَّ جَمْعَ السلامة في
المذكَّر يُشْترط فيه العقلُ ، « والذين » جارٍ مجراه ، وهذه غَفْلةٌ؛ لأنَّ مرادَ
النَّحْويين بالعاقلِ ما كان من جنس العقلاء وإنْ كان مسلوبَ العقلِ ، ويَدُلُّ
عليه قولُه تعالى :
{
أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] فالمرادُ هنا بالطفل الصبيانُ
الصغار ، ومع ذلك وَصَفَهم بالذين . والثاني : أن يكونَ منصوباً على الاختصاص .
قوله : { الظالم أَهْلُهَا } « الظالم » صفةٌ للقرية ، و « أهلُها » مرفوعٌ به على
الفاعلية . و « أل » في « الظالم » موصولةٌ بمعنى التي ، أي : التي ظَلَم أهلها .
فالظلمُ جارٍ على القرية لفظاً وهو لِما بعدها معنى ، ومثلُه : « مَرَرْتُ برجلٍ
حسن غلامُه » قال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ ذكَّر » الظالم « وموصوفُه مؤنثٌ؟
قلت : هو وصفٌ للقرية إلا أنه مستندٌ إلى أهلها فأُعْطِي إعرابَ » القرية « لأنه
صفتها وذُكِّر لإِسنادِه إلى الأهل ، كما تقول : مِنْ هذه القريةِ التي ظَلَم
أهلُها ، ولو أُنِّث فقيل : » الظالمةُ أهلُها « لجازَ ، لا لتأنيثِ الموصوفِ ، بل
لأن الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ . فإن قلت : هل يجوزُ : مِنْ هذه القريةِ الظالمين
أهلُها؟ قلت : نَعَمْ كما [ تقول ] : » التي ظَلَموا أهلها « على لغة » أكلوني
البراغيث « ومنه : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] .
انتهى وهذه قاعدةٌ كلية : أنَّ الصفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هي له سواءً كانت
خبراً أم نعتاً أم حالاً يُنْعَتُ ما قبلَها في اثنين من خمسة : واحدٍ من ألقاب
الإِعراب ، وواحد من التنكير والتعريفِ ، وأمَّا بالنسبةِ إلى التذكير والتأنيث
والإِفراد وضدَّيه فيُحْسَبُ المرفوعُ بها كالفعل ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ
مرة . ويجبُ أيضاً إبرازُ الضميرِ منها مطلقاً أعني سواءً أَلْبس أم لم يُلْبِس
وأمَّا إذا كان المرفوعُ بها اسماً ظاهراً فلا حاجةَ إلى رَفْعها الضميرَ ، إلا
أنه لا بد من راجعٍ يرجِع إلى الاسمِ الموصوف بها لفظاً كهذه الآية . وقد أوضحتُ
ذلك وَبيَّنْتُه في هذا الكتاب وفي شرحي للتسهيل ، وهذا بخلافِ الفعلِ إذا وُصِف
به أو أُخْبر به أو وقع حالاً لشيء لفظاً وهو لغيره معنى ، فإن الضميرَ لا
يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ نحو : » زيدٌ هندٌ يضرُبها « و » هند زيدٌ تضربه « عن
غيرِ ضميرٍ بارز لقوة الفعل وضَعْفِ الاسم في العمل ، وسواءً لم يُلْبِس كما
تقدَّم تمثيله أو أَلْبس نحو : » زيدٌ عمروٌ يضربه « إذا قَصَدْتَ أن زيداً هو
الضاربُ لعمرو ، هذا مقتضى مذهبِ البصريينَ ، نصَّ عليه مكي وغيره ، إلا أنَّه قال
قبل ذلك : » إلا أنَّ اسم الفاعل إذا كان خبراً أو صفة أو حالاً لغير مَنْ هو له
لم يَسْتَتِرْ فيه ضميرٌ ولا بد من إظهاره ، وكذلك إنْ عُطِف على غير مَنْ هو له «
قلت : هذه الزيادةُ لم يذكرها النحوييون وتمثيلُها عَسِرٌ . وأمَّا ابنُ مالك فإنه
سَوَّى بين الفعل والوصف ، يعني إنْ أَلْبس وجب الإِبرازُ حتى في الفعل نحو : »
زيدٌ عَمْروٌ يضربه هو « وإن لم يُلْبِس جاز نحو : » زيد هند يضربها « وهذا مقتضى
مذهبِ الكوفيين فإنهم عَلَّلوا باللبس ، وفي الجملة ففي المسألة خلافٌ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
قوله
تعالى : { إِذَا فَرِيقٌ } : « إذا » هنا فجائية ، وقد تقدم أن فيها ثلاثةَ مذاهب
، أحدها- وهو الأصح : أنها ظرف مكان ، والثاني : انها زمان ، والثالث : أنها حرفٌ
، ولهذه المذاهبِ موضوعٌ غير هذا ، وقد قيل في « إذا » هذه إنها فجائية مكانية ،
وأنها جواب ل « لَمَّا » في قوله { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ } ، وعلى هذا ففيها
وجهان ، أحدهما : أنها خبر مقدم ، و « فريق » مبتدأ و « منهم » صفةٌ ل « فريق » ،
وكذلك « يَخْشَون » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « يخشون » حالاً من « فريق » لاختصاصِه
بالوصفِ ، والتقديرُ : « فبالحضرةِ فريقٌ كائنٌ منهم خاشون أو خاشين » . والثاني :
أن يكونَ « فريقٌ » مبتدأً ، و « منهم » صفتَه « وهو المسوِّغُ للابتداءِ به ، و »
يَخْشَوْن « جملةٌ خبريةٌ وهو العاملُ في » إذا « ، وعلى القولِ الأول العاملُ
فيها محذوفٌ على قاعدِة الظروف الواقعةِ خبراً . وقيل : إنها هنا ظرفُ زمانٍ ،
وهذا فاسدٌ؛ لأنها إذ ذاك لا بد لها مِنْ عاملٍ ، وعاملُها إمَّا ما قبلها وإمَّا
ما بعدها ، لا جائز أن يكون ما قبلها ، لأن ما قبلها وهو » كُتب « ماض لفظاً ومعنى
وهي للاستقبال ، فاستحال ذلك . فإن قيل : تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى » إذ « قيل
: لا يجوز ذلك لأنه يَصيرُ التقدير : فلمَّا كُتِب عليهم القتال في وقتِ خشيةِ
فريقٍ منهم ، وهذا يفتقرُ إلى جواب » لَمَّا « ولا جوابَ لها ، ولا جائزٌ أن يكونَ
ما بعدها؛ لأنَّ العاملَ فيها إذا كان بعدها كان جواباً لها ، ولا جوابَ لها هنا ،
وكان قد تقدَّم أولَ البقرة أنَّ في » لَمَّا « قولين / قولَ سيبويه : إنها حرف
وجوب لوجوب ، وقولَ الفارسي : إنها ظرفُ زمانٍ بمعنى » حين « وتقدَّم الردُّ عليه
هناك بأنها أُجيبت ب » ما « النافيةِ وإذا الفجائيةِ ، وأنَّ ما بعدها لا يعمل
فيها قبلها فَأَغْنى عن إعادتهِ ، ولا يجوزُ أن يَعمل ما يليها فيها؛ لأنه في
محلِّ خفض بالإِضافة على زَعْمِه والمضافُ إليه لا يعمل في المضاف . وقد أجابَ
بعضُهم بأنَّ العاملَ فيها هنا معنى » يَخْشَوْن « كأنه قيل : جَزِعوا ، قال : »
وجَزعوا هو العاملُ في « إذا » وهذه الآيةُ مشكلةٌ؛ لأنَّ فيها ظرفين أحدُهما لِما
مضى والآخرُ لِما يُسْتقبل « . انتهى .
قوله : { كَخَشْيَةِ الله } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها وهو المشهور عند المُعْربين :
انها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : خشيةً كخشية الله . والثاني وهو المقرر من مذهب
سيبويه غيرَ مرة : أنها في محل نصب على الحال من ضمير الخشية المحذوف أي : يخشونها
الناسَ ، أي : يخشون الخشيةَ الناسَ مشبهةً خشيةَ الله .
والثالث
: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضمير في « يَخْشَوْن » أي : يَخْشَون الناسَ
مثلَ أهل خشية الله أي : مشبهين لأهل خشية الله أو أشدَّ خشية أي : أشدَّ خشيةً من
أهل خشية الله . و « اشدَّ » معطوف على الحال ، قاله الزمخشري . ثم قال : « فإنْ
قلت : لِمَ عَدَلْتَ عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدِّرْه : يَخْشَوْن خشيةً
[ مثل خشية ] الله بمعنى : مثلَ ما يخشى الله . قلت : أَبَى ذلك قولُه { أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً } ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حكمٍ واحدٍ ، ولو قلت : » يخشون
الناسَ أشدَّ خشيةً « لم يكن إلا حالاً من ضميرِ الفريقِ ، ولم ينتصِبْ انتصابَ
المصدر لأنك لا تقول : » خَشِي فلانٌ أشدَّ خشيةً « فتنصِبُ » خشية « وأنت تريد
المصدر ، إنما تقول » أشدَّ خشيةٍ « فتجرُّها ، وإذا نَصَبْتَها لم يكن » أشدَّ
خشيةً « إلا عبارةً عن الفاعلِ حالاً منه ، اللهم إلا أن تَجْعَلَ الخشيةَ خاشيةً
على حدِّ قولِهم : » جَدَّ جَدُّه « فتزعم أنَّ معناه : يخشون الناسَ خشيةً مثل
خشيةٍ أشدَّ خشيةً من خشية الله ، ويجوز على هذا أن يكونَ محلُّ » أشدُّ « مجروراً
عطفاً على » خشية الله « تريد كشخية الله أو كشخيةٍ أشدَّ منها » . انتهى .
ويجوز نصبُ « خشيةً » على وجه آخر وهو العطف على محل الكاف ، وينتصب « أشدَّ »
حينئذ على الحال من « خشية » لأنه في الأصلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، والأصل :
يخشون الناسَ مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ منها . فلا ينتصب « خشية » تمييزاً
حتى يلزم منه ما ذكره الزمخشري ويُعْتذر عنه ، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا عند قوله {
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] . والمصدرُ مضاف إلى المفعول والفاعل
محذوف أي : كخشيتهم اللَّهَ . و « أو » تحتمل الأوجه المذكورة في قوله : { أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، ويجوز أن تكونَ للتنويع : يعني أن منهم مَنْ
يخشاهم كخشية الله ، ومنهم مَنْ يخشاهم أشدَّ خشية من خشية الله . و « لولا
أخَّرْتَنا » « لولا » تحضيضةٌ . وقرأ ابن كثير والأخَوان : « لا يُظْلَمون »
بالغيبة جرياً على الغائبين قبله ، والباقون بالخطاب التفاتاً . و « فَتيلاً » قد
تقدَّم إعرابُه .
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
قوله
تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } : « أين » اسم شرط يجزم فعلين و « ما » زائدة
على سبيل الجواز مؤكدةٌ لها ، و « أين » ظرف مكان و « تكونوا » مجزومٌ بها ، و «
يُدْرِكْكم » جوابُه . والجمهورُ على جزمه؛ لأنه جواب الشرط ، وطلحة بن سليمان : «
يدرِكُكم » برفعه ، فخرَّجه المبرد على حَذْفِ الفاء أي : فيدرككم الموت . ومثلُه
قولُ الآخر :
1612- يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ ... إنك إنْ يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
وهذا تخريج المبرد ، وسيبويه يزعم أنه ليس بجواب ، إنما هو دالٌّ على الجواب
والنيةُ به التقديمُ . وفي البيت تخريجٌ آخر وهو أن يكون « يصرعُ » المرفوعُ خبراً
ل « إنك » والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابُه ما دَلَّ عليه قوله « إنك تُصْرَعُ »
كقوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] وخَرَّجه
الزمخشري على التوهَّم فإنه قال : « ويجوز أن يقال : حُمِل على ما يقع موقعَ »
أينما تكونوا « وهو » أينما كنتم « كما حُمِل » ولا ناعبٍ « على ما يقع موقع ليسوا
مصلحين وهو » ليسوا بمصلحين « فرَفَع كما رفع زهير :
1613 . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وهو قولُ نحويّ سِيبيّ ، يعني منسوب لسيبويه ، فكأنه قال : » أينما كنتم « وفعلُ
الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير :
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ . . . . . . . . . . . . . . .
وفي رفعه الوجهان المذكوران عن سيبويه والمبرد . ورَدَّ عليه الشيخ بأن العطفَ على
التوهم لا ينقاس ، ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حذف جواب الشرط ، ولا يُحْذَفُ إلا إذا
كان فعل الشرط ماضياً ، لو قلت : » أنت ظالمُ إنْ تفعل « لم يجز . وهذا كما رأيتَ
مضارعٌ . وفي هذا الردِّ نظرٌ لا يَخْفَى .
» ولو كنتم « قالوا : هي بمعنى » إنْ « وجوابُها محذوف أي : لأدرككم . وذكر
الزمخشري فيه قولاً غريباً من عند نفسِه فقال : » ويجوزُ أن يتصل بقوله { وَلاَ
تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا تُنقَضون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجالكم أينما
تكونوا في ملاحمِ حروب أو غيرها ، ثم ابتدأ بقوله : { يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ
كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ، والوقف على هذا الوجه [ على ] « أينما
تكونوا » . انتهى . وردَّ عليه الشيخ فقال : « هذا تخريجُ ليس بمستقيمٍ لا من حيث
المعنى ولا من حيث الصناعة النحوية : أمَّا من حيث المعنى فإنه لا يناسِبُ أن يكون
متصلاً بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } لأنَّ انتفاءَ الظلم ظاهراً إنما
هو في الآخرة لقوله : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى
} وأما من حيث الصناعةُ النحوية فإنَّ ظاهرَ كلامِه يَدُلُّ على أن » أينما تكونوا
« متعلقٌ بقولِه : { ولا تُظْلمون } بمعنى ما فَسَّره ، وهذا لا يجوز لأن أسماءَ
الشرط لها صدرُ الكلام فلا يتقدَّم عامُلها عليها ، فإنْ وَرَدَ مثلُ : » اضربْ
زيداً متى جاء « قُدِّر له عاملٌ يدلُّ عليه » اضرب « لا نفسُ » اضرب « المتقدم .
فإن
قيل : فكذلك يُقَدِّر الزمخشري عاملاً يدلُّ عليه « ولا تُظْلمون » تقديره : «
أينما تكونوا فلا تظلمون » فحذف « فلا تظلمون » لدلالةِ ما قبله عليه ، فيخلُصُ من
الإِشكال المذكور . قيل : لا يمكن ذلك لأنه حينئذ يُحذف جواب الشرط وفعلُ الشرط
مضارع ، وقد تقدم أنه لايكون إلا ماضياً « وفي هذا الردِّ نظرٌ ، لأنه أراد تفسير
المعنى . قوله : » ولا يناسب أن يكون متصلاً بقوله : « ولا تظلمون » ممنوعُ ، بل
هو مناسب ، وقد أوضحه الزمخشري بما تقدَّم أحسنَ إيضاح .
والجملة الامتناعية في محلِّ نصب على الحال أي : أينما تكونوا من الأمكنة يدركْكم
الموت ، ولو كانت حالُكم أنكم في هذه البروج فيُفْهَمُ أن إداركَه لهم في غيرها
بطريق الأَوْلى والأَحْرى ، وقريبٌ منه : « أعطُوا السائل ولو على فرسٍ » والجملةُ
الشرطية تحتمل وجهين ، أحدهما : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافُ
إخبارٍ ، أخبر تعالى أنه لا يفوتُ الموتَ أحدٌ ومنه قولُ زهير :
1614 ومَنْ هابَ أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ... ولو رامَ أسباب السماء بسُلَّمِ
والثاني : أنها في محل نصب بالقول قبلها / أي : قُلْ متاعُ الدنيا قليل ، وقل
أيضاً : أينما تكونوا .
والجمهور على « مُشَيَّدة » بفتح الياء اسم مفعول . ونعيم بن ميسرة بكسرها ، نسَبَ
الفعلَ إليها مجازاً كقولهم : « قصيدةٌ شاعرة » ، والموصوفُ بذلك أهلُها ، وإنما
عَدَلَ إلى ذلك مبالغةً في الوصف .
والبُروج : الحصونُ مأخوذةٌ من « التبرُّج » وهو الإِظهارُ ، ومنه : { غَيْرَ
مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ] ، والبَرَجُ في العين سَعَتُها ، ومنه
قولُ ذي الرمة :
1615 بيضاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في غَنجٍ ... كأنَّها فِضةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
وقولهم : « ثوبٌ مُبَرَّجٌ » أي : عليه صورُ البروج كقولهم : « مِرْطٌ مُرَجَّل »
أي : عليه صورُ الرجال ، يروى بالجيم والحاء . والمشيَّدة : المصنوعة بالشِّيد وهو
الجِصُّ ، ويقال : « شاد البناء وشَيَّده » كَرَّرالعين للتكثير . ومن مجيء « شاد
» قولُ الأسود :
1616 شادَه مرمراً وجَلَّله كِلْ ... سَاً فللطير في ذُراه وكُورُ
ويقال : « أشاد » أيضاً فيكون فَعَل وأَفْعل بمعنى .
ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على « ما » في قوله « فما لهؤلاء » وفي قوله : {
مَالِ هذا الرسول } [ الفرقان : 7 ] وفي قوله : { مَالِ هذا الكتاب } [ الكهف : 49
] ، وفي قوله : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المعارج : 36 ] . والباقون على
اللام التي للجرِّ دون مجرورها إتباعاً للرسم ، وهذا ينبغي أن لا يجوز أعني الوقفين
لأنَّ الأول يُوقف فيه على المبتدأ دونَ خبرِه ، والثاني يُوقف فيه على حرفِ
الجَرِّ دونَ مجرورِه ، وإنما يجوزُ ذلك لضرورة قطعِ النفَس أو ابتلاءٍ .
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
قوله
تعالى : { َمَّآ أَصَابَك } : في « ما » هذه قولان ، أحدهما : أنها شرطيةٌ وهو قول
أبي البقاء وضَعَّف أن تكونَ موصولةً قال : « ولا يَحْسُن أن تكونَ بمعنى الذي؛
لأنَّ ذلك يقتضي أن يكون المصيبُ لهم ماضياً مخصَّصاً ، والمعنى على العمومِ
والشرطيةُ أشبهُ ، والمرادُ بالآيةِ الخِصْب والجَدْب ولذلك لم يَقُلْ : ما أصبت »
، انتهى . يعني أنَّ بعضَهم يقول : إنَّ المرادَ بالحسنة الطاعةُ وبالسيئةِ
المعصيةُ ، ولو كان هذا مراداً لقال : « ما أصَبْتَ » لأنه الفاعلُ للحسنةِ والسيئة
جميعاً ، فلا تضاف إليه إلا بفعلِه لهما . والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي
وإليه ذهب مكي ، ومَنَع أن تكونَ شرطية قال : « وليسَتْ للشرطِ لأنها نزلت في شيءٍ
بعينه وهو الجّدْب والخِصْب والشرطُ لا يكون إلا مبهماً ، يجوزُ أَنْ يقع وألاَّ
يقعَ ، وإنما دخلت الفاءُ للإِبهام الذي في » الذي « مع أن صلتَه فعلٌ ، فدلَّ ذلك
على أنَّ الآيةَ ليست في المعاصي والطاعات كما قال أهلُ الزَّيْغ ، وأيضاً فإنَّ
اللفظَ » ما أصابَك « ولم يقل » ما أَصَبْتَ « انتهى . والأولُ أظهرُ؛ لأنَّ
الشرطيةَ أصلٌ في الإِبهام - كما ذكر أبو البقاء - والموصولةُ فبالحمل عليها .
وقولُ مكيّ : » لأنها نَزَلَتْ في شيء بعينه « هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ
بالشرطِ؛ لأنه لا يُشَبَّه به حتى يرادَ به الإِبهامُ لا شيءَ بعينه ، وإلاَّ فمتى
أُريد به شيءٌ بعينه لم يُشَبَّه بالشرط فلم تَدْخُلِ الفاءُ في خبره ، نَصَّ
النحويون على ذلك ، وفي المسألةِ خلافٌ منتشر ، ليس هذا موضعَه . فعلى الأول »
أصابَك « في محلِّ جزم بالشرط ، وعلى الثاني لا مَحَلَّ له لأنه صلة .
و » من حسنةٍ « الكلامُ فيه كالكلامِ في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [
البقرة : 106 ] وقد تقدَّم والفاءُ في » فَمِنَ الله « جوابُ الشرط على الأولِ
وزائدةٌ على الثاني ، والجارُّ بعدها خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه : فهو من الله ،
والجملةُ : إمَّا في محلِّ جزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ القولين . واخُتِلفَ في كافِ
الخطاب : فقيل : المرادُ كلُّ أحدٍ ، وقيل : الرسول والمرادُ أمتُه : وقيل :
الفريقُ في قولِه » إذا فريقٌ « وذلك لأن » فريقاً « اسمُ جمعٍ فله لفظٌ ومعنىً ،
فراعَى لفظَه فَأَفْرَدَ ، كقوله :
1617 تفرَّق أهلانا بِبَيْنٍ فمنهمُ ... فريقٌ أقامَ واستقلَّ فريقُ
وقيل في قوله { فَمِن نَّفْسِكَ } : إنَّ همزةَ الاستفهام محذوفةٌ تقديرُه :
أفمِنْ نفسِك ، وهو كثير كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا } [
الشعراء : 22 ] وقوله تعالى : { بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ]
ومنه :
1618 رَفَوْني وقالوا : يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ ... فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ
هُمُ
وقوله :
1619 أفرحُ أَنْ أُرْزَأ الكرامَ وأنْ ... أُورَثَ ذَوْدَاً شَصائِصاً نَبْلاً
تقديره : وأتلك ، وأهذا ربي ، وأهمُ هُم ، وأأفرحُ » وهذا لم يُجِزْه من النحاة
إلا الأخفشُ ، وأمَّا غيره فلم يُجِزْه إلا قبل « أم » كقوله :
1620
لَعَمْرُكَ ما أدري وإنْ كنت؟ُ دارِياً ... بسبعِ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمانِ
وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدر أي : لا يكادونَ يَفْقهون حديثاً يقولون : ما أصابك .
وقرأت عائشة : « فَمَنْ نفسُك » بفتح ميم « من » ورفع السين ، على الابتداء والخبر
، أي : أيُّ شيءٍ نفسُك حتى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ قوله : « رسولاً فيه وجهان ،
أحدهما : أنه حال مؤكدة والثاني : أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال ، ومن مجيء » رسول
« مصدراً قوله :
1621 لقد كَذَبَ الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بِسِرِّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ
أي بإرسال ، بمعنى رسالة . و » للناس « يتعلق ب » أرسلناك « واللام للعلة . وأجاز
أبو البقاء أن يكونَ حالاً من » رسولاً « كأنه جَعَله في الأصل صفةً للنكرة
فَقُدِّم عليها ، وفيه نظر .
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
و { حَفِيظاً } : حال من كاف « أرسلناك » و « عليهم » متعلق ب « حفيظاً » وأجاز فيه أبو البقاء ما تقدم في « للناس » .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
قوله تعالى : { طَاعَةٌ } : في رفعِه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : « أمرنا طاعةٌ » ولا يجوز إظهارُ هذا المبتدأ لأن الخبر مصدر بدلٌ من اللفظ بفعلِه . والثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوف أي : مِنَّا طاعة ، أو : عندنا طاعةٌ . قال مكي : « ويجوز في الكلامِ النصبُ على المصدر » . وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء « بَيَّت » في طاء « طائفة » لتقارُبِهما ، ولم يَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيث لكونه مجازياً . و « منهم » صفةٌ ل « طائفة » ، والضمير في « تقول » يحتمل أن يكون ضمير خطاب للرسول عليه السلام أي : غيرَ الذي تقول وترسم به يا محمد . ويؤيِّده قراءة عبد الله : « بَيَّتَ مُبَيِّتٌ منهم » وأن يكونَ ضميرَ غَيْبة للطائفة أي : تقول هي . وقرأ يحيى ابن يعمر : « يقول » بياء الغيبة ، فيحتمل أن يعود الضميرُ على الرسول بالمعنى المتقدم ، وأن يعود على الطائفة . ولم يؤنث الضميرَ لأن الطائفة في معنى الفريق والقوم . و « ما » في « ما يبيِّتون » يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفة أو مصدرية .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
وقرأ ابن محيصن : { يَتَدَبَّرُونَ } : بإدغام التاء في الدال ، والأصل : يَتَدبرون [ وهي مخالفةٌ للسواد ] ، والضميرُ من « فيه » يُحتمل أن يعودَ على القرآن وهو الظاهر ، وأن يعود على ما يخبره الله تعالى به ممَّا يُبَيِّتون ويُسِرُّون ، يعني أنه يخبرهم به على حَدِّ ما يقع .
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
قوله
تعالى : { أَذَاعُواْ بِهِ } : جواب إذا ، وعَيْنُ أذاع ياء لقولهم : ذاع الشيءَ
يذِيع ، ويُقال : أذاع الشيء أيضاً بمعنى المجرد ، ويكونُ متعدياً بنفسه وبالباء ،
وعليه الآيةُ الكريمة ، وقيل : ضَمَّن « أذاع » معنى « تَحَدَّثَ » فَعدَّاه
تعديتَه أي : تحدَّثوا به مذيعين له . والإِذاعة : الإِشاعةُ ، قال أبو الأسود :
1622- أذاعُوا به في الناسِ حتى كأنه ... بِعَلْياءِ نار أُوقِدَتْ بثَقُوب
والضميرُ في « به » يجوزُ أن يعودَ على الأمر ، وأن يعودَ على الأمن أو الخوفِ؛
لأنَّ العطفَ ب « أو » ، والضميرُ في « رَدُّوه » للأمر فقط . والاستنباط :
الاستخراج ، وكذا الإِنباط قال :
1623- نَعَمْ صادقاً والفاعلُ القائلُ الذي ... إذا قال قَوْلاً أنبطَ الماءَ في
الثَّرى
/ ويقال : نَبَطَ الماءُ يَنْبطُ بفتحِ الباءِ وضَمِّها ، والنَّبَط : الماءُ الذي
يَخْرج من البئرِ أولَ حَفْرِها . والنَّبَط أيضاً « جيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك
لأنهم يستخرجون المياه والنبات . ويقال في الرجل الذي يكون بعيد العِزِّ والمنعة :
» ما يَجِدُ عدوُّه له نَبَطاً « قال كعب :
1624- قريبٌ ثَراه ما ينال عدوُّه ... له نَبَطاً ، آبيْ الهوانِ قَطُوبُ
و » منهم « حال : إمَّا من الذين ، أو من الضمير في » يستنبطونه « فيتعلق بمحذوف .
وقرأ أبو السمَّال : » لَعَلْمه « بسكون اللام ، قال ابن عطية : » هو كتسكين {
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] . وليس مثله؛ لأن تسكين فَعِل بكسر
العين مقيسٌ ، وتسكينَ مفتوحِها شاذٌّ ، ومثلُ تسكين « لَعَلْمه » قوله :
1625- فإنْ تَبْلُه يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ ... من الأُدْمِ دُبْرَتْ
صَفْحَتاه وغارِبُه
أي : دَبِرت ، فسكَّن .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه عشرةُ أوجه ، أحدها : أنه مستثنى من فاعل «
اتَّبعتم » أي : لاتبعتم الشيطانَ إلا قليلاً منكم ، فإنه لم يَتَّبع الشيطان ،
على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه ، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صلى الله
عليه وسلم ، وذلك القليلُ كقِسِّ بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن
نوفل ، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول . وقيل : المرادُ مَنْ لم يبلغ
التكليفَ ، وعلى هذا التأويل قيل : فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت
الخطاب ، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر . الثاني : أنه مستثنى من فاعل « أذاعوا »
أي : أظهروا أمرَ الأمن او الخوف إلا قليلاً . الثالث : أنه مستثنى من فاعل «
عَلِمه » أي : لعلمه المستنبطون منهم إلا قليلاً . الرابع : أنه مستثنى من فاعل «
لوجدوا » أي لوجدوا فيما هو من غير الله التناقضَ إلا قليلاً منهم ، وهو مَنْ لم
يُمْعِنِ النظرَ ، فيظنَّ الباطلَ حقاً والمتناقضَ موافقاً . الخامس : أنه مستثنى
من الضمير المجرور في « عليكم » وتأويلُه كتأويل الوجه الأول .
السادس : أنه مستنثى من فاعل « يستنبطونه » وتأويله كتأويل الوجه الثالث . السابع : أنه مستثنى من المصدر الدالِّ عليه الفعلُ ، والتقدير : لاتَبَعْتُمْ الشيطانَ إلا اتباعاً قليلاً ، ذكر ذلك الزمخشري . الثامن : أنه مستثنى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من الأمور ، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها ، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ ، ذكر ذلك ابن عطية ، إلا أنَّ في كلامِه مناقشةً وهو أنه قال « أي : لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها » فجعله هنا مستثنى من المتَّبعِ فيه المحذوف على ما تقدم تقريره ، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الإتِّباع ، فتقديرُه يؤدي إلى استثنائِه من المتَّبع فيه ، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع ، وهما غَيْران . التاسع : أن المراد بالقلة العدمُ ، يريد : لاتبعتم الشيطان كلكم وعدم تخلُّفِ أحدٍ منكم ، نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطبري ، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها ، قال : « وهذا كلامٌ قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : » هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا « أي لا تنبت شيئاً . وهذا الذي قاله صحيح ، إلا أنه كان تقدم له في البقرة في قوله تعالى { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] أن التقليل هنا بمعنى العدم ، وتقدَّم الردُّ عليه هناك فَتَنَبَّهَ لهذا المعنى هنا ولم يتنبهْ له هناك . العاشر : أن المخاطبَ بقوله » لاتبعتم « جميعُ الناس على العموم ، والمرادُ بالقليلِ أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وأيَّد صاحبُ هذا القولِ قولَه بقولِه عليه السلام » ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالرَّقْمة البيضاء في الثور الأسود « .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
قوله
تعالى : { فَقَاتِلْ } : في هذه الفاءِ خمسةُ أوجه ، أحدها : أنها عاطفةٌ هذه
الجملةَ على جملةِ قوله { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } [ النساء : 74 ] .
الثاني : أنها عاطفتها على جملةِ قوله { فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان } [ النساء :
76 ] . الثالث : أنها عاطفتها على جملة قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ }
[ النساء : 75 ] . الرابع : أنها عاطفتها على جملة قوله { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 74 ] . الخامس : أنها جوابُ شرط مقدر أي : إنْ أردت
فقاتِل ، وأولُ هذه الأقوال هو الأظهر .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } في هذه الجملة قولان ، أحدهما : أنها في
محلِّ نصب على الحال من فاعل « فقاتِلْ » أي : فقاتِلْ غيرَ مُكَلِّفٍ إلا نفسَك
وحدَها . والثاني : أنها مستأنفة أخبره تعالى أنه لايكلِف غيرَ نفسه . والجمهور
على « تُكَلَّفُ » بتاء الخطاب ورفع الفعل مبنياً للمفعول ، و « نفسَك » هو
المفعول الثاني . وقرأ عبد الله بن عمر : « لا تُكَلِّفْ » كالجماعة إلا أنه جزمه
، فقيل : على جواب الأمر ، وفيه نظر ، والذي ينبغي أن يكون نهياً . وهي جملة
مستأنفة . ولا يجوز أن تكون حالاً في قراءة عبد الله؛ لأنَّ الطلب لا يكون حالاً .
وقرئ « لا نُكَلِّف » بنون العظمة ورفعِ الفعل وهو يحتمل الحال والاستئناف
المتقدمين .
والتحريض : الحَثُّ على الشيءِ ، قال الراغب : « كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَضْ
نحو : » قَذِّيْتُه « أي : أزلت قذاه ، وأَحْرضته : أَفْسَدْتُه كأقذيته أي :
جَعَلْتُ فيه القذى ، والحَرَضُ في الأصل ما لا يُعْتَدُّ به ولا خير فيه ، ولذلك
يقال للمشرف على الهلاك : » حَرَض « قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف :
85 ] وأَحْرَضَه كذا ، قال :
1626- إني امرؤٌ رابني هَمٌّ فَأَحْرضني ... حتى بُليِتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ
و » بأساً وتنكيلاً « تمييزٌ ، والتنكيل : تفعيلٌ من النَّكْل وهو القيد ، ثم
استعمل في كل عذاب .
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
{
والكِفْلُ } : النصيب ، إلاَّ أنَّ استعمالَه في الشر أكثر ، عكسَ النصيب ، وإنْ
كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخير ، قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن
رَّحْمَتِهِ } وأصلُه قالوا : مستعارٌ مِنْ كِفْلِ البعير وهو كساء يدار حول
سَنامِه ليُرْكَبَ ، سُمِّي بذلك لأنه لم يَعُمَّ ظهرَه كله بل نصيباً منه ،
ولغلبةِ استعمالِه في الشر واستعمالِ النصيب في الخير غاير بينهما في هذه الآية
الكريمة ، إذ أتى بالكِفْل مع السيئة ، والنصيب مع الحسنة . و « منها » الظاهر أن
« مِنْ » هنا سببية أي : كِفْلٌ بسببها ونصيب بسببها ، ويجوز أن تكونَ ابتدائيةً .
والمُقِيت : المقتدر قال :
1527- وذي ضِغْن كَفَفْتُ الودَّ عنه ... وكنتُ على إساءته مُقيتا
أي : مقتدراً ، ومنه :
1628- ليت شِعْري وأَشْعُرَنَّ إذا ما ... قَرَّبوها منشورةً ودُعِيتُ
ألِيَ الفضلُ أم عليَّ إذا حو ... سِبْتُ؟ إني على الحسابُ مُقيتُ
/ قال النحاس : « هو مشتقٌّ من القُوت ، وهو مقدارُ ما يُحْفَظ به بدنُ الإِنسان
من الهلاك » فأصل مُقيت : مُقوِت كمقيم .
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
والتحية
في الأصل : المُلْك . قال :
1269- أَؤمُّ بها أبا قابوسَ حتى ... أُنيخَ على تَحِيَّته بجُندي
وقال آخر :
1630- ولكل ما نال الفتى ... قد نلتُه إلا التحِيَّهْ
ويقال : التحية : البقاء والمُلْك ، ومنه : « التحيات لله » ثم استُعملت في السلام
مجازاً ، ووزنها تَفْعِلة ، والأصل : تَحْيِيَة فأدغمت ، وهذا الإِدغامُ واجبٌ
خلافاً للمازني ، وأصل الأصل تَحْيِيٌّ ، لأنه مصدر حَيّا ، وحَيّا : فَعَّل ،
وفَعَّل مصدرُه على التفعيل ، إلا أن يكون معتلَ اللام نحو : زكَّى وغَطَّى [ فإنه
تحذف إحدى الياءين ] ويعوض منها تاء التأنيث فيقال : تزكية وتغطية ، إلا ما شَذَّ
من قوله :
1631- باتَتْ تُنَزِّي دلوَها تَنْزِيَّاً ... كما تُنَزِّي شَهْلَةٌ صبيَّاً
إلا أن هذا الشذوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو « حَيّا » لاعتلالِ عينه ولامه بالياء ،
وألحق بعضُم ما لامُه همزةٌ بالمعتلِّها نحو : « نَبّأ تنبئة » و « خَبّأ تخبئة »
. ومثلُها : أَعْيِيَة وأَعِيَّة ، جمع عَيِيٌّ . وقال الراغب : « وأصلُ التحيَّة
من الحَياة ، ثم جُعِل كلُّ دعاءٍ تحيةً لكون جميعِه غيرَ خارجٍ عن حصولِ الحياةِ
أو سببِ الحياة . وأصل التحية أن تقول : » حَيَّاك الله « ثم استُعْمِل في عُرْفِ
الشرعِ في دعاء مخصوصٍ .
وقوله تعالى : { أَوْ رُدُّوهَآ } أي : رُدُّوا مثلَها؛ لأنَّ ردَّ عينها مُحالٌ ،
فحُذِفَ المضافُ نحو : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] وأصلُ » حَيُّوا «
حَيِّيُوا ، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ ، فَحُذِفت الضمةُ فالتقى ساكنان :
الياءُ والواوُ فحُذِفت الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو . وقوله » بأحسنَ « اي :
بتحيةٍ أحسنَ من تلك التحيةِ الأولى .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
قوله
تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } : جوابُ قسمٍ محذوف ، وفي جملةِ هذا القسم مع
جوابِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لقوله « اللَّهُ
» ، و « لا إلهَ إلا هو » جملةُ خبر أول . والثاني : انها خبر لقوله : « الله »
أيضاً ، و « لا إله إلا هو » جملة اعتراضٍ بين المبتدأ وخبره . والثالث : أنها
مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب . وقد تقدم إعراب { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ }
[ الآية : 255 ] و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ الآية : 3 ] في البقرة .
قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها على بابِها من
انتهاءِ الغايةِ ، قال الشيخ : « ويكونُ الجمعُ في القبور ، أو تُضمِّن »
ليجمعنَّكم « معنى ليحشرنَّكم » فيُعَدَّى ب « إلى » يعني أنه ضُمِّن الجمعُ معنى
الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مجموع فيه . وقال أبو البقاء - بعد أَنْ جَوَّز فيها
أن تكونَ بمعنى « في » - « وقيل : هي على بابها أي : ليجمعنَّكم في القبور ، فعلى
هذا يجوز أن يكون مفعولاً به ، ويجوز أن يكونَ حالاً أي : ليجمعنَّكم مُفْضِين إلى
حساب يوم القيامة » يريد بقوله « مفعولاً به » أنه فَضْلَةٌ كسائرِ الفَضَلات نحو
: « سرت إلى الكوفة » ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأَنْ يُضَمَّنَ الجمعُ معنى الحشر
كما تقدم ، وأمَّا تقديرُه الحالَ ب « مُفَضِين » فغيرُ جائزٍ لأنه كونٌ مقيِّدٌ .
والثاني : أنها بمعنى « في » أي : في يوم القيامة ، ونظيرُه قولُ النابغة :
1632- فلا تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني ... إلى الناسِ مَطْلِيُّ به القارُ
أَجْرَبُ
أي : في الناس . والثالث : أنها بمعنى « مع » ، وهذا غيرُ واضح المعنى . والقيامة
بمعنى القِيام كالطَّلابة والطِّلاب ، قالوا : ودَخَلَتْ التاءُ فيه للمبالغة
كعَلاَّمة ونَسَّابة لشدةِ ما يقع فيه من الهَوْل ، وسُمِّي بذلك لقيامِ الناس فيه
للحسابِ ، قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } [ المطففين : 6
] . والجملةُ من قوله : « لا ريب فيه » فيها وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ نصب
على الحال من « يوم » فالضمير في « فيه » يعودُ عليه ، والثاني : أنها في محلِّ
نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوف دَلَّ عليه « ليجمعنَّكم » أي : جمعاً لا ريبَ فيه ،
والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ . « ومَنْ أصْدَقُ » تقدَّم نظيرُ هذه الجملة .
و « حديثاً » نصبٌ على التمييز . وقرأ الجمهور « أَصْدَقُ » بصاد خالصة ، وحمزة
والكسائي بإشمامها زاياً ، وهكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ ، نحو : « تَصْدُقون
» و « تَصْدِيَةً » وهذا كما فعل حمزة في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] و {
بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] للمجانسةِ قَصْدَ الخِفَّةِ .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
قوله
تعالى : { فَمَا لَكُمْ } : مبتدأ وخبر . و « في المنافقين » فيه ثلاثة أوجه ،
أحدها : أنه متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ وهو « لكم » أي : أيُّ شيءٌ كائنٌ لكم -
أو مستقر لكم - في أمر المنافقين . والثاني : أنه متعلق بمعنى فئتين ، فإنه في قوة
« ما لكم تفترقون في أمور المنافقين » فحُذِف المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليه
مُقامَه . والثالث : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « فئتين » لأنه في الأصل
صفةٌ لها ، تقديرُه : فئتين مفترقتين في المنافقين ، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت
عليها انتصبَتْ حالاً .
وفي « فئتين » وجهان ، أحدُهما : أنها حالٌ من الكاف والميم في « لكم » ، والعاملُ
فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به « لكم » ومثلُه : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة
مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وقد تقدَّم أنَّ هذه الحالَ لازمةٌ؛ لأن الكلامً
لا يَتِمُّ دونَها ، وهذا مذهبُ البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب والثاني -
وهو مذهب الكوفيين- : أنه نصبٌ على خبر « كان » مضمرةً ، والتقدير : ما لكم في
المنافقين كنتم فئتين ، وأجازوا : « ما لك الشاتمَ » أي : ما لك كنت الشاتمَ ،
والبصريون لا يجيزون ذلك لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف ، ويدلُّ على كونه حالاً
التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً ، وهذا كما قالوا في « ضربي زيداً قائماً » إن
« قائماً » لا يجوز نصبُه على خبر « كان » المقدرةِ ، بل على الحال لالتزامِ
تنكيره . وقد تقدَّم اشتقاقُ « الفئة » في البقرة .
قوله : { والله أَرْكَسَهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيها وجهان أظهرهما : أنها حالٌ :
إمَّا من المنافقين - وهو الظاهرُ - وإمَّا من المخاطبين ، والرابطُ الواوُ ، كأنه
انكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء ، والحال أن الله قد ردَّهم إلى الكفر . والثاني :
أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك . و « بما كَسَبوا » متعلقٌ ب « أَرْكَسهم »
والباء سببية أي : بسبب كَسْبهم ، و « ما » مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والعائدُ
محذوفٌ على الثاني لا [ على ] الأولِ على الصحيح .
والإِركاس : الردُّ والرَّجْعُ ، ومنه الرِّكْس للرجيع ، قال عليه السلام في
الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها : « إنها رِكْس » وقال أمية بن أبي الصلت :
1633- فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ ... كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا
أي : رُدُّوا ، وقال الراغب : « الرِّكْس والنِّكْس : الرِّذْلُ ، إلا أنَّ
الرِّكْس أبلغُ ، لأن النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفله ، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد
أن كان طعاماً . وقيل : أَرْكسه أَوْبقَه ، قال :
1634- بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا ... وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا
وقيل : الإِركاس : الإِضلال ، ومنه :
1365- وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى ... وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى
وقيل : هو التنكيسُ ، ومنه :
1636-
رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ ... كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ
ويقال : أَرْكس وَرَكَّس بالتشديد ورَكَس بالتخفيف : ثلاث لغات بمعنى واحد ،
وارتكس هو أي : رجَع . وقرأ عبد الله : « ركَسَهم » ثلاثياً ، وقرئ « رَكَّسهم -
رُكِّسوا » بالتشديد فيهما . وقال أبو البقاء : « وفيه لغةٌ أخرى » رَكَسه الله «
من غير همز ولا تشديد ، ولا أعلم أحداً قرأ به » قلت : قد تقدَّم أن عبد الله قرأ
« والله ركسهم » من غير همز ولا تشديد ، وكلام أبي البقاء مُخّلِّصٌ فإنه إنما
ادَّعى عدمَ العلمِ بأنها قراءةٌ لا عدمَ القراءة بها . قال الراغب : « إلا أن »
أركسه « أبلغُ من » رَكَسه « كما أنَّ أَسْفَله أبلغُ من سُفْلَه » وفيه نظر .
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
قوله
تعالى : { لَوْ تَكْفُرُونَ } : « لو » يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ
مصدرية . والثاني : أنها على بابها من كونِها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ،
فعلى الأول تتقدَّر مع ما بعدَها بمصدر ، وذلك المصدرُ في محل المفعول ل « وَدُّوا
» ، وحينئذ فلا جوابَ لها ، والتقدير : وَدُّوا كفركم ، وعلى الثاني يكون مفعولُ «
وَدَّ » محذوفاً « ، وجوابُ » لو « أيضاً » محذوف ، لدلالةِ المعنى عليهما ،
والتقدير : وَدُّوا كفركم لو تكفرون كما كفروا لسُرُّوا بذلك .
و « كما كفروا » نعتٌ لمصدر محذوف تقديره : كفراً مثلَ كفرهم ، أو حالٌ من ضمير
ذلك المصدر كما هو مذهب سيبويه ، / و « فتكونوا » عطف على « تكفرون » والتقدير :
وَدُّوا كفركم فكونَكم مستوين معهم في شَرْعهم . قال الزمخشري : « ولو نُصِب على
جوابِ التمني لجاز » وجعل الشيخ فيه نظراً من حيث إن النصبَ في جواب التمني إذا
كان التمني بلفظ الفعل يَحْتاج إلى سماع من العرب ، بل لو جاء لم تتحقَّقَ فيه
الجوابيةُ ، لأنَّ « ودَّ » التي بمعنى التمني متعلقها المصادر لا الذوات ، فإذا
نصب الفعل بعد الفاء لم يتعيَّنْ أن تكون فاءَ جواب ، لاحتمال أن يكونَ من باب عطف
المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به فيكون من باب :
1637- لَلُبْس عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني كأنَّ المصدر المفعولَ ب « يود » ملفوظٌ به ، والمصدرُ المقدَّرُ ب « أن »
والفعلِ عطفٌ عليه ، فَجَعَلَ المصدرَ المحذوفَ ملفوظاً به في مقابلةِ المقدِّرِ ب
« أَنْ » والفعلِ ، وإلاَّ فالمصدرُ المحذوفُ ليس ملفوظاً به إلا بهذا التأويلِ
المذكورِ ، بل المنقولُ أنَّ الفعلَ ينتصبُ على جوابِ التمني إذا كان بالحرفِ نحو
« ليت » ، و « لو » و « ألا » إذا أُشْربتا معنى التمني . وفيما قاله الشيخ نظر؛
لأن الزمخشري لم يَعْنِ بالتمني المفهومَ من فعل الوَدادةِ ، بل المفهومَ من لفظ «
لو » المشعرةِ بالتمني ، وقد جاء النصب في جوابها كقوله : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا
كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذه المسألةِ ، فقد
ظَهَر ما قاله الزمخشري من غير توقُّفٍ . « وسواءً » خبر « تكونون » وهو في الأصل
مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعلِ بمعنى مُسْتوين؛ ولذلك وُحِّد نحو : « رجال عَدْلٌ
» .
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
قوله
تعالى : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } : فيه قولان ، أظهرُهما : أنه استثناءٌ متصلٌ
، والمستثنى منه قولُه { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } والمُسْتَثْنَوْن على هذا قومٌ
كفارٌ ، ومعنى الوَصْلةِ هنا الوَصْلَةُ بالمعاهَدَةِ والمهادَنَةِ ، وقال أبو
عبيد : « هو اتصالُ النسب » وغَلَّطة النحاس بأن النسبَ كان ثابتاً بين النبيِّ
صلَّى الله عليه وسلم والصحابة وبين المشركين ، ومع ذلك لم يَمْنَعْهم ذلك من
قتالهم . والثاني : أنه منقطعٌ - وهو قول أبي مسلم الأصفهاني ، واختيار الراغب -
قال أبو مسلم : « لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهجرةَ على كلِّ مَنْ أسلمَ استثنى مَنْ
له عذرٌ فقال : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } وهم قوم قصدوا الهجرة إلى الرسول
ونصرتَه ، وكان بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فأقاموا عندهم إلى أن يمكِّنهم الخلاصُ
، واستثنى بعد ذلك مَنْ صار إلى الرسول وإلى أصحابِه لأنه يَخافُ اللَّهَ فيه ،
ولا يقاتِلُ الكفارَ أيضاً لأنهم أقاربُه ، أو لأنه يخاف على أولاده الذين هم في
أيديهم » فعلى هذا القولِ يكون استثناءً منقطعاً ، لأن هؤلاء المستثنين لم يدخُلوا
تحت قولِه : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } والمستثَنْون على هذا مؤمنون
.
و { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } يجوز أن يكونَ جملةً من مبتدأ وخبر في
محل جرِّ صفةً ل « قوم » ، ويجوز أن يكونَ « بينكم » وحده صفةً ل « قوم » فيكونَ
في محلِّ جر ويتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و « ميثاق » على هذا رفعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ
الظرفَ اعتمد على موصوفٍ ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ
بالجملة .
قوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على الصلة ، كأنه قيل
: أو إلا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم ، فيكون المستثنى صنفين من الناس ، أحدهما
واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين ، والآخر مَنْ جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه .
والثاني : أنه عطفٌ على صفةِ « قوم » وهي قولُه { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِّيثَاقٌ } فيكون المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ
وكافرٍ . واختار الأولَ الزمخشري وابن عطية ، قال الزمخشري : « الوجهُ العطفُ على
الصلةِ لقوله : { فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } بعد قوله : {
فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } فقرَّر أنَّ كفَّهم عن القتال أحدُ سببي استحقاقِهم لنفي
التعرُّض لهم ، وتَرْكِ الإِيقاع . بهم . فإن قلت : كلُّ واحد من الاتصالين له
تأثيرٌ في صحة الاستثناء استحقاقِ تَرْكِ التعرضِ للاتصال بالمعاهِدين والاتصالِ
بالكافِّين ، فهلا جَوَّزْتَ أن يكون العطفُ على صفةِ » قوم « ويكون قولُه : {
فَإِنِ اعتزلوكم } تقريراً لحكمِ اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطِهم بهم وجَرْيهم
على سُنَنِهم؟ قلت : هو جائز ، ولكنّ الأولَ أظهرُ وأجْرى على أسلوب الكلام »
انتهى .
وإنما كان أظهرَ لوجهين ، أحدهما من جهة الصناعة ، والثاني من جهة المعنى : أمَّا
الأولُ فلأنَّ عطفَه على الصلة لكون النسبة فيه إسناديةً ، وذلك أن المستثنى
مُحَدَّثٌ عنه محكومٌ له بخلاف حكم المستثنى منه ، فإذا قَدَّرْتَ العطفَ على
الصلة كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه بخلاف ما إذا عَطّفْتَه على الصفة ، فإنه
يكونُ تقييداً في « قوم » الذين هم قيدٌ في الصلةِ المُحَدَّثِ عن صاحبها ، ومتى
دار الأمر بين أن تكون النسبة إسناديةً وبين أن تكون تقييدية كان جعلُها إسناديةً
أَوْلى لاستقلالها .
والثاني
من جهة المعنى : وذلك أنَّ العطفَ على الصلة يؤدي إلى أنَّ سببَ تَرْكِ التعرُّض
لهم تركُهم القتالَ وكَفُّهم عنه ، وهذا سببٌ قريب ، والعطفُ على الصفة يؤدي إٍلى
أنَّ سببَ تركِ التعرضِ لهم وصولُهم إلى قوم كافِّين عن القتال وهذا سببٌ بعيدٌ ،
وإذا دار الأمرُ بين سببٍ قريبٍ وآخرَ بعيدٍ فاعتبارُ القريبِ أَوْلَى .
والجمهورُ على إثبات « أو » ، وفي مصحف أُبَيّ : « جاؤوكم » من غير « أو »
وخَرَّجها الزمخشري على أحد أربعة أوجه : إمَّا البيانِ ل « يَصِلون » ، أو البدلِ
منه ، أو الصفةِ لقومٍ بعد صفة ، أو الاستئنافِ .
قال الشيخ : « وهي وجوهٌ محتملةٌ وفي بعضِها ضعفٌ وهو البيانُ والبدلُ ، لأنَّ
البيانَ لا يكون في الأفعال ، ولأن البدل لا يتأتَّى لكونِه ليس إياه ولا بعضَه
ولا مشتملاً عليه » . انتهى . ويحتاج الجوابُ عنه إلى تأمُّل ونظر .
قوله : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فيه سبعة أوجه ، أحدها : أنه لا محلَّ لهذه
الجملة ، بل جيء بالدعاء عليهم بضيقِ صدورهم عن القتال ، وهذا منقولٌ عن المبرد ،
إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ عليه بأنَّا مأمورُون بأَنْ ندعوَ على الكفارِ بإلقاءِ
العداوة بينَهم فنقولُ : « اللهم أَوْقِعِ العداوةَ بين الكفار » لكن يكونُ قوله :
{ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } نَفْيَ ما اقتضاه دعاءُ المسلمين عليهم . وقد
أجابَ عن هذا الردِّ بعضُ الناس ، فقال ابن عطية : « يُخَرَّجُ قولُ المبرد على أن
الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزٌ لهم ، والدعاءُ عليهم بأن لا
يقاتِلوا قومَهم تحقيرٌ لهم أي : هم أقلُّ وأحقرُ ومستغنىً عنهم ، كما تقول إذا
أردت هذا المعنى : » لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي « معنى أسْتغنِي عنه
وأستقلُّ دونَه » وأجابَ غيرُه بأنه يجوزُ أن يكونَ سؤالاً لموتهم على أنَّ قولَه
« قومهم » قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ ليسوا منهم ، بل عن مُعادِيهم « .
الثاني : أنَّ » حَصَرِت « حالٌ من فاعل » جاؤوكم « وإذا وقعت الحال فعلاً ماضياً
ففيها خلافٌ : هل يَحْتاج إلى اقترانهِ ب » قد « أم لا؟ والراجحُ عدمُ الاحتياجِ
لكثرة ما جاء منه ، فعلى هذا لا تُضْمَرُ » قد « قبل » حَصِرَتْ « ومَنِ اشترط ذلك
قَدَّرها هنا . والثالث : أَنَّ » حَصِرَتْ « صفةٌ لحالٍ محذوفةٍ تقديرُه : أو
جاؤوكم قوماً حَصِرَتْ صدورُهم .
وسَمَّاها
أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة ، وهذا الوجهُ يُعْزَى للمبرد أيضاً/ الرابع : أن
يكون في محل جَرٍّ صفةً لقوم بعد صفة ، و « أو جاؤوكم » معترضٌ . قال أبو البقاء :
« يَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ أسقط » أو « وهو أُبَيُّ ، كذا نقله عنه الشيخ ، والذي
رأيتُه في إعرابه إسقاطُ » أو جاؤوكم « جميعه وهذا نَصُّه قال : » أحدهما : هو
جَرٌّ صفةً لقوم وما بينهما صفة أيضاً ، و « جاؤوكم » معترضٌ ، وقد قرأ بعضُ
الصحابة بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم ، بحذف « أو جاؤوكم » هذا نَصُّه ، وهو
أوفق لهذا الوجهِ .
الخامس : أن يكونَ بدلاً من « جاؤوكم » بدلَ اشتمال لأن المجيء مشتملٌ على الحَصْر
وغيرِه ، نقله الشيخ عن أبي البقاء أيضاً . السادس : أنه خبرٌ بعد خبر ، وهذه
عبارة الزجاج ، يعني أنها جملة مستأنفة ، أَخْبر بها عن ضيقِ صدور هؤلاء عن القتال
بعد الإِخبار عنهم بما تقدَّم . قال ابن عطية بعد حكاية قولِ الزجاج : « يُفَرَّق
بين الحال وبين خبر مستأنف في قولك : » جاء زيد ركب الفرسَ « أنك إذا أردت الحال
بقولك » رَكَب الفرس « قَدَّرْتَ » قد « ، وإن أردت خبراً بعد خبر لم تحتج إلى
تقديرها » السابع : أنه جواب شرط مقدر تقديره : إن جاؤوكم حصرت ، وهو رأي الجرجاني
، وفيه ضَعْفٌ لعدم الدلالة على ذلك .
وقرأ الجمهور : « حَصِرَتْ » فعلاً ماضياً ، والحسن وقتادة ويعقوب : « حَصِرةً »
نصباً على الحال بوزن « نَبَقَة » وهي تؤيد كونَ « حَصِرت » حالاً ، ونقلها
المهدوي عن عاصم في رواية حفص ، ورُوي عن الحسن أيضاً : « حَصِراتٍ » و « حاصراتٍ
» .
وهاتان القراءتان تحتملان أن تكونَ « حَصِراتٍ » و « حاصراتٍ » نصباً على الحال ،
أو جراً على الصفة ل « قوم » ، لأنَّ جمع المؤنث السالم يستوي جَرُّه ونصبه إلا
أنَّ فيهما ضعفاً من حيث إنَّ الوصف الرافعَ لظاهرٍ الفصيحُ فيه أن يُوَحَّد
كالفعلِ أو يُجْمَعَ جَمْعَ تكسير ويَقِلُّ جمعُه تصحيحاً ، تقول : مررت بقومٍ
ذاهب جواريهم ، أو قيام جواريهم ، ويَقَلُّ : « قائماتٍ جواريهم » وقرئ « حَصِرةٌ
» بالرفع على أنه خبر مقدم ، و « صدوُرهم » مبتدأ ، والجملة حال أيضاً . وقال أبو
البقاء . « وإن كان قد قرئ » حصرةٌ « بالرفع ، فعلى أنه خبر ، و » صدورهم « مبتدأ
، والجملةُ حال » .
قوله : { أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } أصلُه : عن أَنْ ، فلمَّا حُذِف حرف الجر جرى
الخلاف المشهور : أهي في محل جر أو نصب؟ والحَصْرُ : الضيق ، وأصلُه في المكان ثم
تُوُسِّع فيه ، قال :
1638- ولقد تَسَقَّطَني الوشاة فصادَفُوا ... حَصِراً بسِرِّكِ يا أُميمُ ضَنِيناً
وقوله : { فَلَقَاتَلُوكُمْ } اللام جواب « لو » لعطفِه على الجواب ، وقال ابن عطية : « هي لامُ المحاذاة والازدواج بمثابةِ الأولى ، لو لم تكن الأولى كنت تقول » لقاتلوكم « وهي تسميةٌ غريبة ، وقد سبقه إليها مكي . والجمهور على » فَلَقاتلوكم « من المُفاعلة . ومجاهد وجماعة : » فَلقتلوكم « ثلاثياً والحسن والجحدري : » فلقتَّلوكم « بالتشديد وقرأ الجحدري : » السَّلْم « بفتحِ السين وسكوِن اللام ، والحسنُ بكسرها وسكون اللام . قوله : { لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } » لكم « متعلق ب » جَعَل « و » سبيلاً « مفعولُ » جَعَل « و » عليهم حالٌ من « سبيلاً » لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، ويجوز أن تكونَ « جعل » بمعنى « صَيَّر » فيكونُ « سبيلاً » مفعولاً أولَ ، و « عليهم » مفعولٌ ثان قُدِّم .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
والسين في { سَتَجِدُونَ } : للاستقبال على أصلها . قالوا : وليست هنا للاستقبال بل للدلالةِ على الاستمرار ، وليس بظاهر . وقرأ عبد الله : « رُكِسوا » فيها ثلاثياً مخففاً ، ونقل ابن جني عنه « رُكِّسُوا » بالتشديد .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قوله
تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن } : قد تقدَّم نظيرُ هذا التركيب : { مَا
كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } [ البقرة : 114 ] . و « إلا
خَطَأً » فيه أربعة أوجه ، أحدُها : أنه استثناء منقطع وهو قولُ الجمهور إنْ أُريد
بالنفي معناه ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً إذ يصير المعنى : إلا خطأ فله قتلُه .
والثاني : أنه متصلٌ إنْ أريد بالنفي التحريمُ ، ويصير المعنى : إلا خطأ بأن
عَرَفَه كافراً فقتله ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً . الثالث : أنه استثناء مفرغ
، ثم في نصبهِ ثلاثة احتمالات ، الأول : أنه مفعولٌ له أي : ما ينبغي له أن يقتلَه
لعلة من العلل إلا لخطأِ وحدَه ، الثاني : أنه حال أي : ما ينبغي له أن يقتلَه في
حال من الأحوال إلا في حال الخطأ . الثالث : أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي : إلا
قَتْلاً خطأ ، ذكر هذه الاحتمالاتِ الزمخشري . الرابع من الأوجه : أن تكونَ « إلا
» بمعنى « ولا » والتقدير : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ ، ذَكَره
بعضُ أهل العلم ، حكى أبو عبيدة عن يونس قال : « سألتُ رؤبة بن العجاج عن هذه
الآيةِ فقال : » ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ « فأقام » إلا « مقامَ الواوِ ،
وهو كقول الشاعر :
1639 وكلُّ أخٍ مفارِقُه أخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ
إلا أن الفراء ردَّ هذا القولَ بأن مثل ذلك لا يجوزُ ، إلا إذا تقدَّمه استثناء
آخر فيكونُ الثاني عطفاً عليه كقوله :
1640 ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا
وهذا رأي الفراء ، وأمَّا غيرُه فيزعم أن » إلا « تكون عاطفة بمعنى الواو من غير
شرط ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ إِلاَّ الذين } [ البقرة : 150 ] .
والجمهور قرأ » خَطَأً « مهموزاً بوزن » نبأ « والزهري : » خَطَا « بوزن عصا ،
وفيها تخريجان ، أحدهما : أنه حذف لام الكلمة تخفيفاً ، كما حذفوا لام دم ويد وأخ
وبابِها . والثاني : أنه خَفَّف الهمزة بإبدالها ألفاً ، فالتقت مع التنوينِ
فَحُذِفت لالتقاء الساكنين ، كما يُفْعَل ذلك بسائر المقصور ، والحسن قرأ : »
خَطاءً « بوزن » سَماء « .
قوله : { فَتَحْرِيرُ } الفاء جواب الشرط ، أو زائدةٌ في الخبر إنْ كانت » مَنْ «
بمعنى الذي ، وارتفاعُ » تحريرُ « : إمَّا على الفاعلية ، أي : فيجبُ عليه تحريرُ
وإما على الابتدائية والخبر محذوف أي : فعليه تحريرُ ، أو بالعكس أي : فالواجبُ
تحريرُ . والدِّيَةُ في الأصل مصدر ، ثم أُطْلِقَ على المال المأخوذ في القتل ،
ولذلك قال : » مُسَلَّمَةٌ إلى أهله « والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الاعيان ، تقول :
وَدَى يَدِي دِيةً ووَدْياً كوشَى يشي شِيَةً ، فحذفت فاء الكلمة ، ونظيره في
الصحيح اللام » زِنة « و » عِدة « و » إلى أهله « متعلق ب » مُسَلَّمة « تقول :
سَلَّمت إليه كذا ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل » مُسَلَّمة « وفيه ضعفٌ .
و
« خطأ » في قوله : « من قتل مؤمناً خطأ » منصوبٌ : إمَّا على المصدر أي : قتلاً
خطأ ، وإمَّا على أنه مصدرٌ في موضع الحال أي : ذا خطأ أو خاطئاً .
قوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } فيه قولان ، أحدهما : أنه استثناء منقطع .
والثاني : أنه متصلٌ ، قال الزمخشري : « فإنْ قلت : بمَ تَعَلَّق » أَنْ
يصَّدَّقوا « وما محلُّه؟ قلت : تَعَلَّق ب » عليه « أو بِ » مُسَلَّمَةٌ « كأنه
قيل : وتَجِبُ عليه الدِّية أو يسلِّمها إلا حين يتصدقون عليه ، ومحلُّها النصب
على الظرف بتقديرِ حذف الزمان ، كقولهم : » اجِلسْ ما دام زيد جالساً « ويجوز أن
يكون حالاً من » أهله « بمعنى إلا متصدقين » . وخَطَّأه الشيخ في هذين التخريجين/
، أما الأول فلأنَّ النحويين نَصُّوا على منع قيام « أَنْ » وما بعدَها مقامَ
الظرف ، وأنَّ ذلك ما تختص به « ما » المصدريةُ لو قلت : « آتيك أن يصيحَ الديك »
أي : وقت صياحِه لم يجز . وأما الثاني فنصَّ سيبويه على منعه أيضاً قال في قول
العرب : « أنت الرجل أن تنازلَ ، أو أن تخاصمَ » أي : أنت الرجل نزالاً ومخاصمة :
« إنَّ انتصابَ هذا انتصابَ هذا انتصابُ المفعول من أجله ، لأنَّ المستقبل لا يكون
حالاً » فكونُه منقطعاً هو الصوابُ . وقال أبو البقاء : « وقيل : هو متصلٌ ،
والمعنى : فعليه دِيَةٌ في كل حال إلا في حال التصدُّق عليه بها » .
والجمهور على « يَصَّدَّقوا » بتشديد الصاد ، والأصل يتصدَّقوا ، فأدغمت التاء في
الصاد . ونقل عن أُبيّ هذا الأصلُ قراءةً ، وقرأ أبو عمرو في روايةِ عبد الوراث -
وتُعْزى للحسن وأبي عبد الرحمن - : « تَصَدَّقوا » بتاء الخطاب والأصل : تَتصدقوا
بتاءين ، فَأُدغمت الثانية . وقُرئ : « تَصْدُقوا » بتاء الخطاب وتخفيف الصاد ،
وهي كالتي قبلها ، إلا أنَّ تخفيفَ هذه بحذفِ إحدى التاءين : الأولى أو الثانيةِ
على خلاف في ذلك ، وتخفيفَ الأولى بالإِدغام .
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } مفعولُه محذوفٌ أي : فَمَنْ لم يجِدْ رقبة ، وهي
بمعنى وجدان الضالّ ، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ . وقوله : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ }
ارتفاعُه على أحدِ الأوجه المذكورة في قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وقد مَرَّ
. أي : فعليه صيامُ أو : فيجبُ عليه صيام أو فواجبُه صيام . قال أبو البقاء : «
ويجوزُ في غير القرآنِ النصبُ على » فليصم صومَ شهرين « . وفيه نظرٌ لأنَّ
الاستعمالَ المعروفَ في ذلك أَنْ يُقالَ » « صمتُ شهرين ويومين » ولا يقولون :
صمتُ صومَ - ولا صيامَ - شهرين .
قوله : { تَوْبَةً } في نصبه ثلاثة أوجه ، أحدهم : أنهما مفعول من أجله تقديره : شَرَعَ ذلك توبةً منه . قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون العامل » صوم « إلا على حذف مضاف ، أي : لوقوعِ توبة أو لحصول توبة » يعني أنه إنما احتاج إلى تقدير ذلك المضاف ولم يقل إن العامل هو الصيام؛ لأنه اختلَّ شرطٌ من شروطِ نصبه؛ لأنَّ فاعل الصيام غير فاعلَ التوبة . الثاني : أنها منصوبةً على المصدر أي : رجوعاً منه إلى التسهيل حيث نَقَلكم من الأثقلِ إلى الأخفِّ ، أو توبة منه أي : قَبُولاً منه ، مِنْ تاب عليه إذا قَبِل توبته ، فالتقدير : تابَ عليكم توبةً . الثالث : أنها منصوبةٌ على الحال ولكن على حذف مضافٍ تقديرُه : فعليه كذا حالَ كونِه صاحبَ توبةٍ ، ولا يجوز ذلك من غيرِ تقدير هذا المضافِ لأنك لو قلتَ : « فعليه صيامُ شهرين تائباً من الله » لم يَجُزْ « ومِن الله » في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل « توبة » فيتعلَّقُ بمحذوف .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
و { مُّتَعَمِّداً } : حالٌ من فاعل « يَقتلْ » وروي عن الكسائي سكون التاء كأنه فَرَّ من توالي الحركات . و « خالداً » نصب على الحال من محذوف ، وفيه تقديران ، أحدهما : « يُجْزاها خالداً فيها » فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضمير المنصوب أو المرفوع ، والثاني : « جازاه » بدليل « وغضب الله عليه ولعنَه » فعطفَ الماضي عليه ، فعلى هذا هي حالٌ من الضمير المنصوب لا غيرُ ، ولا يجوز أن تكون حالاً من الهاء في « جزاؤه » لوجهين ، أحدهما : أنه مضاف إليه ، ومجيء الحال من المضاف إليه ضعيفٌ أو ممتنع . والثاني : أنه يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو خبرُ المبتدأ الذي هؤ « جهنم » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قوله
تعالى : { فَتَبَيَّنُواْ } : قرأ الأخوان من التثبُّت ، والباقون من البيان ، قيل
: هما متقاربان لأن مَنْ تَثَّبت في الشيء تبينه ، قاله أبو عبيد ، وصَحَّحه ابن
عطية وقال الفارسي : « التثبُّت هو خلاف الإِقدام والمراد التَّأنِّي ، والتثبت
أشد اختصاصاً بهذا الموضع ، يدل عليه قوله : { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [ النساء :
66 ] أي : أشدُّ وقعاً لهم عَمَّا وُعِظوا به بأَنْ لا يقدُموا عليه » فاختارَ
قراءة الأخوين . وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة قالوا : لأن المثبِّت قد لا
يتبيَّن ، وقال الراغب : « لأنه قلَّ ما يكون إلا بعد تثبُّت ، وقد يكون التثبت
ولا تبيُّنَ ، وقد قوبل العجلة في قوله عليه السلام : » التبيُّن من الله والعجلةُ
من الشيطان « قلت : فهذا يقوي قراءة الأخوين أيضاً . وتَفَعَّل في كلتا القراءتين
بمعنى استفعل الدال على الطلب أي : اطلبوا التثبيت أو البيان .
وقوله : { لِمَنْ ألقى } اللام للتبليغ هنا ، و » مَنْ « موصولة . أو مفصولةٌ ، و
» ألقى « هنا ماضي اللفظِ ، إلا أنه بمعنى المستقبل أي : لمن يُلْقي ، لأنَّ
النهيَ لا يكونُ عَمَّا وقع وانقضى ، والماضي إذا وقع صلة صَلَح للمضيِّ
والاستقبال . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة : » السَّلَم « بفتح السين واللام من غير
ألف ، وباقي السبعة : » السلام « بألف ، ورُوي عن عاصم : » السِّلْم « بكسر السين
وسكون اللام . فأما » السلام « فالظاهر أنه التحية . وقيل : الاستسلام والانقياد ،
والسَّلَم - بفتحهما - الانقياد فقط ، وكذا { السلم } [ الآية : 208 ] بالكسر
والسكون . والجحدري بفتحها وسكون اللام ، وقد تَقَدَّم القول فيها في البقرة فعليك
بالالتفات إليه . والجملة من قوله » لست مؤمناً « في محل نصب بالقول . والجمهور
على كسر الميم الثانية من » مؤمناً « اسم فاعل وأبو جعفر بفتحها اسمَ مفعول أي :
لانُؤَمِّنك في نفسك ، وتُروى هذه القراءة عن علي وابن عباس ويحيى بن يعمر .
قوله { تَبْتَغُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل » تقولوا « أي : لا تقولوا ذلك
مبتغين . قوله : » كذلك « هذا خبر ل » كان « قُدِّم عليها وعلى اسمها أي : كنتم من
قبل الإِسلام مثلَ مَنْ أقدم ولم يَتَثَبَّتْ . وقوله { فَمَنَّ الله } الظاهر أن
هذه الجملة من تتمة قوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } فهي معطوفة على الجملة
قبلها . وقيل : بل هي من تتمة قوله » تبتغون « والأولُ أظهر : وقوله : » فتبيِّنوا
« قرئت كالتي قبلها فقيل : هي تأكيد لفظي للأولى ، وقيل : ليست للتأكيد لاختلاف
متعلقهما ، فإنَّ تقدير الأول : » فتبيَّنوا في أمر مَنْ تقتلونه « ، وتقدير
الثاني : فتبينوا نعمةَ الله ، أو تثبَّتوا فيها ، والسياقُ يدل على ذلك ، ولأنَّ
الأصل عدم التأكيد . والجمهور على كسر همزة » إنَّ الله « ، وقرئ بفتحها على أنها
معمولة ل » تبينَّوا « أو على حذف لام العلةِ ، وإن كان قد قرئ بالفتح مع التثبيت
فيكونُ على لام العلة لا غير . والمغانم : جمع » مَغْنَم « وهو يصلح للمصدر
والزمان والمكان ، ثم يُطلق على [ كل ] ما يؤخذ من مال العدو في الغزو ، إطلاقاً
للمصدر على اسم المفعول نحو : » ضَرْب الأمير « .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
قوله
تعالى : { مِنَ المؤمنين } : متعلق بمحذوف لأنه حال ، وفي صاحبها وجهان ، أحدهما :
أنه القاعدون ، فالعامل في الحال في الحقيقة يستوي ، والثاني : أنه الضمير
المستكنُّ في « القاعدون » لأن « أل » بمعنى الذي ، أي : الذين قعدوا في هذه الحال
، ويجوز أن تكون « مِنْ » للبيان .
قوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم « غير » بالرفع
، والباقون بالنصب ، والأعمش بالجر . والرفع من وجهين ، أظهرهما : أنه على البدل
من « القاعدون » وإنما كان هذا أظهرَ لأن الكلام نفي ، والبدلُ معه أرجحُ لِما
قُرِّر في عمل النحو . والثاني : أنه رفع على الصفة ل « القاعدون » ، ولا بد من
تأويل ذلك لأن « غير » لا تتعَرَّفُ بالإِضافة ، ولا يجوز اختلافُ النعت والمنعوت
تعريفاً وتنكيراً ، وتأويله : إمَّا بأن القاعدين لَمَّا لم يكونوا ناساً بأعيانهم
بل أُريد بهم الجنسُ أَشْبَهوا النكرة فَوُصِفوا كما توصف ، وإمَّا بأن « غير » قد
تتعرَّف إذا وقعت بين ضدَّين ، وهذا كله كما تقدم في إعراب { غَيْرِ المغضوب
عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] في أحد الأوجه ، وهذا كلُّه خروج عن الأصول المقررة
فلذلك اخترت الأول ، ومثله :
1641- وإذا اُقْرِضْتَ قَرْضاً فاجْزِهِ ... إنما يَجْزي الفتى غيرُ الجَمَلْ
برفع « غير » كذا ذكره أبو علي ، والراوية « ليس الجمل » عند غيره . والنصبُ على
أحد ثلاثة أوجه ، الأول : النصبُ على الاستثناء من « القاعدون » وهو الأظهرُ لأنه
المحدَّثُ عنه . والثاني : من « المؤمنين » وليس بواضحِ ، والثالث : على الحال من
« القاعدون » والجرُّ على الصفة للمؤمنين ، وتأويلُه كما تقدم في وجه الرفع على
الصفة .
وقوله : { فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ } كِلا الجارَّيْن متعلقٌ ب «
المجاهدون » و « المجاهدون » عطف على « القاعدون » قوله : { دَرَجَةً } فيها أربعة
أوجه ، أحدها : أنها منصوبة على المصدر لوقوع « درجة » موقعَ المَرَّة من التفضيل
كأنه قيل : فَضَّلهم تفضيلةً نحو : « ضربته سوطاً » الثاني : أنها حال من «
المجاهدين » أي : ذوي درجة . الثالث : أنها منصوبة انتصابَ الظرف أي : في درجة
ومنزلة . الرابع : انتصابها على إسقاط الخافض أي : بدرجة .
قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } « كلاً » مفعول أول ل « وعد » مقدماً عليه
، و « الحسنى » مفعول ثان . وقرئ : « وكلُّ » على الرفع بالابتداء ، والجملة بعده
خبره ، والعائد محذوف أي : وعده ، وهذه كقراءة ابن عامر في سورة الحديد { وَكُلاًّ
وَعَدَ الله الحسنى } [ الآية : 10 ] . قوله « أجراً » في نصب أربعة أوجه ، أحدهما
: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله لا من لفظه؛ لأن معنى « فَضَّل الله »
آجرَ .
الثاني : النصب على إسقاطِ الخافض أي : فضَّلهم بأجر . الثالث : النصب على أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنه ضَمَّن « فضَّل » أعطى ، أي : أعطاهم أجراً تَفَضُّلاً منه . الرابع : أنه حال من « درجات » قال الزمخشري : « وانتصب » أجراً « على الحال من النكرة التي هي » درجات « مقدَّمةً عليها » وهو غير ظاهر؛ لأنه لو تَأَخَّر عن « درجات » لم يجز أن يكون نعتاً ل « درجات » لعدم المطابقة ، لأنَّ « درجات » جمع ، و « أجر » مفرد . كذا ردَّه بعضهم ، وهي غفلة ، فإنَّ « أجراً » مصدرٌ ، والأفصحُ فيه أن يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مطلقاً .
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
قوله تعالى : { دَرَجَاتٍ } : فيه ستة أوجه : الأربعة المذكورة في « درجة » ، والخامس : أنه بدلٌ من « أجراً » السادس : - ذكره ابن عطية - أنه منصوبٌ بإضمار فعل على أن يكون تأكيداً للأجر كما تقول : « لك عليَّ ألفُ درهمٍ عُرْفاً » كأنك قلت : أعرفها عُرْفاً ، وفهي نظر . و « مغفرة ورحمة » عطف على درجات ، ويجوز فيهما النصب بفعلهما أي : وغفر لهم مغفرةً ورحمهم رحمةً .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
قوله
تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } : « توفَّاهم » يجوز أن يكون ماضياً ، وإنما
لم تلحق علامة التأنيث للفعل لأن التأنيث مجازي ، و يدل على كونِه فعلاً ماضياً
قراءةُ « توفَّتْهم » بتاء التأنيث ، ويجوز أن يكون مضارعاً حُذِفت إحدى التاءين
منه ، والأصلُ : تتوفاهم .
و « ظالمي » حالٌ من ضمير « توفَّاهم » والإِضافةُ غير محضة ، إذ الأصل : ظالمين
أنفسَهم . وفي خبر « إنَّ » هذه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه محذوفٌ تقديرُه : إنَّ
الذين توفَّاهم الملائكةُ هَلَكوا ، ويكون قوله : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ }
مبيِّناً لتلك الجملةِ المحذوفةِ . الثاني : أنه { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }
ودخلت الفاءُ زائدةً في الخبر تشبيهاً للموصول باسمِ الشرط ، ولم تمنع « إنَّ » من
ذلك ، والأخفش يمنعه ، وعلى هذا فيكون قولُه : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } إمَّا
صفةً ل « ظالمي » أو حالاً للملائكة ، و « قد » معه مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك ،
وعلى القول بالصفة فالعائد محذوف أي : ظالمين أنفسَهم قائلاً لهم الملائكة . والثالث
: أنه « قالوا فيم كنتم » ، ولا بد من تقدير العائد أيضاً أي : قالوا لهم كذا ، و
« فيم » خبر « كنتم » وهي « ما » الاستفهامية حُذِفت ألفها حين جُرَّتْ ، وقد
تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله } [ البقرة :
91 ] والجملة من قوله : « فيمَ كنتم » في محل نصب بالقول . « وفي الأرض » متعلقٌ ب
« مستضعفين » ، ولا يجوز أن يكون « في الأرض » هو الخبرَ ، و « مستضعفين » حالاً ،
كما يجوز ذلك في نحو : « ان زيدٌ قائماً في الدار » لعدمِ الفائدةِ في هذا الخبر .
قوله : { فَتُهَاجِرُواْ } منصوبٌ في جوابِ الاستفهام ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
وقال أبو البقاء : « ألم تكن » استفهام بمعنى التوبيخ ، « فتهاجروا » منصوبٌ على
جواب الاستفهام ، لأنَّ النفيَ صار إثباتاً بالاستفهام « انتهى قولُه : » لأنَّ
النفي « إلى آخره لا يَظْهر تعليلاً لقوله » منصوبٌ على جواب الاستفهام « لأن ذلك
لا يَصِحُّ ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه علةً لقوله » بمعنى التوبيخ « . و » ساءت «
: قد تقدم القول في { ساء } ، وأنها تجري مَجْرى » بِئْس « فيُشْترط في فاعلها ما
يُشترط في فاعل تيك . و » مصيراً « تمييز .
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
قوله
تعالى : { إِلاَّ المستضعفين } : في هذا الاستثناءِ قولان ، أحدهما : أنه متصلٌ ،
والمستثنى منه قولُه : { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } . والضمير يعودُ على المتوفَّيْن
ظالمي أنفسِهم ، قال هذا القائل : كأنه قيل : فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ،
فعلى هذا يكون استثناء متصلاً . والثاني - وهو الصحيح - أنه منقطعٌ؛ لأن الضمير في
« مَأواهم » عائد على قوله : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } وهؤلاء المتوفَّوْن :
إمَّا كفارٌ أو عصاة بالتخلف ، على ما قال المفسرون ، وهم قادرون على الهجرة فلم
يندرجْ فيهم المستضعفون فكان منقطعاً . و « من الرجال » حالٌ من المستضعفين ، أو
من الضمير المستتر فيهم ، فيتعلَّقُ بمحذوف .
قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } في هذه الجملة أربعة أوجه ، أحدها : أنها
مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : ما وجهُ استضعافِهم؟ فقيل : كذا .
والثاني : أنها حالٌ . قال أبو البقاء : « حالٌ مبيِّنة عن معنى الاستضعاف » قلت :
كأنه يشير إلى المعنى الذي قَدَّمتْهُ في كونها جواباً لسؤال مقدر . والثالث :
أنها مفسرةٌ لنفسِ المستضعفين؛ لأنَّ وجوه الاستضعاف كثيرة فبيَّن بأحد محتملاتِه
كأنه قيل : إلا الذين استُضْعِفوا بسبب عجزهم عن كذا وكذا . والرابع : أنها صفة
للمستضعفين أو للرجال ومَنْ بعدَهم ، ذكره الزمخشري ، واعتذر عن وَصْف ما عُرِّف
بالألف واللام بالجمل التي في حكم النكرات بأن المُعَرَّف بهما لما لم يكن
مُعَيَّناً جاز ذلك فيه كقوله :
1642- ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
وقد قَدَّمْتُ تقرير المسألة مراراً .
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
و
{ مُهَاجِراً } : نصبٌ على الحال من فاعل « يَخْرج » قوله : { ثُمَّ يُدْرِكْهُ }
الجمهورُ على جزم « يدركْه » عطفاً على الشرط قبله ، وجوابه « فقد وقع » ، وقرأ
الحسن البصري بالنصب . قال ابن جني : « وهذا ليس بالسهل وإنما بابُه الشعر لا
القرآنُ وأنشد :
1643- وسأترُكُ منزلي لبني تميم ... وألحقُ بالحجازِ فاستريحا
والآيةُ أقوى من هذا لتقدُّم الشرط قبل المعطوف » ، يعني أن النصب بإضمار « أن »
إنما يقع بعد الواو والفاء في جواب الأشياء الثمانية أو عاطفٍ ، على تفصيلٍ موضوعه
كتب النحو ، والنصبُ بإضمار « أن » في غير تلك المواضع ضرروةٌ كالبيتِ المتقدم ،
وكقول الآخر :
1644- . . . . . . . . . . . . . . . ... ويَأْوي إليها المستجيرُ فيُعْصَما
وتبع الزمخشري أبا الفتح في ذلك ، وأنشد البيت الأول . وهذه المسألة جَوَّزها
الكوفيون لمدركٍ آخرَ وهو أن الفعلَ الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع
والنصب والجزم إذا وقع بعد الواو والفاء ، واستدلُّوا بقول الشاعر :
1645- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَه مطمئنةً ... فَيُثْبِتَها في مستوى القاعِ
يَزْلَقِ
وقول الآخر :
1646- ومَنْ يَقْتَرِبْ منا ويخضع نُؤْوِه ... ولا يَخْشَ ظلماً ما أقامَ ولا
هَضْما
وإذا ثبت ذلك في الواو والفاء فليَجُزْ في « ثم » لأنها حرف عطف . وقرأ النخعي
وطلحة بن مصرف برفع الكاف ، وخَرَّجها ابن جني على إضمار مبتدأ أي : « ثم هو
يدركُه الموت » ، فعطفَ جملةً اسمية على فعلية ، وهي جملة الشرط : الفعلُ المجزومُ
وفاعلُه ، وعلى ذلك حَمَل يونس قولَ الأعشى :
1647- إنْ تركَبوا فركوبُ الخيل عادتُنا ... أو تَنْزِلون فإنَّا معشرٌ نُزُلُ
أي : وأنتم تنزلون ، ومثله :
1648- إنْ تُذْنِبوا ثم تأتيني بَقِيَّتُكُمْ ... فما عليَّ بذنبٍ عندكم حُوبُ
أي : ثم أنتم تأتيني . قلتُ : يريدُ أنه لايُحْملُ على إهمالِ الجازمِ فيُرْفَعُ
الفعلُ بعدَه ، كما رُفِعَ في « أليم يأتيك » فلم يَحْذِفِ الياء ، وهذا البيت
أنشده النحويون على أنَّ علامَةَ الجزمِ حَذْفُ الحركةِ المقدرة في حرفِ العلة ،
وضَمُّوا إليه أبياتاً أُخَرَ ، أمَّا أنهم يزعمون أنَّ حرف الجزم يُهمل
ويَسْتدلون بهذا البيت فلا . ومنهم مَنْ خَرَّجها على وجه آخر ، وهو أنه أراد
الوقفَ على الكلمة فنقلَ حركةَ هاءِ الضمير إلى الكافِ الساكنةِ للجزم ، كقولِ
الآخر :
1649- عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عَجَبُهْ ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ
يريد « لم أَضْرِبْه » بسكون الباء للجازم ، ثم نَقَلَ إليها حركة الهاء فصار
اللفظُ « ثُم يُدْرِكُهْ » ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فالتقى ساكنان فاحتاج
إلى تحريك الأولِ وهو الهاءُ ، فَحَرَّكها بالضمِّ؛ لأنه الأصلُ وللإِتباعِ أيضاً
، وهذه الأوجهُ تَشْحَذُ الذِّهنَ وتنقِّحُه .
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
قوله
تعالى : { أَن تَقْصُرُواْ } : هذا على حذفِ الخافض أي : في أَنْ تَقْصُروا ،
فيكونُ في محلِّ « أَنْ » الوجهان المشهوران ، وهذا الجارُّ يتعلقُ بلفظِ « جُناح
» أي : فليس عليكم جُناحٌ في قَصْرِ الصلاة . والجمهور على « تَقْصُروا » من «
قَصَر » ثلاثياً . وقرأ ابن عباس : « تُقْصِروا » من « أَقْصر » وهما لغتان :
قَصَر وأقصر ، حكاهما الأزهري ، وقرأ الضبي عن رجاله بقراءة ابن عباس . وقرأ
الزهري : « تُقَصِّروا » مشدداً على التكثير . قوله : { مِنَ الصلاة } في « مِنْ »
وجهان ، أظهرُهما : أنها تبعيضيةٌ ، وهذا معنى قول أبي البقاء وزعم أنه مذهبُ
سيبويه وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : شيئاً من الصلاة . والثاني : أنها زائدةٌ
وهذا رأي الأخفش فإنه لا يشترط في زيادتِها شيئاً . و « أن يَفْتِنَكم » مفعول «
خِفْتم » وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي : « من الصلاة أن يَفْتنكم » بإسقاط الجملة
الشرطية ، و « أَنْ يفْتنكم » على هذه القراءة مفعولٌ من اجله ، ولغةُ الحجاز «
فَتَن » ثلاثياً ، وتميم وقيس : « أفتن » رباعياً .
و « لكم » متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من « عَدُوّاً » فإنه في الأصل صفةُ نكرةٍ ثم
قُدِّم عليها ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق ب « كان » ، وفي المسألةِ خلافٌ مرَّ
تفصيلُه . وأفرد « عَدُواً » وإن كان المرادُ به الجمعَ لِما تقدَّم تحقيقُه في
البقرة ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه ما قبله . وقيل : الكلامُ تَمَّ عند قولِه
{ مِنَ الصلاة } ، والجملةُ الشرطيةُ مستأنفةٌ ، حتى قيل : إنها نزلت بعد سنةٍ من
نزول ما قبلها ، وحينئذ فجوابُه أيضاً محذوفٌ ، لكن يُقَدَّرُ مِنْ جنس ما بعده ،
وهذا قولٌ ضعيفٌ ، وتأخيرُ نزولها لا يقتضي استئنافاً .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
والضمير
في « فيهم » يعودُ على الضاربين في الأرض ، وقيل : على الخائفين ، وهما محتملان ،
والضميرُ في « وليأخذوا » الظاهر عَوْدُه على « طائفة » لقُربه منها ، ولأنَّ
الضمير في قوله { سَجَدُواْ } لها . وقيل : يعود على طائفة أخرى وهي التي تحرس
المُصَلِّية . واختار الزجاج عَوْدَه على الجميع قال : « لأنه أَهْيَبُ للعدو » .
والسلاح : ما يُقاتَل به وجمعُه أَسْلِحَة وهو مذكر ، وقد يُؤَنَّث باعتبار الشوكة
، قال الطرماح :
1650- يَهُزُّ سِلاحاً لم يَرِثْها كَلالةً ... يشكُّ بها منها غموضَ المَغَابِنِ
فأعاد الضميرَ عليه كضمير المؤنثة ، ويقال : سِلاح كحِمار ، وسِلْح كضِلْع ،
وسُلَح كصُرَد ، وسُلْحان كسُلْطان نقله أبو بكر بن دريد والسَّلِيح نبت إذا
رَعَتْه الإِبل سَمِنَتْ وغَزُرَ لبنُها ، وما يُلْقيه البعير من جوفه يقال له «
سُلاح » بزنة غُلام ، ثم عُبِّر به عن كل عَذِرة حتى قيل في الحُبارى : « سِلاحُه
سُلاحه » .
قوله : { لَمْ يُصَلُّواْ } الجملة في محل رفع لأنها صفة ل « طائفة » بعد صفةٍ ،
ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال؛ لأنَّ النكرة قبلها تخصَّصت بالوصف بأخرى
. وقرأ الحسن : « فَلِتَقُمْ » بكسر لام الأمر ، وهو الأصل . وقرأ أبو حيوة «
وليأت » بناء على تذكير الطائفة . ورُوي عن أبي عمرو الإِظهار والإِدغامُ في «
ولتأت طائفة » ووجوهُ هذه واضحة . وفي قوله { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ } مجازٌ حيث جعل الحِذْر - وهو معنى من المعاني- مأخوذاً مع
الأسلحة فجَعَلَه كالآلة ، وهو كقوله تعالى : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [
الحشر : 9 ] في أحدِ الأوجه . وقد تقدَّم الكلامُ في « لو » الواقعةِ بعد { وَدَّ
} [ الآية : 109 ] هنا وفي البقرة وقرئ « أَمْتِعاتِكم » وهو الشذوذِ من حيث إنه
جمع الجمعِ كقولهم : أَسْقِيات وأَعْطِيات . وقوله : { أَن تضعوا } كقولِه : { أَن
تَقْصُرُواْ } وقد تقدم .
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
قوله تعالى : { قِيَاماً وَقُعُوداً } : حالان من فاعل « اذكروا » ، وكذلك « وعلى جُنوبكم » فإنه في قوة مُضطجعين ، فيتعلق بمحذوف . وقوله : { فَإِذَا اطمأننتم } قد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة واختلافُ الناس فيها ، وهل هي مقلوبةٌ أم لا؟ وصَرَّح أبو البقاء هنا بأنَّ الهمزة أصلٌ وأن وزن الطُّمَأْنينة : فُعَلِّيلَة ، وأن « طأمن » أصل آخر برأسه ، وهذا مذهبُ الجرميّ . و « موقوتاً » صفةٌ ل « كتاباً » بمعنى محذوداً بأوقات ، فهو من وَقَت مخففاً كمضروب من ضرب ، ولم يقل « مَوْقوتة » بالتاء مراعاة ل « كتاب » فإنه في الأصل مصدر .
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ } : الجمهورُ على كسر الهاء ، والحسن فتحها من « وَهِن » بالكسر في الماضي ، أو من وَهَن بالفتح ، وإنما فُتِحت العين لكونِها حلقيةً فهو نحو : يَدَع . وقرأ عبيد بن عمير : « تُهانوا » من الإِهانة مبنياً للمفعولِ ومعناه : لا تَتَعاطَوا من الجبنِ والخَورَ ما يكون سبباً إهانتِكم كقولهم : « لا أُرَيَنَّك ههنا » والأعرج : « أن تكونوا » بالفتح على العلة . وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر « تِئْلمون فإنهم يِئْلمون كما تِئْلمون » بكسر حرف المضارعة ، وابن السَّمَيْفَع بكسر تاء الخطاب فقط وهذه لغة ثابتة ، وكنت قد قَدَّمْتُ في الفاتحة أنًَّ مَنْ يكسِرُ حرفَ المضارعة يستثنى التاء ، وذكرت شذوذ « تِيجل » ووجهَه ، فعليك بالالتفات إليه ، وزاد أبو البقاء في قراءةِ كسر حرف المضارعة قَلْبَ الهمزةِ ياء ، وغيرُه أطلق ذلك .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
قوله تعالى : { بالحق } : في محلِّ نصبٍ على الحال المؤكِّدة فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وصاحبُ الحالِ هو الكتابُ أي : أنزلناه ملتبساً بالحق . و « لتحكمْ » متعلق ب « أَنْزلنا » و « أراك » متعدٍّ لاثنين أحدهما العائدُ المحذوفُ ، والثاني كافُ الخطابِ أي : بما أراكه الله . والإِراءَةُ هنا يجوزُ أن تكون من الرأي كقولك : « رأيتُ رَأْيَ الشافعي » أو من المعرفة ، وعلى كلا التقديرين فالفعلُ قبلَ النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد وبعدَه متعدٍّ لاثنين كما عَرَفْتَ . و « للخائنين » متعلِّق ب « خصيماً » واللامُ للتعليلِ على بابها ، وقيل : هي بمعنى « عن » ، وليس بشيء لصحة المعنى بدون ذلك . ومفعولُ « خصيماً محذوفٌ تقديرُه : » خصيماً البرآء « وخصيم يجوز ان يكون مِثالَ مبالغةٍ كضريب ، وأن يكون بمعنى مُفاعِل نحو : خَلِيط وجَلِيس بمعنى مُخاصِم ومُخالط ومُجالِس .
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
و { يَسْتَخْفُونَ } : فيها وجهان ، أظهرهما : أنها مستأنفة لمجرد الإخبار بأهم يطلبون التستُّر من الله تعالى بجهلهلم . والثاني : أنها في محلِّ نصب صفةً ل « مَنْ » في قوله : { لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } وجُمع الضمير اعتباراً بمعناها إنْ جَعَلْتَ « مَنْ » نكرةً موصوفة ، أو في محل نصب على الحال مِنْ « مَنْ » إنْ جَعَلْتَها موصولة ، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار معناها أيضاً . « وهو معهم » جملة حالية : إمّا من الله تعالى أو من المُسْتَخْفِين ، و « إذ » منصوبٌ بالعاملِ في الظرف الواقع خبراً وهو « معهم » .
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
وتقدَّم الكلامُ في نحو { هَا أَنْتُمْ هؤلاء } : وقولُه : { فَمَن يُجَادِلُ } مَنْ استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و « يجادل » خبره ، و « أم » منقطعة وليست بعاطفة . وظاهرُ عبارة مكي أنها عاطفة فإنه قال : « وأم من يكونُ مثلُها عطف عليها » أي : مثلُ « مَنْ » في قوله : { فَمَن يُجَادِلُ } وهو في محلِّ نظرٍ ، لأنَّ في المنقطعة خلافاً : هل تُسَمَّى عاطفة أم لا؟ .
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قوله
تعالى : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } : في هذه الهاءِ أقوالٌ ، أحدها : أنها تعود على «
إثماً » ، والمتعاطفان ب « أو » : يجوز أن يعودَ الضمير على المعطوف كهذه الآية ،
وعلى المعطوف عليه كقوله { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا
إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] . والثاني : أنها تعودُ على الكَسْب المدلول عليه
بالفعلِ نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] . الثالث : أنها
تعود على أحد المذكورين الدالِّ عليه العطفُ ب « أو » فإنه في قوة « ثم يَرْمِ
بأحد المذكورين » . الرابع : أنَّ في الكلام حذفاً ، والأصل : « ومَنْ يكسِبْ
خطيئة ثم يرم بها ، وهذا كما قيل في قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة
وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] أي : يكنزون الذَهب ولا ينفقونه . و » أو «
هنا لتفصيلِ المُبْهَمِ ، وتقدَّم له نظائرُ . وقرأ معاذ بن جبل : » يَكِسِّبْ «
بكسر الكاف وتشديد السين ، وأصلها : يَكْتَسِبْ فأدغمت تاءُ الافتعال في السينِ
وكُسِرت الكافُ إتباعاً ، وهذا شبيه ب { يَخْطَفُ } [ البقرة : 20 ] ، وقد تقدَّم
توجيهُه في البقرةِ . والزهري : » خَطِيَّة « بالتشديد وهو قياسُ تخفيفِها .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } في جواب » لولا « وجهان ، أظهرهما : أنه مذكورٌ
وهو قولُه : » لَهَمَّتْ « والثاني : أنه محذوفٌ أي : لأضلُّوك ، ثم استأنف جملةً
فقال : » لَهَمَّتْ « أي : لقد هَمَّتْ . قال أبو البقاء في هذا الوجه : » ومثلُ
حذفِ الجوابِ هنا حَذْفُه في قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ النور : 10 ] وكأنَّ الذي قَدَّر
الجوابَ محذوفاً استشكل كونَ قولِه « لهمَّتْ جواباً لأنَّ اللفظَ يقتضي انتفاءَ
هَمِّهم بذلك ، والغرضُ أنَّ الواقع كونُهم هَمُّوا على ما يُروى في القصة فلذك
قَدَّره محذوفاً ، والذي جعله مثبتاً أجابَ عن ذلك بأحدِ وجهين : إمَّا بتخصيص
الهَمِّ أي : لَهَمَّتْ هَمَّاً يؤثِّر عندك ، وإمَّا بتخصيص الإِضلال أي : يضلونك
عن دينِك وشريعتِك ، وكلا هذهين الهمَّيْنِ لم يقع . و » اَنْ يُضِلُّونك « على
حذف الباء أي : بأن يُضِلُّوك ، ففي محلِّها الخلافُ المشهور ، و » مِنْ « في » من
شيء « زائدةٌ ، و » شيء « يراد به المصدرُ أي : وما يَضُرُّونك ضرراً قليلاً ولا
كثيراً .
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } : في هذا الاستثناءِ قولان ، أحدهما : أنه متصلٌ ،
والثاني : أنه منقطعٌ ، وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يُرادَ بها المصدرُ
كالدَّعْوى فتكون بمعنى التناجي ، وأَنْ يُرادَ بها القومُ المتناجُون إطلاقاً
للمصدرِ على الواقع منه مجازاً نحو : « رجلٌ عَدْل وصَوْم » فعلى الأول يكون
منقطعاً لأنَّ مَنْ أَمَر ليس تناجياً ، فكأنه قيل : لكنْ مَنْ أَمَر بصدقةٍ ففي
نجواه الخيرُ ، والكوفيون يقدِّرون المنقطع ب « بل » ، وجَعَلَ بعضُهم الاستثناءَ
متصلاً وإنْ أُريد بالنجوى المصدرُ ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ كأنه قيل : إلا نجوى
مَنْ أَمَر ، وإنْ جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلاً . وقد عَرَفْتَ مِمَّا
تقدَّم أن المنقطع منصوبٌ أبداً في لغة الحجاز ، وأنَّ بني تميم يُجْرونه مُجْرى
المتصل بشرط توجُّهِ العاملِ عليه ، وأنَّ الكلامَ إذا كان نفياً أو شبهَه جاز في
المستثنى الإِتباعُ بدلاً وهو المختار والنصبُ على أصل الاستثناء ، فقوله { إِلاَّ
مَنْ أَمَرَ } : إما منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع إنْ جَعَلْتَه منقطعاً في لغة
الحجاز ، أو على أصلِ الاستثناءِ إنْ جَعَلْتَه متصلاً ، وإمَّا مجرورٌ على البدلِ
من « كثير » أو مِنْ « نجواهم » أو صفةٌ لأحدهما : كما تقول : « لا تَمُرَّ بجماعة
من القوم إلا زيد » إنْ شئتَ جَعَلْتَ زيداً تابعاً للجماعةِ أو للقومِ . ولم
يَجْعلْه الزمخشري تابعاً إلا « لكثير » قال : « إلا نَجْوَى مَنْ أمر على أنه
مجرورٌ بدلٌ من » كثير « كما تقولُ : » لا خيرَ في قيامِهم إلا قيامِ زيدٍ « وفي
التنظير بالمثالِ نظرٌ لا تَخْفَى مباينتُه للآية ، هذا كله إنْ جَعَلْنَا
الاستثناءَ متصلاً بالتأويلين المذكورين أو منقطعاً على لغة تميم . وتلخَّص فيه
ستة أوجه : النصب على الانقطاع في لغةِ الحجاز أو على أصل الاستثناءِ ، والجرُّ
على البدل من » كثير « أو مِنْ » نجواهم « أو على الصفةِ لأحدهما .
و { مِّن نَّجْوَاهُمْ } متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل » كثير « فهو في محلِّ جر ،
والنجوى في الأصلِ مصدرٌ كما تقدم ، وقد يُطْلَقُ على الأشخاص مجازاً [ قال تعالى
: { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإِسراء : 47 ] ] ، ومعناها المُسَارَّة ، ولا تكون إلا
من اثنين فأكثرَ ، وقال الزجاج : النجوى ما تَفَرَّد به الاثنانُ فأكثرُ سراً كان
أو ظاهراً . وقيل : النجوى جمع نَجِيّ نقله الكرماني . قوله : » بين « يجوز ان
يكون منصوباً بنفس » إصلاح « تقول : » أصلحت بين القوم « قال تعالى : {
فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] .
وأَنْ يتعلق / بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل » إصلاح « و » ابتغاءَ « مفعولٌ من أجله .
وألف » مرضاة « عن واوٍ ، وقد تقدم تحقيقه . وقرأ أبو عمرو وحمزة : » فسوف يُؤتيه
« بالياءِ نظراً إلى الاسم الظاهر في قوله { مَرْضَاتِ الله } والباقون بالنون
نظراً لقوله بعدُ : » نُولِّه ونُصْلِه « وهو أوقعُ للتعظيمِ .
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{ وَمَن يُشَاقِقِ } تقدَّم أنّ المضارعَ المجزوم والأمرَ من نحو « لم يَرْدُدْ » و « رَدَّ » يجوزُ في الإِدغامُ وتركُه على تفصيلٍ في ذلك وما فيه من اللغات في آل عمران ، وكذلك حكُم الهاء في قوله : « نُؤْته » و « نُصْلِه » وتقدَّم قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] . وخُتمت تيك بقوله « فقد افترى » وهذه بقوله : « فقد ضَلَّ » لأنَّ ذلك في غاية المناسبة ، فإن الأولى في شأن أهل الكتاب من أنهم عندهم علمٌ بصحة ثبوته ، وأن شريعتَه ناسخةٌ لجميع الشرائعِ ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك فافتروا على الله تعالى ، وهذه في شأنِ قومٍ مشركين غير أهلِ كتابٍ ولا علمٍ فناسَب وصفُهم بالضلال ، وأيضاً فقد تقدَّم ذكر الهدى وهو ضدُّ الضلال .
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
قوله
تعالى : { إِلاَّ إِنَاثاً } : في هذه اللفظة تسعُ قراءات : المشهورةُ وهي جمع
أُنْثى نحو رِباب جمعُ رُبّى . والثانية : وبها قرأ الحسن « أنثى » بالإِفراد
والمرادُ به الجمع . والثالثة : - وبها قرأ ابن عباس وأبو حيوة وعطاء والحسن أيضاً
ومعاذ القارئ وأبو العالية وأبو نهيك- : « إلا أُنُثا » كرُسُل ، وفيها ثلاثةُ
أوجه ، أحدها : - وبه قال ابن جرير - أنه جمعُ « إناث » كثِمار وثُمُر ، وإناث جمع
أنثى فهو جمع الجمع ، وهو شاذ عند النحويين . والثاني : أنه جمع « أنيث » كقليب
وقُلُب وغدير وغُدُر ، والأنيث من الرجال المُخَنَّثُ الضعيفُ ، ومنه « سيف أنيث
وميناث وميناثة » أي : غير قاطع قال صخر :
1651- فتخْبِرَه بأنَّ العقلَ عندي ... جُرازٌ لا أَفَلُّ ولا أَنيثُ
والثالث : أنه مفردٌ أي : يكون من الصفات التي جاءت على فُعُل نحو امرأة حُنُثٌ .
والرابعة : - وبها قرأ سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو الجوزاء - « وثَنا » بفتح
الواو والثاء على أنه مفرد يراد به الجمع . والخامسة - وبها قرأ سعيد بن المسيب
ومسلم بن جندب وابن عباس أيضاً - « أُثُنا » بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان ،
أظهرهما : أنه جمع وثَنَ نحو : « أسَد وأُسُد » ثم قَلَبَ الواوَ همزةً لضمِّها
ضماً لازِماً ، والأصلُ : « وثُنُ » ثم أُثُن . والثاني : أن « وَثَناً » المفردَ
جُمِع على « وِثان » نحو : جَمَل وجِمال ، وجَبَل وجِبال ، ثم جُمِع « وِثان » على
« وُثُن » نحو : حِمار وحُمُر ، ثم قُلبت الواوُ همزةً لِما تقدَّم فهو جمعُ
الجَمْعِ . وقد رَدَّ ابن عطية هذا الوجه بأنَّ فِعالاً جمعُ كثرة ، وجموعُ الكثرة
لا تُجْمع ثانياً ، إنما يجمعُ من الجموع ما كان من جموعِ القلة . وفيه مناقشة من
حيث إن الجمع لا يُجمع إلا شاذاً سواءً كان من جموعِ القلة أم من غيرها . والسادسة
- وبها قرأ أيوب السختياني - : وُثُنا وهي أصل القراءة التي قبلها . والسابعة
والثامنة : « أُثْنا ووُثْنا » بسكونِ الثاء مع الهمزة والواو ، وهي تخفف فُعُل
كسُقُف . والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار ، وكذا وُجِدَتْ في مصحف عائشة : « إلا
أَوْثاناً » جمع « وَثَن » نحو : جَمَل وأَجْمال وجَبَل وأَجْبال . وسُمِّيتْ
أصنامهم إناثاً لأنهم كانوا يُلْبسونها أنواعَ الحُلِيّ ويسمونها بأسماءِ المؤنثات
نحو : اللات والعزى ومَناةَ . وقد رُدَّ هذا بأنهم كانوا يُسَمَّون بأسماء الذكور
نحو : هُبَل وذي الخَلَصة ، وفيه نظر ، لأن الغالب تسميتهم بأسماء الاناث . و «
مريداً » فعيل من « مَرَدَ » أي تَجرَّد للشرِّ ، ومنه « شجرة مَرْداء » أي :
تناثر ورقُها ، ومنه : الأمْرَدُ لتجرُّدِ وجهِه من الشعر ، والصَّرْحُ الممرَّد
الذي لا يعلوه غبار من ذلك .
وقرأ
أبو رجاء - ويُرْوى عن عاصم - « تدْعُون » بالخطاب .
قوله : { لَّعَنَهُ الله } فيه وجهان . أظهرُهما : أنَّ الجملة صفة ل « شيطاناً »
فهي في محلِّ نصب ، والثاني : أنها مستأنفةٌ : إمَّا إخبار بذلك ، وإمَّا دعاء
عليه . وقوله : « وقال » فيه ثلاثة أوجه : الصفةُ أيضاً ، أو الحالُ على إضمار «
قد » أي : وقد قال ، أو على الاستناف . و « لأتَّخِذَنَّ » جوابُ قسم محذوف . و «
من عبادك » يجوزُ أَنْ يتعلق بالفعل قبله أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « نصيباً »
لأنه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها .
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
ومفعولاتُ
الأفعال الثلاثة محذوفةٌ للدلالةِ عليها أي : وَلأُضِلَّنَّهم عن الهدى
ولأُمَنِّيَنَّهم بالباطل ولآمُرَنَّهم بالضلال ، كذا قدَّره أبو البقاء والأحسنُ
أن يُقَدَّر المحذوفُ من جنس الملفوظِ به أي : ولآمُرَنَّهم بالبَتك ، ولآمُرَنّهم
بالتغيير . وقرأ أبو عمرو فيما نَقَل عنه ابن عطية : « ولامُرَنَّهم » بغيرِ ألفٍ
وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه ، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القصدَ
الإِخبارُ بوقوعِ هذه الأفعال من غيرِ نظرٍ إلى متعلِّقاتها نحو : { كُلُواْ واشربوا
} [ الطور : 19 ] . والبتَكُ : القَطْعُ والشقُّ ، والبِتْكَةُ : القطعة من الشيء
جَمْعُها بِتَك :
1652- حتى إذا ما هَوَتْ كَفُّ الغلام لها ... طارَتْ وفي كفِّه مِنْ ريشها بِتَكُ
ومعنى ذلك : أنَّ الجاهلية كانوا يَشُقُّون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن آخرُها
ذَكَر .
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
وقُرِىء : { يَعِدُهُمْ } : بسكونِ الدال تخفيفاً لتوالي الحركات ، ومفعولُ الوعدِ محذوفٌ أي : يعِدهُم الباطل أو السلامة والعافية . { إِلاَّ غُرُوراً } يُحْتمل أن يكونَ مفعولاً ثانياً ، وأن يكونَ مفعولاً من أجله ، وأن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي : وعداً ذا غُرور ، وأَنْ يكونَ مصدراً على غير الصدرِ لأنَّ « يَعِدُهم » في قوةِ يَغُرُّهم بوعدِه .
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
و
{ عَنْهَا } : يجوز أن يتعلَّق بمحذوف : إمَّا على الحال من « محِيصاً » لأنه في
الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها ، وإمَّا على التبيين أي : أعني عنها ، ولا
يجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى ب « عن » ولا ب « محيصاً » ، وإنْ كان
المعنى عليه لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّمُ معمولُه عليه ، ومَنْ يُجَوِّزُ ذلك
يُجَوِّزُ تَعَلُّق « عن » به . والمحيصُ : اسمُ مصدر من حاصَ يَحِيص إذا خَلَص
ونَجا ، وقيل : هو الزَّوَغَان بنُفُور ، ومنه قولُه :
1653- ولم نَدْرِ إنْ حِصْناً من الموت حَيْصَةً ... كم العمرُ باقٍ والمَدَى
مُتَطاوِلُ
ويروي : « جِضْنا » بالجيم والضاد المعجمة ، ومنه : « وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ »
وحاصَ باصَ ، أي : وقعوا في أمرٍ يَعْسَرُ التخلُّص منه ، ويقال : مَحِيص ومَحاص
قال :
1654- أتَحِيصُ من حُكْمِ المَنِيَّةِ جاهداً ... ما للرجال عن المَنونِ مَحاصُ
ويقال : حاصَ يَحُوص حَوْصاُ وحِياصاً أي : زَايَل المكانَ الذي كان فهي ،
والحَوْصُ : ضيق مؤخر العين ومنه الأحْوَصُ .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ } : يجوزُ فيه وجهان : الرفع على الابتداءِ ، و الخبر « سَنُدْخِلُهم » والنصبُ على الاشتغال أي : سَنُدْخِل الذين آمنوا سندخلهم ، وقرئ : « سيُدْخِلُهم » بياء الغيْبة . وانتصب « وعد الله » على المصدرِ المؤكِّد لنفسِه « وحقاً » على المصدرِ المؤكِّد لغيرِه ، ف « وعدَ » مؤكدٌ لقولِه « سندخلهم » ، وهو مفهومٌ مما قبله ، و « حقاً » مؤكِّدٌ لقوله : { وَعْدَ الله } و « قيلا » نصبٌ على التمييز . والقيل والقول والقال مصادرُ بمعنى واحدٍ ، ومنه قوله تعالى : { وَقِيلِهِ يارب } [ الزخرف : 88 ] .
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
قوله
تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } : في « ليس » ضميرٌ هو اسمُها ، وفيه خلافٌ
: فقيل : يعودُ على ملفوظٍ به ، وقيل : يعودُ على ما دَلَّ عليه اللفظُ من الفعلِ
، وقيل : يَدُلُّ عليه سببُ الآية . فأمَّا عَوْدُه على ملفوظٍ به فقيل : هو
الوعدُ المتقدِّم في قوله { وَعْدَ الله } وهذا ما اختاره الزمخشري قال : « في ليس
ضميرُ وعدَ الله أي : ليس يُنالُ ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا بأماني أهل
الكتاب . والخطابُ للمسلمين لأنه لايُؤمن بوعِد الله إلا مَنْ آمَن به » وهذا وجهٌ
حسنٌ . وأمَّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه اللفظ فقيل : هو الإِيمان المفهومُ من
قوله : « والذين آمنوا » وهو قولُ الحسنِ وعنه : « ليس الإِيمانُ بالتمني » وأمّا
عودُه على ما يَدُلُّ عليه السببُ فقيل : يعودُ على مجاورةِ المسلمين مع أهلِ
الكتاب ، وذلك أنَّ بعضَهم قال : « دينُنا قبلَ دينكم ، ونبينا قبلَ نبيكم ، فنحن
أفضلُ » وقال المسلمون : « كتابُنا يقضي على كتابكم ، ونبينا خاتمُ الآنبياء »
فنزلت وقيل : يعودُ على الثواب والعقاب أي : ليس الثوابُ على الحسنات ولا العقابُ
على السيئات بأمانيكم . وقيل : قالت اليهودُ نحن أنبياء الله وأحبَّاؤه ، ونحن
أصحاب الجنة ، وكذلك النصارى . وقالت كفار قريش : لا نُبْعَثُ ، فنزلت أي : ليس ما
ادعيتموه يا كفارَ قريش بأمانيِّكم .
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبةُ بن نصاح والحكم والأعرج : « أمانِيكم » « ولا أمانِي
» بالتخفيف كأنَّهم جَمَعُوه على فعالِل دون فعاليل كما قالوا : قَرْقور وقراقير
وقراقِر ، والعرب تُنْقص من فعاليل الياء ، كما تَزيدُها في فعالِل نحو قوله :
1655- . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . تَنْقادَ
الصياريفِ
وقوله : { مَن يَعْمَلْ } جملة مستأنفة مؤكدةٌ لحكم الجملة قبلها . وقرأ الجمهور «
ولا يَجِدْ » جزماً ، على عطفه على جواب الشرط ، وروي عن ابن عامر رفعُه ، وهو على
القطع عن النسق . ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً ، كذا قيل ، وفيه
نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي ب « لا » لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً .
قوله : { مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ } « من » الأولى للتبعيض لأنَّ المكلَّف لا
يطيق عمل كل الصالحات . وقال الطبري : « هي زائدة عند قوم » وفيه ضعفٌ لعدمِ
الشرطين . و « مِنْ » الثانية للمتبين . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً ، وفي
صاحبِها وجهان أحدُهما : أنه الضميرُ المرفوع ب « يعمل » ، والثاني : أنه الصالحات
أي : الصالحات كائنةً من ذكر أو أنثى ، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله : { لاَ
أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } [ آل عمران : 195 ]
والكلامُ على « أو » أيضاً « وقوله : » وهو مؤمن « جملة حالية من فاعل » يعمل «
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر عن عاصم : » يُدْخَلون « هنا وفي مريم وأول غافر
بضم حرف المضارعة وفتح الخاء مبنياً للمفعول ، وانفردَ ابنُ كثير وأبو بكر بثانية
غافر ، وأبو عمرو بالتي في فاطر والباقون بفتحِ حرفِ المضارعة وضَمِّ الخاء مبنياً
للفاعل ، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ ، وقد يظهرُ فروقٌ لا يَسَعُها هذا الكتابُ
.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قوله
تعالى : { مِمَّنْ أَسْلَمَ } متعلِّقٌ ب « أَحْسَنُ » فهي « مِنْ » الجارة
للمفضول ، و « لله » متعلقٌ ب « أَسْلَم » وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوف على
أنه حالٌ من « وجهه » وفيه نظرٌ لا يخفى . « وهو مُحْسِنٌ » حالٌ من فاعل « أَسْلم
» و « اتَّبع » يجوز أن يكون عطفاً على « أسلم » وهو الظاهر ، وأن يكونَ حالاً
ثانية من فاعل « أسلم » بإضمار « قد » عند مَنْ يشترط ذلك ، وقد تقدَّم الكلام على
{ حَنِيفاً } [ الآية : 135 ] في البقرة ، إلا أنه يجوزُ هنا أن يكونَ حالاً من
فاعلِ « اتّبع » .
قوله : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } فيه وجهان ، وذلك أن اتَّخذ « إنْ
عَدَّيْناها لاثنين كان مفعولاً ثانياً وإلا كانَ حالاً ، وهذه الجملة عطف على
الجملةِ الاستفهاميةِ التي معناها الخبرُ نَبَّهَتْ على شرف المتبوع وأنه جديرٌ
بأن يُتَّبع لاصطفاءِ الله له بالخُلّة ، ولا يجوز عطفها على ما قبلها لعدم
صلاحيتِها صلةً للموصول . وجعلها الزمخشري جملةً معترضة قال : » فإنْ قلت ما محلُّ
هذه الجملةِ؟ قلت : لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مِنْ جمل الاعتراضاتِ نحو ما
يجيء في الشعر من قولهم « والحوادثُ جَمَّةٌ » فائدتُها تأكيدُ وجوبِ اتِّباع
مِلَّته ، لأنَّ مَنْ بَلَغ من الزُّلفى عند الله أَن اتَّخذه خليلاً كان جديراً
بأن يُتَّبع « فإنْ عنى بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس ثَمَّ اعتراضٌ ، إذ
الاعتراضُ بين متلازمين كفعلٍ وفاعل مبتدأ وخبر وشرط وجزاء وقسم وجواب ، وإن عَنَى
غيرَ ذلك احتُمِل ، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم : » والحوادثُ جَمَّةٌ « يُشْعِر
بالاعتراض المصطلح عليه؛ فإن قولهم » والحوادث جمة « وَرَدَ في بيتينِ ، أحدُهما
بين / فعل وفاعل كقوله :
1656- وقد أَدْرَكَتْني والحوادثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قومٍ لا ضعافٍ ولا عُزْلِ
والآخرُ يحتمل ذلك ، على أن تكونَ الباءُ زائدةً في الفاعل كقوله :
1657- ألا هل أتاها والحوادثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امرأ القيس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا
ويحتمل أن يكونَ الفاعلُ ضميراً دلَّ عليه السياق أي : هل أتاها الخبر بأن امرأ
القيس ، فيكون اعتراضاً بين الفعل ومعموله .
والخليلُ : مشتق من الخَلَّة بالفتح وهي الحاجة ، أو من الخُلَّة بالضم ، وهي
المودة الخالصة ، أو من الخَلَل . قال ثعلب : » سُمِّي خليلاً لأن مودته
تَتَخَلَّلُ القلبَ « وأنشد :
1658- قد تَخَلَّلْتَ مسلكَ الروحِ مني ... وبه سُمِّي الخليلُ خليلا
وقال الراغب : » الخَلَّة - أي بالفتح- الاختلالُ العارضُ للنفس : إمَّا
لشَهْوَتِها لشيء أو لحاجتِها إليه ، ولهذا فَسَّر الخَلّة بالحاجة ، والخُلّة -
أي بالضم - المودة : إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها ، وإما لأنها تُخِلُّ
النفسَ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السهم في الرميَّة ، وإمَّا لفَرْطِ الحاجة إليها «
ج6. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قوله
تعالى : { وَمَا يتلى } : فيه سبعة أوجه ، وذلك أن موضع « ما » يحتمل أن يكون
رفعاً أو نصباً أو جراً . فالرفعُ من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون مرفوعاً عطفاً
على الضمير المستكنِّ في « يُفتيكم » العائدِ على الله تعالى ، وجاز ذلك للفصل
بالمفعول والجار والمجرور مع أن الفصلَ بأحدِهما كافٍ . والثاني : أنه معطوفٌ على
لفظ الجلالة فقط ، كذا ذكره أبو البقاء وغيرُه ، وفيه نظر ، لأنه : إمَّا أَنْ
يُجعلَ من عطف مفردٍ على مفرد فكان يجب أن يُثَنَّى الخبرُ وإنْ توسط بين
المتعاطفين فيقال : « يُفْتِيانكم » ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز ، ومَنِ ادَّعى
جوازه يَحْتاج إلى سماع من العرب فيقال : « زيد قائمان وعمرو » ومثلُ هذا لا يجوز
، وإمَّا أَنْ يُجْعَلَ من عطف الجمل بمعنى أنَّ خبرَ الثاني محذوفٌ أي : وما
يتلى عليكم يُفْتيكم ، فيكون هذا هو الوجهَ الثالث - وقد ذكروه - فيلزم التكرار .
والثالث من أوجه الرفع : أنه رفع بالابتداء وفي الخبر احتمالان ، أحدهما : أنه
الجار بعده وهو « في الكتاب » والمرادُ بما يتلى القرآنُ ، وبالكتابِ اللوحُ
المحفوظ ، وتكون هذه الجملةُ معترضةً بين البدل والمبدل منه على ما سيأتي بيانُه .
وفائدةُ الاخبارِ بذلك تعظيمُ المتلوِّ ورفعُ شأنِه ، ونحوه : { وَإِنَّهُ في
أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] . والاحتمال الثاني :
أن الخبر محذوف : أي : والمتلوُّ عليكم في الكتاب يُفْتيكم أو يبيِّن لكم أحكامَهن
، فهذه أربعة أوجه . وكلام الزمخشري يحتمل جميع الأوجه ، فإنه قال : « ما يُتْلى »
في محل الرفع أي : اللّهُ يُفْتيكم والمتلوُّ في الكتاب في معنى اليتامى ، يعني
قولَه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] وهو
من قولك : « أعجبني زيدٌ وكرمه » انتهى . يعني أنه من بابِ التجريد ، إذ المقصودُ
الإِخبارُ بإعجاب كرمِ زيدٍ ، وإنما ذُكِر زيدٌ ليُفيدَ هذا المعنى الخاص لذلك
المقصود أنّ الذي يُفْتيهم هو المتلو في الكتاب ، وذُكِرت الجلالةُ للمعنى المشار
[ إليه ] ، وقد تقدَّم تحقيق التجريد في أول البقرة عند قوله { يُخَادِعُونَ الله
} [ الآية : 9 ] .
والجر من وجهين ، أحدهما : أن تكون الواو للقسم ، وأقسمَ اللّهُ بالمتلوِّ في شأن
النساء تعظيماً له كأنه قيل : وأُقْسم بما يُتْلى عليكم في الكتاب ، ذكره الزمخشري
والثاني : أنه عطفٌ على الضمير المجرور ب « في » أي : يُفْتيكم فيهنَّ وفيما يتلى
، وهذا منقولٌ عن محمد بن أبي موسى قال : « أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم
يَسْألوا » إلا أنَّ هذا ضعيف من حيث الصناعةُ ، لأنه عطفٌ على الضميرِ المجرورِ
من غير إعادة الجار وهو رأي الكوفيين ، وقد قَدَّمْتُ ما في ذلك من مذاهب الناس
ودلائلهم مستوفى عند قوله :
{
وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] فعليك بالالتفات إليه . قال
الزمخشري : « ليس بسديدٍ أن يُعْطَف على المجرور في » فيهنَّ « لاختلاله من حيث
اللفظ والمعنى » وهذا سبَقَه إليه أبو إسحاق قال : « وهذا بعيدٌ بالنسبةِ إلى
اللفظِ وإلى المعنى : أمَّا اللفظُ فإنه يقتضي عطفَ المُظْهَر على المضمرِ ، وأما
المعنى فلأنه ليس المرادُ أنَّ اللّهَ يفتيكم في شأنِ ما يُتْلى عليكم في الكتاب ،
وذلك غيرُ جائزٍ كما لم يَجُزْ في قوله { تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء :
1 ] يعني من غيرِ إعادةِ الجار . وقد أجاب الشيخ عما ردَّ به الزمخشري والزجاج بأن
التقدير : يُفْتيكم في متلوِّهنَّ وفيما يُتْلى عليكم في الكتابِ في يتامى النساء
، وحُذِف لدلالة قوله { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ } وإضافةُ » متلوّ « إلى ضمير »
هُنَّ « سائغةٌ ، إذ الإِضافةُ تكون بأدنى ملابسةٍ لمَّا كان متلواً فيهن صَحَّتِ
الإِضافةُ إليهن ، كقوله : { مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] لمَّا كان المكرُ
يقع فيهما صَحَّتْ إضافُته إليهما ، ومثله قول الآخر :
1659- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بِسُحْرَةٍ ... سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في
الغرائب
وفي هذا الجواب نظرٌ .
والنصبُ بإضمار فعل أي : ويبيِّن لكم ما يُتْلى ، لأنَّ » يُفْتيكم « بمعنى يبيِّن
لكم . واختار الشيخ وجهَ الجرِّ على العطفِ على الضمير ، مختاراً لمذهب الكوفيين
وبأنَّ الأوجه كلَّها تؤدي إلى التأكيد ، وأمَّا وجهُ العطف على الضمير فيجعلُه
تأسيساً قال : » وإذا دار الأمرُ بينهما فالتأسيسُ أَوْلى « وفي جَعْلِه هذا
الوجهَ منفرداً بالتأسيس دونَ بقية الأوجه نظرٌ لا يَخْفى .
قوله : { فِي الكتاب } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنه متعلق ب » يُتْلى «
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في » يتلى «
والثالث : أنه خبر » ما يتلى « على الوجه الصائر إلى أنَّ » ما يتلى « مبتدأ ،
فيتعلق بمحذوف أيضاً ، إلاَّ أنَّ محلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ ، وعلى ما قبله نصبٌ
.
قوله : { فِي يَتَامَى } فيه خمسة أوجه ، أحدُها : أنه بدل من » الكتاب « وهو بدلُ
اشتمالٍ ، ولا بد مِنْ حذفِ مضافٍ أي في حُكْم يتامى ، ولا شك أن الكتابَ مشتملٌ
على ذكرِ أحكامهن . والثاني : أن يتعلق ب » يتلى « فإن قيل : كيف يجوزُ تعلُّقُ
حَرْفَيْ جر بلفظ واحد ومعنى واحد؟ فالجوابُ أنَّ معناهما مختلف ، لأنّ الأولى
للظرفيةِ على بابها ، والثانية بمعنى الباء للسببية مجازاً أو حقيقةً عند مَنْ
يقولُ بالاشتراك . وقال أبو البقاء : كما تقولُ » جئتُك في يوم الجمعة في أَمْرِ
زيد « والثالث : أنه بدل من » فيهن « بإعادة العامل ، ويكون هذا بدل بعض من كل .
قال الزمخشري : » فإنْ قلت : بِمَ تعلَّق قوله « في يتامى النساء؟ » قلت : في
الوجه الأول هو صلةُ « يُتْلى » أي : يُتْلى عليكم في معناهن ، ويجوز أن يكونَ « في
يتامى » بدلاً من « فيهنَّ » ، وأمّا في الوجهين الأخيرين فبدلٌ لا غير « انتهى .
يعني
بالوجه الأول أن يكونَ « ما يتلى » مرفوعَ المحل . قال الشيخ : « أمَّا ما أجازه
في وجَهْ الرفع من كونه صلة » يتلى « فلا يجوزُ إلاَّ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ » في
الكتاب « أو تكون » في « للسببية ، لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد
بعاملٍ واحد ، وهو ممتنعٌ إلا في البدل والعطف ، وأمَّا تجويزُه أن يكونَ بدلاً من
» فيهن « فالظاهرُ أنه لا يجوز للفصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالمعطوفِ ، ويصير
هذا نظيرَ قولك : » زيدٌ يقيمُ في الدار وعمروٌ في كِسْرٍ منها « فَفَصَلْتَ بين »
في الدار « وبين » في كِسْر « ب » عمرو « والمعهودُ في مثل هذا / التركيب : زيدٌ
يقيمُ في الدار في كِسْرٍ منها وعمروٌ » الرابعُ : أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب أي :
فيما كَتَب في حكم اليتامى . الخامس : أنه حال فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وصاحبُ الحالِ
هو المرفوعُ ب « يُتْلى » أي : كائناً في حكم يتامى النساء ، وإضافةُ « يتامى »
إلى النساء من بابِ إضافةِ الخاص إلى العام لأنهن ينقسمن إلى يتامى وغيرهن . وقال
الكوفيون : هو من إضافةِ الصفة إلى الموصوف ، إذا الأصلُ : في النساء اليتامى ، وهذا
عند البصريين لا يجوز ، ويؤولون ما وَرَدَ من ذلك . وقال الزمخشري : « فإنْ قلت :
إضافة اليتامى إلى النساء ما هي؟ قلت : هي إضافةٌ بمعنى » مِنْ « نحو : سُحْقِ
عمامةٍ . قال الشيخ : » والذي ذكره النحويون من ذلك إضافة الشيء إلى جنسه نحو : «
خاتمُ حديدٍ » ويجوزُ الفصل إمَّا بإتباع نحو : « خاتمٌ حديدٌ » أو تنصبَه تمييزاً
نحو : « خاتمٌ حديداً » أو تجرُّه ب « مِنْ » نحو : خاتم من حديد « قال : »
والظاهر أن إضافة « سُحْق عمامةٍ » و « يتامى النساء » بمعنى اللامِ ، ومعنى اللام
الاختصاص « وهذا الردُّ ليس بشيء فإنهم ذكروا ضابط الإِضافة التي بمعنى » مِنْ «
أن تكونَ إضافةَ جزءٍ إلى كل بشرطِ صدقِ اسمِ الكل على البعض ، ولا شك أن » يتامى
« بعض من النساء ، والنساء يَصْدُق عليهنَّ ، وتحرَّزْنا بقولنا » بشرطِ صدقِ الكل
على البعض ، من نحو « يد زيد » فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليد وحدَها . وقال
أبو البقاء : « في يتامى النساء » أي : في اليتامى منهن « وهذا تفسيرُ معنى لا
إعرابٍ .
والجمهور على » يتامى « جمع يتيمة . وقرأ أبو عبد الله المدني : » ييامى « بياءين
مِنْ تحتُ ، وخَرَّجه ابن جني على أن الأصل » أَيامى « فأَبْدَل من الهمزة ياءً ،
كما قالوا : » فلانٌ ابنُ أعصر ويَعْصر « ، والهمزةُ أصلٌ ، سُمِّي بذلك لقوله :
1660-
أبْنَيَّ إنَّ أباكَ غَيَّر لونَه ... كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ
وهم يُبْدلون الهمزةَ من الياء كقولهم : « قطع الله أَدَاهُ » يريدون : يَده ،
فلذلك يُبْدِلون منها الياءَ ، و « أيامى » جمع « أَيِّم » بوزن فَيْعِل ، ثم
كُسِّر على أيايم كسيِّد وسيايد ، ثم قُلِبَتِ اللامِ إلى موضعِ العين ، والعين
إلى موضع اللام فصار اللفظ « أَيامي » ثم قُلِبت الكسرةُ فتحةً لخفتِها ، فتحركت
الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصار : « أيامى » فوزنه فيالع . وقال أبو
الفتح أيضاً : « ولو قيل إنه كُسِّر أيِّم على فَعْلى كسَكْرى ثم كُسِّر ثانياً
على » أيامى « لكان وجهاً حسناً . وسيأتي تحقيق هذه اللفظة عند قوله : {
وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] إنْ شاء الله تعالى . وقرئ : » ما
كَتَبَ اللَّهُ لهنَّ بتسمية الفاعل .
قوله : { وَتَرْغَبُونَ } فيه أوجه ، أحدُهما : - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على
الصلةِ عطفَ جملةٍ مثبتةٍ على جملةٍ منفية أي : اللاتي لا تؤتونهن واللاتي ترغبون
أن تنكوحوهُن ، كقولك : « جاء الذي لا يَبْخَلُ ويكرم الضيفان » والثاني : أنه
معطوفٌ على الفعلِ المنفيِّ ب « لا » أي : لا تؤتونهن ولا ترغبون والثالث : أنه
حالٌ من فاعل « تؤتونهن » أي : لا تؤتونهن وأنتم راغبون في نكاحهن . ذكر هذين
الوجهين أبو البقاء ، وفيهما نظر : أمّا الأولُ فلخلافِ الظاهر ، وأما الثاني
فلأنه مضارع مثبت ، فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويلٍ لا حاجة لنا به ههنا .
و { أَن تَنكِحُوهُنَّ } على حَذْفِ حرفِ الجر ففيه الخلاف المشهور : أهي في محل
نصب أم جر؟ واختُلِفَ في تقدير حرف الجر فقيل : هو « في » أي : ترغبون في نكاحهن
لجمالِهِنَّ ومالِهنَّ ، وقيل : هو « عن » أي : ترغبون عن نكاحهن لقُبْحِهن
وفقرهنَّ ، وكان الأولياء كذلك : إن رَأَوها جميلة موسِرَةً تزوجها وليُّها ،
وإلاَّ رغبَ عنها . والقول الأول مرويُّ عن عائشة وطائفة كبيرة . وهنا سؤال : وهو
أنَّ أهلَ العربية ذكروا أن حرف الجر يجوز حذفُه باطراد مع « أَنْ » و « أنَّ »
بشرط أَمْنِ اللبس ، يعني أن يكون الحرفُ متعيناً نحو : « عجبت أن تقوم » أي : من
أن تقوم ، بخلاف « مِلْتُ إلى أن تقوم » أو « عن أن تقوم » والآيةُ من هذا القبيل
. والجواب : أن المعنيين صالحان يدل عليه ما ذكرت لك من سببِ النزولِ فصار كلُّ من
الحرفين مراداً على سبيلِ البدل .
قوله : { والمستضعفين } فيه ثلاثة أوجه الأول - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على «
يتامى النساء » أي : ما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين ، والذي تُلي
عليهم فيهم قوله :
{
يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] ، وذلك أنهم كانوا يقولون :
لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يحمي الحَوْزة ويَذُبُّ عن الحرَمِ فيَحرمون المرأة
والصغيرَ فنزلت . والثاني : أنَّه في محلِّ جر عطفاً على الضمير في « فيهن » وهذا
رأيٌ كوفي . والثالث : أنه منصوب عطفاً على موضع « فيهن » أي : ويبيِّن حالَ
المستضعفين . قال أبو البقاء : « وهذا التقديرُ يَدْخُلُ في مذهبِ البصريين مِنْ
غيرِ كَلَفَةٍ » يعني أنه خير من مذهب الكوفيين ، حيث يُعْطَفُ على الضمير المجرور
مِنْ غير إعادَةِ الجار .
قوله : { وَأَن تَقُومُواْ } فيه خمسةُ أوجه : الثلاثة المذكورة فيما قبله فيكون
هو كذلك لعطفِه على ما قبلَه ، والمتلوُّ عليهم في هذا المعنى قولُه : { وَلاَ
تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ونحوه . والرابع :
النصبُ بإضمار فعل . قال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار » يأمركم
« بمعنى : ويأمركم أن تقوموا ، وهو خطابٌ للأئمة بأَنْ ينظروا إليهم ويستوفوا لهم
حقوقهم ولا يَدَعوا أحداً يهتضم جانبهم » فهذا الوجه من النصبِ غيرُ الوجهِ الذي
ذكرته فيما قبلُ والخامس : أنه مبتدأ وخبره محذوفٌ أي : وقيامُكم لليتامى بالقسطِ
خيرُ لكم . وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ .
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
قوله
تعالى : { وَإِنِ امرأة } : « امرأةٌ » فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ واجبِ الإِضمار ، وهذه
من باب الاشتغال ، ولا يجوزُ رفعُها بالابتداء لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يليها إلا
الفعلُ عند جمهور البصريين خلافاً للأخفش والكوفيين ، والتقديرُ : « وإنْ خافت
امرأة خافت » ونحوهُ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] .
واستدلَّ البصريون على مذهبهم بأن الفعل قد جاء مجزوماً بعد الاسم الواقع أداة
الشرط في قول عدي :
1661- ومتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
و { مِنْ بعلها } يجوزُ أن يتلعَّق ب « خافت » وهو الظاهر ، وأن يتعلق بمحذوف على
أنه حال من « نُشوزاً » إذ هو الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها تعذَّر
جَعْلُه صفةً فنُصِب حالاً . و « فلا » جوابُ الشرط .
قوله : { أَن يُصْلِحَا } قرأ الكوفيون : / « يُصْلِحا » من أصلح ، وباقي السبعة «
يَصَّالحا » بتشديد الصاد بعدها ألف ، وقرأ عثمان البتي والجحدري : « يَصَّلِحا »
بتشديد الصاد من غير ألف ، وعبيدة السلماني : « يُصالِحا » بضمِّ الياءِ وتخفيفِ
الصادِ وبعدَها ألفٌ من المفاعلة ، وابن مسعود والأعمش : « أن اصَّالحا » فأمّا
قراءةُ الكوفيين فواضحةٌ ، وقراءةُ باقي السبعة أصلُهَا « يتصالحا » فأُريد
الإِدغام تخفيفاً فَأُبْدِلت التاءُ صاداً وأُدْغِمت ، وأمَّا قراءةُ عثمان
فأصلُها : « يَصْطَلِحا » فَخُفِّفَ بإبدالِ الطاء المبدلةِ من تاءِ الافتعال
صاداً وإدغامهما فيما بعدها . وقال أبو البقاء : « وأصلُه : : » يَصْتَلِحا «
فأُبْدِلت التاء صاداً وأُدْغِمت فيها الأولى » وهذا ليس بجيدٍ ، لأنَّ تاءً
الافتعال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحرف الأربعة كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة ،
فلا حاجة إلى تقديرها تاءً ، لأنه لو لُفِظ بالفعلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتاء
إلا بياناً لأصلِهِ . وأمَّا قراءةُ عبيدة فواضحةٌ لأنها من المصالحة . وأما قراءة
« يصطلحا » فأوضحُ . ولم يُخْتلف في « صُلْحاً » مع اختلافِهم في فعلِه .
وفي نصبِه أوجهٌ : فإنه على قراءة الكوفيين يَحْتمل أن يكونَ مصدراً ، وناصبُه :
إمَّا الفعلُ المتقدمُ وهو مصدرٌ على حذف الزوائد ، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسمُ
مصدرٍ كالعطاءِ والنبات ، وإمَّا فعلٌ مقدرٌ أي : فيُصْلِحُ حالهما صلحاً . وفي
المفعولِ على هذين التقديرين وجهان ، أحدُهما : أنه « بينهما » اتُسِّع في الظرف
فجُعِل مفعولاً به . والثاني : أنه محذوف « وبينهما » ظرفٌ أوحالٌ مِنْ « صلحا »
فإنه صفةٌ له في الأصل . ويُحْتمل أن يكونَ نصبُ « صلحاً » على المفعول به إن
جعلته اسماً للشيء المصطلح عليه كالعَطاء بمعنى المُعْطى ، والنبات بمعنى
المُنْبَت . وأمَّا على بقيةِ القراءات فيجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً على أحدِ
التقديرين المتقدمين : أعني كونَه اسمَ المصدرِ ، أو كونَه على حَذْفِ الزوائد ،
فيكون واقعاً موقعَ « تصالحا أو اصطلاحاً أو مصالحةً » حَسْبَ القراءات المتقدمة ،
ويجوزُ أَنْ يكون منصوباً على إسقاطِ حرفِ الجرِ أي : بصلح أي بشيء يقعُ بسببِ
المصالحة ، إذا جَعَلْناه اسماً للشيء المصطلح عليه .
والحاصلُ
أنه من بقية القراءات ينتفي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورِ في قراءة الكوفيين ،
وتبقى الأوجهُ الباقيةُ جائزةً في سائر القراءات .
قوله : { والصلح خَيْرٌ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة قال الزمخشري فيها وفي التي
بعدها : « إنهما اعتراضٌ » ولم يبيِّنْ ذلك ، وكأنه يريد أن قولَه : « وإنْ
يَتفَرَّقا » معطوفٌ على قوله : « فلا جناح » فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً ،
هكذا قال الشيخ وفيه نظر ، فإن بعدهما جملاً أُخَرَ فكان ينبغي أن يقول الزمخشري
في الجميع : إنها اعتراض ، ولا يخص : « والصلح خير » « وأُحْضِرَت الأنفسُ » بذلك
، وإنما يريد الزمخشري بذلك الاعتراضَ بين قوله : { وَإِنِ امرأة } وقوله : {
وَإِن تُحْسِنُواْ } فإنهما شرطان متعاطفان ، ويَدُلُّ عليه تفسيرُه له بما يفيد
هذا المعنى فإنه قال : « وإن تحسنوا بالإِقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم
غيرهن وتتقوا النشوزَ والإِعراضَ » انتهى . والألفُ واللام في « الصلح » يجوزُ أن
تكونَ للجنس وأن تكونَ للعهد لتقدُّمِ ذكره نحو : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [
المزمل : 16 ] . و « خير » يُحْتمل أن تكون للتفضيل على بابها والمفضَّلُ عليه
محذوفٌ فقيل : تقديرُه : من النشوز والإِعراض ، وقيل : خيرٌ من الفرقة ، والتقدير
الأولُ أَوْلى للدلالة اللفظية ، ويُحْتمل أن تكون صفةً مجردةً أي : والصلحُ خيرٌ
من الخيور ، كما أنَّ الخصومةَ شرُّ من الشرور .
قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } « حَضَر » يتعدى إلى مفعول ، واكتسب بالهمزة
مفعولاً ثانياً ، فلمَّا بُني للمفعول قامَ أحدُهما مقامَ الفاعل فانتصبَ الآخرُ .
والقائمُ مقامَ الفاعلِ هنا يَحْتمل وجهين أظهرهما - وهو المشهورُ مِنْ مذاهب
النحاة - أنه الأول وهو « الأنفس » فإنه الفاعل في الأصل ، إذ الأصل : « حضرت
الأنفسُ الشحَّ » والثاني : أنه المفعول الثاني ، والأصل : وحضر الشحُّ الأنفسَ ،
ثم أحضر اللَّهُ الشحَّ الأنفسَ ، فلما بُني الفعل للمفعول أٌقيم الثاني - وهو
الأنفسُ- مقامَ الفاعل ، فأُخِّر الأول وبقي منصوباً ، وعلى هذا يجوز أن يقال : «
أُعْطِي درهمٌ زيداً » و « كُسِي جبةً عمراً » والعكس هو المشهورُ كما تقدَّم ،
وكلامُ الزمخشري يَحْتمل كونَ الثاني هو القائمَ مقامَ الفاعلِ فإنه قال : « ومعنى
إحضارِ الأنفس الشحَّ أنَّ الشح جُعِل حاضراً لها لا يَغيب عنها أبداً ولا ينفك »
يعني أنها مطبوعةٌ عليه ، فأُسْنِدَ الحضورُ إلى الشح كما ترى ، ويحتمل أنه جَعَله
من باب القلب فنسَب الحضورَ إلى الشحِّ وهو في الحقيقة منسوب إلى الأنفس . وقرأ
العدوي : « الشِحَّ » بكسر الشين وهي لغة . والشُّحُّ : البخل مع حرص فهو أخص من
البخل .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
قوله تعالى : { كُلَّ الميل } : نصبٌ على المصدرية ، وقد تقرر أن « كل » بحسَبِ ما تُضاف إليه ، إنْ أضيفت إلى مصدر كانت [ مصدراً ] ، أو ظرفٍ أو غيره فكذلك . قوله : { فَتَذَرُوهَا } فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب بإضمارِ « أَنْ » في جواب النهي ، والثاني : أنه مجزوم عطفاً على الفعل قبله أي : فلا تذروها ، ففي الأول نَهْيٌ عن الجمع بينهما ، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ ، والضميرُ في « تَذَروها » يعود على المميلِ عنها لدلالة السياق عليها . قوله : { كالمعلقة } حال من « ها » في « تَذَروها » فيتعلق بمحذوف أي : فتذروها مشبهةً المعلقة ، ويجوز عندي أن يكون مفعولاً ثانياً لأن قولك : / « تذر » بمعنى « تترك » وتَرَكَ « يتعدَّى لاثنين إذا كان بمعنى صيَّر .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
قوله
تعالى : { وَإِيَّاكُمْ } : عطف على « الذين أُوتوا » وهو واجبُ الفصلِ هنا
لتعذُّرِ الاتصال . واستدلَّ بعضُهم على أنه إذا قُدِر على الضمير المتصل يجوز أن
يُعْدَلَ إلى المنفصل بهذه الآية ، لأنه كان يمكن أن يقال : « ولقد وَصَّيْناكم
والذين أوتوا » وكذلك استُدِلَّ بقوله تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ
} [ الممتحنة : 1 ] ، إذ يمكن أن يقالَ : يخرجونكم والرسولَ . وهذا ليس يَدُلّ له
، أمَّا الآيةُ الأولى فلأنَّ الكلامَ فيها جاء على الترتيب الوجودي ، فإنَّ وصية
مَنْ قبلَنا قبلَ وصيتنا ، فلمَّا قَصَدَ هذا المعنى استحال - والحالةُ هذه- أَنْ
يُقْدَر عليه متصلاً . وأما الآية الثانية فلأنه قصد فيها تقدُّمَ ذِكْرِ الرسول
تشريفاً له وتشنيعاً على مَنْ تجاسر على مثلِ ذلك الفعل الفظيع ، فاستحال -
والحالة هذه - أن يُجاء به متصلاً . « ومِنْ قبلكم » يجوزُ أَنْ يتعلق ب « أوتوا »
ويجوز أَنْ يتعلَّق ب « وَصَّيْنا » والأولُ أظهرُ .
قوله : { أَنِ اتقوا } يجوزُ في « أن » وجهان ، أحدهما : أن تكونَ مصدريةً على
حَذْفِ حرفِ الخفض تقديره : بأن اتَّقوا ، فلما حُذِف الحرفُ جَرى فيها الخلافُ
المشهور . والثاني : أن تكون المفسرةَ لأنها بعد ما هو بمعنى القول لا حروفِه وهو
الوصية . والظاهر أن قوله : { وَإِن تَكْفُرُواْ } جملة مستأنفة للإِخبار بهذه
الحال ليست داخلة في معمول الوصية . وقال الزمخشري : « وإنْ تكفروا فإن لله » عطفٌ
على « اتقوا » لأنَّ المعنى : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وقُلْنا لهم ولكم إنْ
تكفروا « وفي كلامِه نظرٌ ، لأنَّ تقديرَه القولَ ينفي كونَ الجملةِ الشرطيةِ
مندرجةً في حَيِّزِ الوصيةِ بالنسبة إلى الصناعة النحوية ، وهو لم يقصد تفسيرَ
المعنى فقط ، بل قَصَدَه هو وتفسيرَ الإِعرابِ بدليل قوله : » عطف على « اتقوا » و
« اتقوا » داخلٌ في حَيِّز الوصيةِ ، سواءً أَجَعَلْتَ « أن » مصدريةً أم مفسرة .
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قوله تعالى : { بِآخَرِينَ } : آخرين صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ مِنْ جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه : بناسٍ آخرين يعبدون الله ، ويجوز أن يكونَ المحذوفُ من غير جنس ما تقدَّمه . قال ابن عطية : « يحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم ، ويكونُ الآخرون من غير نوعهم ، كا رُوي أنه كان ملائكةٌ في الأرض يعبدون الله . وقال الزمخشري : » أو خلقاً آخرين غيرَ الإِنس « وكذلك قال غيرهما . وقد رَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنَّ مدلولَ آخر وأخرى وتثنيتَهما وجمعَهما نحو مدلول » غير « إلا أنه خاصُّ بجنسِ ما تقدَّمه ، فإذا قلت : » اشتريت فرساً وآخرَ ، أو : ثوباً وآخر ، أو : جارية وأخرى ، أو : جاريتين وأُخْريين ، أو جواري وأُخَرَ « لم يكن ذلك كلُه إلا من جنس ما تقدم ، حتى لو عنيت » وحماراً آخر « في الامثلة السابقة لم يَجُزْ ، وهذا بخلافِ » غير « فإنَّها تكون من جنسِ ما تقدَّم ومِنْ غيرِه ، تقول » اشتريت ثوباً وغيره « لو عنيت : » وفرساً غيره « جاز . قال : » وقَلَّ مَنْ يعرف هذا الفرق « وهذا الفرقُ الذي ذكره وَردَّ به على هؤلاء الأكابرِ غيرُ موافَقٍ عليه ، لم يستند فيه إلى نَقْل ، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريق أخرى ، وهو أن » آخرين « صفةٌ لموصوف محذوف ، والصفةُ لا تقوم مقامَ موصوفِها إلا إذا كانت خاصةً بالموصوف نحو : » مررت بكاتبٍ « أو يدل عليه دليل ، وهنا ليست بخاصةٍ ، فلا بد وأن تكونَ من جنسِ الأولِ لتحصُلَ بذلك الدلالةُ على الموصوفِ المحذوفِ .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
قوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ } : « مَنْ » يجوز فيها وجهان ، أظهرهما : أنها شرطية ، وجوابُها قولُه : { فَعِندَ الله } ولا بد من ضمير مقدر في هذا الجواب يعودُ على اسم الشرط لِما تقرر قبل ذلك ، والتقدير : فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرةِ له إنْ أراده ، وهذا تقدير الزمخشري . قال : « حتى يتعلَّق الجزاءُ بالشرط » وجَوَّز الشيخ - وجعله الظاهرَ- أنَّ الجواب محذوف تقديره : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يَقْتصر عليه ، وليطلبِ الثوابين ، فعند الله ثوابُ الدارين . والثاني : أنها موصلةٌ ودخلت الفاءُ في الخبر تشبيهاً له باسم الشرط ، ويُبْعِده مُضِيُّ الفعلِ بعدَه [ والعائدُ محذوفٌ كما تقرَّر تمثيلُه ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
قوله
تعالى : { شُهَدَآءِ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خبر ثان ل « كان » وهذا فيه
خلافٌ قد مَرَّ ذكره . والثاني : أنه حال من الضمير المستكن في « قَوَّامين »
فالعاملُ فيها « قَوَّامين » وقد رَدَّالشيخ هذا الوجهَ بأنه يلزمُ منه تقييدُ
كونِهم قوامين بحال الشهادة ، وهم مأمورون بذلك مطلقاً ، وهذا الردُّ ليس بشيء ،
فإن هذا المعنى نحا إليه ابن عباس قال - رضي الله عنه - : « كونوا قَوَّامين
بالعدلِ في الشهادة على مَنْ كانَتْ » وهذا هو معنى الوجهِ الصائرِ إلى جَعْلِ «
شهداء » حالاً .
قوله : { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } « لو » هذه تحتمل أَنْ تكونَ على بابها من
كونِها حرفاً لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه وجوابُها محذوفٌ أي : ولو كنتم شهداءَ
على أنفسكم لوجب عليكم أن تَشْهدوا عليها . وأجاز الشيخ أن تكونَ بمعنى « إن »
الشرطية ، ويتعلَّقُ قولُه « على أنفسكم » بمحذوفٍ تقديرُه : وإن كنتم شهداء على
أنفسكم فكونوا شهداء لله ، هذا تقديرُ الكلام ، وحَذْفُ « كان » بعد « لو » كثير ،
تقول : ائتِني بتمر ولو حَشَفاً « أي : وإن كان التمر حشفاً فأتني به » . انتهى
وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه ، ومجيءُ « لو » بمعنى « إنْ » شيءْ أثبته بعضُهم على
قلة فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ عليه . وقال ابن عطية : « على أنفسكم »
متعلِّقٌ ب « شهداء » قال الشيخ « فإنْ عنى ب » شهداء « الملفوظَ به فلا يَصِحُّ ،
وإنْ عَنَى به ما قَدَّرْناه نحن فيصِحُّ » يعني تقديرَه « لو » بمعنى « إنْ »
وحَذْفَ « كان » واسمِها وخبرِها بعد « لو » وقد تقدَّم أن ذلك قليلٌ ، فلم يبق
إلا أن ابن عطيةَ يريد « شهداء » محذوفةً كما قَدَّرْتُه لك أولاً نحو : « ولم
كنتم شهداء » على أنفسكم لوجَبَ عليكم أن تشهدوا .
وقال الزمخشري : « ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفسكم » فَجَعَل « كان » مقدرةً ، وهي
تحتملُ في تقديرِه التمام والنقصان : فإنْ قَدَّرْتَها تامةً كان قولُه « على
أنفسكم » / متعلقاً بنفسِ الشهادة ، ويكون المعنى : « ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على
أنفسكم ، وإنْ قَدَّرْتَها ناقصةً فيجوزُ أَنْ يكونَ » على أنفسكم « متعلقاً
بمحذوفٍ على أنه خبرها ، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الشهادة ، وحينئذ يكون الخبر
مقدراً ، والمعنى : » ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفسِكم موجودةً ، إلا أنه يلزمُ
مِنْ جَعْلِنا « على أنفسكم » متعلقاً بالشهادة حَذْفُ المصدرِ وأبقاءُ معمولِه
وهو قليلٌ أو ممتنع . وقال أيضاً : « ويجوز أن يكون المعنى : » وإن كانت الشهادة
وبالاً على أنفسكم « ورَدَّ عليه الشيخ هذين الوجهين فقال : » وتقديرُه : ولو كانت
الشهادة على أنفسكم ليس بجيد؛ لأن المحذوف إنما يكون مِنْ جنسِ الملفوظِ به ليدلَّ
عليه ، فإذا قلت : « كن محسناً ولو لمَنْ أساء إليك » فالتقدير : ولو كنت محسناً
لمَنْ أساء ، ولو قَدَّرْته « ولو كان إحسانك » لم يكن جيداً لأنك تحذف ما لا دلالةَ
عليه بلفظٍ مطابقٍ « وهذا الردُّ ليس بشيء ، فإن الدلالة اللفظية موجودةٌ لاشتراكِ
المحذوفِ والملفوظِ به في المادة ، ولا يَضُرُّ اختلافُهما في النوع .
وقال
في الوجه الثاني : « وهذا لا يجوز لأن ما تعلق به الظرف كونٌ مقيدٌ ، والكونُ
المقيد لا يجوزُ حَذْفُه بل المطلقُ ، لو قلت : » [ كان ] زيدٌ فيك « تعني : محباً
فيك لم يجز » وهذا الرد أيضاً ليس بشيء لأنه قَصَد تفسير المعنى ، ومبادئُ النحو
لا تَخْفى على آحاد الطلبة فكيف بشيخِ الصناعة؟ .
قوله : { فالله أولى بِهِمَا } إذا عُطف ب « أو » كان الحكمُ في عَوْدِ الضمير
والإِخبارِ وغيرِهما لأحدِ الشيئين أو الأشياء ، ولا يجوز المطابقةُ تقول : « زيد
أو عمرو أكرمته » ولو قلت : أكرمتها لم يَجُزْ ، وعلى هذا يقال : كيف ثَنَّى
الضميرَ في الآية الكريمة والعطفُ ب أو؟ لا جرم أن النحويين أختلفوا في الجوابِ عن
ذلك على خمسةِ أوجه . أحدها : أنَّ الضميرَ في « بهما » ليس عائداً على الغني
والفقير المذكورين أولاً ، بل على جنسَيْ الغني والفقير المدلولِ عليهما
بالمذكورَيْن ، تقديرُه : وإنْ يكنِ المشهودُ عليه غنياً أو فقيراً فليشهد عليه ،
فاللَّهُ أَوْلى بجنسَي الغني والفقير ، ويَدُلُّ على هذا قراءة أُبَيّ : « فالله
أوْلَى بهم » أي بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجنس على ما قَرَّرته لك ، ويكون
قوله : { فالله أولى بِهِمَا } ليس جواباً للشرط ، بل جوابُه محذوفٌ كما قد عرفته
، وهذا دالٌّ عليه . الثاني : أنَّ « أو » بمعنى الواو ، ويُعْزى هذا للأخفش ،
وكنت قدَّمْتُ أولَ البقرة أنه قولُ الكوفيين وأنه ضعيفٌ . الثالث : أن « أو »
للتفصيل أي : لتفصيلِ ما أُبْهم . وقد أوضح ذلك أبو البقاء فقال : « وذلك أنَّ
كلَّ واحد من المشهود عليه والمشهود له قد يكون غنياً وقد يكون فقيراً . وقد
يكونان غنيين وقد يكونان فقيرين ، وقد يكون أحدهما غنياً والآخر فقيراً . فلما
كانتِ الأقسام عند التفصيل على ذلك أُتِي ب » أو « لتدل على التفصيل ، فعلى هذا
يكون الضمير في » بهما « عائداً على المشهود له والمشهودِ عليه على أيِّ وصفٍ كانا
عليه » انتهى . إلاَّ أنَّ قولَه : « وقد يكون أحدهما غنياً والآخر فقيراً » مكررٌ
لأنه يُغْني عنه قولُه « وذلك أنَّ كلَّ واحد » إلى آخره . الرابع : أنَّ الضمير
يعود على الخصمين تقديره : إن يكنِ الخصمان غنياً أو فقيراً فالله أَوْلى بذينك
الخصمين .
الخامس
: أنَّ الضميرَ يعودُ على الغِنى والفقرِ المدلول عليهما بلفظِ الغني والفقير .
والتقديرُ : فاللَّهُ أولى بغِنى الغَني وفَقْر الفقير . وقد أساء ابنُ عصفور
العبارةَ هنا بما يُوقَفُ عليه في كلامه . وعلى أربعةِ الأوجهِ الأخيرة يكونُ
جوابُ الشرطِ ملفوظاً به وهو قولُه : { فالله أولى بِهِمَا } بخلافِ الأول فإنه
محذوفٌ وقرأ عبد الله : « إن يكنْ غنيٌ أو فقيرٌ » برفعِهما ، والظاهرُ أنَّ « كان
» في قراءته تامةٌ ، أي : وإنْ وُجِد غني أو فقير ، نحو : { وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
قوله : { أَن تَعْدِلُواْ } فيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُهما : أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه على
حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : فلا تَتَّبِعوا الهوى محبةَ أَنْ تَعْدِلوا ، أو إرادةَ
أَنْ تَعْدِلوا أي : تَعْدِلوا عن الحق وتَجُوروا . وقال أبو البقاء في المضافِ
المحذوف : « تقديرُه : مخافةَ أَنْ تَعْدِلوا عن الحق » وقال ابن عطية : « يُحْتمل
أن يكونَ معناه : مخافةَ أن تَعْدِلوا ، ويكون العدلُ هنا بمعنى / العُدول عن الحق
، ويُحْتمل أن يكونَ معناه : محبةَ أَنْ تَعْدِلوا ، ويكونُ العدلُ بمعنى القسط ،
كأنه يقول : انتهوا خوفَ أَنْ تجوروا ، أو محبةَ أَنْ تُقْسِطوا ، فإنْ جَعَلْتَ
العامل » تتبعوا « فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى محبةَ أَنْ تَجُورا » انتهى . فتحصَّل
لنا في العاملِ وجهان : الظاهرُ منهما أنه نفسُ « تتبَّعوا » والثاني : أنه مضمر
وهو فعلٌ مِنْ معنى النهي كما قَدَّره ابنُ عطية ، كأنه يزعم أنَّ الكلامَ تَمَّ
عند قولِه : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } ثم أضْمَرَ عاملاً ، وهذا ما لا حاجةَ
إليه .
الثاني : أنه على إسقاطِ حرفِ الجر وحَذْفِ « لا » النافية ، والأصل : فلا
تَتَّبعوا الهوى في ألاَّ تَعْدِلوا أي : في تَرْكِ العدل ، فَحَذف « لا » لدلالة
المعنى عليها ، ولَمَّا حَذَفَ حرفَ الجر من « أن » جرى القولان الشهيران . الثالث
: أنه على حَذْفِ لام العلة تقديرُه : فلا تتبعوا الهوى لأنْ تَعْدِلوا . قال صاحب
هذا القول : « والمعنى : لا تتبعوا الهوى لتكونوا في اتِّباعكموه عدولاً تنبيهاً [
على ] أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ متنافيان لا يجتمعان ، وهو ضعيفٌ في
المعنى .
قوله : { وَإِن تَلْوُواْ } قرأ ابن عامر وحمزة » تَلُوا « بلامٍ مضمومةٍ وواوٍ
ساكنة ، والباقون بلامٍ ساكنةٍ وواوين بعدها ، أولاهما مضمومة .
فأمَّا قراءةُ الواوينِ فظاهرةٌ لأنه من لَوَى يَلْوي ، والمعنى : وإنْ تَلْووا
ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل ، والأصل : تَلْوِيُون كتَضْرِبون ،
فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فَحُذفت ، فالتقى ساكنان : الياء وواو الضمير
فحُذِف أولُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكسورةُ التي هي عين لأجل واوِ
الضمير فصار تَلْوُون ، وتصريفُه كتصريف » تَرْمُون « .
وأما قراءة حمزة وابن عامر ففيها ثلاثة أقوال ، أحدها : وهو وقول الزجاج والفراء
والفارسي في إحدى الروايتين عنه - أنه من لَوَى يَلْوي كقراءة الجماعة ، إلاَّ
أنَّ الواوَ المضومةَ قُلِبَتْ همزةً كقلبها في » أُجوه « و » أُقِّتتْ « ثم
نُقِلت حركةُ هذه الهمزةِ إلى الساكنِ قبلها وحذفت فصار » تَلُون « كما ترى .
الثاني : أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً . إلا ان الضمةَ استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام الساكنة تخفيفاً ، فالتقى ساكنان وهما الواوان / فحُذِفت الأول منهما ، ويُعْزى هذا للنحاس . وفي هذين التخريجين نظرٌ ، وهو أنَّ لامَ الكلمة قد حُذِفَت أولاً كما قررته فصار وَزْنُه : تَفْعُوا ، بحذف اللام ، ثم حُذِفت العينُ ثانياً فصار وزنُه : تَفُوا ، وذلك إجْحاف بالكلمة . الثالث- ويُعْزى لجماعة منهم الفارسي- أن هذه القراءة مأخوذة من الولاية بمعنى : وإنْ وُلِّيتم إقامةَ الشهادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ فتعدلوا عنه ، والأصل : « تَوْلِيُوا » فحذفت الواوُ الأولى لوقوعِها بين حرفِ المضارعةِ وكسرةٍ ، فصار « تَلِيُوا » كتَعِدُوا وبابه ، فاستثقلت الضمةُ على الياءِ ففُعِل بها ما تقدَّم في « تَلْوُوا » وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة حمزة وابن عامر - منهم أبو عبيد - قالوا : لأنَّ معنى الولاية غيرُ لائق بهذا الموضع . قال أبو عبيد : « القراءةُ عندنا بواوين مأخوذةٌ من » لَوَيْتُ « وتحقيقه في تفسيرِ ابن عباس : هو القاضي يكونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخصمين للآخر . وهذا الطعنُ ليس بشيء لأنها قراءةٌ متواترةٌ ومعناها صحيح ، لأنه إنْ أَخَذْناها من الولاية كان المعنى على ما تقدم ، وإن أخذناها من الليِّ فالأصلُ » تَلْوُوا « كالقراءة الأخرى ، وإنما » فُعِل بها ما تقدم من قَلْبِ الواوِ همزةً ونَقْلِ حركتها ، أو من نَقْلِ حركتها من غير قَلْبٍ فتتفق القراءتان في المعنى .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } : أي : داواموا على الإِيمان ، أو يُراد بالذين آمنوا جميعُ الناس ، وذلك يوم أخذ عليهم الميثاقَ . وقرأ نافع والكوفيون : « والكتابِ الذي نَزَّل على رسوله والكتاب الذي أَنْزل من قبل » على بناء الفعلين للفاعل ، وهو الله تعالى ، والباقون على بنائهما للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير الكتاب . وقال الزمخشري . « فإن قلت : لِمَ قال : » نَزَّل على رسوله ، وأَنْزل من قبل؟ قلت : لأنَّ القرآنَ نَزَلَ منجَّماً مفرَّقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله « وقد تقدَّم [ البحثُ ] معه في ذلك ، وأن التضعيف في » نَزَّل « للتعدية مرادفٌ للهمزة لا للتكثير . وقوله : » فقد ضَلَّ ضلالاً « ليس جواباً للأشياء الثلاثة ، بل المعنى : ومَنْ يكفرْ بواحدٍ منها .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
وقوله تعالى : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ } : كقوله : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } [ آل عمران : 179 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه ومذاهبُ الناس وأن لام الجحود تفيدُ التوكيدَ ، والفرق بين قولِك : « ما كان زيدٌ يقوم » و « ما كان ليقومَ .
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
والفاءُ في قوله تعالى : { فَإِنَّ العزة } : لِما في الكلام من معنى الشرط ، إذ المعنى : إن تبتغوا من هؤلاء عزةً . و « جميعاً » حال من الضمير المستكنِّ في قوله « لله » لوقوعه خبراً . قوله : { الذين يَتَّخِذُونَ } يجوز فيه النصبُ والرفعُ ، فالنصب من وجهين ، أحدهما : كونُه نعتاً للمنافقين . والثاني : أنه نصب بفعل مضمر أي : أذمُّ الذين ، والرفع على خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين .
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
قوله
تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ } قرأ الجماعة : « نُزِّل » مبنياً للمفعول ، وعاصم /
قرأه مبنياً للفاعل ، وأبو حيوة وحميد « نَزَل » مخففاً مبنياً للفاعل ، والنخعي «
أُنْزِل » بالهمزة مبنياً للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الجماعة
والنخعي هو « أَنْ » وما في حَيِّزها أي : وقد نَزَّل عليكم المنعَ من مجالستهم
عند سماعِكم الكفرَ بالآيات والاستهزاءَ بها . وأمّا في قراءةِ عاصم ف « أَنْ » مع
ما بعدها في محل نصب مفعولاً به ب « نزَّل » والفاعل ضميرُ الله تعالى كما تقدم .
وأما في قراءة أبي حيوة وحميد فمحلُّها رفع بالفاعلية ل « نزل » مخففاً ، فمحلها :
إمّا نصب على قراءة عاصم أو رفع على قراءة غيره ، ولكن الرفع مختلف . و « أن » هذه
هي المخففةُ من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن ، أي : أنَّ الأمر والشأن إذا
سمعتم الكفر والاستهزاء فلا تقعدوا . قال الشيخ « وما قَدَّره أبو البقاء من قوله
: » أنكم إذا سمعتم « ليس بجيد ، لأن » أن « المخففة لا تعمل إلاَّ في ضمير الشأن
، إلا في ضرورة كقوله :
1662- فلو أَنْكِ في يومِ الرخاءِ سَأَلْتِني ... طلاقَك لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ
هكذا قال ، ولم أَرَه أنا في إعراب أبي البقاء إلا أنه بالهاء دون الكاف والميم .
والجملةُ الشرطية المنعقدةُ من » إذا « وجوابها في محل رفع خبراً ل » أَنْ « ومن
مجيء الجملة الشرطية خبراً ل » أنْ « المخففة قوله :
1663- فعلمْتُ أَنْ ما تَتَّقُوه فإنه ... جَزْرٌ لِخامعةٍ وفَرْخِ عقابِ
ف » ما « شرطيةٌ و » فإنه « جوابُها ، والجملةُ خبرٌ ل » أن « المخففةِ .
قوله : { يُكَفَرُ بِهَا } في محلِّ نصبٍ على الحال من الآيات ، و » بها « في
محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعلِ ، وكذلك في قولِه { وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا }
والأصل : يَكفر بها أحدٌ ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ قام الجارُّ والجرورُ مقامه ،
ولذلك رُوعي هذا الفاعلُ المحذوف ، فعاد عليه الضميرُ من قوله » معهم « » حتى
يخوضوا « كأنه قيل : إذا سمعتم آياتِ الله يَكْفُر بها المشركون ويستهزئ بها
المنافقون فلا تَقْعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيرِه أي : غيرِ حديث الكفر
والاستهزاء ، فعاد الضمير في » غيره « على ما دلَ عليه المعنى . وقيل : الضمير في
» غيره « يجوزُ أَنْ يعود على الكفر والاستهزاء المفهومَيْن من قوله » يكفر بها «
و » يستهزأ بها « وإنما أفرد الضمير وإن كان المراد به شيئين لأحد أمرين : إمَّا
لأنَّ الكفرَ والاستهزاء شيءٌ واحدٌ في المعنى ، وإمَّا لإِجراءِ الضميرِ مُجْرى
اسمِ الإشارةِ نحو :
{
عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] و [ قوله : ]
1664- كأنَّه في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ ... وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة . و «
حتى » غايةٌ للنهي ، والمعنى : أنه يجوز مجالستهم عند خوضِهم في غيرِ الكفر
والاستهزاء .
وقوله : { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } « إذنْ » هنا مُلْغَاةٌ لوقوعها بين
مبتدأ وخبر . والجمهور على رفعِ اللام في « مثلُهم » على خبرِ الابتداء . وقرئ
شاذاً بفتحها ، وفيها تخريجان ، أحدهما : - وهو قولُ البصريين- أنه خبر أيضاً ،
وإنما فُتِح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ
أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] بفتح اللام ، وقول الفرزدق :
1665- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . وإذما
مثلَهم بشرُ
في أحدِ الأوجه . والثاني : - وهو قولُ الكوفيين- أن « مثل » يجوز نصبُها على
المحل أي الظرف ، ويجيزون : « زيد مثلك » بالنصب على المحل أي : زيدٌ في مثلِ حالك
. وأفرد « مثل » وإن أخبر به عن جمع ولم يُطابق به كما طابق ما قبله في قوله : {
ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، وقوله { وَحُورٌ عِينٌ
كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 22 - 23 ] : قال أبو البقاء وغيرُه : « لأنه قَصَدَ به
هنا المصدرَ فوحَّد كما وحَّد في قوله : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [
المؤمنون : 47 ] . وتحرير المعنى : أن التقدير : إن عصيانكم مثلُ عصيانهم ، إلا
أنَّ تقدير المصدرية في قوله » لبشر مثلنا « قلق .
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
قوله
تعالى : { الذين يَتَرَبَّصُونَ } : فيه ستة أوجه ، أحدها : أنه بدلٌ من قوله : {
الذين يَتَّخِذُونَ } فيجيء فيه الأوجه المذكورة هناك . الثاني : أنه نعتٌ
للمنافقين على اللفظ فيكون مجرورَ المحل . الثالث : أنه تابعٌ لهم على الموضعِ
فيكونُ منصوبَ المحلِّ ، وقد تقرر أنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ إذا أُضيفَ إلى
معمولِه جاز أن يُتْبَعَ معمولُه لفظاً وموضعاً ، تقول : « هذا ضاربٌ هندٍ
العاقلةِ والعاقلةَ » بجرِّ العاقلة ونصبِها . الرابع : أنه منصوبٌ على الشتم .
الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمر أي : هم الذين . السادس : - وذكره أبو البقاء - أنه
مبتدأ والخبرُ قولُه : « فإنْ كان لكم فتحُ » وهذا ضعيفٌ لنبوِّ المعنى عنه
ولزيادةِ الفاءِ في غيرِ محلِّها ، لأنّ هذا الموصولَ غيرُ ظاهرِ الشبهِ باسم
الشرط .
قوله : { وَنَمْنَعْكُمْ } الجمهورُ على جزمه عطفاً على ما قبله . وقرأ ابن أبي
عبلة بنصب العين وهي ظاهرةٌ ، فإنه على إضمار « أن » بعد الواو المقتضية للجمع في
جوابِ الاستفهام كقول الحطيئة :
1666- ألم أكُ جارَكمْ ويكونَ بيني ... وبينكمُ المودةُ والإخاءُ
وعَبَّر ابنُ عطية بعبارة الكوفيين فقال : « بفتحِ العين على الصرف » ويعنون
بالصرف عدمَ تشريكِ الفعلِ مع ما قبلَه في الإِعراب . وقرأ أُبَي : « ومنعناكم »
فعلاً ماضياً وهي ظاهرةٌ أيضاً لأنه حُمِلَ على المعنى ، فإن معنى « ألم نستحوذ »
: إنَّا قد استحوذنا ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نفي قَرَّره ، ومثلُه : {
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا } [ الشرح : 1 -2 ] لَمَّا كان « ألم
نشرح » في معنى « قد شرحنا » عُطِفَ عليه « ووضَعْنا » .
ونستحوذ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً وفَصُحَ استعمالاً / لأنَّه مِنْ حقه نَقْلُ
حركةِ حرفِ علتِه إلى الساكن قبلها ، وقَلْبُها ألفاً كاستقام واستبان وبابه ، وقد
قدمت تحقيق هذا في قوله : { نَسْتَعِينُ } [ الآية : 5 ] في الفاتحة ، وقد شَذَّت
معه الفاظُ أُخَرُ نحو : « أَغْمَيتْ وأَغْيلتْ المرأة وأَخْيلت السماء » قصرها
النحويون على السماع ، وقاسَها أبو زيد . والاستحواذ : التغلُّب على الشيء والاستيلاءُ
عليه . ومنه : { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } [ المجادلة : 19 ] . ويقال : « حاذَ
وأحاذ » بمعنى ، والمصدُر الحَوْذ .
وقوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } قيل : هنا معطوفٌ محذوف أي : وبينهم كقوله :
1667- فما كانَ بين الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ
أي : وبيني ، والظاهرُ أنه لا يَحْتاج لذلك ، لأن الخطاب في « بينكم » شاملٌ
للجميع ، والمرادُ المخاطبون والغائبون ، وإنما غَلَّبَ الخطاب لِما عَرَفْتَ من
لغة العرب . قوله : { عَلَى المؤمنين } يجوز أن يتعلقَ بالجَعْلِ ، ويجوز أَنْ
يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ ل « سبيلا » فلمَّا قُدِّم عليه انتصبَ
حالاً عنه .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
وقوله
تعالى : { يُخَادِعُونَ } : قد تقدَّم اشتقاقُه ومعنى المفاعلة فيه اول البقرة
قوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } فيها ثلاثةُ أوجه أحدها : - ذكره أبو البقاء- وهو
أنَّها نصبُ على الحال . والثاني : أنها في محل رفع عطفاً على خبر « إنَّ »
والثالث : أنها استئناف إخبار بذلك . قال الزمخشري : « وخادِع » اسمُ فاعل من
خادَعْتُه فَخَدَعْتُه إذا غلبتَه وكنتَ أخدعَ منه . قوله : « وإذا قاموا » عطفٌ
على خبرِ « إنَّ » أخبر عنهم بهذه الصفاتِ الذَّميمة . و « كُسالى » نصبٌ على
الحال من ضمير « قاموا » الواقع جواباً . والجمهورُ على ضم الكاف ، وهي لغة أهل
الحجاز . وقرأ الأعرج بفتحها ، وهي لغةُ تميم وأسدٍ ، وقرأ ابن السَّمَيْفَع : «
كَسْلى » وَصَفَهم بما تُوصف به المؤنثة المفردةُ اعتباراً بمعنى الجماعة كقوله :
{ وتَرَى الناسَ سَكْرى } والكسلُ : الفتورُ والتواني ، وأَكْسَل : إذا جامَعَ
وفَتَر ولم يُنْزِل .
قوله : { يراؤون } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنها حالٌ من الضمير
المستتر في « كُسالى » الثاني : أنها بدلٌ من « كُسالى » ذكره أبو البقاء ، فيكونُ
حالاً من فاعل « قاموا » وفيه نظرٌ ، لأنَّ الثاني ليس الأولَ ولا بعضه ولا مشتملاً
عليه . الثالث : أنها مستأنفةٌ أَخْبر عنهم بذلك . وأصلُ يُراؤُون : يُرائِيوُن
فأُعِلَّ كنظائرِه . والجمهور على « يُراؤُون » من المفاعلةِ قال الزمخشري : فإنْ
قلت : ما معنى المراءاة وهي مُفَاعَلَة من الرؤية؟ قلت : لها وجهان أحدها : أنَّ
المرائِيَ يُريهم عمله وهم يُرُوْنه الاستحسانَ . والثاني : أنْ تكونَ من المفاعلة
بمعنى التفعيل ، يقال : نعَّمه وناعمه ، وفَنَّقه وفانَقَه ، وعيش مُفَانِق ، وروى
أبو زيد : « رأَّت المَرْأةُ المِرْآة » إذا أَمْسَكَتْها له ليرى وجهه ، ويدل
عليه قراءةُ ابن أبي اسحاق : « يُرَؤُّونهم » بهمزةٍ مشددةٍ مثلَ : يُدَعُّونهم ،
أي : يُبَصِّرونهم ويُرَاؤُوْنهم كذلك ، يعني أنّ قراءةَ « يُرَؤُّونَهم » مِنْ
غير ألفٍ بل بهمزةٍ مضمومةٍ مشددةٍ توضِّح أنَّ المُفَاعلةَ هنا بمعنى التفعيل .
قال ابن عطية : « وهي - يعني هذه القراءة - أقوى من » يراؤون « في المعنى؛ لأنَّ
معناها يَحْمِلُون الناسَ على أَنْ يَرَوْهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة ويُبْطُنون
النفاقَ » وهذا منه ليس بجيد؛ لأنَّ المفاعلة إنْ كانت على بابها فهي أبلغُ لِما
عُرِفَ غيرَ مرة ، وإنْ كانت بمعنى التفعيل فهي وافيةٌ بالمعنى الذي أرداه ، وكأنه
لم يعرف أنَّ المفاعلة قد تجيء بمعنى التفعيل . ومتعلِّقُ المراءاةِ محذوفٌ
لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءَى به . والأحسن أن تُقَدِّر يُراؤون الناسَ بأعمالهم .
وقوله : { قَلِيلاً } نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو لزمان محذوف أي : ذكراً قليلاً أو
زماناً قليلاً ، والقلةُ هنا على بابِها ، وجَوَّز الزمخشري وابن عطية أن تكون
بمعنى العَدَم ، ويأباه كونُه مستثنى ، وقد تقدَّم الردُّ عليهما في ذلك . وقوله :
{ وَلاَ يَذْكُرُونَ } يجوز أن يكونَ عطفاً على « يُراؤُون » وأن يكون حالاً من
فاعل « يُراؤون » وهو ضعيفٌ لأنَّ المضارع المنفي ب « لا » كالمثبت ، والمُثْبَتُ
إذا وَقَع حالاً لا يَقْتَرِنُ بالواوِ ، فإنْ جَعَلَها عاطفةً جاز .
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قوله
تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما : أنه حال مِنْ فاعل «
يُراؤون » الثاني : أنه حالٌ من فاعل « ولا يَذْكَرُون » الثالث : أنه منصوبٌ على
الذمّ والجمهور على « مذبذّبين » بميمٍ مضمومة وذالين معجمتين ثانيتهما مفتوحةٌ
على أنه اسم مفعول ، من ذبذبته فهو مُذَبْذَب أي : متحيِّر . وقرأ ابن عباس وعمرو
بن فائد بكسر الذال الثانيةِ اسمَ فاعل ، وفيه احتمالان ، أحدهما : أنه من «
ذَبْذَبَ » متعدِّياً فيكونُ مفعولُه محذوفاً أي : مُذَبْذِبين أنفسهم أو دينَهم
أو نحوَ ذلك . والثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل نحو : « صَلْصَلَ » فيكون قاصراً ، ويَدُلُّ
على هذا الثاني قراءةُ أُبَيّ وما في مصحف عبد الله : « مُتَذّبْذِبين » فلذلك
يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابنِ عباس بمعنى متذبذبين . وقرأ الحسن البصري «
مَذَبْذَبِين » بفتح الميم . قال ابن عطية :
« وهي مردودة » ولَعَمْري لقد صدق ، ولا ينبغي أن تَصِحَّ عنه . واعتذر الشيخ عنها
لأجل فصاحة الحسن واحتجاج الناس بكلامه بانَّ فتح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال
قال : « وإذا كانوا قد اتبعوا في » مِنْتِن « حركة الميم بحركة التاء مع الحاجز
بينهما ، وفي نحو » منحدْر « أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حال الرفع مع أنَّ
حركةَ الإِعرابِ غيرُ لازمة فَلأَنْ يُتْبعوا في نحو » مَذَبذبين « أولى . وهذا
فاسدٌ لأن / الإِتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائرها إنما هو إذا كانت الحركةُ
قويةً وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ فلم يُتْبِعُوا لأجلها . وقرأ
ابن القعقاع بدالين مهملين من الدُّبَّة وهي الطريقة ، يقال : » خَلَّني ودُبَّتي
« أي : طريقتي قال :
1668- طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنِه ... على دُبَّةٍ مثلِ الخَنيفِ
المُرَعْبَلِ
وفي حديث ابن عباس : » اتَّبِعوا دُبَّة قريش « أي : طريقها ، فالمعنى على هذه
القراءة : أنْ يأخذَ بهم تارةً دُبَّةً وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُون
متحيِّرين غيرَ ماضين على طريق واحد .
ومُذّبْذَب وشبهُه نحو : مُكَبْكَب ومُكَفْكَف مِمَّا ضُعِّف أولُه وثانيه وصَحَّ
المعنى بإسقاط ثالثِه فيه مذاهبٌ ، أحدُهما : - وهو قولُ جمهورِ البصريين - أنَّ
الكلَّ أصولٌ ، لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ وليس أحدُ المكررين أَوْلى
بالزيادةِ من الآخر . الثاني - ويُعْزَى للزجاج - أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ .
الثالث : - وهو قول الكوفيين - أن الثالث بدل من تضعيف الثاني ، ويزعمون أن أصل
كفكف : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذبذب : ذَبَّب بثلاث باءات فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ
أمثالٍ فَأَبْدَلوا الثالثَ من جنس الأول ، ولهذه المذاهب موضوعٌ غيرُ هذا
حَرَّرْتُ مباحثَهم فيه ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث نحو : سِمْسم
ويُؤْيؤ ووعْوَع فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ . والذبذبة في الأصل :
الاضطرابُ والتردُّد بين حالتين .
قال
النابغة :
1669- ألم تَرَ أنَّ اللّهَ أَعْطاك سُورةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونَها
يَتَذَبْذَبُ
وقال آخر .
1670- خيالٌ لأمِّ السَّلْبيل ودونَها ... مسيرةُ شهرٍ للبعيرِ المُذَبْذِبِ
بكسر الذال الثانية . قال ابن جني : « أي القَلِق الذي لا يستقر » قال الزمخشري :
« وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين أي يُذاد ويُدْفع فلا يقرُّ في
جانبٍ واحد ، كما يقال : » فلان يُرْمَى به الرَّحَوان « إلا أنَّ الذبذبة فيها
تكريرٌ ليس في الذَبِّ ، كأنَّ المعنى : كلما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه » .
و « بين » معمولٌ لقوله : « مُذَبْذَبين » و « ذلك » إشارةٌ إلى الكفر والإِيمان
المدلولِ عليهما بذكر الكافرين والمؤمنين ونحو :
1671- إذا نُهِي السفيهُ جَرَى إليه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
أي : إلى السَّفَهِ لدلالةِ لفظ السفيه عليه . وقال ابن عطية : « أشير إليه وإن لم
يَجْزِ له ذِكْرٌ لتضمن الكلام له نحو : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] {
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارَت الشمسُ وكلُّ مَنْ على
الأرض . قال الشيخ : » وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يَدُلُّ عليه « وذكر ما
قَدَّمْتُه . وأشير ب » ذلك « وهو مفردٌ لاثنين لِما تقدَّم في قوله { عَوَانٌ
بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] قوله : { لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } » إلى «
في الموضعين متعلقةٌ بمحذوف ، وذلك المحذوفُ هو حالٌ حُذِفَ لدلالةِ المعنى عليه ،
والتقدير : مُذَبْذَبين لا منسوبين إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في
الحال نفسُ » مُذَبْذَبين « قال أبو البقاء : » وموضعُ « لا إلى هؤلاء » نصبٌ على
الحالِ من الضمير في مذبذبين أي : يتذبذبون متلوِّنين « وهذا تفسير معنى لا إعراب
.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
قوله تعالى : { سُلْطَاناً } : السلطان يُذّكَّرُ ويؤنث ، فتذكيرُه باعتبار البرهان ، وتأنيثُه باعتبار الحجة ، إلا أن التأنيث أكثرُ عند الفصحاء ، كذا قاله الفراء ، وحكى : « قَضَتْ عليك السلطان » « وأَخَذَتْ فلاناً السلطانُ » وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته فقيل : مبيناً دون : مبينة؟ والجواب أن الصفة هنا رأسُ فاصلة فلذلك عَدَلَ إلى التذكير دون التأنيث . وقال ابن عطية ما يخالف ما حكاه الفراء فإنه قال : « والتذكيرُ أشهرُ ، وهي لغة القرآن حيث وقع » . « وعليكم » يجوزُ تعلُّقه بالجَعْل « أو بمحذوف على أنه حال من » سلطانا «؛ لأنه صفة له في الأصل وقد تقدَّم نظيره .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
قوله تعالى : { فِي الدرك } : قرأ الكوفيون - بخلاف عن عاصم - بسكونِ الراء ، والباقون بفتحِها ، وفي ذلك قولان ، أحدُهما : أنَّ الدَّرْك والدَّرِكِ لغتان بمعنى واحدٍ كالشَّمْع والشَّمَع ، والقَدْر والقَدَر . والثاني : أنَّ الدَّرَك بالفتح جمعُ « دَرَكة » على حدِّ بَقَر وبَقَرة ، واختار أبو عبيد الفتحَ قال : « لأنه لم يَجِىءْ في الآثار ذِكْرُ » الدَّرَك « إلا بالفتحِ ، وهذا غيرُ لازمٍ لمجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين . واختار بعضُهم الفتحَ لجَمْعِه على أَفْعال ، قال الزمخشري : » والوجهُ التحريكُ لقولِهم « أدراك جهنم » يعني أنَّ أفعالاً منقاسٌ في فَعَل بالفتحِ دونَ فَعْل بالسكون ، على أنه قد جاء أَفْعال في فَعْل بالسكون نحو : فَرْخ وأَفْراخ ، وزَنْد وأَزْناد ، وفَرْد وأَفْراد . وقال أبو عبد الله الفاسي في شرحِ القصيد : « وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم - محتجَّاً لقراءة الفتح قولُهم في جَمْعِه : » أَدْراك « يَدُلُّ على أنه » دَرَك « بالفتح ، ولا يَلْزم ما قال أيضاً ، لأنَّ فَعَلاً بالتحريك قد جُمِع على أَفْعاله كقَلَم وأَقْلام ، وجَبَل وأَجبال » انتهى ، وهذه غفلةٌ منه لأنه المتنازعَ فيه إنما هو فَعْل بالتسكين : هل يُجْمَعُ على أَفْعال أم لا؟ وأما فَعَلَ بالتحريك فأفْعال قياسُه ، وكأنه قَصَدَ الردَّ على الزمخشري فوقَع في الغلطِ ، كان ينبغي له أن يقول : وقد جُمِع فَعْل بالسكون على أَفْعال نحو : فَرْخ وأَفْراخ كما ذكرته لك . وحُكِي عن عاصم / أنه قال « لو كان » الدرَك « بالفتح لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل » قال بعض النحويين : « يعني أن الدرَك بالفتح جمع » دَرَكة « كبَقَر جمع بَقَرَة ، والجمعُ يُعامل معاملةَ المؤنثة . وهذا غيرُ لازمٍ لأنَّ اسمَ الجنسِ الفارقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثُه إلا ما استُثْنيَ وجوبُ تذكيرِه أو تأنيثه ، والدرَك ليس منه ، فيجوز فيه الوجهان ، هذا بعد تسليم كون » الدرك « جمع » دَرَكة « بالسكون كا تقدم . والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُدراكة وهي المتابعةُ ، وسُمِّيت طبقاتُ النار » دَرَكات « لأنَّ بعضَها مدارك لبضع أي : متتابعة . قوله : { مِنَ النار } في محلِّ نصب على الحال ، وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه » الدرك « والعامل فيها الاستقرار ، والثاني : أنه الضميرُ المستتر في » الأسفل « لأنه صفةٌ فيتحمل ضميراً .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
قوله
تعالى : { إِلاَّ الذين } : فيه ثلاثةُ أوجه ، احدُها : أنه منصوبٌ على الاستثناء
مِنْ قوله : { إِنَّ المنافقين } الثاني : أن مستثنى من الضميرِ المجرورِ في « لهم
» الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه الجملةُ من قوله : { فأولئك مَعَ المؤمنين } قيل :
« ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لشبهِ المبتدأ باسم الشرط قال أبو البقاء ومكي
وغيرُهما : » مع المؤمنين « خبرُ » أولئك « والجملةُ خبر » إلا الذين « والتقدير :
فأولئك مؤمنون مع المؤمنين ، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعة ، بل الذي تقتضيه
الصناعة أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلق به هذا الظرف شيئاً يليق به ، وهو »
فأولئك مصاحبون أو كائنون أو مستقرون « ونحوه ، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً أو
مايقاربه .
قوله : { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله } رُسِمت » يؤت « دون » ياء « وهو مضارعٌ مرفوع
فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخطاً ، إلا أنها حذفت لفظاً في الوصل لالتقاء الساكنين
فجاءُ الرسم تابعاً للفظ ، وله نظائر تقدم بعضها . والقراءُ يقفون عليه دون ياء
أتِّباعاً للخط الكريم ، إلا يعقوبَ فإنه يقف بالياء نظراً إلى الأصل ، ورُوي ذلك
أيضاً عن الكسائي وحمزة . وقال أبو عمرو : » ينبغي أن لا يُوقَفَ عليها ، لأنه إنْ
وُقف عليها كما في الرسم دون ياء خالف النحويين ، وإن وقف بالياء خالف رسم المصحف
« ولا بأسَ بما قال ، لأن الوقف ليس ضرورياً ، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ لقَطْعِ
نَفَس ونحوه فنيبغي أن يُتابَع الرسمُ ، لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذْفُها ،
ومِمَّا يشبه هذا الموضعَ قولهُ : { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ } [ غافر : 9 ]
فإنه رسم » تَقِ « بقافٍ دون هاءِ سكت ، وعند النحويين أنه إذا حُذِف من الفعل
شيءٌ حتى لم يبق منه إلا حرفٌ واحد ووُقِف عليه وَجَبَ الإِتيانُ بهاء السكت في
آخره جبراً له نحو : » قِهْ « و » لم يقه « و » عِه « و » لم يَعِه « ، ولا
يُعْتَدُّ بحرف المضارعة لزيادتِه على بنية الكلمة فإذا تقرر هذا فنقول : ينبغي
ألاَّ يوقف عليه؛ لأنه إنْ وُقِف بغير هاءِ سكت خالف الصناعة النحوية ، وإنْ
وُقِفَ بهاء خالف رسمَ المصحفَ .
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
قوله تعالى : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } : في « ما » وجهان ، أحدهما : أنها استفهامية فتكون في محل نصب ب « يفعل » وإنما قُدِّم لكونه له صدر الكلام . والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب « يفعل » ، والاستفهام هنا معناه النفي ، والمعنى : أنّ الله لا يفعل بعذابكم شيئاً؛ لأنه لا يجلب لنفسِه بعذابِكم نفعاً ولا يدفع عنها به ضراً ، فأيُّ حاجة له في عذابكم؟ والثاني : أن « ما » نافية كأنه قيل : لا يعذبكم الله ، وعلى هذا فالباء زائدة ولا تتعلق بشيء . وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ ، فينبغي أن تكون سببية في الموضعين أو زائدة فيهما ، لأن الاستفهام بمعنى النفي فلا فرق ، والمصدر هنا مضاف لمفعوله وقوله : { إِن شَكَرْتُمْ } جوابه محذوف لدلالةِ ما قبله عليه أي : إنْ شكرتم وآمنتم فما يفعلُ بعذابكم؟
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
قوله
تعالى : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء } : « بالسوء » متعلق بالجهر ، وهو
مصدر معرف ب « أل » استدل به الفارسي على جوازِ إعمالِ المصدر المعرف بأل . قيل :
ولا دليلَ فيه لأنَّ الظرف والجار يعمل فيهما روائح الأفعال . وفاعلُ هذا المصدرِ
محذوفٌ أي : الجهر أحد ، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّرد حَذْفُه في صورٍ منها المصدر
، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فِعْل مبني للمفعول على خلاف في ذلك ، فيكون
الجار بعده في محل رفع لقيامه مقام الفاعل ، لأنك لو قلت : لا يحب الله أن يُجهر
بالسوء ، كان « بالسوء » قائماً مقامَ الفاعل ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به . و « من
القول » حال من « السوء » .
قوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه متصل والثاني
: أنه منقطع ، وإذا قيل بأنه متصل فقيل : هو مستثنى من « أحد » المقدرِ الذي هو
فاعلٌ للمصدر ، فيجوز أن تكون « مَن » في محلِّ نصبٍ على أصل الاسثناء أو رفعٍ على
البدل من « أحد » وهو المختار ، ولو صُرِّح به لقيل : لا يحبُّ الله أن يَجْهَر
أحدٌ بالسوء إلا المظلومُ ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء
وغيرُهما . قال الشيخ : « وهذا مذهب الفراء ، أجاز في » ما قام إلا زيدٌ « أن يكون
» زيد « بدلاً من » أحد « وأمَّا على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي
فُرِّغ له العامل فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر ، وحَسَّنَ ذلك كونُ الجهر
في حَيِّز النفي ، كأنه قيل : لا يَجْهَرُ بالسوء من القول إلا المظلومُ » انتهى .
والفرقُ ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية ، فإن النحويين إنما لم يَرَوا بمذهب
الفراء قالوا : لأن المحذوف صار نَسْياً منسياً ، وأما فاعل المصدر هنا فإنه
كالمنطوقِ به ليس منسياً فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعلِ المقدر أن
يكونوا تابعين لمذهب الفراء لِما ظهر من الفرق . وقيل : هو مستثنى مفرغ ، فتكون «
مَنْ » في محل رفع بالفاعلية كما تقدَّم تقريرُه في كلام الشيخ ، والتفريغُ لا
يكون إلا في / نفي أو شهبه ، ولكنْ لَمَّا وقع الجهر متعلقاً للحبِّ الواقعِ في
حَيِّز النفي ساغ ذلك . وقيل : هو مستثنى من الجَهْر على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه :
إلا جَهْرَ مَنْ ظُلِم ، فهذه ثلاثة أوجه على تقديرِ كونه متصلاً ، تحصَّل منها في
محل « مَنْ » أربعةُ أوجه : الرفع من وجهين وهما البدل من « أحد » المقدر ، أو
الفاعلية على كونه مفرغاً ، والنصبُ على أصلِ الاستثناء من « أحد » المقدَّر أو من
الجهر على حَذْفِ مضاف .
والثاني
: أنه استثناءٌ منقطعٌ ، تقديرُه : لكنْ مَنْ ظُلِم له أن ينتصف من ظالمه بما
يوازي ظلامتَه فتكون « مَنْ » في محل نصب فقط على الاستثناء المنقطع .
والجمهورُ على « إلاَّ مَنْ ظُلِمَ » مبنياً للمفعول ، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن
عباس وابن عمر وابن جبير والحسن : « ظَلَم » مبنياً للفاعل ، وهو استثناء منقطع ،
فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع ، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا
الاستثناء ، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة : إمَّا أن يكون راجعاً إلى
الجملة الأولى كأنه قيل : لا يحب اللَّهُ الجهرَ بالسوء ، لكنَّ الظالمَ يحبه فهو
يفعله ، وإما أَنْ يكونَ راجعاً إلى فاعل الجهر أي : لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَر
أحدٌ بالسوء ، لكن الظالم يَجْهر به ، وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلق الجهر وهو
« مَنْ يُجاهَرُ ويُواجَه بالسوء » أي : لا يحب الله أن يُجْهَر بالسوء لأحد لكن
الظالم يُجْهَرُ له به ، أي : يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه ، لعله أن يَرْتدع
. وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحل على الانقطاع هو الصحيح ، وأجاز
ابن عطية والزمخشري أن يكونَ في محلِّ رفع على البدلية ، ولكن اختلف مدركُهما فقال
ابن عطية : « وإعراب » مَنْ « يحتمل في بعض هذه التأويلات النصبَ ، ويحتمل الرفع
على البدل من » أحد « المقدر » يعني احداً المقدرَ في المصدر كما تقدَّم تحقيقُه .
وقال الزمخشري : و « يجوز أن يكون » مَنْ « مرفوعاً كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ
الجهرَ بالسوء إلا الظالمُ ، على لغةِ مَنْ يقول : » ما جاءني زيدٌ إلا عمروٌ «
بمعنى : ما جاءني إلا عمرو ، ومنه { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب
إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] . ورد الشيخ عليهما فقال : » وما ذكره - يعني ابن
عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ ، وذلك أن المنقطع قسمان : قسمٌ يتوجه
إليه العامل نحو : « ما فيها أحدٌ إلاِ حمار » فهذا فيه لغتان : لغة الحجاز وجوب
النصب ، ولغةُ تميم جوازُ البدل ، وإن لم يتوجه عليه العامل وجب نصبُه عند الجميع
نحو : « المالُ ما زاد إلا النقصَ » أي : لكن حصل له النقص ، ولا يجوز فيه البدل ،
لأنك لو وجهت إليه العامل لم يصح « قال : » والآية من هذا القسمِ ، لأنك لو قلت :
« لا يحبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بالسوءِ إلا الظالمُ » فتسلِّطُ « يجهر » على «
الظالم » لم يصح وقال : « وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشري- لا يجوز لأنه لا
يمكن أن يكون الفاعلُ لغواً ولا يمكن أن يكونَ الظالمُ بدلاً من » الله « ولا »
عمرو « بدلاً من » زيد « لأنَّ البدلَ في هذا الباِبِ يَرْجِع إلى بدل بعض من كل
حقيقة نحو : » ما قام القومُ إلا زيدٌ « أو مجازاً نحو : » ما فيها أحدٌ إلا حمارٌ
، والآيةٌ لا يجوز فهيا البدلُ حقيقةً ولا مجازاً ، وكذا المثالُ المذكور ، لأن
الله تعالى عَلَمٌ وكذا زيدٌ فلا عمومَ فيهما ليُتَوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما
فيُسْتثنى ، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاسثناء المنقطع فلأنَّ ما قبله عامٌّ
يُتَوَهَّم دخولُه فيه فيُبْدل ما قبله مجازاً ، وأمَّا قولُه على لغةِ مَنْ يقول
: « ما جاءني زيد إلا عمروٌ » فلا نعلمُ هذه لغةً إلا في كتاب سيبويه بعد أَنْ
أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرُها .
1672-
عَشِيَّةَ ما تُغْني الرماحُ مكانَها ... ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المُصَمَّمُ
ما نصُّه : « وهذا يقوِّي : » ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ ، وما أعانَه إخوانُكم
إلا إخوانُه « لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضَها » ولم يصرِّح ولا
لَوَّح أن « ما أتاني زيدٌ إلا عمرو » من كلام العرب ، قال مَنْ شَرَح كلام سيبويه
: « فهذا يُقَوِّي » ما أتاني زيدٌ إلا عمرو « أي : ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام
العرب لأن النبلَ معرفةٌ ليس بالمشرفي ، كما أن زيداً ليس بعمرو ، كما ان إخوة زيد
ليسوا إخوتك . قال الشيخ : » وليس ما أتاني زيدٌ إلا عمرو « نظيرَ البيت؛ لأنّه قد
يُتَخَيَّل عمومٌ في البيت إذ المعنى : لا يُغْني السلاح ، وأمَّا » زيد « فلا
يُتَوهم فيه عموم على أنه لو ورد من كلامهم : » ما أتاني زيدٌ إلا عمرو « لأمكن أن
يَصِح على » ما أتاني زيد ولا غيره إلا عمروٌ « فحُذِف المعطوفُ لدلالة الاستثناء
عليه ، أمَّا أن يكونَ على إلغاء الفاعل أو على كون » عمرو « بدلاً من » زيد «
فإنه لا يجوز ، وأمَّا الآية فليست مِمَّا ذَكَر ، لأنه يحتمل أن تكونَ » مَنْ «
مفعولاً بها ، و » الغَيبَ « بدلٌ منها بدلُ اشتمال ، والتقديرُ : لايعلم غيبَ
مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلا اللَّهُ أي : سِرَّهم وعلانيتهم لاَ يَعْلَمها إلا
الله ، ولو سُلِّم أنَّ » مَنْ « مرفوعةٌ المحل فيتخيل فيها عمومٌ فيُبدل منها »
الله « مجازاً كأنه قيل : لا يَعْلَمُ الموجودون الغيبَ إلا اللَّهُ ، أو يكونُ
على سبيلِ المجازِ في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ جاء ذلك عنه في القرآنِ
والسنة نحو : { وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } [ الأنعام : 3 ] { وَهُوَ
الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] ، قال : » أين الله « قالت
: » في السماء « ومِنْ كلامِ العرب : » لاوذو في السماءِ بيتُه « يعنون اللَّهَ ،
وإذا احتملت الآيةُ هذه الوجوه لم يتعين حملُها على ما ذكره » انتهى ما رَدَّ به
عليهما .
أمَّا ردُّه على ابن عطية فواضحٌ ، وأمَّا ردُّه على الزمخشري / ففي بعضه نظر ، أما قوله « لا نعلمها لغةً إلى في كتاب سيبويه » فكفى به دليلا على صحة استعمالِ مثله ، ولذلك شرح الشراح لكتاب سيبويه هذا الكلامَ بأنه قياسُ كلام العرب لِما أَنْشد من الأبيات . وأمَّا تأويلُه « ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ » ب « ما أتاني زيد ولا غيرُه » فلا يتعيَّن ما قاله ، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قولَ القائل « ما أتاني زيد » قد يُوهم أن عمراً أيضاً لم يَجِئه فنفى هذا الوهمَ ، وهذا القَدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع ، ولو كان تأويل « ما أتاني زيد إلا عمروٌ » على ما قال لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً ، وقد اتفق النحويون على ان ذلك من المنقطع ، وأمّا تأويلُ الآية بما ذكره فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خطرٌ ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله .
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
قوله تعالى : { أَوْ تُخْفُوهْ } : الظاهرُ أنَّ الضميرَ المنصوبَ في « تُخْفوه » عائد على « خيراً » والمرادُ به أعمالُ البر كلها . وأجاز بعضُهم أن يعودَ على « السوء » أي : أو تُخْفوا السوء ، وهو بعيدٌ .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
قوله تعالى : { بَيْنَ ذلك } : أُشير ب « ذلك » وهو للمفرد ، والمراد به البينية أي : بين الكفر والإِيمان ، وقد تقدَّم نظيرُه في البقرة و « بين يجوز أن يكونَ منصوباً ب » يتخذ « وأن يكونَ منصوباً بمحذوف إذ هو حال من » سبيلاً « .
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
قوله تعالى : { حَقّاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُهما : أنه مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملة قبله فيجب إضمارُ عامِله وتأخيره عن الجملة المؤكِّد لها ، والتقدير : أَحُقُّ ذلك حقاً ، وهكذا كلُّ مصدر مؤكد لغيره أو لنفسه والثاني : أنه حالٌ من قوله : { هُمُ الكافرون } قال أبو البقاء : أي : « كافرون غير شك » وهذا يشبه أن يكونَ تفسيراً للمصدر المؤكد . وقد طَعَن الواحدي على هذا التوجيه فقال : « الكفرُ لا يكون حقا » بوجه من الوجوه « . والجوابُ : أنَّ الحق هنا ليس يُراد به ما يقابل الباطل ، بل المرادُ به أنه ثابتٌ لا محالةَ وأنَّ كفرهم مقطوع به . الثالث : أنه نعت لمصدر محذوف أي : الكافرون كفراً حقاً ، وهو أيضاً مصدر مؤكد ، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول أنَّ هذا عاملُه مذكورٌ ، وهو اسمُ الفاعل وذاك عاملُه محذوفٌ كما تقدم .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
قوله تعالى : { بَيْنَ أَحَدٍ } : قد تقدَّم الكلامُ على دخول « بين » على { أَحَدٍ } [ الآية : 136 ] في البقرة فَأَغنى عن إعادته . وقرأ الجمهور : « سوف نُؤتيهم » بنونِ العظمة على الالتفاف ولموافقة قوله : « وأَعْتدنا » وقرأ حفص عن عاصم بالياء ، أعاد الضمير على اسم الله تعالى في قوله : { والذين آمَنُواْ بالله } وقولُ بعضهم : قراءة النون أولَى لأنها أفخم ، ولمقابلة « وأعتدنا » ليس بجيد لتواتر القراءتين .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
قوله
تعالى : { فَقَدْ سَأَلُواْ } : في هذه الفاءِ قولان ، أحدهما : أنها عاطفةٌ على جملة
محذوفة ، قال ابن عطية : « تقديره : فلا تبال يا محمد بسؤالِهم وتشطيطهِم فإنها
عادتُهم ، فقد سألوا موسى أكبرَ من ذلك .
والثاني : أنها جوابُ شرطٍ مقدر ، قال الزمخشري أي : إنْ استكبرت ما سألوه منك فقد
سألوا » و « أكبَرَ » صفةٌ لمحذوف أي : سؤالاً أكبر من ذلك . والجمهور : « أكبرَ »
بالباء الموحدة ، وقراءة الحسن « أكثر » بالثاء المثلثة . وقوله : { فقالوا
أَرِنَا } هذه الجملةُ مفسرةٌ لكبر السؤال وعظمته . و { جَهْرَةً } [ البقرة : 55
] تقدَّم الكلام عليها ، إلا أنه هنا يجوز أن تكون « جهرةً » من صفةِ القول أو السؤالِ
أو مِنْ صفة السائلين أي : فقالوا مجاهرين أو : سألوا مجاهرين ، فتكون في محلِّ
نصبٍ على الحال أو على المصدر . وقرأ الجمهور « الصاعقةُ » وقرأ النخعي : «
الصَّعْقةُ » وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة « وبظلمِهم » الباءُ فيه سببيةٌ ،
وتتعلق بالأخذ .
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قوله
تعالى : { فَوْقَهُمُ } : فيه وجهان ، الظاهرُ منهما أنه متعلق ب « رَفَعْنا » وأجاز
أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور . و «
بميثاقهم » متعلقٌ أيضاً بالرفع ، والباءُ للسببية ، قالوا : وفي الكلامِ حذفُ
مضافٍ تقديرُه : بنقض ميثاقهم وقال الزمخشري : « بميثاقِهم » بسبب ميثاقهم ليخافوا
فلا ينقضوه « وظاهر هذه العبارة أنه لايُحتاج إلى حذف مضاف ، بل أقول : لا يجوز
تقدير هذا المضاف لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق فرفَع اللَّهُ الطورَ عليم عقوبةً
على فِعْلهم النقضَ ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق ، فرفعَ اللَّهُ
عليهم الطور ، فخَافوا فلم يَنْقُضوه ، وإن كانوا قد نَقَضوه بعد ذلك . وقد صَرَّح
أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاق ، وأنه تعالى رفع الطور عقوبةً لهم فقال : »
تقديرُه : بنقض ميثاقهم ، والمعنى : ورَفَعْنا فوقَهم الطور تخويفاً ، لهم بسببِ
نقضهم الميثاقَ « وفيه ذلك النظرُ المتقدم ، ولقائل أن يقول : لَمَّا هَمُّوا
بنقضه وقاربوه صح أن يقال : رَفَعْنا الطور فوقهم لنقضهم الميثاق أي : لمقاربتم
نقضَه ، لأنَّ ما قارب الشيء أُعْطِي حكمَه ، فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً
كأبي البقاء وغيره . والميثاق مصدر مضاف لمفعوله . و » سُجَّداً « حالٌ من فاعل »
ادخلوا « .
قوله : { لاَ تَعْدُواْ } قرأ الجمهور » تَعْدُوا « بسكون العين وتخفيفِ الدال
مِنْ عَدا يعدو ، كغزا يغزو ، والأصل : » تَعْدُوُوا « بواوين : الأولى لام الكلمة
والثانية ضمير الفاعلين ، فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فَحُذِفَتْ ، فالتقى
بِحَذْفِها ساكنان ، فحُذِفَ الأول وهو الواو الأولى ، وبقيت واو الفاعلين ، فوزنه
: تَفْعَوا . وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال ، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون
عن نافع : فرووا عنه تارة بسكون العين سكوناً محضاً ، وتارة إخفاء فتحة العين .
فأما قراءة نافع فاصلها : تَعْتَدوا ، ويدل على ذلك إجماعهم / على : { اعتدوا
مِنْكُمْ فِي السبت } [ البقرة : 65 ] كونِه من الاعتداء وهو افتعالٌ من العدوان ،
فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدال فنُقِلَتْ حركتُها إلى العين وقُلبت دالاً
وأدغمت . وهذه قراءةٌ واضحة . وأما ما يُروى عن قالون من السكون المحض فشيءٌ لا
يراه النحويون لأنه جَمْعٌ بين ساكنين على غيرِ حَدِّهما . وأمَّا الاختلاسُ .
فهو قريب للإِتيان بحركة ما ، وإن كانت خفيَّةً ، إلا أنَّ الفتحةَ ضعيفةٌ في
نفسِها فلا ينبغي أن تُخْفى لِتُزادَ ضعفاً ، ولذلك لم يُجزِ القراء رَوْمَها
وقفاً لضعفِها . وقرأ الأعمش : » تَعْتَدُوا « بالأصل الذي أدغَمُه نافع .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
قوله
تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في « ما » هذه وجهان ، أحدهما :
أنها زائدةٌ بين الجار ومجروره تأكيداً ، والثاني : أنها نكرة تامة ، و « نقضِهم »
بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 159
] . و « نقض » مصدرٌ مضاف لفاعله ، و « ميثاقهم » مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ
الجارةِ ل « ما » هذه وجهان ، أحدهما : أنه « حَرَّمنا » المتأخر في قوله : {
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } [ النساء : 160 ] وعلى هذا فيقال :
« فبظلمٍ » متعلق ب « حَرَّمنا » أيضاً فيلزم أن يتعلق حرفا جر متحدان لفظاً ومعنى
بعامل واحد ، وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل . وأجابوا عنه بأن قولَه «
فبظلمٍٍ » بدل من قوله « فبما » بإعادة العامل . فيقال : لو كان بدلاً لما دخلت
عليه فاء العطف؛ لأن البدل تابع بنفسِه من غير توسُّط حرف عطف . وأُجيب عنه بأنه
لَمَّا طال الكلام بين البدل والمبدل منه أعادَ الفاء للطول ، ذكر ذلك ابو البقاء
والزجاج والزمخشري وأبو بكر وغيرهم .
وقد رَدَّه الشيخ بما معناه أن ذلك لايجوز لطول الفصل بين المبدل والبدل ، وبأنَّ
المعطوفَ على السبب سببٌ فيلزمُ تأخُّرُ بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن
وقت التحريم ، فلا يمكن أن يكون سبباً أو جزءَ سببٍ إلا بتأويل بعيد ، [ وذلك أن
قولهم : « إنَّا قتلنا المسيحَ » وقولهم على مريم ] البهتانَ إنما كان بعد تحريم
الطيبات . قال : « فالأَوْلى أن يكونَ التقدير : لعنَّاهم . وقد جاء مصرَّحاً به
في قولِه : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقَّدره ابنُ عطية لعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا
على قلوبهم . قال : » وحَذْفُ جوابِ مثلِ هذا الكلام بليغٌ « وتسميةُ مثل هذا »
جواب « غيرُ معروف لغةً وصناعة . وقَدَّره أبو البقاء : » فبما نقضهم ميثاقهم طُبع
على قلوبهم ، أو لُعِنوا . وقيل : تقديرُه : فبما نقضِهم لا يؤمنون ، والفاء
زائدةٌ « انتهى . [ وهذا الذي أجازه أبو البقاء تعرض له الزمخشري وردَّه فقال : »
فإنْ قالت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنًَّ المحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباء ] ما دل عليه
قولُه « بل طَبَع اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبما نقضِهم طَبَع اللَّهُ على
قلوبهم ، بل طَبَع الله عليها بكفرهم ردُّ وإنكارٌ لقولهم : » قلوبُنا « غُلْفٌ »
فكانَ متعلقاً به « قال الشيخ : » وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنع من وجهٍ آخرَ وهو أنَّ
العطفَ ب « بل » للإِضرابِ ، والإِضرابُ إبطالٌ أو انتقالٌ ، وفي كتابِ الله في
الإِخبار لا يكون إلا للانتقال ، ويُسْتفاد من الجملةِ الثانية ما لايُسْتفاد من
الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشري لا يَسُوغ فيه الذي قررناه ، لأنَّ قولَه : {
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ
الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله } هو
مدلولُ الجملة التي صَحِبتها « بل » فأفادَتِ الثانية ما أفادت الأولى ، ولو قلت :
« مَرَّ زيد بعمرو ، بل مَرَّ زيد بعمرو » لم يَجُزْ « وقَدَّره الزمخشري »
فَعَلْنا بهم ما فعلنا « .
قوله : { بَلْ طَبَعَ } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدم أي : ليس الأمرُ كما قالوا مِنْ قولهم : « قلوبُنا غلف » وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بل في « طبع » إلا الكسائي فأدغم من غير خلاف ، وعن حمزة خلاف . والباء في بكفرهم « يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة كالباء في » طبعت « بالطين على الكيس » يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به أي مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع . وقوله : « إلا قليلاً » يحتمل النصبَ على نعت مصدر محذوف أي : إلا إيماناً قليلاً : ويحتمل كونَه نعتاً لزمان محذوف أي : زماناً قليلاً ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً على الاستثناءِ من فاعل « يؤمنون » أي : قليلاً منهم فإنهم يؤمنون ، لأنَّ الضمير في « لا يؤمنون » عائدٌ على المطبوع على قلوبهم ، ومن طَبَع على قلبه بالكفر فلا يقع منه الإِيمان .
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
قوله
تعالى : { وَبِكُفْرِهِمْ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوف على « ما » في قوله
: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ } فيكونُ متعلقاً بما تعلق به الأول . الثاني : أنه عطفٌ
على « بكفرهم » الذي بعد « طبع » وقد أوضح الزمخشري ذلك غايةَ الإِيضاح ، واعترض
وأجابَ بأحسنِ جواب ، فقال : « فإنْ قلت : علامَ عَطَفَ قولَه » وبكفرهم «؟ قلت :
الوجهُ أن يُعْطَفَ على » فبما نقضِهم « ويُجْعَلَ قولُه : » { بَلْ طَبَعَ الله
عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلاماً يَتْبع قوله : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
} على وجهِ الاستطراد ، ويجوز عطفُه على ما يله من قوله « بكفرِهم » فإنْ قلت :
فما معنى المجيءِ بالكفر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُه؟ سواءً عطف على ما قبل
الإِضراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله } وقوله « بكفرهم
» قلت : قد تكرر منهم الكفر؛ لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمدٍ ، فعطف بعضَ
كفرِهم على بعض ، أو عَطَف مجموعَ المطعوفِ على مجموعِ المعطوف عليه ، كأنه قيل :
فبجمعهم بين نقضِ الميثاقِ ، والكفر بآيات الله ، وقتلِ الأنبياء ، وقولِهم :
قلوبنا غلف ، وجمعِهم بين كفرهم وبُهْتِهِم مريمَ وافتخارِهم بقتل عيسى عاقبناهم ،
أو بل طبع الله عليها بكفرِهم وجمعِهم بين كفرهم كذا وكذا « .
قوله : { بُهْتَاناً } في نصبِه خمسةُ أوجه ، أظهرُها : أنه مفعول به ، فإنه
مُضَمَّنٌ معنى » كلام « نحو : قلت خطبة وشعراً . الثاني : أنه منصوبٌ على نوع
المصدر كقولهم : » قَعَد القرفصاء « يعني أن القول يكون بُهتاناً وغيرَ بهتان .
الثالث : أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف أي : قولاً بُهتاناً ، وهو قريبُ من معنى
الأول الرابع : أنه منصوبٌ بفعل مقدرٍ من لفظه أي : بَهَتوا بُهْتاناً . الخامس :
أنه حال من الضمير المجرور في قولهم أي : مباهتين ، وجازَ مجيء الحال من المضاف
إليه لأنه فاعل معنًى ، والتقدير : وبأن قالوا ذلك مباهتين .
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
وقوله
تعالى : { وَقَوْلِهِمْ } : عطفٌ على « وكفرهم » و « عيسى » بدلٌ من « المسيح » أو
عطفُ بيان ، وكذلك « ابن مريم » ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً ، وأجاز أبو البقاء في
« رسول الله » هذه الأوجهَ الثلاثةَ ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليل . وقد يُقال
: إنَّ « رسول الله » جرى مَجْرى الجوامد / وأجازفيه أن يَنْتصب بإضمارِ « أعني »
، ولا حاجةَ إليه . قوله « شُبِّه لهم » : « شُبِّه » مبني للمفعول وفيه وجهان ،
أحدهما : أنه مسند للجار بعده كقولك : « حِيل إليه ، ولُبس عليه » . والثاني : أنه
مسندٌ لضمير المقتول الذي دَلَّ عليه قولهم : « إنَّا قتلْنا » أي : ولكن شُبِّه
لهم مَنْ قتلوه . فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يعودَ على المسيح؟ فالجواب أن المسيح
مشبه به لا مشبه .
[ قوله ] : « لفي شك منه » : « منه » في محلِّ جرٍ صفة ل « شك » يتعلَّقُ بمحذوف ،
ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْله بنفس « شك »؛ لأن الشك إنما يتعدَّى ب « في » لا ب «
من » ، ولا يقال : إنَّ « مِنْ » بمعنى « في » فإن ذلك قولٌ مرجوح ، ولا ضرورةَ
لنا به هنا .
وقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يجوز في « علم » وجهان ، أحدهما : أنه
مرفوع بالفاعلية والعاملُ أحد الجارَّيْن : إمّا « لهم » وإما « به » ، وإذا جُعِل
أحدُهما رافعاً له تعلَّق الآخر بما تعلَّق به الرفع من الاستقرارِ المقدر . و «
مِنْ » زائدةٌ لوجودِ شرطَي الزيادةِ . والوجه الثاني : أَن يكونَ « من علم »
مبتدأ زِيدت فيه « من » أيضاً ، وفي الخبر احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ « لهم »
فيكون « به » : إمَّا حالاً من الضمير المستكنّ في الخبر ، والعاملُ فيها
الاستقرارُ المقدر ، وإمَّا حالاً من « عِلْم » وإنْ كان نكرةً لتقدُّمها عليه
ولاعتمادِه على نفي . فإن قيل : يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرور بالحرف عليه وهو
ضرورةٌ لا يجوزُ في سَعة الكلام . فالجوابُ أنَّا لا نُسَلِّم ذلك ، بل نقل أبو
البقاء وغيره أنَّ مذهب أكثر البصريين جوازُ ذلك ، ولئِنْ سلَّمنا أنه لا يجوز إلا
ضرورة لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جر زائد ، والزائد في حكم المُطَّرَح ، وأمَّا
أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيان أي : أعني به ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ
إليه ، ولا يجوزُ أن يتعلقَ بنفس « علم » لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه .
والاحتمال الثاني : أن يكون « به » هو الخبر ، و « لهم » متعلق بالاستقرار كما
تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنة مخصصة كالتي في قوله :
{
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذه الجملةُ المنفية
تحتمل ثلاثة أوجه : الجر على أنها صفةٌ ثانية ل « شك » أي : غيرِ معلوم . الثاني :
النصب على الحالِ من « شك » وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله «
منه » الثالث : الاستئناف ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيد .
قوله : { إِلاَّ اتباع الظن } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : وهو الصحيح الذي
لم يذكر الجمهورُ غيرَه أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ، ولم يُقْرأ
فيما علمت إلا بنصبِ « اتِّباع » على أصل الاستثناء المنقطع ، وهي لغةُ الحجاز ،
ويجوزُ في تميم الإِبدالُ من « علم » لفظاً فيجرُّ ، او على المضع فيُرفَعُ لأنه
مرفوعُ المحل كما قَدَّمته لك ، و « من » زائدة فيه . والثاني - قال ابن عطية- :
أنه متصل قال : « إذ العلم والظن يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين ، يقول
الظانُّ على طريق التجوُّز : » علمي في هذا الأمر كذا « إنما يريد ظني » انتهى .
وهذا غيرُ موافَقِ عليه لأن الظنَّ ما ترجَّح فيه أحد الطرفين ، واليقين ما جُزِم
فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظن ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ،
فهو منقطع أيضاً أي : ولكنَّ اتباعَ الظن حاصلٌ لهم .
قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } الضمير في « قتلوه » فيه أقوال أظهرها أنه
لعيسى ، وعليه جمهور المفسرين . والثاني : - وبه قال ابن قتيبة والفراء - انه
يعودُ على العلم أي : ما قتلوا العلم يقيناً ، على حد قولهم : « قتلت العلم والرأي
يقيناً » و « قتلته علماً » ووجه المجاز فيه أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء
، فكأنه قيل : وما كان علمهم علماً أُحيط به ، إنما كان عن ظن وتخمين . الثالث -
وبه قال ابن عباس والسدي وطائفة كبيرة - أنه يعود للظن تقول : « قتلت هذا الأمر
علماً ويقيناً » أي : تحققت ، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً
ولا قطعوا الظن باليقين .
قوله : { يقيناً } فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه نعت مصدر محذوف أي : قتلاً يقيناً
. الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله كما تقدم مجازه ، لأنه في معناه أي : وما
تيقنوه يقيناً . الثالث : أنه حال من فاعل « قتلوه » أيك وما قتلوه متيقنين لقتله
. الرابع : أنه منصوب بفعل من لفظه حُذِف للدلالة عليه . أي : ما تيقَّنوه يقينا ،
ويكون مؤكداً لمضمون الجملة المنفية قبله . وقدّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه
مثبتاً فقال : « تقديره : تيقنوا ذلك يقنيا » وفيه نظر . الخامس - ويُنْقل عن ابي
بكر بن الأنباري- أنه منصوبٌ بما بعد « بل » من قوله : { رَّفَعَهُ الله } وأن في
الكلام تقديماً وتأخيراً أي : بل رفعه الله إليه يقيناً ، وهذا قد نَصَّ الخليل
فمَنْ دونه على منعِه ، أي : إن « بل » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فينبغي ألا
يَصِحَّ عنه ، وقوله : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } ردُّ لما ادَّعَوْه مِنْ
قتله وصلبه . والضمير في « إليه » عائد على « الله » على حَذْفِ مضاف أي : إلى
سمائِه ومحلِّ أمره ونهيه .
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
قوله
تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب } : « إنْ » هنا نافيةٌ بمعنى « ما » و « من
أهل » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه صفة لمبتدأ محذوف ، والخبرُ الجملةُ القسمية
المحذوفة وجوابها ، والتقدير : وما أحد من أهل الكتاب إلا واللّهِ ليؤمِنَنَّ به ،
فهو كقوله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ [ مَّعْلُومٌ ] } [ الصافات : 164
] . أي : ما أحدٌ منا ، وكقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم :
71 ] أي : ما أحد منكم إلا ورادُها ، هذا هو الظاهر ، والثاني : - وبه قال
الزمخشري وأبو البقاء - أنه في محلِّ الخبر ، قال الزمخشري : « وجملة » ليؤمِنَنَّ
به « جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإنْ من أهل / الكتابِ أحدٌ إلا
ليؤمنن به ، ونحوه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات :
164 ] { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] والمعنى : وما من
اليهود أحدٌ إلا ليؤمن » قال الشيخ : « وهو غلطٌ فاحش ، إذ زعم أن » ليؤمنن به «
جملة قسيمة واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة » أحد « المحذوف إنما [ هو ]
الجار والمجرور كما قَدَّرناه ، وأمّا قوله : » ليؤمنن به « فليست صفةً لموصوف ولا
هي جملة قسيمة ، إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسمُ وجوابُه خبر
للمبتدأ إذ لا ينتظم من » أحد « والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم
الإِسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محطُّ الفائدة ، وكذلك أيضاً الخبرُ
هو » إلاَّ له مقام « ، وكذلك » إلا واردها « إذ لا ينتظم مما قبل » إلا « تركيب
إسنادي » وهذا - كما ترى - قد أساء العبارة في حق الزمخشري بما زعم أنه غلط وهو
صحيح مستقيم ، وليت شعري كيف لا ينتظم الإِسناد من « أحد » الموصوفِ بالجملة التي
بعده ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول : « ما في الدار رجلٌ إلا صالحٌ » فكما أن
« في الدار » خبر مقدم ، و « رجل » مبتدأ مؤخر ، و « إلا صالحٌ » صفته ، وهو كلامٌ
مفيد مستقيم ، فكذلك هذا ، غايةُ ما في الباب أنَّ « إلا » دَخَلَتْ على الصفة
لتفيدَ الحصر . وأما ردُّه عليه حيث قال : جملةٌ قسمية ، وإنما هي جوابُ القسم فلا
يَحْتاج إلى الاعتذار عنه ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضات .
واللام في « ليؤمِنَنَّ » جوابُ قسمٍ محذوف كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : «
ليؤمِنَنَّ جواب قسم محذوف ، وقيل : أكَّد بها في غير القسم كما جاء في النفي
والاستفهام » فقوله : « وقيل إلى آخره » إنما يستقيم ذلك إذا أعَدْنا الخلاف إلى
نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطَّراد ،
وفي النفي على خلاف فيه ، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام فلم
يُعْهَد البتة .
وقال
أيضاً قبل ذلك : « وما مِنْ أهل الكتاب أحدٌ ، وقيل : المحذوف » مَنْ « وقد مرَّ
نظيره ، إلا أنَّ تقديرَ » مَنْ « هنا بعيدٌ ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم
، و » مَنْ « الموصولة والموصوفة غيرُ تمامة » يعني أنَّ بعضَهم جعل ذلك المحذوفَ
لفظَ « مَنْ » فيقدِّر : وإنْ مِنْ أهل مَنْ إلا ليؤمِنَنَّ ، فجعل موضع « أحد »
لفظَ « مَنْ » وقوله : « وقد مر نظيره » يعني قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } [ آل عمران : 199 ] ومعنى التنظير فيه أنه قد
صَرَّح بلفظ « مَنْ » المقدَّرة ههنا .
وقرأ أُبَي : { ليؤمِنُنَ به قبل موتهم } بضم النون الأولى مراعاة لمعنى « أحد »
المحذوف ، وهو إن كان لفظه مفرداً فمعناه جمع . والضمير في « به » لعيسى . وقيل :
لله تعالى ، وقيل : لمحمد عليه السلام . وفي « موته » لعيسى . ويُروى في التفسير
أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلُّ أحد حتى تصيرَ الملةُ كلها إسلاميةً . وقيل :
يعود على « أحد » المقدر ، أي : لا يموتُ كتابي حتى يؤمن بعيسى ، وينقل عن ابن
عباس ذلك ، فقال له عكرمة : « أفرأيت إنْ خَرَّ من بيت أو احترق أو أكله سَبُعٌ »
قال : لا يموتُ حتى يُحَرِّكَ بها شفتيه أي : بالإِيمان بعيسى . وقرأ الفياض بن
غزوان : « وإنَّ من أهل الكتاب » بتشديد « إنَّ » وهي قراءةٌ مردودةٌ لإِشكالها .
قوله : { وَيَوْمَ القيامة } العامل فيه « شيهداً » وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم
خبرِ « كان » عليها ، لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِن بتقديمِ العامل . وأجاز أبو
البقاء أن يكون منصوباً ب « يكون » وهذا على رَأْي مَنْ يجيز ل « كان » أن تعمل في
الظرفِ وشبهِه . والضميرُ في « يكون » لعيسى ، وقيل : لمحمد عليه السلام .
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
قوله
تعالى : { فَبِظُلْمٍ } : هذا الجارُّ متعلق ب « حَرَّمنا » والباء سببية ، وإنما
قُدِّم على عامِله تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ ، وقد تقدَّم أنَّ قولَه : «
فبظلمِ » بدلٌ من قولِه : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } وتقدَّم الردُّ
على قائله أيضاً فأغنى عن إعادته . و « من الذين » صفة ل « ظلم » أي : ظلمٍ صادرٍ
من الذين هادُوا . وقيل : ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعمل بها أي : فبظلمٍ أيِّ
ظلم ، أو فبظلمٍ عظيمٍ كقوله :
1673- فلا وأبى الطيرِ المُرِبَّةِ بالضحى ... على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ
أي : لحم عظيم .
قوله : { أُحِلَّتْ لَهُمْ } هذه الجملةُ صفةٌ ل « طيبات » فمحلُّها نصبٌ ، ومعنى
وصفِها بذلك أي : بما كانت عليه مِنَ الحِلِّ ، ويوضَّحه قراءة ابن عباس : { كانت
أُحِلَّتْ لهم } قوله : « كثيراً » فيه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه مفعول به أي :
بصدِّهم ناساً أو فريقاً أو جمعاً كثيراً . وقيل : نصبُه على المصدرية أي :
صَدَّاً كثيراً . وقيل : على ظرفيه الزمان أي : زماناً كثيراً ، والأول أولى ،
لأنَّ المصادرَ بعدها ناصبةٌ لمفاعيلها ، فيجري البابُ على سَننٍ واحدٍ ، وإنما
أعيدت الباءُ في قوله : { وَبِصَدِّهِمْ } ولم تَعُدْ في قوله : « وأَخْذِهم » وما
بعده لأنه قد فُصِل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه ، بل
بالعامل فيه وهو « حَرَّمْنا » وما تعلق به ، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف
عليه بالفصلِ بما ليس معمولاً للمعطوف عليه أُعيدت الباءُ لذلك ، وأمَّا ما بعده
فلم يُفْصَل فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطوفِ عليه وهو « الربا » .
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
والجملةُ من قوله تعالى : { وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } : في محلِّ نصب لأنها حاليةٌ ، ونظير ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادتِه ما تقدَّم في قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] الآية . و « بالباطل » يجوز أن يتعلق ب « أَكْلِهم » على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من « هم » في « أكلهم » أي : ملتبسين بالباطل .
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قوله
تعالى : { لكن الراسخون } : جيء هنا ب « لكن » لأنها بين نقيضين ، وهما الكفارُ
والمؤمنون . و « الراسخون » مبتدأ ، وفي خبره احتمالان ، أظهرُهما : أنه « يؤمنون
» ، والثاني : أنه الجملة من قوله : « أولئك سنؤتيهم » و « في العلم » متعلقٌ ب «
الراسخون » . و « منهم » متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في «
الراسخون » . قوله : « المؤمنون » عطفٌ على « الراسخون » وفي خبره الوجهان
المذكوران في خبر « الراسخون » ، ولكن إذا جَعَلْنا الخبرَ « أولئك سنُؤتيهم »
فيكون / يؤمنون ما محلُّه؟ والذي يَظْهر أنه جملة اعتراض لأنَّ فيه تأكيداً
وتسديداً للكلام ، ويكون « يؤمنون » يعود على « الراسخون » و « المؤمنون » جميعاً
، ويجوز أن تكون حالاً منهما ، وحينئذ لا يُقال : إنها حال مؤكدة لتقدُّم عاملٍ
مشاركٍ لها لفظاً؛ لأنَّ الإِيمانَ فيها مقيدٌ ، والإِيمانُ الأولُ مطلقٌ ، فصار
فيها فائدةٌ لم تكن في عاملها ، وقد يُقال : إنها مؤكدة بالنسبة لقوله : « يؤمنون
» غيرُ مؤكدة بالنسبةِ لقولِه : « الراسخون » .
قوله : والمقيمين « قراءةُ الجمهورِ بالياء ، وقرأ جماعة كثيرة » والمقيمون «
بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه ، ومالك بن
دينار وعصمة عن الأعمش ، وعمرو بن عبيد ، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق . فأما
قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة ، وفيها ستةُ أقوال ، أظهرهما : وعزاه
مكي لسيبويه ، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع ، يعني المفيدَ للمدح
كما في قطع النعوت ، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في
الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى ، وكذلك القطعُ في قوله { والمؤتون الزكاة } على ما
سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً ، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه :
» يؤمنون « ولا يجوز أن يكون قوله { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ } لأن القطع إنما يكونَ
بعد تمامِ الكلام . قال مكي : » ومَنْ جَعلَ نَصْبَ « المقيمين » على المدحِ
جَعَلَ خبرَ « الراسخين » : « يؤمنون » ، فإنْ جَعَل الخبر « أولئك » سنؤتيهم « لم
يجز نصب » المقيمين « على المدح ، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام » وقال الشيخ
: « ومَنْ جعل الخبرَ : أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ » قلت : هذا غيرُ لازمٍ ، لأنه
هذا القائلَ لا يَجْعَلُ نصبَ « المقيمين » حينئذٍ منصوباً على القطع ، لكنه ضعيفٌ
بالنسبةِ إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج « المقيمين » كما سيأتي . وحكى
ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف ، والقطعُ لا يكونُ في
العطف ، إنما ذلك في النعوت ، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنق :
1674-
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معتَركٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه؛ لأنها قطعت « النازين »
فنصبته ، و « الطيبون » فرفعَتْه عن قولِها « » قومي « ، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛
لأنه في غيرِ هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف ، أنشد سيبويه :
1675- ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي
فنصب » شعثاً « وهو معطوف .
الثاني : أن يكونَ معطوفاً على الضمير في » منهم « أي : لكن الراسخون في العلمِ
منهم ومن المقيمين الصلاة . الثالث : أن يكون معطوفاً على الكاف في » إليك « أي :
يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء . الرابع : أن يكونَ
معطوفاً على » ما « في » بما أُنْزِل « أي : يؤمنون » بما أنزل إلى محمد صلى الله
عليه وسلم وبالمقيمين ، ويُعْزَى هذا الكسائي . واختلفت عبارة هؤلاء في « المقيمين
» فقيل : هم الملائكة قال مكي : « ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ
كقوله : { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] . وقيل
: هم الأنبياء ، وقيل : هم المسلمون ، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي : وبدين المقيمين
. الخامس : أن يكونَ معطوفاً على الكاف في » قبلك « أي : ومِنْ قبلِ المقيمين ،
ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً . السادس : أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف ، ويكونَ
على حَذْفِ مضاف أي : ومن قبل المقيمين ، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه
مُقامه . فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ .
وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنهم لحنٌ ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ
من جهةِ غلط كاتبِ المصحف ، قالوا : وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط
نقله الفراء ، وفي مصحف أُبيّ كذلك ، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان ، وما أحسن
قولَ الزمخشري رحمه الله : » ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط
المصحف ، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ
العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين
الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الانجيل كانوا أبعدَ همةً في
الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله
ليسُدَّها مَنْ بعدهم ، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم « وأمَّا قراءةُ الرفعِ
فواضحةٌ .
قوله : { والمؤتون } فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً . أظهرها : أنه على إضمار مبتدأ ،
ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب . الثاني : أنه معطوفٌ على » الراسخون « ،
وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده
إلى إعراب المتبوع فلايُقال : » مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ « بنصب » العاقل « وجر
» الفاضل « فكذلك هذا .
الثالث : أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في « الراسخون » ، وجاز ذلك للفصل . الرابع : أنه مطعوفٌ على الضمير في « المؤمنون » الخامس : أنه معطوفٌ على الضمير في « يؤمنون » السادس : أنه معطوفٌ على « المؤمنون » ، السابع : أنه مبتدأ وخبره « أولئِك سنؤتيهم » فيكون « أولئك » مبتدأ ، و « سنؤتيهم » خبره ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، ويجوزُ في « أولئك » أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال ، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ « زيدٌ ضرتبه » بالرفع أجودُ مِنْ نصبه ، لأنه لا يحوج إلى إضمار ، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو « سأضربُ زيداً » مَنَعَ بعضهم « زيداً سأضرب » ، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله ، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما خلاف فيه . وقرأ حمزة : « سيؤتيهم » بالياء مراعاةً للظاهر في قوله : { والمؤمنون بالله } والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً ، ولمناسبةِ قوله : « وأعتدْنا » وهما واضحتان .
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
قوله
تعالى : { كَمَآ أَوْحَيْنَآ } : / الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : إيحاءً مثلَ
إيحائنا ، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرفاً أي : أوحيناه
أي : الإِيحاء حالَ كونِه مشبهاً لإِيحائنا إلى مَنْ ذكر . وهذا مذهبُ سيبويه وقد
تقدَّم تحقيقه . و « ما » تحتمل وجهين : أنه تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ
على الصحيح ، وأن تكونَ بمعنى الذي ، فيكونُ العائدُ محذوفاً أي : كالذي أوحيناه إلى
نوح . و « من بعده » متعلقٌ ب « أوْحينا » ، ولا يجوز أن تكونَ « من » للتبيين ،
لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى ، ولا يُخبر بظرف الزمان عن الجثة إلا بتأويل ليس هذا
محلِّه . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس « النبيين » ، يعني أنه في معنى الفعل
كأنه قيل : « والذين تنبَّؤوا مِنْ بعدِه » وهو معنى حسن .
وفي « يونس » ستُ لغاتٍ أفصحُها : واو خالصةٌ ونون مضمومة ، وهي لغةُ الحجاز ،
وحُكِي كسرُ النونِ بعد الواو ، وبها قرأ نافع في رواية حبان ، وحُكِي أيضاً فتحها
مع الواو ، وبها قرأ النخعي وهي لغة لبعض عقيل ، وهاتان القراءتان جَعَلَهما بعضهم
منقولتين من الفعلِ المبني للفاعل أو للمفعول ، جَعَل هذا الاسمَ مشتقاً من الأنس
، وإنما أُبدلت الهمزةُ واواً لسكونِها وانضمامِ ما قبلها ، ويدلُّ على ذلك مجيئُه
بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات كما سيأتي ، وفيه نظرٌ ، لأنَّ هذا الاسمَ أعجمي
، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو ، كأنهم قلبوا الواوَ همزةً لانضمامِ ما قبلها
نحو :
1676-أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تقريرُه ، وحُكي أنَّ ضمَّ النونِ مع الهمزة لغةُ بضع بني أسد ، إلا
أني لا أعلم أنه قُرئ بشيء من لغات الهمز . هذا إذا قلنا : إن هذا الاسمَ ليس
منقولاً من فِعْلٍ مبني للفاعل أو للمفعول حالةَ كسر النون أو فتحِها ، أمَّا إذا
قلنا بذلك فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو لأنه مشتق من الأنس ، وأمَّا مع
ضمِّ النونِ فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو لانتفاء الفعلية مع ضم
النون .
قوله : { زَبُوراً } قراءةُ الجمهور بفتح الزاي ، وحمزة بضمها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ
، أحدُها ، أنه جمعُ « زَبْر » قال الزمخشري : « جمعَ » زَبْر « ، وهو الكتاب ،
ولم يَذْكر غيرَه ، يعني أنه في الأصل مصدر على فَعْل ، ثم جُمع على فُعول نحو :
فَلْس وفُلوس ، وقَلْس وقُلُوس ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسي في أحد
التخريجين عنه . قال أبو علي : » ويحتمل أن يكونَ جمْعَ زَبْرٍ وقع على المزبور ،
كما قالوا : ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن ، كما سُمِّي المكتوب كتاباً « يعني أبو
علي أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به كما مثَّله والثاني : أنه جمع » زَبُور « في
قراءة العامة ، ولكنه على حَذْفِ الزوائد ، يعني حُذِفت الواوُ منه فصار اللفظ :
زَبُر ، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليّ ، قال أبو علي : » كما قالوا : ظريف
وظُروف ، وكَرَوان وكَرْوان ، وَوَرَشان ووِرْشان على تقدير حذف الياء والألف «
وهذا لا بأس به ، فإنَّ التكسير والتصيغر يَجْريان غالباً مجرىً واحداً ، وقد
رأيناهم يُصَغِّرون بحذفِ الزوائد نحو : » زُهَيْر وحُمَيْد « في أزهر ومحمود ،
ويسميه النحويون » تصيغر الترخيم « ، فكذلك التكسيرُ .
الثالث : أنه اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ جاءَ على فُعول كالدُّخول والقُعود والجُلوس ، قاله أبو البقاء وغيره . وفيه نظر من حيث إن الفُعول يكون مصدراً للازم ، ولا يكون للمتعدي إلا في ألفاظ محفوظةٍ نحو : اللُّزوم والنُّهوك ، وزَبَر - كما ترى - متعدٍ ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُول مصدراً له ، وقد تقدم معنى هذه المادة .
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
قوله
تعالى : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ } : الجمهور على نصب « رسلاً » وفيه ثلاثة
أوجه ، أحدها : أنه منصوب على الاشتغال لوجود شروطه ، أي : وقصصنا رسلاً ، والمعنى
على حَذْف مضاف أي : قصصنا أخبارهم ، فيكون « قد قصصناهم » لا محلَّ له لأنه مفسرٌ
لذلك العاملِ المضمر ، ويُقَوِّي هذا الوجهَ قراءةُ أُبي : « ورسل » بالرفعِ في
الموضعينِ ، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع؛ لأن العطف على جملةٍ فعلية وهي : «
وآتينا داودَ زبوراً » الثاني : أنه منصوب عطفاً على معنى « أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح » أي : أَرْسَلْنا وَنبَّأْنا نوحاً ورسلاً ، وعلى هذا فيكون « قد
قَصَصْناهم » في محل نصب لأنه صفةٌ ل « رسلاً » الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار فعل اي
: وأرسلنا رسلاً ، وذلك أنَّ الآية نزلت رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسالَ
الرسل وإنزال الوحي ، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله : { مَآ أَنزَلَ الله على
بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] والجملةُ أيضاً في محل الصفة .
وقرأ أُبي : « ورسلٌ » بالرفع في الموضعين ، وفيه تخريجان ، أظهرُهما : أنه مبتدأ
وما بعده خبرُه ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لأحدِ شيئين : إمَّا العطفِ كقولِه
:
1677- عندي اصطبارٌ وشكوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وإما التفصيلِ كقوله :
1678- فأقبلتُ زحفاً على الركبتينِ ... فثوبٌ لَبِسْتٌ وثوبٌ أَجُرّْ
وكقوله :
1679- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له ... بشقٍ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
والثاني : - وإليه ذهب ابن عطية - أنه ارتفعَ على خبر ابتداء مضمر أي : وهم رسلٌ ،
وهذا غير واضح . والجملة بعد « رسل » على هذا الوجه تكون في محلِّ رفع لوقوعها
صفةً للنكرة قبلها .
قوله : { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ } / كالأول . وقوله : { وَكَلَّمَ الله
موسى } الجمهور على رفع الجلالة ، وهي واضحة . و « تكليماً » مصدر مؤكد رافعٌ
للمجاز ، وهي مسألةٌ يبحث فيها الأصوليون ، تحتمل كلاماً كثيراً ليس هذا موضعَه ،
على أنه قد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز كقول هند بنت النعمان بن بشير في
زوجِها روحِ بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان :
1680- بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكَر جِلْدَه ... وعَجَّتْ عجيجاً مِنْ جُذامَ
المطارِفُ
تقول : إنَّ زوجها رَوْحاً قد بكى ثيابُ الخَزِ من لُبْسه ، لأنه ليس من أهل الخز
، وكذلك صرخت صراخاً من جُذام - وهي قبيلة رَوْح- ثيابُ المطارف ، تعني أنهم ليسوا
من أهل تلك الثياب ، فقولها : « عَجَّت المطارف » مجازٌ لأن الثياب لا تعجُّ ، ثم
رَشَّحَتْه بقولها عجيجاً . وقال ثعلب : « لولا التأكيدُ بالمصدر لجاز ان يكونَ
كما تقول : » كَلَّمْتُ لك فلاناً « أي : أرسلت إليه ، أو كتبت له رُقْعةً . وقرأ
يحيى بن وثاب والنخعي : » وكَلَّم اللَّهَ موسى « بنصب الجلالة ، وهي واضحةٌ أيضاً
.
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قوله
تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ } : فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه بدل من «
رسلاً » الأول في قراءة الجمهور ، وعَبَّر الزمخشري عن هذا بنصبه على التكرير ،
كذا فهم عنه الشيخ الثاني : انه منصوبٌ على الحال الموطئة ، كقولك : « مررت بزيدٍ
رجلاً صالحاً » ومعنى الموطئة أي : إنَّها ليست مقصودةً ، إنما المقصودُ صفتُها ،
ألا ترى ان الرجولية مفهومة من قولك « بزيد » وإنما المقصودُ وصفُه بالصلاحية .
الثالث : أنه نُصب بإضمار فعل أي : أَرْسَلْنا رسلاً . الرابع : أنه منصوبٌ على
المدح ، قَدَّره أبو البقاء ب « أعني » ، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاً على
المدح نحو : « أمدح » وقد رجَّح الزمخشري هذا الأخير فقال : « والأوجَهُ أن
ينتصِبَ » رسلاً « على المدح » .
قوله : { لِئَلاَّ } هذه لام كي ، وتتعلَّقُ ب « منذرين » على المختار عند
البصريين ، وب « مبشِّرين » على المختار عند الكوفيين ، فإنه المسألةَ من التنازع
، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ فكان يُقال : مبشِّرين
ومنذرين له لئلا ، ولم يَقُلُّ كذلك فدلَّ عل مذهب البصريين ، وله في القرآن
نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة . وقيل : اللام تتعلقُ بمحذوف أي : أرسلناهم لذلك .
و « حُجَّةٌ اسمُ » كان « ، وفي الخبر وجهان ، أحدُهما : هو » على الله « و »
للناس « حال ، والثاني ، أن الخبرَ » للناس « و » على الله « حال ، ويجوز أن يتعلق
كلُّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّقَ به الآخرُ إذا جَعَلْناه خبراً ، ولا يجوزُ
أن يتعلقَ على الله ب » حجة « ، وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمولَ المصدر لا
يتقدَّم عليه . و » بعد الرسل « متلعقٌ ب » حجة « ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على
أنه صفةٌ ل » حُجَّة « لأنَّ ظروف [ الزمان ] تُوصَفُ بها الأحداثُ كما يُخْبر بها
عنها نحو : » القتالُ يوم الجمعة « .
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قوله
تعالى : { لكن الله يَشْهَدُ } : هذه الجملة الاستداركية لايبتدأ بها ، فلا بد من
جملة محذوفة ، وتكون هذه الجملةُ مستدركة عنها ، والجملة المحذوفة هي ما رُوي في
سبب النزول أنه لَمَّا نَزَلَتْ : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ النساء : 163
] قالوا : ما نشهد لك بهذا أبداً ، فنزلت : { لكن الله يَشْهَدُ } وقد أحسن
الزمخشري هنا في تقدير جملةٍ غيرُ ما ذكرتُ ، وهو : « فإنْ قلت : الاستدراكُ لا
بُدَّ له من مستدرَك ، فأين هو في قوله : { لكن الله يَشْهَدُ } ؟ قلت : لَمَّا
سأل أهلُ الكتاب إنزالَ الكتاب من المساء وتعنَّتوا بذلك ، واحتجَّ عليهم بقوله :
إنَّا أوحينا إليك » قال : « لكن اللَّهُ يشهد » بمعنى أنهم لا يشهدون لكن اللَّهُ
يَشْهد ثم ذكر الوجهَ الأول .
وقرأ الجمهور بتخفيفِ « لكن » ورفعِ الجلالة . والسُّلمي والجراح الحكمي بتشديدها
نصبِ الجلالة ، وهما كالقراءتين في { ولكن الشياطين } وقد تقدَّم حكمه . والجمهور
على « أَنْزله » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، والحسن قرأه « أُنزل » مبنياً
للمفعول ، وقرأ السلمي « نَزَّله بعلمه » مشدداً . والباء في « بعلمه » للمصاحبة
أي : ملتبساً بعلمه ، فالجار والمجرور في محل نصب على الحال . وفي صاحبها وجهان ،
أحدهما : الهاءُ في « أنزله » والثاني : الفاعل في « أنزله » أي : أنزله عالماً به
. و « الملائكةُ يشهدون » مبتدأ وخبر ، يجوز أن تكونَ حالاً أيضاً من المفعول في «
أنزله » أي : والملائكةُ يشهدون بصدقه ، ويجوز ألاَّ يكونَ لها محل ، وحكمه حينئذٍ
كحكم الجملةِ الاستدراكية قبله . وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قوله : { كفى بالله
} [ النساء : 6 ] ، وعلى قوله : { لِيَغْفِرَ لَهُمْ } [ النساء : 168 ] وأن الفعل
مع هذه اللامِ أبلغُ منه دونَها . والجمهور على « وصَدُّوا » مبنياً للفاعل ، وقرأ
عكرمة وابن هرمز : « وصُدُّوا » مبنياً للمفعول ، وهما واضحتان ، وقد قرئ بهما في
المتواتر في قوله : { وَصُدُّواْ } [ الآية : 33 ] في الرعد ، { وَصُدَّ عَنِ
السبيل } [ الآية : 37 ] في غافر .
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
وقوله تعالى : { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } : فيه قولان ، أحدهما : أنه استثناءٌ متصل لأنَّ المرادَ بالطريقِ الأولِ العمومُ فالثاني من جنسه ، والثاني : أنه منقطعٌ إنْ أُريد بالطريقِ شيءٌ مخصوصٌ وهو العمل الصالح الذي توصَّلون به إلى الجنة . « وخالدين » حالٌ مقدَّرة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
وقوله
تعالى : { بالحق } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلق بمحذوفٍ ، والباء للحال أي :
جاءكم الرسولُ ملتبساً بالحق أو متكلماً به . والثاني : أنه متعلقٌ بنفس « جاءكم »
أي : جاءكم بسببِ إقامةِ الحق . و « من ربكم » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ
بمحذوف على أنه حال أيضاً من « الحق » والثاني : أنه متلعقٌ ب « جاء » أي : جاء من
عند الله أي : أنه مبعوثٌ لا متقوِّل .
قوله : { خَيْراً لَّكُمْ } في نصبه أربعة أوجه ، أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه
- أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجبِ الإِضمار تقديره : وأتوا خيراً لكم ، لأنه لَمَّا
أمرهم بالإِيمان / فهو يريدُ إخراجَهم من أمر وإدخالَهم فيما هو خيرٌ منه ، ولم
يذكر الزمخشري غيره قال : « وذلك أنه لمَّا بعثهَم على الإِيمان وعلى الانتهاءِ من
التثليث علم أنه يَحْمِلُهم على أمر فقال : خيراً لكم ، أي : اقصِدوا وأتوا أمراً
خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثلث » . الثاني : - وهو مذهب الفراء- أنه نعت
لمصدر محذوف أي : فآمنوا إيماناً خيراً لكم . وفيه نظر ، من حيث أنه يُفْهِم أنَّ
الإِيمان منقسم إلى خير وغيره ، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ ، وقد
يُقال : إنه قد يكون لا يقول بمفهوم الصفة ، وأيضاً فإن الصفة قد تأتي للتأكيد
وغيره ذلك . الثالث : - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد - أنه منصوبٌ على خبرِ « كان »
المضمرةِ تقديرُه : يكنِ الإِيمانُ خيراً . وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب بأن « كان
» لا تُحْذَف مع اسمها دونَ خبرها إلا فيما لا بد له منه ، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ «
يكن » المقدرةَ جوابُ شرط محذوف فيصير المحذوفَ الشرطُ وجوابُه ، يعني أنَّ
التقديرَ : إنْ تؤمنوا يكنِ الإِيمانُ خيراً ، فَحَذفْتَ الشرطَ وهو « إنْ تؤمنوا
» وجوابَه ، وهو « يكن الإِيمان » ، وأبقيتَ معمولَ الجواب وهو « خيراً » وقد يقال
: إنه لا يُحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعي وإن كان المعنى عليه ، لأنَّا نَدَّعي أن
الجزم في « يكن » المقدرةِ إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله وهو وقوله : {
فَآمِنُواْ } من غير تقدير حرفِ شرط ولا فعلٍ له ، وهو الصحيح في الأجوبة الواقعة
لأحد الأشياء السبعة ، تقول : « قم أكرمْك » ف « أكرمك » جواب مجزوم بنفس « قم »
لتضمُّن هذا الطلبِ معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعي . الرابع : - والظاهرُ
فساده- أنه منصوبٌ على الحال ، نقله مكي عن بعض الكوفيين ، قال : « وهو بعيد »
ونقله أبو البقاء أيضاً ولم يَعْزُه .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قوله
تعالى : والغُلُوُّ : تجاوزُ الحدِّ ، ومنه : « غَلْوة السهم » و « غَلاء السعر »
قوله : { إِلاَّ الحق } هذا استثناء مفرغ ، وفي نصبه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول
به لأنه تضمَّن معنى القول نحو : « قلت خطبةً » والثاني : أنه نعتُ مصدر محذوف أي
: إلا القولَ الحق ، وهو قريب في المعنى من الأول . وقرأ جعفر بن محمد : «
المِسِّيح » بوزن « السِّكِّيت » كأنه جَعَله مثالَ مبالغة نحو : شِرِّيبٌ العسلَ
« و » المسيح « مبتدأ بعد » إنَّ « المكفوفة ، و » عيسى « بدل منه أو عطف بيان ، و
» ابن مريم « صفته و » رسول الله « خبر المبتدأ ، و » كلمتُه « عطف عليه .
و » ألقاها « جملةٌ ماضية في موضع الحال ، و » قد « معها مقدرةٌ . وفي عاملِ الحال
ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء . أحدها : أنه معنى » كلمة « لأنَّ معنى وصف عيسى
بالكلمة : المكونُ بالكلمة من غير أب ، فكأنه قال : ومنشؤه ومبتدعُه . والثاني :
أن يكون التقدير : إذ كان ألقاها ، ف » إذا « ظرفُ زمانٍ مستقبل ، و » كان « تامة
، وفاعلها ضمير الله تعالى . و » ألقاها « حالٌ من ذلك الفاعل ، وهو كقولهم : »
ضربني زيداً قائماً « والثالث : أن يكونَ حالاً من الهاء المجرورة ، والعاملُ فيها
معنى الإِضافة تقديره : وكلمةُ اللَّهِ مُلْقِياً إياها » انتهى . أمّا جعله
العاملَ معنى « كلمة » فصحيح ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟
وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في « كَلِمتُه » العائدُ على عيسى لم تَضمَّنَتْه من
معنى المشتق نحو : « مُنشَأ ومُبتدَع » ، وأمّا جَعْلُه العاملَ معنى الإِضافة
فشيء ضعيف ، ذهب إليه بعض النحويين . وأمَّا تقديرُه الآيةَ بمثل « ضربي زيدا
قائماً » ففاسد من حيث المعنى . والله أعلم .
و « روحٌ » عطفٌ على « كلمة » و « منه » صفة ل « روح » ، و « من » لابتداء الغاية
مجازاً ، وليست تبعيضيةً . ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ علي بن الحسين
بن واقد المروزي وقال : « في كتاب الله ما يَشْهد أنَّ عيسى جزءٌ من الله » وتلا :
« وروح منه » ، فعارضه ابن واقد بقوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي
السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، وقال : « يلزم أن
تكون تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى وهو مُحالٌ بالاتفاق » فانقطع النصراني
وأسلم .
و « ثلاثةٌ » خبر مبتدأ مضمر ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بالقول
أي : ولا تقولوا : « آلهتنا ثلاثةٌ » يدلُّ عليه قوله بعد ذلك : { إِنَّمَا الله
إله وَاحِدٌ } وقيل : تقديره : الأقانيمُ ثلاثة أو المعبود ثلاثة .
وقال
الفارسي : « تقديره : الله ثالث ثلاثة ، ثم حُذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مُقامه
، يريد بذلك موافقةَ قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ
ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
وقوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } نصب » خيراً « هنا كنصبه فيما تقدم في جميع
وجوهِه نسبته إلى قائليه . و » أن يكون له ولد « تقديره : من أن يكون ، أو : عن أن
يكون ، لأنَّ معنى » سبحان « التنزيهُ ، فكأنه قيل : نَزَّهوه عن أن يكون ، أو من
أن يكون له ولد ، فيجيء في محل » ان « الوجهان المشهوران . و » واحد « نعت على
سبيل التوكيد ، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد ، فإنه قال : » والله
« مبتدأ ، و » إله « خبره ، » واحد « نعت تقديره : إنما الله منفرد في إلهيتَّه »
وقيل : « واحدٌ تأكيد بمنزلة { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ،
ويجوز أن يكون » إله « بدلاً من » الله « و » واحد « خبره ، تقديره : إنما
المعبودُ واحدٌ . وقوله : { أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تقدم نظيره وقرأ الحسن : »
إنْ يكونُ « بكسرِ الهمزة ورفع » يكون « على أن » إنْ « نافية أي : ما يكون له ولد
، فعلى قراءته يكون هذا الكلامُ جملتين ، وعلى قراءة العامة يكون جملة واحدة .
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
قوله
تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً } : قرأ عليُّ : «
عُبَيْداً » على التصغير وهو مناسبٌ للمقام . وقوله : { وَلاَ الملائكة } عطف على
« المسيح » أي : ولن يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيداً لله . وقال الشيخ : ما
نصُّه : « وفي الكلام حذف ، التقدير : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله
، فإنْ ضُمِّن » عبداً « معنى » مِلْكاً لله « لم يَحتجْ إلى هذا التقديرِ :
ويكونُ إذ ذاك » ولا الملائكة « من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لُحِظَ في »
عبد « معنى الوِحْدة ، فإن قوله : » ولا الملائكة « يكون من عطف الجمل لاختلاف
الخبر ، وإنْ لُحِظ في قوله : » ولا الملائكة « معنى : » ولا كل واحد من الملائكة
« كان من باب عطف المفردات » وقال الزمخشري : « فإن قلت : علام عُطِفَ و »
الملائكة «؟ قتل : إمَّا أن يُعْطَفَ على » المسيح « أو اسمِ » يكون « أو على
المستتر في » عبداً « لِما فيه من معنى الوصف لدلالته على العبادة ، وقولك : »
مررت برجلٍ عبدٍ أبوه « فالعطفُ على المسيح هو الظاهرُ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ
انحرافٍ عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنفُ أن يكونَ هو لا مَنْ فوقه موصوفين
بالعبودية أو أن يَعْبد الله هو ومن فوقه » قال الشيخ : « والانحرافُ عن الغرض
الذي أشار إليه كونُ الاستنكافِ يكون مختصاً بالمسيح والمعنى التام إشراك الملائكة
مع المسيح في انتفاءِ الاستنكافِ عن العبودية ، ويظهرُ أيضاً مرجوحيةُ الوجهين
مِنْ جهةِ دخولِ » لا « إذ لو أُريد العطفُ على الضمير في » يكون « أو في » عبدا «
لم تَدْخُل » لا « ، بل كان يكون التركيب بدونها ، تقول : » ما يريد زيدٌ أن يكونَ
هو وأبوه قائمين « و » ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو « فهذان التركيبان ليسا من
مَظَنَّةِ دخولِ [ لا ] وإنْ وُجد منه شيءٌ أُوِّلَ » انتهى . فتحصَّل في رفع «
الملائكة » ثلاثة أوجه ، أوجَهُها الأول .
والاستنكافُ : استفعال من النَّكْف ، والنَّكْفُ : أن يُقال له سوء ، ومنه : « وما
عليه في هذا الأمر نَكْفٌ ولا وَكْف » قال أبو العباس : « واستفعل هنا بمعنى دَفَع
النَّكْفَ عنه » وقال غيره : « هو الأَنَفَةُ والترفع » ومنه : « نَكَفْتُ
الدَّمعَ بإصبعي » إذا منعتُه من الجري على خَدِّك ، قال :
1681- فبانوا فلولا مَا تَذَكَّرُ منهمُ ... من الحِلْفِ لم يُنْكَفْ لعَيْنَيْك
مَدْمَعُ
قوله { فَسَيَحْشُرُهُمْ } الفاءُ يجوز ان تكونَ جواباً للشرط في قوله : { وَمَن
يَسْتَنْكِفْ } فإنْ قيل : جواب « إنْ » الشرطية واخواتِها غيرَ « إذا » لا بد أن
يكونَ محتملاً للوقوع وعدمه ، وحشرُهم إليه جميعاً لا بد منه ، فكيف وقع جواباً
لها؟ فقيل في جوابه وجهان ، أحدهما : - وهو الأصح - أن هذا كلامٌ تضمَّن الوعدَ
والوعيد ، لأنَّ حَشْرَهم يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب ، ويَدُلُّ عليه
التفصيلُ الذي بعده في قوله : « فأمَّا الذين » إلى آخره ، فيكونُ التقدير :
وَمَنْ يستنكِفْ عن عبادته ويستكبرْ فيعذبُه عند حَشْرِه إليه ، ومَنْ لم يستنكف
ولم يستكبر فيثيبه .
والثاني : أنَّ الجوابَ محذوف أي : فيجازيه ، ثم أخبر بقوله : { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } وليس بالبيِّن . وهذا الموضوع محتمل أن يكون مِمَّا حُمِل على لفظةِ « مَنْ » تارة في قوله : يستنكف « ويستكبر » فلذلك أفرد الضمير ، وعلى معناها أخرى في قوله : فسيحشرهم « ولذلك جَمَعه ، ويَحْتمل أنه أعاد الضمير في فسيحشرهم » على « مَنْ » وغيرِها ، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك ، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العموم المشار إليه . وقيل : بل حَذَفَ معطوفاً لفهم المعنى ، والتقدير : فسيحشرهم أي : المستنكفين وغيرَهم ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد . و « جميعاً » حالٌ أو تأكيدٌ عند مَنْ جَعَلها ك « كل » وهو الصحيح . وقرأ الحسن : « فسنحشرهم » بنونِ العظمة ، وتخفيفِ باء « فيعذبهم » وقرئ : « فسيحشرهم » بكسرِ الشين وهي لغةٌ في مضارع « حَشَر » .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
قوله تعالى : { فَأَمَّا الذين } : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها . ولكن هنا سؤالٌ حسن قاله الزمخشري وهو : « فإن قلت : التفصيل غيرُ مطابق للمفصَّل ، لأنه اشتمل على الفريقين ، والمفصَّل على فريق واحد . قلت : هو مثلُ قولك : » جَمَعَ الإِمام الخوارج : فمن لم يخرج عليه كساه حُلَّةً ومَنْ خرج عليه نَكَّل به « وصحةُ ذلك لوجهينِ ، أحدُهما : أنه يُحذف ذِكُر أحدِ الفريقين لدلالةِ التفصيل عليه ، ولأنَّ ذِكْرَ أحدهما يدل على ذكرِ الثاني كما حذف أحدَهما في التفصيل في قوله عقيب هذا : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ } والثاني : وهو أن الإِحسان إلى غيرهم ما يَغُمُّهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم ، فكأنه قيل : ومن يستنكفْ عن عبادتِه ويستكبرْ فسيعذُبهم بالحسرة إذا رأوا أجور العاملين وبما يصيبهم من عذاب الله » انتهى . يعني بالتفصيل قولَه : « فأما » و « أما » وقد اشتمل على فريقين أي : المثابين والمعاقبين ، وبالمفصَّل قولَه قبل ذلك : « ومَنْ يستنكف » ، ولم يشتمِلْ إلا على فريق واحد هم المعاقبون .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
قوله تعالى : { مِّن رَّبِّكُمْ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف لأنه صفةٌ ل « برهان » أي : برهانٌ كائن من ربكم . « ومِنْ » يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية مجازاً ، أو تبعيضية أي : من براهين ربكم . والثاني : أنه متعلقٌ بنفسِ « جاء » و « مِنْ » لابتداء الغاية كما تقدم .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
قوله تعالى : { صِرَاطاً } : مفعول ثان ل « يهدي » لأنه يتعدى لاثنين كما تقدم تحريره . وقال جماعة منهم مكي : إنه مفعول بفعلٍ محذوف دَلَّ عليه « يهديهم » ، والتقدير : « يُعَرِّفهم » وقال أبو البقاء قريباً من هذا إلا أنه لم يُضْمِرْ فعلاً ، بل جَعَلَه منصوباً ب « يهدي » على المعنى ، لأنَّ المعنى يُعَرِّفهُم . قال مكي في الوجه الثاني : « ويجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً ل » يَهْدي « أي : يهديهم صراطاً مستقيماً إلى ثوابه وجزائه » ولم اَدْرِ لِمَ خَصَّصوا هذا الموضع دونَ الذي في الفاتحة ، واحتاجوا إلى تقدير فعل أو تضمنيه معنى « يُعَرِّفهم »؟ وأجاز أبو عليّ أن يكون منصوباً على الحال من محذوف فإنه قال : « الهاءُ في » إليه « راجعةٌ إلى ما تقدم من اسم الله ، والمعنى : ويهديهم إلى صراطه ، فإذا جعلنا » صراطاً مستقيماً « نصباً على الحال كانت الحالُ من هذا المحذوفِ » انتهى . فتحصَّل في نصبه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه مفعول ب « يهدي » من غير تضمين معنى فعل آخرَ . الثاني : أنه على تضمين معنى « يُعَرفهم » الثالث : أنه منصوبٌ بمحذوفٍ . الرابع : أنه نصبٌ على الحال ، وعلى هذا التقديرِ الذي قَدَّره الفارسي تقْرُب من الحالِ المؤكدة ، وليس كقولك : « تبسَّم ضاحكاً » لمخالفتِها لصاحبِها بزيادةِ الصفةِ وإن وافقته لفظاً . والهاءُ في « إليه » إمَّا عائدةٌ على « الله » بتقدير حذف مضاف كما تقدم من نحو : « ثوابه » أو « صراطه » ، وإمَّا على الفضلِ والرحمة لأنهما في معنى شيءٍ واحد ، وإما عائدةٌ على الفضلِ لأنه يُراد به طريق الجنان .
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله
تعالى : { فِي الكلالة } : متعلق ب « يُفْتيكم » على إعمال الثاني ، وهو اختيار
البصريين ، ولو أَعْمل الأولَ لأضمرَ في الثاني ، وله نظائرُ في القرآن : {
هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }
[ الكهف : 96 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
الله } [ المنافقون : 5 ] { والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } [ البقرة
: 39 ] . وقد تقدَّم الكلام فيه بأشَبع من هذا في سورة البقرة فليراجَعْ . وتقدَّم
أيضاً اشتقاقُ الكلالة أول هذه السورة . وقوله : { إِن امرؤ } كقوله : { وَإِنِ
امرأة } [ النساء : 128 ] . و « هلك » جملةٌ فعليةٌ في محلّ رفع صفة ل « امرؤ » .
و « ليس له ولدٌ » جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ثانية ، وأجاز أبو البقاء أن
تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير في « هلك » ولم يذكر غيره . ومع الزمخشري أن تكونَ
حالاً ، ولم يبيِّنْ العلةَ في ذلك ، ولا بيَّن صاحبَ الحال أيضاً : هل هو « امرؤ
» أو الضمير في « هلك »؟ قال الشيخ : « ومَنَعَ الزمخشري أن يكونَ قولُه : » ليس
له ولد « جملةً حالية من الضمير في » هلك « فقال : » ومحلُّ ليس له ولد الرفعُ على
الصفةِ لا النصبُ على الحال « انتهى . والزمخشري لم يَقُلْ كذلك أي : لم يمنع
كونَها حالاً من الضمير في » هلك « ، بل منع حاليَّتَها على العموم كما هو ظاهرُ
قوله ، ويحتمل أنه أراد مَنْعَ حاليتها من » امرؤ « لأنه نكرةٌ ، لكنَّ النكرة هنا
قد تخصَّصت بالوصف ، وبالجملةِ فالحالُ من النكرة أقلُّ مه من المعرفة والذي ينبغي
امتناعُ حاليتها مطلقاً كما هو ظاهر عبارته ، وذلك أنَّ هذه الجملةَ المفسِّرةَ
للفعل المحذوف لا موضِعَ لها من الإِعراب فأشبهت الجملَ المؤكدة ، وأنت إذا أتبعت
أو أخبرتَ فإنما تريدُ ذلك الاسمَ المتقدِّمَ في الجملة المؤكدة السابقة لا ذلك
الاسمَ المكرَر في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً ، لأنَّ الجملةَ الأولى هي
المقصودةُ بالحديثِ ، فإذا قلت : » ضربتُ زيداً ضربت زيداً الفاضلَ « ف » الفاضل «
صفةُ » زيداً « الأول لأنه في الجملة المؤكَّدَة المقصودُ بالإِخبار ، ولايَضُرُّ الفصلُ
بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد ، فهذا المعنى يَنْفي كونَها حالاً من الضمير
في » هلك « وأما ما ينفي كونَها حالاً من » امرؤ « فلِما ذكرته لك من قلةِ مجيء
الحال من النكرةِ في الجملة . وفي هذه الآيةِ على ما اختاروه من كونِ » ليس له ولد
« صفةً دليلٌ على الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب
الاشتغال ، ونظيرُه : » إنْ رجلٌ قام عاقلٌ فأكرمْه « ف » عاقل « صفةٌ ل » رجل «
فُصِل بينهما ب » قام « المفسِّرٍ ل » قام المفسَّر .
وقوله
: { وَلَهُ أُخْتٌ } كقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ، والفاء في « فلها » جوابُ «
إنْ » وقوله : { وَهُوَ يَرِثُهَآ } لا محلَّ لهذه الجملة من الإِعراب لاستئنافِها
، وهي دالةٌ على جواب الشرط ، وليست جواباً خلافاً للكوفيين وأبي زيد . وقال أبو
البقاء : « وقد سَدَّتْ هذه الجملة مسدَّ جوابِ الشرط » يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم
، وهذا كما يقول النحاة : إذا اجتمع شرط وقسم أُجيب سابقُهما ، وجعل ذلك الجواب
ساداً مسدَّ جواب الآخر . والضميران من قوله : « وهو يرثها » عائدان على لفظ امرئ
وأخت دونَ معناهما ، فهو من باب قوله :
1682- وكُلُّ أناسٍ قاربوا قيدَ فَحْلِهمْ ... ونحن خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ
وقولهم : « عندي درهمٌ ونصفه » وقوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ
وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } وإنما احتيج إلى ذلك لأنَّ الحيةَ لا تُورَثُ
والهالكَ لا يرثُ فالمعنى : وامرأً آخرَ غيرَ الهالك يرثُ أختاً له أخرى .
قوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } الألفُ في « كانتا » فيها أقوال أحدُهما : أنها
تعودُ على الأختين يدلُّ على ذلك قولُه : « وله أخت » أي : فإن كانتِ الأختان
اثنتين . وقد جَرَتْ عادةُ النحويين أن يسألوا هنا سؤالاً وهو أنَّ الخبر لا بد أن
يفيد ما لا يفيده المبتدأ ، وإلاَ لم يكن كلاماً ، ولذلك مَنَعوا : « سيدُ الجارية
مالكُها » لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد
ذلك العدد مستفادٌ من الألف في « كانتا » وقد أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ منها : ما
ذكره أبو الحسن والأخفش وهو أنَّ قولَه « اثنتين » يدلُّ على مجرد الاثنيية من غير
تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف ، يعني أن الثلثين يُستَحقان بمجرد
هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر ، فصار الكلام بذلك مفيداً « . وهذا غيرُ واضحٍ
لأنَّ الألفَ في » كانتا « تدل أيضاً على مجرد الاثنيية من غير قيد بصغير أو كبير
أو غيرهما من الأوصاف ، فقد رجعَ الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غيرَ ما أفاده
المبتدأ . ومنها : ما ذكره مكي عن الأخفش أيضاً ، وتبعه الزمخشري وغيره وهو
الحَمْلُ على معنى » مَنْ « وتقريره ما ذكره الزمخشري ، قال رحمه الله : » فإن قلت
: إلى مَنْ يرجع ضميرُ التثنية والجمع في قوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين ، وَإِن
كانوا إِخْوَةً } قلت : أصلُه : فإن كان مَنْ يرث بالأخوَّة اثنتين ، وإن كان [ من
] يرث بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً ، وإنما قيل : « فإن كانتا ، وإن كانوا » كما قيل
: « مَنْ كانت امَّك » فكما أَنَّث ضميرَ « مَنْ » لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى
وجمع ضميرَ مَنْ يرث في « كانتا » و « كانوا » لمكانِ تثنية الخبر وجمعِه « / وهو
جوابٌ حسن .
إلا
أن الشيخَ إعترضه فقال : « هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ ، وليس نظيرَ » مَنْ كانت أمَّك
« لأنه قد صَرَّح ب » مَنْ « ولها لفظ ومعنى ، فمن أنَّث راعى المعنى ، لأن
التقدير : أيةُ أُمٍّ كانت أمكَ » ومدلول ُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلول الاسم ،
بخلافِ الآية فإن المدلولين واحد ، ولم يؤنث في « مَنْ كانت أمك » لتأنيثِ الخبر ،
إنما أنث لمعنى « من » إذ أراد بها مؤنثاً ألا ترى أنك تقول « مَنْ قامت » فتؤنث
مراعاة للمعنى إذا أردْتَ السؤال عن مؤنث ، ولا خبر هنا فيؤنَّثَ « قامت لأجلهِ »
انتهى وهو تحاملٌ منه على عادته ، والزمخشري وغيره لم ينكروا أنه لم يُصَرَِّح في
الآية بلفظِ « مَنْ » حتى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامض ، وهذا التخريجُ
المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف .
والظاهرُ أنَّ الضميرَ في « كانتا » عائدٌ على الوارثتين . و « اثنتين » خبرُه ، و
« له » صفةٌ محذوفة بها حَصَلت المغايرة بين الاسم والخبر ، والتقدير : فإنْ كانت
الوارثتان اثنتين من الأخوات ، وهذا جوابٌ حسن ، وحَذْفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ
منكرٍ ، وإن كان أقلَّ من عكسه ، ويجوز أن يكونَ خبرُ « كان » محذوفاً ، والألفُ
تعودُ على الاختين المدلولِ عليهما بقوله : « وله أخت » كما تقدَّم ذكرُه عن
الأخفش وغيرِه ، وحينئذ يكونُ قولُه : « اثنتين » حالاً مؤكدة ، والتقديرُ : وإنْ
كانت الأختان له ، فَحَذَفَ « له » لدلالةِ قوله : « وله أخت » عليه فهذه أربعةُ
أقوال .
و « إنْ كانوا » في هذا الضمير ثلاثة أوجه أحدها : أنه عائد على المعنى « مَنْ »
المقدرة تقديرُه : « فإن كان مَنْ يرث إخوة » كا تقدَّم تقريره عن الزمخشري وغيره
. الثاني : أنه يعود على الإِخوة ، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل ، فإنَّ الإِخوة
يشمل الذكورَ والإِناث ، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصة فقد أفاد الخبر ما لم
يُفِدْه الاسم ، وإن عاد على الوارث فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادة واضحة ،
وهذا هو الوجهُ الثالث . وقوله : « فللذكرِ » أي : منهم فحُذِفَ لدلالة المعنى
عليه .
قوله : { أَن تَضِلُّواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أن مفعول البيان محذوفٌ ،
و « أن تَضِلُّوا » مفعولٌ من أجله على حَذْفِ مضاف تقديره : يبيِّن اللَّهُ أمرَ
الكلالة كراهةَ أن تَضِلوا فيها ، أي : في حكمها ، وهذا تقديرُ المبرد . والثاني :
- قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين- أنَّ « لا » محذوفةٌ بعد « أن »
والتقدير : لئلا تضلوا . قالوا : « وحَذْفُ » لا « شائع ذائعٌ كقوله :
1683- رأينا ما رأى البُصَراءُ فيها ... فآلينا عليها أَنْ تُباعَا
أي : أن لا تُباع . وقال أبو إسحاق الزجاج : » هو مثلُ قولِه تعالى : { إِنَّ الله
يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] أي : لئلا تزولا . وقال أبو
عبيد : « رَوَيْتُ للكسائي حديثَ ابن عمر وهو : » لا يَدْعُوَنَّ أحدُكم على ولدِه
أن وافقَ من الله إجابةَ « فاسنحسنه أي : لئلا يوافق . ورجَّح الفارسي قولَ المبرد
بأنَّ حَذْفَ المضاف أشيعُ من حذف » لا « النافية . الثالث : أنه مفعول » يبين «
والمعنى : يبيِّن الله لكم الضلالة فتجتنبونَها ، لأنه إذا بَيِّن الشر اجتُنِبَ ،
وإذا بَيَّن الخيرَ ارتُكِب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
هذه
السورة مدنية . بسم الله الرحمن الرحيم . قد تقدَّم نظيرُ قوله تعالى : [ آية 1 ]
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ } والبهيمة : كلُّ ذات أربع في البر أو
البحر . وقل : ما أَبْهم من جهة نقص النطق والفهم . وكل ما كان على وزن فعيل أو
فعلية حلقيَّ العين جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه نحو : بيهمة وشعيرة وصغيرة
وبحيرة « والأنعام تقدَّم بيانها في آل عمران .
قوله : { إِلاَّ مَا يتلى } هذا مستثنى من بهيمة الأنعام ، والمعنى : ما يتلى
عليكم تحريمه ، وذلك قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] إلى
قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] . [ وفيه قولان ، أحدهما :
أنه مستثنى متصل ، والثاني : ] أنه منقطعٌ حَسْبَ ما فُسِّر به المتلوُّ عليهم كا
سيأتي بيانه ، وعلى تقديرِ كونه استثناء متصلاً يجوز في محله وجهان ، أظهرهما :
أنه منصوبٌ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يُرْفَع على أنه نعتٌ ل » بهيمة
« على ما قُرَّر في علم النحو . ونَقَل ابن عطية عن الكوفيين وجهين آخرين ، أحدهما
: أنه يجوزُ رفعه على البدل من » بهيمة « والثاني : أنَّ » إلا « حرف عطف وما
بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : » وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما
قاربها من أسماء الأجناس نحو : « جاء الرجالُ إلا زيدٌ » كأنك قلت : غيرُ زيد «
وقوله : » وذلك « ظاهرُه أنه مشارٌ به إلى وجهي الرفع : البدلِ والعطف . وقوله : »
إلا من نكرة « غيرُ ظاهر ، لأن البدل لا يجوز البتة من موجب عند أحد من الكوفيين
والبصريين . ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً . وأمَّا العطفُ فذكره
بضع الكوفيين ، وأما الذي اشترط في البصريون التنكيرَ أو ما قاربه فإنما اشترطوه
في النعت ب » إلا « فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرطُ النعت فجعله شرطاً في
البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمُه قولُه تعالى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] إلى آخره ، وإنْ أريد به الأنعامُ والظباء
وبقرُ الوحش وحُمُرهُ فيكون منقطعاً بمعنى » لكن « عند البصريين وبمعنى » بل « عند
الكوفيين ، وسيأتي بيانُ هذا المنقطع بأكثرَ من هذا عند التعرُّض لنصب » غير « عن
قرب .
قوله تعالى : » غيرَ « في نصبه خمسة أوجه/ ، أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في
» لكم « وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية وغيرهما ، وقد ضُعِّف
هذا الوجهُ بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام لهم بحالِ كونهم غيرَ
مُحِلِّي الصيد وهم حرم ، إذ يصير معناه : » أُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام في حال
كون انتفاء كونكم تُحِلّون الصيدَ وأنتم حرم « ، والغرض أنهم قد أُحِلَّتْ لهم
بهيمة الأنعام في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعامِ الأنعامُ
نفسها ، وأما إذا غُنِي بها الظباءُ وحمر الوحش وبَقَره على ما فَسَّره بعضم فيظهر
للتقييدِ بهذه الحال فائدةٌ ، إذ يصير المعنى : أُحِلت لكم هذه الأشياء حالَ
انتفاء كونكم تُحِلُّون الصيد وأنتم حرم فهذا معنى صحيح ، ولكن التركيب الذي
قَدَّرته لك فيه قلقٌ .
ولو
أُريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه .
الوجه الثاني : - وهو قولُ الأخفشِ وجماعةٍ - أنه حالٌ من فاعل « أوْفوا »
والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم مُحِلِّين الصيد وأنتم حرم . وقد
ضَعَّفوا هذا المذهبَ من وجهين ، الأول : أنه يلزم منه الفصلُ بين الحال وصاحبها
بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفصل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملةُ وهي قوله : {
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } ليست اعتراضيةً ، بل هي منشئةٌ أحكاماً
ومُبَيِّنَةٌ لها ، وجملةُ الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسديداً . والثاني : أنه
يلزمُ منه تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة فيصيرُ التقدير كما تقدَّم ، وإذا
اعتبرنا مفهومَه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحالُ فلا تُوفوا بالعقود ،
والأمرُ ليس كذلك ، فإنهم مأمورون بالإِيفاءِ بالعقودِ على كلِّ حالٍ من إحرامٍ
وغيرِه .
الوجه الثالث : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير المجرور في « عليكم » أي : إلاَّ
ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصيد . وهو ضعيفٌ أيضاً بما تقدَّم
من أنَّ المتلوَّ عليهم لا يُقَيَّد بهذه الحالِ دون غيرها بل هو متلو عليهم في
هذه الحال وفي غيرها .
الوجه الرابع : أنه حالٌ من الفاعل المقدَّر ، يعني الذي حُذف وأقيم المفعولُ
مُقامه في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ } فإن التقدير عنده :
أَحَلَّ الله لكم بهيمة الأنعام غيرَ محلٍ لكم الصيد وأنتم حرم . فحذفت الفاعلَ
وأقامَ المفعولَ مقامه ، وترك الحال من الفعل باقية . وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ من
وجوه . الأول أن الفاعلَ المنوبَ عنه صار نسياً منسيَّاً غيرَ ملتفَتٍ إليه ،
نصُّوا على ذلك ، لو قلت : « أُنْزِلَ الغيث مجيباً لدعائهم » وتجعل « مجيباً »
حالاً من الفاعل المنوبِ عنه ، فإنَّ التقدير : « أَنْزل اللّهُ الغيثَ حالَ
إجابته لدعائهم » لم يَجُزْ فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنْية الفعلِ المبني
للمفعولِ بنيةٌ مستقلة غيرُ محلولةٍ من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين
وجماعة من البصريين . الثاني : أنه يلزم منه التقييدُ بهذه الحالِ إذا عَنَى
بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييدُ إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال
انتفاء إحلالِه الصيدَ وهم حرمٌ ، واللّهُ تعالى قد أَحَلَّ لهم هذه مطلقاً .
والثالث : أنه كُتب « مُحِلِّي » بصيغة الجمع فيكف يكون حالاً من الله؟ وكأن هذا
القائل زعم أن اللفظَ « مُحِلّ » من غير ياء ، وسياتي ما يشبه هذا القول .
الوجه
الخامس : أنه منصوبٌ على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقولَه « إلا ما يتلى »
مستثنيان من شيء واحد ، وهو « بيهمة الأنعام » نَقَل ذلك بعضُهم عن البصريين قال :
« والتقديرُ : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيدَ وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : {
إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الحجر : 58 ] على ما يأتي بيانُه
، قال هذا القائل : » ولو كان كذلك لوَجَبَ إباحةُ الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى
من الإِباحة . وهذا وجه ساقط ، فإذن معناه : أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعام غيرَ
محلّي الصيد وأنتم حُرُمٌ إلا مايُتلى عليكم سوى الصيدِ « انتهى .
وقال الشيخ : » إنما عَرْضُ الإِشكالِ مِنْ جَعْلم « غير محلّي الصيد » حالاً من
المأمورين بإيفاء العقود ، أو مِن المحلِّل لهم وهو الله تعالى ، أو من المتلوِّ
عليهم ، وغَرَّهم في ذلك كونُه كتب « محلِّي » بالياء ، وقدَّروه هم أنه اسم فاعل
من « أحلِّ » وأنه مضاف إلى الصيد إضافةَ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى المفعول ،
وأنه جَمْعٌ حُذِف منه النونُ للإِضافة ، وأصلُه : « غيرَ محلين الصيد » إلا في
قولِ مَنْ جعله حالاً من الفعل المحذوف فإنه لا يُقَدِّر حذفَ نون ، بل حذفَ تنوين
. وإنما يزول الإِشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله « مُحِلّي الصيد » من باب قولهم
« حسان النساء » ، والمعنى : النساء الحسان فكذلك هذا ، أصلُه : غيرَ الصيدِ
المُحِلّ ، والمُحِلُّ صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف . ووصفُ الصيد بأنه
مُحِلُّ على وجهين ، أحدهما : أن يكون معناه دَخَل في الحل ، كما تقول : « أَحَلَّ
الرجلُ » إذا دخل في الحِلِّ ، وأَحْرم إذا دخل في الحرم . الوجه الثاني : أن يكون
معناه صار ذا حِلّ ، أي : حَلالاً بتحليلِ الله ، وذلك أنَّ الصيدَ على قسمين :
حلالٌ وحرام ، ولا يختصُّ الصيدُ في لغةِ العرب / بالحلال لكنه يختصُّ به شرعاً ،
وقد تَجَوَّزت العربُ فأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحِلٍّ ولا حُرْمة كقوله :
1684- لَيْثٌ يعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا ... ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه
صَدَقَا
وقولِ الآخر :
1685- وقد ذَهَبَتْ سَلْمَى بعقلِك كلِّه ... فهل غيرُ صيدٍ أَحْرَزَتْهُ
حبائِلُهْ
وقولِ امرئ القيس :
1686- وهِرُّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ ... وأَفْلَتَ منها ابنُ عمروٍ حُجُرْ
ومجيءُ « أَفْعَل » على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لسان العرب ، فمِنْ مجيء افعل
لبلوغِ المكان ودخولِه قولُهم : أحرمَ الرجلُ وأَعْرق وأَشْأَم وأَيْمن وأَتْهم
وأَنْجد ، إذا بلغ هذه الأمكان وحَلَّ بها ، ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم
: « أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأَغَدَّ البعير ، وأَلْبنت الشاة وغيرها ، وأَجْرت
الكلبة ، وأَصْرم النخل ، وأَتْلَت الناقة ، وأَحْصَدَ الزرع ، وأَجْرب الرجل ،
وأنجبت المرأة » وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكون مُحِلاًّ باعتبار أحد الوجهين
المذكورين من كونه بَلَغ أو صار ذا حِلّ اتضح كونُه استثناء ثانياً ولا يكون
استثناء من استثناء .
إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكمِ ، لأنَّ المستثنى من المُحَلَّل مُحَرَّم ، والمستثنى من المحرم مُحَلَّل ، بل إنْ كن المعنيُّ بقوله « بيهمة الأنعام » الأنعامَ أنفسها فيكونُ استثناء منقطعاً ، وإن كان المرادُ الظباءَ وبقرَ الوحش وحمره ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المُحِلّ ، استثنى الصيد الذي بلغ الحِلَّ في حال كونهم مُحْرمين . فإن قلت : ما فائدةُ هذا الاستثناءِ بقيدِ بلوغِ الحِلِّ ، والصيد الذي في الحرم لا يَحِلُّ أيضاً؟ قلت : الصيدُ الذي في الحَرَم لا يَحِلُّ للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يَحِلُّ لغير المحرم الصيدُ الذي في الحِلّ ، فنبَّه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحِلِّ على المُحْرِم - وإن كان حلالاً لغيره - فأحرى أن يَحْرُم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَم ، وعلى هذا التفسير يكون قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } إنْ كان المراد به ما جاء بعده من قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ } الآية استثناءً منقطعاً ، إذ لا تختص الميتة وما ذُكِر معها بالظباء وبقرِ الوحش وحمره فيصير : « لكن ما يتلى عليكم - أي : تحريمُه - فهو مُحَرَّم » ، وإن كان المرادُ ببهيمة الأنعامِ الأنعامَ والوحوشَ فيكون الاستثناءان راجِعَيْن إلى المجموع على التفصيل فيرجع « ما يتلى عليكم » إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع « غيرَ مُحِلّي الصيد » إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول ، وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجهٍ ما رجع إلى الأول ، وقد نص النحويون أنه إذا لم يمكن استثناءُ بعضِ المستثنيات من بعض جُعِل الكلُّ مستثنًى من الأول نحو : « قام القومُ إلا زيداً إلا عمرواً إلا بكراً » فإن قلت : ما ذكرته من هذا التخريج وهو كونُ المُحِلِّ من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يأباه رسمه في في المصحف « مُحِلّي » بالياء ، ولو كان من صفته الصيد دون الناس لكتب « مُحِلّ » من غير ياء ، وكونُ القراء وقفوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك . قلت : لا يعكر ذلك على التخريج ، لأنهم قد رسموا في المصحف الكريم أشياءَ تخالف النظق بها ككتابتهم { لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] { ولأَوْضَعُواْ } [ التوبة : 47 ] ألفاً بعد لام الألف ، وكتابتم « بأَيْيد » بياءين بعد الهمزة ، وكتابتهم « أولئك » بزيادة واو ، ونقصِ ألفٍ بعد اللام ، وكتابتهم « الصالحات » ونحوه بسقوط الألفين إلى غير ذلك . وأمَّا وقفُهم عليه بالياء فلا يجوزُ ، إذ لا يوقف على المضافِ دون المضاف إليه ، وإنْ وقف واقف فإنَّما يكون لِقَطْع نَفَسٍ أو اختبار ، وعلى أنه يمكن توجيهُ كتابته بالياء والوقف عليه بها وهو أنَّ لغةَ الأزد يقفون فيها على « بزيدٍ » بزيدي ، بإبدال التنوين ياءً فكتب « مُحِلِّي » على الوقف على هذه اللغة بالياء ، وهذا توجيهُ شذوذٍ رَسْمي ، ورسمُ المصحف مما لا يقاس عليه « انتهى .
وهذا
الذي ذكره واختاره وغَلَّط الناس فيه ليس بشيء ، وما ذكره من توجيه ثبوت الياء
خطاً ووقفاً فخطأ محض؛ لأنه على تقدير تسليم ذلك في تلك اللغة فأين التنوينُ الذي
في « مُحِل »؟ وكيف يكون فيه تنوين وهوم ضاف حتى يقول : إنه قد يُوَجَّه بلغة
الأزد ، وما ذكره من كونه يحتمل مما يكونون قد كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة
المذكورة فشيء لا يُعَوَّل عليه ، لأنَّ خط المصحف سُنَّةٌ متبعة لا يقاس عليه
فكيف يقول : يحتمل أن يقاس هذا على تلك الأشياء؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْربوا « غير »
إلا حالاً ، حتى نقل بعضهم الإِجماع على ذلك ، وإنما اختلفوا في صاحب الحال ،
فقوله : إنه استثناء ثان مع هذه الأوجه الضعيفة خرقٌ للإِجماع ، إلا ما تقدم
نَقْلَه عن بعضهم من أنه استثناء ثان ، وعزاه للبصريين ، لكن لا على هذا المَدْرَك
الذي ذكره الشيخ . وقديماً وحديثاً استشكل الناسُ هذه الآية . قال ابن عطية : «
وقد خَلَط الناس في هذا الموضع في نصب » غير « وقدَّروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك
كله غير مُرْضِ ، لأنَّ الكلام على اطراده فيمكن استثناء بعد استثناء » وهذه الاية
مما اتضح للفصحاء البلغاء فصاحتُها وبلاغتها ، حتى يُحْكَى أنه قيل للكندي : «
أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن » فقال : « نعم أعملُ لكم مثلَ بعضِه » ،
فاحتجب أياماً كثيرة ، ثم خَرَجَ فقال : « واللّهِ لا يَقْدِرُ أحد على ذلك ، إنني
فتحت المصحفَ فخرجت سورةُ المائدة / فإذا هو قد نَطَقَ بالوفاء ونهى عن النكث
وحَلَّل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء ، ثم أَخْبَرَ عن قُدْرَتِه
وحكمته في سطرين » .
والجمهور على نصب « غير » ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه
نعت ل « بهيمة الأنعام » والموصوف ب « غير » لا يلزم فيه أن يكونَ مماثلاً لما
بعدها في جنسه ، تقول : مررت برجلٍ غير حمار « هكذا قالوه ، وفيه نظر ، ولكن ظاهر
هذه القراءة يدلُّ لهم . والثاني : أنه نعتٌ للضمير في » يُتْلى « قال ابن عطية :
» لأنَّ « غير محلي الصيد » في المعنى بمنزلة « غير مُسْتَحَلٍ إذا كان صيداً »
وقيه تكلُّفٌ .
والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد ويُصاد ، ويُطْلق على المصيد ك « درهمٌ ضَرْبُ
الأميرِ » وهو في الآية الكريمة يحتمل الأمرين : أعني مِنْ كونِه باقياً على
مصدريته ، كأنه قيل : أَحَلَّ لكم بهيمةَ الأنعام غيرَ محلِّين الاصطيادَ وأنتم
مُحْرِمون ، ومن كونه واقعاً موقع المفعول أي : غيرَ محلِّين الشيء المصيدَ وأنتم
مُحْرمون .
وقوله
: { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، وما هو صاحبُ هذه
الحال؟ فقال الزمخشري : « هي حال عن » مُحِلّي الصيد « كأنه قيل : أَحْلَلْنا لكم
بعضَ الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم مُحْرِمون لئلا نتحرَّج عليكم » قال
الشيخ « وقد بَيَّنَّا فساد هذا القول بأنَّ الأنعامَ مباحةٌ مطلقاً لا بالتقيد
بهذه الحال » . وهذا الردُّ ليس بشيء لأنه إذا أَحَلَّ لهم بعضَ الأنعام في حالِ
امتناعِهم من الصيد فأنْ يُحِلِّها لهم وهم غيرُ مُحْرِمين بطريقِ الأولى . و «
حُرُم » جمعَ حرام بمعنى مُحْرِم قال :
1687- فقلْتُ هلا فيئي إليك فإنني ... حَرَامُ وإني بعد ذاك لبيبُ
أي : مُلَبٍّ ، وأَحْرَمَ : إذا دَخَل في الحَرَم أو في الإِحرام . وقال مكي بن
أبي طالب : « هو في موضع نصب على الحال من المضمر في » محلي « وهذا هو الصحيح ،
وأما ما ذكره أبو القاسم فلا يَظْهَرُ وفيه مجيء الحال من المضاف إليه في غير
المواضع المستثناة .
وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم والحسن : » حُرْم « بسكون الراء ، قال أبو الحسن : »
هي لغة تميم « يعني يسكِّنون ضم » فُعُل « جمعاً نحو : » رُسْل « .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قوله
تعالى : { وَلاَ القلائد } : ولا ذوات القلائد ، ويجوز أن يكونَ المرادُ القلائدَ
حقيقة ، ويكون فيه مبالغةٌ في النهي عن التعرض للهَدي المقلَّد ، فإنه إذا نَهَى
عن قِلادته أن يُتَعَرَّض لها فبطريق الأَوْلى أن يَنْهى عن التعرض للهَدْي
المُقَلَّد بها ، وهذا كما قال تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } لأنه إذا
نَهَى عن إظهار الزينة فما بالك بمواضعها من الأعضاء . وقوله : ولا آمِّيْنَ « أي
: ولا تُحِلُّوا قوماً آمِّين ، ويجوز ان يكون على حذف مضاف أي : لا تُحِلُّوا
قتالَ قوم أو أذى قوم آمِّين . وقرأ عبد الله ومَنْ تبعه : » ولا آمِّي البيتِ «
بحذف النون وإضافةِ اسم الفاعل إلى معموله . و » البيت « نصبٌ على المفعول به ب »
آمّين « أي قاصدين البيتَ ، وليس ظرفاً .
وقوله : { يَبْتَغُونَ } حالٌ من الضمير في » آمِّين « أي : حالَ كون الآمِّين
مبتغين فَضْلاً ، ولا يجوزُ أن تكونَ هذه الجملة صفة ل » آمّين « لأن اسم الفاعل
متى وُصف بَطَل عمله على الصحيح ، وخالف الكوفيون في ذلك ، وأعرب مكي هذه الجملةَ
صفةً ل » آمِّين « وليس بجيد لِما تقدم ، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين . وهنا سؤال :
وهو أنه لِم لا قيل بجوازِ إعماله قبل وصفِه كما في هذه الآية قياساً على المصدر
فإنه يَعْمل قبلَ أن يُوصف نحو : يعجبني ضربٌ زيداً شديدٌ؟ والجمهور على » يبتغون
« بتاء الخطاب ، على أنه خطاب للمؤمنين وهي قَلِقة لقوله : { مِّن رَّبِّهِمْ }
ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمامُ المناسبة : » تبتغون فضلاً من ربكم « و » من
ربهم « يجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل » فضلاً « أي :
فضلاً كائناً من ربهم . وقد تقدم الخلاف في ضم راء » رضوان « في آل عمران . وإذا
عَلَّقنا » من ربهم « بمحذوفٍ على أنه صفة ل » فضلاً « فيكون قد حَذَفَ صفة »
رضوان « لدلالةِ ما قبله عليه أي : ورضواناً من ربهم ، وإذا عَلَّقناه بنفس الفعل
لم يَحْتَجْ إلى ذلك .
قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } قُرئ : » أَحْللتم « وهي لغة في » حَلَّ «
، ويقال : » أحَلَّ من إحْرامِه « كما يقال : حَلَّ وقرأ الحسن بن عمران وأبو واقد
ونبيح والجراح بكسر الفاء العاطفة ، وهي قراءةٌ ضعيفة مشكلة ، وخَرَّجها الزمخشري
على أن الكسر في الفاء بدلٌ من كسر الهمزة في الابتداء . وقال ابن عطية : » هي
قراءةٌ مشكلة ، ومن توجيهها أن يكونَ راعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ ، فكسرَ الفاءَ
مراعاةً وتذكُّراً لكسر ألف الوصل « . وقال الشيخ : » وليس عندي هو كسراً محضاً بل
هو إمالة محضةٌ لتوهُّم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا فاء « فإذا » لوجود كسر
الهمزة « .
قوله
: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } قرأ الجمهور : « يَجْرِمَنَّكم » بفتح الياء من « جرم
» ثلاثياً « ومعنى » جَرَمَ « عند الكسائي وثعلب : حمل ، يقال : » جَرَمه على كذا
« أي : حمله عليه ، فعلى هذا التفسير يتعدَّى » جرم « لواحد ، وهو الكاف والميم ،
ويكون قوله : { أَن تَعْتَدُواْ } على إسقاطِ حرف الخفض وهو » على « أي : ولا
يَحْملنكم بُعْضكم لقوم على اعتدائكم عليهم ، فيجيء في محلِّ » أَنْ « الخلافُ
المشهور ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة . ومعناه عند أبي عبيد والفراء كسب
، ومنه » فلان جريمةُ أهله « أي : كاسبهُم ، وعن الكسائي أيضاً : أنَّ جرم وأجرم
بمعنى كَسَب غيره ، وعلى هذا فيحتمل وجهين ، أحدهما : أنه متعد لواحد . والثاني :
أنه متعد لاثنين ، كما أن » كَسَب « كذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا
متعدياً لاثنين أولُهما ضميرُ الخطاب . الثاني : » أن تعتدوا « أي : لا يَكْسِبَنَّكم
بغضُكم لقومٍ الاعتداءَ عليهم .
وقرأ عبد الله : » يُجْرِمَنَّكم « بضم الياء من أجرم رباعياً ، وقيل : هو بمعنى
جَرَم كا تقدم نَقْلُه عن الكسائي ، وقيل : » أجرم « منقول من » جرم « بهمزة
التعدية . قال الزمخشري : » جَرَم يجري مجرى كسب في تعديتِه إلى مفعول واحد وإلى
اثنين ، تقول : « جَرَمَ ذنباً » نحو : كَسبه ، وجرمته ذنباً أي : كَسَبته إياه ،
ويقال : أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولك : «
أكسبته ذنباً » وعليه قراءةُ عبد الله : « ولا يُجْرمنكم » ، وأولُ المعفولين على
القراءتين / ضميرُ المخاطبين ، والثاني : « أَنْ تعتدوا » انتهى وأصلُ هذه المادةِ
- كما قال ابن عيسى الرماني - القطعُ ، فجرم « حَمَل على الشيء » لقطعِه عن غيره ،
وجَرَم « كَسَب » لانقطاعه إلى الكسب ، وجَرَم بمعنى « حَقّ » لأن الحق يُقطع عليه
. قال الخليل : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] أي : لقد حق ،
هكذا قال الرماني ، فجَعَل بين هذه الألفاظ قَدْراً مشتركاً ، وليس عنده من باب
الاشتراك اللفظي .
و « شَنآنُ : معناه بُغْض ، وهو مصدر شَنِئ أي : أبغض . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن
عاصم : » شَنْآن « بسكونِ النون ، والباقون بفتحها ، وجَوَّزوا في كل منهما أن
يكونَ مصدراً وأن يكون وصفاً ، حتى يُحْكى عن أبي عليّ أنه قال : » مَنْ زَعَم أن
« فَعَلان » إذا سَكَنت عينه لم يكن مصدراً فقد أخطأ إلا ان فَعْلان بسكون العين
قليلٌ في المصادر نحو : « لَوَيْتُه دينه لَيَّاناً » بل هو كثير في الصفات نحو
سَكْران وبِابِه ، وفَعَلان بالفتح قليلٌ في الصفات قالوا : حمارٌ قَطَوان أي
عَسِر السير ، وتيس عَدَوان قال :
1688-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَتَيْسِ ظِباء الحُلَّبِ العَدَوانِ
ومثله قولُ الآخر : - أنشده أبو زيد -
1689- وقبلَك ما هابَ الرجالُ ظُلامتي ... وفَقَّأْتُ عينَ الأَشْوَسِ الأَبَيَانِ
بفتح الباء والياء ، بل الكثيرُ أن يكونَ مصدراً نحو : « الغلَيان والنزوان » فإنْ
أُريد بالشنآن الساكنِ العين الوصفُ فالمعنى : ولا يَجْرمنكم بغيضُ قوم ، وبغيض
بمعنى مُبْغض اسم فاعل من أبغض وهو متعدّ ، ففعيل بمعن الفاعل كقدير ونصير ،
وإضافته لقوم على هذا إضافةُ بيان أي : إنَّ البغيض من بينهم ، وليس مضافاً لفاعل
ولا مفعول ، بخلاف ما إذا قَدَّرْته مصدراً فإنه يكون مضافاً إلى مفعوله أو فاعله
كما سيأتي . وقال صاحبُ هذا القول : « يقال : رجلٌ شَنْآن وامرأة شنْآنة كَنْدمان
وندمانة ، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ متعدّ » وحكى : رجل شنآن وامرأة شَنْأى
كَسكْران وسكرى ، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ لازم ، ولا بُعْدَ في ذلك ، فإنهم
قد يشتقون من مادة واحة القاصر والمتعدي ، قالوا : « فَغَرْتُ فاه وفَغَر فُوه »
أي : فتحه فانفتح ، وإنْ أُريد به المصدرُ فواضحٌ ، ويكون مضافاً إلى مفعولِه أي :
بغضُكم لقومٍ ، فحُذِف الفاعل ، ويجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله أي : بغضُ قوم
إياكم فحذف معفوله ، والأول أظهر في المعنى ، وحكم « شنآن » بفتح النون مصدراً
وصفةً حكمُ الساكنِها ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ومن مجيءِ « شَنآن » الساكنِ
العينِ مصدراً قول الأحوص :
1690- وما الحبُّ إلا مَا تَلذُّ وتَشْتَهي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَانِ
وفَنَّدا
أراد الشنْآن بسكونِ النونِ فنقلَ حركةَ الهمزة إلى النون الساكنة ، وحذف الهمزة ،
ولولا سكونُ النونِ لما جاز النقل ، ولو قال قائل : إن الأصل « الشنآن » بفتح
النون ، وخفف الهمزة بحذفها رأساً ، كما قرئ { إنها لاحْدى الكُبَر } [ المدثر :
35 ] بحذفِ همزة « إحدى » لكان قولاً يسقط به الدليل لاحتماله . والشنآن بالفتح
مِمَّا شَذَّ عن القاعدة الكلية ، قال سيبويه : « كلُّ بناء من المصادر على وزن
فَعَلان بفتح العين لم يتعدَّ فعلُه إلا أن يَشِذَّ شيءٌ كالشَّنآن » يعني أنه
مصدرٌ على فَعَلان بالفتح ومع ذلك فعلُه متعدٍّ ، وفعلُه أكثر الأفعال مصادِرَ ،
سُمِع له ستةَ عشرَ مصدراً قالوا : شَنِئَ يَشْنَأُ شَنْئَاً وشَنآناً مثلثي الشين
فهذه ست لغات . وقرأ ابن وثاب والحسن والوليد عن يعقوب : « يَجْرِمَنْكم » بسكون
النون ، جَعَلوها نونَ التوكيد الخفيفةَ ، والنهي في الفظ للشنآن وهو في المعنى
للمخاطَبين نحو : « لا أُرَينَّك ههنا » { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
} [ البقرة : 132 ] قال مكي .
قوله تعالى : { أَن صَدُّوكُمْ } قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر « إنْ » والباقون
بفتحها ، فمَنْ كسر فعلى أنها شرطية ، والفتح على أنها علة للشنآن أي : لا
يكسبنَّكم أولا يَحْمِلَنَّكم بغضُكم لقوم لأجل صَدِّهم إياكم عن المسجد الحرام ،
وهي قراءةٌ واضحة .
وقد
استشكل الناسُ قراءة الأبوين من حيث إنَّ الشرط يقتضي أنَّ الأمر المشروط لم يقع ،
والفرض أنَّ صَدَّهم عن البيت الحرام كان وقد وقع ، ونزولُ هذه الآية متأخرٌ عنه
بمدة ، فإنَّ الصدَّ وقع عامَ الحديبية وهي سن ست ، والآية نزلت سنة ثمان ، وأيضاً
فإنَّ مكةَ كانت عام الفتح في أيديهم فكيف يُصَدون عنها؟ قال ابن جريج والنحاس
وغيرهما : « هذه القراءة منكرةٌ » واحتجوا بما تقدم من الإِشكال ، ولا إشكالَ في
ذلك . فالجواب عما قالوه من وجهين ، أحدهما : أنَّا لا نُسَلِّم أن الصدَّ كان قبل
نزول الآية فإنَّ نزولها عام الفتح ليس مُجْمعاً عليه . وذكر اليزيدي أنها نزلت
قبل الصدِّ فصار الصدُّ أمراً منتظراً ، والثاني : أنه وإنْ سَلَّمنا أن الصدَّ
كان متقدماً على نزولها فيكون المعنى : إنْ وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن
الحديبية - أو يستديموا ذلك الصدَّ الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم ، قال مكي : «
ومثلُه عند سيبويه قول الشاعر - وهو الفرزدق - :
1691- أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
وذلك شيءٌ قد كان ووقع ، وإنما معناه : إنْ وقع مثلُ ذلك الغضب ، وجواب الشرِط ما
قبله » يعني : وجوابُ الشرط دلَّ عليه ما قبلَه ، لأن البصريين يمنعون تقديمَ
الجوابِ إلا أبا زيد . وقال مكي أيضاً : « ونظيرُ ذلك أنَّ يقول رجل لامرأته » أنت
طالق إنْ دخلت الدار « بكسر » إن « لم تَطْلُق عليه بدخولها الأول لأنه أمر
يُنْتَظَر ، ولو فتح لَطَلَقَتْ عليه ، لأنه أمرٌ كان ووقع ، ففتحُ » أن « لما هو
علة لما كان ووقع ، وكَسْرُها إنما هو لأمرٍ يُنْتظر ، والوجهان حَسَنان على
معنييهما » وهذا الذي قاله مكي فَصَّل فيه الفقهاء بين مَنْ يعرف النحو وبين مَنْ
لا يعرفه . ويؤد قراءَة الأبوين قراءة عبد الله بن مسعود : « إنْ يَصُدُّوكم » قال
أبو عبيد : « حَدَّثنا حجاج عن هرون قال : قرأ ابن مسعود فذكرها ، قال : وهذا لا
يكونُ إلا على استئنافِ الصدِّ ، يعني إنْ وقع صَدُّ آخرُ مثلُ ما تقدم عام
الحديبية .
ونَظْمُ هذه الآيات على ما هي عليه مِنْ أبلغ ما يكون وأفصحِه ، و ليس فيها تقديمٌ
ولا تأخير كما زعم بعضهم فقال : / أصلُ تركيب الآية الأولى : » غيرَ محلي الصيد
وأنتم حرم ، فإذا حَلَلْتم فاصطادوا « وأصل تركيب الثانية : { ولا آمِّينَ البيت
الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ونَظَّره بآيةِ البقرة يعني : { إِنَّ الله
يَأْمُرُكُمْ } [ الآية : 67 ] ، وهذا لا حاجةَ إليه مع أنَّ التقديم والتأخير عند
الجمهور من ضرائر الشعر فيجبُ تنزيه القرآن عنه ، وليست الجملةُ أيضاً من قوله : {
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } معترضةً بين قوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام }
وبين قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } بل هي مؤسسةٌ ومنشئةٌ حكماً ، وهو حِلُّ
الاصطياد عند التحلُّل من الإِحرام ، والجملةُ المعترضةُ إنما تفيد توكيداً
وتسديداً ، وهذه مفيدةٌ حكماً جديداً كما تقدم .
وقوله
: { أَن تَعْتَدُواْ } قد تقدَّم أنه من متعلقات « لا يجرمنكم » على أنه مفعولٌ
ثانٍ أو على حذف حرف الجر ، فَمَنْ كسر « إن صدوكم » يكونُ الشرطُ وجوابُه المقدر
في محلِّ جر صفة ل « قوم » اي شنآن قوم هذه صفتُهم ، ومَنْ فتحها فمحلُّها الجرُّ
أو النصب ، لأنها على حَذْفِ لام العلة كما تقدم . قال الزمخشري : « والمعنى : ولا
يكسبنكم بغضُ قوم لأنْ صَدُّوكم الاعتداءَ ولا يَحْملنكم عليه » قال الشيخ : وهذا
تفسيرُ معنى لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكونَ مدلولُ « جرم » حمل وكَسَب في
استعمال واحد لاختلافِ مقتضاهما ، فيمتنعُ أن يكونَ « [ أن ] تعتدوا » في محلِّ
مفعول به ومحلِّ مفعولٍ على إسقاط حرف الجر « وهذا الذي قال لا يُتَصَوَّر أن
يتوهَّمه مَنْ له أدنى بصر بالصناعة حتى يُنَبِّه عليه .
وقد تقدَّم قراءة البزي في نحو : » ولا تَّعاوَنُوا « وأنَّ الأصل : » تتعاونوا «
فأدغم ، وحَذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث
} [ البقرة : 267 ] .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
وتقدَّم
أيضاً إعرابُ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } : وأصلُها وقدم هنا لفظَ الجلالة في
قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } وأُخِّرت هناك ، لأنها في البقرة
فاصلةٌ أو تشبه الفاصلة بخلافِها هنا ، فإنها بعدَها معطوفاتٌ . والموقوذة : هي
التي وُقِذَت أي : ضُربت بعصا ونحوها حتى ماتت ، مِنْ : وَقَذَه أي : ضَرَبه حتى
استرخى ، ومنه : « وقَذَه النعاس » أي : غَلَبه ، ووقَذْه النعاس « أي : غَلَبه ،
ووقَذه الحُلُم أي : سكنه ، وكأن المادة دالة على سكون واسترخاء .
والمُتَرَدِّيَةُ : مِنْ تَرَدَّى أي : سقط من عُلُوٍّ فهلك ، ويقال : » ما يَدْري
أين رَدَى « أي : ذهب ، وَرَدَى وَتَردَّى بمعنى هَلك ، والنَّطيحة : فعيلة بمعنة
مفعولة ، وكان مِنْ حقها ألاَّ تدخلها تاءُ التأنيث كقتيل وجريح ، إلا أنها جَرَتْ
مَجْرى الأسماء أو لأنها لم يُذْكَر موصوفها ، كذا قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ ،
لأنهم إنما يُلحقون التاء إذا لم يُذْكر الموصوف لأجلِ اللَّبس نحو : » مَرَرْتُ
بقتيلة بن فلان « لئلا يُلْبِس المذكرُ بالمؤنث ، وهنا اللبسُ منتفٍ ، وأيضاً
فحكمُ الذكر والأنثى في هذا سواءٌ . و » ما أكل السَّبُعُ « : » ما « بمعنى الذي
وعائده محذوف أي : وما أكلَه السبع ، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عطفاً على ما لم
يُسَمَّ فاعله ، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهرة لأنَّ ما أكله السبع وفرغ منه لا يُذَكَّى
، ولذلك قال أبو القاسم الزمخشري : » وما أكل بعضَه السبُع « وقرأ الحسن والفياض
وأبو حيوة : » السَّبْع « بسكون الباء وهو تسكين للمضموم . ونُقل فتح السين والباء
معاً ، والسَّبُع : كل ذي ناب ومِخْلب كالأسد والنمر ، ويُطْلَقُ على ذي المخلب من
الطيور أيضاً ، قال :
1692- وسِباعُ الطيرِ تَغْدُو بِطاناً ... تتخطَّاهُمُ فما تَسْتَقِلُّ
قوله : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } فيه قولان ، أحدهما : أنه مستثنى متصل ،
والقائلون بأنه استثناء متصل اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هو مستثنى من قوله : {
والمنخنقة } إلى قوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع } وقال أبو البقاء : » والاستثناءُ
راجعٌ إلى المتردية والنطيحة وأكيلة السَّبعُ « وليس إخراجُه المنخنقة منه بجيدٍ .
ومنهم مَنْ قال : » هو مستثنى مِنْ « ما أكل السَّبُع » خاصة . والقول الثاني :
أنه منقطعٌ أي : ولكن ما ذَكَّيْتم من غيرها فحلال ، أو فكلوه ، وكأنَّ هذا
القائلَ رأى أنها وَصَلَتْ بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالةٍ قريبة منه فلم
تُفِدْ تَذْكِيتُها عندَه شيئاً . والتذكية : الذَّبْحُ ، وذَكَت النارُ :
ارتفعَتْ ، وذَكَى الرجلُ : أَسَنَّ ، قال :
1693- على أعراقهِ تَجْري المَذاكي ... وليس على تقلُّبِه وجُهْدِهْ
قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } رُفِع أيضاً عطفاً على « الميتة » واختلفوا
في النصبِ فقيل : هي حجارةٌ كانوا يَذْبحون عليها ف « على » هنا واضحةٌ ، وقيل :
هي للأصنام لأنها تُنصَب لتُعْبَدَ ، فعلى هذا في « على » وجهان ، أحدُهما : أنها
بمعنى اللام أي : وما ذُبِحَ لأجل الأصنام .
والثاني
: هي على بابها ، ولكنها في محلِّ نصب على الحال أي : وما ذبح مُسَمَّى على
الأصنام ، كذا ذكره أبو البقاء وفهي النظر المعروف وهو كونه قدَّر المتعلق شيئاً
خاصاً . والجمهور على « النُّصُب » بضمتين فقيل : هو جمع « نِصاب » وقيل : هو مفرد
، ويدل له قول الأعشى :
1694- وذا النُّصُبَ المنصوبَ لا تَقْرَبَنَّه ... ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ
فاعبُدا
وفيه احتمالٌ . وقرأ طلحة بن مصرف بضمِّ النون وإسكان الصاد وهي تخفيف القراءة
الأولى . وقرأ عيسى بن عمر : « النَصَب » بفتحتين ، قال أبو البقاء : « وهو اسمٌ
بمعنى المنصوب كالقبَض والنقَص بمعنى المقبوض والمنقوص ، والحسنُ : » النَّصْب «
بفتح النون وسكون الصاد ، وهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به ، ولا يجوز أن تكون
تخفيفاً لقراءة عيسى بن عمر لأنَّ الفتحة لا تُخَفَّفُ .
/قوله : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } » أن « وما في حيزها في محلِّ رفع
عطفاً على » المتية « والأزلام : القِداح ، واحدُها » زَلْم « و » زُلْم « بفتح
الزاي وضمها . والقِداح : سهام كانت العرب تطلب بها معرفة ما قُسم لها من خير وشر
، مكتوبٌ على أحدها : » أمرني ربي « وعلى الآخر : » نهاني ربي « ، والآخر غُفْل .
وقيل : هي سهام الميسر أي : القِمار ، ووجهُ ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت تُرفع
عند البيت معها .
قوله : { ذلكم فِسْقٌ } مبتدأُ وخبر ، واسمُ الإِشارة راجع إلى الاستقسام بالأزلام
خاصة ، وهو مرويٌ عن ابن عباس . وقيل : إلى جميع ما تقدَّم ، لأنَّ معناه : حَرَّم
عليكم تناولَ الميتة وكذا ، فرجعَ اسمُ الإِشارة إلى هذا المقدَّر .
قوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ } » اليوم « ظرفٌ منصوبٌ ب » يئس « والألفُ
واللام فيه للعهدِ ، قيل : أرادَ به يوم عرفة ، وهو يوم الجمعة عامَ حجة الوداع ،
نزلَتْ هذه الآيةُ فيه بعد العصر . وقيل : هو يومَ دخولِه عليه السلام مكة سنة تسع
، وقيل : ثمان وقال الزجاج - وتبعه الزمخشري - إنها ليست للعَهد ، ولم يُرد باليوم
معيناً ، وإنما أراد به الزمانَ الحاضر وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية
كقولك : » كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب « لا تريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا
باليوم الزمنَ الحاضر فقط ، ونحوه : » الآن « في قول الشاعر :
1695- الآن لَمَّا ابيضَّ مَسْربتي ... وعَضَضْتُ مِنْ نابي على جِذْمِ
ومثلُه أيضاً قول زهير :
1696- وأَعلم ما في اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنني عن علمِ ما في غَدٍ عَمِ
لم يُرِد بهذه حقائقَها . والجمهورُ على » يَئِس « بالهمز ، وقرأ يزيد ابن القعقاع
: » يَيِس « بياءين من غير همزة ، ورُويت أيضاً عن أبي عمرو ، يقال يَئِس يَيْئَس
ويَيْئِسُ بفتح عين المضارع وكسرِها وهو شاذ ، ويقال : » أَيِس « أيضاً مقلوب من
يئس فوزنه عَفِل ، ويدل على القلب كونُه لم يُعَل ، إذ لو لم يقدر ذلك للزم إلغاء
المقتضي وهو تحرُّكُ حرف العلة وانفتاحِ ما قبله ، لكنه لما كان في معنى ما لم
يُعَلَّ صح .
واليأس
: انقطاع الرجاء ، وهو ضد الطمع . و « من دينكم » متعلق ب « يئس » ومعناها ابتداءُ
الغاية ، وهو على حَذْف مضاف أي : من إبطال أمر دينكم . والكلامُ في قوله : {
اليوم أَكْمَلْتُ } كالكلامِ على « اليوم » قبله . و « عليكم » متعلقٌ ب « أَتْممت
» ، ولا يجوزُ تعلُّقه ب « نعمتي » وإن كان فعلُها يتعدَّى ب « على » نحو : {
أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 37 ] لأنَّ المصدرَ لا
يتقدَّم عليه معمولُه ، إلا أَنْ ينوبَ منابَه ، قال أبو البقاء : « فإنْ جَعَلْته
على التبيين ، أي : أتممت أعني عليكم جازَ » ولا حاجةَ إلى ما ادَّعاه .
قوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } في « رَضي » وجهان ، أحدهما : أنه
متعدٍّ لواحدٍ وهو الإِسلام . و « ديناً » على هذا حالٌ . وقيل : هو مُضَمَّن معنى
صَيَّر وجَعَل ، فيتعدَّى لاثنين أولهما « الإِسلام » ، والثاني : « ديناً » . و «
لكم » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : : أنه متعلق ب « رضي » ، والثاني : أنه متعلقٌ
بمحذوفٍ لأنه حال من الإِسلام ، ولكنه قُدِّم عليه . قوله : « فمن اضطر » قد
تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ وما قرئ فيها في البقرة فأغنى عن إعادته .
و « في مَخْمَصَةٍ » متعلقٌ ب « اضْطُرَّ » ، والمَخْمَصَةُ : المجاعة لأنها
تَخْمُصُ لها البطونُ أي : تَضْمُرُ ، وهي صفةٌ محمودةٌ في النساء ، يقال : رجلٌ
خُمْصان وامرأةٌ خُمْصانة ، ومنه : أَخْمَصُ القدمِ لدقتها ، ويُستعمل في الجوع
والغَرْث قال :
1697- تَبيتون في المَشْتى مِلاءً بطونُكم ... وجارتُكم غَرْثَى يَبِتْنَ خمائصا
وقال آخر :
1698- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكم زمنٌ خَميصُ
وُصِف الزمانُ بذلك مبالغةً كقولهم : « نهارهُ صائم وليله قائم » و « غيرَ » نصب
على الحال . والجمهور على « متجانِفٍ » بألف وتخفيفِ النون من تَجانَفَ وقرأ أبو
عبد الرحمن والنخعي « مُتَجَنِّف بتشديد النون دون ألف . قال أبو محمد بن عطية : »
وهي أبلغُ مِنْ « متجانف » في المعنى لأنَّ شدَّة العين تدلُّ على مبالغةٍ وتوغلٍ
في المعنى « و » لإِثم « متعلق ب » متجانف « واللامُ على بابها ، وقيل : هي بمعنى »
إلى « أي : غيرُ مائل إلى إثم ، ولا حاجةَ إليه ، وقد تقدَّم معنى هذه اللفظة
واشتقاقُها عند قوله : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ]
وقوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملةٌ : إمَّا في محلِّ جزم أو رفع على
حسب ما قيل في » من « ، وكذلك القولُ في الفاء : إما واجبةٌ أو جائزةٌ ، والعائد
على كلا التقديرين محذوف أي : فإن الله غفور له .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
وقوله
تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } : قد تقدَّم الكلام على « ماذا »
وما قيل فيها فَلْيلتفت إليه . وقوله : « لهم » بلفظ الغيبة لتقدُّم ضمير الغَيْبة
في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ } [ البقرة : 215 ] ، ولو قيل في الكلام : « ماذا
أُحِلَّ لنا » لكانَ جائزاً على حكاية الجملة كقولك : « أقسم زيدٌ ليضربن ولأضربن
» بلفظِ الغَيْبة والتكلمِ ، إلاَّ أنَّ ضميرَ المتكلم يقتضي حكايةَ ما قالوا ،
كما أنَّ « لأضربنَّ » يقتضي حكايةَ الجملةِ المُقْسَمِ عليها ، و « ماذا أحِلَّ »
هذا الاستفهامُ مُعلِّقٌ للسؤال وإن لم يكن السؤال من أفعال القلوب ، إلا أنَّه
كان سبب العلمِ ، والعلمُ يُعَلَّق ، فكذلك سبُبه ، وقد تقدَّم تحريرُ القول فيه
في البقرة . وقال الزمخشري هنا : « في السؤالِ معنى القولِ ، فلذلك وقعَ بعدَه »
ماذا أُحِلَّ لهم « ، كأنه قيل : يقولون ماذا أحل لهم؟ ولا حاجةَ إلى تضمين السؤال
معنى القول لما تقدَّم من أنَّ السؤالَ يُعَلَّق بالاستفهام كمسببه . وقال ابن
الخطيب : » لو كان حكاية لكلامِهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ، ومعلومٌ أنَّ
ذلك باطل لا يقولونه ، وإنما يقولون : ماذا أحِلَّ لنا ، بل الصحيح أنه ليس حكايةً
لكلامهم بعبارتهم ، بل هو بيانُ كيفية الواقعة « .
قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ } في » ما « هذه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها موصولةٌ
بمعنى الذي ، العائدُ محذوف أي : ما عَلَّمْتموه ، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوعِ
ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي وأُحِلَّ لكم صيدٌ أو أخذُ ما عَلَّمتم ، فلا بد من حذف
هذا المضاف . والثاني : أنها شرطية فمحلُّها رفع بالابتداء ، والجوابُ قولُه : »
فكُلوا « قال الشيخ : » وهذا أظهرُ لأنه لا إضمار فيه « والثالث : أنها موصولة
أيضاً ومحلُّها الرفعُ بالابتداء ، والخبر قوله : » فكُلوا ، وإنما دخَلَتِ الفاء
تشبيهاً للموصول باسم الشرط .
وقوله : { مِّنَ الجوارح } في محلِّ نصبٍ على الحال / وفي صاحبها وجهان ، أحدُهما
: أنه الموصول وهو « ما » والثاني : أنه الهاء العائدةٌ على الموصول ، وهو في
المعنى كالأول . والجوارح : جمع « جارحة » ، والهاءُ للمبالغة سُمِّيَتْ بذلك
لأنها تَجْرَحُ الصيدَ غالباً أو لأنها تَكْسَبُ ، والجَرْحُ : الكَسْبُ ومنه : {
وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] . والجارحَةُ : صفةٌ جارية
مجرى الأسماء لأنها لم يذكر موصوفها غالباً . وقرأ عبد الله بن عباس وابن الحنفية
: « عُلِّمتم » مبنياً للمفعول ، وتخريجها أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف أي : وما
عَلَّمكم الله من أمر الجوارح .
« مكلِّبين » حالٌ من فاعل « عَلَّمتم » ، ومعنى « مكلِّبين » مؤدبين ومُضْرِين
ومُعَوِّدين قال الشيخ « وفائدةٌ هذه الحالِ - وإنْ كانت مؤكدةً لقولِه : »
عَلَّمتم « فكان يَسْتغنى عنها - أن يكون المعلمُ ماهراً بالتعليم حاذقاً فيه
موصوفاً به » انتهى ، وفي جَعْلِه هذه الحالِ مؤكدةً نظرٌ ، بل هي مؤسسةٌ .
واشتُقَّت
هذه الحالُ من لفظ « الكَلْب » هذا الحيوانِ المعروفِ وإن كانت الجوارحُ يندرج
فيها غيرُه حتى سباعُ الطيور تغليباً له ، لأنَّ الصيدَ أكثرُ ما يكون به عند
العرب . أو اشتقت من « الكَلَب » وهو الضراوة ، يقال : هو كَلِبٌ بكذا أي : حريص ،
وبه كَلَبٌ أي : حرص ، وكأنه أيضاً مشتق من الكَلْبِ هذا الحيوانِ لحرصه ، أو
اشتقت الكَلْب ، والكَلْبُ يُطْلق على السَّبُع أيضاً ، ومنه الحديثُ : « اللهم
سَلِّط عليه كَلْباً من كلابك » فأَكَله الأسد . قال الشيخ : وهذا الاشتقاقٌ لا
يَصحُّ لأنَّ كونَ الأسدِ كلباً هو وصف فيه ، والتكليبُ من صفة المعلِّم ،
والجوارحُ هي سباعٌ بنفسها وكلاب بنفسِها لا بجَعْلِ المُعَلِّمِ « ولا طائلَ تحت
هذا الرد وقرئ : » مُكْلِبين « بتخفيفِ اللام ، وفَعَّل وأَفْعل قد يشتركان في
معنى واحد ، إلا أن » كَلَّب « بالتشديد معناه عَلَّمها وضَرّاها ، و » أَكْلب «
معناه صار ذا كِلاب ، على أن الزَّجاج قال : رجلُ مُكَلِّب - يعني بالتشديد -
ومُكْلِب يعني من أكلب ، وكَلاَّب يعني بتضعيف اللام أي : صاحب كلاب » . وجاءَتْ
جملةُ الجوابِ هنا فعليةً وجملةُ السؤال اسمية وهي : ماذا أُحِل؟ فيه جوابٌ لها من
حيث المعنى لا من حيث اللفظُ؛ إذ مل يتطابقا في الجنس .
قوله : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنها جملة مستأنفة .
الثاني : أنها جملة في محلِّ نصب على أنها حال ثانية من فاعل « عَلَّمتم » ومَنَع
أبو البقاء ذلك لأنه لا يُجيز للعامل أن يَعْمل في حالين ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك
. الثالث : أنها حال من الضمير المستتر في « مُكَلِّبين » فتكون حالاً من حال
وتسمى المتداخلة ، وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة ، لأن معناها مفهوم
من « عَلَّمْتُمْ » ومن « مُكَلِّبين » والرابع : أن تكون جملة اعتراضية ، وهذا
على جَعْل « ما » شرطية ، أو موصولة خبرها « فكلوا » فيكون قد اعترض بين الشرط
وجوابه أو بين المبتدأ وخبره . فإن قيل : هل يجوز وجهٌ خامس ، وهو أن تكون هذه
الجملةُ حالاً من الجوارح أي : من الجوارحِ حالَ كونِها تُعَلِّمونهن ، لأنَّ في
الجملةِ ضميرَ ذي الحال « فالجوابُ أن ذلك لا يجوز ، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى الفصل
بين هذه الحال وبين صاحِبها بأجنبي وهو » مكلِّبين « الذي هو حالٌ من فاعل »
عَلَّمتم « .
قوله : { مِمَّآ أَمْسَكْنَ } في » مِنْ « وجهان ، أظهرُهما : أنها تبغيضيةٌ ، وهي
صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ ، هو مفعولُ الأكل ، أي : فكلوا شيئاً مما أمسكنه عليكم .
والثاني : أنها زائدةٌ وهو قياسُ قولِ الأخفش ، فعلى الأول تتعلَّق » مِنْ «
بمحذوفٍ ، وعلى الثاني لا تَعَلُّقَ لها ، و » ما « موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة ،
والعائدُ محذوفٌ ، وعلى كلا التقديرين أي : أَمْسَكَتْه كما تقدم .
والنونُ في « أمسكن » للجوارح . و « عليكم » متعلق ب « أمسكن » والاستعلاءُ هنا مجازٌ . قوله : « عليه » في هذه الهاء ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها تعود على المصدرِ المفهومِ من الفعل وهو الأكلُ كأنه قيل : واذكروا اسم الله على الأكلِ ، ويؤيده ما في الحديث « سَمِّ الله ، وكُلْ مِمَّا يَليك » والثاني : أنه يعود على « ما عَلَّمْتم » أي : اذكروا اسمَ الله على الجوارح عند إرسالِها على الصيد ، وفي الحديث : « إذا أَرْسَلْت كلبك وذكرت اسمَ الله » والثالثُ : أنَّها تعودُ على « ما أَمْسَكْن » أي : اذكروا اسمَ الله ما أَدْركتم ذكاته مما أَمْسَكَتُه عليكم الجوارح .
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
وقوله
تعالى : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } : الكلامُ فيه كالكلامِ فيما قبله . وزعمَ قومٌ
أنَّ المرادَ بثلاثةِ الأيام المذكورةِ هنا وقتٌ واحدٌ ، وإنما كرره توكيداً ،
ولاختلافِ الأحداثِ الواقعةِ فيه حَسُنَ تكريره ، وليس بشي . وادَّعى بعضُهم أنَّ
في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وأن الأصل : « فاذكروا اسم اللّهِ عليه وكلُوا
مِمَّا أَمْسَكْن عليكم » وهذا يُشْبه قولَ مَنْ يعيدُ الضميرَ على الجوارحِ
المرسلة .
قوله : { وَطَعَامُ الذين } فيه وجهان ، الصحيحُ منهما أنه مبتدأ ، وخبرُه « حِلُّ
لكم » أبرز الإِخبارَ بذلك في جملةٍ اسميةٍ اعتناءً بالسؤال عنه . وأجاز أبو
البقاء أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمِّ فاعلُه وهو « الطيبات »
وجَعَل قولَه « حِلٌّ لكم » خيرَ مبتدأ محذوف ، وهذا يَنْبغي ألاَّ يجوزَ البتة
لتقدير ما لا يُحْتاج إليه مع ذهابِ بلاغةِ الكلامِ . وقوله : { وَطَعَامُكُمْ
حِلٌّ لَّهُمْ } مبتدأ وخبر ، وقياسُ قولِ أبي البقاء أن يكونَ « طعام » عطفاً على
ما قبله ، و « حِلٌّ » خبر مبتدأ محذوف ، ولم يَذْكره كأنه استشعر الصواب .
قوله : { والمحصنات } في رفعه أيضاً وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي
: المُحْصَنات حِلُّ لكم أيضاً ، وهذا هو الظاهر . واختار أبو البقاء أن يكونَ
معطوفاً على « الطيبات » فإنه قال : « مِن المؤمنات » حالٌ من الضمير في «
المُحْصَنات » أو من نفس « المحصنات » إذا عَطَفَتْها على « الطيبات » و « حِلٌّ »
: مصدر بمعنى الحال فلذلك لم يُوَنَّث ولم يُثَنَّ ولم يُجْمع ، لأنه أحسن
الاستعمالين في المصادر الواقعة صفةً للأعيان ، ويُقال في الإِتباع : حِلُّ بِلُّ
« وهو كقولهم : » حَسَن بَسَن « و » عَطْشان نَطْشان « و » من المؤمنات « حالٌ كما
تقدم : إمَّا من الضمير في » المحصنات « أو من » المحصنات « / . وقد تقدَّم
الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظة واختلافِ القُرَّاء فيها في سورة النساء .
قوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } ظرفٌ العاملُ فيه أحدُ شيئين : إمَّا » أُحِلَّ
« وإمَّا » حِلُّ « المحذوفُ على حَسَب ما قُرِّرَ . والجملة بعده في محلِّ خفضٍ
بإضافته إليها ، وهي هنا لمجرد الظرفية . ويجوز أن تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوف ،
أي : إذا آتيتموهن أجورَهن حَلَلْنَ لكم ، والأولُ أظهر . و » مُحْصِنين « حال ،
وعاملُها أحد ثلاثة أشياء : إمَّا » آتيتموهُنَّ « ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ
المرفوعُ ، وإمَّا » أُحِلَّ « المبني للمفعول ، وإمَّا » حِلٌّ « المحذوفُ كما
تقدم . وغيرَ » يجوز فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن ينتصب على أنه نعت ل « محصنين »
والثاني : أنه يجوزُ نصبُه على الحال ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر في «
مُحْصِنين » والثالث : أنه حالٌ من فاعل آتيتموهن « على أنها حالٌ ثانيةٌ منه ،
وذلك عند مَنْ يُجَوِّز ذلك وقوله : { وَلاَ متخذي } يجوزُ فيه الجر على أنه عطفٌ
على » مسافحين « وزيدت » لا « تأكيداً للنفي المفهوم من » غير « ، والنصبُ على أنه
عطفٌ على » غير « باعتبارِ أَوْجهها الثلاثة ، ولا يجوز عطفُهُ على » مُحْصِنين «
لأنه مقترنٌ ب » لا « المؤكدةِ للنفي المتقدمِ ولا نفيَ مع » محصنين « وتقدَّم
معاني هذه الألفاظ .
وقوله
: { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } تقدَّم له نظائر . وقيل : المراد بالإِيمان
المؤمَنُ به ، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول ك « درهم ضَرْبُ الأمير » وقيل :
ثَمَّ مضافٌ محذوف أي : بموجِبِ الإِيمان وهو الباري تبارك وتعالى .
قوله : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } الظاهرُ أنَّ الخبرَ قوله : « من
الخاسرين » فيتعلَّقُ قولُه « في الآخرة » بما تعلَّق به هذا الخبر . وقال مكي : «
العاملُ في الظرفِ محذوفٌ تقديرُه : » وهو خاسر في الآخرةِ « ودَلَّ على المحذوفِ
قولُه : » من الخاسرين « . فإن جعلة الألف واللام في » الخاسرين « ليستا بمعنى
الذين جاز أن يكونَ العامل في الظرف » من الخاسرين « يعني أنه لو كانَتْ موصولةً
لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، لأنَّ الموصولَ لا يتقدم عليه ما في حَيِّزه
، وهذا كما قالوا في قوله : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء :
168 ] { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ] ، وتقديرُ مكي متعلِّق
هذا الظرف وهو » خاسر « إنما هو بناء على كون » أل « موصولةً بدليل قولِه : » فإنْ
جعلت الألف واللام ليستا بمعنى « الذين » وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقدير : بل
العاملُ فيه كما تقدم العاملُ في الظرفِ الواقعِ خبراً وهو الكون المطلق ، ولا
يجوز أن يكونَ « في الآخرة » هو الخبر ، و « من الخاسرين » متعلِّقٌ بما تعلَّق به
لأنه لا فائدة في ذلك ، فإنْ جُعِل « من الخاسرين » حالاً من ضميرِ الخبر وتكونُ
حالاً لازمةً جاز ، وهو ضعيفٌ في الإِعراب ، وقد تقدَّم وقد تقدَّم نظيرُ هذه
الآية في البقرة عند قوله : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ الآية :
130 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله
تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } : قالوا تقديرُه : إذا أردتم القيامَ
كقولِه : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] ، وهذا من إقامة
المسبِّب مقام السبب ، وذلك أنَّ القيامَ متسبِّبٌ عن الإِرادة والإِرادة سببه .
قال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ جازَ أن يُعَبِّر عن إرادة الفعل بالفعل » قلت :
لأن الفعل يوجَدُ بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهي قصدُه إليه وميلُه وخلوصُ
داعيتهِ ، فكما غَبَّر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : « الإِنسانُ لا يطير
، والأعمى لا يبصر » أي : لا يَقْدران على الطير والابصار ، ومنه قولُه تعالى : {
نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] أي :
قادرين على الإِعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل؛ وذلك لأن الفعل مُسَبِّب
عن القدرة ، فأقيم المُسَبَّب مُقام السببِ للملابسةِ بينهما ولإِيجاز الكلام « .
وقيل : تقديره : إذا قَصَدْتُم الصلاةَ؛ لأنَّ مَنْ توجَّه إلى شيءٍ وقام إليه كان
قاصدا له فعبَّر بالقيام عن القصدِ . والجمهورُ قَدَّروا حالاً محذوفة من فاعل »
قمتم « ، أي : إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين ، إذ لا وضوءَ على غير المحِدث ،
وإن كان قال به جماعة ، قالوا : ويدُلُّ على هذه الحالِ المحذوفة مقابلتُها بقوله
: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } فكأنه قيل : إنْ كنتم مُحْدِثين الحدثَ
الأصغر فاغسِلو كذا وامسَحوا كذا ، وإنْ كنتم مُحْدثين الحدثَ الأكبر فاغسلوا
الجسدَ كله ، وهو مَحَلُّ نظر .
قوله : { إِلَى المرافق } في » إلى « هذه وجهان ، أحدهما : أنها على بابها من
انتهاء الغاية ، وفيها حنيئذ خلاف ، فقائلٌ : إنَّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها ،
وقائلٌ بعكس ذلك ، وقائل : لا تَعَرُّضَ لها في دخولٍ ولا عدَمِه ، وإنما يدور
الدخولُ والخروج مع الدليل وعدمه . وقائل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل
في الحكم وإلا فلا ، ويُعْزى لأبي العباس . وقائل : إنْ كان ما بعدَها من غير جنس
ما قبلها لم يَدْخُل ، وإن كان من جنسِه فيحتمل الدخولَ وعَدَمه ، وأول هذه
الأقوالِ هو الأصحُّ عند النحاة . قال بعضُهم : وذلك أنَّا حيث وَجَدْنا قرينةً مع
» إلى « فإن تلك القرينةَ تقتضي الإِخراجَ مما قبلها ، فإذا وَرَدَ كلامٌ مجردٌ عن
القرائن فينبغي أن يُحْمَلَ على الأمر الفاشي الكثير وهو الإِخراج ، وفَرَّق هذا
القائل بين » إلى « و » حتى « فجعل » حتى « تقتضي الإِدخالَ ، و » إلى « تقتضي
الإِخراج بما تقدم من الدليل ، وهذه الأقوالُ دلائلها في غيرِ هذا الكتاب ، وقد
أوضَحْتُها في كتابي » شرح التسهيل « والقول الثاني : أنها بمعنى » مع « أي : مع
المرافق ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عند قوله : { إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء :
2 ] . والمرافقُ : جمع » مَرْفِق « بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة ،
وهو مِفْصَلٌ ما بين العَضْد والمِعْصَم .
قوله
: { بِرُؤُوسِكُمْ } في هذه الباء ثلاثةٌ أوجه ، أحدها : أنها للإِلصاق أي :
أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم . قال الزمخشري : « المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس ،
وماسحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه » قال الشيخ : « وليس
كما ذكر » يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/ .
وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها . والثاني : أنها زائدةٌ ، كقوله : { وَلاَ
تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقوله :
1699- . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وهو ظاهرُ كلام سيبويه ، فإنه حكى : « خَشَّنْتُ صدرَه وبصدره » و « مَسَحْتُ
رأسَه وبرأسِه » بمعنَى واحد ، وقال الفراء : « تقول العرب : » خُذِ الخِطامَ
وبالخطام « و » هَزَّه وهَزَّ به « و » خُذْ برأسِه ورأسَه « والثالث : أنها
للتعيضِ كقوله :
1700- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا قولٌ ضعيف ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك أولَ البسملة .
قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم : » أرجلكم «
نصباً ، وباقي السبعة : وأرجلكم » جراً ، والحسن بن أبي الحسن : « وأرجلُكم »
رفعاً ، فأمَّا قراءة النصب ففيها تخريجان ، أحدُهما : أنها معطوفةٌ على « ايديكم
» فإنَّ حكمَها الغُسْلُ كالأوجه والأيدي ، كأنه قيل : « واغسلوا أرجلكم » إلا
أنَّ هذا التخريجَ أفسده بعضُهم بأنه يلزم منه الفصلُ بين المتعاطِفَيْنِ بجملةٍ
غير اعتراضية لأنها مُنْشِئَةٌ حمكاً جديداً فليس فيها تأكيد للأول . وقال ابن
عصفور- وقد ذكر الفصلَ بين المتعاطِفَيْن - : « وأقبحُ ما يكونُ ذلك بالجمل »
فدلَّ قولُه على أنه لا يجوزُ تخريجُ الآية على ذلك . وقال أبو البقاء عكسَ هذا
فقال : « وهو معطوفٌ على الوجوه » ثم قال « وذلك جائزٌ في العربية بلا خلاف »
وجَعَلَ السنِّيَّة الواردة بغسل الرجلين مقويةً لهذا التخريج ، وليس بشيء ، فإنَّ
لقائل أن يقول : يجوز أن يكون النصب على محلِّ المجرور وكان حكمُها المسحَ ولكن
نُسِخ ذلك بالسنَّة وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء . والثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على محل
المجرور قبله ، كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك .
وأمَّا قراءةُ الجر ففيها أربعةُ تخاريجَ ، أحدها : أنه منصوبٌ في المعنى عطفاً
على الأيدي المغسولة ، وإنما خُفض على الجوار ، كقولهم : « هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ
» بجر « خرب » وكان مِنْ حَقِّه الرفعُ لأنه صفة في المعنى للجحر لصحة اتصافه به ،
والضَّبُّ لا يوصف به ، وإنما جَرُّه على الجوار ، وهذه المسألة عند النحويين لها
شرط وهو أن يُؤْمَنَ اللبس كما تقدم تمثيله ، بخلاف : « قام غلام زيد العاقل » إذا
جعلت « العاقل » نعتاً للغلام امتنع جَرُّه على الجوار لأجل اللَّبْس ، وأنشد
أيضاً قول الشاعر :
1701- كأنما ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعينِها ... قُطْناً بمستحصِدِ الأوتارِ مَحْلوجِ
وقول
الآخر :
1702- فأياكم وَحيَّةَ بَطْنِ وادٍ ... هموزٍ النابِ ليس لكم بِسِيِّ
وقول الآخر :
1703- كأن ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وقول الآخر :
1704- كأنَّ نَسْجَ العنكبوتِ المُرْمَل ... بجر « محلوج » وهو صفةٌ ل « قطنا »
المنصوبِ ، وبجر « هموز » وهو صفة ل « حية » المنصوبِ ، وبجر « المزمل » وهو صفة «
كبير » لأنه بمعنى الملتف ، وبجرِّ « المُرْمل » وهو صفة « نَسْج » ، وإنما جُرَّت
هذه لأجلِ المجاورِة ، وقرأ الأعمش : { إنَّ الله هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ }
بجر المتين مجاورَةً ل « القوة » وهو صفةٌ ل « الرزاق » ، وهذا وإن كان وارداً ،
إلا ان التخريجَ عليه ضعيفٌ لضَعْفِ الجوارِ من حيث الجملةُ ، وأيضاً فإنَّ الخفضَ
على الجوارِ إنما وَرَدَ في النعتِ لا في العطف ، وقد وَرَدَ في التوكيدِ قليلاً
في ضرورة الشعر ، قال :
1705- يا صاحِ بَلَّغ ذوي الزوجاتِ كلِّهمِ ... أَنْ ليسَ وَصْلٌ إذا انْحَلَّتْ
عُرَى الذَّنَبِ
بجر « كلهم » وهو توكيدٌ ل « ذوي » المنصوب ، وإذا لم يَرِد إلا في النعت أو ما
شَذَّ من غيره فلا يينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله تعالى ، وهذه المسألةُ قد
أوضَحْتُها وذكرت شواهدها في « شرح التسهيل » وممن نَصَّ على ضعفِ تخريجِ الآية على
الجوارمكي بن أبي طالب وغيرُه ، قال مكي : « وقال الأخفش وأبو عبيدة : » الخفضُ
فيه على الجوار ، والمعنى للغسل « وهو بعيد لا يُحْمل القرآن عليه » وقال أبو
البقاء « وهو الإِعرابُ الذي يقال : هو على الجوار ، وليس بممتنع أن يقع في القرآن
لكثرته فقد جاء في القرآن والشعر ، فَمِنَ القرآن قولُه تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ }
[ الواقعة : 22 ] على قراءة مَنْ جَرَّ ، وهو معطوفٌ على قوله : { بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ } وهو مختلفُ المعنى ، إذ ليس المعنى : يَطُوف عليهم وِلْدان
مخلَّدون بحورٍ عين . وقال النابغة :
1706- لم يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غيرُ مُنْفَلِتٍ ... أو مُوْثَقٍ في حبال القومِ
مَجْنُوبِ
والقوافي مجرورةٌ ، والجوارُ مشهورٌ عندهم في الإِعراب » ثم ذكر أشياء كثيرةً زعم
أنها مقويةٌ لمُدَّعاه ، منها : قَلْبُ الإِعراب في الصفات كقوله تعالى : {
عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ هود : 84 ] واليومُ ليس بمحيطٍ ، وإنما المحيط [ هو ]
العذابُ ، ومثلُه قولُه تعالى : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] و « عاصف
» ليس في صفة اليوم بل من صفة الريحِ . ومنها : قَلْبُ بعض الحروف إلى بعض كقول
عليه السلام : « ارجَعْنَ مَأْزوارتٍ غيرَ مأجورات » والأصل : « مَوْزورات » ،
ولكنْ أُريد التواخي ، وكذلك قولُهم : « إنه ليأتينا بالغدايا والعَشايا » ويعني
أنَّ الأصلَ : « بالغَدَاوى » لأنها من الغُدْوة ، ولكن لأجل « ياء » العشايا «
جاءت بالياء دون الواو . ومنها : تأنيثُ المذكر كقوله تعالى :
{
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] فحذف / التاءَ منْ « عشر » وهي
مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى
عليها حكمَه ، وكذلك قوله :
1707- لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
وقولهم : « ذَهَبَتْ بعضُ أصابعِه » يعني أنَّ « سور » مذكرةٌ « و » بعض « أيضاً
كذلك ، ولكنْ لَمَّا جاورا المؤنثَ أُعْطيا حكَمه . ومنها : » قامت هند « لَمَّا
لم يَفْصِلوا أتوا بالتاء ، ولمَّا فَصَلوا لم يأتوا بها ، ولا فرق إلا المجاورةُ
وعدمُها : ومنها : استحسانُهم النصبَ في الاشتغال بعد جملةٍ فعلية في قولهم : »
قام زيدٌ وعمراً كلمته « لمجاورةِ الفعل . ومنها : قَلْبُهم الواوَ المجاورَة
للطرفِ همزةً نحو : » أوئل « بخلاف » طواويس « لبُعْدِها من مجاورةِ الطرف . قال :
» وهذا موضعٌ يَحْتمل أن يكتب فيه أوراقٌ من الشواهدِ ، قد بَوَّب النحويون له
باباً ورتَّبوا عليه مسائلَ وأصَّلوه بقوله : « هذا جُحْرِ ضبٍ خربٍ » حتى اختلفوا
في جواز جر التثنية والجمع ، فأجاز الاتباعَ فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على
المفرد المسموع ، ولو كان لا وجهَ له بحالٍ لاقتصروا فيه على المسموع فقط ، ويتأيد
ما ذكرناه أنَّ الجرَّ في الآية قد أجيز غيره - وهو الرفع والنصب - والرفع والنصب
غير قاطعين ولا ظاهرين على أنَّ حكمَ الرِجْلين المسحُ ، فكذلك الجرُّ يجب أن
يكونَ كالنصب والرفعِ في الحكم دون الإِعراب « انتهى .
أمَّا قوله : » إنَّ { وَحُورٌ عِينٌ } من هذا الباب فليس بشيء ، لأنه : إمَّا [
أن ] يقدَّر عطفهُما على ما تقدم بتأويلٍ ذكره الناس كما سيتأتي أو بغير تأويل ،
وإما أن لا يعطفَهما ، فإنْ عَطَفَهما على ما تقدم وجب الجر ، وإن لم يعطفهما لم
يَجُز الجر ، وأمّا جَرُّهما على ما ذكره الناس فقيل : لعطفهما على المجرور بالباء
قبلهما على تضمين الفعلِ المتقدم « يتلذذون ويَنْعَمون بأكواب وكذا وكذا » أولا
يُضَمَّن الفعلُ شيئاً ويكون لطواف الوالدانِ بالحورِ العين على أهل الجنة لذاذة
لهم بذلك ، والجواب إنما يكونُ حيث يستحقُ الاسمُ غيرَ الجر فيُجَرُّ لمجاورةِ ما
قبله ، وهذا - كما ترى - قد صَرَّح هو به أنه معطوفٌ على « بأكواب » غايةُ ما في
الباب أنه جَعَلَه مختلفَ المعنى ، يعنى أنه عنده لا يجوزُ عطفُهما على « بأكواب »
إلا بمعنى آخرَ وهو تضمينُ الفعل ، وهذا لا يَقدَحُ في العطفية . وأما البيتُ
فجرُّ « موثقٍ » ليس لجواره « ل » منقلتٍ « وإنما هو مراعات للمجرور ب » غير « ،
لأنهم نَصُّوا على أنك إذا جئت بعد » غير « ومخفوضها بتابعٍ جاز أن يَتْبع لفظَ »
غير « وأن يَتبع المضاف إليه ، وأنشدوا البيت ، ويروى : » لم يبق فيها طريدٌ غيرُ
منفلتٍ « وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاوره التي تؤثر في تغيير
الإِعراب ، وقد تقدَّم أن النحويين خَصَّصوا ذلك بالنعت وأنه قد جاء في التوكيد
ضرورةً .
التخريج
الثاني : أنه معطوفٌ على « برؤوسكم » لفظاً ومعنى ، ثم نُسِخ ذلك بوجوبِ الغسل ،
أو هو حكمٌ باقٍ ، وبه قال جماعة ، أو يُحمل مسحُ الأرجلِ على بعضِ الأهوال وهو
لُبْسُ الخفِّ ، ويُعزى للشافعي . التخريج الثالث : انها جُرَّت مَنْبَهَةً على
عدم الإِسراف باستعمال الماء لأنها مَظَنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيراً ، فَعَطَفَتْ
على الممسوح ، والمرادُ غَسْلُها لِما تقدم ، وإليه ذَهَب الزمخشري . قال : « وقيل
: » إلى الكعبين « فجيء بالغاية إماطة لظنَّ ظانَّ يَحْسَبُها ممسوحة ، لأنَّ
المسح لم تُضْرب له غايةٌ في الشريعة » وكأنه لم ترتضِ هذا القول الدافعَ لهذا
الوهمِ وهو كما قال . التخريج الرابع : أنها مجرورةٌ بحرفِ جرٍ مقدرٍ دَلَّ عليه
المعنى ، ويتعلَّق هذا الحرفُ بفعلٍ محذوفٍ أيضاً يليق بالمحل ، فيُدَّعى حذفُ
جملةٍ فعلية وحَذْفُ حرفِ جر ، قالوا : وتقديرُه : « وافعَلُوا بأرجلِكم غسلاً » .
قال أبو البقاء : « وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله :
1708- مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها
وقال الآخر :
1709- بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائِيا
فجُرَّ بتقديرِ الباء ، وليس بموضعِ ضرورةٍ ، وقد أَفْرَدْتُ لهذه المسألةِ كتاباً
» قوله : « وإبقاء الجر » ليس على إطلاقهِ ، وإنما يَطَّرد منه مواضعُ نصَّ عليها أهلُ
اللسانِ ليس هذا منها ، وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النحاة يسمى « العطف على
التوهُّم » يعني كأنه توهَّم وجودَ الباء زائدةً في خبر « ليس » لأنها يكثُر
زيادتُها ، ونَظَّروا ذلك بقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين }
[ المنافقون : 10 ] بجزم « أَكُنْ » عطفاً على « فأصَّدَّق » على توهُّم سقوط
الفاء من « فأصَّدَّق » نَصَّ عليه سيبويه وغيرُه ، فظهرَ فساد هذا التخريج .
وأمَّا قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي : وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة
على ما تقدم في حكمها . والكلام في قوله : « إلى الكعبين » كالكلام في « إلى
المرفقين » . والكعبان فيهما قولان مشهوران ، أشهرهما : أنهما العَظْمان الناتئان
عند مفصل الساق والقدم ، في كل رِجْلٍ كعبان . والثاني : أنه العظم الناتئ في وجه
القدم حيث يجتمع شِراك النعل ، ومرادُ الآية هو الأول . والكعبة : كلُّ بيتٍ مربع
، وسيأتي بيانُه في موضعِه .
قوله : « منه » في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً ب « امسحوا » و « مِنْ » فيها وجهان
أظهرهما : أنها للتبعيض . والثاني : انها لا بتداء الغايةِ ، ولهذا لا يُشْترط عند
هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ . وقوله : « ليجعلَ » الكلامُ في هذه اللامِ كالكلامِ
عليها في قوله :
{
يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعولَ
الإِرادة محذوفاً وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ « ليجعلَ » زاد « مِنْ » في الإِيجاب في
قوله « من حرج » ، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعاً على
فعل الحرج . و « من حرج » مفعول « ليجعل » والجعلُ يحتمل أنه بمعنى الإِيجاد
والخَلْق فيتعدى لواحد وهو « من حرج » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، كما تقدم ، ويتعلق
عليكم حينئذ بالجعل / ويجوز أن يتعلق ب « حرج » فإن قيل : هو مصدرٌ ، والمصدرُ لا
يتقدَّم معمولُه عليه . قيل : ذلك في المصدر المؤول بحرفٍ مصدري وفعل لأنه بمعنى
الموصول ، وهذا ليس مؤولاً بحرف مصدري ، ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير
فيكون « عليكم » هو المفعولَ الثاني .
قوله : { عَلَيْكُم } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه متعلق ب « يتم » . والثاني
: « أنه متعلقٌ ب » نعمته « والثالث : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من » نعمته
« ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله :
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ
بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه . قال الزمخشري » وقرئ
فَأَطْهِروا أي : أَطْهروا أبدانَكم ، وكذلك : « ليُطْهِركم » يعين أنه قُرِئ : «
أَطِهِروا » أمراً من أَطْهَر رباعياً كَأَكْرم ، ونسب الناسُ القراءة الثانية -
أعني قوله « لِيُطهِرَكم » لسعيد بن المسيب .
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله تعالى : { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا } : « إذا » فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها : أنه منصوبٌ ب « واثقكم » الثاني : أنه منصوبٌ على الحال من الهاء في « به » الثالث : أنه حالٌ مِنْ « ميثاقه » وعلى هذين الوجهين الأخيرين يتعلق بمحذوفٍ على القاعدة المقررةِ ، و « قلتم » في محلِّ خفضِ بالظرف ، و « سَمِعْنا » في محل نصب بالقول .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
قوله تعالى : { كُونُواْ قَوَّامِينَ } : تقدَّم نظيرُها في النساء إلا أنه هناك قَدَّم لفظة « القسط » وهنا أُخِّرت ، وكأن الغرضَ في ذلك - والله أعلمُ - أنَّ آية النساء جيء بها معرض الإِقرار على نفسِه ووالديه وأقاربه فبُدِىء فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباةِ نَفْس ولا والدٍ ولا قرابة والتي هنا : جِيء بها في معرض تكر العداوة فبُدِئ فيها بالأمر بالقيام لله؛ لأنه أردعُ للمؤمنين ، ثم ثَنَّى بالشهادة بالعدل ، فجيء في كل مَعْرِضٍ بما يناسِبُه . وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم } [ المائدة : 2 ] تقدَّم مثله ، وظهورُ حرفِ الجر هنا يرجِّع تقديرَه قبلُ . « هو أقرب » : « هو » ضمير المصدر المفهوم من الفعل أي : العدل ، وقد تقدَّم له نظائُر كثيرة .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
قوله تعالى : { وَعَدَ الله } : « وعد » يتعدَّى لاثنين أولهما الموصول ، والثاني محذوفٌ أي : الجنةَ ، وقد صَرًَّح بهذا المفعولِ في غير هذا الموضع وعلى هذا فالجملة من قوله : « لهم مغفرة » لا محل لها لأنها مفسرةٌ لذلك المحذوفِ تفسيرَ السبب للمسبب ، فإن الجنةَ مسببةٌ عن المغفرةِ وحصولِ الأجر العظيم ، والكلامُ قبلها تام بنفسه . وذكر الزمخشري في الآية احتمالاتٍ أخَرَ ، أحدها : أنَّ الجملةَ من قوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } بيانٌ للوعد ، كأنه قال : قَدَّم لهم وعداً ، فقيل : أيَّ شيء وعده؟ فقال : لهم مغفرة وأجر عظيم ، وعلى هذا فلا محلَّ لها أيضاً ، وهذا أَوْلى من الأول لأن تفسيرَ الملفوظِ به أَوْلى من ادِّعاء تفسير شيء محذوف . الثاني : أنَّ الجملةَ منصوبةٌ بقولٍ محذوفٍ كأنه قيل : وَعَدهم وقال لهم مغفرة . الثالث : إجراءُ الوعد مُجرى القول لأنه ضَرْبٌ منه ، ويجعل « وعد » واقعاً على الجملة التي هي قوله : « لهم مغفرة » كما وقع « تَرَكْنا » على قوله : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] ، كأنه قيل : وعدهم هذا القول ، وإذا وعدهم مَنْ لا يُخْلِفُ الميعادَ فقد وعدهم مضمونَة من المغفرة والأجر العظيم ، وإجراءُ الوعدِ مُجْرى القولِ مذهبٌ كوفي .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ } : مبتدأ ، و « أولئك » مبتدأ ثان ، و « أصحاب » خبره ، والجملة خبر الأول ، وهذه الجملة مستأنفة أُتي بها اسميةً دلالة على الثبوت والاستقرار ، ولم يُؤْتَ بها في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد حسماً لرجائهم ، وأجاز بعضُهم أن تكونَ هذه الجملةُ داخلةً في حَيِّز الوعد ، على ما تقدَّم تقريرُه في الجملةِ قبلَها ، قال : « لأنَّ الوعيد اللاحقَ بأعدائهم مِمَّا يَشْفي صدروَهم ، ويُذْهب ما كانوا يَجِدونه من أذاهم ، ولا شك أن الأذى اللاحقَ للعدوِّ مِمَّا يَسُرُّ ، ويُفْرِحُ ما عند عدوه » وفيه نظرٌ ، فإنَّ الاستئناف وافٍ بهذا المعنى؛ فإنَّ الإِنسانَ إذا سمع خبراً يسوءُ عدوَّه سُرَّ بذلك ، وإن لم يُوعَدْ به ، وقد يَتَقوّى صاحبُ هذا القول المتقدم بأن الزمخشري قد نَحا إلى هذا المعنى في سورة سبحان ، قال : « فإن قلت : علامَ عطف { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الإِسراء : 10 ] ؟ قلت : على { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإِسراء : 9 ] ، على أنه بَشَّر المؤمنين ببشارتين اثنتين : بثوابِهم وبعقابِ أعدائهم ، فجعل عقابَ أعدائِهم داخلاً في حَيِّز البِشارة ، فالبشارةُ هناك كالوعدِ هنا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وقوله تعالى : { عَلَيْكُمْ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب « نعمة » وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها . و « إذ هم » ظرفٌ ، ناصبُه النعمة أيضاً أي : اذكروا نعمته عليكم في وقتِ هَمِّهم ، ويجوز أن يتعلقَ هذا الظرفُ بما تعلّق به « عليكم » إذا جعلتَه حالاً من « نعمة » ، ولا يجوزُ أَنْ يكون منصوباً ب « اذكروا » لتنافي زمنيهما ، فإنَّ « إذ » للمضي ، و « اذكروا » مستقبل . و « أن يَبْسُطوا » على إسقاط الباء أي : هَمُّوا بأن يبسطوا ، ففي موضع « أَنْ » الخلافُ المشهور .
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
قوله
تعالى : { مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } : « منهم » يجوز أن يتعلق ب « بَعَثْنا
» وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ « اثني عشر » لأنه في الأصلِ صفةُ له ،
فلما قُدُّمِ نُصِب حالاً . وقد تقدَّم الكلامُ في تركيب « اثني عشر » وبنائه
وحَذْفِ نونِه في البقرة فَأَغْنى عن إعادته . و « ميثاق » يجوزُ أَنْ يكونَ
مضافاً إلى المفعول - وهو الظاهر - أي : إن الله تعالى واثَقَهم ، وأَنْ يكونَ
مضافاً لفاعله : أي : إنهم واثقوه تعالى . والمفاعلة يجوز نسبةُ الفعلِ فيها إلى
كلِّ من المذكورَيْنِ . والنقيب : فعيل ، قيل : بمعنى فاعِل مشتقاً من النَّقْب
وهو التفتيس ، ومنه : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } [ ق : 36 ] وسُمِّي بذلك لأنه
يفتشُ عن أحوالِ القوم وأسرارهم . وقيل : هو بمعنى مفعول ، كأن القوم اختاره على
علمٍ منهم تفتيشٍ على أحواله . وقيل : هو للمبالغةِ كعليم وخبير .
قوله : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ } هذه اللامُ هي الموطئة للقسم ، والقسم معها محذوفٌ ،
وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع شرطٌ وقسمٌ أجيب سابقهما ، إلا أن يتقدَّم ذو خبرٍ
فيُجاب الشرطُ مطلقاً . وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } هذه اللام هي جوابُ القسم لسبقه
، وجوابُ الشرط محذوفٌ / لدلالة جواب القسم عليه ، وهذا معنى قول الزمخشري أنَّ
قوله « لأكفرنَّ » سادٌّ مسد جوابي القسم والشرط ، لا كما فهمه بعضُهم ، وردَّ
عليه ذلك . ويجوز أن يكون « لأكفرن » جواباً لقوله تعالى قبل ذلك : { وَلَقَدْ
أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } لِما تَضَمَّنه الميثاقُ من معنى القسم ،
وعلى هذا فتكون الجملتان - أعني قوله : « وبعثنا » « وقال الله » - فيهما وجهان ،
أحدهما : أنهما في محلِّ نصبٍ على الحال ، والثاني : أن تكونا جملتي اعتراض ،
والظاهرُ أنَّ قوله : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ } جوابُه : « لأكفرنَّ » كم تقدم ،
وجملةُ هذا القسمِ المشروطِ وجوابُه مفسرةٌ لذلك الميثاق المتقدم .
والتعزير : التعظيم ، قال :
1710- وكم من ماجدٍ لهُمُ كريمٍ ... ومِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ
وقيل : هو الثناء بخير ، قال يونس ، وهو قريب من الأول . وقيل : هو الردُّ عن
الظلم قاله الفراء . وقال الزجاج : « هو الردع والمنع » فعلى القولين الأولين يكون
المعنى : « وعَظَّمْتُموهم وأثنيتم عليهم خيراً » وعلى الثالث والرابع يكون المعنى
: « وردَدْتم وردَعْتم سفهاءَهم عنهم . قال الزجاج : » عزرت فلاناً « : فَعَلْتُ
به ما يردعه عن القبيح ، مثل نَكَّلت ، فعلى هذا يكون » عَزَّرْتُموهم « رَدّدْتم
عنهم اعداءهم » وقرأ الحسن البصري : « برسْلي » بسكون العين حيث وقع . وقرأ
الجحدري : « وعَزَرْتموهم » خيفيفةَ الزاي وهي لغة . وقرأ في الفتح : «
وتَعْزُوروه » بفتح حرف المضارعة وسكون العين وضم الزاي ، وهي موافقة لقراءته هنا
.
وقوله : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً } تقدَّم الكلام في « قَرْضا » وفي نصبه في
البقرة .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله
تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم } تقدم الكلام على نظيره ، وكذلك { سَوَآءَ السبيل }
[ النساء : 155 ] . وقرأ الجمهور : « قاسيةً » اسم فاعل من قسا يقسو ، وقرأ
الأَخَوان : - وهي قراءة عبد الله - « قَسِيَّةً » بفتح القاف وكسر السينِ وتشديدِ
الياء . واختلفَ الناسُ في هذه القراءةِ : فقال الفارسي : « ليست في ألفاظِ العربِ
في الأصل ، وإنما هي كلمةٌ أعجميه معرَّبة » يعني أنها مأخوذةٌ من قولِهم : «
دِرْهم قِسِيّ » أي : مَغْشُوش ، شَبَّه قلوبَهم في كونِها غيرَ صافيةٍ من الكَدَر
بالدارهم المغشوشةِ غير الخالصةِ ، وأنشدوا قولَ أبي زبيد :
1711- لها صَواهِلُ في صُمِّ السِّلام كما ... صاحَ القَسِيَّات في أَيْدي
الصياريفِ
وقوله الآخر :
1712- وما زَوَّدوني غيرَ سَحْقِ عِمامةٍ ... وخمسَ مِئٍ منها قِسِيُّ زائفُ
وقال صحاب الكشاف : « وقرأ عبد الله : » قَسِيَّة « أي : رديئة مغشوشة مِنْ قولِهم
: » درهم قَسِيّ « وهو من القسوة؛ لأنَّ الذهبَ والفضة الخالصين فهيما لينٌ ،
والمغشوشُ فيه صلابةٌ ويُبس ، والقسي والقاسح - بالحاءِ المهملة - أَخَوانِ في
الدلالة على اليُبْس » وهذا القول سبقه إليه المبردُ فإنه قال : « يُسَمَّى
الدرهمُ المغشوشُ قَسِيّاً لصلابته وشدتِه للغشِّ الذي فيه » ، وهو يَرْجِعُ
للمعنى الأول ، والقاسي والقاسح ، بمعنى واحد ، وعلى هذين القولين تكوت اللفظةُ
عربية ، وقيل : بل هذه القراءة توافِقُ قراءةُ الجماعة في المعنى والاشتقاق ، لأنه
فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد فكذلك قاسٍ وقسِيّ ، وإنما أُنِّث على معنى الجماعةِ .
وقرأ الهَيْصم بن شداخ : « قُسِيَّة » بضم القاف وتشديد الياء . وقرئ « قِسَّية »
بكسر القاف إتباعاً ، وأصل القراءتين : قاسِوَة وقَسِيوة لأنَّ الاشتقاق من القسوة
.
قوله : { يُحَرِّفُونَ } في هذه الجملة أربعة أوجه ، أنها مستأنفة بيانٌ لقسوة
قلوبهم ، لأنه لا قسوةَ أعظمُ من الافتراء على الله تعالى . والثاني : أنها حال من
مفعول « لعنَّاهم » أي : لعنَّاهم حالَ اتصافهم بالتحريف . والثالث : - قال أبو
البقاء - أنه حال من الضمير المستتر في « قاسية » ، وقال : « ولا يجوزُ أن يكون
حالاً من القلوب ، لأن الضمير في » يُحَرِّفون « لا يرجع إلى القلوب » وهذا الذي
قاله فيه نظر ، لأنه من حيث جَوَّز أن يكونَ حالاً من الضمير في « قاسية » يلزَمُه
أن يُجَوِّز أن يكون حالاً من « القلوب » لأنَّ الضميرَ المسترر في « قاسية »
يعودُ على القلوب ، فكما يمتنع أن يكونَ حالاً مِنْ ظاهره ، يمتنع أن يكونَ حالاً
من ضميرِه ، وكأن المانع الذي توهَّمه كونُ الضمير - وهو الواو في « يُحَرِّفون -
إنما يعود على اليهود بجملتِهم لا على قلوبهم خاصةً ، فإنَّ القلوبَ لا تُحَرِّف ،
إنما يحرِّف أصحاب القلوب ، وهذا لازمٌ له في تجويزه الحاليةَ من الضمير في »
قاسية « .
ولقائل
أن يقولَ : المرادُ بالقلوبِ نفسُ الأشخاص ، وإنما عَبَّر عنهم بالقلوب لأن هذه
الأعضاءَ هي محلُّ التحريف أي : إنه صادرٌ عنها بتفكُّرها فيه ، فيجوزُ على هذا أن
يكونَ حالاً من القلوب . والرابع : أن تكون حالاً من « هم » قال أبو البقاء : «
وهو ضعيفٌ » يعني لأنَّ الحالَ من المضاف إليه لا تجوزُ ، وغيرُه يجوِّزُ ذلك في
مثلِ هذا الموضعِ؛ لأنَّ المضاف بعضُ المضاف إليه . / وقرأ الجمهورُ بفتح الكافِ
وكسرِ اللامِ وهو جمعُ « كلمة » وقرأ أبو رجاء : « الكِلْمِ » بكسر الكافِ وسكونِ
اللام ، وهو تخفيفُ قراءة الجماعة ، وأصلُها أنه كَسَرَ الكافَ إتباعاً ثم سكَّن
العينَ تخفيفاً ، وقرأ السُلمي والنخغي : « الكلام » بالألف . « وعن مواضِعه » قد
ذُكِر مثلُه في النساء .
قوله : { على خَآئِنَةٍ } في « خائنة » ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها اسمُ فاعل
والهاء للمبالغة كراوية ونسَّابة أي : على شخص خائن ، قال الشاعر :
1713- حَدَّثْتَ نفسَك بالوفاءِ ولم تَكُنْ ... للغدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصبَعِ
الثاني : أن التاء للتأنيث ، وأُنِّث على معنى طائفة أو نفس أو فَعْلَة خائنة .
الثالث : أنها مصدرٌ كالعافية والعاقبة ، ويؤِّيد هذ الوجه قراءةُ الأعمش : { على
خيانة } وأصل خائِنة : خاونة ، وخيانة : خِوانة ، لقولهم : تَخَوَّن وخَوَّان وهو
أَخْوَن ، وإنما أُعِلاَّ إعلالَ « قائمة وقيام » و « منهم » صفة ل « خائنة » إن
أريد بها الصفة ، وإن أريد بها المصدرُ قُدِّر مضافٌ أي : من بعض خياناتهم .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المستنثى منه أربعةُ
أقوالٍ ، أظهرُها : أنه لفظ خائنة ، وهمُ الأشخاصُ المذكورون في الجملة قبله أي :
لا تزالُ تَطَّلع على مَنْ يَخْون منهم إلى القليلَ ، فإنه لا يخون فلا تَطَّلِعُ
عليه ، وهؤلاء هم عبد الله بن سلام وأصحابه . قال أبو البقاء « ولو قرئ بالجر على
البدل لكان مسقيماً » يعني على البدل من « خائنة » فإنه في حَيِّز كلام غير موجب .
والثاني : ذكره ابن عطية أنه الفعل أي : لا تزال تطَّلع على فِعْل الخيانة إلا
فعلاً قليلاً ، وهذا واضح إنْ أُريد بالخيانة أنها صفة للفعلة المقدرة كما تقدَّم
، ولكن يُبْعِدُ ما قاله ابنُ عطية قولُه بعدَه « منهم » ، وقد تقدَّم لنا نظيرُ
ذلك في قوله { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، حيث جَوَّز
الزمخشري فيه أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ . الثالث : أنه « قلوبهم » في قوله : {
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } قال صاحبُ هذا القول : « والمرادُ بهم
المؤمنون لأن القسوة زالَتْ عن قلوبهم » وهذا فيه بُعْدٌ كبير ، لقوله « لعنَّاهم
» الرابع : أنه الضمير في « منهم » مِنْ قوله تعالى : { على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ }
قاله مكيّ .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
قوله تعالى : { وَمِنَ الذين قَالُواْ } : فيه خمسةُ أوجه ، أحدهما : - وهو الظاهر- أنَّ « مِنْ » متعلقة بقوله « أخذنا » والتقدير الصحيح فيه أن يقال : تقديرُه : « وأَخَذْنا من الذين قالوا : إنَّا نصارى ميثاقهم » فتوقع « الذين بعد » أَخَذْنا « وتؤخِّر عنه » ميثاقهم « ولا يجوز أن تقدِّر » وأَخَذْنا ميثاقَهم من الذين « فتقدم » ميثاقَهم « على » الذين قالوا « وإنْ كان ذلك جائزاً من حيثُ كونُهما مفعولين ، كلُّ منهما جائزُ التقديم والتأخيرِ ، لأنه يلزم عودُ الضميرِ على متأخر لفظاً ورتبة ، وهو لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ ، نصَّ على ذلك جماعةٌ منهم مكي وأبو البقاء الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ قامَتْ صفتُه مَقامه ، والتقدير : » ومن الذين قالوا إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم « فالضمير في » ميثاقهم « يعود على ذلك المحذوف . والثالث : أنه خبر مقدم أيضاً ، ولكن قَدَّروا المبتدأ موصولاً حُذِف وبقيت صلتُه ، والتقدير : » ومن الذين قالوا : إنَّا نصارى مَنْ أخذنا ميثاقهم « فالضمير في » ميثاقهم « عائد على » مَنْ « والكوفيون يجيزون حَذْفَ الموصول ، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك . ونقل مكي مذهب الكوفيين هذا ، وقَدَّره عندهم : » ومن الذين قالوا : إنَّ نصارى مَنْ أخذنا « وهذا التقدير لايؤخذ منه أن المحذوف موصول فقط ، بل يجوز أن تكونَ » مَنْ « المقدرةُ نكرةً موصوفةً حُذِفت وبقيت صفتُها ، فيكون كالمذهب الأول . الرابع : أن تتعلِّق » مِنْ « ب » أخذنا « كالوجه الأول ، إلا أنه لا يلزَمُ فيه ذلك التقديرُ ، وهو أن توقع » من الذين « بعد » أخذنا « وقبل » ميثاقهم « ، بل يجوز أن يكون التقدير على العكسِ ، بمعنى أنَّ الضميرَ في » ميثاقهم « يعودُ على بني إسرائيل ، ويكون المصدرُ من قوله » ميثاقهم « مصدراً تشبيهياً ، والتقدير : وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثلَ ميثاق بني إسرائِيل كقولك : » أخَذْتُ من زيد ميثاق عمرو « أي : ميثاقاً مثل ميثاق عمرو ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري فإنه قال : » أَخَذْنا من النصارى ميثاقَ مَنْ ذُكِر قبلَهم من قوم موسى أي : مثل ميثاقِهم بالإِيمان بالله والرسل . الخامس : أنَّ « من الذين » معطوف على « منهم » من قوله تعالى : « ولا تزال تَطَّلِعُ على خائنةٍ منهم أي : من اليهود ، والمعنى : ولا تزال تَطَّلع على خائنةٍ من اليهود ومن الذين قالوا إنَّا نصارى ، ويكون قوله : { ا أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } على هذا مستأنفاً . وهذا ينبغي ألاَّ يجوز لوجهين ، أحدهما : الفصلُ غيرُ المغتفر . والثاني : أنه تهيئةٌ للعامل في شيء وقطعه عنه ، وهو لا يجوز .
قوله : { بَيْنَهُمُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه ظرفٌ ل « أغرينا » . والثاني : أنه حالٌ من « العداوة » فيتعلق بمحذوف ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً للعداوة ، لأنَّ المصدر لا يتقدم معموله عليه . « وإلى يوم القيامة » أجاز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بأغرينا ، أو بالعداوة ، أو بالبغضاء ، أي : أغرينا إلى يوم القيامة بينهم العداوة والبغضاء ، أو أنهم يتعادَون إلى يوم القيامة ، أو يتباغضون إلى يوم القيامة . وعلى مأ أجازه أبو البقاء تكونُ المسألةُ من باب الإعمال ، ويكون قد وُجد التنازع بين ثلاثة عوامل ، ويكون من إعمال الثالث للحذف من الأول والثاني ، وتقدم تحرير ذلك . و « أغرينا » مِنْ أغراه بكذا أي : ألزمه إياه ، وأصلُه من الغِراء الذي يُلْصَقُ به ولامه واو ، فالأصل : أَغْرَوْنا ، وإنما قُلِبت الواو ياء لوقوعها رابعة كأغوينا ، ومنه قولُهم : « سَهْمٌ مَغْرُوُّ » أي معمول بالغِراء ، يقال « غَرِيَ بكذا يَغْرى غَرَاء وغِراء ، فإذا أريد / تعديتُه عُدِّي بالهمزة ، فقيل : » أغريته بكذا « . والضميرُ في » بينهم « يحتمل أن يعود على » الذين قالوا إنَّا نصارى « وأن يعودَ على اليهود المتقدمين الذكر ، وبكلٍ قال جماعةٌ ، وهذا الكلامُ معطوف على الكلام قبله من قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } أي : ولقد أخذ اللّهُ ميثاقَ بين إسرائيل ، وأخذنا مِنَ الذين قالوا .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
قوله تعالى : { يُبَيِّنُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من « رسولنا » أي : جاءكم رسولنا في هذه الحالة . و « ممَّا » يتعلق بمحذوف لأنه صفة ل « كثيراً » و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، و « تُخْفون » صلتُها والعائد محذوف أي : من الذين كنتم تخفونه . « ومن الكتاب » متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من العائد المحذوف . وقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ } لا محلِّ له لاستئنافِه ، والضميرُ في « يبيِّن » و « يَعْفُو » يعود على الرسول ، وقد جَوِّز قوم أَنْ يعودَ على الله تعالى ، وعلى هذا فلا محلِّ لقوله : « يبيِّن » من الإِعراب . ويمتنع أن يكونَ حالاً من « رسولنا » لعدمِ الرابط ، وصفة « كثير » محذوفةٌ للعلم بها تقديرُه : عن كثير من ذنوبكم ، وحَذْفُ الصفة قليل . وقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله } لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها ، و « من الله » يجوز أَنْ يتعلَّق ب « جاء » وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال من « نور » قُدِّمَتْ صفةُ النكرة عليها فنُصِبَتْ حالا .
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قوله
تعالى : { يَهْدِي } : فيه خمسة أوجه ، أظهرها : انه في محل رفع لأنه صفة ثانية ل
« كتاب » وَصَفه بالمفرد ثم بالجملة وهو الأصل . الثاني : أن يكون صفة أيضاً لكن ل
« نور » ذَكَره أبو البقاء ، وفيه نظر ، إذ القاعدة انه إذا اجتمعت التوابعُ
قُدِّم النعتُ على عطف النسق تقول : « جاء زيدٌ العاقلُ وعمرو » ولا تقول : « جاء
زيدٌ وعمرو العاقل » ولأن فيه إلباساً أيضاً . الثالث : أن يكونَ حالاً من « كتاب
» لأنَّ النكرة لَمَّا تخصصت بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة ، وقياسُ قول أبي البقاء
أنه يجوز أن يكونَ حالاً من « نور » كما جاز أن يكون صفة له . الرابع : أنه حال من
« رسولنا » بدلاً من الجملة الواقعة حالاً له وهي قوله « يبين » الخامس : أنه حالٌ
من الضمير في « يبيِّن » ذكرهما أبو البقاء ولا يَخْفى ما فيها من الفصل ، ولأنَّ
فيه ما يُشْبه تهيئة العامل للعمل وقطعَه عنه .
والضميرُ في « به » يعودُ على مَنْ جَعَلَ « يَهْدي » حالاً منه أو صفة له ، قال
أبو البقاء : « فلذلك أُفْرِد ، أي : إنَّ الضمير في » به « أتى به مفرداً ، وقد
تقدَّمه شيئان ، وهما نورٌ وكتابٌ ، ولكنْ لَمَّا قَصَد بالجملة من قوله » يهدي «
الحالَ أو الوصفَ من أحدهما أفردَ الضمير ، وقيل : الضمير في » به « يعودُ على
الرسول . وقيل : يعودُ على السلام ، وعلى هذين القولين لا تكونُ الجملة من قوله »
يهدي « حالاً ولا صفةً لعدم الرابط . و » مَنْ « موصولةٌ أو نكرة موصوفة ، وراعى
لفظَها في قوله » اتَّبع « فلذلك أفرد الضمير ، ومعناها ، فلذلك جَمَعَه في قوله :
{ وَيُخْرِجُهُمْ } .
وقرأ عبيد بن عمير ومسلم بن جندب والزهري : » بهُ « بضمِّ الهاء حيث وقع ، وقد
تقدم أنه الأصل . وقرأ الحسن : » سُبْل « بسكون الباء ، وهو تخفيف قياسي به كقولهم
في » عُنُق « : » عُنْق « ، وهذا أولى لكونه جمعاً ، وهو مفعول ثاني ل » يهدي «
على إسقاط حرف الجر أي : إلى سبل ، وتقدم تحقيق نظيره ، ويجوز أن ينتصب على أنه
بدلٌ من » رضوانه « : إمَّا بدلُ كل مِنْ كل؛ لأن » سبل السلام « هي رضوان الباري
تعالى ، وإمَّا بدل اشتمال لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام ، أو لأنها مشتملة
على رضوان الله تعالى ، وإما بدل بعض من كل ، لأنَّ سبل السلام بعض الرضوان . و »
بإذنه « متعلق ب » يخرجهم « أي بتيسيره أو بأمره ، والباء للحال أي : مصاحبين
لتيسيره ، أو للسببية ، أي : بسببِ امره المنزل على رسوله .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى : { فَمَن يَمْلِكُ } : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملة مقدرة قبلها ، والتقديرُ : قل كذبوا - أوليس الأمر كذلك - فمن يملك؟ وقوله : « من الله » في احتمالان ، أظهرهما : أنه متعلق بالفعل قبله . والثاني : ذَكَره أبو البقاء أنه حال من « شيئاً » يعني من حيث إنه كان صفةً في الأصل للنكرة فقُدِّم عليها فانتصب حالاً ، وفيه بٌعْدٌ أو منعٌ . وقوله : { فَمَنْ } استفهامُ توبيخ وتقرير ، وهو دالٌ على جواب الشرط بعده عند الجمهورِ . وقوله : { وَمَن فِي الأرض } من باب عطف العام على الخاص حتى يبالِغَ في نفي الإِلهية عنهما ، فكأنه نصَّ عليهما مرتين مرة بذكرهما مفردين ، ومرةً باندراجِهما في العموم و « جميعاً » حالٌ من المسيح وأمه ومَنْ في الأرض ، أو من « مَنْ » وحدها لعمومها ، ويجوز أن تكونَ منصوبةً على التوكيد مثل « كل » ، وذكرها بعض النحويين من ألفاظ التوكيد . وقوله : { يَخْلُق } جملةٌ لا محلَّ لها لاستئنافها .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله تعالى : { فَلِمَ } : هذه الفاءُ جوابُ شرط مقدر وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال : « فإن صَحَّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلِمَ تُذْنبون وتُعَذَّبون؟ » ويجوز أن تكون كالفاء قبلها في كونها عاطفة على جملة مقدرة أي : كَذَبْتُمْ فلِمَ يعذبكم؟ والباء في « بذنوبكم » سببية . و « مِمَّن خلق » صفةٌ ل « بشر » فهو في محل رفع متعلق بمحذوف .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى : { يُبَيِّنُ لَكُمْ } : تقدَّم نظيره . وقوله : « على فترة » فيه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه متعلقٌ ب « جاءكم » أي : جاءكم / على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي ، ذكره الزمخشري والثاني : أنه حال من فاعل « يبين » أي : يبين في حال كونه على فترة . والثالث : أنه حال من الضمير المجرور في « لكم » فيتعلَّق على هذين الوجهين بمحذوفٍ . و « من الرسل » صفةٌ ل « فترة » على أن معنى « من » ابتداءُ الغاية أي : فترةٍ صادرة من إرسال الرسل . قوله : { أَن تَقُولُواْ } مفعول من أجله ، فقدَّره الزمخشري : « كراهة أن تقولوا » وأبو البقاء : مخافةَ أن تقولوا ، والأول أَوْلى . وقوله : « يبيِّن » يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعول البتة ، والمعنى : يبذل لكم البيانَ ، ويجوز أن يكون محذوفاً : إمَّا لدلالة اللفظ عليه وهو ما تقدَّم من قوله : { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً } [ المائدة : 15 ] وإمَّا لدلالة الحال أي : يبيِّن لكم ما كنتم تختلفون فيه . « ومن بشير » فاعل ، زِيْدَتْ فيه « مِنْ » لوجود الشرطين و « لا نذير » عطف على لفظه ، ولو قرئ برفعه مراعاةً لموضعه جاز . وقوله : { فَقَدْ جَاءَكُمْ } عطف على جملة مقدرة أي : لا تعتذروا فقد جاءكم . وما بعد هذا من الجمل واضحُ الإِعرابُ لِما تقدم من نظائره .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
قوله تعالى : { على أَدْبَارِكُمْ } : حالٌ من فاعل « ترتدَّوا » أي : لا ترتدَّوا منقلبين ، ويجوز أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله ، وقوله : { فَتَنْقَلِبُوا } فيه وجهان أظهرهما : أنه مجزومُ عطفاً على فعل النهي . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار « أنْ » بعد الفاء في جواب النهي . و « خاسرين » حال . وقرأ ابن محيصن هنا وفي جميع القرآن : { يا قومُ } مضمومَ الميم ، ويُروى قراءةً عن ابن كثير ، ووجهُها أنها لغةٌ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كقراءة : { قل ربُّ احكمْ بالحق } وقد بَيَّنْتُ هذه المسألة قبل ذلك . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : { يا قوميَ ادخلوا } بفتح الياء .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قوله تعالى : { فَإِنَّا دَاخِلُونَ } : أي : فإنَّا داخلون الأرضَ حَذَفَ المفعولَ للدلالة عليه .
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قوله
تعالى : { مِنَ الذين يَخَافُونَ } : هذا الجارُّ والمجرور في محل رفعٍ صفةً ل «
رجلان » ، ومفعولُ « يخافون » محذوفٌ ، تقديرُه : يخافون اللَّهَ أو يخافون
العدوَّ ، ولكن ثَبَّتهما الله تعالى بالإِيمان والثقة به حتى قالوا هذه المقالةَ
، ويؤِّيد التقديرَ الأول التصريحُ بالمفعول في قراءة ابن مسعود : { يخافون الله }
، وهذان التأويلانِ بناءً على ما هو المشهور عند الجمهور مِنْ كَوْنِ الرجلين القائلَيْن
ذلك مِنْ قومَ موسى وهما يُوشع وكالب ، وقيل : الرجلان من الجبارين ، ولكن أنعم
الله عليهما بالإِيمان حتى قالا هذه المقالة يُحَرِّضهم على قومهم لمعاداتهم لهم
في الدين ، وعلى هذا القول فيحتمل أن يكونَ مفعولُ « يخافون » كما تقدَّم ، أي :
يخافون الله أو العدو ، والمعنى كما تقدَّم ، ويحتمل أن يكون المفعول ضميراً
عائداً على الموصول ويكونُ الضميرُ المرفوع في « يخافون » ضميرَ بني اسرائيل ،
والتقدير : من الذين يخافهم بنو اسرائيل ، وأيَّد الزمخشري هذا التأويل بقراءة
مَنْ قرأ « يُخافون » مبنياً للمفعول ، وبقوله أيضاً : { أَنْعَمَ الله
عَلَيْهِمَا } فإنه قال : « وقراءةُ مَنْ قرأ » يُخافون « بالضم شاهدة له ، ولذلك
أنعم الله عليهما ، كأنه قيل : مِنْ المُخَوَّفين » انتهى . والقراءة المذكورة
مرويةٌ عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد ، وأبدى الزمخشري أيضاً في هذه القراءةِ احتمالاً
آخرَ وهو أن تكون من الإِخافة ، ومعناه : من الذين يُخَوَّفُون من الله بالتذكرة
والموعظةِ أو يُخَوِّفهم وعيدُ الله بالعقاب . وتحتملُ القراءةُ أيضاً وجهاً آخر :
وهو أن يكونَ المعنى : « يُخافون » أي : يُهابون ويُوَقَّرون ، ويُرْجَعُ إليهم
لفضلِهم وخيرِهم ، ومع هذين الاحتمالين الأخيرين فلا ترجيحَ في هذه القراءة لكونِ
الرجيلن من الجبارين . وأما قوله : وكذلك « أنعم الله عليهما » أي : في كونه
مرجِّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين فغيرُ ظاهرٍ ، لكون هذه الصفةِ مشتركةً بين
يوشع وكالب وبين غيرِهما مِمَّن أنعمَ الله عليه .
قوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه ، أظهرهم : أنها
صفةٌ ثانيةٌ فمحلُّها الرفعُ ، وجِيء هنا بأفصحِ الاستعمالين من كون قَدَّم الوصفَ
بالجارِّ على الوصف بالجملةِ لقُربه من المفرد . والثاني : أنها معترضةٌ ، وهو
أيضاً ظاهرٌ . الثالث : أنها حالٌ من الضمير في « يَخافون » قاله مكي . الرابع :
أنها حالٌ من « رجلان » وجاءت الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ . الخامس :
أنها حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِّ ، وهو « مِنَ الذين » لوقوعِه
صفةً لموصوف ، وإذا جَعَلْتَها حالاً فلا بُدَّ من إضمارِ « قد » مع الماضي على
خلافٍ سلف في المسألة .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قوله
تعالى : { مَّا دَامُواْ فِيهَا } : « ما » مصدريةٌ ظرفيةٌ ، و « داموا » صلتُها ،
وهي « دام » الناقصةُ ، وخبرُها الجارُّ بعدَه ، وهذا الظرفُ بدل من « أبداً » وهو
بدلُ بعضٍ من كل؛ لأنَّ الأبَدَ يَعُمُّ الزمنَ المستقبل كلَّه ، ودوامُ الجبارين
فيها بعضُه ، وظاهرُ عبارة الزمخشري يحتمل أن يكون بدلَ كل من كل أو عطفَ بيان ،
والعطفُ قد يقع بين النكرتين على كلامٍ فيه تقدَّم ، قال الزمخشري : « وأبداً »
تعليقٌ للنفي المؤكد الدهر المتطاول ، و « ما داموا فيها » بيانُ الأمر « فهذه
العبارة تحتمل أنه بدلُ بعضٍ من كل ، لأنَّ بدلَ البعض من الكل مبيِّنٌ للمراد نحو
: » أكلت الرغيف ثلثه « ويَحْتمل أن يكون بدلَ من كل فإنه بيانٌ أيضاً للأولِ
وإيضاحٌ له ، نحو : » رأيت زيداً أخاك « ، ويحتمل أن يكونَ عطفَ بيان .
قوله : { وَرَبُّكَ } فيه أربعة أوجه ، أحدهما : أنه مرفوع عطفاً على الفاعل
المستتر في » اذهب « وجازَ ذلك للتأكيد بالضمير . الثاني : أنه مرفوعٌ بفعل محذوف
أي : وليذهب ربك ، ويكون من عطف الجمل ، وقد تقدم لي نقلُ هذا القول والردُّ عليه
ومخالفتهُ لنصِّ سيبويه عند قوله تعالى : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [
البقرة : 35 ] . الثالث : أنه مبتدأ والخبرُ محذوفُ والواوُ للحالِ . الرابع : أن
الواوَ للعطفِ وما بعدها مبتدأ محذوفُ الخبرِ أيضاً ، ولا محلَّ لهذه الجملة
لكونِها دعاءً ، والتقدير : وربُّك يعينُك . قوله : » ههنا قاعدون « » هنا « وحدَه
هو الظرف المكاني الذي لا يتصرَّفُ إلا بجرِّه ب » مِنْ « و » إلى « ، و » ها «
قبله للتنبيه كسائر أسماءِ الإِشارة ، وعاملُه » قاعدون « وقد أُجيز أن يكونَ خبرَ
» إنَّ « ، » وقاعدون « خبرٌ ثان وهو بعيدٌ ، وفي غير القرآن إذا اجتمع ظرف يصلح
الإِخبار به مع وصفٍ آخرَ يجوزُ أن يُجْعَلَ الظرفُ خبراً والوصفُ حالاً ، وأن
يكونَ الخبرُ الوصفَ والظرفُ منصوبٌ به كهذه الآية .
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قوله
تعالى : { وَأَخِي } : في ستة أوجه أظهرها : أنه منصوب عطفاً على « نفسي » والمعنى
: ولا أملك إلا أخي مع مِلْكي لنفسي دون غيرنا . الثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على
اسمِ « إنَّ » ، وخبرُه محذوفٌ للدلالة اللفظية عليه أي : وإنَّ أخي لا يملك إلا
نفسَه . الثالث : أنه مرفوعٌ عطفاً على محل اسم « إنَّ » لأنه بعد استكمالِ الخبر
، على خلافٍ في ذلك ، وإن كان بعضُهم قد ادَّعى الإِجماعَ على جوازِه . الرابع :
أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ للدلالة المتقدمة ، ويكون قد عَطَف جملةً غيرَ
مؤكدة على جملة مؤكَّدة ب « إنَّ » الخامس : انه مرفوع عطفاً على الضمير المستكنِّ
في « أملك » ، والتقدير : ولاَ يَمْلِكُ أخي إلا نفسَه ، وجاز ذلك للفصلِ بقوله : {
إِلاَّ نَفْسِي } وقال بهذا الزمخشري ومكي وابن عطية وأبو البقاء وردَّ الشيخ هذا
الوجهَ بأنه يلزم منه أن موسى وهرون لا يملكان إلا نفسَ موسى فقط ، وليس المعنى
على ذلك « . وهذا الردُّ ليس بشيءٍ ، لأنه القائلَ بهذا الوجهِ صرَّح بتقدير
المفعول بعد الفاعل المعطوف ، وأيضاً اللَّبْسُ مأمونٌ ، فإنَّ كلَّ أحدٍ يتبادر
إلى ذهنه انه يملك أمرَ نفسِه . السادس : أنه مجرورٌ عطفاً على الياء في » نفسي «
أي : إلا نفسي ونفسَ أخي ، وهو ضعيفٌ على قواعد البصريين للعطف على الضمير المجرور
مِنْ غيرِ إعادةِ الجارّ وقد تقدَّم ما فيه .
والحسن البصري يقْرأ فتحِ ياء » نفسي « و » أخي « وقرأ يوسف ابن داود وعبيد بن
عمير : » فافرِقْ « بكسرِ الراء وهي لغة : فَرَق يفرِق كيضرِب . قال الراجز :
1714- يا ربِّ فافرُقْ بينه وبيني ... أشدَّ مَا فرَّقْتَ بين اثنَيْنِ
وقرأ ابن السَّمَيْفَع : » فَفرَّقْ « مضعفاً وهي مخالفةٌ للرسم . و » بين «
معمولةٌ ل » افْرُق « ، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تُكَرَّر في العطف ، تقول : المال
بين زيد وعمرو » وإنما كُرِّرت للاحتياج إلى تكرُّرِ الجار في العطف على الضمير
المجرور ، وهو يؤيِّدُ مذهبَ البصريين .
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قوله
تعالى : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ ب «
مُحَرَّمة » فإنه رُوي في القصة أنهم بعد الأربعين دَخَلوها فيكون قد قَيَّد
تحريمَها عليهم بهذه المدةِ ، وأخبر أنهم يتيهون ، ولم يبيِّن كمية التيه ، وعلى
هذا ففي « يتيهون » احتملان ، أحدهما : أنه مستأنفٌ ، والثاني : أنه حالٌ من
الضمير في « عليهم » الوجه الثاني : أنَّ « أربعين » منصوبٌ ب « يتيهون » فيكونُ
قد قَيَّد التيه بالأربعين ، وأمَّا التحريمُ فمطلقٌ ، فيحتمل أن يكونَ مستمراً
وأن يكونَ منقطعاً ، وأنها أُجِّلتْ لهم ، وقد قيل بكلِّ من الاحتمالين ، رُوي أنه
لم يَدْخُلْها أحد مِمَّن كان في التيه ولم يَدْخُلْها إلا أبناؤهُم ، وأما
الآباءُ فماتوا . وما أدري ما الذي حَمَل أبا محمد ابن عطية على تجويزِه أن يكونَ
العاملُ في « أربعين » مضمراً يفسِّره « يتيهون » المتأخر ، ولا ما اضطره إلى ذلك
من مانعٍ صناعي أو معنوي؟ وجوازُ الوقف والابتداء بقوله : « عليهم » و « يتيهون »
مفهومان ممَّا تقدَّم من الإِعراب .
والتِّيه : الحَيْرةُ ، ومنه : « أرضٌ تَيْهاء » لحَيْرة سالكها ، قال :
1715- بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها ... قَطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً
بيوضُها
ويقال : « تاه يتيه » و « هو أَتْيَهُ منه » و « تاه يَتُوه » و « هو أتْوَهُ منه
» فقولُ مَنْ قال : « يتيه » و « تَوَّهْتُه » من التداخل . ومثله « : » طاح « في
كونِه سُمع في عينِه الوجهان ، وأنَّ فيه التداخلَ أيضاً ، فإنَّ مَنْ قال » يطيح
« قال » طَوَّحته « و » هو أَطْوَحُ منه « .
والأسى : الحُزْن ، يقال : أَسِي - بكسر العين - يَأْسَى ، بفتحها ولامُ الكلمة
تحتمل أن تكونَ من واوٍ ، وهو الظاهرُ لقولهم : » رجل أَسْوان « بزنة سَكْران ، أي
: كثير الحزنِ ، وقالوا في تثنية الأسى : أَسَوان ، وإنما قُلبت الواوُ في »
أَسِيَ « ياءً لانكسارِ ما قبلَها ، ويُحْتمل ان تكون ياءً فقد حُكى » رجل أسْيان
« أي : كثيرُ الحزن ، فتثنيتُه على هذا » أَسَيان « .
وعادةُ الناسِ يسْأَلُون هنا سؤالاً : وهو - كما قال الزمخشري - » كيف نُوَفِّقُ
بين قوله تعالى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } وبين قوله : { الَّتِي
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ؟ وأجابَ بوجهين ، أحدُهما : أن يكونَ كَتَبها لهم بشرط
أن يجاهدوا فلم [ يجاهدوا ] ، والثاني : أنَّ التحريم كان مؤقتاً بمدة الأربعين ،
فلما انتهت دَخَلُوها/ .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قوله
تعالى : { بالحق } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه حال من فاعل « اتلُ » أي :
اتلُ ذلك حالَ كونِك ملتبساً بالحق أي : بالصدق .
الثاني : أنه حالٌ من مفعولِه وهو « نبأ » أي : اتلُ نبأَهما ملتبساً بالصدق
موافقاً لِما في كتب الأولين لتثبتَ عليهم الحجةُ برسالتك . الثالث : أنه صفةٌ
لمصدرِ « اتلُ » أي : اتل ذلك تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ والصدق ، وكأنه اختيار
الزمخشري إذ به بدأ ، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ فالباء للمصاحبة ، وهي متعلقةٌ
بمحذوفٍ . وقرأ أبو عمرو بسكون الميم من « آدم » قبل باءِ « بالحق » ، وكذا كلُّ
ميمٍ قبلها متحركٌ وبعدها باءٌ .
قوله : { إِذْ قَرَّبَا } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وبه بدأ الزمخشري وأبو
البقاء - أن يكونَ متعلقاً بنفسِ النبأ ، أي : قصتُهما وحديثهما في ذلك الوقتِ ،
وهذا واضحٌ . الثاني : أنه بدلٌ من « نبأ » على حذف مضافٍ تقديرُه : واتلُ عليهم
النبأَ نبأَ ذلك الوقتِ ، كذا قَدَّره الزمخشري . قال الشيخ : « ولا يجوزُ ما
ذَكَر لأنَّ » إذ « لا يُضافُ إليهما إلا الزمانُ ، و » نبأ « ليس بزمان . الثالث
: ذكَره أبو البقاء - أنه حالٌ من » نبأ « وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، لكن هذا
الوجهَ غيرُ واضحٍ ، قال أبو البقاء : » ولا يكونُ ظرفاً ل « اتلُ » قلت : لأنَّ
الفعلَ مستقبل و « إذ » وقتٌ ماضٍ فيكف يتلاقيان؟
والقُرْبان : فيه احتملان ، احدُهما : وبه قال الزمخشري - أنه اسمٌ لِما
يُتَقَرَّب به ، قال : « كما أنَّ الحُلْوان اسم ما يُحَلِّي أو يُعْطي يقال : »
قَرَّبَ صدقةً وتقرَّب بها « لأن » تقرَّب « مطاوعُ » قَرَّب « قال الأصمعي : »
تَقَرَّبوا قِرْفَ القِمَع « فيُعَدَّى بالباء حتى يكون بمعنى قَرَّب » أي :
فيكونُ قوله : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } يَطْلُبُ مطاوعاً له ، فالتقدير : إذ
قَرَّباه فتقرَّبا به ، وفيه بُعْدٌ . قال الشيخ : « وليس » تقرَّب بصدقة « مطاوع
» قَرَّب صدقة « لاتحاد فاعلِ الفعلين ، والمطاوعةُ يختلف فيها الفاعل يكونُ من
أحدِهما فعلٌ ومن الآخر انفِعال نحو : كَسَرْتُه فانكسر وفَلَقْتُه فانقلق ، فليس
قَرَّب صدقته وتقرَّب بها من هذا الباب ، فهو غلط فاحش » . وفيما قاله الشيخ نظرٌ
، لأنَّا لا نسَلِّم هذه القاعدة . والاحتمال الثاني : أن يكونَ في الأصلِ مصدراً
ثم أُطلق على الشيء المتقرَّب به كقولهم : « نَسْج اليمن » و « ضَرْب الأمير »
ويؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنَّ والموضعُ موضعُ تثنية؛ لأنَّ كلاً من قابيل وهابيل له
قُرْبان يَخُصُّه ، فالأصلُ : إذ قَرَّبا قربانين وإنما لم يُثَنَّ لأنه مصدرٌ في
الأصل . وللقائل بانه اسمُ ما يُتَقَرَّب [ به ] لا مصدرٌ أن يقولَ : إنما لم
يُثَنَّ ، .
لأنَّ
المعنى - كما قاله أبو علي الفارسي - إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قرباناً كقوله
تعالى : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي : كلَّ واحدٍ منهم .
وقوله : { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } أي : قال الذي لم يُتَقَبَّلْ منه للمقبول منه .
وقرأ الجمهور : « لأقتلنَّك » بالنون الشديدة . وهذا جوابُ قسم محذوف ، وقرأه زيد
بالخفيفة . قال : إنما يتقبَّل الله « مفعولُه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي :
قرابينَهم وأعمالَهم ، ويجوز ألاَّ يُراد له مفعول كقوله : { فَأَمَّا مَنْ أعطى
واتقى } [ الليل : 5 ] هذه الجملة قال أبو محمد بن عطية : » قبلها كلامٌ محذوف ،
تقديره : لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أَجْنِ شيئاً ولا ذنبَ لي في تقبُّل الله قرباني
دونَ قربانِك؟ « وذكَر كلاماً كثيراً . وقال غيرُه : » فيه حذْفٌ يَطُول « وذكرَ
نحوه ، ولا حاجة إلى تقدير ذلك كلِه ، إذ المعاني المفهومةُ من فَحْوى الكلام إذا
قُدِّرَتْ قصيرةً كان أحسنَ ، والمعنى هنا : قال لأقلنك حسداً على تقبُّل قربانك
فعرّض له بأنَّ سببَ التقبُّل التقوى . وقال الزمخشري : » فإنْ قلت : كيف كان
قولُه : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جواباً لقوله : « لأقتلنَّك
»؟ قلت : لَمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تقبُّل قربانه هو الذي حَمَله على
توعُّدِه بالقتل ، قال : إنما أُتيت مِنْ قِبل نفسك لانسلاخِها من لباس التقوى «
انتهى . وهذا ونحوه من تفسير المعنى لا الإِعراب . وقيل : إن هذه الجملةَ اعتراضٌ
بين كلام القاتل وبين كلام المقتول . والضمير في » قال « إنما يعود على الله تعالى
، أي : قال الله ذلك لرسوِله فيكونُ قد اعترضَ بقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
الله } بين كلامِ قابيل وهو : » قال لأقتلنَّك « وبين كلامِ هابيل ، وهو » لئن
بَسَطْتَ « إلى آخره ، وهو في غاية البُعْد لتنافِرِ النظم .
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
واللامُ
في قوله : { لَئِن } : هي الموطئةُ . وقوله : { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جوابُ
القسم المحذوف ، وهذا على القاعدة المقرَّرة من أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب
سابقُهما إلا في صورته تقدَّم التنبيه عليها .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ جاء الشرطُ بلفظِ الفعلِ ، والجزاء بلفظِ اسمِ
الفاعلِ وهو قوله : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ
بِبَاسِطٍ } ؟ قلت : ليفيدَ أنه لا يفعلُ هذا الوصفَ الشنيعَ ، ولذلك أكَّده
بالباء المفيدة لتأكيد النفي » وناقشه الشيخ في قوله : { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } «
جزاءٌ للشرط » قال : « لأنَّ هذا جوابٌ للقسمِ لا للشرطِ » قال : « لأنه لو كان
جواباً للشرطِ لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه منفياً ب » ما « والأداةُ جازمةٌ ، ولَلَزِم
أيضاً خَرْمُ تلك القاعدة ، وهو كونُه لم / يُجَبِ الأسبقُ منهما » وهذا ليس بشيء
لأن أبا القاسم سَمَّاه جزاء للشرط لَمَّا كان دالاً على جزاء الشرط ، ولا نكير في
ذلك ، مُغْرَى بأَنْ يُقال : قد اعترض على الزمخشري : وقال أيضاً : « وقد خالفَ
الزمخشري كلامَه هنا بما ذكَره في البقرة في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } [
الآية : 145 ] من كونِه جَعَله جواباً للقسم ساداً مسدَّ جوابِ الشرط ، وله معه
هناك كلامُ قد قَدَّمته عنه في موضعِه فَلْيُراجَعْ .
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ } : فيه ثلاثة تأويلات ، أحدها : أنه على حَذْفِ همزةِ الاستفهام ، وتقديرُه : أإني أريد ، وهو استفهام إنكارٍ لأنَّ إرادة المعصيه قبيحةٌ ، ومن الأنبياء أقبحُ؛ فهم معصومون عن ذلك ، ويؤيِّد هذا التأويل قراءةُ مَنْ قرأ : « أنَّي أريد » بفتح النون وهي أنَّى التي بمعنى « كيف » أي : كيف أريد ذلك . والثاني : أنَّ « لا » محذوفة تقديره : إني أريدُ أن لا تبوء كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] أي : أن لا تضلوا ، وأَنْ لا تميد ، وهو مستفيضٌ ، وهذا أيضاً فرارٌ من إثبات الإِرادة له . وضَعَّفَ بعضهم هذا التأويلَ بقوله عليه السلام : « لا تُقْتَلُ نفسٌ ظلماً إلا كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْلٌ من دمِها؛ لأنه أولُ مَنْ سَنَّ القتل » فثبت بهذا أنَّ الإِثم حاصلٌ ، وهذا الذي ضَعَّفَه به غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ قائل هذه المقالة يقول : لا يلزم من عدمِ إرادته الإِثمَ لأخيه عدمُ الإِثم ، بل قد يريد عدَمَه ويقع . والثالث : أن الإِرادة على حالِها ، وهي : إمَّا إرادةٌ مجازية أو حقيقةٌ على حَسَبِ اختلاف أهلِ التفسير في ذلك ، وجاءت إرادةُ ذلك به لمعانٍ ذكروها ، مِنْ جملتها أنه ظَهَرَتْ له قرائنُ تَدُلُّ على قرب أجلِه وأنَّ أخاه كافر وإرادةُ العقوبةِ بالكافرِ حسنةٌ . وقولُه : « بإثمي » في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « تَبُوء » أي : ترجعُ حاملاً له وملتبساً به ، وتقدَّم نظيرُه في قوله { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } [ البقرة : 90 ] . وقالوا : للا بُدَّ من مضافٍ ، فقدَّره الزمخشري : « بمثلِ إثْمي » قال : « على الاتساعِ في الكلام كما تقول : قرأتُ قراءة فلانٍ ، وكتبت كتابتَه » وقَدَّره بعضُهم : بإثم قتلي . وقوله : { وَذَلِكَ جَزَآءُ } يَحْتَمل أَنْ يكونَ من كلامِه وأن يكونَ مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى .
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
قوله
تعالى : { فَطَوَّعَتْ } : الجمهورُ على « طَوَّعت » مشددَ الواو من غير ألفٍ
بمعنى « سَهَّلَتْ وبعثت » قال الزمخشري : « وسَّعَتْه وَيسَّرَتْه من » طاع له
المرتعُ « إذا اتسع » انتهى . والتضعيفُ فيه للتعدية لأنَّ الأصلَ : طاعَ له قتلُ
أخيه ، أي : انقادَ ، من الطواعية فَعُدِّي بالتضعيف ، فصار الفاعلُ مفعولاً
كحالِه مع الهمزة . وقرأ الحسن وزيد بن علي وجماعةٌ كثيرة : « فطاوعت » ، وأبدَى
الزمخشري فيها احتمالين ، أحدُهما : أن يكونَ مِمَّا جاء فيه فاعَلَ لغير مشاركه
بين شيئين ، بل بمعنى فَعَّل نحو : ضاعفتُه وضَعَّفْته وناعمته ونَعَمْتُه ، وهذان
المثالان من أمثلةِ سيبويه ، قال : « فجاؤوا به على مثال عاقَبْتُه » قال : « وقد
تجيء فاعَلْتُ لا تريد بها عملَ اثنين ، ولكنهم بَنَوا عليه الفعلَ كما بَنَوه على
أَفْعَلْتُ » وذكر أمثلةً منها « عافاه الله » وقَلَّ مَنْ ذَكَر أنَّ فاعَلَ
يَجيءُ بمعنى فَعَّلْتُ . والاحتمال الثاني : أن تكن على بابها من المشاركة وهو
أنَّ قَتْلَ أخيه كأنه دعا نفسَه إلى الإِقدامِ عليه فطاوَعَتْه « انتهى . وإيضاحُ
العبارةِ في ذلك أَنْ يُقال : جَعَل القتلَ يدعو إلى نفسه لأجل الحَسَدِ الذي لحق
قابيل ، وجَعَلَتِ النفسُ تَأْبى ذلك وتشمئز منه ، فكلُّ منهما - أعني القتلَ
والنفسَ - كأنه يريد من صاحبه أن يطيعَه إلى أن غَلَب القتلُ النفسَ فطاوعته .
و » له « متعلقٌ ب » طَوَّعت « على القراءتين . قال الزمخشري : و » له « لزيادة
الربط ، كقولك : حَفِظْتُ لزيدٍ مالَه » يعني أنه الكلام تام بنفسه لو قيل :
فَطَوَّعَتْ نفسُه قتلَ اخيه ، كما كانَ كذلك في قولك « حَفِظْتُ مالَ زيد » فأتى
بهذه اللامِ لقوةِ ربطِ الكلام . وقال أبو البقاء « وقال قوم : طاوَعَتْ تتعدَّى
بغير لام ، وهذا خطأ ، لأنَّ التي تتعدى بغير اللام تتعدَّى لمفعولٍ واحد ، وقد
عَدَّاه هنا إلى قَتْل أخيه ، وقيل : التقدير : طاوعَتْه نفسُه على قَتْلِ أخيه ،
فزادَ اللامَ وحَذَفَ » على « أي : زاد اللام في المفعولِ به وهو الهاء ، وحَذَفَ
» على « الجارَّة ل » قتل أخيه « .
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله
تعالى : { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي } : هذه اللامُ يجوز فيها وجهان ، أحدهما :
انها متعلقةٌ ب « يبحث » أي : يَنْبُشُ ويُثير الترابَ للإِراءة ، الثاني : انها
متعلقةٌ ب « بَعَثَ » ، و « كيف » معمولةٌ ل « يُوارِي » ، وجملةُ الاستفهامِ
معلقةٌ للرؤيةِ البصريةِ ، فهي في محلِّ المفعولِ الثاني سادةٌ مسدَّه ، لأن « رأى
» البصرية قبل تعدِّيها بالهمزةِ متعديةٌ لواحد فاكتسبت بالهمزةِ آخرَ ، وتقدَّم
نظيرُها في قوله : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ]
والسَّوْءَةُ هنا المرادُ بها ما الا يَجُوز أن ينكشِفَ مِنْ جسِده ، وهي الفضيحة
أيضاً قال :
1716- . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يالقَومي لِلسَّوْءَة السَّوْآءِ
ويجوزُ تخفيفُها بإلقاءِ حركةِ الهمزة على الواوِ وهي قراءةُ الزهري ، وحينئذ فلا
يجوزُ قَلْبُ هذه الواوِ ألفاً وإنْ صَدَقَ علَيها أنها حرفُ علةٍ متحركٌ منتفحُ
ما قبلَه ، لأنَّ حركتَها عارضةٌ ، ومثلُها : « جَيَلَ » « وتَوَم » مخفَّفَيْ
جَيْئَل وتَوْءَم ، يجوزُ أيضاً قلْبُ هذه الهمزةِ واواً ، وإدغام ما قبلها فيها
تشبيهاً للأصلي بالزائد وهي لغةٌ ، يَقُولون في « شيء » و « ضوء » : شيّ ، وضوّ ،
قال :
1717- وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً ... مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا
وبهذا الوجهِ قرأ أبو جعفر .
قوله : { يَاوَيْلَتَا } قلب ياءَ المتكلم ألفاً وهي لغةٌ فاشية في المنادى
المضافِ إليها ، وهي إحدى اللغاتِ الست ، وقد تقدَّم ذكرها ، وقُرئ كذلك على الأصل
، وهي قراءةُ الحسن البصري . والنداء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإِقبالُ
وهم العقلاءُ ، إلا أن العرب تتجَوَّز فتنادي ما لا يعقل ، والمعنى : يا ويلتي
احْضُري فهذا أوانُ حضورك ، ومثله : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] / ، و {
ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] . وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو في
رواية الدوري ألف « حسرتا » والجمهورُ قرأ « أعَجْزْتَ » بفتح الجميم وهي اللغة
الفصحية يقال : « عَجَزت » - بالفتح في الماضي - « أعجِزُ » بكسرِها في المضارع .
وقرأ الحسن والفياض وابن مسعود وطلحة بكسرها وهي لُغَيَّةٌ شاذة ، وإنما المشهور
أن يقال : « عَجِزت المرأة » بالكسر ، أي كَبُرت عجيزتُها . و « أن أكون » على
اسقاطِ الخافضِ أي عَنْ أكونَ ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور .
قوله : { فَأُوَارِيَ } قرأ الجمهورُ بنصب الياء ، وفيها تخريجان أصحُّهما : أنه
عطفٌ على « أكونَ » المنصوبةِ « ب » أَنْ « منتظماً في سلكه أي : أعجَزْت عن كوني
مشبهاً للغراب فموارياً . والثاني : - ولم يذكر الزمخشري غيره - أنه منصوبٌ على
جواب الاستفهام في قوله : » أعجَزْتُ يعني فيكونُ من باب قوله : { فَهَل لَّنَا
مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] وهذا الذي ذكره أبو القاسم
رَدَّه أبو البقاء بعد أن حكاه عن قوم ، قال : « وذَكَر بعضُهم أنه يجوزُ أن
ينتصِبَ على جواب الاستفهام وليس بشيء ، إذ ليس المعنى : أيكونُ مني عجزٌ فمواراةٌ
، ألا تَرى أنَّ قولَك : » أين بيتُك فأزورَك « معناه : لو عَرَفْتُ لزرتُ ، وليس
المعنى هنا لو عَجَزت لَوارَيْتَ » قلت : وهذا الردُّ على ظاهرِه صحيحٌ ، وبَسْطُ
عبارةِ أبي البقاء أنَّ النحاةَ يشترطون في جوازِ نَصْبِ الفعلِ بإضمار « أنْ »
بعد الأشياء الثمانية - غير النفي - أن ينحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجزاء ، فإنْ
انعقدَ منه شرطٌ وجزاءٌ صَحَّ النصبُ ، وإلاَّ امتنعَ ، ومنه : « أين بيتك فأزورَك
» [ أي : ] إن عَرَّفْتَني بيتك أزرُك ، وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجزاء
لفسدَ المعنى ، إذ يصير التقديرُ : إنْ عَجَزْت وارَيْتَ ، وهذا ليس بصحيح ، لأنه
إذا عَجَز كيف يواري .
وردَّ
الشيخ على أبي القاسم بما تقدَّم ، وجعله غلطاً فاحِشاً ، وهو مسبوقٌ إليه كما
رأيت ، فأساءَ عليه الأدبَ بشيءٍ نقله عن غيرِه ، اللَّهُ أعلمُ بصحتِه .
وقرأ الفياضُ بن غزوان وطلحة بن مصرف بسكون الياء ، وخَرَّجَها الزمخشري على أحدِ
وجهين : إمَّا القطعِ ، أي : فأنا أواري ، وإمَّا على التسكين في موضعِ النصب
تخفيفاً . وقال ابن عطية : « هي لُغَيَّةٌ لتوالي الحركاتِ » قال الشيخ : « ولا
يَصِحُّ أَنْ تعلل القراءة بهذا ما وُجِد عنه مندوحةٌ ، إذ التسكينُ في الفتحة لا
يجوزُ إلا ضرورةً ، وأيضاً فلم تتوالَ حركاتٌ » .
وقوله : { فَأَصْبَحَ } بمعنى صار ، قال ابنُ عطية : « قوله : » فأصبح « عبارةٌ عن
جميعِ أوقاته أٌقيم بعضُ الزمانِ مُقامَ كله ، وخُصَّ الصباحُ بذلك لأنه بَدْءُ
النهارِ والانبعاثِ إلى الأمور ومَظَنَّةُ النشاط ، ومنه قولُ الربيع :
1718- أصبحتُ لا أحملُ السلاح ولا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولُ سعد بن أبي وقاص : » ثم أَصْبحت بنو أسد تعذرني على الإِسلام « إلى غير ذلك
» . قال الشيخ : « وهذا التعليلُ الذي ذكره لكونِ » أصبح « عبارةً عن جميعِ أوقاته
وإنما خُصَّ الصباحُ لكونِه بدءَ النهار ليس بجيدٍ ، لأنَّ العربَ استعملت أضحى
وبات وأمْسى بمعنى صار ، وليس شيءٌ منها بدءَ النهار » وكيف يَحْسُنُ أَنْ يرُدَّ
على أبي محمد بمثل هذا؟ وهو لم يَقُلْ إنها لَمَّا أُقيمت مُقامَ أوقاتِه للعلةِ
التي ذَكَرها تكونُ بمعنى صار حتى يلزمَ بأخواتِها ما نقضه عليه .
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله
تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذلك } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه متعلق ب « كتبنا » ، و
« ذلك إشارةٌ إلى القتل ، والأجْلُ في الأصل هو الجناية ، يقال : أَجَلَ الأمر
إجْلاً وأَجْلاً بفتح الهمزة وكسرها إذا جَناه وحدَه ومنه قولُ زهير :
1719- وأهلِ خباءٍ صالحٍ ذاتُ بينِهم ... قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجِلُهْ
أي : جانيه ، ومعنى قول الناس : » فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك « أي : بسببك ، يعني
مِنْ أَنْ جَنَيْتَ فَعْلَه وأوجبته ، وكذلك قولهم : » فَعَلْتُه من جَرَّائك «
أصله مِنْ أَنْ جَرَرْتُه ، ثم صار يستعمل بمعنى السبب ، ومنه الحديث : » مِنْ
جَرَّاي « أي من أجلي . و » من « لابتداء الغاية أي : نشأ الكَتْبُ وابتدأ من
جناية القتل ، ويجوزُ حَذْفُ » مِنْ « واللام وانتصابُ » أَجْل « على المفعول له
إذا استكمل الشروط ، قال :
1720- أَجْلَ أنَّ اللّهَ قد فَضَّلكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
والثاني - أجازَه بعضُ الناس - أن يكونَ متعلقاً بقوله : » مِن النادمين « أي :
ندم من أجل ذلك : أي : قَتْلِه أخاه ، قال أبو البقاء : » ولا تتعلق ب « النادمين
» لأنه لا يحسن الابتداء ب « كتبنا » هنا ، وهذا الرد غير واضح ، وأين عدمُ الحسنِ
بالابتداء بذلك . ؟ ابتدأ الله إخباراً بأنه كَتَب ذلك ، والإِخبارُ متعلق بقصة
ابنَيْ آدم ، إلا أنَّ الظاهرَ خلافُه كما تقدم .
والجمهورُ على فتح همزة « أجل » ، وقرأ أبو جعفر بكسرها ، وهي لغة كما تقدم ،
ورُوي عنه حذفُ الهمزة وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون « من » ، كما ينقل ورش
فتحتها إليها . والهاء في « أنه » ضمير الأمر والشأن ، و « مَنْ » شرطيةٌ مبتدأ ،
وهي خبرُها في محل رفع خبراً ل « أن » . قوله : « بغير نفسٍ » فيه وجهان ، أحدهما
: أنه متعلق بالقتل قبلها . والثاني : أنه في محلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في «
قَتَل » أي : قتلها ظالماً ، ذكره أبو البقاء .
قوله : { أَوْ فَسَادٍ } الجمهور على جره ، عطفاً على « نفس » المجرور بإضافةِ «
غير » إليها . وقرأ الحسن بنصبه ، وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوبٌ على المفعولِ
به بعاملٍ مضمرٍ يَليقُ بالمحلِّ أي : أو أتى - أو عمل - فساداً والثاني : أنه
مصدرٌ ، والتقدير : أو أَفْسَدَ فساداً بمعنى إفساداً ، فهو اسمُ مصدرٍ كقوله :
1721- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعد عطائِكَ المئةَ
الرِّتاعا
ذكره أبو البقاء و « في الأرض » متعلقٌ بنفس « فساد » لأنك تقول : « افسد في الأرض
» إلا في قراءةِ الحسن بنصبه ، وخَرَّجناه على النصب على المصدريةِ - كما ذكره أبو
البقاء - فإنه لا يتعلَّقُ به ، لأنه مصدر مؤكد فقد نَصُّوا على أن المؤكِّدة لا
يعمل ، فيكون « في الأرض » متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل « فساداً » والفاء في :
« فكأنما » في الموضعين جواب الشرط واجبةُ الدخولِ ، و « ما » كافةٌ لحرفِ التشبيه
، والأحسن / أَنْ تُسَمَّى هنا مهيئةً لوقوعِ الفعلِ بعدها .
و
« جميعاً » إمَّا حال أو توكيد .
قوله : { بَعْدَ ذلك فِي الأرض } هذا الظرفُ والجارُّ بعده يتعلقان بقولِه : «
لمُسْرِفون » الذي هو خبر « إنَّ » ولا تَمْنَعُ من ذلك لامُ الابتداء فاصلةً بين
العامل ومعمولِه المتقدِّم عليه ، لأنَّ دخولها على الخبر على خلافِ الأصل ، إذ
الأصلُ دخولُها على المبتدأ ، وإنما مَنَع منه دخولُ « إنَّ » و « ذلك » إشارةٌ
إلى مجيء الرسل بالبينات .
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين } : مبتدأٌ ، وخبرُه : « أن يُقَتَّلوا » وما
عُطف عليه ، أي : إنما جزاؤهم التقتيل أو التصليب أو النفي . وقوله : {
يُحَارِبُونَ الله } أي : يحاربون أولياءَه ، كذا قَدَّره الجمهور . وقال الزمخشري
: « يحاربون رسولَ الله ، ومحاربةُ المسلمين في حكم محاربته » يعني أنَّ المقصودَ
أنْ يخبرَ بأنهم يحاربون رسولَ الله ، وإنما ذَكَر اسمَ الله تبارك وتعالى تعظيماً
وتفخيماً لِمَنْ يُحارَبُ ، كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ الله } وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وتقديرُه عند قوله : { يُخَادِعُونَ
الله والذين آمَنُوا } [ البقرة : 9 ] . وقيل : معنى المحاربةِ المخالفةُ
لأحكامهما ، وعلى هذه الأوجهِ لا يلزَمُ في قوله تعالى : { يُحَارِبُونَ الله
وَرَسُولَهُ } الجمعُ بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، ومَنْ يُجِزْ ذلك لم يحتجْ
إلى تأويلٍ من هذه التأويلات ، بل يقول : تُحْمَلُ محاربتُهم لله تعالى على معنى
يليق بها وهي المخالفة مجازاً ، ومحاربتُهم لرسولِ على المقاتلة حقيقة .
قوله : { فَسَاداً } في نصبه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه مفعول من أجلِه أي :
يحاربُون ويَسْعون لأجل الفاسد ، وشروطُ النصبِ موجودة الثاني : أنه مصدرٌ واقعٌ
موقعَ الحال ، أي : ويسعون في الأرض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جُعِلوا نفسَ
الفساد مبلغة ، ثلاثةٌ مذاهبَ مشهورةٌ تقدَّم تحريرها . الثالث : أنه منصوبٌ على
المصدر اي : إنه نوع من العامل قبله ، فإن معنى « يَسْعَون » هنا يفسدون ، وفي
الحقيقة ففساد اسمُ مصدر قائمٌ مقامَ الإِفساد ، والتقدير : ويُفْسِدون في الأرض
بسعيهم إفساداً . « وفي الأرض » الظاهرُ أنه متعلق بالفعل قبله ، كقوله : { سعى
فِي الأرض لِيُفْسِدَ } [ البقرة : 205 ] ، وقد أُجيز أن يكونَ في محل نصب على الحال؛
لأنه يجوزُ أَنْ لو تأخَّرت عنه ان يكونَ صفةً له ، وأُجيز أيضاً أن يتعلق بنفس «
فساداً » وهذا إنما يتمشَّى إذا جَعَلْنا « فساداً » حالاً ، أما إذا جَعَلْناه
مصدراً امتنع ذلك لتقدُّمه عليه ، ولأنَّ المؤكِّد لا يعمل . وقرأ الجمهور : «
أَنْ يُقَتَّلوا » وما بعده من الفعلين بالتثقيل ، ومعناه التكثير بالنسبة إلى
مَنْ تقعُ به هذه الأفعالُ . وقرأ الحسن وابن محيصن بتخفيفِها .
قوله : « من خِلافٍ » في محلِّ نصب على الحال من « أيديهم » و « أرجلُهم » أي
بقَطْعٍ مختلِف ، بمعنى أن تُقْطَعَ يَدُه اليمنى ورجلُه اليسرى . والنفي : الطرد
، والأرض : المراد بها هنا ما يريدون الإِقامة بها ، أو يُرادُ مِنْ أرضهم ، وأل
عوضٌ من المضاف إليه عند مَنْ يراه . قوله : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } : «
ذلك » [ إشارةٌ إلى الخبر المتقدم أيضاً ] ، وهو مبتدأُ . وقوله : { لَهُمْ خِزْيٌ
} فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكونَ « لهم » خبراً مقدماً ، و « خِزْيٌ » مبتدأ
مؤخراً و « في الدنيا » صفةً له ، فيتعلَّق بمحذوف ، أو يتعلق بنفس « خزي » على
أنه ظرفُه ، والجملةُ في محل رفع خبراً ل « ذلك » الثاني : أن يكون « خزي خبراً ل
» ذلك « ، و » لهم « متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من » خِزْي «؛ لأنه في الأصلِ
صفةٌ له ، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً .
وأما « في الدنيا » فيجوزُ فيه الوجهان المتقدمان مِنْ كونِه صفةً ل « خزي » أو متعلقاً به ، ويجوز فيه أن يكونَ متعلقاً بالاستقرار الذي تعلَّق به « لهم » الثالث : أنه يكونَ « لهم » خبراً ل « ذلك » و « خزي » فاعل ، ورَفَع الجارُّ هنا الفاعلَ لَمَّا اعتمد على المبتدأ ، و « في الدنيا » على هذا فيه الأوجهُ الثلاثة .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء من المحاربين ، وللعلماءِ خلافٌ في التائبِ من قطاع الطريق : هل تسقط عنه العقوبات كلها أو عقوبةُ قطعِ الطريق فقط ، وأما ما يتعلق بالأموال وقَتْلِ الأنفس فلا تَسْقُطُ ، بل حكمُه إلى صاحب المال وولي الدم؟ والظاهر الأول . الثاني : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : { أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والعائدُ محذوف أي غفور لهم ، ذكر هذا الثاني أبو البقاء ، وحينئذ يكون استثناء منقطعاً بمعنى : لكن التائب يُغفر له .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
قوله تعالى : { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } : في « إليه » ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه متعلقٌ بالفعل قبله . الثاني : أنه متعلقٌ بنفس الوسيلة . قال أبو البقاء : « لأنها بمعنى المتوسَّل به ، فلذلك عِمَلَتْ فيها قبلها » يعني أنها ليسَتْ بمصدرٍ حتى يمتنَع أَنْ يتقدَّم معمولُها عليها . الثالث : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « الوسيلة » وليسَ بذاك .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
قوله
تعالى : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } : قد تقدَّم الكلامُ على « أنَّ » الواقعة بعد « لو
» وأنَّ فيها مذهبين ، و « لهم » خبر ل « أَنَّ » و « ما في الأرض » اسمُها ، «
وجميعاً » توكيد له أو حالٌ منه . و « مثلَه » في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه
عطفٌ على اسم « أنَّ » وهو « ما » الموصولة . والثاني : أنه منصوبٌ على المعية وهو
رَأْيُ الزمخشري وسيأتي ما يَرِدُ على ذلك والجوابُ عنه . و « معه » ظرفٌ موقعَ
الحال ، واللام في « ليفتدوا » متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو « لهم »
و « به » و « مِنْ عذاب » متعلِّقان بالافتداءِ ، والضميرُ في « به » عائدٌ على «
ما » الموصولة ، وجيء بالضمير مفرداً وإنْ تقدَّمه شيئان وهما : « ما في الأرض » و
« مثلَه » إمَّا لتلازُمِهما ، فهما في حكمٍ شيء واحد ، وإمَّا لأنه حذف من الثاني
لدلالةِ ما في الأول عليه كقولهِ :
1722- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
أي : لو أنَّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به ، وإمَّا لإِجراء
الضمير مُجْرى اسم الإِشارة كقوله :
1723- كأنَّه الجِلْدِ . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد تقدَّم في البقرة
. و « عذاب » بمعنى تعذيب ، وبإضافته إلى « يوم » خَرج « يوم » عن الظرفية . و «
ما » نافيةٌ ، وهي جوابُ « لو » / وجاء على الأكثر من كونِ الجوابِ المنفيِّ بغير
لام ، والجملةُ الامتناعية في محل رفعٍ خبراً ل « إنَّ » .
وجَعَل الزمخشري توحيدَ الضيمرِ في « به » لمَدْركٍ آخرَ ، وهو أن الواوَ في «
ومثلَه » واوُ « مع » ، قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : « ويجوز أن تكونَ
الواوُ في » ومثلَه « بمعنى » مع « فيتوحَّد المرجوع إليه . فإن قلت : فبِمَ
يُنْصَبُ المفعول معه؟ قلت : بما تستدعيه » لو « من الفعل ، لأن التقدير : لو ثبت
أن لهم ما في الأرض » يعني أن حكمَ ما قبل المفعول معه في الخبر والحالِ وعودِ
الضمير حكمُ لو لم يكن بعده مفعولٌ معه ، تقول : « كنتُ وزيداً كالأخ » قال :
1724- وكان وإيَّاها كحَرًَّان لم يُفِقْ ... عن الماءِ إذ لاقَاه حتى تَقَدَّدا
فقال : « كحَرَّان » بالإِفراد ، ولم يَقُلْ « كحرَّانَيْنِ » وتقول : « جاء زيد
وهنداً ضاحكاً في داره » وقد أجاز الأخفش أن يُعْطَى حكمَ المتعاطفين ، يعني
فيطابقُ الخبرَ ، والحالُ والضميرُ له ولما بعده ، فتقول : « كنتُ وزيداً كالأخوين
» . قال بعضُهم : « والصحيحُ جوازُه على قلة » .
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم وطَوَّل معه ، فلا بُدَّ من نَقْل نَصِّه قال : « وقولُ الزمخشري : » ويجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ بمعنى « مع » لأنه يصيرُ التقدير : مع مثلِه معه أي : مع مثلِ ما في الأرض مع ما في الأرض ، إنْ جَعَلْتَ الضميرَ في « معه » عائداً على « ما » يكون « معه » حالاً من مثلَه « ، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثلُه معه ضرورةً ، فلا فائدة ي ذِكْر » معه « لملازمةِ معيَّة كلٍّ منهما للآخر ، وإنْ جَعَلْتَ الضمير عائداً على » مثله « أي : مع مثلِه مع ذلك المثلِ ، فيكونُ المعنى مع مثلين ، فالتعبير في هذا المعنى بتلك العبارة عِيُّ ، إذ الكلامُ المنتظمُ أَنْ يكونَ التركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْه ، وقول الزمخشري : » فإنْ قلت « إلى آخرِ الجواب هذا السؤالُ لايَرِدُ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن تكونَ الواو واوَ مع ، وعلى تقديرِ ورودِه فهذا بناءً منه على أن » أنَّ « إذا جاءت بعد » لو « كانت في محل رفع بالفاعلية ، فيكون التقدير على هذا : لو ثبت كينونةُ ما في الأرض مع مثلِه لهم ليفتدوا به ، فيكونُ الضمير عائداً على » ما « فقط . وهذا الذي ذكره هو تفريعٌ منه على مذهب المبرد في أنَّ » أنَّ « بعد » لو « في محلِّ رفع على الفاعلية ، وهو مذهب مرجوح ، ومذهبُ سيبويه أنَّ » أنَّ « بعد » لو « في محل مبتدأ والذي يظهرُ في كلام الزمخشري هنا وفي تصانيفه أنه ما وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألةِ ، وعلى المفرع على مذهبِ المبرد لا يجوز أن تكون الواوُ بمعنى مع ، والعاملُ فيها » ثَبَتَ « المقدَّر لِما تقدَّم مِنْ وجودِ لفظةِ معه ، وعلى تقديرِ سقوطِها لا يَصِحُّ ، لأن » ثبت « ليس رافعاً ل » ما « العائدِ عليها الضميرُ ، وإنما هو رافعٌ مصدراً منسبكاً من أنَّ وما بعدها وهو كونٌ ، إذ التقدير : لو ثبت كونُ ما في الأرض جميعاً لهم ومثلِه معه ليفتدوا به ، والضميرُ عائدٌ على ما دونَ الكون ، فالرافع للفاعل غيرُ الناصب للمفعول معه ، إذ لو كان إياه لَلَزِمَ من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل ، والمعنى على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثْل ، وهذا فيه غموضٌ ، وبيانه : إذا قلت : » يعجبني قيامُ زيدٍ وعمراً « جعلت » عمراً « مفعولاً معه ، والعامل فيه » يعجبني « لَزِم من ذلك أنَّ عمراً لم يَقُم ، وأعجبك القيامُ وعمروٌ ، وإنْ جعلت العاملَ فيه القيامَ كان عمروٌ قائماً ، وكان الإِعجابُ قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيامِ عمرو ، فإن قلت : هل كان » ومثلَه معه « مفعولاً معه ، والعامل فيه هو العامل في » لهم « إذ المعنى عليه » قلت : لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجودِ « معه » في الجملة ، وعلى تقديرِ سقوطها لا يَصِحُّ ، لأنهم نَصُّوا على أنَّ قولك : « هذا لك وأباك » ممنوعٌ في الاختيار ، قال سيبويه : « وأما هذا لك وأباك » فقبيحٌ لأنه لم يَذْكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل ، حتى يصيرَ كأنه قد تكلم بالفعل « فأصبح سيبويه بأن اسمَ الإِشارة وحرفَ الجر المتضمِّن لمعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، وقد أجاز بعضُ النحويين في حرفِ الجر والظرف أن يعملا في المفعول معه نحو : » هذا لك وأباك « فقولُه : » وأباك « يكون مفعولاً معه والعامل الاستقرار في » لك « انتهى .
ومع
هذا الاعتراضِ الذي ذكره فقد يظهرُ عنه جواب وهو أنَّا نقول : نختار أن يكونَ
الضميرُ في قوله : { معه } عائداً على « مثلَه » ويصيرُ المعنى : مع مِثْلين ، وهو
أبلغُ من أَنْ يكونَ مع مثل واحد ، وقوله : « تركيبٌ عِيُّ » فَهْمٌ قاصر . ولا بد
من جملة محذوفة قبل قوله : { مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } تقديره : « وبذلوه أو
وافتدوا به » ليصِحَّ الترتيب المذكور ، إذ لا يترتب على استقرار ما في الأرض
جميعاً ومثلِه معه لهم عدمُ التقبل ، إنما يترتب عدمُ التقبل على البذل والافتداء
. والعامةُ على « تُقُبِّل » مبنياً للمفعول حُذِف فاعله لعظمته وللعلم به . وقرأ
يزيد بن قطيب : « ما تَقَبَّل » مبنياً للفاعل ، وهو ضميرُ الباري تبارك وتعالى .
قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ } مبتدأٌ وخبرُه مقدَّم عليه . و « أليم » صفتُه بمعنى
مُؤْلم . وهذه الجملةُ أجازُوا فيها ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ حالاً ،
وفيه ضَعْفٌ مِنْ حيثُ المعنى . الثاني : أَنْ تكونَ في محل رفع عطفاً على خبر «
أنَّ » أخبر عن الذين كفروا بخبرين : لو استقر لهم جميع ما في الأرض مع مثله
فبذلوه لم يُتَقَبَّلْ منهم ، وأن لهم عذاباً أليماً . الثالث أن تكون معطوفةً على
الجملة من قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } وعلى هذا فلا محلَّ لها لعطفها على ما
محلَّ له .
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ } : كقوله : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] ، وقد تقدَّم . والجمهورُ على « أن يخرجوا » مبنياً للفاعل ، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي : « يُخْرَجوا » مبنياً للمفعول ، وهما واضحتا التخريج .
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قوله
تعالى : { والسارق والسارقة } : قراءةُ الجمهور بالرفعِ ، وعيسى بن عمر وابن أبي
عبلة بالنصبِ ، ونُقِل عن أُبَي : « والسُّرَّقُ والسُّرَّقةُ » بضم السين وفتح
الراء مشددتين . قال الخفاف : « وجَدْتُه في مُصحف أُبي كذلك » ومِمَّنْ ضبطَهما
بما ذكرت أبو عمرو ، إلا أن ابن عطية جَعَل هذه القراءة تصحيفاً فإنه قال : «
ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط ، لأنَّ قراءة الجماعة إذا كُتِبت : »
والسارق « بغير ألف وافقت في الخط هذه » قلت : ويظهر توجيهُ هذا القراءة بوجه ظاهر
وهو أن السُّرَّق جمع سارق ، فإنَّ فُعَّلاً يطَّرد جمعاً لفاعل صفةً نحو : ضارب
وضُرَّب ، والدليل على أن المرادَ الجمعُ قراءةُ عبد الله : « والسارقون والسارقات
» بصيغتي جمع السلامة ، فدلَّ على أن المرادَ الجمع ، إلا أنه يُشْكل علينا في هذا
شيءٌ وهو أن فُعَّلاً يكون جمعَ فاعِل وفاعِله أيضاً ، تقول : « نساء ضُرَّب » كما
تقول : « رجالٌ ضُرَّب » ولا يدخلون عليه تاء التأنيث حين يراد به الإِناث ،
والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بتاء التأنيث حين أريد ب « فُعَّل »
جمع فاعله ، فهو مُشْكل من هذه الجهة ، لا يقال : إن هذا التاء يجوز أن تكونَ
لتأكيدِ الجمع ، لأنَّ ذلك محفوظٌ لا يقاس عليه نحو : « حِجارة » .
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها وجهان ، أحدُهما- وهو مذهبُ سيبويه والمشهورُ من
أقوالِ البصريين - أنَّ « السارقُ » مبتدأُ محذوفُ الخبر ، تقديره : « فيما يتلى
عليكم - أو فيما فُرِضَ - » السارقُ « والسارقة ، أي حكمُ السارق ، ويكون قولُه :
» فاقْطَعُوا « بياناً لذلك الحكمِ المقدَّر ، فما بعد الفاءِ مرتبطٌ بما قبلها ،
ولذلك أُتِي بها فيه لأنه هو المقصودُ ، ولم يأتِ بالفاء لتُوُهِّم أنه أجنبي ،
والكلام على هذا جملتان : الأولى خبرية ، والثانية أمريةٌ . والثاني - وهو مذهبُ
الأخفش ، ونُقِل عن المبرد وجماعةُ كثيرة - أنه مبتدأُ أيضاً ، والخبر الجملة
الأمرية من قوله : { فاقطعوا } وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لأنه يُشْبه الشرطَ
، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي ، والصفةُ صلتُها فيه في قوة قولك
: » والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا « وأجاز الزمخشري الوجهين ، ونسب الأول لسيبويه
، ولم يَنْسُبِ الثاني ، بل قال : » ووجهٌ آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر «
فاقطعوا » .
وإنما اختار سيبويه أنَّ خبرَه محذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجملة الطلبية بعده
لوجهين ، أحدُهما : أنَّ النصبَ في مثله هو الوجه في كلام العرب نحو : « زيداً
فاضربه » لأجلِ الأمر بعده ، قال سيبويه في هذه الآية : « الوجهُ في كلامِ العربِ
النصبُ ، كما تقول : » زيداً فاضربه « ولكن أَبَت العامةُ إلا الرفعَ » والثاني :
دخولُ الفاءِ في خبره ، وعنده أن الفاءَ لا تدخلُ إلا في خبر الموصول الصريح كالذي
و « مَنْ » بشروط أُخَرَ ذكرْتُها في كتبي النحوية؛ وذلك لأنَّ الفاءَ إنما دخلت
لشبه المبتدأ بالشرط ، واشتَرطوا في صلتِه أَنْ تصلح لأداة الشرط من كونها جملةً
فعلية مستقبلة المعنى ، أو ما يقوم مقامَها من ظرفٍ وشبهه ، ولذلك إنها إذا لم
تصلح لأداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء في الخبر ، وصلةُ « أل » لا تصلح لمباشرة
أداةِ الشرط فلذلك لا تدخُلُ الفاءُ في خبرها ، وأيضاً ف « أل » وصلتُها في حكمِ
اسمٍ واحدٍ ولذلك تَخَطَّاها الإِعرابُ .
وأمَّا
قراءةُ عيسى بن عمر وإبراهيم فالنصبُ بفعلٍ مضمر يفسِّره العامل في سببِّيهما نحو
: « زيداً فأكرم أخاه » والتقدير : فعاقبوا السارق والسارقة ، تقدِّره فعلاً من
معناها نحو : « زيداً ضربْتُ غلامه » أي : أهنتُ زيداً ، ويجوز أن يقدَّرَ العاملُ
موافقاً لفظاً لأنه يُساغ أَنْ يقال : « قطعت السارق » وهذه قراءةٌ واضحةٌ لمكانِ
الأمر بعد الاسم المشتغل عنه .
قال الزمخشري « وفَضَّلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر؛ لأنَّ » زيداً
فاضربه « أحسنُ مِنْ » زيدٌ فاضربه « وفي نقله تفضيلَ النصب على قراءة العامة نظر
، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه ، قال سيبويه : » الوجه في كلام العرب النصبُ كما تقول :
« زيداً اضربه » ولكن أَبت العامة إلا الرفعَ « ، وليس في هذا ما يقتضي تفضيلَ
النصب ، بل معنى كلامه أن هذه الآية ليست في الاشتغال في شيء ، إذ لو كانت من باب
الاشتغال لكن الوجهُ النصبَ ، ولكن لم يَقْرأها الجمهورُ إلا بالرفع ، فدلَّ على
أن الآية محمولةٌ على كلامَيْنِ كما تقدَّم ، لا على كلامٍ واحدٍ ، وهذا ظاهرٌ .
وقد ردَّ الفخر الرازي على سبيويه بخمسة أوجه ، وذلك أنه فَهم كما فهم صاحب »
الكشاف « من تفضيل النصب ، قال الفخر الرازي ، » الذي ذهبَ إليه سيبويه ليس بشيء ،
ويدلُّ على فساده وجوهٌ ، الأول : أنه طعن في القراءة المتواترة المنقولةِ عن
الرسول وعن أعلام الأمة ، وذلك باطلٌ قطعاً ، فإن قال سيبويه : لا أقول إن القراءة
بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءةُ بالنصب أَوْلى ، فنقول : رديء أيضاً
لأنَّ ترجيحَ قراءةٍ لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءةِ الرسول وجميعِ الأمة
في عهد الصحابة والتابعين أمرٌ منكرٌ وكلامٌ مردودٌ . الثاني : لو كانت القراءةُ
بالنصبِ أَوْلى لوجَبَ أن يكونَ في القراء مَنْ يقرأ { واللذان يأتيانِها منكم
فآذوهما } بالنصب ، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء مَنْ يقرأ كذلك عَلِمْنا سقوطَ
هذه القول . الثالث : أنَّا إذا جعلنا « السارق والسارقة » مبتدأً وخبرُه مضمرٌ
وهو الذي يقدِّره : « فيما يتلى عليكم » بقي شيء آخر تتعلَّق به الفاء في قوله : {
فاقطعوا } فإنْ قال : الفاء تتعلق بالفعل الذي دلَّ عليه قولُه : « والسارق
والسارقة » يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده ، فنقول : إذا احتجت في آخر
الأمر [ أن تقول ] : السارق والسارقة [ تقديرُه ] : مَنْ سرق ، فاذكر هذا أولاً
حتى لا تحتاج إلى الإِضمار الذي ذكرته .
الرابع
: أنَّا إذا اختَرْنا القرءاةَ بالنصب لم تدلَّ على أنَّ السرقةَ علةٌ لوجوب القطع
، وإذا اخترنا القراءةَ بالرفع افادت الآيةُ هذا المعنى ، ثم إنَّ هذا المعنى
متأكدٌ بقوله : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } فثبت أنَّ القراءةَ بالرفعِ أَوْلى .
الخامس : أن سيبويه قال : « وهم يقدِّمون الأهمَّ والذي هم ببيانِه أَعْنى »
فالقراءةُ بالرفعِ تقتضي تقديمَ ذِكْرِ كونه سارقاً على ذِكْرِ وجوب القطع ، وهذا
يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق
، وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكونَ العنايةُ بيان القطع أتمَّ من العناية
بكونه سارقاً ، ومعلوم أنه ليس كذلك فإن المقصود في هذه الآية تقبيحُ السرقة
والمبالغةُ في الزجر عنها ، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة « انتهى ما زعم
أنه ردُّ على إمام الصناعة .
والجوابُ عن الوجه الأول ما تقدَّم جواباً عما قاله الزمخشري ، وقد تقدم ، ويؤيده
نص سيبويه فإنه قال : » وقد يَحْسُن ويستقيم : « عبدُ الله فاضربه » إذا كان
مبنياً على مبتدأ مُظْهَرٍ أو مضمر ، فأمَّا في المُظْهَرِ فقولُه : « هذا زيدٌ
فاضرِبْه » وإن شئت لم يظهر هذا ويعمل كعمله إذا كان مظهراً ، وذلك قولك : «
الهلالُ واللَّهِ فانظرْ إليه » فكأنك قلت : « هذا الهلال » ثم جئت بالأمر ، ومن
ذلك قولُ الشاعر :
1725- وقائلةٍ : خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... وأُكْرومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ
كما هِيا
هكذا سُمع من العربِ تُنْشدُه « يعني برفع » خولان فمع قوله : « يحسن ويستقيم »
كيف [ يكونُ ] طاعناً في الرفع؟ وقولُه : « فإنْ قال سيبويه إلى آخره » فسيبويه لا
يقول ذلك ، وكيف يقوله وقد رجَّح الرفعَ بما أوضحته ، وقوله : « لم يقرأ بها إلا
عيسى » ليس كما زعم ، بل قرأ بها جماعة كإبراهيم ابن أبي عبلة ، وأيضاً فهؤلاء لم
يَقْرَؤُوها من تلْقاء أنفسِهم ، بل نقلوها إلى أن تتصل بالرسول صلى الله عليه
وسلم ، غايةُ ما في الباب أنها ليست في شهرة الأولى . وعن الثاني : أن سيبويه لم
يَدَّعِ ترجيحَ النصبِ حتى يُلْزمَ بما قاله ، بل خَرَّج قراءة العامة على جملتين
، لِما ذكرت لك فيما تقدم من دخول الفاء ، ولذلك لمَّا مَثَّل سيبويه جملةَ الأمرِ
والنهي بعد الاسمِ مثَّلهما عاريتين من الفاء ، قال : « وذلك قولك : » زيداً
اضربْه « » وعمراً امرُرْ به « وعن الثالث : ما تقدم من الحكمةِ المقتضية للمجيء
بالفاء وكونها رابطة للحكم بما قبله ، وعن الرابع : بالمنع أن يكون بين الرفع
والنصب فَرْقٌ بأنَّ الرفعَ يقتضي العلةَ ، والنصبَ لا يقتضيه ، وذلك أن الآية من
باب التعليل بالوصفِ المُرَتَّب عليه الحكمُ ، ألا ترى أن قولك : » اقطع السارق «
يفيد العلةَ ، أي : إنه جَعَلَ علةً القطعِ اتصافَه بالسرقةِ ، فهذا يشعر بالعلةِ
مع التصريحِ بالنصبِ ، وعن الخامس : انهم يُقَدِّمون الأهمَّ حيث اختلفت النسبَةُ
الإِسناديةُ كالفاعِل مع المفعولِ ، وَلْنَسْرُدْ نصَّ سيبويه ليتبيِّن ما ذكرناه
، قال سيبويه : » فإنْ قَدَّمْتَ [ المفعول ] وأخَّرت الفاعلَ جرى اللفظُ كما جرى
في الأول « يعني في : » ضرب عبدُ الله زيداً « قال : » وذلك : ضرب زيداً عبدُ الله
، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً ، ولم تُرِد أن يشتغل الفعلُ بأولَ
منه وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمِن ثَمَّ كان حَدُّ اللفظِ أن يكونَ فيه مقدماً
وهو عربي جيدٌ كثير ، كأنهم يُقَدَّمون الذي بيانُه اهمُّ لهم ، وهم ببيانِه
أَعْنَى ، وإن كانا جميعاً يُهِمَّانِهم ويَعْنِيانهم « والآية الكريمة ليست من
ذلك .
قوله
: { أَيْدِيَهُمَا } جمعٌ واقعٌ موقعَ التثنيةِ لأمْنِ اللَّبْس ، لأنه معلومٌ أنه
يُقْطَعُ مِنْ كلِّ سارقٍ يمينه ، فهو من باب { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم :
4 ] ، ويدل على ذلك قراءةُ عبد الله : « فاقطعوا أيمانَهما » واشترط النحويون في
وقوعِ الجمع موقعَ التثنية شروطاً ، ومن جملتها : ان يكون ذلك الجزءُ المضافُ
مفرداً من صاحبِه نحو : « قلوبكما » و « رؤوس الكبشين » لأمن الإِلباس بخلافِ
العينين واليدين والرجلين ، لو قلت : « فَقَأْتُ أعينَهما » / وأنت تعني عينيهما ،
و « كَتَّفْتُ أيديَهما » وأنت تعني « يديهما » لم يَجُزْلِلَّبْسِ ، فلولا أنَّ
الدليل دَلَّ على أن المراد اليدان اليمنيان لَما ساعَ ذلك ، وهذا مستفيضٌ في
لسانهم - أعني وقوعَ الجمعِ موقعَ التثنيةِ بشروطِه - قال تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .
وَلْنذكر المسألةَ فنقول : كلُّ جزأين أضيفا إلى كُلَّيْهما لفظاً أو تقديراً
وكانا مفردَيْنِ من صاحبيهما جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ : الأحسنُ الجمعُ ، ويليه
الإِفرادُ عند بعضِهم ، وليله التثنيةُ ، وقال بعضُهم : الأحسنُ الجمعُ ثم
التثينةُ ثم الإِفرادُ نحو : « قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين ورأسَ الكبشين ورأسَيْ
الكبشين » ، قال :
1726- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ ... ظهراهُما مثلُ ظهورِ التُّرْسَيْنْ
فقولي : « جزآن » تَحَرُّزٌ من الشين المنفصلين ، لو قلت : قبضت دارهمكما « تعني :
دِرْهميكما لم يَجُزْ لِلَّبْس ، فلو أُمِنَ جاز كقوله : اضرباه باسيافِكما » «
إلى مضاجعكما » وقولنا « أُضيفا » تحرُّزٌ من تفرُّقهما كقوله : { على لِسَانِ
دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 78 ] ، وقولنا « لفظاً مثالُه :
فإنَّ الإِضافةَ فيه لفظيةٌ . وقولُنا » أو تقديراً « نحو قوله :
1727- رأيت بني البكري في حومة الوغى ... كاغِرَي الأفواهِ عند عَرِين
فإنَّ
تقديره : كفاغري أفواهما . وقولنا « مفردين » تحرزٌ من العينين ونحوهما : إنما
اختير الجمع على التثنية وإن كانت الأصل لاستثقال توالي تثنيتين ، وكان الجمعُ
أولى من المفرد لمشاركةِ التثنيةِ في الضم ، وبعده المفردُ لعدم الثقل ، هذا عند
بعضِهم قال : « لأنَّ التثنيةَ لم تَرِدْ إلا ضرورةً كقوله :
1728- هما نَفَثا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما ... على النابحِ العاوي أشدَّ رِجامِ
بخلافِ الإِفراد فإنه وَرَدَ في فصيحِ الكلامِ ، ومنه : » مَسَح أذنيه ظاهرَهما
وباطنَهما « . وقال بعضُهم : » الأَحسنُ الجمعُ ثم التثنيةُ ثم الإِفراد كقوله :
1729- حمامةَ بطنِ الواديَيْن تَرَنَّمي ... سَقاكِ من الغُرَِّ الغوادِي مطيرُها
وقال الزمخشري : « أيديهما : يديهما ، ونحوه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [
التحريم : 4 ] اكتفى بتثنيةِ المضاف إليه عن تثنيةِ المضاف ، وأريد باليدين
اليُمْنَيان ، بدليلِ قراءة عبد الله : » والسارقون والسارقات فقطعوا أَيْمانهم «
وردَّ عليه الشيخ بأنهما ليسا بشيئين ، فإنَّ النوعَ الأول مطردٌ فيه وضعُ الجمعِ
موضعَ التثينةِ ، بخلافِ الثاني فإنه لا ينقاس ، لأن المتبادَرَ إلى الذهن من قولك
: » قَطَعْتُ آذانَ الزيدين : أربعة الآذان « وهذا الردُّ ليس بشيءٍ لأنَّ الدليلَ
دَلَّ على أن المراد اليمنيان .
قوله : { جَزَآءً } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مقدر أي
: جازوهما جزاءً . الثاني : أنه مصدر أيضاً لكنه منصوب على معنى نوع المصدر ، لأنه
قوله : » فاقطعوا « في قوة : جازُوهما بقطع الأيدي جزاء » الثالث : أنه منصوب على
الحال ، وهذه الحالُ يُحْتمل أن تكونَ من الفاعل أي : مُجازِين لهما بالقطع بسببِ
كسبِهما ، وأن تكونَ من المضافِ إليه في « أيديهما » أي : في حالِ كونها مجازَيْن
، وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف إليه لأن المضاف جزؤه كقوله : { وَنَزَعْنَا مَا
فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] . الرابع : أنه مفعولٌ من
أجله أي : لأجلِ الجزاءِ ، وشروطُ النصبِ موجودةٌ . و « نَكالاً » منصوبٌ كما
نُصِب « جزاء » ولم يذكر الزمخشري فيهما غيرَ المفعولِ من أجله . قال الشيخ : «
تَبع في ذلك الزجاج » ثم قال : « وليس بجيدٍ ، إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ
فيكون ذلك طريق البدلِ ، وأما إذا كان متباينين فلا يجوز ذلك إلى بوساطة حرف العطف
» قلت : النكالُ نوعٌ من الجزاء فهو بدل منه ، [ على أن الذي ينبغي أن يُقال هنا
إن « جزاء » مفعول من أجله ، العاملُ فيه ] « فاقطعوا » فالجزاءُ علةٌ للأمر
بالقطع ، و « نَكالاً » مفعول من أجله أيضاً ، العاملُ فيه « جزاء » والنكال علة
للجزاء ، فتكون العلة معللةً بشيء آخرَ فتكونُ كالحال المتداخلة ، كما تقول : «
ضربته تأديباً له إحساناً إليه » فالتأديبُ علةٌ للضرب والإِحسان علة للتأديب ،
وكلامُ الزمخشري والزجاج قبله لا يُنافي ما ذكرته ، فإِنه لا منافاة بين هذا وبين
قولهما « جزاء » مفعولٌ من أجله ، وكذلك « نكالاً » فتأمَّلْه ، فإنه وجه حسن ،
فطاحَ الاعتراضُ على الزمخشري والزجاج ، والتفصيلُ المذكورُ في قوله : « إلا إذا
كان الجزاءُ هو النكال » ثم ظَفِرت بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له أن يَنْصِبَ
مفعولاً له آخرَ [ يكون علة ] فيه ، وذلك أنَّ المُعْرِبين أجازوا في قوله تعالى
{ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً } [ البقرة : 90 ] أن يكون « بغياً » مفعولاً له ، ثم ذكروا في قوله : « أَنْ يُنَزِّل ا لله » أنه مفعول له ناصبه « بغياً » فهو علةٌ له ، صَرَّحوا بذلك فظهر ما قلت؟ و « بما » متعلق ب « جزاء » و « ما » يجوز أن تكون مصدرية أي : بكسبِهما ، وأن تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروطِ أي : بالذي كَسَباه ، والباء سببية .
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
قوله تعالى : { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } : متعلق ب « تاب » و « ظلم » مصدرٌ مصافٌ إلى فاعله أي : من بعد أَنْ ظَلَمَ غيرَه بأخذِ ماله ، وهذا واضحٌ ، وأجاز بعضُهم أن يكونَ مضافاً للمفعول أي : من بعد أن ظلم نفسَه ، وفي جوازِ هذا نظرٌ ، إذ يصير التقديرُ : مِنْ بعد أن ظلمه ، ولو صَرَّح بهذا الأصلِ لم يجز لأنه يؤدي إلى تعدِّي فعلِ المضمر إلى ضميره المتصل ، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن وفَقَدَ وعَدِم ، كذك قاله الشيخ ، وفي نظره نظر ، لأنَّا إذا حَلَلْنا المصدرَ لحرف مصدري وفعل فإنما يَأتي بعد الفعل بما يَصِحُّ تقديرُه ، وهو لفظُ النفسِ ، أي من بعدِ أن ظلَم نفسَه .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قوله
تعالى : { لاَ يَحْزُنكَ الذين } : قد تقدَّم أنَّ « يحزن » يُقرأ بفتحِ الياءِ
وضَمِّها وأنهما لغتان ، وهل هما بمعنًى أو بينهما فرقٌ؟ والنهيُ للذين في الظاهر
وهو من بابِ قوله : « لا أُرَيَنَّكَ ههنا » أي : لا تتعاطَ أسباباً يحصُل لك بها
حزنٌ من جهتهم ، وتقدم لك تحقيق ذلك مراراً ، وقول أبي البقاء في « يحزنك » : «
والجيد فتح الياء وضم الزاي ، ويُقرأ بضم الياء وكسر الزاي من أحزنني وهي لغة »
ليس بجيد ، لأنها قراءةٌ متواترةٌ ، وقد تقدَّم دليلها في آل عمران و « يُسارعون »
من المسارعة ، و « في الكفر » متعلق بالفعل قبله ، وقد تقدَّم نظيرُها في آل عمران
. قوله : { مِنَ الذين قالوا } يجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل في « يُسارعون »
أي : يُسارعون حالَ كونِهم / بعضَ الذين قالوا ، ويجوز أن يكونَ حالاً من نفس
الموصول وهو قريبٌ من معنى الأول ، ويجوز أن تكونَ « مِنْ » بياناً لجنس الموصول
الأول وكذلك « مِنْ » الثانية ، فتكون تبييناً وتقسيماً للذين يُسارعون في الكفر ،
ويكون « سَمَّاعون » على هذا خبرَ مبتدأ محذوف . و « آمنَّا » منصوبٌ ب « قالوا »
وب « أفواههم » متعلق ب « قالوا » لا ب « آمنًّا » بمعنى أنه لم يُجَاوِزْ قولُهم
أفواهَهم ، إنما نطقوا به غيرَ معتقدين له بقلوِبهم وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن
قُلُوبُهُمْ } جملةٌ حالية .
قوله : { وَمِنَ الذين هِادُواْ } فيه وجهان ، أحدُهما : ما تقدم ، وهو أن يكونَ
معطوفاً على « من الذين قالوا » بياناً وتقسيماً . والثاني : ان يكونَ خبراً
مقدماً ، و « سَمَّاعون » مبتدأ والتقدير : « ومن الذين هادوا قومٌ سَمَّاعون »
فتكونُ جملةً مستأنفة ، إلا أنَّ الوجه الأول مُرَجَّح بقراءة الضحاك : «
سَمَّاعين » على الذم بفعل محذوف ، فهذا يدل على أن الكلامَ ليس جملةً مستقلة ، بل
قوله : { وَمِنَ الذين هِادُواْ } عطفٌ على « من الذين قالوا » . وقوله «
سَمَّاعون » مثال مبالغة ، و « للكذب » فيه وجهان ، أحدُهما أن اللامَ زائدةٌ ، و
« الكذب » هو المفعول ، أي : سَمَّاعون الكذب ، وزيادةُ اللامِ هنا مطردةٌ لكونِ
العاملِ فَرْعاً فَقَوِي باللام ، ومثلُه : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود :
107 ] . والثاني : على بابها من التعليل ، ويكون مفعول « سَمَّاعون » محذوفاً ، أي
: سَمَّاعون أخباركم وأحاديثم ليكذبوا فيها بالزيادةِ والنقصِ والتبديلِ بأَنْ
يُرْجِفوا بقتل المؤمنين في السرايا كما نُقِل من مخازيهم . وقوله : { سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ } يجوز ان تكون هذه تكريراً للأولى ، فعلى هذا يجوز أَنْ يتعلَّقَ قولُه
« لقوم » بنفس الكذب أي : يَسْمعون ليكذبوا لأجل قوم ، ويجوزُ أن تتعلق اللام بنفس
« سَمَّاعون » أي : سَمَّاعون لأجلِ قومٍ لم يأتوك لأنهم لبغضِهم لا يقربون مجلسَك
وهم اليهودُ ، و « لم يأتوك » في محلِّ جرٍّ لأنه صفة ل « قوم » .
قوله : { يُحَرِّفُونَ } يجوز أن يكونَ صفةً ل « سَمَّاعون » أي : سَمَّاعون مُحَرِّفون ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « سَمَّاعون » ويجوز أن يكون مستأنفاً لا محل له ، ويجوز أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف أي : هم مُحَرِّفون ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ جر صفة ل « قوم » أي : لقوم محرفين . و « من بعد مواضعِه » قد أتقنته في النساء و « يقولون » ك « يحرفون » ويجوز أن يكون حالاً من ضمير « يحرفون » . والجملة الشرطية من قوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ } مفعولةٌ بالقول ، و « هذا » مفعولٌ ثان لأوتيتم ، والأول قائمٌ مقامَ الفاعل ، والفاءُ جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ لعدم صلاحيةِ الجزاء لأن يكونَ شرطاً ، وكذلك الجملةُ من قوله : { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } وقوله : { وَمَن يُرِدِ } « مَنْ » مفعول مقدم وهي شرطية . وقوله : { فَلَن تَمْلِكَ } جوابه ، والفاء أيضاً واجبةٌ لما تقدم ، و « شيئاً » مفعولٌ به أو مصدر . و « من الله » متعلقٌ ب « تملكَ » ، وقيل : هو حالٌ من « شيئاً » لأنه صفتُه في الأصل . قوله : { أولئك } مبتدأ ، و { لَمْ يُرِدِ الله } جملة فعلية خبره .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
وقوله
تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : يجوز أَنْ يكونَ مكرراً للتوكيد إن كان من
وصفِ المنافقين ، وغيرَ مكرر إنْ كان مِنْ وصف بني إسرائيل ، وإعرابُ مفرداته
تقدَّم ، ورفعُه على خبر ابتداء مضمر ، أي : هم سَمَّاعون وكذلك أكَّالون . و «
للسحتِ » في اللام الوجهان المذكوران في قوله : « للكذب » و « السَّحْتُ » الحرامُ
، سُمِّي بذلك لأنه يُذْهِبُ البركة ويُمْحَقُها ، يقال : سَحَته الله وأسحته ، أي
: أهلكه وأذهبه ، وقد قرئ قوله تعالى : { فَيُسْحِتَكُم } [ طه : 61 ] بالوجهين من
سحته وأَسْحته . وقال الفرزدق .
1730- وعضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إى مُسْحَتاً أو
مُجَلَّفُ
وعن الفراء : « السُّحْتُ : كلبُ الجوع » وهو راجعٌ للهلكة . وقرأ نافع وابن عامر
وعاصم وحمزة : « السُّحْت » بضم السين وسكون الحاء ، والباقون بضمهما ، وزيد بن
علي وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء ، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون
وقُرئ بفتحتين ، فالضمتان اسم للشيء المسحوت ، والضمة والسكون تخفيفُ هذا الأصل ،
والفتحتان والكسر والسكونُ اسمٌ له أيضاً ، وأمَّا المفتوحُ السين الساكنُ الحاءِ
فمصدرٌ أريد به اسمُ المفعول كالصيد بمعنى المصيد ، ويجوز أن يكون تخفيفاً من
المفتوح وهو ضعيف .
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } : كقوله : { كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] وقد تقدَّم قولُه : { وَعِنْدَهُمُ التوراة } الواوُ للحالِ ، و « التوراة » يجوز أن يكونَ متبدأً والظرفُ خبرُه ، ويجوز أَنْ يكونَ الظرفُ حالاً و « التوراة » فاعلٌ به لاعتمادِه على ذي الحال ، والجملةُ الاسميةُ أو الفعلية في محل نصب على الحال . وقوله : { فِيهَا حُكْمُ الله } « فيها » خبرٌ مقدم و « حكم » مبتداٌ أو فاعلٌ كما تقدَّم في « التوراة » والجملةُ حال من « التوراة » أو الجار وحده ، و « حكم » مصدرٌ مضافٌ لفاعله . وأجاز الزمخشري ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب ، بل هي مبيِّنة لأنَّ عندهم ما يُغْنيهم عن التحكيمِ ، كما تقولُ : « عندكَ زيدٌ ينصحك ويُشير عليك بالصواب فما تصنعُ بغيرِه؟ » وقوله : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ } معطوفٌ على « يحكِّمونك » فهو في سياقِ التعجبِ المفهومِ من « كيف » .
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قوله
تعالى : { فِيهَا هُدًى } : يحتملُ الوَجْهين المذكورين في قوله : { وَعِنْدَهُمُ
التوراة } ف « هُدَى » مبتدأٌ أو فاعلٌ ، والجملةُ حالٌ من التوراة . وقوله : {
يَحْكُمُ بِهَا } يجوز أن تكونَ جملةً متسأنفة ، ويجوز أن تكون منصوبةً المحلِّ
على الحال : إمَّا من الضميرِ في « فيها » وإمَّا من التوارة . وقوله : { الذين
أَسْلَمُواْ } صفةٌ ل « النبيون » وصفهم بذلك على سبيل المدحِ والثناء لا على
سبيلِ التفصيلِ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلمون ، وإنما أثنى عليهم بذلك كما تَجْري
الأوصافُ على أسماءِ اللَّهِ تعالى . قال الزمخشري : « أُجْرِيَتْ على النبيين على
سبيلِ المدحِ كالصفات الجاريةِ على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح ، وأُريد
بإجرائِها التعريضُ باليهود وأنهم بُعَداءُ من ملةِ الإِسلام الذي هو دينُ
الأنبياء كلِّهم في القديم والحديث ، فإنَّ اليهودَ/ بمعزل عنها ، وقوله : { الذين
أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } منادٍ على ذلك » أي دليلٌ على ما ادِّعاه .
قوله : { لِلَّذِينَ هَادُواْ } في هذه اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُهما : أنها
متعلقةٌ ب « يحكم » فعلى هذا معناها الاختصاصُ ، وتشمل مَنْ يحكم له ومَنْ يحكم
عليه ، ولهذا ادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام حَذْفاً تقدره : « يحكم بها النبيون
للذين هادوا وعليهم » ذكره ابن عطية وغيره . والثاني : أنها متعلقةٌ بأنزلنا ، أي
: أنزلنا التوراةَ للذين هادُوا يحكمُ بها النبيون . والثالث : أنها متعلقةٌ بنفسِ
« هُدى » أي : هدى ونور للذين هادوا ، وهذا فيه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه ،
وعلى هذا الوجهِ يجوز ان يكون « للذين هادوا » صفةً ل « هدى ونور » أي : هدى ونور
كائن للذين هادوا ، وأولُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ .
قوله : { والربانيون } عطفٌ على « النبيون » أي : إنَّ الربانيين - وقد تقدَّم
تفسيرُهم في آل عمران - يَحْكُمون أيضاً بمقتضى ما في التوراةِ . والأحبارُ : جمع
« حَبرْ » بفتح الحاء وكسرها وهو العالم ، وأنكر أبو الهيثم الكسر ، والفراء
والفتح ، وأجاز أبو عبيد الوجهين ، واختار الفتحَ ، فأمَّا « الحِبْر » الذي
يُكْتَبُ به فالبكسر فقط ، وأصلُ المادةِ الدلالةُ على التحسين والمسرَّة ،
وسُمِّي ما يكتب به حِبراً لتحسينِ الخط ، وقيل : لتأثيره ، ويدلُّ للأول قولُه
تعالى : { أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ الزخرف : 70 ] أي : تفرحون
وتُزَيَّنون وقال أبو البقاء : « وقيل الربانيون [ مرفوع ] بفعل محذوف أي : ويحكم
الربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا » انتهى . يعني أنه لَمَّا اختلف متعلَّقٌ
الحكم غاير بين الفعلين أيضاً فإنَّ النبيين يحكمُون بالتوارة ، والأحبارُ
والربانيون يحكمون بما ساتحفظهم اللّهُ ، وهذا بعيدٌ عن الصواب؛ لأنَّ الذي
استحفظهم الله هو مقتضى ما في التوراة ، فالنبيون والربانيون حاكمون بشي واحد ،
على أنه سيأتي أنَّ الضميرَ في « استُحْفِظوا » عائدٌ على النبيين فَمَنْ بعدهم .
قوله
: { بِمَا استحفظوا } أجاز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه ، أحدُهما : أنَّ « بما »
بدلٌ من قوله « بها » بإعادةِ العامل لطول الفصل ، قال : « وهو جائزٌ وإنْ لم
يَطُلْ » أي : يجوزُ إعادةُ العامل في البدل وإن لم يَطُلْ ، قلت : وإنْ لم
يُفْصَلْ أيضاً : الثاني : أن يكون متعلقاً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : ويحكم الربَّانيون
بما استُحْفِظوا ، كما قدمته عنه . والثالث : أنه مفعولٌ به أي : يَحْكُمون
بالتوارةِ بسبب استحفاظهم ذلك ، وهذا الوجهُ الأخير هو الذي نَحَا إليه الزمخشري
فإنه قال : « بما استُحْفِظوا بما سألهم أنبياؤهم حِفْظَه من التوراة ، أي : بسبب
سؤالِ أنبيائِهم إياهم أَنْ يحفَظُوه من التبديلِ والتغيير » وهذا على أن الضميرَ
يعودُ على الربانيين والأحبار دون النبيين ، فإنه قَدَّر الفاعلَ المحذوف «
النبيين » ، وأجازَ أن يعودَ الضميرُ في « استُحْفِظوا » على النبيين والربانيين
والأحبار ، وقَدَّر الفاعلَ المنوبَ عنه الباري تعالى أي : بما استحفظهم الله ،
يعني بما كلَّفهم حِفْظَه .
وقوله : { مِن كِتَابِ الله } قال الزمخشري : « و » مِنْ « في » مِنْ كتاب الله «
للتبين » يعني أنها لبيانِ الجنسِ المبهمِ في « بما » فإن « ما » يجوز أن تكونَ
موصولةً اسمية بمعنى الذي والعائد محذوف أي : بما استحفظوه ، وأن تكونَ مصدريةً أي
: باستحفاظهم . وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من أحدِ شيئين : إمَّا من « ما
» الموصولةِ أو مِنْ عائدها المحذوفِ ، وفيه نظرٌ من حيث المعنى . وقوله : «
وكانوا » داخل في حَيِّز الصلة أي : وبكونِهم شهداءَ عليه أي : رُقَبَاء لئلا
يُبَدِّل ، ف « عليه » متعلقٌ ب « شهداء » والضميرُ في « عليه » يعودُ على « كتاب
الله » وقيل : على الرسولِ ، أي : شهداءَ على نبوتِه ورسالتِه ، وقيل : على
الحُكْم ، والأولُ هو الظاهرُ .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله
تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } : الآية . « عليهم » الضمير للذين هادُوا ، و «
فيها » للتوراةِ و « أن النفس بالنفس » : « أن » واسمُا وخبرُها في محلِّ نصبٍ على
المفعولية ب « كتبنا » والتقدير : وكتبنا عليهم أَخْذَ النفسِ بالنفس . وقرأ
الكسائي و « العينُ » وما عطف عليها بالرفع ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع ،
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر بالنصب فيما عدا « الجروح » فإنهم يرفعونها .
فأما قراءة الكسائي فوجَّهَها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ
الواوُ عاطفةً جملةً اسية على جملةٍ فعليةٍ فَتَعْطِفُ الجملَ كما تعطِفُ المفردات
، يعني أنَّ قولَه : « والعين » مبتدأ ، و « بالعين » خبره ، وكذا ما بعدها والجملةُ
الاسميةُ عطفٌ على الفعليةِ من قولِه : « وكتبنا » وعلى هذا فيكون ذلك ابتداءَ
تشريع ، وبيانَ حكمٍ جديد غير مندرجٍ فيما كتب في التورة ، قالوا : وليست مشركة
للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى . وعَبَّر الزمخشري عن هذا الوجه
بالاستئناف ، قال : « أو للاستنئافِ ، والمعنى : فَرَضْنا عليهم أنَّ النفسَ
مأخوذةٌ بالنفسِ مقتولةٌ بها إذا قَتَلتْها بغيرِ حقٍّ ، وكذلك العينُ مفقوءةٌ
بالعينِ ، والأنفُ مجدوعٌ بالأنف ، والأذنُ مصلومةٌ أو مقطوعة بالأذن ، والسنُّ
مقلوعةٌ بالسن ، والجروحُ قصاصٌ وهو المُقاصَّة » وتقديرُه : أنَّ النفسَ مأخوذةٌ
بالنفس ، سبقه إليه الفارسي ، إلا أنه قَدَّر ذلك في جميعِ المجروراتِ ، أي :
والعينُ مأخوذةٌ بالعين إلى آخره ، والذي قَدَّره الزمخشري مناسبٌ جداً ، فإنه
قَدَّر متعلَّق كلِّ مجرور بما يناسِبُه : فالفَقْءُ للعينِ ، والقلعُ للسنِّ ،
والصَّلْمُ للأذن ، والجَدْعُ للأنف . إلا أنَّ الشيخ كأنه غَضَّ منه حيث قَدَّر
الخبرَ تعلَّق به المجرورُ كوناً مقيداً . والقاعدةُ في ذلك إنما يقدِّر كوناً
مطلقاً ، قال : « وقال الحوفي : » بالنفس « يتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه يجب أو
يستقر ، وكذا العينُ بالعينِ وما بعدها ، فقدَّر الكونَ المطلقَ ، والمعنى : يستقر
قَتْلُها بقتل النفس » إلا أنه قال قبلَ ذلك : « وينبغي أَنْ يُحمل قولُ الزمخشري
على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الاعراب » ثم قال : « فقدَّر - يعني الزمخشري - ما
يقرب من الكونِ المطلق وهو : » مأخوذٌ « فإذا قلت : » بعت الشياه شاةً بدرهم
فالمعنى : مأخوذة بدرهم ، وكذلك الحر بالحر أي : مأخوذ « .
الوجه الثاني من توجيه الفارسي : أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسمية على الجملة
من قوله : { أَنَّ النفس بالنفس } لكنْ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ، فإنَّ
معنى » كَتَبْنا عليهم أنَّ النفس بالنفس « قلنا لهم النفس بالنفس ، فالجملُ
مندرجةٌ تحت الكَتْبِ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ .
وقال
ابنُ عطية : « ويُحْتمل أن تكونَ الواوُ عاطفةً على المعنى ، وذكر ما تقدم ، ثم
قال : » ومثلُه لَمَّا كان المعنى في قوله : { يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعين }
يُمْنحون عَطَفَ « وحوراً عينا » عليه ، فنظَّر هذه الآية بتلك لا شتراكِهما في
النظرِ إلى المعنى دونَ اللفظِ وهو حسنٌ . قال الشيخ : « وهذا من العطف على
التوهُّم ، إذ توهَّم في قوله { أَنَّ النفس بالنفس } : النفسُ بالنفسِ / وضعَّفه
بأن العطفَ على التوهُّمِ لا ينقاس . والزمخشري نحا إلى هذا المعنى ، ولكنه عَبَّر
بعبارةٍ آخرى فقال : » الرفع [ للعطف ] على محلِّ « أنَّ النفسَ » لأن المعنى : «
وكتبنا عليهم النفسُ : إمَّا لإِجراء » كتبنا « » مُجْرى « قُلْنا ، وإمَّا أن
معنى الجملة التي هي » النفس بالنفس « مِمَّا يقع عليه الكَتْب كما تقع عليه
القراءة تقول : كَتَبْتُ : الحمدُ لله ، وقرأت : سورةٌ أَنْزلناها ، ولذلك قال
الزجاج : » لو قُرئ إنَّ النفسَ بالنفسِ بالكسر لكانَ صحيحاً « قال الشيخ : » هذا
هو [ الوجهُ ] الثاني من توجيه أبو عليّ ، إلا أنه خَرَج عن المصطلح حيث جَعَله من
العطفِ على المحلِّ وليس منه ، لأنَّ العطف على المحل هو العطفُ على الموضعِ ، وهو
محصورٌ ليس هذا منه ، ألا ترى أنَّا لا نقول : « أنَّ النفسَ بالنفس » في محلِّ
رفعٍ لأنَ طالبَه مفقودٌ ، بل « أن » وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ لفظُه وموضعُه
نصبٌ ، إذ التقديرُ : كَتَبْنا عليهم أَخْذَ النفسِ « قلت : والزمخشري لم يَعْنِ
أنَّ » انَّ « وما في حَيِّزها في محل رفع فعطف عليها المرفوعَ حتى يُلْزِمَه
الشيخُ بأنَّ لفظها ومحلَّها نصبٌ ، إنما عَنَى أنَّ اسمَها محلُّه الرفعُ قبلَ
دخولِها ، فراعى العطفَ عليه كما راعاه في اسم » إنَّ « المكسورة . وهذا الردُّ
ليس للشيخِ ، بل سَبَقَه إليه أبو البقاء فأخذه منه . قال أبو البقاء : » ولا يجوز
أن يكونَ معطوفاً على « أَنَّ » وما عملت فيه؛ لأنها وما عملت فيه في موضع نصب «
انتهى . وليس بشيءٍ لما تقدم .
قال الشيخ شهاب الدين أو شامة : » فمعنى الحديثِ : قُلْنا لهم : النفسُ بالنفسُ ،
فَحَمَل « العين بالعين » على هذا ، لأنَّ « أنَّ » لو حُذِفت لاستقام المعنى
بحذفِها كما اسقام بثبوتِها ، وتكون « النفس » مرفوعةً فصارت « أنَّ » هنا ك «
إنَّ » المكسورة في أنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالجملةِ ، فجاز العطفُ على محل
اسمِها كما يجوزُ على محلِّ اسم المكسورة ، وقد حُمِل على ذلك : { أَنَّ الله
برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 3 ] قال الشيخ أبو عمرو - يعني أن
الحاجب - ورسولُه بالرفع معطوف على اسم « انَّ » وإنْ كانت مفتوحة لأنها في حكم
المكسورة ، وهذا موضعٌ لم يُنَبِّه عليه النحويون « قلت : بلى قد نَبَّه النحويون
على ذلك واختلفوا فيه ، فجوَّزه بعضهم وهو الصحيحُ ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد » علم
« أو ما في معناه كقوله :
1731-
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتمْ ... بُغاةٌ ما بَقِينا في شقاق
وقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 3 ] الآية؛ لأنَّ الأذانَ بمعنى
الإِعلام .
الوجه الثالث : أنَّ « العين » عطفٌ على الضمير المرفوع المستتر في الجارِّ
الواقعِ خبراً ، إذ التقديرُ : أنَّ النفسَ بالنفس هي والعينُ ، وكذا ما بعدها ،
والجارُّ والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينةً للمعنى ، إذ المرفوعُ هنا
مروفوعٌ بالفاعلية لعطفِه على الفاعل المستتر ، وضُعِّفَ هذا بأنّ هذه أحوالٌ
لازمةٌ ، والأصلُ أن تكون منتقلةً ، وبأنه يلزَمُ العطفُ على الضميرِ المرفوع
المتصلِ من غير فصلٍ بين المتعاطفينِ ولا تأكيدٍ ولا فصلٍ ب « لا » بعد حرف العطف
كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وهذا لا يجوزُ عند
البصريين إلا ضرورةً ، قال أبو البقاء : « وجاز العطفُ من غيرِ توكيدٍ كقوله : {
مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] قلت : قام الفصلُ ب » لا «
بين حرف العطف والمعطوف مقامَ التوكيدِ فليس نظيرَه . وللفارسي [ بحثٌ في قوله : {
ما أشركنا ولا آباؤنا } مع سيبويه ، فإنَّ سيبويه يجعلُ طولَ الكلامِ ب » لا «
عوضاً عن التوكيد بالمنفصل ، كما طال ] الكلامُ في قولهم : » حضر القاضيَ اليومَ
امرأةٌ « قال الفارسي : » هذا يستقيمُ إذا كان قبل حرف العطف ، أما إذا وقع بعده
فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير ، ألا ترى أنك لو قلت : « حضر امرأة القاضي اليوم » لم
يُغْنِ طولُ الكلامِ في غير الموضعِ الذي ينبغي أن يقع فيه « . قال ابنُ عطية : »
وكلامُ سيبويهِ متجهٌ على النظرِ النحوي وإن كان الطول قبل حرفِ العطف أَتَمَّ ،
فإنه بعد حرفِ العطفِ مؤثِّرٌ لا سيما في هذه الآيةِ لأن « لا » رَبَطتِ المعنى ،
إذ قد تَقدَّمها نفيٌ ونَفَتْ هي أيضاً عن الآباءِ فيمكن العطفُ « .
واختار أبو عبيد قراءةَ رفعِ الجميع ، وهي روايةٌ الكسائي ، لأن أَنَساً رواها
قراءةً للنبي صلى الله عليه وسلم . ورَوَى أنس عنه السلام أيضاً » أنْ النفسُ
بالنفس « تبخفيف » أَنْ « ورفعِ النفس وفيها تأويلان ، أحدهما : أَنْ تكونَ » أَنْ
« مخففةً من الثقيلة واسمُها ضميرُ الأمر والشأن محذوفٌ ، و » النفسُ بالنفس «
مبتدأ وخبر ، في محلِّ رفع خبراً ال » أَنْ « المخففة ، كقوله : { أَنِ الحمد
للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] ، فيكون المعنى كمعنى المشددة . والثاني :
أنها » أَنْ « المفسرةُ لأنها بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه وهو » كَتَبْنا «
والتقديرُ : أي النفسُ بالنفس ، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزَمُ من الأولِ
وقوعُ المخففةِ بعد غيرِ العلمِ وهو قليل أو ممنوعٌ ، وقد يُقال : إن » كتبنا «
لَمَّا كان بمعنى » قضينا « قَرُبَ من أفعال اليقين .
وأمَّا
قراءةُ نافع ومَنْ معه فالنصبُ على اسم « أَنَّ » لفظاً وهي النفس والجارُّ بعدَه
خبرُه ، و « قصاصٌ » خبر « الجروح » أي : وأنَّ الجروحَ قصاص ، وهذا من عطفِ
الجملِ ، عَطَفنا الاسمَ على الاسم والخبرَ على الخبر ، كقولك « إنَّ زيداً قائمٌ
وعمراً منطلق » عطفْتَ « عمراً » على « زيداً » و « منطلق » على « قائم » ويكون
الكَتْبُ شاملاً للجميع ، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكونَ « قصاص »
خبراً على المنصوباتِ أجمعَ فإنه قال : « وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصبِ ذلك كلِّه ،
و » قصاص « خبرُ أَنَّ » وهذا وإنْ كان يَصْدُقُ أنَّ أَخْذَ النفسِ بالنفسِ
والعينَ بالعينِ قصاص ، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح ، وهو
محلُّ نظر .
وأمَّا قراءة أبي عمرو ومَنْ معه فالمنصوبُ كما تقدَّم في قراءة نافع ، لكنهم لم
يَنْصِبُوا « الجروح » قطعاً له عَمَّا قبله ، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة
في توجيهِ قراءة الكسائي ، وقد تقدَّم إيضاحُه . والرابع : أنه مبتدأ وخبره « قصاص
» يعني أنه ابتداءُ تشريعٍ ، وتعريفُ حكمٍ جديد ، قال أبو عليّ « فأمَّا والجروحُ
قصاص : فمن رفعه يَقْطَعْه عما قبله ، فإنه يحتمل هذه الأوجهَ الثلاثةَ التي
ذكرناها في قراءة مَنْ رفع » والعينُ بالعين « ويجوز أن يُستأنف : » والجروحُ قصاص
« ليس على أنه مما كُتِب عليهم في التوراة ، ولكنه على الاستئناف وابتداءِ تشريع »
انتهى . إلا أنَّ أبا شامة قال : قبل أن يَحْكي عن الفارسي هذ الكلامَ - « ولا
يستقيم في رفع الجروح الوجهُ الثالث وهو أنه عطفٌ على الضمير الذي في خبر » النفس
« وإنْ جاز فيما قبلها ، وسببُه استقامةُ المعنى في قولك : مأخوذةٌ هي بالنفس ،
والعينُ هي مأخوذة بالعين ، ولا يَسْتقيم : والجروحُ مأخوذةٌ قصاص ، وهذا معنى
قولي » لَمَّا خلا قولُه « الجروح قصاص » عن الباءِ في الخبر خالَف الأسماءَ التي
قبلها فخولِفَ بينهما في الاعراب « قلت : وهذا الذي قاله واضح ، ولم يتنبَّه لم
كثيرٌ من المُعْرِبين .
وقال بعضُهم : » إنما رُفِع « الجروح » ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لِما قبله فرقاً بين
المجملِ والمفسرِ « يعني أنَّ قَولَه » النفس بالنفس والعينَ بالعين « مفسَّرٌ
غيرُ مجملٍ ، بخلاف » الجروح « فإنها مجملةٌ؛ إذ ليس كلُّ جرح يَجْرَي فيه قصاصٌ :
بل ما كان يُعْرَفُ فيه المساواةُ وأمكن ذلك فيه ، على تفصيل معروف في كتب الفقه .
وقال بعضُهم : خُولِف في الإِعراب لاختلافِ الجراحات وتفاوتِها ، فإذن الاختلافُ
في ذلك كالخلاف المشارِ إليه ، وهذان الوجهان لا معنى لهما ، ولا ملازمةَ بين
مخالفة الإِعراب ومخالفةِ الأحكامِ المشار إليها بوجهٍ من الوجوهِ ، وإنما ذَكَرْتُها
تنبيهاً على ضَعْفِها .
وقرأ
نافع : « والأذْن بالأذْن » سواء كان مفرداً أم مثنى كقوله : { كَأَنَّ في
أُذُنَيْهِ وَقْراً } [ لقمان : 7 ] بسكون الذال وهو تخفيفٌ للمضوم كعُنْق في «
عُنُق » والباقون بضمِّها ، وهوا لأصل ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : { والجروح
قِصَاصٌ } : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ، وسواءً قُرئ برفعه أو بنصبِه
تقديرُه : وحكمُ الجروحِ قصاصٌ ، أو : والجروحُ ذاتُ قصاص .
والقِصاص : المُقاصَّةُ ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة وقرأ أُبي بنصب «
النفس » والأربعة بعدها و « أنِ الجروحُ » بزيادة « أن » الخفيفة ، ورفع « الجروحُ
، وعلى هذه القراءة يتعيِّن أَنْ تكونَ المخففةَ ، ولا يجوز أن تكونَ المفسرةَ ،
بخلافِ ما تقدَّم من قراءةِ أنس عنه عليه السلام بتخفيف » أن « ورفعِ » النفس «
حيث جَوَّزْنا فيها الوجهين ، وذلك / لأنه لو قَدَّرْتها التفسيريةَ وجَعَلْتَها
معطوفةً على ما قبلَها فَسَدَ من حيث إنَّ » كتبنا « يقتضي أَنْ يكونَ عاملاً لأجل
» أنَّ « المشددة غيرُ عامل لأجل » أَنْ « التفسيرية ، فإذا انتفى تسلُّطُه عليها
انتفى تشريكُها مع ما قبلها ، لأنه إذا لم يكن عملٌ فلا تشريكٌ ، فإذا جعلتها
المخففةَ تسلَّط عملُه فاقتضى العملُ التشريكَ في انصبابِ معنى الكَتْب عليهما .
وقرأ أبيّ : » فهو كفارتُه له « أي : التصدُّق كفارةٌ ، يعني الكفارة التي يستحفها
له لا ينقصُ منها ، وهو تعظيمٌ لِما فَعَلَ كقوله : { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [
الشورى : 40 ] .
قوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقصاصِ المتعلِّق بالنفس أو بالعين أو بما
بعدَها ، فهو أي : فذلك التصدقُ عاد الضمير على المصدر لدلالة فعلِه عليه ، وهو
كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . والضميرُ في » له « فيه
ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وهو الظاهر - : أنه يعود على المتصدِّق والمرادُ به مَنْ
يستحِقُّ القِصاصَ مِنْ مصابٍ أو وليّ ، أي : فالتصدقُ كفارةٌ لذلك المتصدِّق بحقه
، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمَنْ بعدَهم . والثاني : أنَّ الضميرَ
يُراد به الجاني ، والمراد بالمتصدِّق كما تقدم مستحقُ القصاص ، والمعنى : انه إذا
تصدَّق المستِحقُّ على الجاني كان ذلك التصدُّقُ كفارةً للجاني حيث لم يُؤَاخَذْ
به . قال الزمخشري : » وقيل : فهو كفارةٌ له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحبُ الحق
سَقَط عنه ما لَزِمه « وإلى هذا ذهب ابن عباس في آخرين . والثالث : أن الضميرَ
يعودُ على المتصدِّق أيضاً ، لكن المرادَ به الجاني نفسه ، ومعنى كونِه متصدِّقاً
أنه إذا جنى جنايةً ولم يَعْرِفْ به أحدٌ فَعَرَّف هو بنفسه كان ذلك الاعترافُ
بمنزلةِ التصدُّق الماحي لذنبِه وجنايِته ، قاله مجاهد ، ويُحْكى عن عروة بن
الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه فلم يَعْرف الرجلُ مَنْ أصابه ، فقال له عروة :
» أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير ، فإنْ كان يعنيك شيءٌ فيها أنا ذا « ، وعلى هذا
التأويل يحتمل أن يكون » تصدَّق « من الصدَقة وأن يكون من الصِدْق .
قلت : الأول واضح ، والثاني معناه أنه يتَكَلَّفُ الصدق ، لأن ذلك مما يَشُقُّ . وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } يجوزُ في « مَنْ » أن تكونَ شرطيةٌ ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، والفاءُ في الخبر زائدةٌ لشبهِه بالشرط . و « هم » في قوله : { هُمُ الكافرون } ونظائرهُ فصلٌ أو مبتدأٌ ، وكلُّه ظاهرٌ مِمَّا تقدَّم في نظائره .
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قوله
تعالى : { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى } : قد تقدَّم معنى « قَفَّينا »
وأنه من قفا يقفو أي : تبع قفاه في البقرة . وقوله : { على آثَارِهِم بِعَيسَى }
كِلا الجارَّيْن متعلقٌ به على تضمينِه معنى « جئْنا به على آثارهم قافياً لهم »
وتقدَّم أيضاً أن التضعيفَ فيه ليس للتعديةِ لعلة ذُكِرت هناك . وإيضاحُها أنَّ «
قَفا » متعدٍ لواحدٍ قبلَ التضعيفُ ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ } [ الإِسراء : 36 ] ف « ما » موصولةٌ بمعنى الذي هي مفعول ، وتقول
العربُ : « قَفا فلانٌ أثرَ فلانٍ » أي : تَبِعه ، فلو كان التضعيف للتعدِّي
لتَعَدَّى إلى اثنين ، فكان التركيبُ يكون : « ثم قَفَّيْنا هم عيسى بن مريم » ف «
هم » مفعول ثاني و « عيسى » أول ، ولكنه ضُمِّن كما تقدم ، فلذلك تعدَّى بالباء و
« على » . قال الزمخشري : « قَفْيْتُه » مثل : عَقَّبْتُه إذا أتبعته ، ثم يقال :
« قَفَّيْتُه بفلان » مثل : عَقَّبْتُه به ، فتعدِّيه إلى الثاني بزيادةِ الباء .
فإنْ قلت : أين المفعولُ الأول؟ قلت : هو محذوفٌ والظرفُ الذي « على آثارهم »
كالسادِّ مسدِّه ، لأنه إذا قَفَّى به على اثرِه فقد قَفَّى به إياه « فكلامُه هنا
ينحو إلى أنَّ » قَفَّيه « مضعفاً كقفوتُه ثلاثياً ثم عَدَّاه بالباء ، وهذا وإنْ
كان صحيحاً من حيث إنَّ فَعًّل قد جاء بمعنى فَعَل المجرد كقَدَّر وقَدَر ، إلا
أنّ بعضهم زعم أن تعديةَ المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلىثاني بالباء ، لا تقول في »
طعم زيد اللحمَ « : » أطعمتُ زيداً باللحم « ولكنَّ الصوابَ أنه قليل غيرُ ممتنعٍ
، جاءت منه ألفاظٌ قالوا : » صَكَّ الحجُر الحجرَ « ثم يقولون : صككتُ الحجرَ
بالحجرِ ، و » دفع زيدٌ عمراً « ثم : دَفَعْتُ زيداً بعمرو ، أي : جعلتُه دافعاً
له ، فكلامُه : إما ممتنع أو محمولٌ على القليل ، وقد أشَرْتُ إلى منعِ أدِّعاء
حذفِ المفعول من نحو : { َقَفَّيْنَا } [ الآية : 87 ] في البقرة فليُطلب ثَمَّة .
وناقشَه الشيخ في قوله : » فقد قَفَّى به إياه « من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل
مع قدرته على المتصل ، فيقول : » قَفَّيْتُه به « قال : » ولو قلت : زيدٌ ضربْتُ
بسوط إياه « لم يجز إلا في ضرورة شعر ، بل ضربتُه بسوط » وهذا ليس بشيء ، لأن ذلك
من باب قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] { وَلَقَدْ
وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ]
وقد تقدَّم تحقيقه .
والضمير في « آثارهم » إمَّا للنبيين لقولِه : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } ،
وإمَّا لِمَنْ كُتبت عليهم تلك الأحكام ، والأول أظهر لقوله في موضع آخر : {
بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الحديد : 27 ] و « مصدقاً »
حال من « عيسى » قال ابن عطية « وهي حالٌ مؤكدة » وكذلك قال في « مصدقاً » الثانية
، وهو ظاهرٌ فإنَّ مِنْ لازم الرَّسول والإِنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا
مصدِّقَيْن .
و
« لِما » متعلق به ، وقوله : { مِنَ التوراة } حال : إمَّا من الموصول وهو « ما »
المجرورةُ باللام ، وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف لوقوعِه صلةً ، ويجوز ان
تكونَ لبيانِ جنس الموصول .
قوله : { وَآتَيْنَاهُ } يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ عطفاً على قوله
: { وَقَفَّيْنَا } فلا يكونُ لها محلُّ ، كما أنا المعطوف عليه لا محلَّ له ،
ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ عطفاً على « مصدقاً » الأول إذا جُعل «
مصدقاً » الثاني حالاً مِنْ « عيسى » أيضاً كما سيأتي ، ويجوز ان تكون الجملةُ
حالاً وإنْ لم يكن « مصدقاً » الثاني حالاً من « عيسى » . وقوله : { فِيهِ هُدًى }
يجوزُ أَنْ يكونَ « فيه » وحدَه حالاً من الإِنجيل « ، و » هُدى « فاعل به ، لأنه
لَمَّا اعتمد على ذي الحال رَفَعَ الفاعل ، ويجوز أن يكون » فيه « خبراً مقدماً ،
و » هدى « مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ حال ، » ومصدقاً « حالٌ عطفاً على محل » فيه هدى «
بالاعتبارين : أعني اعتبار أ نيكون » فيه « وحدَه هو الحالَ فعطفْتَ هذه الحال
عليه ، وأن يكون » فيه هدى « جملةً اسميةً محلُّها النصب ، و » مصدقاً « عَطْفٌ
على محلها ، وإلى هذا ذهب ابن عطية ، إلا أنَّ هذا مرجوحٌ من وجهين ، أحدهما :
أنَّ أصلَ الحال أن تكونَ مفردةً والجارُّ أقربُ إلى المفرد من الجمل . الثاني :
أنَّ الجملةَ الاسمية والقعة حالاً الأكثرُ أَنْ تأتيَ فيها بالواوِ وإنْ كان فيها
ضميرٌ ، حتى زعم / الفراء - وتَبِعه الزمخشري - أنَّ ذلك لا يجوز إلا شاذاً وكونُ
» مصدقاً « هذا حالاً مِنَ » الإِنجيل « هو الظاهرُ وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه
أبو البقاء - أن يكون » مصدقاً « الثاني حالاً أيضاً من » عيسى « كُرِّر توكيداً .
قال ابن عطية : » وهذا فيه قلقٌ من جهة اتِّساق المعاني « قلت : إذا جعلنا »
وآتيناه « حالاً منه ، وعَطَفْنا عليها هذه الحالَ الأخرى فلا أدري وجهَ القلق من
الحيثية المذكورة؟
وقوله : { وَهُدًى } الجمهورُ على النصب وهو على الحال : إمَّا من الإِنجيل ،
عطفْتَ هذه الحال على ما قبلها ، وإمَّا من » عيسى « أي : ذا هدى وموعظة أو هادياً
، أو جُعِل نفسُ الهدى مبالغة . وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعول من أجله ،
وجعل العاملَ فيه قولَه تعالى : { آتيناه } قال : » وأَنْ نتصِبا مفعولاً لهما
لقوله : { وليحكمَ } كأنه قيل : وللهدى وللموعظةِ آتنياه الإِنجيل وللحكم .
وجَوَّز
أبو البقاء وغيرُه أن يكونَ العاملُ فيه : « قَفَّينا » أي : فقينا للهدى والموعظة
، وينبغي إذا جُعِلا مفعولاً من أجله أَنْ يُقَدَّر إسنادها إلى الله تعالى لا إلى
الإِنجيل ليصِحَّ النصبُ ، فإنَّ شرطَه اتحادُ المفعول له مع عاملِه فاعلاً
وزماناً ، ولذلك لَمَّا اختلف الفاعلُ في قوله : « وليحكم أهل الإِنجيل » عُدِّي
إليه باللام ، ولأنه خالفَة أيضاً في الزمان ، فإنَّ زمنَ الحكم مستقبلٌ وزمنَ
الأنبياءِ ماضٍ ، بخلاف الهداية والموعظة فإنهما مقارنان في الزمان للإِيتاء . و «
للمتقين » يجوز أن يكونَ صفة ل « موعظة » ويجوز ان تكونَ اللامُ زائدةً مقويةً ، و
« المتقين » مفعول « ب » موعظة ، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله لأنه مبنيٌّ عليها
كقوله :
1732- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورهبةٌ ... عقابَك . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم الكلام على « الإِنجيل » واشتقاقُه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن
إعادته . وقرأ الضحاك بن مزاحم : « وهدى وموعظة » بالرفع ، ووجهُها أنها خبرُ
ابتداء مضمر أي : وهو هدى وموعظة .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قوله
تعالى : { وَلْيَحْكُمْ } : قرأ الجمهورُ بسكونِ اللامِ وجزمِ الفعل بعدها على
أنها لامُ الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب « كَتْف » وإن كان أصلها الكسرَ ، وقد قرأ
بعضُهم بهذا الأصلِ . وقرأ حمزة - رحمه الله - بكسرِها ونصبِ الفعل بعدها ، جعلها
لامَ كي ، فنصبَ الفعلَ بعدها بإضمار « أن » على ما تقرر غيرَ مرة ، فعلى قراءة
الجمهور والشاذ تكونُ جملةً مستأنفة ، وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق اللام ب «
آتينا » أو ب « قَفَّيْنا » إن جعلنا « هدى وموعظة » مفعولاً لهما أي : قَفَّيْنا
للهدى والموعظة وللحكم ، أو آتيناه الهدى والموعظةَ والحكم ، وإنْ جعلناهما حالين
معطوفين على « مصدقاً » تعلَّق « وليحكم » في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ كأنه
قيل : وللحكمِ آيتناه ذلك . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : فإنْ نَظَّمْتَ » هدى
وموعظة « في سِلْك » مصدقاً « فما تصنعُ بقوله : » وليحكم «؟ قلت : أصنعُ به ما
صنعت ب » هدى وموعظة « حيث جعلتُهما مفعولاً لهما فأقدِّر : » وليحكم أهل الإِنجيل
بما أنزل الله آتيناه إياه « وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول - أعني كون »
وليحكم « مفعولاً له عطفاً على » هدى « والعاملُ » آتيناه « الملفوظُ به - فإنه
قال : » وآيتناه الإِنجيل ليتضمِّن الهدى والنورَ والتصديق وليحكم أهل الإِنجيل «
قال الشيخ : » فعطفَ « وليحكم » على توهُّم علةٍ ، ولذلك قال : « ليتضمن » وذكر
الشيخُ قولَ الزمخشري السابقَ ، وجعله أقربَ إلى الصواب من قول ابن عطية ، قال : «
لأنَّ الهدى الأول والنور والتصديق لم يؤتَ بها على أنها علةٌ ، إنما جيء بقوله {
فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحال ،
والحالُ لا تكونُ علةً ، فقوله : » ليتضمَّن كيتَ وكيت وليحكم « بعيدٌ .
وقد خُتِمت الآيةُ الأولى ب » الكافرون « والثانية ب » الظالمون « والثالثة ب »
الفاسقون « لمناسباتٍ ذكرَها الناس ، وأحسنُ ما قيل فيها ما ذكره الشعبي من أن
الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النصارى ، وذلك أنَّ قبل
الأولى » فإنْ جاؤوك فاحكُمْ « وكيف » يُحَكِّمونك « ويَحْكُم بها النبيون » وقبل
الثانية : « وكَتَبْنا عليهم » وهم اليهود ، وقبل الثالثة : « وليحكم أهل الإِنجيل
» وهم النصارى ، فكأنه خصَّ كلَّ واحدة بما يليه . وقرأ أُبيّ : « وأن ليحكم »
بزيادة « أن » ، وليس موضعَ زيادتِها .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله
تعالى : { بالحق } : الباء يجوزُ أن تكونَ للحال من « الكتاب » أي : ملتبساً بالحق
والصدق ، وهي حالٌ مؤكدة ، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل أي : مصاحبِين للحق ، أو
حالاً من الكاف في « إليك » أي : وأنت ملتبسٌ بالحق . و « من الكتاب » تقدَّم
نظيرُه . و « أل » في الكتاب الأول للعهدِ وهو القرآنُ بلا خلافٍ ، وفي الثاني :
يُحْتمل أن تكونَ للجنس ، إذ المرادُ الكتبُ السماوية . وجَوَّز الشيخ أن تكونَ
للعهد؛ إذ المراد نوعٌ معلومٌ من الكتاب ، لا كلُّ ما يقع عليه هذا الاسمُ ، والفرق
بين الوجهين أنَّ الأولَ يحتاج إلى حذف صفة أي : الكتاب الإِلهي ، وفي الثاني لا
يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ العهدَ في الاسم يتضَّمنه بجميعِ صفاته .
قوله : { وَمُهَيْمِناً } الجمهورُ على كسر الميم الثانية ، اسمَ فاعل وهو حال من
« الكتاب » الأول لعطفِه على الحال منه وهي « مصدقاً » ، ويجوز في « مصدقاً » و «
مهيمناً » أن يكونا حالين من كافِ « إليك » وسيأتي تحقيقُ ذلك عند ذِكْرِ قراءةِ
مجاهد رحمه الله . و « عليه » متعلق « بمهيمِن » والمهيمِن : الرقيب : قال :
1733- إنَّ الكتابَ مهيمِنٌ لنبيِّنا ... والحقُّ يعرِفُه ذَوُو الأَلْبابِ
والحافظ أيضاً ، قال :
1734- مليكٌ على عرشِ السماء مهيمِنٌ ... لعزته تَعْنُو الوجوهُ وتَسْجُدُ
وهو الشاهد أيضاً . واختلفوا فيه : هل هو أصلٌ بنفسه أي : ليس مبدلاً من شيء ،
يقال : هَيْمَن يُهَيْمن فهو مُهَيْمِن ، كبَيْطَر يُبَيْطِر فهو مُبَيْطر قال أبو
عبيدة : « لم يَجِيءْ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعةُ ألفاظ : » مبيطِر
ومُسَيْطر ومُهَيْمِن ومُحَيْمِر « وزاد أبو القاسم الزجاجي في شَرْحه لخطبة » أدب
الكاتب « لفظاً خامساً وهو : » مُبَيْقِر ، اسمَ فاعل مِنْ بَيْقَر يُبَيْقِرُ أي
خَرَج من أفق إلى أفق ، أو البُقَّيْرى وهي لعبةٌ معروفة للصبيان ، وقيل : إنَّ
هاء مبدلة من همزة وأنه اسمُ فاعل من آمنَ غيرَه من الخوفِ ، والأصلُ : «
مُأَأْمِن » بهمزتين / أُبْدِلت الثانيةُ ياءً كراهيةَ اجتماعِ همزتين ثم أُبْدلت
الأولى هاءً ك هراق وهَراح وهَبَرْتُ الثوب في : أراق وأراح وأَبَرْت الثوب ، وهذا
ضعيفٌ أو فيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه ، مع أنَّ له أبنيةً يمكنُ إلحاقه بها
كمُبَيْطِر وإخوانِه ، وأيضاً فإن همزة « مُأَأْمِن » اسمَ فاعل من « آمن »
قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أُثْبِتَتْ ثم أُبْدِلَت هاءً ، هذا ما لا نظير
له . وقد سقطَ ابنُ قتيبة سقطةً فاحشة حيث زعم أن « مُهَيْمِناً » مصغرٌ ، وأن
أصله « مُؤَيْمِن » تصغيرُ « مُؤْمن » اسمَ فاعل ، ثم قُلبت همزتُه هاء كهَراق ،
ويُعْزى ذلك لأبي العباس المبرد أيضاً .
إلاَّ
أنَّ الزجاج قال : « وهذا حسنٌ على طريقِ العربية ، وهو موافقٌ لِما جاء في
التفسير من أنَّ معنى مُهَيْمن : مُؤْمن » وهذا الذي قال الزجاج [ واستحسنه أنكره
الناسُ عليه وعلى المبرد ومَنْ تَبِعَهما ] ، ولما بلغ أبا العباس ثعلباً هذا
القولُ أنكره أشدَّ إنكار وأنحى على ابن قتيبة وكتب إليه : أَنِ اتقِ الله فإن هذا
كفرٌ أوما أشبهه ، لأن أسماء الله تعالى لا تُصَغَّر وكذلك كل اسمٍ معظَّم شرعاً .
وقال ابن عطية : « إن النقاش حَكَى أنَّ ذلك لَمَّا بلغ ثعلباً فقال : إنَّ ما
قاله ابنُ قتيبة رديءٌ باطل ، والوثوبُ على القرآن شديد ، وهو ما سمع الحديث من
قوي ولا ضعيف ، وإنما جمع الكتب من هَوَسٍ غلبه » [ وقال أبو البقاء : « وأصل
مُهَيْمن : مُؤْيْمِن لأنه مشتق من الأمانة لأن المهيمنَ الشاهدُ ، وليس في الكلام
» هَيْمن « حتى تكون الهاء أصلاً » وهذا الذي قاله لي بشيء لِما تقدم من حكايةِ
أهلا للغة هَيْمَن ] وغايةُ ما في الباب أنهم لم يَسْتعملوه إلا مزيداً فيه الياءُ
كبَيْطر وبابِه .
وقرأ ابن محيصن ومجاهد : « ومُهَيْمَنا » بفتح الميم الثانية على أنه اسمُ معفولٍ
بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير ، والفاعل هو الله تعالى : { إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] أو لحافظ له
في كل بلد ، حتى إنه إذا غُيِرت منه الحركةُ تنبَّه لها الناسُ ورَدُّوا على
قارئِها بالصواب ، والضمير في « عليه » على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول ،
وعلى القراءةِ المشهورة عائد على الكتاب الثاني . وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد
قراءته بالفتح وقال : « معناه : محمد مُؤْتَمَنٌ على القرآن » قال الطبري : « فعلى
هذا يكون » مهيمناً « حالاً من الكاف في » إليك « وطَعَن على هذا القول لوجود
الواو في » ومهيمنا « لأنها عطف على » مصدقاً « و » مصدقاً « حال من الكتاب لا حال
من الكاف؛ إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب : » لما بين يديك « بالكاف .
قال الشيخ : » وتأويلُه على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيدٌ عن نظم
القرآن ، وتقديره : « وجعلناك يا محمد مهيمناً » أبعدُ « يعني أن هذين التأويلين
يصلحان أن يكونا جوابين عن قول مجاهد ، لكن الأول بعيدٌ والثاني أبعدُ منه . وقال
ابن عطية هنا بعد أن حكى قراءةَ مجاهد وتفسيرَه محمداً عليه السلام أنه أمين على
القرآن : » قال الطبري : وقولُه ومهيمناً على هذا حالٌ من الكاف في قوله « إليك »
قال : وهذا تأويلٌ بعيدٌ من المفهوم « قال : » وغَلِط الطبري في هذه اللفظةِ على
مجاهد ، فإنه فَسَّر تأويلَه على قراءة الناس : « مهيمناً » بكسر الميم الثانية
فَبَعُدَ التأويل ، ومجاهد - رحمة الله - إنما يقرأ هو وابن محيصن : « ومهيمَنا »
بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول ، وهو حالٌ من الكتاب معطوف على قوله : «
مصدقاً » وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد عليه السلام .
قال
: و « كذلك مشى مكي رحمه الله » قلت : وما قاله أبو محمد ليس فيه ما يَرُدُّ على
الطبري ، فإنَّ الطبري استشكل كونَ « مهيمنا » حالاً من الكاف على قراءة مجاهد ،
وأيضاً فقد قال ابن عطية بعد ذلك : « ويحتمل أن يكون » مصدقاً ومهيمناً « حالَيْن
من الكاف في » إليك « ، ولا يَخُصُّ ذلك قراءةَ مجاهد وحده كما زعم مكي ، فالناس
إنما استشكلوا كونَهما حالين من كاف » إليك « لقلق التركيب ، وقد تقدَّم ما فيه
وما نقله الشيخُ من التأويلين ، وقوله : » لا يخص ذلك « كلامٌ صحيح ، وإنْ كان مكي
التزمه وهو الظاهر .
و » عليه « في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ومجاهد لقيامِه مقامَ الفاعل ، كذا
قال ابن عَطية ، قلت : هذا إذا جعلنا » مهيمناً « حالاً من الكتاب ، أمَّا إذا
جعلناه حالاً من كاف » إليك « فيكونُ القائمُ مقامَ الفاعلِ ضميراً مستتراً يعودُ
على النبي عليه السلامِ ، فيكون » عليه « أيضاً في محلِّ نصبٍ كما لو قُرِئ به
اسمَ فاعل . قوله : { عَمَّا جَآءَكَ } فيه وجهان ، أحدهما : - وبه قال أبو البقاء
- أنه حال أي : عادلاً عما جاءك ، هذا فيه نظرٌ من حيث إنَّ » عن « حرفُ جر ناقص
لا يقع خبراً عن الجثة ، فكذا لا يقع حالاً عنها ، وحرفُ الجر الناقص إنما يتعلق
بكون مطلق لا بكونٍ مقيدٍ ، لكنَّ المقيدَ لا يجوز حَذْفُه . والثاني : أنَّ »
عَنْ « على بابها من المجاوزة ، لكن بتضمين » تَتَّبعْ « معنى » تتزَحْزَحْ وتنحرف
« أي : لا تحرف متبعاً .
قوله : { مِنَ الحق } فيه أيضاً وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في
» جاءك « والثاني : أنه حالٌ من نفس » ما « الموصولة ، فيتعلق بمحذوفٍ ، ويجوز
أَنْ تكونَ للبيانِ . قوله : » لكل « » كل « مضافة لشيء محذوف ، وذلك المحذوفُ
يُحتمل أن يكونَ لفظة » أمة « أي : لكل أمة ، ويراد بهم جميعُ الناس من المسلمين
واليهود والنصارى ، ويحتمل أن يكونَ ذلك المحذوفُ » الأنبياء « أي : لكل الأنبياء
المقدَّمِ ذكرُهم . و » جَعَلْنا « يُحتمل أن تكونَ متعديةً لاثنين بمعنى
صَيَّرْنا ، فيكون » لكل « مفعولاً مقدماً ، و » شِرْعة « مفعولٌ ثان . وقوله : {
منكم } متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : أعني منكم ، ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه
صفةٌ ل » كل « لوجهين ، أحدُهما : أنه يلزمُ منه الفصلُ بين الصفة والموصوف بقوله
» جَعَلْنا « وهي جملةٌ أجنبية ليس فيها تأكيدٌ ولا تسديدٌ ، وما شأنه كذلك لا يجوز
الفصلُ به .
والثاني
: أنه يلزم منه الفصلُ بين « جَعَلْنا » وبين معمولِها وهو « شِرْعةً » قاله أبو
البقاء وفيه نظر ، فإن العامل في « لكل » غيرُ أجنبي ، ويدل على ذلك قوله : {
أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ } [ الأنعام : 14 ] ففصل بين الجلالة وصفتِها
بالعمل في المفعول الأول ، وهذا نظيره . وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : «
شَرْعة » بفتح الشين ، كأن المكسور للهيئة والمفتوح مصدر .
والشِرْعة في الأصل : السُّنَّةُ ، ومنه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين } [ الشورى
: 13 ] أي : سَنَّ والشارع : الطريق ، وهو من الشريعةِ التي هي في الأصل الطريقُ
المُوصِلُ إلى الماء ، ومنه قوله :
1735- وفي الشرائعِ منْ جِلاَّنَ مُقْتَنِصٌ ... بالي الثيابِ خَفيُّ الصوتِ
مُنْزَرِبُ
والمِنْهاج : مشتق من الطريق النَّهْج وهو الواضح ، ومنه قولُه
1736- مَنْ يَكُ ذا شَكٍّ فهذا فَلْجُ ... ماءٌ رُواءٌ وطريقٌ نَهْجُ
أي : واضحٌ ، يُقال : طريق مَنْهَجٌ ونَهْجٌ . وقال ابن عطية : « مِنْهاج مثالُ
مبالغةٍ من نَهَج » يعني نحو قولهم : « إنه لمِنْحار بوائكَها » / وهو حسن ، وهل
الشرعةُ والمنهاجُ بمعنى ، كقوله :
1737- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهند أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ
والبُعْدُ
[ وكقوله : ]
1738- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
أو مختلفان؟ فالشِّرْعة ابتداءُ الطريق ، والمِنْهاج الطريق المستمر ، قاله المبرد
، أو الشِرْعَةُ الطريقُ واضحاً كان أو غيرَ واضح ، والمنهاج الطريق الواضح فقط ،
فالأول أعمُّ ، قاله ابن الأنباري ، أو الدين والدليل؟ خلاف مشهور .
قوله : { ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ } متعلقٌ بمحذوف فقدَّره أبو البقاء « ولكنْ
فَرَّقكم ليبلوكَم » وقدَّره غيرُه : « ولكن لم يَشَأْ جَعْلَكم أمةً واحدة » وهذا
أحسنُ لدلالة اللفظ والمعنى عليه . و « جميعاً » حال من « كم » في « مرجعكم » ،
والعاملُ في هذه الحال : إمَّا المصدرُ المضافُ إلى « كم » فإنَّ « كم » يحتمل
أَنْ يكونَ فاعلاً ، والمصدرُ يَنْحَلُّ لحرف مصدري وفعل مبنيٍ للفاعل ، والأصلُ :
« تَرْجعون جميعاً » ويحتمل أن يكونَ معفولاً لم يُسَمَّ فاعله على أن المصدر
ينحلُّ لفعل مبني للمفعول أي : يُرْجِعُكم الله ، وقد صُرِّح بالمعنيين في مواضع ،
وإمَّا أن يعملَ فيها الاستقرارُ المقدرفي الجار وهو « إليه » ، و « إليه
مَرْجِعُكم » يُحتمل أن يكونَ من بابِ الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية ، وهذا
واضحٌ بما تقدَّم في نظائره ، و « فَيُنَبِّئُكم » هنا من « نَبَّا » غيرَ متضمنةٍ
معنى « أعلم » فلذلك تَعَدَّت لواحدٍ بنفسها وللآخر بحرف الجر .
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
قوله
تعالى : { وَأَنِ احكم } : فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنَّ محلَّها النصبُ عطفاً
على الكتاب ، أي : وأَنْزلنا إليكم الحكمَ . والثاني : أنها في محلِّ جرٍ عطفاً
على « بالحق » أي : أَنْزلناه بالحقِّ وبالحكم « وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ في محلِّ
» أَنْ « النصبُ والجرُّ على الخلافِ المشهور . والثالث : أنَّها في محلِّ رفعٍ
على الابتداء وفي تقديره خبره احتملان أحدُهما : أنْ تقدِّر متأخراً أي : حكمُك
بما أنزلَ اللّهُ أمرُنا أو قولنا ، والآخر : أن تقدِّره متقدماً أي : ومن الواجبِ
أن احكم أي : حكمُك . والرابع : أنها تفسيريةٌ ، قال أبو البقاء : » وهو بعيدٌ لأن
الواو تمنع من ذلك ، والمعنى يُفْسِدُ ذلك ، لأنَّ « أَنْ » التفسيريةَ ينبغي أن
يَسْبِقها قولٌ يُفَسَّر بها « أمَّا ما ذكره مِنْ مَنْعِ الواو أَنْ تكون » أَنْ
« تفسيريةً فواضح ، وأمَّا قولُه : » يسبِقُها قولٌ « إصلاحُه أن يقولَ : » ما هو
بمعنى القول لا حروفه « ثم قال : » ويمكنُ تصحيحُ هذا القولِ بأن يكون التقدير :
وأمرناك ، ثم فَسَّر هذا الأمرَ ب « احكم » ومنع الشيخُ من تصحيحِ هذا القول بما
ذكره أبو البقاء ، قال : « لأنه لم يُحْفَظْ من لسانِهم حذفُ الجملةِ المفسَّرة ب
» أَنْ « وما بعدها » وهو كما قال . وقراءتا ضمِّ نونِ « أن » وكسرِها واضحتان
مِمَّا تقدَّم في البقرة : الضمة للإِتباع والكسر على أصل التقاء الساكنين .
والضميرُ في « بينهم » : إمَّا لليهود خاصةً وإمَّا لجميع المتحاكمين .
قوله : { أَن يَفْتِنُوكَ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه معفولٌ من أجله أي : احْذَرهم
مخافةَ أَنْ يَفْتِنوك . والثاني : أنها بدلٌ من المفعول على جهةِ الاشتمال كأنه [
قال ] : « واحْذَرْهُمْ فتنتهم » كقولك : « أعجبني زيد علمُه » وقوله : { فَإِن
تَوَلَّوْاْ } قال ابن عطية : « قبلَه محذوفٌ يدل عليه الظاهرُ تقديرُه : لا تتبعْ
واحذَرْ ، فإنْ حَكَّموك مع ذلك واستقاموا لك فنعِمَّا ذلك ، وإن تَوَلَّوا
فاعَلْم » ويَحْسُن أن يُقَدَّر هذا المحذوفُ المعادلُ بعد قولِه : « لفاسقون »
والذي ينبغي إلاَّ يقال في هذا النوع ثَمَّ حذفٌ؛ لأن ذلك من بابِ فحو الخطاب ،
والأمرُ فيه واضح .
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله
تعالى : { أَفَحُكْمَ } : الجمهورُ على ضم الحاء وسكون الكاف ونصب الميم ، وهي
قراءةٌ واضحة . « حكمَ » مفعول مقدم ، و « يبغون » فعل وفاعل ، وهو المستفهم عنه
في المعنى ، والفاءُ فيها القولان المشهوران : هل هي مؤخرة على الهمزة وأصلُها
التقديمُ ، أو قبلَها جملةٌ عطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أَيَعْدِلون عن حكمِك
فيبغون حكمَ الجاهلية؟ وقرأ ابن وثاب الأعرج وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن برفع الميم
، وفيها وجهان ، أظهرُهما : - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه مبتدأ ، و «
يبغون » خبره ، وعائد المبتدأ محذوفٌ تقديرُه : « يَبْغُونه » حملاً للخبرِ على
الصلة . إلا أن بعضهم جعلَ هذه القراءة خطأً ، حتى قال أبو بكر بن مجاهد : « هذه
القراءةُ خطأ » وغيرُه يجعلُها ضعيفةً ، ولا تبلغُ درجة الخطأ ، قال ابن جني في
قول ابن مجاهد : « ليس كذلك ، ولكنه وَجْهُ غيرِه أقوى منه ، وقد جاء في الشعر ،
قال أبو النجم :
1739- قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
أي : لم أصنعه » قال ابن عطية : « هكذا الراويةُ وبها ويتم المعنى الصحيح ، لأنه
أرادَ التبرُّؤ من جميع الذنوب ، ولو نَصَب » كل « لكان ظاهرُ قوله أنه صنع بعضَه
» قالت : هذا الذي ذكره أبو محمد معنى صحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان ،
واستشهدوا على ذلك بقوله عليه السلام حين سأله ذو اليدين فقال : « أَقَصَرْتَ
الصلاة أم نسيت؟ فقال : » كلُّ ذلك لم يكن « أرادَ عليه السلام انتفاءَ كلِّ فردٍ
فردٍ ، وأفاد هذا المعنى تقديمُ » كل « قالوا : ولو قال : » لم يكن كلُ ذلك «
لاحتمل الكلام أن البعض غيرُ منفيّ ، وهذه المسألة تُسَمَّى عمومَ السلب ، وعكسُها
نحو : » لم أصنعْ كلَّ ذلك « يُسَمَّى سلبَ العموم ، وهذه مسألةٌ مفيدة فأتقنتُها
، وإن كان بعضُ الناسِ قد فهم عن سيبويه غيرَ ما ذكرت لك .
ثم قال ابن عطية : » وهو قبيحٌ - يعني حَذْفَ العائد من الخبر - وإنما يُحْذَفُ
الضمير كثيراً من الصلة ، ويُحْذَفُ أقلَّ من ذلك من الصفة ، وحَذْفُه من الخبرِ
قبيحٌ « ولكن رجَّح البيتَ على هذه القراءةِ بوجهين ، أحدُهما : أنه ليس في صدرِ
قوله ألفُ استفهام تطلب الفعل كما هي في » أفحكم « ، والثاني : أن في البيت عوضاً
من الهاء المحذوفة / وهو حرفُ الاطلاق ، أعني الياء في » اصنعي « فتضعفُ قراءة
مَنْ قرأ » أفحكمُ الجاهلية يبغون « وهذا الذي ذكره ابن عطية في الوجه الثاني
كلامٌ لا يعبأ به ، وأمَّا الأول فهو قريبٌ من الصواب ، لكنه لم ينهضْ في المنعِ
ولا في التقبيح ، وإنما ينهضُ دليلاً عن الأحسنيَّة أوعلى أن غيرَه أَوْلى منه ،
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهم الخلافَ فيها بالنسبة إلى نوعٍ ، ونَفَى الخلافَ فيها -
بل حكى الإِجماع على الجواز - بالنسبة إلى نوع آخر ، فحكى الإِجماعَ فيما إذا كان
المبتدأُ لفظَ » كل « أو ما أشبهها في العموم والافتقار ، فأمَّا » كل « فنحو : »
كلُّ رجلٍ ضربت « وتقويه قراءةُ ابن عامر : { وكلُّ وعد الله الحسنى } ويريد بما أشبه
» كلا « نحو : » رجلٌ يقولُ الحقَّ انصرْ « أي : انصُرْه ، فإنه عامٌّ ويفتقر إلى
صفة ، كما أن » كلاً « عامةٌ وتفتقر إلى مضاف إليه ، قال : » وإذا لم يكن المبتدأُ
كذلك فالكوفيون يَمْنعون حذفَ العائد ، بل ينصبون المتقدم مفعولاً به ، والبصريون
يُجيزون : « زيدٌ ضربتُ » أي ضربته ، وذكره القراءةَ .
وتعالى
بعضُهم فقال : « لا يجوزُ ذلك » وأطلق ، إلا في ضرورة شعر كقوله :
1740- وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ ، لا يُحْمَدُ بالباطلِ
قال : « لأنه يؤدي إلى تهيئةِ العامل للعمل وقطعه عنه » ، وقد أَتْقَنْتُ هذه المسألةَ
وما نُقل فيها في كتابي « شرح التسهيل » فعليك بالالتفات إليه .
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدمين أن يكونَ « يبغون » ليس خبراً للمبتدأ ، بل
هو صفةٌ لموصوفٍ محذوف وذلك المحذوفُ هو الخبر ، والتقدير : { أَفَحُكْمَ الجاهلية
يَبْغُونَ } وحَذْفُ العائِد هنا أكثرُ لأنه كما تقدَّم يكثُر حَذْفُه من الصلةِ ،
ودونَه من الصفةِ ، ودونَه من الخبر ، وهذا ما اختاره ابنُ عطية وهو تخريجٌ ممكنٌ
، ونَظَّره بقوله تعالى : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } [ النساء : 46 ]
أي : قومٌ يُحَرِّفون « يعني في حذف موصوفٍ وإقامة صفتِه مُقامه ، وإلا فالمحذوفُ
في الآية المنظَّرِ بها مبتدأٌ ، ونظَّرها أيضاً بقوله :
1741- وما الدهرُ إلا تارتانِ : فمنهما ... أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي : تارةً أموت فيها . وقال الزمخشري : » وإسقاطُ الراجع عنه كإسقاطِه في الصلة ،
كقوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] وعن الصفةِ : « في
الناس رجُلان : [ رجلٌ ] أهنْتُ ، ورجلٌ أكرمت » أي : رجلٌ أهنته ورجلٌ أكرمته ،
وعن الحالِ في نحو : « مررت بهند يضرب زيد » قال الشيخ : « إنْ عَنَى التشبيه في
الحذف والحسن فليس كذلك لِما تقدَّم ذكرُه ، وإن عنى في مطلق الحذفِ فَمَسَلَّم »
.
وقرأ الأعمش وقتادة : « أَفَحَكَمَ » بفتح الحاء والكاف ونصب الميم ، وهو مفردٌ
يراد به الجنس لأن المعنى : أحُكَّامَ الجاهلية ، ولا بد من حذف مضاف في هذه
القراءة هو المُصَرَّحُ به في المتواترة تقديره : أَفَحُكْمَ حُكَّام الجاهليةِ .
والقُرَّاء غيرَ ابنِ عامر على « يَبْغُون » بياء الغيبة نسقاً على ما تقدَّم من
الأسماء الغائبة . وقرأ هو بتاء الخطاب على الالتفاتِ ليكون أبلغَ في زَجْرهم
وَرَدْعِهِم ومباكتته لهم ، حيث واجهَهم بهذا الاستفهام الذي يَأْنَفُ منه ذَوُو
البصائِر .
و « حُكْماً » نصباً على التمييز . وقوله : { لقوم } في هذه [ اللام ] ثلاثةُ أوجهٍ أحدها : أن يتعلَّقَ بنفسِ « حكماً » إذ المعنى أنَّ حكمَ اللَّهِ للمؤمن على الكافر ، والثاني : أنا للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوف كهي في « سُقْياً لك » { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] وهو رأي الزمخشري ، وابن عطية قال شيئاً قريباً منه ، وهو أن المعنى : « يُبَيِّن ذلك ويُظْهِرُه لقوم » الثالث : أنها بمعنى « عند » أي : عند [ قوم ] وهذا ليس بشي . ومتعلَّقُ « يوقنون » يجوز أن يُراد ، وتقديرُه : يوقنون بالله وبحكمه ، أو بالقرآن ، ويجوز ألاَّ يُرادَ على معنى وقوع الإِيقان ، وإليه ميلُ الزجاج فإنه قال : « يوقنون : يتبيِِّنون عَدْلَ اللِّهِ في حكمه » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } : مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ ، سيقت تعليلاً للنهي المتقدم ، وزعم الحوفي أنَّها في محلِّ نصبٍ نعتاً ل « أولياء » ، والأولُ هو الظاهر ، والضمير في « بعضهم » يعودُ على اليهود والنصارى على سبيل الإِجمال ، والقرينة تبيِّن أنّ بعضَ اليهودِ أولياءُ بعض ، وأنَّ بعضَ النصارى أولياء بعضٍ ، وبهذا التقريرِ لا يُحتاج كما زعم بعضُهم إلى تقدير محذوف يَصِحُّ به المعنى وهو : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، قال : لأنَّ اليهود لا يتولَّوْن النصارى ، والنصارى لا يتوَلَّوْن اليهود ، وقد تقدَّم جوابه .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
قوله
تعالى : { فَتَرَى الذين } : الجمهورُ على « ترى » بتاء الخطاب ، و « الذين »
مفعول ، فإن كانت الرؤيةُ بصريةً أو عُرْفانية - فيما نقله أبو البقاء وفيه نظرٌ -
فتكونُ الجملةُ من « يُسارعون » في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصول ، وإنْ كانت
قلبية فيكون « يسارعون » مفعولاً ثانياً . وقرأ النخعي وابن وثاب : « فيَرى »
بالياء وفيها تأويلان ، أظهرُهما : أنَّ الفاعل ضميرٌ يعودُ على الله تعالى ، وقيل
: على الرأي من حيثُ هو ، و « يُسارعون » بحالتِها ، والثاني : أن الفاعل نفسُ
الموصول والمفعول هو الجملةُ من قوله : { يُسَارِعُونَ } وذلك على تأويل حَذْفِ «
أَنْ » المصدرية ، والتقدير : ويرى القمُ الذين في قلوبهم مرض أَنْ يُسارعو ،
فلمَّا حُذِفَتْ « أَنْ » رُفِع كقوله :
1742- ألا أيُّهذا الزاجري أَحْضُرُ الوَغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
أجازَ ذلك ابن عطية إلا أنَّ هذا غيرُ مقيس ، إذ لا تُحْذَف « أن » عند البصريين
إلا في مواضعَ محفوظة . وقرأ قتادة والأعمش : « يُسْرِعون » من أسرع . و « يقولون
» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « يسارعون » ، و « نخشى » في محلِّ نصب بالقول
، و « أن تصيبنَا » في محل نصب بالمفعول أي : نخشى إصابتَنا . والدائرة صفة غالبة
لا يُذْكر موصوفُها ، والأصل : داوِرَة ، لأنها من دار يدور . قوله : { أَن
يَأْتِيَ } في محلِّ نصب : إمَّا على الخبر ل « عسى » وهو رأي الأخفش ، / وإمَّا
على أنها مفعولٌ به وهو رأيُ سيبويه لئلا يلزمَ الإِخبارُ عن الجثة بالحَدَث في
قولك : « عسى زيدٌ أَنْ يقومَ » وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « أن يأتي » في محلِّ
رفعٍ على البدل من اسم « عسى » وفيه نظر .
قوله : { فَيُصْبِحُواْ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوب عطفاً على « يأتِيَ »
المنصوب ب « أَنْ » والذي سَوَّغ ذلك وجودُ الفاءِ السببية ، ولولاها لم يجز ذلك ،
لأن المعطوف على الخبر خبر ، و « أن يأتي » خبر عسى وفيه راجعٌ عائدةٌ على اسمها ،
وقوله : { فَيُصْبِحُواْ } ليس فيه ضميرٌ يعود على اسمها فكان من حقِّ المسألةِ
الامتناعُ لكنَّ الفاءَ للسببية ، فَجَعَلَتْ الجمليتن كالجملة الواحدة وذلك جارٍ
في الصلة نحو : « الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ » والصفةِ نحو : « مررت برجل يبكي
فيضحكُ عمرو » والخبرِ نحو : « زيد يبكي فيضحك خالد » ولو كانَ العاطفُ غيرَ الفاء
لم يَجُز ذلك : والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار « أَنْ » بعد الفاء في جواب التمني
قالوا : « لأنَّ عسى تمنٍّ وترجِّ في حق البشر » و « على ما أسَرُّوا » متعلق ب «
نادمين » ، و « نادمين » خبرُ « أصبح » .
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
قوله
تعالى : { وَيَقُولُ } : قرأ أبو عمرو والكوفيون بالواو قبل « يقول » والباقون
بإسقاطها ، إلا أنَّ أبا عمرو ونصب الفعل بعد الواو ، وروى عنه علي بن نصر الرفع
كالكوفيين ، فتحصَّل فيه ثلاثُ قراءات : « يقول » من غير واو « ويقول » بالواو
والنصب ، و « يقول » بالواو والرفع . فأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ « يقول » من غير واو
فهي جملةٌ مستأنفة سِيقَتْ جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه لمَّا تقدَّم قولُه تعالى :
{ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } إلى قوله : { نَادِمِينَ } سأل سائل فقال :
ماذا قال المؤمنون حنيئذ؟ فأجيبَ بقوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } إلى
آخره ، وهو واضح ، والواو ساقطةٌ في مصاحف مكة والمدينة والشام ، والقارئ بذلك هو
صاحبُ هذه المصاحف ، فإن القارئين بذلك ابنُ كثير المكي وابن عامر الشامي ونافع
المدني ، فقراءتُهم موافقةٌ لمصاحفهم ، وليس في هذا أنهم إنما قرؤوا كذلك لأجلِ
المصحف فقط ، بل وافَقَتْ روايتُهم مصاحفَهم على ما بيَّنَتْهُ غيرَ مرة .
وأمَّا قراءة الواو والرفع فواضحة أيضاً لأنها جملة ابتُدئ بالإِخبار بها ،
فالواوُ استئنافيةٌ لمجرد عطف جملة على جملة ، فالواو ثابتة في مصاحف الكوفة
والمشرق ، والقارئُ بذلك هو صاحبُ هذا المصحف ، والكلام كما تقدَّم أيضاً . وأمَّا
قراءةُ أبي عمرو فهي التي تحتاج إلى فَضْلِ نظر ، واختلف الناسُ في ذلك على ثلاثةِ
أوجه ، أحدُها : أنه منصوب عطفاً على « فيصحبوا » على أحد الوجهين المذكورين في
نصبِ « فيُصْبحوا » وهو الوجه الثاني ، أعني كونَه منصوباً بإضمار « أَنْ » في
جوابِ الترجِّي بعد الفاء إجراءً للترجِّي مُجْرى التمني ، وفيه خلافٌ مشهور بين
البصريين والكوفيين ، فالبصريون يمنعونَه والكوفيون يُجيزونه مستدلِّين على ذلك
بقراءِة نافع : { لعله يزَّكى أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه } بنصب « تنفعه » وبقراءة
عاصم في رواية حفص : « لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السماواتِ فأطَّلِعَ » بنصب «
فأطَّلِعَ » وسيأتي الجوابُ عن الآيتين الكريمتين في موضعِه . وهذا الوجهُ - أعني
عطفَ « ويقول » على « فيصبحوا » قال الفارسي وتبعه جماعةٌ ، ونقله عنه أبو محمد بن
عطية ، وذكرَه أبو عمرو بن الحاجب أيضاً ، قال الشيخ شهابُ الدين أبو شامة بعد
ذكره الوجهَ المتقدِّم : « وهذا وجهٌ جيد أفادنيه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب ولم
أَرَه لغيرِه ، وذكروا وجوهاً كلُّها بعيدةٌ متعسِّفة » انتهى . قلت : وهذا - كما
رأيتَ - منقولٌ مشهور عن أبي علي الفارسي ، وأمَّا استجادتُه هذا الوجهَ فإنما
يتمشى على قول الكوفيين ، وهو مرجوحٌ كما تقرر في علم النحو .
الثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على المصدر قبلَه وهو الفتحُ كأنه قيل : فعسى اللَّهُ
أن يأتِيَ بالفتحِ وبأَنْ يقولَ ، أي : وبقولِ الذين آمنوا ، وهذا الوجهُ ذكره أبو
جعفر النحاس ، / ونظَّره بقول الشاعر :
1743-
لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ
وقول الآخر :
1744- لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ ويَسْأَمَ سائِمُ
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوجه ، أحدُها : أنه يؤدِّي ذلك إلى الفصل بين أبعاضِ
الصلةِ بأجنبي ، وذلك أنَّ الفتحَ على قوله مؤولٌ ب « أَنْ » والفعلِ تقديرُه : أَنْ
يأتِيَ بأن يفتحَ وبأَنْ يقولَ ، فيقعُ الفصلُ بقوله : { فيُصبحوا } وهو أجنبي
لأنه معطوفٌ على « يأتي » الثاني : أن هذا المصدرَ - وهو الفتح - ليس يُراد به
انحلالُه لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، بل المرادُ به مصدرٌ غيرُ مرادٍ به ذلك نحو : يعجبني
ذكاؤك وعلمك . الثالث : أنه وإنْ سُلِّم انحلالُه لحرف مصدري وفعل فلا يكون المعنى
على : « فعسى الله أن يأتيَ بأَنْ يقولَ الذين آمنوا » فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً
ظاهراً .
الثالث- من أوجه نصبِ « ويقول » - : أنه منصوبٌ عطفاً على قوله : « يأتي » أي :
فعسى اللَّهُ أَنْ يأتيَ ويقولَ ، وإلى ذلك ذهب الزمخشري ولم يَعْتَرض عليه بشيء ،
وقد رُدَّ ذلك بأنه يلزمُ عطفُ ما لا يجوز أن يكون خبراً على ما هو خبر ، وذلك
أنَّ قولَه : { أن يأتيَ } خبرُ عسى وهو صحيحٌ ، لأنَّ فيه رابطاً عائداً على اسم
« عسى » وهو ضميرُ الباري تعالى ، وقولُه : « ويقول » ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم
« عسى » فكيف يَصِحُّ جَعْلُه خبراً؟ وقد اعتذر مَنْ أجازَ ذلك عنه بثلاثة أوجه ،
أَحدُها : أنه من باب العطفِ على المعنى ، والمعنى : فَعَسى أَنْ يأتي الله بالفتح
وبقولِ الذين آمنوا ، فتكون « عسى » تامةً لإِسنادها إلى « أَنْ » وما في حَيِّزها
، فلا تحتاجُ حينئذ إلى رابط ، وهذا قريبٌ من قولهم « العطف على التوهم » نحو : {
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] . الثاني أنّ { أَنْ
ياتي } بدلٌ من اسم الله لا خبرٌ ، وتكونُ « عسى » حينئذ تامةً ، كأنه قيل : فعسى
أن يقولَ الذين آمنوا ، وهذان الوجهان منقولان عن أبي عليّ الفارسيّ؟ إلا أنَّ
الثاني لا يَصِحُّ لأنهم نَصُّوا على أنَّ عسى واخلولق وأوشك من بين سائر أخواتها
يجوز أن تكونَ تامةً بشرطِ أن يكونَ مرفوعُها : « أن يفعل » قالوا : ليوجَدَ في
الصورةِ مسندٌ ومسندٌ إليه ، كما قالوا / ذلك في « ظن » وأخواتِها : إنَّ « أَنْ »
و « أَنَّ » تسدُّ مسدَّ مفعوليها . والثالث : أن ثم ضميراً محذوفاً هو مصحِّحٌ
لوقوعِ « ويقول » خبراً عن عسى ، والتقدير : ويقولُ الذين آمنوا به أي : بالله ،
ثم حُذِفَ للعلم به ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وقال ابن عطية بعد حكايتِه نصبَ «
ويقولَ » عطفاً على « يأتي » : « وعندي في منع » عسى الله أن يقول المؤمنون « نظرٌ
، إذ الله تعالى يُصَيِّرهم يقولون ذلك بنصرِه وإظهاره دينه » قلت : قولُ ابن عطية
في ذلك يشبه قولَ أبي البقاء في كونِه قَدَّره ضميراً عائداً على اسم « عسى » يَصِحُّ
به الربط .
وبعضُ
الناسِ يُكْثِرُ هذه الأوجه ويوصلُها إلى سبعة وأكثر ، وذلك باعتبار تصحيحِ كلِّ
وجهٍ من الأوجه الثلاثة التي ذكرتها لك ، ولكن لا يخرج حاصلُها عن ثلاثة ، وهو
النصبُ : إمَّا عطفاً على « أن يأتي » وإما على « فيصبحوا » وإمَّا على « بالفتح »
، وقد تقدَّم لك تحقيقها .
قوله : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصابِه وَجْهان ، أظهرُهما : أنه مصدرٌ
مؤكِّدٌ ناصبُه « أَقْسموا » فهو من معناه ، والمعنى : أَقْسَموا إقسامَ اجتهادٍ
في اليمين . والثاني - أجازُه أبو البقاء وغيره - أنه منصوبٌ على الحالِ كقولهم :
« افعَلْ ذلك جَهْدَك » أي : مجتهداً ، ولا يُبالي بتعريفه لفظاً فإنه مؤولٌ بنكرة
على ما ذكرته لك ، وللنحْويين في هذه المسألة أبحاث ، والمعنى هنا : أقسموا بالله
مجتهدين في أيمانهم .
قوله : { إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعراب فإنها
تفسيرٌ وحكاية لمعنى القسم لا لألفاظِهم ، إذ لو كانَتْ حكايةً لألفاظهم لقيل :
إنَّا معكم ، وفيه نظرٌ ، إذ يجوزُ لك أن تقول : « حَلَفَ زيدٌ لأفعَلَنَّ » أو «
ليفعلن » ، فكما جاز أن تقولَ : « لَيَفْعَلنَّ » جاز أن يقال : « إنهم لمعكم »
على الحكايةِ .
قوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها جملةٌ مستأنفة
والمقصودُ بها الإِخبارُ من الباري تعالى بذلك . الثاني : أنها دعاءٌ عليهم بذلك
وهو قولُ الله تعالى نحو : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] .
الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ لأنها من جملة قول المؤمنين ، ويَحْتمل معنيين
كالمعنيين في الاستئناف ، أعني كونَه إخباراً أو دعاءً . الرابع : أنها في محل
رفعٍ على أنَّها خبرُ المبتدأ وهو « هؤلاء » وعلى هذا فيحتمل قوله { الذين
أَقْسَمُواْ } وجهين ، أحدُهما : أنه صفةٌ لاسمِ الإِشارة ، والخبر : « حَبِطَتْ
أعمالُهم » . والثاني : أنَّ « الذين » خبرٌ أولُ ، / و « حَبِطت » خبرٌ ثانٍ عند
مَنْ يُجيز ذلك . وجَعَلَ الزمخشري « حَبِطَتْ أعمالُهم » مُفْهِمَةً للتعجب . قال
: « وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالَهم ما أخسرَهم » وأجاز مع كونِه
تعجباً أن يكونَ من قولِ المؤمنين ، فيكونَ في محل نصب ، وأن يكونَ من قولِ الباري
تعالى ، لكنه أَوَّلَ التعجبَ في حق الله تعالى بأنه عجيب ، قال : « أو مِنْ قول
الله عز وجل شهادةً لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم » وقرأ أبو واقد
والجراح : « حَبَطت » بفتح الباء ، وهما لغتان ، وقد تقدم ذلك وقوله تعالى : {
فأصبحوا } وجهُ التسبُّبِ في هذه الفاءِ ظاهرٌ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قوله
تعالى : { مَن يَرْتَدَّ } : « مَنْ » شرطيةٌ فقط لظهورِ أثرها ، وقوله تعالى : {
فسوف } جوابُها ، وهي مبتدأة ، وفي خبرها الخلاف المشهور ، وبظاهره يتمسَّك مَنْ
لا يشترط عودَ ضميرٍ على اسم الشرط من جملة الجواب ، ومَنْ التزم ذلك قَدَّر
ضميراً محذوفاً تقديره : « فسوف يأتي الله بقوم غيرهم » ف « هِم » في « غيرهم »
يعودُ على « مَنْ » على معناها . وقرأ ابن عامر ونافع : « يَرْتَدِدْ » بدالين .
قال الزمخشري : « وهي في الإِمام - يعني رسمَ المصحف - كذلك » ولم يبيِّنْ ذلك ،
ونَقَل غيرُه أنَّ كلَّ قارئ وافقَ مصحفَه ، فإنها في مصاحف الشام والمدينة ، «
يرتدد » بدالين ، وفي الباقية : « يرتدَّ » وقد تقدَّم أنَّ الإِدغام لغة تميم ،
والإِظهارَ لغةُ الحجاز ، وأنَّ وجهَ الإِظهارِ سكونُ الثاني جزماً أو وقفاً ، ولا
يُدْغَمُ إلا في متحرك ، وأنَّ وجهَ الإِدغام تحريكُ هذا الساكن في بعضِ الأحوال
نحو : رُدَّا ، رُدُّوا ، رُدِّي ، ولم يَرُدَّا ، ولم يَرُدُّوا ، واردُدِ القوم
، ثم حُمِل « لم يردَّ » و « رُدَّ » على ذلك ، فكأن التميميين اعتبروا هذه الحركة
العارضة ، والحجازيين لم يَعْتبروها ، و « منكم » في محل نصبٍ على الحال من فاعل «
يرتد » و « عن دينه » متعلِّقٌ ب « يرتدَّ » .
قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ } في محلِّ جر لأنها صفة ل « قوم » و « يُحِبُّونه »
فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه معطوفٌ على ما قبلَه ، فيكون في محلِّ جرٍّ أيضاً
فوصفَهم بصفتين : وصفَهم بكونِه تعالى يحبُّهم وبكونهم يحبونه . والثاني أجازه أبو
البقاء : أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المنصوب في « يحبهم » قال : «
تقديره : وهم يحبونه » قلت : وإنما قَدَّر أبو البقاء لفظة « هم » ليخرجَ بذلك من
إشكال : وهو أن المضارعَ المثبتَ متى وقع حالاً وجب تَجَرُّدُه من الواو نحو : «
قمت أضحك » ولا يجوز : « وأضحك » وإنْ وَرَدَ شيء أُوِّل بما ذكره أبو البقاء
كقولهم : « قمت وأصك عينه » وقوله :
1745- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ
وأَرْهنُهُمْ مالِكا
أي : وأنا أصك ، وأنا أَرْهنُهم ، فَتُؤَوَّلُ الجملةُ إلى جملة اسمية فيصِحُّ
اقترانها بالواو ، ولكن لا ضرورةَ في الآية الكريمة تَدْعُو إلى ذلك حتى يُرْتَكَب
، فهو / قولٌ مرجوح . وقُدِّمَتْ محبةُ الله تعالى على محبتهم لشرفها وسَبْقِها ،
إذ محبتُه تعالى لهم عبارةٌ عن إلهامِهم فعلَ الطاعةِ وإثابتِه إياهم عليها .
قوله : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } هاتان صفتان أيضاً
لقوم ، واستدلَّ بعضُهم على جوازِ تقديمِ الصفة غير الصريحة على الصفة الصريحة
بهذه الآيةِ ، فإنَّ قوله : { يُحِبُّهم } صفةٌ وهي غير صريحة ، لأنها جملة مؤولة
بمفرد ، وقوله « أذلة - أعزة » صفتان صريحتان لأنهما مفردتان ، وأمَّا غيره من
النحويين فيقول : متى اجتمعت صفة صريحة وأخرى مؤولة وجبَ تقديمُ الصريحةِ إلا في
ضرورة شعر كقولِ امرئ القيس :
1746-
وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ ... أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلة
المُتَعَثْكِلِ
فقدم قوله « يُغَشِّي » - وهو جملة - على « أسود » وما بعده وهن مفردات ، وعند هذا
القائل أنه يُبدأ بالمفرد ثم بالظرف أو عديلِه ثم بالجملة ، وعلى ذلك جاء قوله
تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [
غافر : 28 ] ، وهذه الآية حجةٌ عليه ، وكذا قوله تعالى : { وهذا كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 92 ] . قال الشيخ : « وفيها دليلٌ على بطلان
مَنْ يعتقد وجوب تقديم الوصفِ بالاسم على الوصف بالفعل إلا في ضرورة » ثم ذَكَرَ
الآيةَ الأخرى . قلت : وليس في هاتين الآيتين الكريمتين ما يَرُدُّ قولَ هذا
القائل . أما هذه الآية فيحتمل أن يكون قولُه تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
} جلمةَ اعتراض لأنَّ فيها تأكيداً وتسديداً للكلام ، وجملةُ الاعتراض تقعُ بين
الصفةِ وموصوفِها كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }
[ الواقعة : 76 ] ف « عظيم » صفةٌ ل « قَسَم » وقد فَصَل بينهما بقولُه : { لَّوْ
تَعْلَمُونَ } فكذلك فَصَلَ هنا بين قوله « بقوم » وبين صفتهم وهي « أذلة - أعزة »
بقولِه { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فعلى هذا لا يكون لها محلُّ من الإِعراب .
وأمَّا { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } فلا نسلِّم أن « مبارك » صفةٌ ،
بل يجوزُ أن يكونَ خبراً عبد خبر ، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هو مبارك
، ولو استدل على ذلك بآيتين غير هاتين لكان أقوى ، وهما قوله تعالى : { مَا
يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } [ الأنبياء : 2 ] { وَمَا
يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] ، فقدَّم الوصفَ
بالجارِّ على الوصف بالصريح ، ويحتمل أَنْ يُقال : لا نُسَلِّم أن « مِنْ ربهم » و
« مِنَ الرحمن » صفتان لجواز أَنْ يكونا حالين مُقَدَّمَيْن من الضمير المستترِ في
« مُحْدَثٍ » أي : مُحْدَثٍ إنزالُه حالَ كونه من ربهم .
وأَذِلَّة جمعُ ذليل بمعنى متعطف ، ولا يراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مُهان ،
ولا يجوز أن يكون جمع « ذَلُول » لأنَّ / ذلولاً يجمع على « ذُلُل » لا على «
أَذِلة » وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك . قال الزمخشري : « ومَنْ زعم أنه من الذُّل
الذي هو نقيض الصعوبة فقد غَبِي عنه أن ذَلُولا لا يُجمع على أَذِلة » وأَذِلّة
وأَعِزة جمعان لذليل وعزيز وهما مثالا مبالغة ، وعَدَّى « أذلة » ب « على » وإن
كان أصلُه أن يتعدى باللام لِما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف ، والمعنى :
عاطفين على المؤمنين على وجهِ التذلُّلِ لهم والتواضعِ ، ويجوزُ أَنْ يكون المعنى
: أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفَضْلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ، ونحوه
قولُه تعالى :
{
أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ذكر هذين الوجهين
أبو القاسم الزمخشري . قال الشيخ : « قيل : أو لأنه على حَذْفِ مضاف ، التقدير :
على فَضْلِهم على المؤمنين ، والمعنى : أنهم يَذِلُّون ويَخْضَعُون لِمَنْ فُضِلوا
عليه مع شَرَفِهم وعلوِّ مكانتِهم » وذَكَر آية الفتح . قتل : وهذا هو قولُ
الزمخشري بعينِه ، إلا أنَّ قولَه « على حَذْفِ مضاف » يُوهم حذفَه وإقامةَ
المضافِ إليه مُقامه ، وهنا حَذَف « على » الأولى وحَذَفَ المضافَ والمضافَ إليه
معاً ، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟
ووقع الوصفُ في جانب المحبة بالجملةِ الفعلية لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ
والحدوثِ ، هو مناسبٌ فإنَّ محبَّتهم للّهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ
وقتٍ ، ومحبةُ اللّهِ إياهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كل وقت . ووقع الوصفُ
في جانبِ التواضعِ للمؤمنين والغِلْظَةِ على الكافرين بالاسم الدالِّ على المبالغة
دلالةً على ثبوتِ ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم ، والاسمُ يَدُلُّ على الثبوتِ
والاستقرارِ ، وقَدَّم الوصفَ بالمحبة منهم ولهم على وصفِهم بأذلَّة وأَعِزِّة
لأنهما ناشِئتان عن المحبتين ، وقَدَّم وصفَهم المتعلِّق بالمؤمنين على وصْفِهم
المتعلق بالكافرين لأنه آكدُ وألزمُ منه ، ولشرفِ المؤمنِ أيضاً .
والجمهورُ على جَرِّ « أَذِلَّة - أَعِزَّة » على الوصفِ كما تقدم ، قال الزمخشري
: « وقُرئ » أَذِلَّةً وأَعِزِّةً « بالنصبِ على الحال » قلت : الذي قرأ «
أَذِلَّة » هو عبد الله بن مسعود ، إلا أنه قرأ بدل « أعزة » : « غُلَظاءَ على
الكافرين » وهو تفسيرٌ ، وهي حالٌ من « قوم » وجاز ذلك وإن كان « قوم » نكرةً
لقُرْبِه من المعرفة إذ قد تخصَّص بالوصف .
قوله تعالى : { يُجَاهِدُونَ } يحتمل ثلاثة أَوجه ، أحدها : أن يكونَ صفةً أخرى ل
« قوم » ولذلك جاء بغيرِ واو ، كما جاءَتِ الصفتان قبلَه بغيرها . الثاني : أنه في
محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المسكن في « أعزة » أي : يَعُزُّون مجاهدين ، قالَه
أبو البقاء ، وعلى هذا فيجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في « أَذِلَّة » أي :
يتواضعون للمؤمنين حالَ كونِهم مجاهدين ، أي : لا يَمْنعَهُم الجهادُ في سبيل الله
من التواضعِ للؤمنين ، وحاليَّتُها من ضمير « أعزة » أظهر من حاليَّتِها مِمَّا
ذكرت ، ولذلك لم يَسُغْ أن تُجْعَلَ المسألةُ من التنازع . الثالث : ان يكونَ
مستأنفاً سِيق للإِخبارِ بأنهم يجاهِدون في نصرة دين الله تعالى .
قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون / معطوفاً على «
يُجاهِدُون » فتجري فيه الأوجهُ السابقة فيما قبله . الثاني : أن تكونَ الواوُ
للحال ، وصاحبُ الحالِ فاعلٌ « يجاهدون » قال الزمخشري : أي : يجاهِدُون وحالُهم
في المجاهدةِ غيرُ حالِ المنافقين « وتَبِعه الشيخ ولم يُنْكِرْ عليه ، وفيه نظرٌ؛
لأنَّهم نصُّوا على أن المضارع المنفي ب » لا « أو » ما « كالمثبت في أنه لا يجوز
أن تباشِرَه واوُ الحال ، وهذا كما ترى مضارعٌ منفي ب » لا « إلا أَنْ يُقال : إن
ذلك الشرطَ غير مُجْمَعٍ عليه ، لكنَّ العلةَ التي مَنَعوا لها مباشرةَ الواوِ
للمضارع المثبتِ موجودةٌ في المضارعِ المنفيِّ » ب « لا » و « ما » وهي : أنَّ
المضارعَ المثبتَ بمنزلةِ الاسمِ الصريحِ ، فإنك إذا قلت : « جاز زيدٌ لا يضحكُ »
[ كان ] في قوةِ « ضاحكاً » ، و « ضاحكاً » لا يجوز دخولُ الواوِ عليه فكذلك ما
أشبهه وهو في قوتِه ، وهذه موجودةٌ في المنفي ، فإنَّ قولك « جاء زيدٌ لا يضحك »
في قوةِ « غيرَ ضاحك » و « غيرَ ضاحك » لا تدخلُ عليه الواوُ ، إلاَّ أن هذا
يُشْكِلْ بأنهم نَصُّوا على أن المنفي ب « لم » و « لما » يجوزُ فيه دخولُ الواو ،
مع أنه في قولِك : « قام زيد لم يضحكْ » بمنزلةِ « غيرَ ضاحك » ومِنْ دخول الواو
قولُه تعالى :
{
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ]
ونحوُه . الثالث : أن تكون الواوُ للاستئنافِ ، فيكونَ ما بعدها جملةً مستأنفة
مستقلة بالإِخبار ، وبهذا يحصُل الفرقُ بين هذا الوجهِ وبين الوجهِ الذي جَوَّزْتُ
فيه أن تكون الواو عاطفةً مع اعتقادِنا أنَّ « يجاهدون » مستأنفٌ وهو واضح .
واللَّوْمَةُ : « المَرَّةُ من اللَّوْم ، قال الزمخشري » وفيها وفي التنكير
مبالغتان كأنه قيل : لا يَخافون شيئاً قَطُّ من لومِ أحدٍ من اللُّوُّام ، و «
لومة » مصدرٌ مضافٌ لفاعله في المعنى ، فإن قيل : هل يجوزُ أن يكونَ مفعولُه
محذوفاً ، أي : لا يخافون لومةَ لائمٍ إياهم؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز عند الجمهور
، لأنَّ المصدرَ المحدودَ بتاء التأنيث لا يعملُ ، فلو كان مبنياً على التاء
عَمِلَ كقوله :
1747- فولا رجاءُ النصر منك ورهبةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا بالموارِدِ
فأعمل « رهبةٌ » لأنه مبنيُّ على التاء ، ولا يجوز أن يعملَ المحدودُ بالتاء إلا
في قليلٍ من كلامِهم كقوله :
1748- يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازمٌ ... بضربةِ كَفَّيهِ المَلا وَهُو راكِبُ
يصفُ رجلاً سقى رجلاً ماءً فأحياه به وتيمَّم بالتراب ، والمَلا : التراب ، فنصب «
الملا » ب « ضربة » وهو مصدرٌ محدودٌ بالتاء . وأصل لائم : لاوِم ، لأنه من
اللَّوْم فأُعِلَّ كقائم .
و « ذلك » في المشار إليه به ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه جميع ما تقدَّم من
الأوصافِ التي وُصِف بها القومُ من المحبةِ والذلةِ والعزةِ والمجاهدة في سبيلِ
الله وانتفاءِ خوفِ اللائمة من كلِّ أحدٍ ، واسمُ الإِشارة يَسُوغ فيه ذلك ، أعني
أنه يقعُ بلفظِ الإِفراد مشاراً به لأكثر مِنْ واحدٍ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في
قولِه تعالى :
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . والثاني : أنه مشارٌ به إلى حُبِّ الله لهم وحُبِّهم له . والثالث : أنه مشارٌ به إلى قوله : « أَذِلَّة » أي : لِين الجانب وتَرْكُ الترفُّع ، وفي هذين تخصيصٌ غيرُ واضحٍ ، وكأنَّ الحاملَ على ذلك مجيءُ اسمِ الإِشارة مفرداً . و « ذلك » مبتدأٌ ، و « فَضْلُ الله » خبرُه ، و « يؤتيه » يحتملُ ثلاثةَ أوجه ، أظهرُها : أنه خبرٌ ثاني ، والثاني : أنه مستأنف والثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على الحال كقوله . { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 89 ] .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و « رسولهُ » و « الذين »
عطفٌ على الخبر . قال الزمخشري : قد ذُكِرَتْ جماعةٌ فهلاً قيل : إنما أولياؤُكم .
وأجابَ بأنَ الوِلايةَ بطريقِ الأصالةِ لله تعالى ، ثم نَظَّم في سلكِ إثباتها
لرسوله وللمؤمنين ، ولو جيء به جمعاً فقيل : « إنما أولياؤُكم » لم يكنْ في
الكلامِ أصلٌ وتَبَعٌ « . قلت : ويَحْتمل وجهاً آخرَ وهو أنَّ » وَلِيَّ « بزنة
فَعِيل ، وفعيل وقد نصَّ عليه أهلُ اللسان أنه يقعُ للواحدِ والاثنين والجماعة
تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد ، يقال : » الزيدون صديقٌ ، وهند صديقٌ « وهذا مثلُه ،
غايةُ ما فيه أنه مقدَّمٌ في التركيب ، وقد أجابَ الزمخشري وغيرُه بذلك في قوله
تعالى { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] ، وذكر وجهَ ذلك وهو
شِبْهُه بالمصادر وسيأتي تحقيقُه . وقرأ ابن مسعود : » إنما مَوْلاكم « وهي تفسير
لا قراءة .
قوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاوة } في خمسةُ أوجه ، أحدها : أنه مرفوعٌ
على الوصفِ لقوله » الذين آمنوا « وَصَفَ المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ،
وذكرهاتين العبادتين دونَ سائرِ فروعِ الإِيمان لأنهما أفضلُها . الثاني : أنه
مرفوعٌ على البدلِ من » الذين آمنوا « الثالث : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هم
الذين . الرابع : أنه عطفُ بيانٍ لما قبله؛ فإنَّ كلَّ ما جاز أن يكونَ بدلاً جاز
أن يكون بياناً إلا فيما استُثْي وقد ذكرْتُه فيما تقدم . الخامس : أنه منصوبٌ
بإضمار فعلٍ ، وهذا الوجهُ والذي قَبله من باب القطع عن التبعية . قال الشيخ : -
بعد أن نقلَ عن الزمخشري وَجْهَيْ البدلِ وإضمارِ المبتدأ فقط - » ولا أَدْري ما
الذي مَنَعه من الصفةِ ، إذ هو المتبادَرُ إلى الذهن ، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على
نية الطرحِ ، وهو لا يَصِحُّ هنا / لأنه هو الوصفُ المترتِّب عليه [ صحةُ ] ما
بعده من الأوصاف « قلت : لا نسلِّمُ أنَّ المتبادرَ إلى الذهن الوصفُ بل البدلُ هو
المتبادرُ ، وأيضاً فإنَّ الوصفَ بالموصولِ على خلافِ الأصل؛ لأنه مؤولٌ بالمشتقِّ
وليس بمشتقٍ ، ولا نُسَلِّم أنَّ المبدلَ منه على نيةِ الطَرْحِ ، وهو المنقولُ عن
سيبويه .
قوله : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرُهما : أنها معطوفةٌ على
ما قبلَها من الجملِ فتكونُ صلةً للموصولِ ، وجاء بهذه الجملةِ اسميةً دونَ ما
قبلَها ، فلم يَقُلْ » ويركعون « اهتماماً بهذا الوصفِ؛ لأنه أظهرُ أركانِ الصلاة
. والثاني : أنها واوُ الحال وصاحبُها هو واو » يُؤْتون « والمرادُ بالركوعِ
الخضوعُ أي : يؤتون الصدقة وهم متواضِعُون للفقراءِ الذين يتصدَّقون عليهم ، ويجوز
أَنْ يُرادَ به الركوع حقيقةً؛ كما رُوي عن علي أميرِ المؤمنين أنه تصدَّقَ
بخاتَمِة وهو راكعٌ .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ } : « مَنْ شرطٌ في محل رفع بالابتداءِ ، وقولُه : { فَإِنَّ حِزْبَ الله } يحتمل أن يكونَ جواباً للشرط ، وبه يحتجُّ مَنْ لا يشترطُ عَوْدَ ضميرٍ على اسم الشرط إذا كان مبتدأ ، ولقائل أن يقولَ : إنما جازَ ذلك لأنَّ المرادَ بحزب الله هو نفس المبتدأ ، فيكون من بابِ تكرارِ المبتدأ بمعناه ، وفيه خلافٌ : الأخفشُ يُجيزه فإنَّ التقدير : ومَنْ يتولَّ اللّهَ ورسولَه والذين آمنوا فإنه غالبٌ ، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمرِ لفائدةٍ وهي التشريفُ بإضافةِ الحزب إلى الله تعالى ، ويحتمل أن يكونَ الجوابُ محذوفاً لدلالةِ الكلام عليه أي : ومَنْ يتولَّ اللّهَ ورسولَه والذين آمنوا يَكُنْ من حزبِ الله الغالبِ أو يُنْصَرْه ونحوه . ويكون قوله : { فَإِنَّ حِزْبَ الله } دالاً عليه ، وعلى هذين الاحتمالين فلا دلالة في الآية على عدمِ اشتراط عَوْدِ ضميرٍ على اسم الشرط . وقوله : { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } في محلِّ جزم إنْ جعلناه جواباً للشرط ، ولا محلَّ له إن جعلناه دالاًّ على الجواب . وقوله : » هم « يحتمل أن يكون فصلاً وأن يكونَ مبتدأ و » الغالبون « خبرُه ، والجملة خبر » إنَّ « وقد تقدَّم الكلام على ضمير الفصل وفائدته . والحِزْبُ : الجماعة فيها غلظةٌ وشدةٌ ، فهو جماعةٌ خاصة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
قوله
تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ } : الآية ، فالذين وصلته هو
المفعولُ الأول لقولِه : { ولا تتَّخِذوا } والمفعول الثاني هو قوله : « أولياء »
و « دينَكم » مفعولٌ أولُ ل « اتخذوا » و « هُزُوا » مفعول ثان ، وتقدَّم ما في «
هُزْءاً » من القراءات والاشتقاق . وقوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ } فيه وجهان ،
أحدُهما : أنه في محل نصب على الحال ، وصاحبها فيه وجهان أحدُهما : أنه الموصولُ /
الأول . والثاني : أنه فاعل « اتَّخذوا » الثاني من الوجهين الأولين أنه بيان
للموصول الأول ، فتكونُ « مِنْ » لبيانِ الجنس ، وقوله : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق
« ب » أوتوا «؛ لأنهم أُوتوا الكتابَ قبل المؤمنين ، والمرادُ بالكتابِ الجنسُ .
قوله : { والكفار } قرأ أبو عمرو والكسائي : » والكفارِ « بالخفض ، والباقون
بالنصب ، وهما واضحتان ، فقراءةُ الخفض عَطْفٌ على الموصول المجرور ب » من «
ومعناها أنه نهاهم أن تيخذوا المستهزئين أولياءَ ، وبيَّن أن المستهزئين صنفان :
أهلُ كتاب متقدم وهم اليهود والنصارى ، وكفارٌ عبدةُ أوثان ، وإن كانَ اسمُ الكفر
ينطلق على الفريقين ، إلا أنه غَلَب على عبدة الأوثان : الكفار ، وعلى اليهود
والنصارى : أهل الكتاب . قال الواحدي : » وحجةُ هذه القراءة من التنزيلِ قولُه
تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } [
البقرة : 105 ] اتفقوا على جَرِّ « المشركين » عطفاً على أهل الكتاب ، ولم
يُعْطَفْ على العامل الرافعِ « يعني بذلك أنه قد أَطْلَق الكفار على أهل الكتاب
وعلى عبدة الأوثان : المشركين ، ويدل على أنَّ المرادَ بالكفار في آية المائدة
المشركون قراءةُ عبد الله : { ومن الذين أشركوا } ورُجِّحت قراءةُ أبي عمرو وأيضاً
بالقرب ، فإن المعطوفَ عليه قريبٌ ، ورُجِّحت أيضاً بقراءة أُبَيّ : » ومن الكفار
« بالإِتيان ب » من « وأمَّا قراءةُ الباقين فوجهُها أنه عطفٌ على الموصول الأول
أي : لا تتخذوا المستهزئين ولا الكفار أولياء ، فهو كقوله تعالى : { لاَّ
يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ]
، إلا أنه ليس في هذه القراءة تعرُّضٌ للإِخبار باستهزاءِ المشركين » ، وهم
مستهزئون أيضاً ، قال تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } [ الحجر : 95 ] ،
والمراد بهم مشركو العربِ ، ولوضوحِ قراءةِ الجرِّ قال مكي بن أبي طالب : « ولولا
اتفاقٌ الجماعة على النصب لاخترت الخفضَ لقوتِه في المعنى ، ولقربِ المعطوف من
المعطوف عليه » .
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
والضمير في : { اتخذوها } : يجوز أن يعودَ على الصلاة - وهو الظاهر- ويجوز أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من الفعل أي : اتخذوا المناداةَ ، ذكره الزمخشري ، وفيه بُعْدٌ ، إذ لا حاجةَ تدعو إليه مع التصريحِ بما يَصْلُح أن يعودَ عليه الضميرُ بخلاف قوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] / . وقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ } مبتدأٌ وخبر أي : ذلك الاستهزاءُ مستقر بسبب عدم عَقْلِهم .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قوله تعالى : { تَنقِمُونَ } : قراءة الجمهور بكسر القاف ، وقراءة النخعي وابن أبي عبلة وأبي حيوة بفتحها ، وهاتان القراءتان مُفَرَّعتان على الماضي وفيه لغتان : الفصحى - وهي التي حكاها ثعلب في فصيحه - نَقَم بفتح القاف يَنْقِم بكسرها ، والأخرى : نَقِم بكسر القاف ينقَم بفتحها ، وحكاها الكسائي ، ولم يُقْرأ في قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } [ البروج : 8 ] إلا بالفتح . وقوله : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } مفعولٌ ل « تنقمون » بمعنى : تكرهون وتَعيبون وهو استثناء مفرغ . و « منا » متعلقٌ به ، أي : ما تكرهون من جهِتنا إلا الإِيمانَ ، وأصلُ « نَقَم » أن يتعدَّى ب « على » تقول : « نَقَمْتُ عليه كذا » وإنما عُدِّي هنا ب « مِنْ » لمعنى سأذكره . وقال أبو البقاء : « ومِنَّا مفعولُ تَنْقِمون الثاني ، وما بعد » إلا « هو المفعولُ الأول ، ولا يجوزُ أن يكونَ » منَّا « حالاً مِنْ » أَنْ « والفعل لأمرين ، أحدُهما : تقدُّم الحالِ على » إلاّ « ، والثاني : تقدُّم الصلة على الموصول ، والتقدير : هل تكرهون منا إلا إيمانَنا » انتهى . وفي قوله مفعولٌ أولُ وثانٍ نظرٌ ، لأنَّ الأفعالَ التي تتعدَّى لاثنين إلى أحدهما بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر محصورةٌ كأمر ، واختار ، واستغفر ، وصَدَّق ، وسَمَّى ، ودعا بمعناه ، وزَوَّج ، ونبَّأ وأنبأ ، وخَبَّر ، وأَخْبر ، وحَدَّث غيرَ مضمَّنةٍ معنى أعلم ، وكلُّها يجوز فيها إسقاطُ الخافضِ والنصبُ ، وليس هذا منها . وقوله : « ولا يجوز أن يكونَ حالاً » يعني أنه لو تأخَّر بعد « أن آمنَّا » لفظةُ « منا » لجازَ أن تكونَ حالاً من المصدر المؤولِ من « أَنْ » وصلتِها ، ويصير التقديرُ : هل تَكْرهون إلا الإِيمان في حال كونِه منا ، لكنه امتنع مع تقدُّمِه على « أن آمنَّا » للوجهين المذكورين ، أحدُهما : تقدُّمه على « إلاَّ » ويعني بذلك أن الحال لا تتقدم على « إلاَّ » ولا أدري ما يمنع ذلك؟ لأنه إذا جَعَل « منَّا » حالاً من « أَنْ » وما في حَيِّزها كان عاملُ الحال مقدراً ، ويكونُ صاحبُ الحال محصوراً ، وإذا كان صاحبُ الحال محصوراً وجبَ تقديمُ الحالِ عليه ، فيقال : « ما جاء راكباً زيد » و « ما ضَرَبْتُ مكتوفاً إلا عمراً » ف « راكباً » و « مكتوفاً » حالان مقدمان وجوباً لحصرِ صاحبَيْهما فهذا مثلُه . وقوله : « والثاني : تقدُّم الصلة على الموصول » لم تتقدَّمْ صلةٌ على موصول ، بيانه : أن الموصول هو « أن » والصلة « آمنا » و « منَّا » ليس متعلقاً بالصلة بل هو معمول لمقدر ، ذلك المقدَّرُ في الحقيقة منصوبٌ ب « تَنْقِمون » فما أدري ما توهَّمه حتى قال ما قال؟ على أنه لا يجوزُ أن يكونَ حالاً لكن لا لِما ذَكر بل لأنه / يؤدِّي إلى أنه يصير التقديرُ : هل تَنْقِمون إلا إيمانَنا منا ، فَمِنْ نفسِ قوله « إيماننا » فُهِم أنه منَّا ، فلا فائدةَ فيه حينئذ .
فإن
قيل : تكون حالاً مؤكدة . قيل : خلافُ الأصل ، وليس هذا من مظانِّها ، وأيضاً
فإنَّ هذا شبيهٌ بتهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه ، فإنَّ « تَنْقِمون » يطلب هذا
الجار طلباً ظاهراً . وقرأ الجمهور « وما أُنْزِل إلينا وما أُنْزِل » بالبناء
للمفعول فيهما ، وقرأ أبو نهيك : « أَنْزل ، وأَنْزل » بالبناء للفاعل ، وكلتاهما
واضحة .
قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قرأ الجمهورُ : « أَنَّ »
مفتوحةَ الهمزة ، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها . فأمَّا قراءةُ الجمهور فتحتمل «
أنَّ » فيها أنْ تكونَ في محل رفع أو نصب أو جر ، فالرفعُ من وجه واحد وهو أن
تكونَ مبتدأً والخبر محذوف . قال الزمخشري : « والخبر محذوف أي : فسقُكم ثابت
معلومٌ عندكم ، لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنتم على الباطل ، إلا أنَّ حبَّ
الرئاسة وجمع الأموال لا يَدَعُكم فتنصفوا » فقدَّر الخبر مؤخراً . قال الشيخ : «
ولا ينبغي أن يُقَدَّر الخبرُ إلا مقدماً لأنه لا يُبْتَدَأ ب » أَنَّ « على
الأصحِّ إلا بعد » أمَا « انتهى . ويمكن أن يقال : يُغْتفر في الأمور التقديرية ما
لايُغْتفر في اللفظية ، لاسيما أن هذا جارٍ مَجْرى تفسير المعنى ، والمرادُ إظهار
ذلك الخبر كيف يُنْطَق به ، إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء ب » أنَّ « مطلقاً ،
فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير .
وأمَّا النصبُ فمِنْ ستة أوجه ، أحدها : أن يُعْطَفُ على » أن آمَنَّا « ،
واستُشْكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقديرُ : هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَ
أكثرهم ، وهم لا يَعْترفون بأن أكثرَهم فاسقون حتى يكرهونه وأجيب عن ذلك ، فأجاب
الزمخشري وغيرُه بأنَّ المعنى : وما تنقمون منا إلا الجمعَ بين أيماننا وبين
تَمَرُّدكم وخروجكم عن الإِيمان ، كأنه قيل : وما تنكرون منا إلا مخالفَتكم حيث
دَخَلْنا في دين الإِسلام وأنتم خارجون منه » .
ونقل الواحدي عن بعضهم أنَّ ذلك من باب المقابلة والازدواج ، يعني أنه لَمَّا نقم
اليهود عليهم الإِيمان بجميع الرسل وهو مما لا يُنْقَم ذكَرَ في مقابلته فِسْقَهم
، وهو مِمَّا يُنْقِم ، ومثلُ ذلك حسنٌ في الازدواج ، يقول القائل : « هل تنقم مني
إلا أني عَفَوْتُ عنك وأنك فاجر » فَيَحْسُن ذلك لإِتمامِ المعنى بالمقابلة . وقال
أبو البقاء : « والمعنى على هذا : إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم ، أي : كرهتم
مخالفتَنا إياكم ، وهذا كقولك للرجل : ما كرهتَ مني إلا أني مُحَبِّبٌ للناس وأنك
مُبْغَضٌ » وإن كان لا يعترف بأنه مُبْغَض .
وقال
ابن عطية : وأنَّ أكثركم فاسقون / هو عند اكثر المتأوِّلين معطوفٌ على قوله : {
أَنْ آمَنَّا } فيدخُل كونُهم فاسقين فيما نَقَموه ، وهذا لا يتِّجِهُ معناه « ثم
قال بعد كلام : » وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة : هل تَنْقِمون منا إلا
مجموعَ هذه الحال من أنَّا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ } مِمَّا قَرَّره المخاطب لهم ، وهذا كما تقولُ لِمَنْ يخاصِمُ : « هل
تَنْقِم عليَّ إلا أن صدقتُ أنا وكَذَبْتَ أنت » وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ولا
يَنْقِم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تَنْقِم إلا مجموعَ هذه الحال « وهذا هو مجموعُ
ما أجاب به الزمخشري والواحدي .
الوجه الثاني من أوجه النصب : أن يكونَ معطوفاً على » أن آمنَّا « أيضاً ، ولكنْ
في الكلامِ مضافٌ محذوفٌ لصحةِ المعنى ، تقديرُه : » واعتقادَ أن أكثركم فاسقون «
وهو معنى واضح ، فإنَّ الكفار يِنقِمون اعتقاد المؤمنين انهم فاسقون ، الثالث :
أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر تقديرُه : هل تنقمون منا إلا إيمانا ، ولا تنقمون فِسْقَ
أكثركم . الرابع : أنه منصوبٌ على المعية ، وتكونُ الواوُ بمعنى » مع « تقديرُه :
وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ مع أن أكثرَكم فاسقون . ذَكَر جميعَ هذه الأوجه
أبو القاسم الزمخشري . والخامس : أنه منصوبٌ عطفاً على » أنْ آمنَّا « و » أن
آمنَّا « مفعولٌ من أجله فهو منصوب ، فعَطَفَ هذا عليه ، والأصلُ : » هل تَنْقِمون
إلا لأجْلِ إيماننا ، ولأجل أنَّ أكثرَهم فاسقون « ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر من »
أن آمنَّا « بقي منصوباً على أحدِ الوجهين المشهورين ، إلا أنه يقال هنا : النصبُ
ممتنعٌ من حيث إنه فُقِد شرطٌ من المفعول له ، وهو اتحاد الفاعلِ ، والفاعلُ هنا
مختلفٌ ، فإنّ فاعل الانتقام غير فاعل الإِيمان ، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ »
أن آمنَّا « جراً ليس إلا ، بعد حذفِ حرفِ الجر ، ولا يَجْري فيه الخلاف المشهورُ
بين الخليل وسيبويه في محلِّ » أنْ « إذا حُذِف منها حرفُ الجر ، لعدمِ اتحاد
الفاعل . وأُجيب عن ذلك بأنَّا وإن اشترطنا اتحادَ الفاعلِ فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ
النصبِ في » أَنْ « و » أَنَّ « إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حَذْفِ حرفِ الجر لا
لكونِهما مفعولاً من أجله ، بل من حيث اختصاصُهما من يحث هما بجواز حذف حرف الجر
لطولِهما بالصلةِ ، وفي هذه المسألةِ بخصوصِها خلافٌ مذكور في بابِه ، ويدلُّ على
ذلك ما نقلَه الواحدي عن صاحبِ » النظم « فإن صاحب » النظم « ذَكَر عن الزجاج
معنًى ، وهو : هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَكم ، أي : إنما كرهتم إيمانَنا وأنتم
تعلمون أنَّا على حقٍّ لأنكم فسقتم بأنْ أقمتم على دينِكم ، وهذا معنى قولِ الحسن
، فعلى هذا يجب أن يكونَ موضعُ » أَنَّ « في قوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ }
نصباً بإضمار اللام على تأويل » ولأنَّ أكثرَكم « والواوُ زائدةٌ ، فقد صَرَّح
صاحبُ » النظم « بما ذكرته .
الوجه
السادس : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول من أجله لتنقِمون ، والواوُ زائدةٌ كما
تقدَّم تقريرُه . وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ليُفْهَم معناه ، قال الشيخ
بعد ذِكْرِ ما نَقَلْتُه من الأوجه المتقدمةِ عن الزمخشري : « ويظهرُ وجهٌ ثامن
ولعله يكون الأرجحَ ، وذلك ، أن » نَقَم « أصلُه أن يتعدَّى ب » على « تقول : »
نَقَمت عليه « ثم تبني منه افْتَعَل إذ ذاك ب » من « ويُضَمَّن معنى الإِصابة
بالمكروه ، قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95
] ، ومناسَبَ التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخصٍ فِعْلَه فهو كارهٌ له ، ومصيبُه
عليه بالمكروه ، فجاءت هنا فَعَل بمعنى افْتَعَل كقَدَرَ واقتدر ، ولذلك عُدِّيت ب
» مِنْ « دون » على « التي أصلُها أن تتعدَّى بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا
وما تصيبوننا بما نَكْرَهُ إلا أن آمنا ، أي : إلاَّ لأنْ آمنَّا » فيكون « ان
آمنَّا » مفعولاً من أجله ، ويكون « وأنَّ أكثركم فاسقون » معطوفاً على هذه العلة
، وهذا - والله أعلم - سببُ تعديتِه ب « مِنْ » دون « على » انتهى ما قاله ، ولم
يُصَرِّحْ بكونِه حينئذ في محلِّ نصبٍ أو جر ، إلاَّ أنَّ ظاهر حالِه أن يُعْتَقَد
كونُه في محلِّ جرِّ ، فإنه إنما ذُكِر أوجه الجر .
وأمَّا الجرُّ فمن ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنه عطفٌ على المؤمَنِ به ، قال
الزمخشري : « أي : وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ بالله وبما أُنْزِل ، وبأن
أكثركم فاسقون » وهذا معنى واضح ، قال ابن عطية : « وهذا مستقيمُ المعنى ، لأنَّ
إيمانَ المؤمنين بأنَّ أهلَ الكتابِ المستمرين على الكفر بمحمدٍ صلى الله عليه
وسلم فَسَقه هو مما ينقمونه » الثاني : أنه مجرورٌ عطفاً على علةٍ محذوفةٍ تقديرها
: ما تَنْقِمون منا إلا الإِيمان لقلة إنصافِكم وفسقِكم وإتباعِكم شهواتِكم ،
ويدلُّ عليه تفسيرُ الحسن البصري « بقسقِكم نَقَمتم علينا » ويُروى « لفسقهم
نَقَموا علينا الإِيمان » الثالث : أنه في محلِّ جرِّ عطفاً على محل « أنْ آمنَّا
» إذا جعلناه مفعولاً من أجله ، واعتقَدْنا أنَّ « أنَّ » في محل جر بعد حذف الحرف
، وقد تقدَّم ما في ذلك في الوجه الخامس ، فقد تحصَّل في قولِه تعالى : { وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أحدَ عشرَ وجهاً ، وجهان في حال الرفع بالنسبة إلى
تقدير الخبر : هل يٌقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً ، وقد تقدَّم ما فيه ،
وستةُ أوجه في النصب ، وثلاثةٌ في الجر . وأمَّا قراءةُ ابن ميسرة فوجهها أنها على
الاستئنافِ ، أخبر أنَّ أكثرَهم فاسقون ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفِها
على معمول القول ، أمرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم : هل تنقِمون إلى
آخره ، وأن يقول لهم : إنَّ أكثركم فاسقون ، وهي قراءة جَلِيَّةٌ واضحة .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قوله
تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } : المخاطب في « أنبئِّكُم » فيه قولان ،
أحدهما - وهو الذي لا يَعْرِف أكثرُ / أهلِ التفسير غيرَه : أنه يُراد به أهلُ
الكتاب الذين تقدَّم ذكرُهم . والثاني : أنه للمؤمنين ، قال ابن عطية : « ومَشى
المفسرون في هذه الآية على أن الذين أُمَر أَنْ يقول لهم : » هل أنبئِّكم « هم
اليهودُ والكفار المتَّخذون دينَنا هزواً ولعباً ، قال ذلك الطبري ، ولم يُسْنِد
في ذلك إلى متقدِّم شيئاً ، والآية تحتمل أن يكونَ القولُ للمؤمنين » انتهى ، فعلى
كونِه ضميرَ المؤمنين واضحٌ ، وتكونُ أَفْعَلُ التفضيل - أعني « بشرّ » - على بابِها
، إذ يصير التقدير : قل هل أنبِّئكم يا مؤمنون بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين؟ أولئك
أسلافُهم الذين لعنهم الله ، وتكون الإِشارةُ ب « ذلك » إلى حالِهم ، كذا قَدَّره
ابنُ عطية ، وإنما قَدَّر مضافاً ، وهو حال ليصِحَّ المعنى ، فإن « ذلك » إشارةٌ
للواحدِ ، ولو جاءَ مِنْ غيرِ حَذْفِ مضافٍ لقيل : بشرٍّ من أولئكم بالجمع . وقال
الزمخشري : « ذلك » إشارةٌ إلى المنقومِ ، ولا بد من حذفِ مضافٍ قبلَه أو قبل « من
» تقديرُه : بشرٍّ من أهل ذلك ، أو دينِ مَنْ لَعَنَه [ الله ] « انتهى . ويجوزُ
ألاَّ يقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ لا قبلُ ولا بعدُ ، وذلك على لغةِ مَنْ يُشير للمفردِ
وللمثنى والمجموع تذكيراً وتانيثاً بإشارةِ الواحدِ المذكر ، ويكون » ذلك « إشارةً
إلى الأشخاصِ المتقدِّمين الذين هم أهلُ الكتابِ ، كأنه قيل : بشرٍّ من أولئك ،
يعني أن السلف الذي لهم شَرٌّ من الخَلَفِ ، وعلى هذا يجيء قولُه { مَن لَّعَنَهُ
} مفسِّراً لنفس » ذلك « ، وإنْ كان ضميرَ أهلِ الكتاب وهو قولُ عامةِ المفسرين
فيُشْكِل ويحتاج إلى جواب .
ووجهُ الإِشكالِ أنه يصيرُ التقديرُ : » هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك
، و « ذلك » يُراد به المنقومُ وهو الإِيمان ، وقد عُلِم أنه لا شرَّ في دينِ
الإِسلام البتةَ ، وقد أجابَ الناسُ عنه ، فقال الزمخشري عبارةً قَرَّر بها
الإِشكالَ المتقدمَ ، وأجابَ عنه بعد أَنْ قال : « فإنْ قلت : المثوبةُ مختصةٌ
بالإِحسان فكيف وَقَعَتْ في الإِساءةِ؟ قلت : وُضِعَتْ موضعَ عقوبةٍ فهو كقوله :
1749- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تحيةُ بينِهم ضَربٌ وَجيعُ
ومنه { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وتلك العبارةُ التي
ذكرتُها لك هي أن قال : » فإنْ قلت : المعاقَبُ من الفريقين هم اليهودُ ، فلِمَ
شُورك بينهم في العقوبة؟ قلت : كان اليهودُ - لُعِنوا - يزعمون أن المسلمين
ضالُّون مستوجبون للعقوبة ، فقيل لهم : مَنْ لعنه الله شرٌّ عقوبةً في الحقيقة
واليقينِ من أهل الإِسلام في زعمكم ودعواكم « وفي عبارته بعضُ علاقة وهي قوله : »
فلِمَ شُورك بينهم « أي : بين اليهود وبين المؤمنين ، وقوله : » من الفريقين «
يعني بهما أهلَ الكتاب المخاطبين ب » أنبِّئكم « ومَنْ لعنه الله وغَضِب عليه ،
وقوله » في العقوبة « أي : التي وَقَعَت المثوبةُ / موقعَها ، ففسَّرها بالأصل ،
وفَسَّر غيرُه المثوبةَ هنا بالرجوعِ إلى الله تعالى يومَ القيامة ، ويترتَّب على
التفسيرين فائدةٌ ستظهرُ لك قريباً .
و
« مثوبةً » نصبٌ على التمييز ، ومميِّزُها « شَرٌّ » وقد تقدم في البقرة الكلامُ
على اشتقاقِها ووزنِها فَلْيلتفت إليه . وقوله : { عِندَ الله } فيه وجهان ،
أحدُهما : أنه متعلقٌ بنفسِ « مَثُوبة » إنْ قُلْنا إنها بمعنى الرجوع ، لأنك تقول
: « رَجَعْتُ عنده » والعندية هنا مجازية . والثاني : أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة ل
« مثوبة » ، وهو في محلِّ نصبٍ إنْ قلنا : إنها اسمٌ محض ، وليست بمعنى الرجوع بل
بمعنى عقوبة .
وقرأ الجمهور : { أُنَبِّئكم } بتشديد الباء من « نَبَّأ » وقرأ إبراهيم النخعي
ويحيى بن وثاب : « أُنْبِئُكم » بتخفيفها من « أنبأ » وهما لغتان فصيحتان .
والجمهور أيضاً على « مَثُوبة » بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ الأعرج وابن بريدة
ونبيح وابن عمران : « مَثْوبة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وجعلها ابن جني في
الشذوذ كقولهم « فاكهة مَقْوَدَةٌ للأذى » بسكون القاف وفتح الواو ، يعني أنه كان
من حقها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها ، وتٌقْلَبَ الواوُ ألفاً ،
فيقا : مثابة ومَقادة كما يقال : « مَقام » والأصل : « مَقْوَم » .
قوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ } في محل [ « مَنْ » ] أربعة أوجه ، أحدها : أنه في
محل رفع على خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو مَنْ لعنه الله ، وقَدَّر مكي قبله مضافاً
محذوفاً ، قال : « تقديرُه : لَعْنُ مَنْ لعنه الله » ثم قال : وقيل : « مَنْ » في
موضعِ خفضٍ على البدلِ مِنْ « بشرِّ » بدلِ الشيء من الشيء وهو هو ، وكان ينبغي له
أن يقدِّر في هذا الوجه مضافاً محذوفاً كما قَدَّره في حالة الرفع ، لأنه إنْ جَعل
« شراً » مراداً به معنًى لزمه التقدير في الموضعين ، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ
لَزمه ألاَّ يُقَدِّر في الموضعين . الثاني : أنه في محل جر كما تقدَّم بيانُه عن
مكي . الثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من محل « بشر » . الرابع : أنه في
محلِّ نصبٍ على منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر يدل عليه « أُنَبِّئكم » تقديره : أُعَرِّفكم
مَنْ لعنه الله ، ذكره أبوالبقاء ، و « مَنْ » يُحْتَمل أن تكونَ موصولة وهو
الظاهرُ ، ونكرةً موصوفة . فعلى الأول لا محلَّ للجملة التي بعدها ، وعلى الثاني
لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على « مَنْ » بأحد الأوجه السابقة ، وقد حَمَل على
لفظِها أولاً في قوله « لعنه » و « عليه » ثم على معناها في قوله : { مِنْهُمُ
القردة } ، ثم على لفظها في قوله : { وَعَبَدَ الطاغوت } ثم على لفظِها في قوله :
{ أولئك } فجَمَع في الحمل عليها أربع مرات .
و
« جَعَل » هنا بمعنى « صَيَّر » فيكون « منهم » في محل نصب مفعولاً ثانياً ،
قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف أي صَيَّر القردة والخنازير كائنين منهم ، وجعلَها
الفارسي في كتاب « الحجة » له بمعنى خلق . قال ابن عطية « وهذه منه - رحمه الله -
نزعةٌ اعتزالية لأنه قوله : { وَعَبَدَ الطاغوت } تقديره : ومَنْ عبد الطاغوت »
والمعتزلة لا ترى أن الله تعالى يصيِّر أحداً عابدَ طاغوت « انتهى . والذي يُفَرٌّ
منه في التصيير هو بعينه موجودٌ في الخلق ، وللبحث فيه موضع غير هذا تعرضت له في
التفسير الكبير . وجَعَلَ الشيخ قوله تعالى » مَنْ لعنَه الله « إلى آخره مِنْ
وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمرِ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شراً مثوبةً ،
كأنه قيل : قل هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك عند الله مثوبة؟ أنتم ، أي : هم أنتم ،
ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعد : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا } فيكون
الضميرُ واحداً ، وجَعَل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام . وقرأ أُبَيّ بن كعب
وعبد الله بن مسعود : » مَنْ غَضِب الله عليهم وجعلَهم قردةً « وهي واضحةٌ .
قوله : { وَعَبَدَ الطاغوت } في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءةً اثنتان في السبع ،
وهما » وعَبَد الطاغوتَ « على أن » عَبَد « فعلٌ ماضٍ مبني للفاعل ، وفيه ضميرٌ
يعودُ على » مَنْ « كما تقدم ، وهي قراءة جمهور السبعة غيرَ حمزة . والثانية : و »
عَبُدَ الطاغوتِ « بضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت ، وهي قراءةُ حمزة - رحمه
الله - والأعمش ويحيى بن وثاب . وتوجيههُا كما قال الفارسي وهو أن » عَبُداً «
واحدٌ يُراد به الكثرةُ مثلَ قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ
تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وليس بجمع » عبد « لأنه ليس في أبنيةِ الجمعِ مثلُه
. قال : » وقد جاء على فَعُل لأنه بناء يُراد به الكثرةُ والمبالغةُ في نحو يَقُظ
ونَدُس كأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذهب ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشري
أيضاً ، قال - رحمه الله تعالى - : « معناه الغلُوُّ في العبودية كقولهم : » رجل
حَذُر وفَطُن « للبليغ في الحذر والفطنة ، وأنشدَ لطَرَفة :
1750- أبني لُبَيْنَى إنَّ أمَّكُمُ ... أَمَةٌ ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ
وقد سَبَقهما إلى هذا التوجيهِ أبو إسحاق ، وأبو بكر بن الأنباري ، قال أبو بكر :
» وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ كقولِهم للفَطِن : « فَطُن » وللحَذِر : « حَذُر » ،
يَضُمُّون العين للمبالغة ، قال أوس بن حجر :
-أبني
لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ
فضمَّ الباء ، قلت : كذا نَسَب البيتَ لابن جحر ، وقد قَدَّمْتُ أنه لطرفة ،
ومِمَّنْ نَسَبه لطرفةَ الشيخُ شهاب الدين أبو شامة . وقال أبو إسحاق : « ووجْهُ
قراءِة حمزةَ أنَّ الاسمَ بُنِي على فَعُل كما تقول : » رجلٌ حَذُر « وتأويلُه أنه
مبالغٌ في الحذر / فتأويلُ » عَبُد « أنَّه بَلَغ الغايةَ في طاعة الشيطان ،
وكأنَّ هذا اللفظَ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجمعِ كما تقول للقوم » عَبُد العَصا «
تريدُ عبيد العصا ، فأخذ أبو عليّ هذا وبَسَطه بما ذَكَرْتُه عنه ، ثم قال » وجاز
هذا البناءُ في عَبْد لأنه في الأصلِ صفةٌ ، وإن كان قد استُعْمِل استعمالَ
الأسماءِ ، لا يُزيل ذلك عنه حكمَ الوصفِ كالأبطح والأبرق استُعْمِلا استعمالَ
الأسماءِ حتى جُمِعا جَمْعَها في قولهم : أبارق وأباطح كأجادِل جمع الأجْدَل ثم لم
يُزِلْ ذلك عنهما حكمَ الصفة ، يَدُلُّك على ذلك مَنْعُهم له الصرفَ كأحمر ، وإذا
لم يَخْرج العبدُ عن الصفة لم يمتنعْ أَنْ يُبنى بناءَ الصفات على فَعُل نحو : «
يَقُظ » ، وإنما أَشْبَعْتُ العبارةَ هنا لأن بعض الناس طَعَن على هذه القراءة
ونسب قارئها إلى الوهم كالفراء والزجاج وأبي عبيد ونصير الرازي النحوي صاحب
الكسائي . قال الفراء : « إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشعر - يعني ضمَّ باء » عَبُد
« فأمَّا في القراء فلا » وقال أيضاً : « إنْ تكن لغةً مثلَ حَذُر وعَجُل جاز ذلك
، وهو وجهٌ ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة » وقال الزجاج : « هذه القراءةُ ليست
بالوجهِ لأنَّ عَبُداً على فَعُل ، وهذا ليس من أمثلةِ الجمعِ » وقال أبو عبيد : «
إنما معنى العَبُد عندهم الأعبُد ، يريدون خدَمَ الطاغوتِ ، ولم نجد هذا يَصِحُّ
عن أحد من فصحاء العرب أن العَبْد يقال فيه عَبُد وإنما هو عَبْد وأَعْبُد » وقال
نصير الرازي « هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به فليتقِ الله مَنْ قرأ به ، وليسألْ عنه
العلماء حتى يوقفَ على أنه غير جائز » قلت : قد سألوا عن ذلك العلماءَ ووجدوه
صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى ، وإذا تواتر الشيء قرآناً فلا التفاتَ إلى
مُنْكرِه لأنه خَفِيَ عنه ما وَضَح لغيره .
وأمَّا القراءاتُ الشاذةُ فقرأ أُبَيّ : و « عَبَدُوا » بواوِ الجمع مراعاةً لمعنى
« مَنْ » وهي واضحةٌ . وقرأ الحسن البصري في رواية عَبَّاد و « عَبْدَ الطاغوت »
بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من « الطاغوت » وخَرَّجها ابن عطية على
وجهين احدهما : أنه أراد : « وعَبْداً الطاغوت » فحذف التنوينَ من « عبداً »
لالتقاء الساكنين كقوله :
1751- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللّهَ إلا قليلا
والثاني : أنه أراد « وعبَد » بفتح الباء على أنه فعلٌ ماضٍ كقراءة الجماعة إلا
أنه سَكَّن العينَ على نحوِ ما سَكَّنها في قول الآخر :
1752-
وما كلُّ مغبونٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بسكون اللام ، ومثله قراءةُ أبي السمال : { ولُعْنوا بما قالوا } بسكون العين ، قلت
: ليس ذلك مثلَ « لُعْنوا » لأنَّ تخفيف الكسر مقيس بخلاف الفتح ومثلُ « سَلْفَ »
قولُ الآخر :
1753- إنما شِعْريَ مِلْحٌ ... قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ
من حيث إنه خَفَّف الفتحة . وقال الشيخ - بعد أن حكى التخريج الأول عن ابن عطية -
: « وهذا التخريجُ لا يَصِحُّ لأنَّ عَبْداً لايمكن أن ينصبَ الطاغوت ، إذ ليس
بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل ، فالتخريجُ الصحيح أن يكونَ تخفيفاً من » عَبَدَ « ك »
سَلْف « في » سَلَفْ « قلت : لو ذكر التخريجين عن ابن عطية ، ثم استشكلَ الأولَ
لكان إنصافاً لئلا يُتَوَهَّم أن التخريجَ الثاني له . ويمكن أن يقال : إنَّ »
عَبْداً « لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ ،
فكأنه قيل : مَنْ يعبُد هذا العبدَ؟ فقيل : يعبُد الطاغوتَ ، وإذا تقرَّر أنَّ »
عَبْدَ « حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطفاً على القردة ، أي : وجعلَ منهم عَبْداً للطاغوت
.
وقرأ الحسن أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة ، إلا أنه جَرَّ » الطاغوت « وهي
واضحةٌ فإنه مفرد يُراد به الجنسُ أُضيف إلى ما بعده . وقرأ الأعمش والنخعي وأبو
جعفر : » وعُبِد « مبنياً للمفعول ، » الطاغوتُ « رفعاً . وقرأ عبد الله كذلك إلا
أنَّه زادَ في الفعلَ تاءَ التأنيث ، وقرأ : » وعُبِدَتِ الطاغوتُ « والطاغوت يذكر
ويؤنث ، قال تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ]
، وقد تقدَّم في البقرة قال ابن عطية : » وضَعَّفَ الطبري هذه القراءةَ ، وهي
متجهةٌ « يعني قراءةَ البناءِ للمعفول ، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ولا توجيهَ
القراءة ، ووجهُ الضعفِ أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصلةِ من رابطٍ يربُطها
بالموصولِ ، إذ ليس في » عُبِد الطاغوتُ « ضميرٌ يعودُ على { مَن لَّعَنَهُ الله }
لو قلت : أكرمت الذين أهنتُم وضُرِب زيدٌ » على أن يكون « وضُرِب » عطفاً على «
أكرمت » لم يَجُزْ ، فكذلك هذا . وأمَّا توجيهُها فهو كما قال أبو القاسم الزمخشري
: « إنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُه : » وعُبِد الطاغوتُ فيهم أو بينهم « .
وقرأ ابن مسعود في روايةِ عبد الغفار عن علقمة عنه : { وعَبُدَ الطاغوتُ } بفتح
العين وضمِّ الباء وفتحِ الدالِ ورفعِ الطاغوت ، وفيها تخريجان ، أحدُهما : - ما
ذكرَه ابن عطية - وهو أن يصيرَ له أَنْ عُبِد كالخُلُقِ والأمرِ المعتاد المعروف ،
فهو في معنى فَقُه وشَرُف وظَرُف ، قلت : يريد بكونِه في معناه أي : صار له الفقهُ
والظرفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً ، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعالِ
والثاني : - ما ذكرَه الزمخشري - وهو أَنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك » أمُر «
أي : صار أميراً ، وهو قريبٌ من الأولِ وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ .
وقرأ
ابن عباس في رواية عكرمة عنه ومجاهد / ويحيى بن وثاب : و { وعُبُدَ الطاغوتِ } بضم
العين والباء وفتح الدال وجر « الطاغوت » وفيها أقوال ، أحدها : وهو قول الأخفش -
أنَّ عُبُداً جمع عبيد ، وعبيد جمعُ عَبْد فهو جمعٌ الجمعِ ، وأنشد :
1754- أنسُبِ العبدَ إلى آبائِه ... أسودَ الجِلْدَةِ من قومٍ عُبُدْ
وتابعه الزمخشري على ذلك ، يعني أنَّ عبيداً جمعاً بمنزلة رغيف مفرداً فيُجْمع
جمعَه كما يُقال : رغيف ورُغُف . الثاني - وهو قولُ ثعلب - أنه جمعُ عابد كشارف
وشُرُف ، وأنشد :
1755- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ ... فهنَّ مُعَقِّلاتٌ بالفِناءِ
والثالث : أنه جَمْعُ عَبْد كسِقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن . والرابع : أنه جمع
عِباد ، وعِباد جمعُ « عَبْد » فيكونُ أيضاً جمعَ الجمعِ مثل « ثِمار » هو جمع «
ثَمَرة » ثم يُجْمع على « ثُمُر » وهذا لأنَّ عِباداً وثِماراً جمعين بمنزلة كتاب
مفرداً ، وكتاب يجمع على كُتُب فكذلك ما وازَنَه .
وقرأ الأعمش : « وعُبَّدَ » بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ مفتوحةً وفتحِ الدال ، «
الطاغوت » بالجرِّ ، وهي جمع عابِد كضُرَّب في جمع ضارِب وخُلَّص في جمع خالِص .
وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة : { وعُبَدَ الطاغوت } بضمِّ العين وفتح
الباء والدالِ . و « الطاغوتِ » جَرَّا ، وتوجيهُها أنه بناءُ مبالغةٍ كحُطَم
ولُبَد وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ يُراد به الجمعُ ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة
وقد تقدَّمَتْ .
وقرأ ابن مسعود في رواية علقمةَ أيضاً : و { وعُبَّدَ الطاغوتَ } بضمِّ العين وبشد
الباء مفتوحة وفتح الدال ونصب « الطاغوت » وخَرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عابد
كضُرِّب في جمع ضارب ، وحَذَف التنوين من « عبدا » لالتقاء الساكنين كقوله :
1756- . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللّهَ إلا قليلا
قال : « وقد تقدَّم نظيرُه » يعني قراءةَ : { وعَبْدَ الطاغوتَ } بفتح العين والدال
وسكونِ الباءِ ونصبِ التاء ، وكان ذَكَر لها تخريجين ، أحدُهما هذا ، والآخرُ لا
يمكنُ وهو تسكينُ عينِ الماضي . وقرأ بريدة الأسلمي فيما نقلَه عنه ابنُ جرير : «
وعابِد الشيطانِ » بنصبِ « عابد » وجَرِّ « الشيطان » بدلَ الطاغوت وهو تفسيرٌ لا
قراءةٌ . وقرأ أبو واقد الأعرابي : { وعُبَّاد } بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ
بعدها ألف ونصبِ الدال ، والطاغوتِ بالجر ، وهي جمعُ عابد كضُرًَّاب في ضارب .
وقرأ بعضُ البصريين : « وعِبادَ الطاغوتِ » بكسرِ العين ، وبعد الباء المخففة ألف
، ونصب الدال وجَرِّ « الطاغوت » وفيها قولان : أحدهما : أنه جمع عابِد كقائِم
وقِيام ، وصائِم وصِيام . والثاني : أنها جمعُ عَبْد ، وأنشد سيبويه :
1757- أتوعِدُني بقومِك يابنَ حَجْلٍ ... أُشاباتٍ يُخالُون العِبادَا
قال
ابن عطية : « وقد يجوزُ أن يكونَ جمعَ » عَبْد « ، وقلما يأتي » عِباد « / مضافاً
إلى غيرِ الله تعالى ، وأَنْشَد سيبويه : » أتُوْعِدُني « البيت قال أبو الفتح :
يريد عبادَ آدم عليه السلام ، ولو أراد عباد الله فليس ذلك بشيء يُسَبُّ به أحدٌ ،
فالخَلْقُ كلُّهم عبادُ الله » قال ابن عطية : « وهذا التعليقُ بآدم شاذٌّ بعيدٌ
والاعتراضُ باقٍ ، ولي هذا مِمَّا تخيَّل الشاعرُ قصدَه ، وإنما أرادَ العبيد
فساقَتْه القافيةُ إلى العباد ، إذ قد يُقال لِمَنْ يملكه مِلْكاً ما ، وقد ذكر أن
عربَ الحيرة سُمُّوا عِباداً لدخولهم في طاعةِ كِسْرى فدانَتْهم مملكتُه » قلت :
قد اشْتَهَر في ألسنةِ الناس أن « عَبْدا » المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على «
عِباد » وإلى غيره على « عبيد » ، وهذا هو الغالبُ ، وعليه بنى أبو محمد .
وقرأ عون العقيلي في روايةِ العَبَّاس بن الفضل عنه : « وعابِدُ الطاغوتِ » بضمِّ
الدالِ وجَرِّ الطاغوت كضاربِ زيدٍ . قال أبو عمرو : تقديرُه : « وهم عابدُ
الطاغوت » قال ابن عطية : « فهو اسمُ جنسٍ » قلت : يعني انه أرادَ ب « عابِد »
جماعةً ، قتل : وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها : « وعابدو الطاغوت » جَمْعَ
عابد جمعَ سلامةٍ ، فلمَّا لَقِيت الواوُ لامَ التعريف حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين
، فصار اللفظُ بدالٍ مضمومةٍ ، ويؤيِِّد فَهْمَ هذا أنَّ أبا عمرو قَدَّر المبتدأ
جَمْعاً فقال : « تقديرُه : هم عابدو » اللهم إلا أَنْ ينقلُوا عن العقيلي أنه
نَصَّ علي قراءتِه أنها بالإِفراد ، أو سمعوه يقف على « عابد » أو رَأَوْا مصحفَه
بدالٍ دونَ واوٍ ، وحينئذ تكونُ قراءتُه كقراءةِ ابن عباس : { وعابدو } بالواوِ ،
وعلى الجملة فقراءتُهما متحدةٌ لفظاً ، وإنَّما يَظْهَرُ الفرقُ بينهما على ما
قالُوه في الوقفِ أو الخطِّ .
وقرأ ابنُ عباس في روايةٍ أخرى لعكرمة : « وعابِدُوا » بالجمعِ ، وقد تقدَّم ذلك .
وقرأ ابن بُرَيْدة : « وعابد » بنصبِ الدالِ كضاربِ زيدٍ ، وهو أيضاً مفردٌ يُراد
به الجنسُ . وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة : { وعَبَد الطاغوتِ } بفتحِ العينِ
والباءِ والدال وجَرِّ الطاغوت ، وتخريجُها أنَّ الأصلَ : « وعبدةً الطاغوت »
وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة كفاجِر وفَجَرة ، وكافِر وكَفَرة ، فحُذِفَتْ تاءُ
التأنيثِ للإِضافة كقوله :
1758- قام وُلاها فسقَوْه صَرْخَدا ... أي : ولاتُها ، وكقوله :
1759- . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا
أي : عدةَ الأمر ، ومنه : { وَإِقَامَ الصلاوة } [ الأنبياء : 73 ] أي : إقامةِ
الصلاة ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « عَبَدَ » اسمَ جنسٍ لعابد كخادِم وخَدَم / وحينئذ
فلا حَذْفَ تاءِ تأنيثٍ لإِضافة . وقُرِئ : « وعَبَدَة الطاغوت » بثبوتِ التاء وهي
دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإِضافة في القراءةِ قبلَها ، وقد تقدَّم توجيهُها أنَّ
فاعِلاً يُجْمَعُ على « فَعَلَة » كبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة .
وقرأ
عبيد بن عمير : « وأعْبُد الطاغوت » جمع عبد كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب .
وقرأ ابن عباس : « وعبيد الطاغوت » جمع عبدٍ كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب .
وقرأ ابن عباس : « وعبيد الطاغوت » وجمعَ عبدٍ ايضاً وهو نحو : كلب وكليب « قال :
1760- تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها ... رجالٌ فَبَذَّتْ نبلَهُمْ وكَلِيبُ
وقُرئ أيضاً : » وعابدي الطاغوت « وقرأ عبد الله بن مسعود : » ومَنْ عَبَدوا «
فهذه أربعٌ وعشرون قراءةً ، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها : » وعابد الشيطان «
لأنها تفسيرٌ لا قراءة . وقال ابن عطية : » وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية :
إنها تجويزٌ لا قراءةٌ « يعني لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآيةِ ظنَّ بعضُهم
أنه قيل على سبيلِ الجواز لا أنها منقولةٌ عن أحدٍ ، وهذا لا ينبغي أَنْ يُقال ولا
يُعْتقدَ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْها قراءةً تَلَوها على مَنْ أخذوا عنه ، وهذا
بخلاف و » عابد الشيطان « فإنَّه مخالفٌ للسواد الكريم .
وطريقُ ضبطِ القراءةِ في هذا الحرفِ بعدَما عُرِفَ القراء أن يقال : سبع قراءات مع
كونِ » عَبَد « فعلاً ماضياً وهي : وعَبَد وعَبَدُوا ومَنْ عَبَدوا وعُبِد
وعُبِدَت وعَبُدَ وعَبْدَ في قولِنا : إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً كسَلْفَ في
سَلَف ، وتسعُ قراءاتٍ مع كونِه جمعَ تكسيرٍ وهي : وعُبُدَ وعُبَّد مع جَرِّ
الطاغوت وعُبَّد مع نصبه وعُبَّاد وعِباد وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإِضافةِ
وعَبَدَة وأَعْبُد وعبيد ، وست مع المفرد : وعَبُدَ وعُبَدَ وعابدَ الطاغوت وعابدُ
الطاغوت بضم الدال وعابد الشيطان وعَبْدَ الطاغوت ، وثنِتان مع كونه جمعَ سلامة :
وعابِدوا بالواو وعابدي بالياء . فعلى قراءةِ الفعل يجوز في الجملةِ وجهان ،
أحدهما : أن تكونَ معطوفةً على الصلة قبلها والتقدير : مَنْ لعنَه الله وعَبَد
الطاغوت . والثاني : أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ ، وإنما هو على تقديرِ مَنْ
أي : ومَنْ عَبَد ، ويدلُّ له قراءة عبد الله بإظهارِ » مَنْ « إلاَّ أنَّ هذا -
كما قال الواحدي - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وهو ممنوعٌ عند
البصريين ، جائزٌ عند الكوفيين ، وسيأتي جميعُ ذلك في قولِه تعالى : { وقولوا
آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] أي :
وبالذي أُنْزل . وعلى قراءةِ جمع التكسير فيكون منصوباً عطفاً على القردة
والخنازير أي : جَعَلَ منهم القردةَ وعِباد وعُبَّاد وعبيد ، وعلى قراءةِ الإِفراد
كذلك أيضاً ، ويجوز النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو العطفُ على » مَنْ « في {
مَن لَّعَنَهُ الله } إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ ، وهو
مرادٌ به الجنس ، وفي بعضِها قُرئ برفعه نحو : » وعابدُ الطاغوت ، وتقدَّم أن أبا
عمرو يُقَدِّر له مبتدأ أي : هم عابد ، وتقدَّم ما في ذلك ، وعندي أنه يجوزُ ان
يرتفعَ على أنه معطوفٌ على « مَنْ » في قولِه تعالى { مَن لَّعَنَهُ الله }
ويَدُلُّ لذلك أنهم أجازوا في قراءِة عبدِ الله : « وعابدُو » بالواوِ هذين
الوجهين فهذا مثله .
وأما
قراءة جمع السلامة فَمَنْ قرأ بالياء فهو منصوبٌ عطفاً على القردةِ ، ويجوزُ فيه
وجهان آخران ، أحدُهما : أنه منصوبٌ عطفاً على « مَنْ » في { مَن لَّعَنَهُ الله }
إذا قلنا إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ . والثاني : أنه مجرورٌ عطفاً على { مَن
لَّعَنَهُ الله } أيضاً إذا قُلنا بأنَّها في محلِّ جر بدلاً من « بشرِّ » كما
تقدمَّ إيضاحُه . وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرة الاستنباطِ واللهُ أعلمُ . ومَنْ قَرأ
بالواو فرفعُه : إمَّا على إضمارِ مبتدأ أي : هم عابدُو الطاغوت ، وإمَّا نسقٌ على
« مَنْ » في قولِه تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله } كما تقدَّم .
قوله تعالى : { أولئك شَرٌّ } مبتدأ وخبر ، و « مكاناً » نصب على التمييز ، نَسَب
الشَّر للمكان وهو لأهلِه ، كنايةً عن نهايتهِم في ذلك ، و « شرّ » هنا على بابه
من التفضيل ، والمفضَّل عليه فيه احتمالان ، أحدهما : أنهم المؤمنون ، فيقال : كيف
يُقال ذلك والمؤمنون لا شَرَّ عندهم البتة؟ فَأُجيب بجوابين ، أحدُهما : - ما ذكره
النحاس - وهو أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدنيا لِما
يلحقُهم فيه من « الشر » يعني من الهمومِ الدنيويةِ والحاجةِ والإِعسار وسماعِ
الأذى والهَضْم من جانبهم قال : « وهذا أحسنُ ما قيل فيه » لعَمْري لقد صدق فطالما
يَلْقَى المؤمن من الأذى ويذوقُ من الحاجة كلَّ صابٍ وعَلْقم . والثاني من
الجوابين : أنه على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً له بالحجة ،
كأنه قيل : شَرٌّ من مكانهم في زعمكم ، فهو قريب من المقابلة في المعنى . والثاني
من الاحتمالين أنَّ المفضَّل عليه هم طائفة من الكفارِ ، أي : أولئك الملعونون
المغضوبُ عليهم المجعولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العبادون الطاغوتَ شرٌّ مكاناً
من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمعوا بين هذه الخصالِ الذميمةِ .
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قوله
تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ } : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرين ، فحينئذ لا
بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي : وإذا جاءكم ذريتُهم أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ
منهم القردة والخنازير لم يَجيئوا ، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ ، وذلك على
أن يكونَ قولُه { مَن لَّعَنَهُ الله } إلى أخره عبارةً عن المخاطبين في قوله : {
يَا أَهْلَ الكتاب } وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضمر ، وكأنه قيل :
أنتم ، كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى : {
وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } تقديرُه : وجَعَلَ من آبائِكم أو أسلافكم أو من جنسكم
، لأن المعاصرين ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهم ، فسواءً جَعَله مِمَّا ذَكَر أم لا
، لا بد من حذف مضاف .
قوله تعالى : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } هذه جملةٌ حاليةٌ / وفي العامل فيها
وجهان أحدُهما : وبه بدأ أبو البقاء - أنه « قالوا » أي : قالوا كذا في حالِ
دخولِهم كفرةً وخروجِهم كفرةً وفيه نظرٌ ، إذ المعنى يَأباه . والثاني : أنه «
آمنَّا » ، وهذا واضحٌ أي : قالوا آمنَّا في هذه الحال . و « قد » في « وقد
دَخَلُوا » « وقد خَرَجُوا » لتقريب الماضي في الحال . وقال الزمخشري : « ولمعنًى
آخرَ وهو أنَّ أماراتِ النفاقِ كانت لائحةً عليهم فكان الرسولُ عليه السلام متوقعاً
لإِظهار الله تعالى ما كتموه ، فدخَلَ حرفُ التوقعِ ، وهو متعلِّقٌ بقولِه » قالوا
آمنا « أي : قالوا ذلك وهذه حالُهم » يعني بقوله : « وهو متعلِّقٌ » أي : والحال ،
وقوةُ كلامِه تُعْطي أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقول . و
« بالكفر » متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعلِ « دَخَلوا » فيه حال من حالٍ أي :
دَخلوا ملتبسين بالكفرِ أي : ومعَهم الكفرُ كقولِهم : « خرج زيدٌ بثابه » وقراءةِ
مَنْ قرأ : { تَنْبُتُ بالدُّهْن } أي : وفيها الدهن ، ومنه ما أنشدَ الأصمعي :
1761- ومُسْتَنَّةٍ كاسْتنانِ الخَرُو ... فِ قد قَطَعَ الحَبْل بالمِرْوَدِ
أي : ومرودُه فيه ، وكذلك « به » أيضاً حالٌ من فاعلِ « خرجوا » .
وقوله : { وهم } مبتدأٌ ، و « قد خَرَجُوا » خبرُه ، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على
الحالِ قبلَها ، وإنما جاءتِ الأولى فعليةً والثانيةُ اسميةً تنبيهاً على فرطِ
تهالكِهم في الكفر ، وذلك أنهم كان ينبغي لهم إذا دخلوا على الرسولِ عليه السلام
أَنْ يُؤمنوا ، لِما يَرَوْن من حسنِ سَمْتِه وهَيْبَته وما يظهرُ على يديهِ
الشريفة من الخوارقِ والمعجزات ، ولذلك قال بعض الكفرة : « رأيت وجهَ مَنْ ليس
بكذَّاب » فلمَّا [ لم ] ينجَعْ فيهم ذلك أكَّد كفرهَم الثاني بأَنْ أبْرَز
الجملةَ اسميةً صدرُها اسمٌ وخبرها فعلٌ ، ليكونَ الإِسنادُ فيها مرتين . وقال ابن
عطية : « وقولُه » « وهم » تخليص من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكفرِ ثم
يؤمنوا ويخرجَ قومٌ وهم كفرة ، فكان ينطبِقُ على الجميع وهم قد دَخَلوا بالكفر وقد
خَرَجوا به ، فأزال اللّهُ الاحتمالَ بقوله : « وهم قد خَرَجوا به » أي : هم
بأعيانِهم « وهذا المعنى سَبَقه إليه الواحدي فبسَطَه ابنُ عطية ، قال الواحدي : »
وهم قد خَرَجوا به « أكَّد الكلامَ بالضمير تعييناً إياهم بالكفرِ وتمييزاً لهم عن
غيرِهم » وقال بعضُهم : « معنى » هم « التأكيدُ في إضافة الكفر إليهم ، ونفى أن
يكونَ من الرسولِ ما يوجِبُ كفرَهم مِنْ سوءِ معاملتِه لهم ، بل كان يلطفُ بهم
ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ ، فالمعنى : أنهم هم الذين خَرَجوا بالكفر باختيارِ
أنفسهم ، لا أنك أنت الذي تسبَّبْبَ لبقائِهم في الكفر » وقال أبو البقاء : «
ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وقد كانوا خَرَجُوا به » ولا معنى لهذا التأويلِ .
والواوُ في قوله تعالى : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ } تحتمل وجهين أحدهما : أن تكونَ عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلِها ، والثاني : أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال ، وعلى هذا يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجيز تعدُّدَ الحالِ لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل ، نحو : « جاء زيدٌ ضاحكاً كاتباً » وعلى الأول لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر .
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
وقوله تعالى : { وترى } : يجوز أن تكونَ بصريةً فيكونَ « يُسارعون » حالاً ، وأن تكونَ العِلْمية أو الظنيَّة فينتصب « يسارعون » مفعولاً ثانياً . و « منهم » في محلِّ نصب على أنه صفةٌ ل « كثيراً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائناً منهم أو استقرَّ منهم . وقرأ أبو حيوة : « العِدوان » بالكسر . وأَكْلِهم « هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله . والسحتَ مفعولُه ، وقد تقدَّم ما فيه قبلَ ذلك وقوله : » لبئسما « قد تَقَدَّم ايضاً حكمُ » ما « مع بئس ونِعْم أولَ هذا الكتاب فأَغْنى عن إعادته .
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
وقوله تعالى : { لَوْلاَ } : حرفُ تحضيضٍ ومعناه التوبيخ . وقرأ الجراح وأبو واقد : « الِّربيُّون » مكان الربانيين . وقرأ ابن عباس « بئسما » بغير لام قسم . و « قولِهم » مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه ، « والإِثْمَ » مفعولُه .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
وقرأ
أبو السمَّال : « ولُعنوا » بسكون العين ، وحَسَّن تخفيفَها هنا كونُها كسرةً بين
ضمتين ، ومثلُه قولُ الآخر :
1762- لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ ... والظاهر أن الضميرَ في « كانوا »
عائدٌ على الأحبار والرهبان ، ويجوز أن يعودَ على المتقدمين .
وقول تعالى حكايةً عن اليهود : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } فيه قولان ، أحدُهما :
أنه خبرٌ مَحْضٌ . وزعم بعضُهم أنه على تقديرِ همزةِ استفهام تقديره : « أيدُ
اللَّهِ مغلولةٌ »؟ قالوا ذلك لَمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم ، ولا يحتاجون إلى هذا
التقدير . و « بما قالوا » الباء للسببية أي : لُعنوا بسببِ قولِهم ، و « ما »
مصدريةٌ ، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية والعائدُ محذوف . وغَلُّ اليدِ وبسطُها
هنا استعارةٌ للبخل والجود ، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة ، وكلامُ العرب
ملآنُ من ذلك . قالت العرب : « فلانٌ ينفق بكلتا يديه » قال :
1763- يداك يدا مجدٍ ، فكفٌّ مفيدةٌ ... وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
وقال آخر هو ابو تمام :
1764- تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه ... دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه
أنامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيث لا يدَ البتة ، ومنه قولُ لبيد :
1765- . . . . . . . . . . . . . . ... إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها
وقال آخر :
1766- جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ ... شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ
وقالوا : « بَسَطَ اليأسُ كفَّيه في صدري » واليأسُ معنًى لا عينٌ ، وقد جعلوا له
كَفَّين مجازاً . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ ثُنِّيت اليد في » بل يداه
مبسوطتان « وهي في » يَدُ اللَّهِ مغلولةٌ « مفردةٌ؟ قلت : ليكونَ ردُّ قولِهم
وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثباتِ غايةِ السخاء له ونَفْيِ البخل عنه ، وذلك أنَّ
غايةَ ما يبذله السخيُّ من ماله بنفسِه أن يعطيَه بيديه جميعاً فبنى المجازَ على
ذلك » وقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ } يحتمل الخبرَ المحضَ ، ويحتمل
أن يُرادَ به الدعاءُ عليهم . وفي مصحف عبد الله : « بُسُطان » يقال : « يدٌ بُسُط
» على زنة « ناقة سُرُح » و « أُحُد » و « مِشْية سُجُع » ، أي : مبسوطة بالمعروف
، وقرأ عبد الله : « بسيطتان » يقال : يد بسيطة أي : مُطْلَقَةٌ بالمعروف .
قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } في هذه الجملة خمسةُ أوجه ، أحدها : - وهو
الظاهر - أنْ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مستأنفة والثاني : أنها في محلِّ رفع
لأنها خبر ثان ل « يداه » والثالث : أنها في محل نصبٍ على الحال من الضميرِ
المستكنِّ في « مبسوطتان » وعلى هذين الوجهين فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على
المبتدأ ، أو على ذي الحال أي : ينفق بهما ، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ .
وقال
أبو البقاء : « ينفق كيف يشاء » مسأنفٌ ، ولا يجوزُ ان يكونَ حالاً من الهاء -
يعني في « يداه » - لشيئين ، أحدُهما : أنَّ الهاءَ مضاف إليها . والثاني : أنَّ
الخبرَ يَفْصِل بينهما : ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً من اليدين ، إذ ليس فيها ضمير
يعود إليهما « قلت : قوله : » أحدُهما : أنَّ الهاء مضاف إليها « ليس ذلك بمانع؛
لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحال من المضافِ إليه إذا لم يكن المضاف جزءاً من
المضافِ إليه أو كجزئه أو عاملاً فيه وهذا من النوع الأول فلا مانع فيه . وقوله :
» والثاني : أن الخبرَ يَفْصِل بينهما « هذا أيضاً ليس بمانع ، ومنه : { وهذا
بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] إذا قلنا إن » شيخاً « حالٌ من اسم الإِشارة ،
والعاملُ فيه التنبيه . وقوله : » إذ ليس فيها ضمير « قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر
، أي : ينفق بهما .
الرابع : أنها حالٌ من » يداه « وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحال من المبتدأ - ووجهُ
المنعِ أنَّ العامل في الحالِ هو العاملُ في صاحبها ، والعاملُ في صاحبها أمرٌ
معنوي لا لفظيٌ وهو الابتداء ، وهذا على أحدِ الأقوال في العاملِ في الابتداء . الخامس
: أنها حال من الهاء في » يداه « ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاء لِمَا تقدَّم من
تصحيحِ ذلك .
و » كيف « في مثلِ هذا التركيبِ شرطيةٌ نحو : » كيف تكون أكون « ومفعولُ المشبه
محذوفٌ ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعلِ السابق ل » كيف «
والمعنى : ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق ، ويبسطُ في السماء كيف يشاء أن يبسطَه
يبسطه ، فحذف مفعول » يشاء « وهو » أَنْ « وما بعدها ، وقد تقدم أن مفعول » يشاء «
و » يريد « لا يُذْكران إلا لغرابتهِمها ، وحَذَفَ أيضاً جوابَ » كيف « وهو » ينفق
« المتأخرُ » ويبسط « المتأخرُ لدلالة » ينفق ويبسط « الأولين ، وهو نظيرُ قولك :
» أقوم إنْ يقم زيد « ، ولا جائزٌ أن يكونَ » ينفق المتقدُم عاملاً في « كيف »
لأنَّ لها صدرَ الكلامِ ، ومالَه صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف
. وقال الحوفي : « كيف » سؤالٌ عن حال ، وهي نصبٌ ب « يشاء » قال الشيخ « ولا
يُعْقَلُ هنا كونُها سؤالاً عن حال » قلت : وقد تقدم الكلام عليها مشبعاً عند
قولِه : { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } [ آل عمران : 6 ] ، وذكرنا
عبارةَ الناس فيها .
قوله : { مَّآ أُنزِلَ } « ما » هنا موصولةٌ اسمية في محل رفع ، لأنها فاعل بقوله
: { وَلَيَزِيدَنَّ } ولا يجوزُ ان تكونَ « ما » مصدريةً ، و « إليك » قائمٌ مقام
الفاعل ل « أُنْزل » ويكون التقديرُ : « وليزيدَنَّ كثيراً الإِنزالُ إليك » لأنه
لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل ، والذي يزيدهم إنما هو المُنَزَّل لا نفسُ الإِنزال
.
وقوله
: « منهم » صفةٌ ل « كثيراً » فيتعلَّقُ بمحذوف و « طغياناً » مفعولٌ ثان ل «
يَزيد » وقوله : { إلى يَوْمِ القيامة } متعلقٌ ب « أَلْقينا » ، ويجوز أن يتعلَّق
بقوله : « والبغضاء » اي : إنَّ التباغضَ بينهم إلى يوم القيامة ، ولا يجوزُ أن
يتعلَّقَ بالعداوةِ لئلا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالأجنبي وهو
المعطوفُ ، وعلى هذا فلا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازع ، لأن شرطَه تسلُّطُ
كلٍ من العاملين ، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه لم يَجُزْ
للمحذورِ المذكور . وقد نَقَل بعضُهم أنه يجوز التنازع في فِعْلَي التعجب مع
التزامِ إعمالِ الثاني؛ لأنه لا يُفْصَلِّ بين فعل التعجب ومعمولِه ، وهذا مثلُه ،
أي : يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني ، وهو خارج عن قياسِ التنازع ، وتقدَّم لك
نظيره . والفرقُ بين العداوة والبغضاء أن العداوة كل شيء مشتهر يكون عنه عملٌ وحرب
، والبغضاء لا تتجاوزُ النفوس ، قال ابن عطية وقال الشيخ : « العداوةُ أخَصُّ من
البغضاء لأنَّ كل عدو مُبْغَضٌ ، وقد يُبْغَضُ مَنْ ليس بعدو » .
قوله : { لِّلْحَرْبِ } فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ ب « أوقدوا » أي : أوقدوها
لأجل الحرب . والثاني : أنه صفة ل « نارا » فيتعلق بمحذوف ، وهل الإِيقادُ حقيقةٌ
أو مجازٌ؟ قولان . و « أطفأها الله » جواب « كلما » وهو أيضاً حقيقة أو مجاز على
حَسَب ما تقدم . وقوله : { فَسَاداً } [ المائدة : 33 ] قد تقدم نظيره ، وأنه يجوز
أن يكونَ مصدراً من المعنى ، وحينئذ لك اعتباران ، أحدهما : ردُّ الفعل لمعنى
المصدر . والثاني : ردُّ المصدر لمعنى الفعل ، وأن يكون حالاً أي : يَسْعَوْن
سَعْيَ فساد ، أو : يفسدون بسعيهم فساداً ، أو : يَسْعَوْن مفسدين ، وأن يكونَ
مفعولاً من أجله : أي : يَسْعَوْن لأجل الفساد . والضميرُ في « بينهم » يجوز أن
يعود على اليهودِ وحدَهم لأنه فِرَقٌ مختلفةٌ وطوائفُ متشعبةٌ ، وأَنْ يعودَ على
اليهود والنصارى لتقدُّم ذكرهم في قولِه تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود
والنصارى } [ المائدة : 51 ] ، ولا ندراجِ الصنفين في قوله : { قُلْ ياأهل الكتاب
} [ المائدة : 59 ] ، والألفُ واللام في « الأرض » يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكون
للعهد .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ } : تقدَّم الكلامُ على نظيرِ هذا التركيب .
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قوله
تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } : مفعولُ الأكلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً ، أي
لوُجِد منهم هذا الفعلُ ، و « من فوقهم » متعلقٌ به أي : لأكلوا من الجهتين . وقال
أبو البقاء : « إنَّ » من فوقهم « صفةٌ لمفعول محذوف أي : لأكلُوا رِزْقاً كائناً
مِنْ فوقِهم » وقوله « منهم » خبر مقدم ، و « أمةٌ » مبتدأ ، و « مقتصدةٌ » صفتُها
، وعلى رأي الأخفش يجوز أن تكون « أمة » فاعلاً بالجار . وقوله : { مِّنْهُمْ
أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ } تنويعٌ في التفصيل ، فأَخْبر في
الجملة الأولى بالجار والمجرور ، ووصفَ المبتدأ بالاقتصاد ، ووصفَ المبتدأ في
الجملة الثانية ب « منهم » ، وأخبر عنه بجملة قوله : { سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }
وذلك لأنَّ الطائفةَ الأولى ممدوحةٌ فُوصفوا بالاقتصاد ، وأخبر عنهم بأنهم من جملة
أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ من الخبر ، فإنهم إذا أسلموا زال عنهم هذا الاسم ،
وأما الطائفة الثانية فإنهم وصفوا بكونهم من أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ وهم
كفار فهم منهم ، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة فإن الخبرَ ليس بلازم ، وقد
يُسْلِم منهم ناس فيزول عنهم الإِخبار بذلك .
و « ساءَ » هذه يجوزُ فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكونَ تعجباً كأنه قيل : ما
أسوأ عملَهم ، ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجه ، ولكن النحاة لَمَّا ذكروا صيغَ
التعجب لم يَعُدُّوا فيها « ساء » ، فإن أراد من جهةِ المعنى لا من [ جهة ] التعجب
المبوبِ له في النحو فقريب . الثاني : أنها بمعنى « بِئْس » فتدلُّ على الذَّمِّ
كقوله تعالى : { سَآءَ مَثَلاً القوم } وعلى هذين القولين ف « ساءَ » غيرُ متصرفة
، لأن التعجب والمدح والذم لا تتصرَّفُ أفعالُهما . الثالث : أن تكون « ساء »
المتصرفة نحو : ساء يسوء ، ومنه { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإِسراء : 7 ] {
سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] ، والمتصرفةُ متعديةٌ ، قال
تعالى : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } فأين مفعولُ هذه؟ قيل : هو محذوفٌ تقديره :
ساء عملُهم المؤمنين ، والتي بمعنى « بئس » لا بد لها من مميِّز ، وهو هنا محذوفٌ
تقديره : ساء عملاً الذي كانوا يعملونه . والحرب مؤنثةٌ ، وهي في الأصل مصدر ، وقد
تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قوله
تعالى : { ياأيها الرسول } : ناداه بأشرفِ الصفات البشرية . وقوله : { بَلِّغْ مَآ
أُنزِلَ إِلَيْكَ } وهو قد بَلَّغَ!! فأجاب الزمخشري بأن المعنى : جميعَ ما أُنْزل
إليك ، أي : أيَّ شيء أُنْزل غيرَ مراقِبٍ في تبليغه أحداً ولا خائفٍ أن ينالكَ
مكروهٌ « وأجاب ابن عطية بقريب منه ، قال : » أَمَر رسولَه بالتبليغِ على
الاستيفاء والكمال ، لأنه كان قد بلَّغ « ، وأجابَ غيرُهما بأنَّ المعنى على
الديمومة كقوله : { يا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] { يَا أَيُّهَا
الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] ، وإنما ذكرْتُ هذا لأنه ينفعُ في
سؤالٍ سيأتي .
وقوله : { ما } يحتملُ أن تكونَ اسميةً بمعنى الذي ، ولا يجوز أن تكون موصوفةً
لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميع كما مَرَّ ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك فإن تقديرها : »
بَلِّغْ شيئاً أُنزل إليك « وفي » أُنزل « ضمير مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقامَ
الفاعل ، وتحتمل على بُعْدٍ أن تكون » ما « مصدريةً ، وعلى هذا فلا ضميرَ في »
أُنْزل « لأنَّ » ما « المصدريةَ حرفٌ على الصحيح فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ
الفاعلِ وهو الجارُّ بعده ، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ : بَلِّغِ الإِنزالَ ،
ولكنَّ الإِنزال لا يُبَلِّغُ فإنه معنى ، إلا أن يُراد بالمصدر أنه واقعٌ موقعَ
المفعول به ، ويجوز أن يكونَ المعنى : » اعلَمْ بتبليغِ الإِنزالِ « فيكونُ مصدراً
على بابه .
قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وإنْ لم
تفعل التبليغَ ، فحذَف المفعولَ به ولم يقل : » وإن لم تبلِّغْ فما بَلَّغت « لِما
تقدم في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } [ الآية : 24 ] في البقرة ،
والجوابُ لا بد أن يكون مغايراً للشرط لتحصُل الفائدةُ ، ومتى اتَّحدا اختلَّ
الكلام ، لو قلت : » إن أتى زيد فقد جاء « لم يَجُزْ ، وظاهرُ قوله تعالى : {
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ } اتحادُ الشرطِ والجزاء ، فإن المعنى
يَؤُول ظاهراً إلى : وإن لم تفعل لم تفعلْ . وأجابَ الناس عن ذلك بأجوبةٍ أسَدُّها
ما قاله الأستاذ أبو القاسم الزمخشري ، وقد أجابَ بجوابين ، أحدُهما : أنه إذا لم
يمتثل أمرَ اللّهِ في تبليغِ الرسالاتِ وكَتْمِها كلِّها كأنه لم يُبْعَثْ رسولاً
كان أمراً شنيعاً لاخفاءَ بشناعته ، فقيل : إنْ لم تبلغ أدنى شيء وإن كلمةً واحدةً
فكنت كمن ركب الأمرَ الشنيع الذي هو كتمانُ كلِّها ، كما عَظَّم قَتْل النفسِ في
قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] . والثاني : أَنْ
يُراد : وإنْ لم تفعلْ ذلك فلك ما يُوجِبُ كتمانَ الوحي كلِّه من العقاب فوضَع
السببَ موضعَ المُسَبِّب ، ويؤيده : » فأوحى الله إليَّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك
« .
وأجاب ابن عطية فقال : » أي : وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بَلَّغْت غيرَ
معتد به ، فمعنى « وإن لم تفعل » : « وإن لم تستوفِ » نحوُ هذا قولُ الشاعر :
1767-
سُئِلْتَ فلم تبخَلْ ، ولم تُعْطِ نائلاً ... ، فسِيَّان لا حمدٌ عليك ولا ذَمٌّ
أي : فلم تعطِ ما يُعَدُّ نائلاً ، وإلا يتكاذَبِ البيتُ ، يعني بالتكاذب أنه قد
قال : « فلم تبخل » فيتضمن أنه أعطى شيئاً ، فقوله بعد ذلك : « ولم تُعْطِ نائلاً
» لو لم يقدِّر نائلاً يُعْتَدُّ به تكاذَبَ . وفيه نظر فإنه قوله « لم تبخل ولم
تُعْطِ » لم يتواردا على محلِّ واحد حتى يتكاذَبا ، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير
الذي قَدَّره ابن عطية كَذِبُ البيت ، وبهذا الذي ذكرتُه يتبيِّنُ فسادُ قولِ مَنْ
زعم أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازَعَ فيه ثلاثةُ عواملَ : سُئِلت وتَبْخَلْ وتُعْطِ
، وذلك لأنه قوله : « ولم تَبْخَلْ » على قولِ هذا القائلِ متسلطٌ على « طائل »
فكأنه قيل : فلم تبخل بطائل ، وإذا لم يبخل به فقد بذله وأعطاه فيناقضه قوله بعد
ذلك . و « لم تُعْطِ نائلاً » .
وقد أفسد ابن الخطيب الرازي الجوابَ المتقدم واختار جواباً مِنْ عنده فقال : «
أجاب الجمهور ب » إنْ لم تبلِّغ واحداً منها كنت كمن لم يبلِّغْ شيئاً « وهذا
ضعيفٌ ، لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتى بالبعض فإن قيل : إنه تَرَكَ الكلَّ كان كذباً
، ولو قيل : إن مقدارَ الجُرْم في ترك البعض مثلُ الجرم في ترك الكل فهذا هو
المُحالُ الممتنع ، فسقط هذا الجوابُ ، والأصحُّ عندي أن يقالَ : خَرَجَ هذا
الجوابُ على قانون قوله :
1768- أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري ... ومعناه : أنَّ شعري قد بَلَغَ في الكمال
والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل إنه شعري فقد انتهى مدحُه إلى الغاية التي لا
يزاد عليها ، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامةَ من هذا الوجه ، فكذا هنا كأنه
قال : فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه فما بلَّغْتَ رسالاته ، يعني أنه لا يمكن أن يوصفَ
تَرْكُ التبليغ بتهديدٍ أعظمَ من أنه تَرَكَ التبليغَ ، فكان ذلك تنبيهاً على
غايةِ التهديد والوعيد .
قال الشيخ : » وما ضَعَّفَ به جوابَ الجمهور لا يضعف به لأنه قال : « فإنْ قيل إنه
تركَ الكل كان كذباً » ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا إنَّ بعضها ليس أَوْلى بالأداء
من بعضٍ ، فإن لم تؤدِّ فكأنك أَغْفَلتَ أداءَها جميعَها ، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ
ببعضِها كان كمن لم يؤمنْ بكلِّها لإِدلاء كل منها بما يُدْلي به غيرُها ، وكونُها
كذلك في حكم شيءٍ واحدٍ ، والشيءُ الواحد لا يكون مبلِّغاً غير مبلَّغ مؤمناً به
غيرَ مؤمن به ، فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غيرَ معتدٍّ به « قلت : هذا الكلام
الأنيق أعني ما وقع به الجواب عن اعتراض الرازي كلامُ الزمخشري أَخَذَه ونقله إلى
هنا .
وتمامُ
كلام الزمخشري أن قال بعد قوله : « غير مؤمَنٍ » وعن ابن عباس رضي الله عنه : «
إنْ كتمت آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي » وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
: « بَعَثَني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذَرْعاً ، فأوحى الله إليّ إنْ لم تبلِّغْ
رسالاتي عَذَّبْتُك وضَمِن لي العِصمةَ فقويتُ » قال الشيخ : « وأما ما ذكر من أن
مقدار الجُرم في تَرْكِ البعضُ مثلُ الجرم في ترك الكل مُحال ممتنع فلا استحالةَ
فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنب اليسير العقابَ العظيم وبالعكس ، ثم
مَثَّل بالسارق الآخذِ خفيةً يُقْطَع ويُرَدُّ ما أخذ ، وبالغاضبِ يؤخذ منه ما أخذ
دونَ قطعٍ .
وقال الواحدي : » أي : إنْ يتركْ إبلاغَ البعضِ كان كَمَنْ لم يبلِّغْ ، لأنَ
تَرْكه البعضَ محبطٌ لإِبلاغِ ما بلَّغ ، وجرمَه في كتمان البعض كجرمه في كتمان
الكل في انه يستحقٌّ العقوبة مِنْ ربِّه ، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يكتُمَ شيئاً مِمَّا أَوْحى الله إليه ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : « مَنْ
زَعَم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَم شيئاً من الوحي فقد أَعْظَمَ على
الله الفِرْيَةَ ، والله تعالى يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } ولو كَتَم رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي
نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } » [ الأحزاب : 37 ] الآية . وهذا قريب من الأجوبة
المتقدمة . هذا ما وقفتُ عليه في الجواب في هذه الآية الكريمةِ . ونظيرُ هذه
الآيةِ في السؤال المتقدمِ الحديثُ الصحيح عن عمر بن الخطاب : « فَمَنْ كانت
هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله » فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرط
، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحصُل به المغايرةُ فقالوا : « تقديره :
فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرتُه إلى الله ورسوله حكماً
وشرعاً ، ويمكن أن يأتي فيه جوابُ الرازي الذي اختاره .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : » رسلاتِه « جمعاً ، والباقون : »
رسالتَه « بالتوحيد ، ووجهُ الجمع أنه عليه السلام بُعِث بأنواع شتى من الرسالة
كأصول التوحيد والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإِفرادُ واضحٌ لأنَّ اسمَ الجنسِ
المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك ، وقد قال بعض الرسل : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ
رَبِّي } [ الأعراف : 62 ] ، وبعضُهم قال : { رِسَالَةَ رَبِّي } [ الأعراف : 79 ]
اعتباراً للمعنيين .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قوله
تعالى : { والصابئون } : الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار .
وفي رفعةِ تسعة أوجه ، أحدها : وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة : الخليل وسيبويه
وأتباعِهما - أنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه ، والنيةُ
به التأخيرُ ، والتقدير : إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا مَنْ آمنَ بهم إلى آخره
والصابئون كذلك ، ونحوه : « إن زيداً وعمروٌ قائمٌ » أي : إنَّ زيداً قائم وعمرو
قائم ، فإذا فَعَلْنا ذلك فهل الحذفُ من الأول / أي : يكونُ خبرُ الثاني مثبتاً ،
والتقدير : إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ قائم ، فحذف « قائم » الأول أو بالعكس . ؟
قولان مشهوران وقد وَرَد كلٌّ منهما : قال :
1769- نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ
أي : نحن رضوان ، وعكسه قوله :
1770- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإني وقَيَّار بها
لَغَريبُ
التقدير : وقيارٌ بها كذلك ، فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول
أيضاً؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ ب «
إنَّ » وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر ، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على
التخريج . قال الزمخشري : « والصابئون : رفعٌ على الابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ،
والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز » إنَّ « من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إنَّ
الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذلك والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه
شاهداً على ذلك :
1771- وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ ... بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ
أي : فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك » ثم قال بعد كلام : « فإنْ قلت : فقوله »
والصابئون « معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قتل : هو مع خبره المحذوفِ
جملةٌ معطوفة على جملة قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } إلى آخره ، ولا محلَّ لها
كما لا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها . فإن قلت : فالتقديمُ والتأخير لا يكون إلا
لفائدةً فما هي؟ قلت : فائدتُه التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إنْ صَحَّ
منهم الإِيمان والعملُ الصالحُ فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاء
المعدودين ضلالاً وأشدُّهم عتياً ، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَؤوا على
الأديان كلها أي : خَرَجوا ، كما أن الشاعر قدَّم قولَه : » وأنتم « تنبيهاً على
أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي من قومِه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو »
بُغاةٌ «؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغي قبلهم مع كونِهم أوغَل فيه منهم وأثبت قدماً
. فإن قلت : فلو قيل : » والصابئين وإياكم « لكانَ التقديمُ حاصلاً . قلت : لو قيل
هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه ، وإنما يُقال
مقدمٌ ومؤخرٌ للمُزال لا للقارِّ في مكانه ، وتجري هذه الجملة مَجْرى الاعتراض » .
الوجه
الثاني : أن « إنَّ » بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ ، ولا محلَّ لها حينئذ ، وعلى هذا
فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع ، وخبرُ
الجميع قوله : { مَنْ آمَنَ } إلى آخره ، وكونُها بمعنى « نعم » قولٌ مرجوح ، قال
به بعضُ النحويين ، وجَعَل من ذلك قول تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } [ طه :
63 ] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف ، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى
في موضعِه ، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير : « إنَّ وصاحبُها » جواباً
لمن قال له : « لَعَن الله ناقة حملتني إليك » أي : نعم وصاحبُها ، وجَعَلَ منه
قولَ الآخر :
1772- بَرَزَ الغواني في الشبا ... بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي : نعم والهاءُ للسكت ، وأُجيب بأنَّ الاسمَ والخبرَ محذوفان في قولِ ابن الزبير
، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه ، والتقدير : إنها وصاحبها معلونان ،
وتقدير البيت : إنه كذلك ، وعلى تقديرِ أن تكونَ بمعنى « نعم » فلا يَصِحُّ هنا
جَعْلُها بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيء تكون جواباً له ، و « نعم » لا تقع
ابتداءَ كلام ، إنما تقع جواباً لسؤال فتكونُ تصديقاً له . ولقائل أن يقولَ : «
يجوزُ أن يكونَ ثَمَّ سؤالٌ مقدر ، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرةٍ منها قولُه
تعالى : { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] { لاَ جَرَمَ } [ هود : 22 ] ، قالوا :
يُحتمل أن يكونَ رَدَّاً لقائلِ كيتَ وكيتَ .
الوجه الثالث : / أن يكون معطوفاً على الضميرِ المستكنِّ في » هادوا « أي : هادوا
هم والصابئون ، وهذا قول الكسائي ، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج : »
هو خطأ من جهتين « إحداهما : أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية ،
وليس كذلك ، فإن الصابئ هو غيرُ اليهودي ، وإن جُعِل » هادوا « بمعنى تابوا من
قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] لا من اليهودية ،
ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون ، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى »
الذين آمنوا « في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين ،
لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم ، ثم ذَكَر اليهود والنصارى
فقال : مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا ، فجعَلَهم يهوداً ونصارى ، فلو كانوا مؤمنين
لم يحتجْ أَنْ يقال : » مَنْ آمنَ فلهم أجرهم « . قلت : هذا على أحدِ القولين أعني
أن » الذين آمنوا « مؤمنون نفاقاً . ورَدَّه أبو البقاء ومكي ابن أبي طالب بوجهٍ
آخرَ وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعطوفِ عليه . قلت : هذا لا يلزمُ الكسائي ، لأنَّ
مذهبَه عدمُ اشتراط ذلك ، وإنْ كان الصحيحُ الاشتراطَ ، نعم يلزم الكسائي من حيث
إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحة ، والله أعلم .
وهذا
القولُ قد نقله مكي عن الفراء ، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي ، وردَّ عليه بما
تقدَّم ، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع ، ويحتمل أن يكون
مخالفاً له ثم رجع إليه ، وعلى الجملةِ فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان .
الوجه الرابع : أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم « إنَّ » لأنه قبل دخولها مرفوعٌ
بالابتداء ، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته ، غايةُ ما في الباب
أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً ، ولذلك اختصَّتْ هي و « أن » بالتفح ، ولكن على رأي بذلك
دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها ، بخلافِ ليت ولعل وكأن ، فإنه خَرَج
إلى التمني والتَّرَجي والتشبيه ، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً ، فأجاز ذلك
في ليت ولعل ، وأنشد :
1773- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... في بلدٍ بها أنيسُ
فأتى ب « أنت » ، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في « ليتني » ، وهل يَجْري غيرُ
العطف من التوابع مَجْراه في ذلك؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ ذلك وجَعَلا منه
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب } [ سبأ : 48 ]
فرفعُ « عَلاَّم » عندهما على النعت ل « ربي » على المحلِّ ، وحكوا « إنهم أجمعون
ذاهبون » ، وغَلَّط سيبويه مَنْ قال مِن العرب : إنهم أجمعون ذاهبون « فقال : »
واعلم أنَّ قوماً من العرب يغْلَطون فيقولون : « إنهم أجمعون ذاهبون » وأخذ الناس
عليه في ذلك من حيث إنه غَلَّط أهل اللسان ، وهم الواضعون او المتلقُّون من الواضع
، وأُجيب بأنهم بالنسبةِ إلى عامة العرب غالطون وفي الجملة فالناسُ قد رَدُّوا هذا
المذهبَ ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم « إنَّ » مطلقاً ، أعني قبلَ
الخبرِ وبعده ، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر . ونقل بعضُهم الإِجماع على جوازِ
الرفعِ على المحلِّ بعد الخبر ، وليس بشيء ، وفي الجملةِ ففي المسألةِ أربعةُ
مذاهبَ : مذهبُ المحققين : المنعُ مطلقاً ، ومذهبُ بعضهم ، التفصيل قبل الخبر
فيمتنع ، وبعده فيجوز ، ومذهب الفراء : إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال
الكراهية اللفظية ، وحُكِي من كلامهم : « إنك وزيد ذاهبان » الرابع : مذهب الكسائي
: وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ
والذين هَادُواْ } الآية ، وبقوله : - وهو ضابئ البرجمي -
1774- فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ
وبقوله :
1775- يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ ... حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ
وبقوله :
1776- وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت ، / وبقوله :
1777- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... وبقولهم : « إنك وزيدٌ ذاهبان » وكلُّ هذه
تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً ، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً
على جوازِ ذلك مع ظهور إعرابِ الاسم نحو : « إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان » وردَّ
الزمخشري الرفع على المحل فقال : « فإنْ قلت : هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف
على محل » إنَّ « واسمها .
قلت
: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : « إنَّ زيداً وعمرو منطلقان »
فإنْ قلت : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ ، وكأنك قلت : إنَّ زيداً منطلق
وعمرو؟ قلت : لأني إذا رفعته رفعتُه على محل « إنَّ » واسمِها ، والعاملُ في
محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم
الجزأين في عمله ، كما تنتظِمُها « إنَّ » في عمِلها ، فلو رَفَعْتَ « الصابئون »
المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب « إنَّ » لأَعْمَلْتَ فيهما
رافعين مختلفين « وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك
بعد استكمال الخبر ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإِجماعَ على جوازِه .
الخامس : قال الواحدي : » وفي الآيةِ قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية : وهو أَنْ
تُضْمِرَ خبرَ « إنَّ » وتبتدئ « الصابئون » والتقدير : « إنَّ الذين آمنوا والذين
هادوا يُرْحَمُون » على قولِ مَنْ يقولُ إنَّهم مسلمون ، و « يُعَذَّبون » على
قولِ مَنْ يقول إنهم كفار ، فيُحْذَفُ الخبرُ إذ عُرِف موضِعُه ، كما حُذِف مِنْ
قولِه : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] أي : « يُعاقَبون » ثم
قال الواحدي : « وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريين ، غيرَ أنَّهم يُضْمِرون خبرَ
الابتداءِ ، ويَجْعلون » مَنْ آمن « خبرَ » إن « ، وهذا على العكس من ذلك لأنه
جَعَل » مَنْ آمَن « خبرَ الابتداء وحَذَفَ خبرَ » إنَّ « قلت : هو كما قال ، وقد
نَبَّهْتُ على ذلك في قولي أولاً : إنَّ منهم مَنْ يُقَدِّر الحذفَ مِن الأول ،
ومنهم مَنْ يعكس .
السادس : أنَّ » الصابئون « مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ كمذهب سيبويه والخليل
، إلا انه لا يُنْوى بهذا المبتدأِ التأخيرُ ، فالفرقُ بينه وبين مذهبِ سيبويه
نيةُ التأخيرِ وعدمُها . قال أبو البقاء » وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لِما فيه من لزومِ
الحذفِ والفصلِ « أي : لِما يلزمُ من الجمع بين الحذفِ والفصلِ ، ولا يَعْني بذلك
أنَّ المكانَ من مواضع الحذف اللازمِ ، لأنَّ القرآنَ يلزمُ أَنْ يُتْلَى على ما
أُنْزِل ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ .
السابع : أنَّ » الصابئون « منصوبٌ ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرث وغيرِهم الذين
يَجْعَلون المثَّنى بالألفِ في كل حال نحو : » رأيت الزيدان ومررت بالزيدان « نقلَ
ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء ، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها أنه رأى
الألفَ علامةَ رفعِ المثنى ، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً
وجراً ، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً ، فيبقى في حالةِ النصب والجر
كما بَقِيت الألف ، وهذا ضعيفٌ بل فاسدٌ .
الثامن
: أنَّ علامةَ النصبِ في « الصابئون » فتحةُ النون ، والنونُ حرفُ الإِعراب كهي في
« الزيتون » و « عربون » قال أبو البقاء : « فإنْ قيل : إنما أجاز أبو علي ذلك مع
الياءِ لا مع الواوِ قيل : قد أجازه غيرُه ، والقياسُ لا يَدْفَعُه » قلت : يشير
إلى مسألة وهو : أن الفارسي أجازَ / في بعضِ جموع السلامة وهي ما جَرَتْ مَجْرى
المكسِّر كبنين وسنين أن يَحُلَّ الإِعرابُ نونَها ، بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ
خاصةً دونَ الواوِ فيقال : « جاء البنينُ » قال :
1778- وكان لنا أبو حسن عليٌّ ... أباً بَرّاً ونحنُ له بنينُ
وفي الحديث : « اللهم اجْعَلْها عليهم سنيناً كسنينِ يوسف » .
وقال :
1779- دعانيَ مِنْ نجدٍ فإنَّ سنينَه ... لَعِبْنَ بنا شِيباً وشَيَّبْنَنا
مُرْدَا
فأثْبَتَ النونَ في الإِضافة ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ ووجِّهت بأن علامة النصبِ
فتحةُ النونِ ، وكان المشهورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسي ، سأل أبو البقاء هذه
المسألةَ . وأجاب بأنَّ غيرَه يُجيزه حتى مع الواو ، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه .
قلت : القياسُ يأباه ، والفرقُ بينه حالَ كونه بالياء وبين كونِه بالواوِ ظاهرٌ قد
حَقَّقْته في « شرح التسهيل » نعم إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ جاز فيه خمسةُ
أوجه ، أحدُها : أَنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ ، ويصيرَ نظيرَ « الَّذُوْن »
فيقال : « جاء الزيدون ورأيت الزيدون ومررت بالزيدون » ك « جاء الذون ورأيت الذون
ومررت بالذون » هذا إذا سُمِّي به ، أمَّا ما دام جمعاً فلا أحفظُ فيه ما ذكره أبو
البقاء ، ومن أَثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نفى لا سيما مع تقدُّمِه في العلم والزمان .
التاسع : قال مكي : « وإنما رفع » الصابئون « لأن » إنَّ « لم يظهر لها عملٌ في »
الذين « فبقي المعطوفُ على رفعه الأصلي قبل دخول » إنَّ « على الجملةَ » قلت : هذا
هو بعينه مذهب الفراء ، أعني أنه يجيز العطف على محل اسم « إنَّ » إذا لم يظهر فيه
إعراب ، إلا أن عبارة مكي لا توافق هذا ظاهراً .
وقرأ أُبي بن كعب وعثمان بن عفان وعائشة والجحدري وسعيد بن جبير وجماعة : «
والصابئين » بالياء ، ونقلها صاحب « الكشاف » عن ابن كثير ، وهذا غير مشهور عنه ،
وهذه القراءة واضحةُ التخريجِ عطفاً على لفظِ اسم « إنَّ » وإن كان فيها مخالفةٌ
لسوادِ المصحفِ فهي مخالفةٌ يسيرة ، ولها نظائرُ كقراءة قنبل عن ابن كثير : { سراط
} وبابِه بالسين ، وكقراءة حمزة إياه في روايةٍ بالزاي ، وهم مرسومٌ بالصاد في
سائر المصاحف ، ونحو قراءةِ الجميع : { إيلافهم } بالياء ، والرسم بدونها في
الجميع .
وقرأ
الحسن البصري والزهري : { والصابِيُون } بكسر الباء بعدها ياء خالصة ، وهو تخفيف
للهمزة كقراءة من قرأ { يَسْتهزِيُون } بخلوص الياء ، وقد تقدم قراءة نافع في
البقرة . وأما « النصارى » فهو منصوب عطفاً على لفظ اسمِ « إنَّ » ولا حاجةَ إلى
ادِّعاء كونِه مرفوعاً على ما رفع به « الصابئون » لكلفةِ ذلك .
قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } يجوز في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أنها شرطيةٌ ،
وقوله : « فلا خوفٌ » إلى آخره جواب الشرط ، وعلى هذا ف « آمن » في محل جزم بالشرط
، و « فلا خوف » في محل جزم بكونه جوابَه ، والفاءُ لازمةٌ . والثاني : أن تكونَ
موصولةً والخبر « فلا خوف » ، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ ، ف « آمَنَ »
على هذا لا محلَّ له لوقوعه صلةً ، و « فلا خوفٌ » محلُّه الرفعُ لوقوعِه خبراً ،
والفاءُ جائزةُ الدخولِ لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين فمحلُّ « مَنْ »
رفعٌ بالابتداء ، ويجوز على كونِها مصولةً أن تكونَ في محل نصب بدلاً من اسم «
إنَّ » وما عُطِف عليه ، أو تكون بدلاً من المعطوف فقط ، وهذا الخلافِ في « الذين
آمنوا » : هل المرادُ بهم المؤمنون حقيقةً ، أو المؤمنون نفاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير
من التقادير المتقدمة فالعائدُ من هذه الجملة على « مَنْ » محذوفٌ تقديرُه : مَنْ
آمَنَ منهم « كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ وتقدَّم إعرابُ باقي الجملة فيما مضى .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قوله
تعالى : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } : قد تقدَّم الكلام على « كلما » مشبعاً
فَأَغْنى عن إعادتِه . وقال الزمخشري : « كلما جاءهم رسول » جملةٌ شرطيةٌ وقعت
صفةً ل « رسلاً » والراجعُ محذوفٌ أي : رسول منهم « ، ثم قال : » فإنْ قلت : أين
جوابُ الشرط ، فإنَّ قولَه : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب
عن الجواب ، لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقين ، ولأنه لا يحسُن أن تقولَ : «
إن أكرمت أخي أخاك أكرمت »؟ قلت : هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه قوله : { فَرِيقاً
كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل : كلما جاءَهم رسولٌ ناصَبُوه ،
وقوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } جواب مستأنف لقائلٍ يقول : كيف فَعَلُوا برسلهم؟
« قال الشيخ : » وليس « كلما » شرطاً ، بل « كلَّ » منصوبٌ على الظرف و « ما »
مصدرية ظرفية ، ولم يجزم العرب ب « كلما » أصلاً ، ومع تسليم أن « كلما » شرط فلا
يمتنع لِما ذكر ، أما الأول فلأنَّ المرادَ ب « رسول » الجنسُ لا واحدٌ بعينه ،
فيصح انقسامُه إلى فريقين نحو : « لا أصحبك ما طَلَعَ نجمٌ » أي : جنس النجوم ،
وأما الثاني فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه ، وهذا الذي منعه
إنما منعه الفراءُ وحدَه ، وأما غيرُه فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنَّ « كلما »
شرط ، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك ، ولا
يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في « كلما » تقول : « كلما جئتني أخاك أكرمتُ
» قلت : هذا واضحٌ من أنها ليست شرطاً ، وهذه العبارةُ تكثُر في عبارة الفقهاء
دونَ النحاة . وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشري فإنه قال : «
وكَذَّبوا » جواب « كلما » « وفريقاً » مفعول ب « كَذَّبوا » و « فريقاً » منصوب ب
« يقتلون » وإنما قدَّمَ مفعولَ « يقتلون » لتواخي رؤوسِ الآي ، وقَدَّم مفعولَ «
كَذَّبوا » مناسبة لما بعده .
قال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت :
جِيء ب » يقتلون « على حكايةِ الحالِ الماضية استفظاعاً للقتلِ ، واستحضاراً لتلك
الحال الشنيعة للعجبِ منها » انتهى . وقد يقال : فلِمَ لا حُكِيت حالُ التكذيب
أيضاً فيُجاء بالفعل مضارعاً لذلك؟ ويُجاب بأنَّ الاستفظاعَ في القتلِ وشناعتِه
أكثرُ / من فظاعةِ التكذيب ، وأيضاً فإنه لمَّا جِيء به مضارعاً ناسَبَ رؤوس الآي
.
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
قوله
تعالى : { أَلاَّ تَكُونَ } : قرأ البصري والأَخَوان برفع النون ، والباقون بنصبها
. فَمَنْ رفع ف « أَنْ » عنده مخففةٌ من الثقيلة ، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ
محذوفٌ تقديرُه : أنه ، و « لا » نافية ، و « تكون » تامة ، و « فتنةٌ » فاعلها ،
والجملةُ خبر « أن » وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن ، وعلى هذا ف « حَسِب »
هنا لليقين لا للشكِّ ، ومن مجيئِها لليقين قولُ الشاعر :
1780- حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ
ثاقِلاً
أي : تيقَّنْتُ لأنه لا يلِيقُ الشكُّ بذك ، وإنما اضطرِرْنا إلى جَعْلِها في
الآية الكريمة بمعنى اليقين لأنَّ « أَنْ » المخففةَ لا تقع إلا بعد يقين ، فأمَّا
قوله :
1781- أرجو وآمُل أَنْ تدنُو مودتُها ... وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ
فظاهرُه أنها مخففةٌ لعدم إعمالها وقد وقعت بعد « أرجو » و « آمل » وليسا بيقينٍ .
والجوابُ من وجهين ، أحدُهما : أنَّ « أَنْ » ناصبة ، وإنما أُهْمِلَتْ حملاً على
« ما » المصدرية ، ويَدُلُّ على ذلك انها على ذلك أنها لو كانَتْ مخففةً لفُصِل
بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بما سنذكره ، ويكون هذا مثلَ قولِ الله تعالى : {
لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] ، وكقوله :
1782- يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما ... وحيثما كنتما لُقِّيتُما رَشَدا
أَنْ تَحْمِلا حاجةً لي خَفَّ مَحْمَلُها ... تستوجبا نعمةً عندي بها ويَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويحكما ... مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحدا
فقوله : « أَنْ تقرآن » بدلٌ من « حاجة » وقد أَهْمل « أن » ومثلُه قوله :
1783- إني زعيمٌ يا نُوَيْ ... قَةُ إن نجوْتِ من الرَّزاحِ
ونجوتِ من وَصَبِ العدو ... و [ من الغدو ] إلى الرَّواحِ
أَنْ تهبطين بلادَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات يلزم أحد شذوذين قد قيل باحتمال كل منهما :
إمَّا إهمالُ « أَنْ » وإمَّا وقوع المخففة بعد غير علم ، وعدمُ الفصل بينها وبين
الجملة الفعلية .
والثاني من وجهي الجواب : أنَّ رجاءه وأملَه قَوِيا حتى قربا من اليقين فأجراهما
مُجْراه في ذلك . وأما قول الشاعر :
1784- عَلِموا أَنْ يُؤَمَّلون فجادُوا ... قبلَ أَنْ يُسْألوا بأعظمِ سُؤْلِ
فالظاهرُ أنها المخففة ، وشَذَّ عدمُ الفصلِ ، ويُحتمل أن تكونَ الناصبةَ شَذَّ
وقوعُها بعد العلمِ وشَذَّ إهمالُها ، ففي الأولِ شذوذٌ واحدٌ وهو عدم الفصلِ ،
وفي الثاني شذوذان : وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ ، وإهمالُها حملاً على « ما »
أختِها .
وجاء هنا على الواجبِ - عند بعضِهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين «
أَنْ » الخفيفةِ وبين خبرِها إذا كان جملةً فعلية متصرفة غيرَ دعاءٍ ، والفاصلُ :
إمَّا نفيٌ كهذه الآية ، / وإمَّا حرفُ تنفيس كقوله تعالى :
{
عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } [ المزمل : 20 ] ، ومثلُه : « عَلِمْت أن سوف
تقومُ » وإمَّا « قد » كقوله تعالى : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [
المائدة : 113 ] وإمَّا « لو » - وهي غريبة - كقوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } [
الجن : 16 ] { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب } [ سبأ : 14 ] . وتَحرَّزْتُ
بالفعلية من الاسمية فإنها لا تحتاج إلى فاصل ، كقولِه تعالى : { وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] وكقوله :
1785- في فتيةٍ كسيوفِ الهندِ قد عَلِموا ... أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يَخْفَى
ويَنْتَعِلُ
وبالمصترفةِ من غيرِ المتصرفة فإنه لا تَحْتاج إلى فاصلٍ ، كقوله تعالى : { وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ }
[ الأعراف : 185 ] ، وبغيرِ دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً كقولِه تعالى : { أَنَّ
غَضَبَ الله } [ النور : 9 ] في قراءة نافع .
ومَنْ نصب « تكونَ » ف « أَنْ » عنده هي الناصبة للمضارع دخلت على فعل منفي ب « لا
» ، و « لا » لا يمنعُ أن يعملَ ما بعدها فيما قبلها من ناصبٍ ولا جازم ولا جارّ ،
فالناصبُ كهذه الآية ، والجازم كقوله تعالى : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 73 ] { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } [ التوبة
: 40 ] ، والجارُّ نحو : : جئت بلا زادٍ « .
و » حَسِب « هنا على بابها من الظن ، فالناصبة لا تقع بعد علم ، كما أنَّ المخففة
لا تقع بعد غيرِه ، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبة بعد يقين وهو نصٌّ فيه كقوله :
1786- نَرْضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد عَلِموا ... أَنْ لا يدانِيَنا من خَلْقِه
بشرُ
وليس لقائلٍ أن يقول : العلمُ هنا بمعنى الظن ، إذ لا ضرورةَ تدعو إليه ، والأكثرُ
بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب » أَنْ « ولذلك أُجْمِع على انصب في قوله تعالى : {
أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] ، وأمَّا قولُه تعالى : { أَفَلاَ
يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [ طه : 89 ] فالجمهورُ على الرفع ، لأنه
الرؤية تقعُ على العلمِ . والحاصلُ أنه متى وَقَعَتْ بعد علم وَجَبَ أن تكونَ
المخففةَ ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شك وَجَبَ أَنْ تكونَ الناصبةَ ، وإن
وقعت بعد فعلٍ يحتمل اليقين والشك جاز فيها وجهان باعتبارين : إنْ جعلناه يقيناً
جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها ، وإنْ جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبنا ما
بعدها ، والايةُ الكريمةُ من هذا الباب ، وكذلك قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ
أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِم } [ طه : 89 ] وقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [
العنكبوت : 2 ] ، لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفع ، ولا في الثاينة إلا بالنصب
، لأن القراءة سنةٌ متبعة . وهذا تحريرٌ العبارة فيها ، وإنما قلت ذلك لأن بعضَهم
يقول : يجوزُ فيها بعد أفعال الشك وجهان فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ
المخففةَ والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشك ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من
الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمين ، ولهذا قال الأستاذ الزمخشري : » فإنْ
قلت : كيف دخل فعلُ الحسبان على « أَنْ » التي هي للتحقيق « قلت : نَزَّل حسبانَهم
لقوته في صدروهم منزلةَ العلم » والسببُ المقتضي لوقوعِ المخففةِ بعد اليقين ،
والناصبةِ بعد غيره ، وجوازِ الوجهين فيما تردَّد : ما ذكروه وهو « أَنْ » المخففة
تَدُلُّ على ثباتِ الأمرِ واستقرارِه لأنها التوكيدِ كالمشددة ، والعلمُ وبابُه
كذلك فناسَبَ أَنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما ، ويدلٌّ على ذلك
وقوعُها مشددةً بعد اليقين كقوله تعالى :
{
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] { أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 106 ] { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض } [ البقرة : 107 ] إلى غير ذلك ، والنوعُ الذي
لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ / تقع بعده الناصبة كقوله تعالى : { والذي أَطْمَعُ
أَن يَغْفِرَ لِي } [ الشعراء : 82 ] { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [ المائدة
: 52 ] { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا } [ الكهف : 80 ] { أَأَشْفَقْتُمْ أَن
تُقَدِّمُواْ } [ المجادلة : 13 ] إلى غير ذلك ، والنوعُ المحتمل للأمرين تقع بعده
تارة المخففةُ وتارةً الناصبةُ كما تقدم من الاعتبارين ، وعلى كلا التقديرين أعني
كونَها المخففةَ أو الناصبةَ فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعولين عند جمهورِ البصريين ،
ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن ، أي : حَسِبوا عدمَ الفتنةِ كائناً
أو حاصلاً . وحكى بعض النحويين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِل « أن » من « لا »
في الكتابة؛ لأنها الهاء المضمرةَ حائلةٌ في المعنى ، ومَنْ نَصَبَ لم يَفْصِل
لعدمِ الحائل بينهما . قال أبو عبد الله : « هذا ربما ساغَ في غيرِ المصحفِ ، أمَّا
المصحفُ فلم يُرْسَمْ إلى على الاتصال » انتهى . قلت : « وفيه هذه العبارة تجوُّز
إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعر بأَنْ تُكْتب » أنلا « فتوصلَ » أن « ب » لا « في الخط ،
فينبغي أن يقال : لا تُثْبَتُ لها صورةٌ ، أو تُثْبَتُ لها صورةٌ منفصلة .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } في هذا الكتاب خمسة
أوجه ، أحدها : أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعل ، كما يَلْحق الفعلَ تاءُ التأنيث
ليدلَّ على تأنيث الفاعل ، ك » قامت هند « وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمعِ
الإِناث أيضاً فيقال : » قاما أخواك ، وقمن أخواتك « كقوله :
1787- . . . . . . . . . . . . . ... وقد أَسْلَماه مُبْعَدٌ وحَميمٌ
وقوله :
1788- ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأمُّه ... بِحَوْرانَ يَعْصِرنَ السَّليطَ أقاربُهْ
واستدلَّ بعضُهم بقولِه عليه السلام : » « يتعاقبون فيكم ملائكة » ويعبِّر النحاة
عن هذه اللغةِ بلغةِ « أكلوني البراغيث » ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ
علامةٌ ، وفَرَّق النحويون بين لَحاقِه علامةَ التأنيث وعلامةَ التثنية والجمع
بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعل بخلاف التثنيةِ والجمعِ
فإنه غيرُ لازمٍ .
الوجه الثاني : أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورين العائدِ عليهم واو « حسبوا
» و « كثير » بدلٌ من هذا الضمير ، كقولك : « إخوتك قاموا كبيرُهم وصغيرُهم »
ونحوه .
الوجه
الثالث : أن الواو ضمير أيضاً ، و « كثيرٌ » بدلٌ منه ، والفرقُ بين هذا الوجه
والذي قبله أن الضمير في الوجهِ الأولِ مفسَّر بما قبلَه وهم بنو إسرائيل ، وأمَّا
في هذا الوجه فهو مفسَّر بما بعده ، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ
بما بعده ، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسِّرهُ ، وهي مسألةُ خلاف وقد تقدم تحريرها .
الوجه الرابع : أن الضميرَ عائدٌ على مَنْ تقدَّم ، و « كثير » خبر مبتدأ محذوف ،
وقَدَّره مكي تقديرين ، أحدهما : قال : « تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثير منهم »
والثاني : العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم ، ودلَّ على ذلك قوله : { ثُمَّ عَمُواْ
وَصَمُّواْ } فعلى تقديره الأول : يكون « كثير » صادقاً عليهم و « منهم » صفة ل «
كثير » ، وعلى التقدير الثاني يكون « كثير » صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا
عليهم ، و « منهم » صفةٌ له بمعنى أنه صادر منهم ، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ .
وقدَّره الزمخشري فقال : « أولئك كثير منهم » الوجه الخامس : أنَّ « كثير » مبتدأٌ
والجملةُ الفعلية قبله خبرٌ ، ولا يُقال : إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً وجَبَ
تأخيرُه لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً نحو : « زيدٌ قام » لأنه لو قُدِّم
فقيل : قام زيدٌ لألبس بالفاعل ، فإنْ قيل : وهذا أيضاً يُلْبس بالفاعل في لغة «
أكلوني البراغيث » فالجواب أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها . وضَعَّفَ أبو البقاء
هذا الوجه بمعنى آخرَ فقال : « لأنَّ الفعلَ قد وَقَع في موضِعِه فلا يُنْوَى به
غيرُه » وفيه نظرٌ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وَقَع موقعَه ، وإنما كان واقعاً موقعَه
لو كان مجرداً من علامةٍ . ومثلُ هذه الآية أيضاً قولُه تعالى : { وَأَسَرُّواْ
النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبيا : 3 ] .
والجمهورُ على « عَمُوا وَصمُّوا » بفتح العين والصاد ، والأصل : عَمِيُوا
وصَمِمُوا كشَرِبُوا ، فأُعِلَّ الأولُ بالحذفِ ، والثاني : بالإِدغام . وقرأ يحيى
بن وثاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من « عَمُوا » قال
الزمخشري : « على تقدير / عماهم الله وصَمَّهم أي : رماهم وضربهم بالعَمَى
والصَّمم ، كما يقال : نَزَكْتُه إذا ضربته بالنَّيْزَك وَركَبْتُه إذا ضربته
بركبتِك » ولم يَعْترض عليه الشيخ ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أَنْ حكى القراءة : «
جَرَتْ مَجْرى زُكِم الرجلُ وأَزْكَمَه الله ، وحُمَّ وأَحَمَّه الله ، ولا يقال :
زَكَمه الله ولا حمَّه ، كما لا يقال : عَمَيْتُه ولا صَمَمْته ، وهي أفعالٌ جاءت
مبنيةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهي متعدِّيةٌ ثلاثية ، فإذا بُنيت للفاعلِ
صارَتْ قاصرة فإذا أَرَدْتَ بناءَها للفاعلِ متعديةً أَدْخَلْتَ همزة النقل ، وهي
نوع غريب في الأفعال » انتهى . فقوله : « كما لا يُقال عَمَيْتُه ولا صَمَمْتُه »
يقتضي أن الثلاثي منها لا يتعدَّى ، والزمخشري قد قال على تقدير : « عَماهُم الله
وصَمَّهم » فاستعمل ثلاثِيَّةُ متعدياً ، فإن كان ما قاله الشيخ صحيحاً فينبغي أن
يكونَ كلام أبي القاسم فاسداً أو بالعكس .
وقرأ
ابن أبي عبلة « كثيراً » نصباً على أنه نعت لمصدر محذوف ، وتقدم غيرَ مرة أنه عند
سيبويه حالٌ . وقال مكي : « ولو نَصَبْتَ » كثيراً « في الكلام لجازَ أن تجعلَه
نعتاً لمصدر محذوف ، أي : عمًى وصمماً كثيراً » قلت : كأنه لم يطَّلِعْ عليها
قراءةً ، أو لم تَصِحَّ عنده لشذوذها .
وقوله : { فَعَمُواْ } عطفَه بالفاء وقوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } عطفه ب
« ثم » ، وهو معنى حسن ، وذلك أنهم عَقِيبَ الحسبانِ حَصَل لهم العَمَى والصَّمَمُ
مِنْ غير تراخٍ ، وأسند الفعلين إليهم ، بخلافِ قولِه : { فَأَصَمَّهُمْ وأعمى
أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ ، وأسند
الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله : { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } وعطف قوله : {
ثُمَّ عَمُواْ } بحرفِ التراخي دلالةً على أنهم تمادَوا في الضلالِ إلى وقت التوبة
.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قوله
تعالى : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } : معناه أحدُ الثلاثة ، ولذلك منع الجمهورُ أن
يُنْصَبَ ما بعده ، لا تقول : ثالثٌ ثلاثةً ولا رابعٌ أربعةً ، قالوا : لأنه اسمُ
فاعلٍ ويعملُ عمل فعله ، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ فعلٌ إذ لا يقال : ربَّعْتُ
الأربعة ولا ثلَّثْتُ الثلاثة ، وأيضاً فإنه أحدُ الثلاثة فيلزم أن يعمل في نفسه ،
وأجاز النصبَ بمثل هذا ثعلب ، وردَّه عليه الجمهور بما ذكرته لك ، أمَّا إذا كان
من غيرِ لفظِ ما بعده فإنه يجوزُ فيه الوجهان : النصب والإِضافة نحو : رابعٌ
ثلاثةَ ، وإن شئت : ثلاثةٍ . واعلم أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عشرة صيغةُ
اسمِ فاعل نحو : « واحد » ويجوز قبله فيقال : حادي وثاني وثالث إلى عاشر ، وحينئذ
يجوز أن يستعمل مفرداً فيقال : ثالث ورابع ، كما يقال : ثلاثة وأربعة من غير ذكر
مفسرٍ ، وأن يستعملَ استعمالَ أسماءِ الفاعلين إنْ وقع بعده مغايرُه لفظاً ، ولا
يكونُ إلا ما دونه برتبةٍ واحدٍ نحو عاشرُ تسعةٍ ، وتاسعُ ثمانيةٍ ، فلا يجامعُ ما
دونَه برتبتين نحو : عاشرُ ثمانيةٍ ولا ثامنُ أربعةٍ ، ولا يُجامِعُ ما فوقه
مطلقاً فلا يقال : تاسعُ عشرةٍ ولا رابعُ ستةٍ ، إذا تقرر ذلك فيعطى حكمَ اسمَ الفاعلِ
فلا يعملُ إلا بشروطه ، وأمَّا إذا جامع موافقاً له لفظاً وجبت إضافتُه نحو :
ثالثُ ثلاثةٍ وثاني اثنين ، وتقدَّم خلاف ثعلب ، ويجوز أن يُبْنى أيضاً من احد عشر
إلى تسعة عشر فيقال : حادي عشر وثالث عشر ، ويجوز أَنْ يُستعمل مفرداً كما
ذكَرْتُه لك ، ويجوز أن يُسْتَعْمل مجامعاً لغيره ولا يكونُ إلا موافقاً ، فيقال :
حادي عشر أحد عشرَ ، وثالثَ عشرَ ثلاثَة عشرَ ، ولا يقال : ثالثَ عشرَ اثني عشرَ ،
وإن كا بعضهم خالف ، وحكمُ المؤنثِ كحكمِه في الصفاتِ الصريحةِ فيقال : ثالثة
ورابعة ، وحاديةَ عشرةَ ، وثالثةَ عشرةَ ثلاثَ عشرةَ ، وله أحكامٌ كثيرة
استوفيتُها في « شرح التسهيل » .
قوله : { وَمَا مِنْ إله } « مِنْ » زائدة في المبتدأ لوجود الشرطين ، وهما كونُ
الكلامِ غيرَ إيجابٍ ، وتنكيرُ ما جَرَّتْهُ ، و « إلهٌ » بدل من محل « إلهٍ »
المجرورِ ب « مِنْ » الاستغراقية ، لأن محلَّه رفعٌ كما تقدم ، والتقدير : وما
إلهٌ في الوجودِ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدانية . قال الزمخشري : « من » في قوله : «
مِنْ إله » للاستغراقِ ، وهي المقدرةُ مع « لا » التي لنفي الجنس في قولك : « لا
إلهَ إلا اللَّهُ » والمعنى ، وما من إله قط في الوجود إلا إلهٌ متصفٌ بالوحدانية
وهو الله تعالى « . فقد تحصَّل مِنْ هذا أن » مِنْ إله « وخبرُه محذوفٌ ، و » إلا
إلهٌ « بدلٌ على المحل . قال مكي : » ويجوزُ في الكلام النصبُ : « إلا إلهاً » على
الاستثناء « قال أبو البقاء ولو » قُرئ بالجرِّ بدلاً من لفظ « إله » لكان جائزاً
في العربية « قتل : ليس كما قال ، لأنه يلزمُ زيادةُ » مِنْ « في الواجب ، لأن
النفيَ انتقضَ ب » إلاَّ « لو قلت : » ما قامَ إلا من رجلٍ « لم يَجُزْ فكذا هذا ،
وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفشِ ، فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ
مجرورها فقط ، والأخفشُ لا يشترط شيئاً .
قال
مكي : « واختار الكسائي الخفضَ على البدل من لفظ » إله « وهو بعيدٌ لأنَّ » مِنْ «
لا تُزَاد في الواجب » . قلت : ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله « إلا إلهٌ » خبر
المبتدأ ، وتكونُ المسألة من الاستثناءِ المفرغِ ، كأنه قيل : ما إلهٌ إلا إلهٌ
متصفٌ بالواحدِ لَمَا ظهر له منعٌ ، لكني لم أرَهم قالوه . وفيه مجالٌ للنظر .
قوله : { لَيَمَسَّنَّ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ هذا
عليه ، والتقديرُ : واللَّهِ إنْ لم ينتهوا ليمسَّنَّ ، وجاء هذا على القاعدةِ
التي قَرَّرْتُها : وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما ما لم يسبقْهما
ذو خبر ، وقد يجابُ الشرطُ مطلقاً ، وقد تقدَّم أيضاً أن فعلَ الشرطِ حينئذ لا
يكون إلا ماضياً لفظاً ، أو معنًى لا لفظاً كهذه الآية ، فإنْ قيل : السابقُ هنا
الشرطُ ، اذ القسمُ مقدرٌ فيكون تقديرُه متأخراً فالجوابُ أنه لو قُصِد تأخُّرُ
القسمِ في التقدير لأُجيبَ الشرط ، فلمَّا أُجيب القسمُ عُلِم أنه مقدَّرُ
التقديمِ ، وعَبَّر بعضُهم عن هذا فقال : « لام التوطئِة للقسمِ قد تُحْذَفُ
ويُراعى حكمُها كهذه الآيةِ ، إذ التقدير : » ولئن لم « كما صَرَّح بهذا في غير
موضع كقوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } [ الأحزاب : 60 ] ، ونظيرُ هذه
الآية قوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [
الأعراف : 23 ] { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام :
121 ] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسم يَجِبُ أن يُتَلَقَّى باللامِ وإحدى
النونين عند البصريين ، إلاَّ ما قَدَّمْت لك استثناءَه » قال الزمخشري : « فإنْ
قلت : فهلاَّ قيل : لَيَمسُّهُم عذاب . قلت في إقامة الظاهرُ مقامَ المضمرِ فائدةٌ
، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكفر » .
وقوله : { مِنْهُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال . قال أبو البقاء : « إمَّا من
الذين ، وإمَّا من ضميرِ الفاعل في » كفروا « قلت : لم يتغير الحكمُ في المعنى ،
لأنَّ الضميرَ الفاعل هو نفسُ الموصول ، وإنما الخلاف لفظي . وقال الزمشخري : »
مِنْ « في قوله : { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } للبيانِ كالتي في
قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] قلت : فعلى هذا يتعلقُ »
منهم « بمحذوفٍ ، فإنْ قلت : هو على جَعْلِه حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوفٌ . قلت :
الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَه حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة
، وعلى هذا الوجهِ يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأولِ ، كأنه قيل : أعني منهم
، ولا محلِّ ل » أعني « لأنها جملةٌ تفسيرية . وقال الشيخ : » ومِنْ « في » منهم «
للتبعيض أي : كائناً منهم ، والربطُ حاصلٌ بالضمير ، فكأنه قيل : كافرُهم ، وليسوا
كلَّهم بَقُوا على الكفر » انتهى . يعني : هذا تقديرٌ لكونِها تبعيضيةً وهو معنى
كونِها في محلِّ نصبٍ على الحال .
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
وقوله تعالى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ } : تقدَّم نظيره مراراً وأنَّ فيه رأيين : رأيُ الجمهورُ تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً ، ورأيُ أبي القاسم بقاؤُه على حالِه وحَذْفُ جملةٍ معطوفٍ على عليها ، والتقديرُ : أيثبتون على كفرِهم فلا يَتُوبون ، والاستفهامُ فيه قولان / أظهرُهما : أنه للتعجيب من حالهم : كيف لا يتوبون ويستغفرون من هذه المقالةِ الشنعاء؟ والثاني : أنه بمعنى الأمر وهو رأي ابن زياد الفراء ، كأنه قال : تُوبوا واستغفروا من هاتين المقالتين ، كقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . كلامُ ابن عطية يُفْهِم أنه للتحضيضِ ، قال : « رَفَقَ جلَّ وعلا بهم بتحضيضِه إياهم على التوبة وطلبِ المغفرة » يعني بذلك من حيث المعنى ، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيضِ من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّمٍ ، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطف فَصَلَ بين الهمزة ولا المفهمةِ للتحضيضِ؟ فإنْ قلت : هذا إنما يُشْكِلُ على قولِنا : إنَّ « ألا » التحضيضيةَ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ ، فلا يُدَّعى فيها الفصل بحرفِ العطف ، أما إذا قلنا إنها همزة الاستفهامِ دَخَلَتْ على « لا » النافيةِ وصارَ معناهما التحضيضَ فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العطف ، لأنه عُهِد في « لا » النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام ، فالجواب : أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخَ وحَدَثَ معنىً آخرُ وهو التحضيضُ ، فلا يلزُم من الجوازِ في الأصلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنًى جديدٍ .
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قوله
تعالى : { مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ } : كقوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] . و « قد خَلَتْ » صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى
. وتقدَّم معنى الحصرِ . وقوله : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } ابتداءٌ وخبرٌ ، ولا
محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب . و « صِدِّيقَةٌ » تأنيثُ « صِدِّيق » وهو بناء
مبالغة ك « فَعّال » و « فَعُول » إلا أنه لا يعمل عملَ أمثلةِ المبالغة ، فلا
يقال : « زيدٌ شِرِّيبٌ العسلَ » كما يقال : « شَرَّابٌ العسلَ » وإن كان القياس
إعمالَه ، وهل هو مِنْ « صَدَق » الثلاثي أو من « صَدَّق » مضعفاً؟ القياسُ يقتضي
الأولَ ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تَطَّرِدُ من الثلاثي دونَ الرباعي ، فإنه لم
يَجيء منه إلا القليلُ . وقال الزمخشري : « انه من التصديق » وكذا ابنُ عطية ، إلا
أنَّه جَعَله محتملاً ، وهذا واضحٌ لقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا }
فقد صَرَّح بالفعلِ المسند إليها مضعفاً .
وقوله : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } لا محلَّ له لأنه اسئنافٌ وبيان لكونِهما
كسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليه كلُّ جسمٍ مُولَدٍ ، والإلهُ
الحقُّ منزَّهٌ عن ذلك . وقال بضعهم : « هو كناية عن احتياجهما إلى التغَوُّطِ »
ولا حاجة إليه . قوله : « كيف » منصوب بقوله : « نُبَيِّن » بعده ، وتقدم ما فيه
في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وغيرِه ، ولا يجوز أن يكونَ
معمولاً لِما قبله لأن له صدرَ الكلام ، وهذه الجملةُ الاستفهامية في محلِّ نصب
لأنها معلقةٌ للفعل قبلها . وقوله : { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } كالجملةِ
قبلَها ، « وأَنَّى » بمعنى كيف ، و « يُؤْفكون » ناصبٌ ل « أنَّى » ويُؤْفكون :
بمعنى يُصْرَفُون .
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قوله
تعالى : { مَا لاَ يَمْلِكُ } : يجوز أن تكونَ « ما » بمعنى الذي ، وأن تكونَ
نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها ، و صفةٌ فمحلُّها النصبُ ،
وفي وقوعِ « ما » على العاقلِ هنا لأنه أُريد به عيسى وأمُّه وجوهٌ ، أحدها : أنه
أُتِي ب « ما » مراداً به العاقلُ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء ، كذا قالَه
سيبويه ، أو أُريد به النوعُ كقوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [
النساء : 3 ] أي : النوعَ الطيب ، أو أُريد به العاقلُ مع غيره لأنَّ أكثرَ ما
عُبِد مِنْ دونَ [ اللَّهِ ] غيرُ عاقلٍ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشجرِ ،
أو شبهُهُ على أولِ أحوالِه ، لأنه في أولِ حالِه لا يُوصَفُ بعقلٍ فيكف يُتَّخذ
إلهاً معبوداً؟ وفي تكريرِ الأمر بقوله : « انظُرْ » « ثم انظر » دلالةٌ على
الاهتمام بالنظر ، وأيضاً فقد اختَلف متعلَّقُ النظرين ، فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظر
في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ وبيانِها بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريبَ ،
والأمرُ الثاني بالنظر في كونِهم صُرِفوا عن تدبُّرها والإِيمان بها ، أو بكونِهم
قُلِبوا عمَّا أُريد بهم . قال الزمخشري : « فإنْ قتل : ما معنى التراخي في قولِه
: » ثم انظرْ «؟ قلت : معناه ما بينَ التعجبين ، يعني أنه بَيَّن لهم الآياتِ
بياناً عجباً ، وأنَّ إعراضَهم عنها أعجُب منه » انتهى . يعني أنه من بابِ التراخي
في الرُّتَبِ لا في الأزمنةِ ، ونحوُه : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] وسيأتي .
قوله : { والله هُوَ السميع العليم } « هو » : يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ثانياً ، و «
السميعُ » خبرُه ، و « العليمُ » خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ ، والجملةُ خبرُ الأول ،
ويجوزُ أَنْ يكونَ فصلاً ، وقد عُرِف ما فيه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً . وهذه
الجملةُ الظاهرُ فيها أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، ويحتمل أن تكونَ في محلِّ
نصبٍ على الحالِ من فاعلِ « تَعْبُدون » أي : أتعبدون غيرَ الله والحالُ أن الله
هو المستحقُّ للعبادة لأنه يَسْمع كل شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلامُ الزمخشري فإن
قال : { والله هُوَ السميع العليم } متعلق ب « أتعبدون » أي : أتشركون بالله ولا
تَخْشَوْنه ، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون؟ أتعبدون العاجزَ واللَّهُ
هو السميع العليم؟ انتهى . والرابطُ بين الحالِ وصاحبِها الواوُ ، ومجيءُ هاتين
الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة ، فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من
الضُّرِّ وطلب النفع ويعلم مواقعَهما كيف يكونان؟
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
قوله
تعالى : { غَيْرَ الحق } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف أي : لا
تَغْلُوا في دينكم غُلُوَّاً غيرَ الحق أي : غلوَّاً باطلاً ، ولم يذكر الزمخشري
غيره . الثاني : أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعل في « تَغْلُوا » أي : لا
تَغْلوا مجاوزينَ الحق ، ذكره أبو البقاء الثالث : أنه حالٌ من « دينكم » أي : لا
تغلوا فيه وهو باطل ، بل اغلُوا فيه وهو حَقٌّ ، ويؤيد هذا ما قاله الزمخشري فإنه
قال : « لأنَّ الغلوَّ في الدين غُلُوَّان : حقٌّ وهو أَنْ يُفْحص عن حقائِقه
ويفتَّشَ عن أباعدِ معانيه ويُجْتَهَدَ في تحصيله حُجَجَه ، وغلوٌ باطل : وهو أن
يَتَجاوز الحقَّ ويتخطاه بالإِعراض عن الأدلة » . الرابع : أنه منصوبٌ على الاستثناء
المتصل . الخامس : على الاستثناءِ المنقطع . ذكرَ هذين الوجين الشيخُ عن غيره ،
واستبعدهما فإنه قال : « وأبعدَ مَنْ ذهب إلى أنها استثناءٌ متصل ، ومَنْ ذهب إلى
انها استثناءٌ منقعطع ويقدِّره ب » لكن الحقَّ فاتبعوه « قلت : والمستثنى منه
يَعْسُر تعيينُه ، والذي يظهر فيه أنه قوله : { فِي دِينِكُمْ } كأنه قيل : لا
تَغْلُوا في دينكم إلا الدين الحق فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه ، ومعنى الغلو فيه ما
تقدم من تقرير الزمخشري له .
وذكر الواحدي فيه الحالَ والاستثناء فقال : » وانتصابُ « غيرَ الحق » من وجهين ،
احدُهما : الحالُ والقطعُ من الدين كأنه قيل : لا تغُلُوا في دينكم مخالفين للحقِّ
، لأنهم خالفوا الحقَّ في دينهم ثم غَلَوا فيه بالإِصرار عليه . والثاني : أن
يكونَ منصوباً على الاستثناء ، فيكون « الحق » مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ
فيه بأَنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حق على معنى اتباعِه والثباتِ عليه . وهذا نصٌّ
فيما ذكرْتُ لك من أنَّ المستثنى هو « دينُكم » .
وتقدَّم معنى الغلوِّ في سورة النساء وظاهرُ هذه الأعاريب المتقدمةِ أنَّ «
تَغْلُوا » فعلٌ لازم ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء ، إلا أن أهلَ اللغةِ يفسِّرونه
بمعنى متعدٍّ ، فإنهم قالوا : معناه لا تتجاوزوا الحد . قال الراغب : « الغلو
تجاوزُ الحَدِّ ، يقال ذلك إذا كان في السعر » غلاءً « وإذا كان في القَدْر
والمنزلة » غُلُوَّا « وفي السهم » غَلْوا « وأفعالها جميعاً غلا يغلو ، فعلى هذا
يجوز أن ينتصب » غير الحق « مفعولاً به أي : لا تتجازوا في دينِكم غير الحق ، فإنْ
فَسَّرنا » تغلوا « بمعنى تتباعدوا من قولهم : » غلا السهمُ « أي : تباعدَ كانَ
قاصراً ، فيحتمل أن يكونَ مَنْ قال بأنه لازم أخذه من هذا لا من الأول .
قوله : { كَثِيراً } في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه / مفعولٌ به ، وعلى هذا اكثرُ
المتأوِّلين ، فإنهم يفسِّرونه بمعنى : وأضَلُّوا كثيراً منهم أو من المنافقين .
والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرية أي : نعت لمصدر محذوف أي : إضلالاً كثيراً ،
وعلى هذا فالمفعول محذوف أي : أضَلُّوا غيرهم إضلالاً كثيراً .
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
قوله
تعالى : { مِن بني إِسْرَائِيلَ } : في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُها : إمَّا «
الذين » وإمَّا « واو » كفروا « وهم بمعنًى واحدٍ . وقوله : { على لِسَانِ
دَاوُودَ وَعِيسَى } المرادُ باللسانِ الجارحةُ لا اللغةُ ، كذا قال الشيخ يعني
أنَّ الناطقَ بِلَعْنِ هؤلاء لسانُ هذين النبيين ، وجاء قولُه { على لِسَانِ }
بالإِفراد دون التثنيةِ والجمعِ فلم يَقُلْ : » على لسانَيْ « ولا » على ألسنةِ «
لقاعدةٍ كليةٍ ، وهي : أن كلَّ جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أُضيفا إلى كليهما من
غيرِ تفريقٍ جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ ، لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ - ويليه
التثنيةُ عند بعضِهم ، وعند بعضِهم الإِفرادُ مقدمٌ علة التثنيةِ ، فيقال : »
قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين « وإنْ شئت : رأسَي الكبشين ، وإن شئت : رأسَ الكبشين ،
ومنه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، فقولي » جزأين « تحرُّزٌ
من شيئين ليسا بجزأين نحو : » درهميكما « وقد جاء : » من بيوتِكما وعمائمكما
وأسيافمكا « لأَمْنِ اللَّبْسِ ، وبقولي : » مفردين « من نحو : » العينين واليدين
« فأمَّا قولُه تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ففُهِم
بالإِجماع وبقولي : » من غيرِ تفريق « تحرُّزٌ من نحو : قَطَعْتُ رأسي الكبشين :
السمينِ والكبشِ الهزيل » ، ومنه هذه الآية فلا يجوزُ إلا الإِفرادُ وقال بعضهم :
« وهو مختارٌ » أي : فيجوز غيرُه . وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ في سورة المائدة
بكلامٍ طويٍ فعليك بالالتفاتِ إليه .
وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ ، ويؤيد ذلك ما قاله الزمخشري
فإنه قال : « نَزَّل اللّهُ لَعْنَهم في الزبور على لسانِ داود ، وفي الإِنجيل على
لسانِ عيسى وقوةُ هذا تَأْبى كونَه الجارحةَ ، ثم أني رأيتُ الواحدي ذكرَ عن
المفسرين قولين ، ورجَّح ما قلته قال - رحمه الله - : » وقال ابن عباس : يريد في
الزبور وفي الإِنجيلِ ، ومعنى هذا أنَّ اللَهَ تعالى لَعَنَ في الزبور مَنْ يكفر
من بني إسرائيل وكذلك في الإِنجيل ، وقيل : على لسان داود وعيسى؛ لأنَّ الزبورَ
لسانُ داود والإِنجيلَ لسانُ عيسى « فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحة
، ثم قال : » وقال الزجاج : « وجائزٌ أن يكون داود وعيسى عَلِما أنَّ محمداً نبيٌّ
مبعوثٌ ، وأنهما لَعَنا مَنْ يكفر به » والقول هو الأول ، فتجويزُ الزجاجِ لذلك
ظاهرٌ أنه يُراد باللسانِ الجارحةُ ولكن ليس قولاً للمفسرين . و « على لسانِ »
متعلِّقٌ ب « لعن » قال أبو البقاء : « كما يُقال : جاء زيدٌ على فرس » . وفيه
نظرٌ إذ الظاهر أنه حالٌ . وقولُه : « ذلك بما عَصَوْا » قد تقدَّم نظيره قوله : {
وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } في هذه الجملة الناقصةِ وجهان ، أظهرهما : أن تكونَ
عطفاً على صلةِ « ما » وهو « عَصَوْا » أي : ذلك بسب عصيانِهم وكونِهم معتدين .
والثاني : أنها استئنافيةٌ أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك . قال الشيخ : «
ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشرحِ له ، وهو قولُه : { كَانُواْ لاَ
يَتَنَاهَوْنَ } .
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
وقوله تعالى : { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } : متعلِّقٌ ب « يَتَناهَوْن » و « فعلوه » صفةٌ ل « منكر » . قال الزمخشري : « ما معنى وصفِ المنكرِ بفعلوه ، ولا يكونُ النهيُ بعد الفعلِ؟ قلت : معناه لا يتناهَوْن عن معاودةِ منكرٍ فَعَلُوه ، أو عن مِثْلِ منكرٍ فَعَلوه ، أو عن منكرٍ أرادُوا فِعْلَه ، كما ترى أماراتِ الخوضِ في الفسقِ وآلاتِه تُسَوَّى وتُهَيَّأُ ، ويجوز أن يُرادَ : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكرٍ فعلوه ، بل يُصِرُّون عليه ويُداومون ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه » .
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
وقوله
تعالى : { لَبِئْسَ مَا } : و « بئسما قَدَّمَتْ قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك فلا
حاجةَ إلى إعادته ، وهنا زيادةٌ أخرى لخصوصِ التركيب وستعرِفُها . قوله : { أَن
سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } في محلِّه أوجهٌ ، أحدها : أنه مرفوعٌ على البدلِ من
المخصوصِ بالذم ، والمخصوصُ قد حُذِفَ وأُقيمت صفتُه مُقامه فإنه تُعْرِبُ » ما «
اسماً تاماً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ والمخصوصُ بالذمِّ
محذوفٌ ، و » قَدَّمت لهم انفُسُهم « جملة في محلِّ رفعٍ صفةً له ، والتقديرُ لبئس
الشيءُ شيءٌ قَدَّمَتْهُ لهم أنفُسُهم ، ف » أَنْ سَخِط اللّهُ عليهم « بدلٌ من »
شيء « المحذوفِ ، وهذا هو مذهبُ سيبويه كما تقدَّم تقريرُه . الثاني : أنه
المخصوصُ بالذمِّ فيكونُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ المشهورةِ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ
والجملةُ قبلَه خبرُه ، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك أو لا
يَحْتاج إلى رابط لأن الجملةَ عينُ المبتدأ ، الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ
لأنك لَمَّا قلت : » بِئْسَ الرجل « قيل لك : مَنْ هو؟ فقلت : فلان ، أي : هو فلان
. الثالث : أنه مبتداٌ خبرُه محذوفٌ ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وإلى كونه مخصوصاً
بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشري ولم يذكر غيرَه ، قال : { أَن سَخِطَ الله
عَلَيْهِمْ } هو المخصوص بالذمِّ كأنه قيل : لِبئْس زادُهم إلى الآخرة سُخْطُ
اللّهِ عليهم ، والمعنى : موجِبُ سُخْطِ الله » قلت : وفي تقديرِ هذا المضاف من المحاسنِ
ما لا يَخْفى على متأمِّله ، فإنَّ نفسَ السخطِ المضافَ إلى الباري تعالى لا يُقال
هو المخصوص بالذم ، إنما المخصوصُ بالذم أسبابُه ، وذهبَ إليه أيضاً الواحدي ومكي
وأبو البقاء إلاَّ أنَّ الشيخ بعد أَنْ حكى هذا الوجهَ عن أبي القاسم الزمخشري قال
: « ولم يَصِحَّ هذا الإِعرابُ إلا على مذهبِ الفراء والفارسي/ في جَعْلِ » ما «
موصولةً ، أو على مذهبِ مَنْ يجعلُ » ما « تمييزاً ، و » قَدَّمَتْ لهم « صفتها ،
وأمَّا على مذهبِ سيبويه فلا يتأتَّى ذلك ثم ذَكَر مذهبَ سيبويه .
والوجه الثالث من أوجهِ » أَنْ سَخِطَ « : أنه في محل رفع على البدلِ من » ما «
وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية ، إلا أن مكِّيّاً حكاه عن غيره ، قال : » وقيل : في
موضعِ رفعٍ على البدلِ من « ما » في « لبئس » على أنها معرفةٌ « قال الشيخ - بعد
ما حكى هذا الوجهَ عن ابن عطية - : ولا يَصِحُّ هذا سواءً كانت » ما « تامةً أو
موصولةً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدلِ منه ، و » أَنْ سَخِطَ « لا يجوزُ
أَنْ يكونَ فاعلاً ل » بِئْسَ « لأنَّ فاعل » بِئْس « لا يكونُ أَنْ والفعل » وهو
إيرادٌ واضِحٌ كما قاله .
الوجه الرابع : أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من « ما » إذا قيل بأنها تمييزٌ ، ذَكَر مكي وأبو البقاء ، وهذا لا يجوزُ البتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين ان يكونَ نكرةً ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها عندهم من قبيلِ أعرفِ المعارفِ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ ، وقد تقدم تقريرُ ذلك فيكف يَقعُ تمييزاً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خصوصاً أَنْ والفعل . الخامسُ : أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من الضمير المنصوبِ ب « قَدَّمَتْ » العائدِ على « ما » الموصولة أو الموصوفة على حَسَبِ ما تقدَّم ، والتقديرُ : قَدَّمَتْه سُخْط الله ، كقولك : « الذي رأيت زيداً أخوك » وفي هذا بحثٌ في موضعِه . السادس : أنه موضع نصب على إسقاطِ الخافضِ ، إذ التقديرُ : لأَنْ سَخِط ، وهذا جارٍ على مذهبه سيبويه والفراء لأنهما يَزْعُمان أنَّ محلَّ « أَنْ » بعد حَذْفِ الخافض في محلِّ نصب . السابع : أنه في محلِّ جر بذلك الخافضِ المقدَّرِ ، هذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائي لأنهما يُزْعُمان أنَّهما في محل جر ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرةٍ ، وعلى هذا فالمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي : لَبِئْسما قَدَّمَتْ لهم أنفسُهم عملُهم أو صُنْعُهم ، ولامُ العلةِ المقدرةُ معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ أي : سببُ ذَمِّهم سخطُ اللّهِ عليهم أو بمحذوفٍ بعده ، أي : لأَنْ سَخِطَ اللّهُ عليهم كان كيتَ وكيتَ .
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
وقوله
تعالى : { وَلَوْ كَانُوا } : الظاهرُ أنَّ اسم « كان » وفاعل « اتخذوهم » عائدٌ
على « كثيراً » من قوله : { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } والضميرُ المنصوب في «
اتِّخذوهم » يعودُ على « الذين كفروا » في قوله : { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ
} وأجاز القفال أن يكون اسمُ « كان » يعودُ على « الذين كفروا » وكذلك الضميرُ
المنصوبُ في « اتِّخذوهم » والضميرُ المرفوعُ في « اتخذوهم » يعودُ على اليهودِ ،
والمرادُ بالنبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، والتقدير : ولو كان الكافرون المُتَوَلِّون
مؤمنين بمحمد والقرآن ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياءَ ، والأولُ أَوْلى لأن
الحديثَ عن كثيرٍ لا عن المتولَّيْن ، وجاء الجواب « لو » هنا على الأفصح وهو عدمُ
دخولِ اللام عليه لكونه منفياً ، ومثله قول الآخر :
1789- لو أنَّ بالعلمِ تُعْطَى ما تعيشُ به ... لَمَا ظَفِرْت من الدنيا
بثُفْرُوْقِ
و « ترى » يجوز أَنْ تكونَ مِنْ رؤية البصر ، ويكونُ المعاصرين لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وأن تكونَ العِلْمية ، والكثيرُ على هذا أَسْلافُهم ، فمعنى «
تَرى » تَعْلَمُ أخبارَهم وقصصهم بإخبارِنا إياك ، فعلى الأول يكون قولُه «
يَتَولَّون » في محلِّ نصب على الحال ، وعلى الثاني يكون في محلِّ نصبٍ على
المفعول الثاني : وقولُه : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ } هذا الاستدراكُ واضحٌ بما
تقدَّم . وقولُه : « كثيراً » هو من إقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ لأنه عبارةٌ عن
« كثيراً منهم » المتقدِّمِ ، فكأنه قيل : ترى كثيراً منهم ولكنَّ ذلك الكثيرَ ،
ولا يريدُ : ولكنَّ كثيراً من ذلك الكثيرِ فاسقون .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قوله
تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس } : قد تقدَّم إعرابُ هذا في نحو قوله تعالى
: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياوة } [ البقرة : 96 ] ، فَأَغَنَى عن
إعادته / وقال ابنُ عطية : « اللامُ للابتداءِ » ، وليس بشيء ، بل هي لامٌ
يُتَلَقَّى بها القسمُ . و « أشدَّ الناس » مفعول أول ، و « عداوةً » نصب على
التمييز . و « للذين » متعلقٌ بها ، قَوِيَتْ باللامِ لَمَّا كانت فرعاً في العمل
على الفعل ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها ، فهي كقولهِ :
1790- . . . . . . . . . . . ورهبةٌ ... عقابَك . . . . . . . . . . . . . .
ويجوزَ أن يكونَ « للذين » صفةً ل « عداوة » فيتعلَّقَ بمحذوف ، و « اليهودَ »
مفعولٌ ثانٍ . وقال أبو البقاء : « ويجوُ أن يكونَ اليهود هو الأولَ ، و » أشدَّ «
هو الثاني ، وهذا هو الظاهرُ ، إذ المقصودُ أَنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ
والمشركين بأنَّهم أشدٌّ الناسِ عداوة للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناسِ
مودةً لهم ، وليس المرادُ أَنْ يخبرَ عن أشدِّ الناس وأقربهم بكونِهم من اليهودِ
والنصارى . فإن قيل : متى استويا تعريفاً وتنكيراً وَجَب تقديمُ المفعولِ الأولِ
وتأخيرُ الثاني كما يجب في المبتدأ والخبرِ وهذا من ذاك . فالجوابُ : أنه إنما يجب
ذلك حيث أَلْبس ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك جاز التقديمُ والتأخيرُ ومنه قوله :
1791- بَنُونا بنو أبنائِنا ، وبناتُنا ... بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
ف » بنوا أبناء « هو المبتدأ ، و » بَنُونا « خبره ، لأنَّ المعنى على تشبيهِ
أولادِ الأبناء بالأبناء ، ومثلُه قول الآخر :
1792- قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها ... وأَغْدُر الناسِ بالجيرانِ وافِيها
أكرمُها » هو المبتدأُ ، و « ألأمُ الأحياءِ » خبرُه ، وكذا « وافيها » مبتدأ و «
أغدرُ الناس » خبره ، والمعنى على هذا ، والآيةُ من هذه القبيلِ فيما ذَكَرْتُ لك
.
وقوله : { والذين أَشْرَكُواْ } عطفٌ على اليهود ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ
كالكلام على ما قبلها . و « ذلك بأنَّ » مبتدأٌ وخبرُ ، وتقدم تقريره ، و « منهم »
خبر « أنَّ » و « قسيسين » اسمها ، وأن واسمُها وخبرها في محل جَرِّ بالباء ،
والباءُ ومجرورُها ههنا خبر « ذلك » والقسيسين جمع « قِسِّيس » على فِعِّيل ، وهو
مثالُ مبالَغَة ك « صِدِّيق » وقد تقدَّم وهو هنا رئيسُ النصارى وعابُدهم ، وأصلُه
من تَقَسِّسَ الشيءَ إذا تَتَّبَعَه وطَلَبه بالليل ، يقال : « تقسَّسْتُ أصواتَهم
» أي : تَتَبَّعْتُها بالليلِ ، ويُقال لرئيس النصارى : قِسّ وقِسّيس ، وللدليلِ
بالليل : قَسْقَاس وقَسْقَس ، قاله الراغب ، وقال غيرُه : القَسُّ بفتح القاف
تَتَبُّعُ الشيءِ ، ومنه سُمِّي عالُم النصارى لتتبُّعِه العلمَ . قال رؤبه بن
العجاج :
1793- أَصْبَحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا ... يَمْشِين هَوْناً خُرُداً بَهالِلا
ويقال
: قَسَّ الأثرَ وقَصَّه بالصاد أيضاً ، ويقال : قَسّ وقِسّ بفتح القاف وكسرها ،
وقِسِّيس . وزعم ابن عطية أنه أعجمي مُعَرَّب . وقال الواحدي : « وقد تكلمت العرب
بالقَسّ والقِسّيس » وأنشد المازني :
1794- لو عَرَضَتْ لأيْبُلِيٍّ قَسِّ ... اشعثَ في هيكلهِ مُنْدَسِّ
حَنَّ إليها كحنينِ الطَسِّ ... وأنشد لأمية بن أبي الصلت :
1795- لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ ... يُحْيِيهم الَّهُ في أَيْديهم الزُّبُرُ
هذا كلامُ أهل اللغة في القِسّيس ، ثم قال : « وقال عروة بن الزبير : » ضَيَّعَتِ
النصارى الإِنجيل وما فيه ، وبقي منهم رجلٌ يُقال له قسيساً « يعني بقي على دينِه
لم يُبَدِّلْه ، فَمَنْ بقي على هديِة ودينِه قيل له » قِسِّيس « وقال قطرب : »
القَسّ والقِسّيس : العالم بلغة الروم ، قال ورقة :
1796- لما خَبَّرْتَنا مِنْ قولِ قَسٍّ ... من الرهبانِ أكرُه أَنْ يَبُوحا
فعلى هذا القَسُّ والقِسٍيس مما اتفق فيه اللغتان . قلت : وهذا يُقَوّي قولَ ابن
عطية ، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ « القُس » بضم القاف لا مصدراً ولا
وصفاً ، فأما قُسّ بن ساعدة الإِيادي فهو عَلمَ فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّر بطريق
العلَمية ، ويكون أصلُه قَسّ أو قِسّ بالفتح أو الكسر كما نَقَله ابن عطية وقُسُّ
بن ساعدة كان أعلمَ أهلِ زمانه ، وهو الذي قال فيه عليه السلام : « يُبْعَثُ أمةً
وحدَه » وأمَّا جمعُ قِسّيس فجمعُ تصحيحٍ كما في الآية الكريمة . قال الفراء : «
ولو جُمِع » قَسُوساً « كان صواباً لأنهما في معنى واحد » يعني : « قِسّاً » و «
قسِيساً » قال : « ويُجْمَعُ القِسّيس على » قساوِسَة « جمعوه على مثال
المَهالِبَة ، والأصلُ : قساسِسَة ، فكثُرت السينات / فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً ،
وأنشدوا لأمية : » لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ « البيت . قال الواحدي : »
والقُسوسة مصدرُ القِسّ والقِسِّيس « قلت : كأنه جَعَل هذا المصدرَ مشتقاً من هذا
الاسمِ كالأبوّة والأخوّة والفتوّة من لفظ أب وأخ وفتى ، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن
القَسّ بالفتحِ في الاصل هو المصدرُ ، وأنَّ العالِمَ سُمِّي به مبالغةً ، ولا
أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما عَرَفْتَه
مِمَّا تقدم؟
والرُّهْبان : جمعُ راهبٍ كراكب ورُكْبان ، وفارِس وفُرْسان . وقال أبو الهيثم . »
إنَّ رهباناً يكون واحداً ويكون جمعاً « وأنشد على كونِه مفرداً قولَ الشاعر :
1797- لو عايَنَتْ رهبانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ... لأَقْبَلَ الرُّهبانُ يَعُدُوا
ونَزَلْ
ولو كان جمعاً لقال : » يَعُدُون « و » نَزَلُوا « بضمير الجمع . وهذا لا حُجَّة
فيه؛ لأنه قد عادَ ضميرُ المفرد على الجمعِ الصريحِ لتأوُّله بواحدٍ كقوله تعالى :
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [
النحل : 66 ] فالهاء في » بطونه « تعود على الأنعام ، وقال :
1798- وطابَ البانُ اللِّقاحِ وبَرَدْ ... في » برد « ضميرٌ يعودُ على » أَلْبان «
وقالوا : » هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه « .
وقال
الآخر :
1799- لو أنَّ قوميَ حين أَدْعُوهمْ حَمَلْ ... على الجبالِ الشُّمِّ لانهدَّ
الجَبَلْ
إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذِكْرُه ، ومن مجيئِه جمعاً الآيةُ ، ولم يَرِدْ في
القرآن الكريم إلا جَمْعاً ، وقال كثّير :
1800- رُهْبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ ... يبكون من حَذَرِ العقابِ قُعودا
لو يَسْمعون كما سَمِعْتُ كلامَها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا
قيل : ولا حُجَّة فيه لأنه قال : « والذين » فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمع لأجلِ
هذا الجمعِ لا لكونِ رُهبان « جمعاً ، وأصرحُ مِنْ هذا قولُ جرير :
1801- رُهبانُ مَدْيَنَ لو رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا ... والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ
العَقُولِ الفادِرِ
قال ابن الهيثم : » وإن جُمِع الرهبان الواحدُ « رَهابين ورهابِنة » جاز ، وإنْ
قلت : رهبانيون كان صواباً كأنك تَنْسُبُه إلى الرهبانية ، والرهبانية من
الرَّهْبَة وهي المخافَةُ ، وقال الراغب « » والرُهبانُ يكونَ واحداً وجمعاً ،
فَمَنْ جَعَلَه واحداً جَمَعَه على رَهابين ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ « يعني أن
هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفرازِنَة والموازِجَة والكيالِجة وقال الليث : »
الرهبانيِّةُ مصدرُ الراهبِ والترهُّبِ : التعبُّد في صومعة « ، وهذا يُشْبِهُ
الكلام المتقدم في ان القَسْوَسة مصدرٌ من القَسّ والقِسّيس ، ولا حاجةَ إلى هذا
بل الرهبانيةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّب وهو التعبد أو من الرَّهَب وهو الخوف ،
ولذلك قال الراغب : » والرهبانيةُ غلوُّ مَنْ تحمَّل التعبُّدَ مِنْ فرطِ
الرَّهْبَة « وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [
البقرة : 40 ] .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على » أنَّ « المجرورةِ
بالباء أي : ذلك بما تقدَّم وبأنَّهم لا يستكبرون .
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
وقوله
تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ } « إذا » شرطيةٌ جوابُها « تَرى » وهو العاملُ فيها
، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان ، أظهرُهما : أنَّ محلِّها الرفعُ نسقاً على
خبر « أنَّهم » الثانيةِ ، وهو « لا يستكبرون » أي : ذلك بأنَّ منهم كذا وأنهم
غيرُ مستكبرين وأنهم إذا سمعوا ، فالواو عَطَفَتْ مفرداً على مثله . والثاني :
أنَّ الجملةَ استئنافية أي : أنه تعالى أَخْبر عنهم بذلك . والضميرُ في « سمعوا »
ظاهرُه أَنْ يعودَ على النصارى المتقدِّمين لعمومِهم ، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهم
وهم مَنْ جاء مِن الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : « لأنَّ
كلَّ النصارى ليسوا كذلك » .
و « ما » في « ما أُنْزل » تحتمل الموصولةَ والنكرةَ الموصوفةَ ، و « ترى »
بصَريةٌ ، فيكون قولُه « تَفيض من الدمع » جملةً في محلِّ نصب على الحال . وقُرئ
شاذاً « تُرى » بالبناء للمفعول ، « أعينُهم » / رفعاً ، وأسند الفيضَ إلى الأعينِ
مبالغةً ، وإن كان القائضُ إنما هو دمعُها لا هي ، كقول امرئ القيس :
1802- ففاضَتْ دموعُ العينِ مني صَبابةً ... على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعِيَ
مَحْمِلي
والمرادُ المبالغةُ في وصفِهم بالبكاءِ ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهم تمتلئ حتى
تفيضَ ، لأنَّ الفيضَ ناشىءٌ عن الامتلاءِ كقوله :
1803- قوارِصُ تأتيني وتَحْتَقِرُونها ... وقد يَمْلأَ الماءُ الإِناءَ فَيَفْعُمُ
وإلى هذين المعنيين نحا أبو القاسم ، فإنه قال : « فإنْ قلت : » ما معنى « تَفيض
من الدمع »؟ قلت : معناه تَمْتَلِئ من الدمع حتى تفيض ، لأنَّ الفيض أَنْ يمتلئَ
الإِناءُ حتى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ
الامتلاء ، وهو من إقامةِ المسبب مُقام السببِ ، أو قَصَدْتَ المبالغةَ في وصفِهم
بالبكاء ، فجَعَلْتَ أعينهم كأنها تفيض بأنفسها ، أي : تسيل من الدمع من أجلِ
البكاء من قولك : « دَمَعَتْ عينُه دمعاً » .
و « من الدمع » فيه أربعةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلِّقٌ ب « تَفيض » ، ويكون معنى
« مِنْ » ابتداءَ الغاية ، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع . والثاني : أنه
متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعلِ في « تفيضُ » قالهما أبو البقاء ، وقَدَّر
الحالَ بقولك : « مملوءةً من الدمع » وفيه نظر ، لأنه كونٌ مقيدٌ ، ولا يجوزُ ذلك
، فبقي ان يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً أي : تفيض كائنً من الدمع ، وليس المعنى على ذلك
، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي . فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكونَ « من
الدمع » تمييزاً ، لأنهم لا يَشْترطون تنكيرَ التمييز ، والأصل : تفيض دمعاً ،
كقولك : « تَفَقَّأ زيدٌ شحماً » فهو من المتصبِ عن تمام الكلام؟ فالجوابُ أن ذلك لا
يجوزُ ، لأنَّ التمييز إذا كان منقولاً من الفاعلية امتنع دخولُ « مِنْ » عليه ،
وإن كانت مقدرةً معه ، فلا يجوز : « تَفَقَّأ زيدٌ من شحم » وهذا - كما رأيتَ -
مجرورٌ ب « من » فامتنع أن يكونَ تمييزاً ، إلا أن ابا القاسم في سورة براءة جعله
تمييزاً في قوله تعالى :
{
تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } [ التوبة : 92 ] ، ولا بد من
نقلِ نصه لتعرفه ، قال رحمه الله تعالى : « تفيضُ من الدمعِ كقولك : » تفيضُ دمعاً
« وهو أبلغ من قولِك : يفيضُ دمعُها ، لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائض ، و
» من « للبيان ، كقولك : » أَفْديك من رجلٍ « ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على
التمييز » وفيه ما قد عَرَفْتَه من المانِعَيْنِ ، وهو كونُه معرفةً ، وكونُه
جُرَّ ب « مِنْ » وهو فاعلٌ في الأصل ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ ، فعلى هذا تكونُ
هذه الآيةُ كتلك عنده ، وهو الوجهُ الثالث . الرابع : انَّ « مِنْ » بمعنى الباء ،
أي : تفيضُ بالدمع ، وكونُها بمعنى الباءِ رأيٌ ضعيف ، وجعلوا منه أيضاً قوله
تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] أي : بطرف ، كما أنَّ
الباءَ تأتي بمعنى مِنْ ، كقوله : >
1804- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
أي : من ماءِ الجر .
قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } « مِنْ » الأولى لابتداءِ الغاية وهي
متعلقةٌ ب « تَفِيضُ » والثانيةُ يُحْتمل أن تكونَ لبيانِ الجنس ، أي : بَيَّنت
جنسَ الموصولِ قبلَها ، ويُحتمل أن تكونَ للتبعيضِ ، وقد أوضح أبو القاسم هذا
غايةَ الإِيضاح ، قال رحمه الله : « فإنْ قلت : أيُّ فرقٍ بينَ » مِنْ « و » مِنَ
« في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية ، على
أنَّ الدمع ابتدأ ونَشَأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وبسببِه ، والثانيةُ لبيان
الموصول الذي هو » ما عرفوا « وتحتمل معنى التبعيض ، على أنهم عَرَفوا بعضَ الحقِّ
فأبكاهم وبَلَغَ منهم ، فكيف إذا عَرَفوه كلَّه وقرؤوا القرآن وأحاطُوا بالسنة »
انتهى . ولم يتعرض لما يتعلَّق به الجارَّان وهو يمكن أَنْ يُؤْخَذَ من قوةِ كلامه
، وَلْنزد ذلك إيضاحاً و « مِنْ » الأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حال من « الدمع
» أي : في حالِ كونه ناشئاً ومبتدئاً من معرفةِ الحق ، وهو معنى قول الزمخشري ،
على أنَ الدمعَ ابتدأ ونشَأَ من معرفة الحق ، ولا يجوزُ أَنْ يتعلق ب « تفيض »
لئلا يلزَم تعلُّقُ حرفين مُتَّحِدَيْن ، لفظاً ومعنىً بعامل واحد ، فإنَّ « مِنْ
» في « من الدمع » لابتداءِ الغاية كما تقدَّم ، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ « مِنْ
» في « من الدمع » للبيانِ ، أو بمعنى الباء فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضوحِ
كالأول .
وأمَّا
« من الحق » فعلى جَعْلِه أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف أي : أعني من كذا ، وعلى
جَعْلِه أنها للتبعيض تتعلق ب « عَرَفوا » وهو معنى قولِه : « عَرَفوا بعض الحق »
.
وقال أبو البقاء في « مِن الحق » إنه حالٌ من العائد المحذوف « على الموصول ، أي :
مِمَّا عرفوه كائناً من الحق ، ويجوزُ أن تكون » من « في قوله تعالى : { مِمَّا
عَرَفُواْ } تعليلةً ، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانهم الحقَّ ، ويؤيِّدُه
قول الزمخشري : » وكان مِنْ أجله وبسببه « فقد تحصل في » مِنْ « الأولى أربعةُ
أوجه ، وفي الثالثةِ ضَعْفٌ أو منعٌ كما تقدم ، وفي » مِنْ « الثانية أربعةٌ أيضاً
: وجهان بالنسبة إلى معناها : هل » من « ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى
ما تتعلق به : هل هو » تفيض « أو محذوفٌ على أنها حالٌ من الدمع ، وفي الثالثة
خمسة ، اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةُ بالنسبة
إلى متعلِّقها : هل هو محذوفٌ وهو » أعني « أو نفسُ » عَرَفوا « أو هو حالٌ ،
فتتعلق بمحذوفٍ أيضاً كما ذكره أبو البقاء .
قوله : { يَقُولُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مستأنف فلا محل له ، أخبر
الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ ، الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في
» أعينهم « ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنَّ المضافَ جزؤهُ فهو كقولِه
تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] . الثالث :
أنه حالٌ من فاعل » عَرَفوا « والعاملُ فيها » عرفوا « قال الشيخ لَمَّا حكى كونَه
حالاً : » كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ولا العاملَ
فيها « قلت : أمَّا أبو البقاء فقد بَيَّنَ ذا الحال فقال : » يقولون « حالٌ من
ضميرِ الفاعل في » عَرَفوا « فقد صَرَّح به ، ومتى عُرِف ذو الحال عُرِف العاملُ
فيها ، لأنَّ العاملَ في الحال من العامل في صاحبها ، فالظاهر أنه أطَّلع على
نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك ، ثم إنَّ الشيخَ رَدَّ
كونَها حالاً من الضمير في » أعينهم « بما معناه أن الحَال لا تَجيءُ من المضافِ
إليه وإن كان المضافُ جُزْأَه ، وجعله خطأً ، وأحالَ بيانَه على بعضِ مصنفاتِه ،
ورَدَّ كونَها حالاً أيضاً من فاعل » عرفوا « بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتِهم الحقَّ
بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحالِ وفي غيرها ، قال : » فالأَوْلى أن
يكون مستأنفاً « أمَّا ما جعله خطأً فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوع غير هذا
، وأمَّا قوله » يلزم التقييدُ « فالجوابُ أنه إنما ذُكِرت هذه الحالُ لأنها أشرفُ
أحوالهم فَخَرَجَتْ مخرجَ المدح لهم . وقوله : » ربَّنا آمنَّا « في محل نصب
بالقول ، وكذلك : { فاكتبنا } إلى قوله : { الصالحين } .
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
قوله
تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } : « ما » استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء ،
و « لنا » جارٌّ ومجرورٌ خبرُه ، تقديرُه : أيُّ شيء استقر لنا ، و « لا نؤمن »
جملة حالية . وقد تقدَّم نظيرُ هذه الآية والكلامُ عليها ، وأنَّ بعضَهم قال :
إنها حال لازمة لا يتمُّ المعنى إلا بها نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة
مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وتقدَّم ما قلتُه فيه فأغنى ذلك عن إعادتِه .
وقال الشيخ هنا : « وهي المقصودُ وفي ذكرِها فائدةُ الكلام ، وذلك كما تقول : »
جاء زيدٌ راكباً « لِمَنْ قال : هل جاء زيدٌ ماشياً أو راكباً؟ .
قوله : { وَمَا جَآءَنَا } في محلِّ » ما « وجهان ، أحدهما : أنه مجرور نسقاً على
الجلالة أي : بالله وبما جاءَنا ، وعلى هذا فقوله : » من الحق « فيه احتملان ،
أحدُهما : أنه حالٌ من فاعل » جاءنا « أي : جاء في حال كونِه من جنسِ الحقِّ .
والاحتمال الآخر : أن تكونَ » مِنْ « لابتداء الغاية ، والمرادُ بالحقِّ الباري
تعالى ، وتتعلَّقُ » مِنْ « حينئذ ب » جاءنا « كقولك » جاءَنا فلانُ من عند زيد «
، والثاني : أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء ، والخبر قوله : { مِنَ الحق } والجملةُ
في موضع الحال ، كذا قاله أبو البقاء ويصيرُ التقدير : وما لنا لا نؤمِنْ بالله
والحالُ أنَّ الذي جاءنا كائنٌ من الحق ، » والحقُّ « يجوز أن يُراد به القرآنُ
فإنه حقُّ في نفسه ، ويجوزُ أن يُراد به الباري تعالى - كما تقدَّم - والعاملُ
فيها الاستقرارُ الذي تضمَّنه قولُه » لنا « .
قوله : { وَنَطْمَعُ } في هذه الجملة ستة اوجه ، أحدها : أنها منصوبة المحلِّ
نسقاً على المحكيِّ بالقَول قبلَها أي : يقولون كذا ويقولون نطمع وهو معنىً حسن .
/ الثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ
خبراً وهو » لنا « لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ ، فرفع الضمير وعَمِلَ في الحال ، وإلى
هذا ذهبَ أبو القاسم فإنه قال : » والواو في « ونطمعُ » واو الحال ، فإنْ قلت : ما
العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلت : العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى
الفعلِ كأنه قيل : أيُّ شيء حَصَل لنا غيرَ مؤمنين ، وفي الثانية معنى هذا الفعل
ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أَزَلْتَها وقلت : « ما لنا ونطمعُ » لم يكنْ
كلاماً « . وفي هذا الكلامِ نظرٌ وهو قولُه : » لأنَّك لو أَزَلْتَها إلى آخره «
لأنَّا إذا أَزَلْناها وأتينا ب » نطمع « لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف ، بل
مجردةٌ منه لنحُلَّها محلَّ الأولى ، ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضعوا المعطوفَ
موضعَ المعطوف عليه وضعوه مجرداً من حرفِ العطف ، ورأيتُ في بعض نسخ الكشاف : » ما
لنا نطمعُ « من غير واوٍ مقترنةٍ ب » نطمعُ « ولكن أيضاً لا يَصِحُّ لأنك لو قلت :
» ما لنا نطمعُ « كان كلاماً كقوله تعالى :
{
فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، ف « نطمع » واقعٌ
موقعَ مفردٍ هو حال ، كما لو قلت : ما لك طامعاً ، وما لنا طامعين . وردَّ الشيخ
عليه هذا الوجه بشيئين ، أحدهما : أن العامل لا يقتضي أكثرَ من حالٍ واحدة إذا كان
صاحبُه مفرداً دونَ بدل أو عطف إلا أفعلَ التفضيل على الصحيح .
والثاني : أنه يلزم دخولُ الواو على مضارع مثبت . وذلك لا يجوزُ إلا بتأويل تقدير
مبتدأ أي : ونحن نطمع .
الثالث : أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل « نؤمن » فتكون الحالان متداخلتين .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يكون » ونطمع « حالاً من » لا نؤمن « على معنى : أنهم
أَنْكروا على أنفسهم انهم لا يوحِّدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين »
وهذا فيه ما تقدم من دخول واو الحال على المضارع المثبت ، وأبو البقاء لَمَّا أجاز
هذا الوجهَ قَدَّر مبتدأ قبل « نطمع » ، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل « نؤمن »
ليخلصَ من هذا الإِشكال فقال : « ويجوز أن يكون التقديرُ : » ونحن نطمع « ، فتكون
الجملةُ حالاً من فاعل لا نؤمن » الرابع : أنها معطوفةٌ على « لا نؤمن » فتكون في
محلِّ نصب على الحال من ذلك الضميرِ المستترِ في « لنا » ، والعاملُ فيها هو
العاملُ في الحال قبلها . فإنْ قلت : هذا هو الوجه الثاني المتقدم ، وذكرتَ عن
الشيخِ هناك أنه منع مجيء الحالين لذي حال واحدة ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على
المضارع فما الفرق بين هذا وذاك؟ فالجواب أنَّ الممنوعَ تعدُّدُ الحال دون عاطف ،
وهذه الواوُ عاطفةٌ ، وأن المضارعَ إنما يتمنع دُخولُ واوِ الحال عليه وهذه عاطفةٌ
لا واوُ حالٍ فحصل الفرقُ بينهما من جهةِ الواو ، حيث كانت في الوجه الثاني واوَ
الحال وفي هذا الوجه واوُ عطف ، وهذا وإن كان واضحاً فقد يَخْفى على كثير من
المتدربين في الإِعراب ، ولَمَّا حكى أبو القاسم هذا الوجهَ أبدى له معنيين حسنين
فقال - رحمه الله - : « وأن يكونَ معطوفاً على » لا نؤمن « على معنى : وما لنا
نجمعُ بين التثليث وبين الطمعِ في صحبةِ الصالحين ، أو على معنى : وما لنا لا
نجمعُ بينهما بالدخولِ في الإِسلام ، لأنَّ الكافرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صحبة
الصالحين » .
الخامس : أنها جملة استئنافية . قال الشيخ : « الأحسنُ والأسهلُ أن يكونَ استئنافَ
إخبارٍ منهم بأنهم طامعون في إنعامِ الله عليهم بإدخالهم مع الصالحين ، فالواوُ
عاطفةُ هذه الجملةَ على جملة » وما لنا لا نؤمن « قلت : وهذا المعنى هو ومعنى
كونها معطوفةً على المَحْكِيِّ بالقول قبلها شيءٌ واحدٌ ، فإن فيه الإِخبارَ عنهم
بقولهم كيتَ وكيتَ .
السادس
: أن يكون « ونطمعُ » معطوفاً على « نؤمن » أي : وما لنا لا نطمع . قال الشيخ هنا
: « ويظرُ لي وجهُ غيرُ ما ذكروه وهو أن يكونَ معطوفاً على » نؤمن « التقدير : وما
لنا لا نؤمنُ ولا نطمعُ ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاء إيمانهم وانتفاءِ طمعهم مع
قدرتِهم على تحصيلِ الشيئين : الإِيمانِ والطمعِ في الدخول مع الصالحين » قلت :
قوله : « غيرُ ما ذكروه » ليس كما ذكره ، بل ذكر أبو البقاء فقال : « ونطمعُ يجوز
أن يكونَ معطوفاً على » نؤمن « أي : وما لنا لا نطمع » ، فقد صَرَّح بعطفه على
الفعل المنفي ب « لا » غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بسطاً .
والطمع قال الراغب : « هو نزوعُ النفسِ إلى الشيء شهوة له » ثم قال : ولَمَّا كان
أكثرُ الطمعِ من جهة الهوى قيل : الطَمَعُ طَبَعٌ والطَمَعُ يدنِّس الإِهابَ «
وقال الشيخ : » الطمعُ قريبٌ من الرجاء / يقال منه : طَمِع يطمَعُ طَمَعاً ، قال
تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] وطَماعَة وطماعِيَة كالكراهية ،
قال :
1805- . . . . . . . . . . . . . . . . . ... طَماعيةً أَنْ يغفرَ الذنبَ غافرُهْ
فالتشديدُ فيها خطأ ، واسمُ الفاعل منه طَمِع ك « فَرِح » و « أَشِر » ولم يَحْكِ
الشيخُ غيرَه ، وحكى الراغب : طَمِعٌ وطامعٌ ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين
كقولِهم « فَرِح » لمن شأنه ذلك ، و « فارح » لمن تجدَّد له فرحٌ .
قوله : { أَن يُدْخِلَنَا } أي : في أن ، فمحلُّها نصب أو جر على ما تقدَّم غيرَ
مرة . و « مع » على بابِها من المصاحبة ، وقيل : هي بمعنى « في » ولا حاجةَ إليه
لاستقلالِ المعنى مع بقاءِ الكلمةِ على موضوعها .
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
وقرأ الحسن : { فآتاهم } : مِنْ آتاه كذا أي : أعطاه ، والقراءةُ الشهيرةُ أَوْلى؛ لأنَّ الإِثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجلِ عملٍ ، بخلاف الإِيتاء ، فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره . وقوله : { جَنَّاتٍ } مفعول ثان ل « أثابَهم » أو ل « آتاهم » عل حَسَبِ القراءتين . و « تجري من تحتها الأنهار » في محلِّ نصبٍ صفةً ل « جنات » . و « خالدين » حالٌ مقدرةٌ ، وقوله : { وذلك جَزَآءُ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وأُشير ب « ذلك » إلى الثوابِ أو الإِيتاء . و « المحسنين » يُحتمل أن يكونَ من بابِ إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمر ، والأصل : « وذلك جزاؤُهم » وإنما ذُكِر وصفُهم الشريف مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَة محصِّلة جزائهم بالخير ، ويُحتمل أن يرادَ كلُّ محسنٍ ، فيندرجون اندراجاً أولياً .
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى : { حَلاَلاً } : فيه ثلاثة أوجه ، أظهرُها : أنه مفعولٌ به أي : كُلوا شيئاً حلالاً ، وعلى هذا الوجهِ ففي الجارِّ وهو قوله : { مِمَّا رَزَقَكُمُ } وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ من « حلالا » لأنه في الأصل صفةٌ لنكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصبَ حالاً . والثاني : أنَّ « مِنْ » لابتداء الغاية في الأكل أي : ابتدئوا أكلكم الحلالَ من الذي رزقه الله لكم . الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف أي : « رَزَقكموه » فالعاملُ فيه « رزقكم » الثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي : أَكْلاً حلالاً وفيه تجوُّزٌ .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قوله
تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ } : إلى آخره ، تقدم إعرابُ ذلك في سورة البقرة
واشتقاقُ المفردات . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : « عَقَدْتُمْ » بتخفيف
القاف دون ألف بعد العين ، وابن ذكوان عن ابن عامر : « عاقدتم » بزنة فاعلتم ،
والباقون : « عَقَّدتم » بتشديد القاف . فأمَّا التخفيفُ فهو الأصل ،
وأمَّالتشديدُ فيحتمل أوجهاً ، أحدها : أنه للتكثيرِ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ .
والثاني : أنه بمعنى المجردِ فيوافِقُ القراءةَ الأولى ، ونحوه : قَدَّر وقَدَر .
والثالث : أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين نحو : « واللهِ الذي لا إله إلا هو » .
والرابع : أنه يدل على تأكيد العزم بالالتزام . الخامس : أنه عوضٌ من الألف في
القراءة الأخرى ، ولا أدري ما معناه ، ولا يجوز أن يكونَ لتكرير اليمين فإنَّ
الكفارةَ تَجِبُ ولو بمرةٍ واحدةٍ .
وقد تَجَرَّأ أبو عبيد على هذه القراءةِ وزيَّفَها فقال : « التشديد للتكرير [
مرةً ] من بعد مرة ، ولست آمنُ أن توجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفارةِ في اليمين
الواحدة لأنها لم تكرَّرْ » وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك ، وذكروا تلك المعاني
المتقدمة ، فَسَلِمَتِ القراءةُ تلاوةً ومعنى ولله الحمدُ .
وأمَّا « عاقدت » فيُحتملُ أن يكونَ بمعنى المجردِ نحو : « جاوزت الشيء وجُزْتُه »
وقال الفارسي : « عاقَدْتم » يحتمل أمرين ، أحدهما : أن يكونَ بمعنى فَعَل ،
كطارقت النَّعْل وعاقبتُ اللص ، والآخر : أن يُراد به فاعَلْتُ التي تقتضي فاعلين
، كأن المعنى : بما عاقدتم عليه الأيمانَ ، عَدَّاه ب « على » لَمَّا كان بمعنى
عاهد ، قال : { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] كما عَدَّى : {
نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 58 ] ب « إلى » وبابُها أن تقول : ناديت
زيداً [ نحو : ] { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور } [ مريم : 52 ] لَمَّا كانت
بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا ، قال : { مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] ثم
اتُّسِع فحُذِف الجارُّ ونُقِل الفعل إلى المفعول ، ثم حُذِف الضمير العائد من
الصلة إلى الموصول إذ صار : { بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } كما حُذِف من قوله : {
فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] قلت : يريد - رحمه الله - أن يبيِّن معنى
المفاعلة فأتى بهذه النظائر للتضمين ولحذفِ العائدِ على التدريج ، والمعنى : بما
عاقَدْتُم عليه الأيمان وعاقَدَتُم الأيمان عليه ، فَنَسَب المعاقدةَ إلى الأيمان
مجازاً . ولقائل أن يقول : قد لانحتاجُ إلى عائد حتى نحتاج إلى هذا التكلُّفِ
الكثير ، وذلك بأن نجعلَ « ما » مصدريةً والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه : بما عاقدتم
غيرَكم الأيمانَ ، أي : بمعاقدتكم غيرَكم الأيمانَ ، ونخلص من مجازٍ آخر وهو نسبةُ
المعاقدةِ إلى الأيمان ، فإنَّ في هذا الوجه نسبةَ المعاقدة للغير وهي نسبةٌ حقيقة
، وقد نَصَّ على ذلك - أعني هذا الوجه - جماعةٌ .
وقد تعقَّب الشيخُ على أبي علي كلامَه / فقال : « قوله : إنه مثل » طارَقْتُ النعل
« و » عاقبت اللص « ليس مثلَه ، لأنك لا تقول : طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ ، وتقول :
عاقَدْت اليمين وعَقَدْتُها » وهذا غيرُ لازم لأبي علي لأنَّ مرادَه أنه مثلُه من
حيث إنَّ المفاعلةَ بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه كانتفائها من عاقَبْتُ
وطارَقْتُ ، أمَّا كونُه يقال فيه أيضاً كذا فلا يَضُرُّه ذلك في التشبيه .
وقال
أيضاً : « تقديرُه حَذْفَ حرفِ الجر ثم الضمير على التدرج بعيدٌ ، وليس بنظير : »
فاصدَعْ بما تؤمر « لأن » أمر « يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى ، وإن كان
الأصلُ الحرفَ ، وأيضاً ف » ما « في » فاصدَعْ بما « لا يتعيَّن أن تكونَ معنى
الذي ، بل الظاهر أنها مصدريةٌ ، وكذلك ههنا الأحسنُ أن تكونَ مصدريةً لمقابلتِها
بالمصدرِ وهو اللَّغْوُ » .
وقد تقدَّم في سورة النساء قولُه تعالى : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } [
الآية : 33 ] و « عَاقَدْت » وذكرت لك ما فيهما فصارَ في ثلاثُ قراءاتٍ في المشهور
، وفي تِيْكَ قراءاتان ، وكنت قد ذَكَرْتُ أنه رُوي عن حمزة في سورة النساء : «
عَقَّدت » بالتشديد ، فيكون فيها أيضاً ثلاث قراءات ، إلا أنه اتفاقٌ غريبٌ فإنَّ
حمزة من أصحاب التخفيف في هذه السورة ، وقد رُوي عنه التثقيلُ في النساء .
قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } مبتدأ وخبر ، والضميرُ في « فكفارته »
فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه يعودُ على الحِنْثِ الدالِّ عليه سياقُ الكلام ،
وإنْ لم يَجْرِ له ذكرٌ ، أي : فكفَّارةُ الحِنْثِ . الثاني : أنه يعود على « ما »
إنْ جَعَلْناها موصولةً اسميةً ، وهو على حذفِ مضافٍ ، أي : فكفارة نُكْثه ، كذا
قدَّره الزمخشري والثالث : أنه يعودُ على العَقْدِ لتقدُّمِ الفعلِ الدالِّ عليه .
الرابع : أن يعودَ على اليمين ، وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى الحَلْف ، قالهما أبو
البقاء ، وليسا بظارهرين . و « إطعامُ » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله وهو مقدَّرٌ بحرفٍ
وفعل مبني للفاعل أي : فكفارته أن يُطْعِمَ الحانثُ عشرةً ، وفاعلُ المصدر يُحذف
كثيراً ، ولا ضرورة تَدْعوا إلى تقديرِه بفعلٍ مبني للمفعولِ أي : أن يُطْعَمَ
عشرةٌ ، لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه ، فعلى الأول يكونُ محلُّ « عشرة
» نصباً ، وعلى الثاني يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمِّ فاعله ، ولذلك فائدةٌ
تَظْهر في التابع ، فإذا قلت : « يعجبني أكلُ الخبزِ » فإن قدرته مبنياً للفاعل
فتتبع « الخبز » بالجرِّ على اللفظِ والنصبِ على المحلِّ ، وإنْ قَدًّرْتَه مبنياً
للمفعول أَتْبعته جراً ورفعاً ، فتقول ، يعجبني أكلُ الخبزِ والسمنِ والسمنَ
والسمنُ ، وفي الحديث : « نَهَى عن قتلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْنِ » برفع « ذو »
على معنى : أن يُقْتل الأبتر . قال أبو البقاء « والجيد أن يُقَدِّر- أي المصدر -
بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه ، لأنَّ ما قبله وما بعده خطابٌ » قلت : فهذه قرينةٌ
تُقَوِّي ذلك ، لأنَّ المعنى : فكفَّارته أَنْ تُطْعِموا أنتم أيها الحالفون ، وقد
قَدَّمْتُ لك أَنَّ تقديرَه بالمبني للفاعل هو الراجحُ ، ولو لم تُوجَدْ قرينةٌٌ
لأنه الأصلُ .
قوله
: { مِنْ أَوْسَطِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ
يبيِِّنه ما قبلَه تقديرُه : طعامُهم في أوسطِ ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عند قوله
: { مساكين } وسيأتي إيضاحُ هذا بزيادةٍ قريباً إن شاء الله تعالى . والثاني : أنه
في موضعِ نصبٍ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني ، والتقديرُ : قوتاً أو طعاماً كائناً من
أوسط ، وأما المفعول الأول فهو « عشرة » المضافُ إليه المصدرُ ، و « ما » موصولة
اسميةٌ والعائد محذوفٌ أي : من أوسطِ الذي تطعمونه ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً
ب « مِنْ » فقال : « الذي تطعمون منه » وفيه نظرٌ لأنَّ من شرط العائد المجرور في
الحذف أَنْ يتَّحِدَ الحرفان والمتعلَّقان ، والحرفان هنا وإن اتفقا وهما « مِنْ »
و « مِنْ » إلا أنَّ العامل اختلف ، فإنَّ « مِنْ » الثانية متعلقةٌ ب «
تُطْعِمُون » والأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ وهو الكون المطلق لأنها وقعت صفة للمفعول
المحذوف ، وقد يُقال : إنَّ الفعل لَمَّا كان مُنْصَبّاً على قوله : { مِنْ
أَوْسَطِ } فكأنه عاملٌ فيه ، وإنما قدِّرْنا مفعولاً لضرورة الصناعة ، فإن قلت :
الموصولُ لم ينجرَّ « مِنْ » إنما انجرَّ بالإِضافةِ فالجواب أنَّ المضافَ إلى
الموصول كالموصولِ في ذلك نحو : « مُرَّ بغلام الذي مررت » .
و « أهليكم » مفعولٌ أول ل « تُطْعِمُون » والثاني محذوف كما تقدم أي : تُطْعمونه
أهليكم . « وأهليكم » جمعُ سلامةٍ ونقصه من الشروط كونُه ليس علماً ولا صفةً ،
والذي حَسَّن ذلك أنه كثيراً ما يُستعمل استعمال « مستحق لكذا » في قولِهم : « هو
أهلُ لكذا » أي : مستحق له فأشبه الصفاتِ فجُمع جمعَها . وقال تعالى : {
شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] { قوا أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، وفي الحديث : « إنَّ لله أهلين » قيل :
يا رسول الله : مَنْ هم؟ قال : قُرَّاء القرآن هم أهل الله وخاصَّتُه « فقوله : »
أهلُوا الله « جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإِضافة ، ويُحتمل أن يكونَ مفرداً فيكتب : »
أهلُ الله « فهو في اللفظِ واحدٌ .
وقرأ جعفر الصادق : » أهالِيكم « بسكونِ الياءِ ، وفيه تخريجان / أحدُهما : أنَّ »
أهالي « جمعُ تكسيرٍ ل » أَهْلَة « فهو شاذٌّ في القياس ك » لَيْلة ولَيال « . قال
ابن جني : » أَهال « بمنزلةِ » ليَال « واحدها أَهْلاة ولَيْلاة ، والعربُ تقول :
أهلٌ وأَهْلَة ، قال الشاعر :
1806- وأَهْلَةُ وُدٍّ قد سُرِرْتُ بوُدِّهم ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقياسُ قولِ أبي زيد أن تجعلَه جمعاً لواحدٍ مقدرٍ نحو : أحاديث وأعاريض وإليه
يشير قولُ ابن جني : » اهل بمنزلة ليال « واحدُها أَهْلاة ولَيْلاة ، فهذا يحتمل
أن يكون بطريقِ السماع ، ويحتملُ أن يكونَ بطريقِ القياس كما يقول أبو زيد .
والثاني
: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ لأَهْل . قال الزمخشري : « كاليالي في جمع ليلة والأراضي في
جمع أرض » قوله « في جمع ليلة وجمع أرض » أرادَ بالجمعِ اللغويَّ لأنَّ اسمَ الجمع
جمعٌ في المعنى ، ولا يريد أنه جمعُ « ليلة » و « أرض » صناعةً ، لأنه قد فَرَضَه
أنه اسمُ جمعٍ فكيف يجلعُه جمعاً اصطلاحاً؟
وكان قياسُ قراءةِ جعفر تحريكَ الياءِ بالفتحة لخفتها ، ولكنه شَبَّه الياء بالألف
، فقدَّر فيها الحركةَ ، وهو كثيرٌ في النظم كقول النابغة :
1807- رَدَّتْ عليه أقاصِيه ولَبَّده ... ضَرْبُ الوليدةِ بالمِسْحاةِ في
الثَّأَدِ
وقول الآخر :
1808- كأنَّ أيدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أيدي جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِقْ
وقد مضى ذلك بأشبعَ من هذا .
قوله تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه نسقٌ على « إطعام »
أي : فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسوة تلك العشرة . والثاني : أنه عطفٌ على محل « من
أوسط » كذا قاله الزمخشري ، وهذا الذي قاله إنما يتمشَّى على وجهٍ سَبَقَ لك في
قوله « من أوسط » وهو أن يكونَ « من أوسط » خبراً لمبتدأ محذوفٍ يَدُلُّ عليه ما
قبلَه ، تقديرُه : طعامُهم من أوسط ، فالكلامُ عنده تامٌّ على قولِه : { عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ } ثم ابتدأَ إخباراً آخرَ بأن الطعامَ يكونُ من أوسطِ كذا ، وأمَّا إذا
قلنا : إنَّ « مِنْ أوسط » هو المفعولُ الثاني فيستحيل عطف « كسوتهم » عليه
لتخلفهما إعراباً .
وقرأ الجمهور : « كِسوتهم » بكسر الكاف . وقرأ إبراهيم النخعي وأبو عبد الرحمن
السلمي وسعيد بن المسيب بضمها ، وقد تقدم في البقرة أنهما لغتان في المصدر وفي
الشيء المكسوِّ ، قال الزمخشري : « كالقِدوة في القُدوة ، والإِسوةُ في الأُسوة ،
إلا أن قرأ في البقرة بضمِّها هو طلحة فلم يذكروه هنا ، ولا ذكروا هؤلاء هناك .
وقرأ سعيد بن جبير وابن السَّمَيْفَع : » أو كأُسْوَتِهم « بكاف الجر الداخلة على
» أُسْوة « قال الزمخشري : » بمعنى : أو مثلُ ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو
تقتيراً ، لا تُنْقصونهم عن مقدارِ نفقتِهم ، ولكن تواسُون بينهم . فإنْ قلت : ما
محلُّ الكاف؟ قلت : الرفعُ : تقديرُه : أو طعامُهم كأسوتِهم ، بمعنى : كمثل
طعامِهم إن لم يُطْعموهم الأوسطَ « انتهى . وكان قد تقدم أنه يَجْعل » من أوسط «
مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف ، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً عطفاً على » مِنْ
أوسطِ « وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنه قال : » فالكافُ في موضعِ رفعٍ أي :
أو مثلُ أسوةِ أهليكم « وقال الشيخ : » إنه في موضعِ نصبٍ عطفاً على محلِّ « مِنْ
أوسط » ، لأنه عنده مفعولٌ ثان .
إلاَّ
أنَّ هذه القراءة تنفي الكسوةَ من الكَفَّارة ، وقد اجمع الناس على أنها إحدى
الخصالِ الثلاث ، لكن لصاحبِ هذه القراءةِ أن يقول : « استُفيدت الكسوةُ من السنَّة
» أمَّا لو قام الإِجماع على أن مستندَ الكسوة في الكفارة من الآية فإنه يَصِحُ
الردُّ على هذا القارئ .
قوله : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } عطف على « إطعامُ » وهو مصدر مضاف لمفعوله ،
والكلامُ عليه كالكلامِ على « إطعامُ عشرة » من جوازِ تقديره بفعلٍ مبني للفاعل أو
للمفعول وما قيل في ذلك . وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ } كقوله في
النساء : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ الآية : 92 ] وقد تقدَّم
ذلك مُحَرَّراً .
قوله : { إِذَا حَلَفْتُمْ } قال أبو البقاء : « منصوبٌ على الظرف وناصبُه » كفارة
« أي : ذلك الإِطعامُ ، / أو ما عُطِف عليه يُكَفِّر عنكم حِنْثَ اليمينِ وقتَ
حَلْفِكم » وقال الزمخشري : « وذلك المذكورُ كفارة ، ولو قيل : » تلك كفارةُ «
لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء ، أو التأنيث للكفارة ، والمعنى : » إذا حلفتم
حَنِثْتُم فترك ذِكْرَ الحِنْثِ لوقوع العلم بأن الكفارة إنما تَجِبُ بالحِنْثِ
بالحَلِف لا بنفس الحَلِف « . ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشري وهو تقديرُ
الحِنْث ، ولذلك عيب على أبي البقاء قوله : » العامل في « إذا » كفارةُ أَيْمانكم
، لأن المعنى : ذلك يُكَفِّر أَيْمانكم وقتَ حَلْفكم « فقيل له : الكفارةُ ليست
واقعةً في وقت الحَلْف فكيف يَعْمل في الظرف ما لا يقع فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ »
إذا « ممتحِّضَةُ الظرفية ، وليس فيها معنى الشرط ، وهو غيرُ الغالبِ فيها ، وقد
يجوزُ أن تكونَ شرطاً ، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريين يَدُلُّ عليه
ما تقدَّم ، أو هو نفسُ المتقدم عند أبي زيد والكوفيين ، والتقدير : إذا حَلَفْتُم
وحَنِثُتم فذلك كفارةُ إثمِ أيْمانكم ، كقولهم : » أنتَ ظالمٌ إنْ فَعَلْتَ «
والكافُ في قوله : { كذلك يُبَيِّنُ } نعت لمصدر محذوفٍ عند جماهيرِ المُعْربين ،
أي : يبيِّن الله آياتِه تبييناً مثلَ ذلك التبيين ، وعند سيبويه أنه حالٌ من
ضميرِ ذلك المصدرِ على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
قوله
تعالى : { رِجْسٌ } : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدمة فيقال : « كيف أخبر عن جمع
بمفرد؟ فأجاب الزمخشري بأنه على حَذْف مضاف اي : إنما شأنُ الخمرِ ، وكذا وكذا ،
ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضميرِ في » فاجتنبوه « كما سيأتي ، وكذا قَدَّره أبو
البقاء فقال : » لأنَّ التقديرَ : إنما عَمَلُ هذه الأشياءِ « قال الشيخ بعد
حكايتِه كلامَ الزمخشري : » ولا حاجة إلى هذا ، بل الحكمُ على هذه الأربعةِ
أنفسِها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف كقوله : { إِنَّمَا المشركون
نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] . وهو كلامٌ حسن ، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ
أَنْ يكونَ « رجس » خبراً عن « الخمر » وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ لدلالةِ خبرِ
الأولِ عليها « . قلت : وعلى هذا فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخِر وحُذِفَ خبرُ ما
قبلَه لدلالةِ خبرِ ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قولِه تعالى : { والله
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] هذين التقديرين ، وقد تقدَّم
تحقيقُهما غيرَ مرةٍ .
والأنصابُ جمع » نَصَب « ، وقد تقدم ذلك أول السورة والأزلام تقدمت أيضاً ،
والرِّجْسُ قال الراغب : » هو الشيء القَذِرُ ، رجل رِجْس ، ورجالٌ أَرْجاس « ثم
قال : » وقيل : رِجْس ورِجْز للصوت الشديد ، يقال : بعير رَجَّاس : شديد الهدير ،
وغمام راجِس ورجَّاس : شديد الرعد « وقال الزجاج : » وهو اسمُ لك ما استُقذر من
عمل قبيح ، يقال : رَجِس ورَجَس بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساُ إذا عمل عملاً
قبيحاً ، وأصلح من الرِّجْس بفتح الراء وهو شدة صوت الرعد ، قال :
1809- وكلُّ رَجَّاسٍ يسوقُ الرَّجْسا ... وفَرَّق ابن دريد بين الرِّجْس
والرِّجْز والرِّكْس ، فجعل الرِّجْسَ : الشر ، والرِّجْز : العذاب ، والرِّكْس :
العَذِرة والنَّتْن ، ثم قال : « والرِّجْسُ يقال للاثنين » ، فتحصَّل من هذا أنه
اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتن أو أنه في الأصل مصدرٌ .
وقوله : { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل « رجس » والهاء في «
فاجتَنُبِوه » تعودُ على الرجس أي : فاجتنبوا الرجسَ الذي أخبر به عَمَّا تقدَّم
من الخمر وما بعدها . وقال أبو البقاء : « إنها تعود على الفعل » يعني الذي
قَدَّره مضافاً إلى الخمر وما بعدها ، وإلى ذلك نحا الزمخشري أيضاً ، قال : « فإنْ
قلت : إلامَ يَرْجِعُ الضمير في قوله : » فاجتنبوه؟ قلت : إلى المضافِ المحذوف ،
أو تعاطِيهما أو ما أشبه ذلك ، ولذلك قال : { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } وقد
تقدَّم أن الأحسن أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرجس مبالغة .
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
قوله
تعالى : { فِي الخمر } : فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه متعلق ب « يوقع » اي :
يُوقع بينكم هذين الشيئين في الخَمْر أي : بسبب شربها ، و « في » تفيد السببية
كقوله عليه السلام « إنَّ امرأةً دخلت النار في هِرَّةٍ » الثاني : أنها متعلقة
بالبغضاء لأنه مصدر معرف بأل / . الثالث : أنه متعلقٌ ب « العَداوة » وقال أبو
البقاء : « ويجوز أن تتعلَّق » في « بالعداوة أو ب » البغضاء « أي : أَنْ
تتعادَوْا وأَنْ تتباغضوا بسبب شربِ الخمر » وعلى هذا الذي ذكره تكونُ المسألةُ من
باب التازع وهو الوجهُ الرابع ، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً وهو أَنَّ من حق
المتنازعين أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعمل ، وهذا العاملُ الأولُ وهو العداوة لو
سُلِّط على المتنازع فيه لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو المعطوف ، وقد
يقال : إنه في بعضِ صورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني ، وذلك في فِعْلَي
التعجب إذا تنازعا معمولاً فيه ، وقد تقدَّ هذا مشبعاً في البقرة .
قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر أي :
انتهوا ، ولذلك لَمَّا فهم عمر بن الخطاب الأمرية ، قال : « انتهَيْنا يا رب
انتهينا يا رب » ويدلُّ على ذلك أيضاً عطفُ الأمرِ الصريح عليه في قوله « وأطيعوا
» كأنه قيل : انتهو عن شرب الخمر وعن كذا وأطيعوا ، فمجيءُ هذه الجملةِ
الاستفهاميةِ المصدَّرِة باسمٍ مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعل دالٍّ على ثبوتِ النهي
واستقراره أبلغُ من صريحِ الأمر . قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ جُمع الخمرُ
والميسرُ مع الأنصابِ والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟ قلت : لأنَّ الخطابَ مع
المؤمنين ، وإنما نهاهم عَمَّا كانوا يتعاطَوْنه من شرب الخمرِ واللعبِ بالميسرِ
وذِكْرِ الأنصابِ والأزلام لتأكيدِ تحريمِ الخمر والميسر وإظهارِ أنَّ ذلك جميعاً
من أعمال أهل الجاهلية وأهل الشرك » انتهى . ويظهرُ شيءٌ آخرُ وهو أنه لم يُفْرِدِ
الخمرَ والميسرَ بالذكر آخراً ، بل ذَكَر معهما شيئاً يلزُم منه عدمُ الأنصاب
والأزلام فكأنه ذكر الجميع آخراً ، بيانه أنه قال : « في الخمر والميسر ويَصُدُّكم
عن ذكر الله » بعبادة الأنصاب أو بالذبح عليها للأصنام على حَسَبِ ما تقدم تفسيره
أول السورة ، و « عن الصلاة » باشتغالِكم بالأزلام ، وقد تقدَّم تفسيرها أيضاً ،
فَذِكْرُ الله والصلاة مُنَبِّهان على الأنصاب والأزلام ، وهذا وجه حسن .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
قوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا } : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَم من الجملة السابقة وهي : « ليس » وما في حَيِّزها ، والتقدير : لا يَأْثمون ولا يُؤاخَذُون وقت اتِّقائهم ، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً محضاً ، وأن يكونَ فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوف أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
قوله
تعالى : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ } : جوابُ قسم محذوف أي : واللَّهِ ليبلونكم ، وقد
تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونين في مثلِ هذا الجواب . قوله : { بِشَيْءٍ }
متعلِّقٌ ب « ليبلونَّكم » أي : ليختبرنَّكم بشيءٍ . وقوله : { مِّنَ الصيد } : في
محلِّ جرٍّ صفةً ل « شيء » فيتعلَّقُ بمحذوف ، و « من » الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ
لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ولا صيد الحِلّ ولا صيد البحر . وقل : إنها لبيان
الجنس . وقال مكي : « وقيل » من « لبيان الجنس ، فلما قال » بشيء « لم يُعْلَم من
أيِّ جنسٍ هو فبيَّن فقال : » من الصيدِ « كما تقولُ : و » لأَعطينَّك شيئاً من
الذهبِ « وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ثم قال : » وقيل : إنها للتبعيضِ « . وكونُها
للبيان فيه نظرٌ ، لأنَّ الصحيحَ أنها لا تكونُ للبيان ، والقائلُ بأنها للبيانِ
يُشْترط أن يكونَ المُبَيَّنُ بها معرفاً بأل الجنسية كقولِه : { فاجتنبوا الرجس
مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، وبه قال ابنُ عطية أيضاً ، والزجاج هو الأصل في
ذلك فإنه قال : » وهذا كما تقولُ : « لامتحِنَتَّك بشيءٍ من الرِّزْقِ » وكما قال
تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
قوله : { تَنَالُهُ } في محلِّ جر لأنه صفةٌ ثانيةٌ ل « شيء » ، وأجاز أبوالبقاء
أن يكونَ حالاً : إمَّا من الصيد ، وإمَّا من « شيء » وإن كان نكرة لأنه قد وُصِفَ
فتخصَّص ، واستبعدَ الشيخُ جَعْلَه حالاً من الصيد ، ووجهُ الاستبعادِ أنه ليس
المقصودَ بالحديث عنه . وقرأ الجمهور : { تناله } بالمنقوطةِ فوقُ لتأنيثِ الجمعِ
، وابن وثاب والنخعي / بالمنقوطةِ من تحتُ لأنَّ تأنيثَه غيرُ حقيقي . وقوله : {
ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ } [ المائدة : 93 ] للناس فيه قولان ،
أحدُهما : أنَّ هذا من بابِ التوكيد ، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك ، وهذا
كقولِه تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [
التكاثر : 34 ] ، حتى إنَّ الشيخَ جمالَ الدين بن مالك يَجْعَلُ هذا من التوكيدِ
اللفظي المبوبِ له في النحو : والثاني : أنه ليس للتأكيد بل للتأسيس ، إلا أنَّه
جَعَل التغايرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلقاتِ ، فمنها أنَّ التقدير : اتَّقَوا الشرك
وآمَنوا إيماناً كاملاً ثم اقتوا وآمَنوا أي : ثم ثَبَتُوا على التقوى والإِيمان
المتقدمين ، واستمروا على هذه الحال ثم اتقوا ثم تناهَوْا في التقوى وتوغلوا فيها
، وأحسنوا للناسِ وواسَوْهم بأموالِهم ، وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري بعبارةٍ
قريبةٍ من هذا المعنى .
قوله تعالى : { لِيَعْلَمَ الله } اللامُ متعلقةٌ ب « لَيبلونَّكم » والمعنى :
ليتميَّزَ أو ليظهرَ لكم ، وقد مضى تحقيقُه في البقرة ، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي ،
وقرأ بعضُهم : « لِيُعْلِم » بضم الياء وكسر اللام من أعلم ، والمفعول الأول على
هذه القراءة محذوفٌ أي : لِيُعْلِم اللَّهُ عبادَه ، والمفعول الثاني هو قوله : {
مَن يَخَافُهُ } ف « أَعْلَمَ » منقولةٌ بهمزة التعدية من « علم » المتعدية لواحد
بمعنى « عَرَف » قوله : { بالغيب } في محل نصب على الحال من فاعلِ « يَخافُه » أي
: يخافُه ملتبساً بالغيبِ ، وقد تقدم معناه في البقرة .
وجَوَّز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : ما ذكرته ، والثاني : أنه حالٌ من « مَنْ » في « من يخافه » ، والثالث : أنَّ الباءَ بمعنى « في » والغيب مصدرٌ واقعٌ موقعَ غائبٍ أي : يخافه في المكانِ الغائبِ عن الخَلْقِ ، فعلى هذا يكونُ متعلقاً بنفس الفعل قبله ، وعلى الأَوَّلَيْن يكونُ متعلقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قوله
تعالى : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } : في محل نصب على الحال من فاعل « تقتلوا » ، و «
حُرُمٌ » جمع حَرام ، وحَرام يكون للمُحْرِم وإنْ كان في الحِلِّ ولِمَنْ في
الحَرَم وإنْ كان حلالاً ، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد ، وقد تقدم الكلامُ
على هذه اللفظة . قوله : { منكم } في محلِّ نصب على الحال من فاعل « قَتَله » أي :
كائناً منكم . وقيل : « مِنْ » للبيان وليس بشيء ، لأنَّ كلَّ مَنْ قَتَل صيداً
حكمُه كذلك . فإن قلت : هذا واردٌ أيضاً على جَعْلِه حالاً . قلتُ : لم يُقْصَدْ
لذلك مفهومُ حتى إنه لو قتَله غيرُكم لم يكن عليه جزاءٌ ، لأنه قصد بالخطابِ معنىً
آخرَ وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد .
قوله : { مُّتَعَمِّداً } حالٌ أيضاً من فاعل « قَتَلَه » فعلى رَأْي مَنْ يجوِّزُ
تعدُّدَ الحال يُجيز ذلك هنا ، ومَنْ مَنَعَ يقول : إنَّ « منكم » للبيانِ حتى لا
تتعدَّد الحالُ ، و « مَنْ » يُجَوِّزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ ، وموصولةً
، والفاءُ لشبهِها بالشرطيةِ ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع . قوله :
« فجزاء » الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ لشبه المبتدأ بالشرط ، فعلى الأول
الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ ، وعلى الثاني في محلِّ رفعٍ ، وما بعد « مَنْ » على
الأولِ في محلِّ جزمٍ لكونِه شرطاً ، وعلى الثاني لا محلَّ له لكونه صلةً . وقرأ
أهلُ الكوفة : « فجزاءٌ مثلُ » بتنوين جزاء ورفعه ورفع « مثل » ، وباقي السبعة
برفعه مضافاً إلى « مثل » ، ومحمد بن مقاتل بتنوين « جزاءً » ونصبِه ونصب « مثلَ »
والسُلمي برفع « جزاء » منوناً ونصبِ « مثل » ، وقرأ عبد الله : { فجزاؤُه } برفع
« جزاء » مضافاً لضمير « مثل » رفعاً .
فأمَّا قراءةُ الكوفيين فلأنَّ « مثل » صفةٌ ل « جزاء » أي : فعليه جزاءٌ موصوفٌ
بكونه « مثلَ ما قتله » أي مماثِلَه . وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أَنْ
يرتفعَ « مثل » على البدلِ ، وذكر الزجاج وجهاً غريباً وهو أن يرتفعَ « مثل » على
أنه خبرٌ ل « جزاء » ويكونُ « جزاء » مبتدأً قال : « والتقديرُ : فجزاءُ ذلك
الفعلِ مثلُ ما قتل » قلت : ويؤيد هذا الوجهَ / قراءةُ عبد الله : « فجزاؤُه مثلُ
» إلا أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوفُ ضميراً يعودُ على المقتول لا أَنْ
يُقَدِّره : « فجزاءُ ذلك الفعل » و « مثل » بمعنى مماثل قاله جماعةٌ : الزمخشري
وغيره ، وهو معنى اللفظِ ، فإنِّها في قوةِ اسمِ فاعل ، إلاَّ أنَّ مكّياً
تَوَهَّم أنَّ « مِثْلاً » قد يكون بمعنى غير مماثل فإنه قال : « ومثل » في هذه
القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُماثِل ، والتقديرُ : فجزاءٌ مماثلٌ لِما
قَتَل يعني في القيمةِ أو في الخِلْقة على اختلافِ العلماء ، ولو قَدَّرْتَ
مِثْلاً على لفظه لصار المعنى : فعليه جزاءٌ مثلُ المقتولِ من الصيد ، وإنما يلزمه
جزاء المقتول بعينِه لا جزاءٌ مثلُه ، لأنه إذا وَدَى جزاءً مثلَ المقتول صار إنما
وَدَى جزاءَ ما لم يُقْتَل؛ لأنَّ مثلَ المقتول لم يَقْتُلْه ، فصَحَّ أن المعنى :
فعليه جزاءٌ مماثِلٌ للمقتول ، ولذلك بَعُدَتِ القراءةُ بالإِضافة عند جماعة .
قلت
: « مثل » بمعنى مُماثِل أبداً فكيف يقول « ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه »؟
وأيضاً فقوله : « لصار المعنى إلى آخره » هذا الإِشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ
مجيئُه في هذه القراءةِ أصلاً ، وإنما ذَكَره الناسُ في قراءةِ الإِضافة كما سيأتي
، وكأنه نَقَل هذا الإِشكالَ من قراءةِ الإِضافة إلى قراءةِ التنوين .
وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فاستبعَدها جماعةٌ ، قال الواحدي : « ولا ينبغي إضافةُ
الجزاءِ إلى المِثْلِ لأنَّ عليه جزاءَ المنقولِ لا جزاءَ مثله فإنه لا جزاءَ عليه
لَمَّا لم يقتلْه » وقال مكي بعد ما قَدَّمْتُه عنه : « ولذلك بَعُدَت القراءةُ
بالإِضافة عند جماعةٍ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيدِ المقتول » قلت : ولا
التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ فإنَّ أكثرَ القراء عليها . وقد أجاب الناسُ عن ذلك
بأجوبةٍ سديدةٍ ، لَمَّا خفيت على أولئك طَعَنوا في المتواتر ، منها : أنَّ « جزاء
» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً ، والأصل : فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل ، أي : أن
يَجزي مثلَ ما قتل ، ثم أُضيف ، كما تقول : « عجبت من ضربٍ زيداً » ثم « من ضرب
زيدٍ » ذَكَر الزمخشري وغيره ، وبَسْطُ ذلك أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء والأصل
: فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيد مثلَه من النعم ، ثم حُذِف المفعولُ الأول
لدلالة الكلامِ عليه وأُضيف المصدرُ إلى ثانيهما ، كقولك : « زيدٌ فقيرٌ ويعجبني
إعطاؤك الدرهمَ » أي : إعطاؤك إياه . ومنها : أنَّ « مثل » مقحمةٌ كقولهم : «
مِثْلُك لا يفعل ذلك » أي : أنت لا تفعل ذلك ، ونحو قوله تعالى : { فَإِنْ
آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] أي : بما آمنتم [ به ]
وكقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ف « مثل » زائدةٌ ، وهذا
خلاف الأصلِ ، فالجوابُ ما قَدَّمْتُه . و « ما » يجوزُ أْن تكونَ موصولةً اسمية
أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ محذوفٌ على كِلا التقديرين أي : مثلُ ما قتله من
النعم .
فَمَنْ رفع « جزاء » فيه أربعة أوجه ، أحدُها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبرُ
محذوفٌ تقديرُه : فعليه جزاء . والثاني : أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه :
فالواجبُ جزاءُ : والثالث : أنه فاعلٌ بفعل محذوف أي : فيلزَمُه أو يَجِبُ عليه
جزاءٌ .
الرابع
: أنه مبتدأ وخبره « مثل » ، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسحاق الزجاج ، وتقدم
أيضاً رفع « مثل » في قراءة الكوفيين على أحدِ ثلاثةِ أوجه : النعتِ والبدلِ
والخبرِ حيث قلنا : « جزاء » مبتدأٌ عند الزجاج .
وأمَّا قراءةُ { فجزاؤه مثلُ } فظاهرةٌ أيضاً . وأمَّا قراءة « فجزاءٌ مثلَ » برفع
« جزاء » وتنوينه ونصب « مثل » فعلى إعمال المصدر المنونِ في مفعولِه ، وقد تقدَّم
أنَّ قراءةَ الإِضافةِ منه ، وهو نظيرُ قولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ
ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 1415 ] وفاعلُه محذوف أي : فجزاءُ أحدِكم أو
القاتلِ ، أي : أن يُجْزى القاتلُ للصيد . وأما قراءة : « فجزاءً مثلَ » بنصبهما
فجزاءً منصوب على المصدر أو على المفعول به ، « ومثلَ » صفتُه بالاعتبارين ،
والتقدير : فليَجْزِ جزاءً مثلَ ، أو : فليُخْرِجْ جزاءً ، أو فليُغَرَّم جزاءً مثلَ
.
قوله : { مِنَ النعم } فيه ثلاثةُ وجه ، أحدُها : أنه صفةٌ ل « جزاء » مطلقاً ، أي
: سواءً رُفِع أم نُصِبَ ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ ، أي : إنَّ ذلك الجزاء يكونُ
من جنسِ النَّعم ، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ . الثاني : أنه متعلق بنفسِ « جزاء
» لأنه مصدرٌ ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة مَنْ أضاف « جزاء » إلى « مثل
» فإنه لا يلزَمُ منه محذورٌ ، بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَه وجعلتَ « مثلَ » صفتَه أو
بدلاً منه أو خبراً له فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ ، لأنَّك إنْ جَعَلْتَه موصوفاً ب «
مثل » كان ذلك ممنوعاً من وجهين ، أحدُهما : أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ وهذا
قد وُصِفَ . الثاني : أنه مصدر فهو بمنزلةِ الموصولِ والمعمولُ من تمامِ صلتِه ،
وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبي
. وإنْ جَعَلْتَه بدلاً لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته ، وإنْ
جَعَلْتَه خبراً لزم الإِخبار عن الموصولِ قبلَ تمامِ صلتِه ، وذلك كلُّه لا يجوزُ
. الثالث : ذكره أبو البقاء وهو أَنْ يكونَ حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ
فإنَّ التقدير : فجزاءً مثلَ الذي قتله حالَ كونه من النَّعم ، وهذا وهمٌ لأنه
الموصوف بكونِه من النَّعم إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ ، وأمَّا الصيدُ نفسُه
فلا يكونُ من النعم ، والجمهورُ على فتحِ عين « النَّعَم » ، وقرأ الحسن بسكونها ،
فقال ابنُ عطية : { هي لغة } وقال الزمخشري : « استثقلَ الحركةَ على حرفِ الحلق
كما قالوا : » الشَّعْر « في » الشَّعَر « .
قوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا } في موضعِ رفعٍ صفةً ل » جزاء « أو في موضع نصبٍ
على الحال منه أو على النعتِ ل » جزاء « فيمَنْ نَصَبه ، وخَصَّصَ أبو البقاء
كونَه صفةً بقراءةِ تنوين » جزاء « والحالَ بقراءةِ إضافته ، ولا فرقَ ، بل يجوزُ
أَنْ تكونَ الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه إذا أُضيف إلى » مثل « فهو
باقٍ على تنكيرِه لأنَّ » مِثْلاً « لا يتعرَّفُ بالإِضافة ، وكذا خصَّص مكي
الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى » مِثْل « فإنه قال : » ومِن النَّعم في قراءةِ
مَنْ أضاف الجزاء إلى « مِثْل » صفةً لجزاء ، ويَحْسُنُ أَنْ تتعلَّق [ من ]
بالمصدرِ فلا تكونُ صفةً ، وإنما المصدرُ مُعَدَّى إلى « من النعم » ، وإذا
جَعَلْتَه صفةً ف « مِنْ » متعلقةٌ بالخبرِ المحذوف وهو « فعلية » وفي هذا الكلامِ
نظرٌ مِنْ وجهين ، أحدُهما : قد تقدَّم وهو التخصيصُ بقراءةِ الإِضافة .
والثاني
: أنه حين جَعَلَ « من النَّعم » صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِما تضمَّنه مِن
الاستقرار ، وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ إذا وَقَع صفةً تعلَّق بمحذوفٍ ، ذلك
المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ ، وهذا الذي جَعَلَه متعلِّقاً لهذه الصفةِ ليس
صفةً للموصوف في الحقيقةِ بل هو خبرٌ عنه ، ألا ترى أنك لو قلت : « عندي رجلٌ من
بني تميم » أنَّ « مِنْ بين » متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة لا بقولِك « عندي
» ويمكن أَنْ يقال : - وهو بعيدٌ جداً - إنه أراد التعلُّقَ المعنوي ، وذلك أنَّ
العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفتِه ، و « عليه » عاملٌ في « جزاء » فهو عاملٌ في
صفتِه ، فالتعلقُ من هذه الحيثيةِ ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جَعَلْنا الخبرَ
عاملاً في المبتدأ ، أو قلنا : إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ ولو لم يعتمدْ ، وإنما
أذكرُ هذه التوجيهاتِ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولُهم بالكلية .
والألفُ في « ذوا » علامةٌ الرفعِ مثَّنى ، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ هذه
اللفظةِ وتصاريفِها وقرأ الجمهورُ : { ذَوا } بالألف ، وقرأ محمد بن جعفرٍ الصادقٍ
/ : « ذو » بلفظِ الإِفراد قالوا : « ولا يريدُ بذلك الوحدةَ بل يريدُ : يحكم به
مَنْ هو مِنْ أهلِ العدل . وقال الزمخشري : » وقيل : أرادَ الإِمام « فعلى هذا
تكونُ الوِحْدَةُ مقصودةً . و » منكم « في محلِّ رفعٍ صفةً ل » ذوا « أي إنهما
يكونان من جنسكم في الدين ، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً ل » عَدْل « لأنه مصدرٌ قاله
أبو البقاء ، يعني أن المصدرَ ليس مِنْ جنسِهم فكيف يُوصف بكونِه منهم؟
قوله : { هَدْياً } فيه ستةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه حالٌ من الضمير في » به « قال
الزجاج : » وهو منصوبٌ على الحالِ ، المعنى : يحكم به مقدراً أن يُهْدَى « يعني
أنه حال مقدرةٌ ولا مقارنةٌ ، وكذا قال الفارسي كقولِك : » معه صقرٌ صائداً به
غداً « أي مُقَدِّراً الصيدَ .
الثاني
: أنه حالٌ من « جزاء » سواءً قُرئ مرفوعاً أم منصوباً ، منوناً أم مضافاً . وقال
الزمخشري « » هَدْياً « حالٌ من » جزاء « فيمَنْ وصَفَه بمثل ، لأنَّ الصفةَ
خَصَّصَتْه فَقَرُبَ من المعرفة ، وكذا خَصَّصه الشيخ ، وهذا غير واضح ، بل
الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً كما تقدَّم . الثالث : أنه منصوبٌ على المصدرِ أي : يُهديه
هَدْياً ، ذكره مكي وأبو البقاء الرابع : أنه منصوبٌ على التمييزِ ، قاله أبو
البقاء ومكي ، إلا أنَّ مكياً قال : » على البيان « ، وهو التمييز في المعنى ، وكأنهما
ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أُبْهِم في المِثْلية ، إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ
غيرَها . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يرفع الإِبهامَ عن الذوات لا عن
الصفاتِ ، وهذا كما رايتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة ، لأن الهدى صفةٌ في المعنى إذ
المرادُ به مُهْدَى . الخامس : أنه منصوبٌ على محلِّ » مثل « فيمَنْ خَفَضَه ،
لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً كما تقدَّم تحريرُه . السادس : أنه
بدلٌ من » جزاء « فيمَنْ نصبَه . و » بالغ الكعبة « صفةٌ ل » هَدْيا « ولم
يتعرَّفْ بالإِضافة لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً ، ومثلُه ، { هذا عَارِضٌ
مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] وقولُ الآخرِ :
1810- يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ ... لاقَى مباعَدةً منكم وحِرْمانا
في أنَّ الإِضافةَ فيها غيرُ مَحْضَةٍ . وقرأ الأعرج : » هَدِيَّاً « بكسر الدال
وتشديد الياء .
قوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطفٌ على قولِه : { فَجَزَآءٌ } و » أو « هنا للتخييرِ
، ونُقِل عن ابن عباس أنها ليسَتْ للتخيير ، بل للترتيب ، وهذا على قراءةِ مَنْ
رفع » فجزاءٌ « وأمَّا مَنْ نَصَبَه فقال الزمخشري » جَعَلَها خبرَ مبتدأ محذوفٍ
كأنه قيل : أو الواجبُ عليه كفارةٌ ، ويجوزُ أَنْ تُقَدِّر : فعليه ان يَجْزي
جزاءً أو كفارةً ، فتَعْطِفَ « كفارة » على « أَنْ يَجْزي » يعني أنَّ « عليه »
يكونُ خبراً مقدماً ، وأَنْ يَجْزي « مبتدأً مؤخراً ، فَعَطَفْتَ » الكفارة « على
هذا المبتدأ . وقرأ نافع وابن عامر بإضافة { كفارة } لِما بعدها ، والباقون
بتنوينِها ورفعِ ما بعدها . فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ ، ورفعُ » طعام « على
أحد ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه بدل من » كفارة « إذ هي من جنسِه . الثاني : أنه
بيانٌ لها كما تقدَّم ، قاله الفارسي وردَّه الشيخ بأنَّ مذهبَ البصريين أختصاصُ
عطفِ البيان بالمعارفِ دونَ النكراتِ . قلت : أبو علي يُخالِفُ في ذلك ويستدل
بأدلة ، منها : { شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] ، ف »
زيتونةٍ « عنده عطف بيان ل » شجرة « ، وكذا قولُه تعالى : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ }
[ إبراهيم : 16 ] ، ف » صديد « عنده بدلٌ من » ماء « والبدلُ فيهما محتملٌ فلا
حُجَّةَ له ، والبدلُ قد يجيء للبيان . الثالث : أنه خبر مبتداً محذوف .
أي
: هي طعام أي : تلك الكفارة . وأمَّا قراءة نافع وابن عامر فوجهُها أنّ الكفارة
لَمَّا تنوَّعت إلى تكفير بالطعام وتكفير بالجزاء المماثل وتكفير بالصيام حَسُن
إضافتها لأحدِ أنواعها تبييناً لذلك ، والإِضافةُ تكون بأدنى ملابسه كقوله :
1811- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرَةٍ ... سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في
القَرائبِ
أضاف الكوكبَ إليها لقيامِها عند طلوعِه فهذا أَوْلَى . ووجَّهَها الزمخشري فقال :
« وهذه الإِضافة مبيِّنة ، كأنه قيل : أو كفارةٌ مِنْ طعام مساكين ، كقولك : »
خاتمُ فضةٍ « بمعنى مِنْ فضة » . قال الشيخ : « أمَّا ما زعمه فليس من هذا البابِ
لأنَّ » خاتم فضة « من باب إضافةِ الشيء إلى جنسه والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ إلا
بتجوُّزٍ بعيداً جداً » انتهى . قلت : كان مِنْ حَقِّه أَنْ يقولَ : والكفارةُ
ليست جنساً للطعام لأنَّ الكفارةَ في التركيب نظيرُ « خاتم » في أنَّ كلاً منهما
هو المضافُ إلى ما بعده ، فكما أن « خاتماً » هو الضافُ إلى جنسه ينبغي أَنْ يُقال
: الكفارةُ ليست جنساً للطعام لأجل المقابلةِ ، لكن لا يمكنُ أَنْ يُقال ذلك فإنَّ
الكفارةَ كما تقدَّم جنسٌ للطعامِ والجزاءِ والصومِ ، فالطريقُ في الردِّ على أبي
القاسم أن يُقال : شرطُ الإِضافة بمعنى « مِنْ » أن يُضاف جزءٌ إلى كل بشرطٍ
صِدْقٍ اسمِ الكلِ على الجزءِ نحو : « خاتمُ فضة » و « كفارة طعامٍ » ليس كذلك ،
بل هي إضافة « كل » إلى جزء . وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة من حيث إنَّ الكفارةَ
ليست للطعام إنما هي لقتلِ الصيد ، كذا قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وجوابُه ما
تقدَّم . ولم يخلتفِ السبعةُ في جمع « مساكين » هنا وإن اختلفوا في البقرة ، قالوا
: والفرقُ بينهما أنَّ قَتْل الصيد لا يُجْزيء فيه إطعامُ مسكينٍ واحد . على أنه
قد قرأ عيسى بن عمر والأعرج بتنوين « كفارة » ورفع « طعام مسكين » بالتوحيد ،
قالوا : ومرادُهما بيانُ الجنسِ لا التوحيدُ .
قوله : { أَو عَدْلُ } نسقٌ على « فجزاء » والجمهورُ على فتحِ العين ، وقرأ ابن
عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرِها ، وقد بَيَّنْتُ معناهما في أولَ هذا التصينف
عند قوله تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] . و « ذلك »
إشارةٌ إلى الطعام ، وكيفيتُه مذكورةٌ في « التفسيرِ الكبيرِ » . و « صياماً » نصبٌ
على التمييزِ لأنَّ المعنى : أو قَدْرُ ذلك صِياماً فهو كقولك : « لي مِلْؤُه
عسلاً » وأصلُ « صِياماً » : « صِواماً » فَأُعِلَّ لِما عُرِف غيرَ مرة .
قوله : { لِّيَذُوقَ } فيه ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلقٌ ب « جزاء » قاله
الزمشخري ، قال الشيخ : « إما يتأتَّى ذلك حيث يضاف إلى » مثل « أو يُنَوِّن »
جزاء « ويُنْصًبُ » مثل « وعَلَّل ذلك بأنه إذا رفع مثلاً كان صفةً للمصدر ، وإذا
وُصِف المصدرُ لم يعمل إلا أن يتقدم المعمول على وصفِه نحو : يعجبني الضربُ زيداً
الشديدُ » فيجوز .
قلت
: وكذا لو جَعَلَه بدلاً أيضاً أو خبراً لِما تقدم من أنه يلزمُ أن يُتَبع الموصول
أو يخبرَ عنه قبل تمامِ صلتِه وهو ممنوعٌ ، وقد أَفْهَمَ كلامُ الشيخ بصريحه أنه
على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى « مثل » يجوزُ ما قاله أبو القاسم ، وأنا أقول : لا
يجوزُ ذلك أيضاً لأنَّ « ليذوقَ » من تمامِ صلةِ المصدرِ ، وقد عُطِف عليه قولُه «
أو كفارةٌ أو عَدْلٌ » فيلزمُ أَنْ يُعْطَفَ على الموصولِ قبل تمام صلتِه ، وذلك
لا يجوزُ لو قلت : « جاء الذي ضَرَبَ وعمروٌ زيداً » لم يَجُزْ للفصل بين الصلة -
أو أبعاضِها - والموصولِ بأجنبي ، فتأمَّلْه فإنه موضعٌ حسن .
الثاني : أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ كأنه قيل : جُوزي
بذلك ليذوقَ . الثالث : أنه متعلقٌ بالاستقرار المقدَّرِ قبل قولِه : { فجزاء }
إذ التقديرُ فعليه جزاءٌ ليذوقَ . الرابع : أنه متعلق ب « صيام » أي : صومُه
ليذوقَ الخامس : أنه متعلِّقٌ ب « طعام » أي : طعام ليذوقَ ، ذكره هذه الأوجهَ
الثلاثةَ أبو البقاء وهي ضعيفةٌ جداً ، وأجودُها الأولُ . السادسُ : أنها تتعلَّقُ
ب « عَدْل ذلك » نَقَله الشيخ عن بعضِ المُعْرِبين قال : - وهو كما قال - « غلطٌ »
.
والوَبالُ : سوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضررُه ، قال الراغب : « والوابل » المطرُ
الثقيلُ القطر ، ولمراعاة الثِّقَلِ قيل للأمر الذي يُخاف ضررُه : وبال ، قال
تعالى : { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [ الحشر : 15 ] ، ويقال : « طعامٌ وَبيلٌ
» و « كلأ وبيل » يُخاف وبالُه ، قال تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }
[ المزمل : 16 ] . وقال غيره : « والوبالُ في اللغةِ ثِقَلُ الشيءِ في المكروهِ ،
يقال : » مرعىً وبيل « إذا كان / يُسْتَوْخَمُ ، و » ماء وبيلٌ « إذا كان لا
يُسْتَمْرأ ، واستوَبَلْتُ الأرضَ : كرهتُها خوفاً من وبالِها ، والذوقُ هنا
استعارةٌ بليغة .
قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ } » مَنْ « يجوز أن تكونَ شرطيةً ، فالفاءُ
جوابُها ، و » ينتقمُ « خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : فهو ينتقمُ ، ولا يجوز الجزمُ مع
الفاءِ البتة ، ويجوز أن تكونَ موصولةً ، ودخلت الفاءُ في خبر المتبدأ لَمَّا اشبه
الشرطَ ، فالفاءُ زائدةٌ ، والجملةُ بعدها خبرٌ ، ولا حاجة إلى إضمارِ مبتدأ بعد
الفاءِ بخلافِ ما تقدَّم . قال أبو البقاء : » حَسَّن دخولَ الفاءِ كونُ فعلِ
الشرط ماضياً لفظاً « .
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قوله
تعالى : { وَطَعَامُهُ } : نسقٌ على « صيد » أي : أُحِلَّ لكم الصيدُ وطعامهُ ،
فالصيدُ الاصطيادُ ، والطعامُ الإِطعام أي : إنه اسم مصدر ، ويُقَّدَّرُ المفعولُ
حينئذٍ محذوفاً أي : إطعامُكم إياه أنفسَكم ، ويجوز أن يكون الصيدُ بمعنى المَصِيد
. والهاءُ في « طعامُه » تعودُ على البحر على هذا أي : أُحِلَّ لكم مصيدُ البحر
وطعامُ البحر ، فالطعام على هذا غير الصيد ، وفيه خلافٌ بين أهل التفسير ذكرْتُه
في موضعه ، ويجوز أن تعود الهاء على هذا الوجهِ أيضاً على الصيد بمعنى المصيد ،
ويجوز أن يكونَ « طعام » بمعنى مَطْعوم ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن عباس وعبد
الله بن الحرث : « وطَعْمُه » بضم الميم وسكون العين .
قوله : { مَتَاعاً } في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المصدر وإليه ذهب
مكي وابن عطيَة وأبو البقاء وغيرهم ، والتقدير : مَتَّعكم به متاعاً تنتفعون
وتَأْتَدِمون به ، وقال مكي : « لأنَّ قولَه » « أُحِلَّ لكم » بمعنى أَمْتَعْتُكم
به إمتاعاً ، كقوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . والثاني :
أنه مفعول من أجله ، قال الزمشخري : « أي : أحلَّ لكم تمتيعاً لكم ، وهو في
المفعول له بمنزلة قولِه تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] في باب الحالِ ، لأنَّ قوله { مَتَاعاً لَّكُمْ }
مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام كما أنَّ » نافلةً « حالٌ مختص بيعقوب ، يعني أُحِلَّ
لكم طعامُه تمتيعاً لتنائكم تأكلونَه طريَّا ولسيَّارتكم يتزودونه قَديداً » انتهى
. فقد خصَّص الزمخشري كونه مفعولاً له بكون الفعلِ وهو « أُحِلَّ مسنداً لقوله : {
وَطَعَامُهُ } وليس علة لحِلِّ الصيد ، وإنما علةٌ لحِلِّ الطعام فقط ، وإنما
حَمَلَه على ذلك مذهبُه - وهو مذهبُ أبي حنيفة - من أنَّ صيدَ البحرِ منقسمٌ إٍلى
ما يُؤْكل وإلى ما لا يؤكل ، وأنَّ طعامَه هو المأكولُ منه ، وأنه لا يقع التمثيلُ
إلا المأكول منه طريّاً وقديداً ، وقوله » نافلةً « يعني أنَّ هذه الحالَ مختصةٌ
بيعقوب لأنه وَلَدُ وَلَدٍ بخلاف إسحاق فإنه ولدُه لصلبه ، والنافلةُ إنما
تُطْلَقُ على ولد الولد دونَ الولد ، فكذا » متاعاً « إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى
أنَّ الفعل الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفين يكونُ في إسناده إلى أحدهما معللاً
وإلى الآخر ليس كذلك ، فإذا قلت : » قام زيد وعمرو إجلالاً لك « فيجوز أن يكونَ »
قيام زيد « هو المختصَّ بالإِجلال أو بالعكس ، وهذا فيه إلباسٌ ، وأمَّا ما أورده
من الحالِ في الاية الكريمة فثَمَّ قرينةٌ أَوجَبَتْ صَرْفَ الحالِ إلى أحدِهما
بخلافِ ما نحن فيه من الآية الكريمة ، وأمَّا غيرُ مذهبِه فإنه يكونُ مفعولاً له
غيرَ مختصٍّ بأحدِ المتعاطفين وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ . و » لكم « إنْ قلنا » متاعاً «
مصدرٌ فيجوز أن يكونَ صفةً له ، ويكونُ مصدراً مبيناً لكونه وُصِف ، إن قلنا إنه
مفعولٌ له فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : أعني لكم نحو : » قمتُ إجلالاً لك « ،
ويجوز أن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدية المصدر ، إذ التقديرُ : لأنْ أمتِّعَكم ،
ولأنْ أُجِلَّك ، وهكذا ما جاء من نظائره .
قوله : { مَا دُمْتُمْ } « ما » مصدريةٌ « ، و » دمتم « صلتُها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين . والجمهور على ضمِّ دال » دمتم « من لغة من قال : دام يدوم . وقرأ يحيى : { دِمتم } بكسرها من لغة مَنْ يقول : دام يدام كخاف يخاف ، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويَمات ، وقد تقدَّم والجمهورُ على » وحُرِّم « مبنياً للمفعول ، » صيدُ « رفعاً على قيامه مَقامَ الفاعل ، وقرئ : » وحَرَّم « مبنياً » للفاعل ، « صيدَ » نصباً على المفعول به . والجمهورُ أيضاً على « حُرُماً » بضم الحاء والراء جمعُ « حَرام » بمعنى مُحْرِم « ك » قَذال « و » قُذُل « . وقرأ ابن عباس { حَرَماً } بفتحهما ، أي : ذوي حَرَم أي إحرام ، وقيل : جَعَلهم بمنزلة المكان الممنوع منه ، والأحسنُ أن يكون من باب » رجل عدل « جعلهم نفسَ المصدرِ فإنَّ » حَرَما « بمعنى إحرام ، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ فما فوقُ بلفظٍ واحد . والبَرُّ معروفٌ ، قال الليث : » ويستعمل نكرة يقال : جلست بَرَّا وخرجْتُ براً « قال الأزهري : » وهو من كلام المولِّدين « وفيه نظر لقول سلمان الفارسي : » إنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيَّا وبَرَّانياً « أي باطنٌ وظاهرٌ ، وهو من تغييرِ النسب ، وقد تقدم استيفاء هذه المادةِ في البقرة . وقَدَّم » إليه « على » تُحْشرون « للاختصاص أي : تُحشرون إليه لا إلى غيره ، أو لتناسُبِ رؤوس الآي .
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
قوله
تعالى : { جَعَلَ الله } : فيها وجهان ، أحدهما : أنها بمعنى صَيَّر فتتعدَّى
لاثنين ، أولهما « الكعبة » والثاني « قياماً » والثاني : أن تكون بمعنى خلق
فتتعدى لواحد ، وهو « الكعبة » و « قياماً » نصبٌ على الحال . وقال بعضهم : إنَّ «
جعل » هنا بمعنى « بَيَّن » و « حَكَم » ، وهذا ينبغي أن يُحْمل على تفسير المعنى
لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية أنها تكونُ بمعنى بَيَّن ولا حَكَم ،
ولكن يلزم من الجَعْلِ البيانُ ، وأمَّا « البيتَ » فانتصابُه على أحد وجهين : إما
البدلِ وإما عطفِ البيان ، وفائدةُ ذلك أن بعض الجاهلية - وهم خثعم- سَمَّوْا
بيتاً الكعبةَ اليمانية فجيء بهذا البدلِ أو البيانِ تبييناً له من غيره . وقال
الزمخشري : « البيتَ الحرامَ » عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما
تجيء الصفةُ كذلك « واعترض عليه الشيخ بأن شرطَ البيانِ الجمودُ ، والجمودُ لا
يُشْعر بمدح ، وإنما يُشْعر به المشتقُّ ، ثم قال : » إلا أَنْ يريدَ أنه لَمَّا
وُصِف البيت بالحرام اقتضى المجموعُ ذلك فيمكنُ « .
والكعبة لغةً : كلُّ بيت مربع ، وسُمِّيَتْ الكعبةُ كعبةً لذلك ، وأصل اشتقاق ذلك
من الكَعْب الذي هو أحد أعضاء الآدمي . قال الراغب : » كَعْبُ الرجل « [ العظم ]
الذي عند مُلْتقى الساق والقدم ، والكعبة كلُّ بيتٍ على هيئتِها في التربيع ، وبها
سُمِّيَتِ الكعبة ، وذُو الكَعَبات : بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة ، وامرأة
كاعِب : تكعَّب ثدياها » وقد تقدَّم القولُ في هذه المادةِ أولَ السورة .
والجمهور قرؤوا هنا : « قياماً » بألفٍ بعد الياء ، وابن عامر : « قِيَماً » دون
ألف بزنة « عِنَب » ، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدراً ل « قام - يقوم » والمعنى
: أنَّ اللَّهَ جعل الكعبةَ سبباً لقيامِ الناس إليها ، أي : لزيارتِها والحجِّ
إليها ، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهم ودنياهم ، فيها يَقُومون ، ويجوزُ
أَنْ يكونَ القيامُ بمعنى القِوام فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها ، كذا
قالَ الواحدي ، وفيه نظرٌ إذ لا موجبَ لإِعلاله إذ هو ك « السِّواك » فينبغي أن
يقال : إن القِيام والقِوام بمعنى واحد ، قال :
1812- قِوامُ دنيا وقِوامُ دينِ ... فأمَّا إذا دخَلَها تاءُ التأنيث لَزِمَتِ
الياءُ نحو : « القيامة » وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فاستشكلها بعضُهم بأنه لا
يَخْلُو : إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً على فِعَل ، وإما أن يكونَ على فِعال ، فإنْ
كان الأول فينبغي أن تصِحُّ الواو ك « حِوَل » و « عَوَر » وإن كان الثاني فالقصر
لا يأتي إلا في شعر . وقرأ الجحدري : « قَيِّماً » بتشديد الياء وهو اسمٌ دالٌّ
على ثبوت الصفة ، وقد تقدَّم تحقيقُه أول النساء .
قوله : { والشهر الحرام والهدي والقلائد } عطف على « الكعبة » ، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ لفهم المعنى أي : جَعَلَ الله أيضاً الشهرَ والهَدْيَ والقلائدَ قياماً . و « ذلك » فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : الحُكْمُ الذي حَكَمْناه ذلك لا غيرُه . والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره . الثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي : شَرَعَ اللَّهُ ذلك ، وهذا أقواها لتعلُّقِ لام العلة به . و « تعلموا » منصوبٌ بإضمار « أَنْ » بعد لام كي ، لا بها . و « أَنَّ الله » وما في حَيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو أحدِهما على حَسَبِ الخلاف المتقدم . و { وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } نسقٌ على « أنَّ » قبلها/ .
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
وقوله تعالى : { إِلاَّ البلاغ } : في رفعه وجهان ، أحدهما : أنه فاعل بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي ، أي : ما استقرَّ على الرسول إلا البلاغ . والثاني أنه مبتدأ ، وخبرُه الجارُّ قبله وعلى التقديرين فالاستثناء مفرَّغٌ .
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ } : جوابُها محذوف أي : ولو أُعجَبك كثرة الخبيثِ لَما استوى مع الطيب ، أو : لَما أجدى شيئاً في المساواة . والبلاغُ يُحتمل أن يكون مصدراً ل « بَلَّغ » مشدداً أي : ما عليه إلا التبليغُ ، فجاء على حذف الزوائد ، ك « نبات » بعد « أنبت » ويحتمل أن يكونَ مصدراً ل « بَلَغ » مخففاً بمعنى البلوغ ، ويكون المعنى : ما عليه إلا البلوغُ بتبليغه ، فالبلوغُ مستلزِمٌ فعبَّر باللازم عن الملزومِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قوله
تعالى : { عَنْ أَشْيَآءَ } : متعلق ب « تَسْألوا » واختلف النحويون في « اشياء »
على خمسة مذاهب ، أحدها - وهو رَأْي الخليل وسيبويه والمازني وجمهور البصريين - :
أنها اسمُ جمعٍ من لفظ « شيء » فيه مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنى ، كطَرْفاء وقَصْباء
وأصلُها : شَيْئاء بهمزتين بينهما ألف ووزنها فَعْلاء ك « طَرْفاء » فاستثقلوا
اجتماعَ همزتين بينهما ألفٌ ، لا سيما وقد سَبَقها حرفُ علة وهي الياءُ ، وكَثُر
دَوْر هذه اللفظةِ في لسانهم فَقَلبوا الكلمةَ بأَنْ قَدَّموا لامَها ، وهي
الهمزةُ الأولى على فائها وهي الشين فقالوا أَشْياء فصارَ وزنُها لَفْعاء ،
ومُنِعت من الصرف لألف التأنيث الممدودة . ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزْم منه
شيءٌ غيرُ القلب ، والقلبُ في لسانِهم كثيرٌ كالجاه والحادي والقِسِيّ وناءَ
وآدُرٌ وآرام وضِئاء في قراءة قنبل وأَيِس . والأصل : وجه وواحد وقُووس ونَأَى
وأَدْوُرُ وأَرْآم وضياء ويَئِس . واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلب على خلافِ
الأصل ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام ، وهذا مردودٌ بما
قَدَّمْتُه من الأمثلةِ ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مطَّرد ، وأما الشادٌّ
القليل فنحو قولِهم : « رَعَمْلي » في « لَعَمْري » و « شَواعي » في « شوايع » قال
:
1813- وكان أَوْلاها كِعابُ مُقامِرٍ ... ضُرِبَتْ على شَزَنٍ فهنَّ شَواعِي
يريد شوائع .
وأمَّا المذاهبُ الآتية فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ ، هذا المذهب سالمٌ منها فلذلك
اعتبره الجمهورُ دونَ غيره .
المذهب الثاني - وبه قال الفراء - : أن أشياء جمع ل « شيء » والأصل في شيء :
شَيِّئ على فَيْعِل ك « لَيِّن » ثم خُفِّف إلى « شيء » ما خففوا لَيّناً وهَيّناً
ومَيّتاً إلى لَيْن وهَيْن ومَيْت ، ثم جَمَعَه بعد تخفيفِه ، وأصله أَشْيِئاء
بهمزتين بينهما ألف بعد ياءٍ بزنة أَفْعِلاء فاجتمع همزتان : لام الكلمة والتي
للتأنيث ، والألف تشبه الهمزة والجمع ثقيل : فَخَفَّفُوا الكلمة بأن قلبوا الهمزة
الأولى ياءً لانكسار ما قبلها ، فيجتمع ياءان أولاهما مكسورة ، فحذفوا الياء التي
هي عينُ الكلمة تخفيفاً فصارت أَشْياء ، ووزنها الآن بعد الخلاف أَفْلاء ، فمَنْعُ
الصرفِ لأجل ألف التأنيث ، وهذه طريقة بعضِهم في تصريف هذا المذهب كمكي بن أبي
طالب . وقال بعضهم كأبي البقاء : لَمَّا صارت إلى أَشْيئاء حُذِفت الهمزة الثانية
التي هي لام الكلمة لأنَّها بها حَصَلَ الثِّقَلُ ، وفُتِحَتِ الياءُ المسكورةُ
لتسلمَ ألف الجمعِ فصار وزنُها : أَفْعاء .
المذهب الثالث - وبه قال الأخفش - : انَّ أَشْياء جمعُ « شَيْء » بزنة فَلْس ، أي
: ليس مخففاً من شَيِّئ كما يقوله الفراء ، بل جمع شيء وقال « إن فَعْلاً يجمع على
أَفْعِلاء فصار أَشِْيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ، ثم عُمِل فيه ما عُمِل في
مذهب الفقراء ، والطريقان المذكوران عن مكي وأبي البقاء في تصريف/ هذا المذهب
جاريان هنا ، وأكثر المصنفين يذكرون مذهب الفراء عنه وعن الأخفش قال مكي : » وقال
الفراء والأخفش والزيادي : أَشْياء وزنها أَفْعِلاء ، وأصلها أَشْيِئاء ، كهيِّن
وأَهْوِناء ، لكنه خُفِّف « ثم ذَكر تصريفَ الكملةِ إلى آخر .
وقال ابو البقاء : « وقال الأخفشُ والفراء : أصلُ الكلمةِ شَيِّئ مثل هَيِّن ، ثم خُفِّف بالحذف » ، وذكر التصريف إلى آخره فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً ، والحق ما ذكرته عنهما ، ويدل على ما قلته ما قاله الواحدي فإنه قال : « وذهب الفراء في هذا الحرف مذهب الأخفش » غير أنه خَلَط حين ادَّعى أنها كهيْن ولَيْن حين جمعا على أَهْوناء وأَلْيِناء ، وهَيْن تخفيف « هيِّن » فلذلك جاز جمعُه على أَفْعِلاء ، وشَيء ليس مخففاً من « شَيِّئ » حتى يُجْمع على أَفْعِلاء ، وهذان المذهبان - أعني مذهب الفراء والأخفش - وإن سَلِما من منع الصرف بغيرِ علة فقد رَدَّها الناس ، قال الزجاج : « وهذا القولُ غلطٌ لأنَّ » شَيْئاً « فَعْل ، وفَعْل لا يجمع على أَفْعِلاء ، فأما هَيِّن ولَين فأصلُه : هَيين ولَيين ، فجُمع [ على ] أَفْعِلاء ، كما يُجمع فعيل على أَفعْلاء مثل : نصيب وأَنْصباء » قلت : وهذا غريبٌ جداً ، أعني كونَه جَعَل أنَّ أصلَ هيّن هَيين بزنةَ فَعِيل ، وكذا لَيّن ولَيِين ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيب ، والناس يقولون : إن هَيِّناً أصله هَيْوِن ، كميِت أصلُه مَيْوِت ثم أُعِل الإِعلالَ المعروف ، وأصلُ لَيّن : لَيْيين بياءين ، الأولى ساكنة والثاينة مكسورة ، فأُدْغمت الأولى ، والاشتقاقُ يساعدهم ، فإن الهيِّن من هانَ يهون ، ولأنهم حين جمعوه على أَفْعلاء أظهروا الواوَ فقالوا : أَهْوِناء . وقال الزجاج : « إن المازني ناظر الأخفش في هذه المسألة فقال له : كيف تُصَغَّر اشياء؟ قال : أقول فيها أُشَيَّاء . فقال المازني : لو كانت أَفْعالاً لرُدَّت في التصغير إلى واحدها وقيل : شُيَئْات مثل شُعَيْعات ، وإجماعُ البصريين أن تصغير أصدقاء إن كان لمؤنث » صُدّيَّقات « ، وإن كان لمذكر : » صُدَيِّقون « فانقطع الأخفش » . قلت : وبَسْطُ هذا أنَّ الجمعَ المكسَّرَ إذا صُغِّر : فإمَّا أن يكون من جموعِ القلة وهي أربعٌ على الصحيح : أَفْعِلة وأَفْعُل وأَفْعال وفِعْلة ، فيُصَغَّرُ على لفظة ، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظِه على الصحيح ، وإنْ وَرَدَ منه شيءٌ عُدَّ شاذاً ك « أُصَيْلان » تصغير « أُصْلان » جمع « أَصيل » بل يُرَدُّ إلى واحدِه . فإنْ كان من غير العقلاء صُغِّر وجُمِع بالألفِ والتاءِ فتقول في تصغير حُمُر جمع حمار : « حُمَيْرات » ، وإن كان من العقلاء صُغِّر وجُمع بالواو والنون ، فتقول في تصغير « رجال » : « رُجَيْلون ، وإن كان اسم جمع ك » قوم « و » رهط « اسم جنس ك » قمر « و » شجر « صُغِّر على لفظه كسائر المفردات .
رجَعْنا
إلى أشياء فتصيغرُهم لها على لفظِها يَدُلُّ على أنها اسم جمع ، لأن اسم الجمع
يُصِغَّر على لفظه نحو : « رُهَيْط » و « قُوَيْم » وليست بجمع تكسر إذ هي من
جموعِ الكثرة ولم ترَدَّ إلى واحدها ، وهذا لازمٌ للأخفش لأنه بصري ، والبصري لا
بدَّ وأن يفعل ذلك ، وأُصَيْلان عنده شاذ فلا يقاس عليه ، وفي عبارة مكي قال : «
وأيضاً فإنه يَلْزمهم أن يصغِّروا أشياء على شُوَيَّات أو على شُيَيْئات وذلك لم
يَقُلْه أحد » قلت : قوله « شُوَيَّات » ليس بجيد ، فإنه هذا ليس موضعَ قلبِ الياء
واواً/ ، ألا ترى أنك إذا صَغَّرت بيتاً قلت : بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً ، إلا أن
الكوفيين يُجيزون ذلك فيمكن أن يرى رأيهم وقد ردَّ مكي أيضاً مذهبَ الفراء والأخفش
بشيئين ، أحدهما : أنه يلزم منه عدمُ النظير إذ لم يقع أَفْعِلاء جمعاً ل فَيْعِل
فيكون هذا نظيرَه ، وهَيّن وأهْوناء شاذٌّ لا يقاس عليه . والثاني : أن حذفَه
واعتلالَه مُجْرى على غير قياس ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه اعتلالِه عن القياس
والسماع « .
المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي خاتم - أنها جمع شيء على أَفْعال ك » بَيْت
« و » أبيات « و » ضيف « و » أضياف « واعترض الناس هذا القول بأنه يَلْزَم منه
منعُ الصرف بغير علته إذ لو كان على » أَفْعال « لا نصرفَ كأبيات . قال الزجاج : »
أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قولَ الكسائي خطأ ، وألزموه ألاَّ يَصْرف
أنباء وأسماء « قلت : والكسائي قد استشعر بهذا الردِّ فاعتذر عنه ولكن بما لا
يُقبل ، قال الكسائي - رحمه الله- : » هي - أي أَشْياء - على وزن أَفْعال ولكنها
كَثُرت في الكلام فَأَشْبهت فَعْلاء فلم تُصْرَفْ كما لم يُصْرَفْ حَمْراء « قال :
» وجَمَعوها أَشاوَى كما جمعوا عَذْراء وعذارى ، وصَحْراء وصحارى ، وأَشْياوات كما
قيل حَمْراوات « ، يعني أنهم عامَلوا » أَشْياء « وإن كانت على أفعال معاملةَ
حَمْراء وعَذْراء في جمعي التكسير والتصحيح . إلا أن الفراء والزجاج اعترضا على
هذا الاعتذار ، فقال الفراء : » لو كان كما قال لكان أملكَ الوجهين أَنْ تُجْرَى ،
لأن الحرف إذا كَثُر في الكلام خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرت التسمية ب « يزيد
» ، وأَجْروه في النكرة وفيه ياءٌ زائدة تَمْنَعُ من الإِجراء « قلت : يعني
بالإِجراء الصرف . وقال الزجاج : » أجمع البصريون وأكثر الكوفيين « وقد تقدم آنفاً
. وقال مكي : » وقال الكسائي وأبو عبيد : لم تَنْصَرف - أي أشياء- لأنها أشبهت «
حمراء » لأن العرب تقول : أَشْياوات « كما تقول : حَمْراوات ، قال : » ويلزمهما
ألاَّ يَصْرِفا في الجمع أسماء وأبناء ، لقول العرب فيهما : أسماوات وأبناوات «
قلت : قد تقدم شرح هذا ، ثم إنَّ مكّيّاً بعد أن ذكر عن الكسائي ما قَدَّمْتُه
ونقل مذهب الأخفش والفراء قال : » قال أبو حاتم : أَشْياء أَفْعال جمع شيء كأبيات
« فهذا يُوهم أن مذهب الكسائي المتقدم غيرُ هذا المذهب ، وليس كذلك بل هو هو قلت :
وقد أجاب بعضهم عن الكسائي بأن النحويين قد اعتبروا في بابِ ما لا ينصرف الشبهَ
اللفظيَّ دون المعنوي ، يَدُلُّ على ذلك مسألة سراويل في لغةِ مَنْ يمنعُه فإنَّ
فيه تأويلين ، أحدهما : أنه مفردٌ أعجمي حُمِل على مُوازِنه في العربية ، أي صيغة
مصابيح مثلاً ، ويَدُلُّ له أيضاً أنهم أَجْروا ألفَ الإِلحاق المقصورة مُجرى ألف
التأنيث المقصورة ، ولكن مع العلمية ، فاعتبروا مجردَ الصورة ، ولولا خوفُ
الإِطالة لذكرت له نظائر كثيرة .
المذهب
الخامس : أنَّ وزنها أَفْعِلاء ايضاً جمعاً ل « شَيِيْءٌ بزنة ظريف ، وفَعيل يجمع
على أَفعلاء ك نَصيب وأنْصِباء ، وصَدِيق وأًصْدقاء ، ثم حُذِفت الهمزة الأولى
التي هي لامُ الكلمة ، وفُتحت الياءُ لتسلمَ ألفُ الجمع فصارت أَشْياء ووزنُها بعد
الحذف أَفْعاء ، وجعله مكياً في التصريف كتصريف مذهب الأخفش من حيث إنه تُبدل
الهمزة ياءً ثم تُحْذف إحدى الياءين . قال : - رحمه الله - : » وحَسَّن الحذفَ في
الجمع حَذْفُها في الواحد ، وإنما حُذفت من الواحد تخفيفاً لكثرة الاستعمال إذ «
شيء » يقع على كل مسمَّى من عَرَضٍ أو جوهرٍ أو جسمٍ فلم ينصرف همزةِ التأينث في
الجمع . قال : « وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجمع وتُرِكَ الصرفُ على القياس ، لولا
أنَّ التصغير يعترضه كما اعترض الأخفش » قلت : قوله « هذا قول حسن » فيه نظر لكثرة
ما يَرِد عليه وهو ظاهر ممَّا تقدم ، ولمَّا ذكر الشيخ هذا المذهب قال في تصريفه :
« ثم حذفت الهمزة الأولى/ وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفاً » قال : « وزنُها في
هذا القول ألى أفياء ، وفي القول قبله إلا أَفْلاء » كذا رأيته « أفياء » بالياء ،
وهذا غلط فاحش ، ثم إني جَوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتب ، وإنما كانت
أَفْعاء بالعين فصحَّفها الكاتب إلى أَفْياء . وقد ردَّ الناس هذا القول : بأنَّ
أصل شيء : شَيِيْء بزنة صديق دعوى من غير دليل ، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر
على لفظه ، بل يُرَدُّ إلى مفرده كما تقدم تحريره .
وقد تلخص القول في أشياء : أنها هل هي اسم جمع وأصلها شَيْئاء كطَرْفاء ، ثم
قُلِبت لامُها قبل فائِها فصارَ وزنُها لَفْعاء أو جمعٌ صريح؟ وإذا قيل بأنها جمع
صريح فهل أصلها أَفْعِلاء ، ثم تحذف ، فتصير إلى أَفْعاء أو أَفلاء ، أو أنَّ
وزنَها أفعال كأبيات .
ولولا
خلف الخروج عن المقصود لذكرت المسألة بأطرافِها متسوفاةً ، ولكنَّ في هذا كفايةً
لائقةً بهذا الموضوع .
قوله تعالى : { إِن تُبْدَ } شرط ، وجوابه « تَسُؤكم » ، وهذه الجملة الشرطية في
محل جر صفة ل « أشياء » ، وكذا الشرطية المعطوفة ايضاً . وقرأ ابن عباس : « إن
تَبءدُ لكم تَسُؤْكم » ببناء الفعلين للفاعل مع كون حرف المضارعة تاءً مثناة من
فوق ، والفاعل ضمير « أشياء » . وقرأ الشعبي - فيما نقله عنه أبو محمد ابن عطية :
{ إنْ يَبْدُ } بفتح الياء مت تحت وضم الدال ، « يَسُؤْكم » بفتح الياء من تحت ،
والفاعل ضمير عائد على ما يليق تقديره بالمعنى ، أي : إن يَبْدُ لكم سؤالكم أو
سؤلكم يسؤكم ، ولا جائز أن تعود على « أشياء » لأنه جارٍ مجرى المؤنث المجازي ،
ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنث مطلقاً وَجَبَ لَحاقُ العلامة على الصحيح ، ولا
يُلتفت لضرورة الشعر ، ونقل غيره من الشعبي أنه قرأ : { يُبْدَ لكم يَسُؤْكم }
بالياء من تحت فيهما إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية ، والمعنى إنْ يُبْدَ
- أي يظْهَر - السؤال عنها يَسُؤكم ذلك السؤالُ أي جوابه ، أو هو ، لأنه سببٌ في
لك والمُبْدِية هو اللَّهُ تعالى . والضميرُ في « عنها » يحتمل أن يعودَ على نوعِ
الأشياءِ المَنْهِيَّ عنها لا عليها أنفسِها ، قاله ابن عطية ، ونقله الواحدي عن
صاحبِ « النظم » ونظَّره بقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن
سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] يعني آدم ، « ثم جَعَلْناه » قال « يعني
ابن آدم » فعاد الضميرُ على ما دل عليه الأول ، ويحتمل أن يعود عليها أنفسها ، قال
الزمخشري بمعناه .
قوله : { حِينَ يُنَزَّلُ القرآن } في هذا الظرف احتمالان ، احدهما : - وهو الذي
يَظْهَرُ ، ولم يَقُل الزمخشري - غيرَه- : أنه منصوبٌ ب « تسألوا » ، قال الزمخشري
: « وإنْ تَسْألوا عنها : عن هذه التكاليفِ الصعبةِ ، حين يُنَزَّلُ القرآن : في
زمانِ الوَحْي ، وهو ما دام الرسولُ بين أَظْهُرِكم يُوحى إليه تَبْدُ لكم تلك
التكاليفُ التي تَسُؤكم وتُؤْمروا بتحمُّلها . فَتُعَرِّضوا أنفسَكم لغضبِ اللَّهِ
لتفريطِكم فيها » ومن هنا قلت لك : إنَّ الضمير في « عنها » عائدٌ على الأشياءِ
الأوَلِ لا على نوعِها . والثاني : أنَّ الظرفَ منصوبٌ ب « تُبْدَ لكم » أي :
تَظْهَرْ لكم لتك الأشياءُ حين نزولِ القرآن . قال بعضهم : « في الكلام تقديمُ
وتأخيرٌ ، لأنَّ التقديرَ : عن أشياْاء إنْ تُسْأَلوا عنها تُبْدَ لكم حين نزولِ
القرآن ، وإن تُبْدَ لكم تَسُؤْكم » ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب ، إلا أنه
لا يُقال في ذلك تقديمُ وتأخيرٌ ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً فلا فرقَ ، ولكن
إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ } لفائدةٍ وهي الزجرُ عن
السؤالِ فإنه قدَّم لهم أنّ سؤالهم عن أشياءَ متى ظهرت أساءَتْهم قبل أن يُخْبرَهم
بأنهم إنْ سألوا عنها بَدَتْ لهم لينزجروا ، وهو معنىً لائقٌ .
قوله : { عَفَا الله عَنْهَا } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه في محلِّ جر لأنه صفةٌ أخرى ل « أشياء » والضميرُ على هذا في « عنها » يعود على « أشياء » ولا حاجةَ إلى ادِّعاء التقديمِ والتأخير في هذا كما قال بعضهم ، قال : « تقديرُه : لا تَسْأَلوا عن اشياءَ عفا الله عنها إنْ تُبْدَ لكم إلى آخر الآية/ ، لأنَّ كلاً من الجملتين الشرطيتين وهذه الجملة صفةٌ ل » أشياء « فمن أين أنَّ هذه الجملة مستحقةٌ للتقديم على ما قبلَها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قَدَّرها متقدمةً ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ . والثاني : أنها لا محل لها لاسئنافِها ، والضميرُ في » عنها « على هذا يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها ب » لا تَسْألوا « ويجوزُ أَنْ تعودَ على » أشياء « وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا لضرورة الربطِ بين الصفةِ والموصوفِ .
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
قوله
تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا } : الضميرُ في « سألها » ظاهرُه يعود على « أشياء » لكن
قال الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف قال : لا تَسْالوا عن أشياء ، ثم قال : » قد
سَألَها « ولم يقل سَألَ عنها؟ قلت : [ الضميرُ في سألها ] ليس يعودُ على أشياءَ
حتى يَتَعدَّى إليها ب » عن « ، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله :
» لا تَسْألوا « أي : قد سأل المسألةَ قومٌ ، ثم أصبحوا بها - أي بمرجوعِها -
كافرين » ونحا ابن عطية مَنْحاه . قال الشيخ : « ولا يتجه قولُهما إلى حذف مضاف ،
وقد صَرَّح به بعضُ المفسرين ، أي : قال سأل أمثالَها أي : أمثالَ هذه المسألة أو
أمثالَ هذه السؤالات » . وقال الحوفي في « سألها » : « الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على
» أشياء « ولا يتجه حَمْلُه على ظاهرِه لا مِنْ جهة اللفظ العربي ولا من جهةِ
المعنى ، أمَّا من جهة اللفظ فلأنه كان ينبغي أن يُعْدَّى ب » عن « كما عُدِّي في
الأول ، وأمَّا من جهةِ المعنى فلأن المسؤولَ عنه مختلِفٌ قطعاً ، فإنَّ سؤالهم
غيرُ سؤالِ مَنْ قبلهم ، فإنَّ سؤالَ هؤلاء مثلُ مَنْ سأل : أين ناقتي وما بطن
ناقتي ، وأين أبي وأين مَدْخَلي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا نحو : { أَنزِلْ عَلَيْنَا
مَآئِدَةً } [ المائدة : 114 ] { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] { اجعل
لَّنَآ إلها } [ الأعراف : 138 ] ونحوه . وقال الواحدي : - ناقلاً عن الجرجاني - »
وهذا السؤالُ في الايات يخالِفُ معنى السؤال في قوله : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ
أَشْيَآءَ } { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى
قد عُدِّي بالجار ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجار ، لأن السؤالَ ها هنا طَلَبٌ لعينِ
الشيء نحو : « سَأَلْتُك درهماً » أي طلبته منك ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ
عن حالِ الشيء وكيفيتِه ، وإنما عَطَفَ بقوله { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } على ما
قبلَها وليست بمثلِها في التأويل ، لأنه إنما نَهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفوا ،
وهو مرفوعٌ عنهم « قلت : ويجوز أن يعودَ على » أشياء « لفظاً لا معنىً كما قال
النحويون في مسألة : » عندي درهمٌ ونصفُه « أي : ونصفُ درهمٍ آخرَ ، ومنه :
1814- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ
سارِبُ
قوله : { مِّن قَبْلِكُم } متعلق بقوله : { سَأَلَهَا } فإنْ قيل : هل يجوزُ أن
يكونَ صفةً لقوم؟ قلت : منعَ من ذلك جماعةٌ معتلِّين بأنَّ ظرف الزمان لا يقعُ
خبراً ولا صفةً ولا حالاً عن الجثة ، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ البقرة
عند قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ الآية : 21 ] ، فإنَّ الصلةَ كالصفة ، و »
بها « متعلق ب » كافرين « وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ . والنخعي قرأ : » سالها «
بالامالة من غير همزٍ وهما لغتان ، ومنه يَتَساولان فإمالتُه ل » سأل « كإمالة
حمزة » خاف « وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا
سَأَلْتُمْ } [ الآية : 61 ] و { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ الآية : 211 ] .
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
قوله
تعالى : { مِن بَحِيرَةٍ } : « مِنْ » زائدةٌ لوجودِ الشرطين المعروفين « وجَعَلَ
» يجوز أن يكونَ بمعنى « سَمَّى » ويتعدى لمفعولين ، أحدهما محذوف ، والتقدير : ما
جعَلَ - أي ما سَمِّى - اللّهُ حيواناً بَحِيرةً . قاله أبو البقاء وقال ابن عطية
والزمخشري وأبو البقاء : « إنها تكونُ معنى شَرَعَ ووضع . أي : ما شَرَع اللّهُ
ولا أمره » وقال الواحدي - بعد كلامٍ طويل - « فمعنى ما جعل اللّهُ مِنْ بَحيرةٍ :
ما أوجبَها ولا أمر بها » وقال ابن عطية : « وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا تكون بمعنى
» خلق « لأنَّ الله خَلَق هذه الأشياء كلها ، ولا بمعنى » صَيَّر « لأن التصيير لا
بد له من مفعول ثان ، فمعناه : ما سَنَّ الله ولا شَرَع . ومنع الشيخ هذه
النقولاتِ كلِّها بأنَّ » جَعَل « لم يَعُدَّ اللغويون من معانيها شرع ، وخَرَّج
الآية على التصيير ، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً أي : ما صَيَّر الله بحيرةً
مشروعةً .
والبَحيرة : فَعِلية بمعنى مَفْعولة ، فدخولُ تاءِ التأنيث عليها/ لا ينقاس ، ولكن
لَمَّا جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ الجوامدِ أُنِّثت ، وهذا قد أوضَحْتُه في قولِه {
والنطيحة } [ المائدة : 3 ] . واشتقاقُها من البَحْر ، والبَحْر : السَّعَةُ ،
ومنه » بَحْرُ الماءِ « لسَعَتِه . واختلف أهلُ اللغة في البَحِيرة عند العرب ما
هي؟ اختلافاً كثيراً . فقال أبو عبيد : » هي الناقةُ التي تُنْتِج خمسةَ أبطنٍ في
آخرها ذَكَرٌ فتُشَقُّ أذنُها وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ
عن مَرْعَى ولا ماءٍ ، وإذا لَقِيها المُعْيي لم يركبها . وروي ذلك عن ابن عباس ،
إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكَرا وقال بعضهم : « إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن نُظر
في الخامس : فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شَقُّوا أذنها وتركوها
تَرْعى وتَرِدُ ولا تُرِكَبُ ولا تُحلب فهذه هي البحيرة » ورُوِي هذا عن قتادة .
وقال بعضهم : « البحيرة : الأنثى التي تكون خامسَ بطنٍ كما تقدَّم بيانُه ، إلا
أنها لا يَحِلُّ للنساء لحمها ولا لبنها ، فإنْ ماتت حَلَّت لهن » وقال بعضهم : «
البحيرة : بنت السائبة » وسأتي تفسير السائبة ، فإذا وَلدت السائبة أنثى شقوا
أذنها وتركوها مع امها ترعى وتَرِدُ ولا تكرب حتى للمُعْيّي ، وهذا قولُ مجاهد بن
جبر . وقال بعضُهم : « هي التي مُنِع دَرُّها - أي لَبَنُها - لأجل الطواغيت ، فلا
يَحْلِبُها أحدٌ . وقال بهذا سعيد بن المسيب . وقيل : هي التي تُتْرَكُ في المَرْعى
بلا راعٍ ، قاله أبنُ سيده وقيل : إذا وَلَدَتْ خمسَ إناث شَقُّوا أذنَها وتركوها
. وقال بعضُهم - ويُعْزَى لمسروق - : » إنها إذا وُلِدت خمساً أو سبعاً شَقُّوا
أذنَها « وقيل : هي الناقةُ تَلِدُ عشرةَ أبطن فَتُشَقُّ أذنُها طولاً بنصفين ،
وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماء ، وإذا ماتَتْ
حَلَّ لحمُها للرجال دون النساء » ، نقله ابن عطية ، وكذا قاله أبو القاسم الراغب
.
وقيل
: البحيرة السِّقْبُ إذا وُلِد نحروا أذنه ، وقالوا : اللهم إن عاش فَقَنِيّ وإن
مات فَذَكيّ ، فإذا مات أكلوه . ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرةَ أنَّ العربَ
كانت تختلف أفعالُها في البحيرة .
والسائبة قيل : كان الرجلُ إذا قَدِم من سفر أو شكر نعمة سَيِّبَ بعيراً فلم
يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدم في البحيرة ، وهذا قول أبي عبيد . وقيل : هي الناقة
تُنْتِجُ عشر إناث فلا تُرْكب ولا يَشْرب لبنها إلا ضيفٌ أو ولدٌ ، قاله الفراء
وقيل : ما تُرِك لآلهتهم ، فكان الرجل يجيء بماشيته إلى السدنة فيتركه عندهم ويسيل
لبنه . وقيل : هي النقة تُتْرك ليُحَجَّ عليها حَجَّة ، ونُقِل ذلك عن الشافعي .
وقيل : هوالعبدُ يُعْتَقُ ألاَّ يكونَ عليه ولاءٌ ولا عقلٌ ولا ميراثٌ .
والسائِبَةُ هنا : فيها قولان ، أحدُهما : أنها اسم فاعل على بابه من ساب يَسِيب
أي يَسْرَح ، كسَيِّب الماء ، وهو مطاوعُ سِبْتُه ، يقال : سَيَّبْتُه فساب وانساب
. والثاني : أنه بمعنى مَفْعول نحو : « عيشةٌ راضية » ومجيءُ فاعِل بمعنى مَفْعول
قليلٌ جداً نحو : « ماء دافق » والذي ينبغي أَنْ يُقال : إنه فاعل بمعنى ذي كذا أي
: بمعنى النسب ، نحو قولهم : لابن أي : صاحبُ لبن ، ومنه في أحدِ القولين : «
عيشةٌ راضية وماء دافق » أي : ذات رضى وذا دفق ، وكذا هذا ، أي : ذات سَيْبٍ .
والوصيلةُ هنا فَعِيلة بمعنى فاعِله على ما سيأتي تفسيره ، فدخول التاءِ قياسٌ .
واختلف أهلُ اللغةِ فيها هل هي من جنسِ الغنم أو من جنس الإِبل؟ ثم اختلفوا بعد
ذلك أيضاً ، فقال الفراء : « هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعةَ أبطن عَنَاقَيْن عَناقَيْن
، فإذا وَلَدَت في آخرها عَناقاً وجَدْياً قيل : وصلت أخاها فَجَرّتْ مَجْرى
السائبة » وقال الزجاج : « هي الشاة إذا وَلَدتْ ذكراً كان لآلهتهم ، وإذا ولدت
أنثى كانت لهم » وقال ابن عباس : - رضي الله عنه - هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعة أبطن ،
فإذا كان السابع أنثى لم تنتفع النساءُ منها بشيء ، إلا أَنْ تموتَ فيأكلَها
الرجال والنساء ، وإنْ كانت ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً ، وإنْ كان ذكراً وأنثى
قالوا : وَصَلت أخاها فيتركونها معه لا تُذْبَحُ ولا ينتفع بها إلا الرجالُ دونَ
النساء ، فإنْ ماتَتْ اشتركنْ مع الرجال فيها « . وقال ابن قتيبة : » إن كان
السابع ذكراً ذُبح وأكله الرجال دونَ النساء ، وقالوا : « خالصةٌ لذكورِنا
ومُحَرَّمٌ على أزواجِنا » وإنْ كان أنثى تُرِكَتْ في الغنم ، وإن كان ذكراً وأنثى
فكقول ابن عباس : وقيل : « هي الشاة تنتج عشر إناثٍ متواليِاتٍ في خمسة أبطن ثم ما
وَلَدت بعد ذلك فاللذكور دون الإِناث ، وبهذا قال أبو اسحاق وأبو عبيدة ، إلا ان
أبا عبيدة قال : » وإذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا : وَصَلت أخاها فلم يذبحوه
لمكانها « .
وقيل
: هي الشاة تنتج خمسةَ أبطن أو ثلاثةً ، فإن كان جَدْياً ذبحوه ، وإن كان أنثى
أَبْقَوْها ، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها هذا كلُّه عند مَنْ
يَخُصُّها بجنس الغنم . وأما من قال إنها من الإِبل فقال : « هي الناقة تبتكر فتلد
أنهى ثم تُثَنَّي بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ، ويقولون :
قد وَصَلَت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر » .
والحامي : اسمُ فاعل من حَمَى يَحْمي أي : منع ، واختلف فيه تفسير أهل اللغة ، فعن
الفراء : « هو الفحل يُولد لولدِ ولدِه » فيقولون : قد حَمَى ظهرَه ، فلا يُرْكب
ولا يُستعمل ولا يُطْرَدُ عن ماء ولا شجر « وقال بعضهم : » هوالفحل يُنْتِجُ من
يبن أولاده ذكورها وإناثها عشرَ إناث « روى ذلك ابن عطية وقال بعضُهم : » هوالفحل
يولَدُ من صلبِه عشرةُ أبطن ، فيقولون قد حمى ظهره ، فيتركونه كالسائبة فيما تقدم
، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج ورُوِي عن الشافعي
أنه الفحل يَضْرِب في مال صاحبه عشرَ سنين . وقال ابن زيد : « هو الفحل يُنتج له
سبع إناث متواليات فيحمي ظهرَه فيُفْعل به ما تقدم . وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة
في هذه الأشياء أنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها . وقد أنشدوا
في البَحِيرة قوله :
1845- مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ الناسُ لحمَها ... ولا نحن في شيءٍ كذاك البحائرُ
وأنشد في السائبة قوله :
1816- وسائبةٍ لله مالي تشكُّرا ... إنِ اللّهُ عافَى عامراً أو مجاشعا
وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شراً :
1817- أجِدَّك أمَّا كنت في الناسِ ناعقاً ... تراعي بأَعْلى ذي المجازِ الوَصايلا
وأنشدوا في الحامي قوله :
1818- حَماها أبو قابوسَ في عِزِّ ملكِه ... كما قد حَمَى أولادَ أولادهِ الفحلُ
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قوله
تعالى : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } : « حسبنا » مبتدأ وقد
تقدم أنه في الأصل مصدرٌ والمرادُ به اسم الفاعل أي : كافينا ، وتفسيرُ ابن عطية
له ب « كفانا » تفسيرُ معنىً لا إعراب . و « ما وَجَدْنا » هو الخبر ، و « ما »
ظاهرُها أنها موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي : كافينا الذي وجدنا ،
و « وجد » يجوز أن يكون بمعنى المصادفة ، ف « عليه » يجوز فيه وجهان ، أحدهما :
أنه متعلق ب « وجدنا » وأنه متعدٍ لواحد . والثاني : أنه حال من « آباءنا » أي
وجدناهم مستقرين عليه ، ويجوز أن يكونَ بمعنى العلم فيتعدى لاثنين ثانيهما « عليه
» .
وقوله : { أَوَلَوْ كَانَ } قد تقدم إعراب هذا في البقرة وما قالوا فيه : وأنَّ «
لو » هنا معناها الشرط وأنَّ الواوَ للحال ، وتقدم تفسيرُ ذلك كله فأغنى عن إعادته
، إلا أنَّ ابنَ عطية قال هنا . « ألف التوقيف دخلت على واو العطف » قلت : «
تسميةُ هذه الهمزةِ للتوقيف فيه غرابةٌ في الاصطلاح . وجَعَل الزمخشري هذه الواوَ
للحال ، وابنُ عطية جعلها عاطفةً ، وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة فعليك
بالالتفات إليه ، واختلاف الألفاظ في هاتين الآيتين - أعني أية البقرة وآية
المائدة - من نحو قولِه هناك : » اتبعوا « وهنا » تعالَوْا « وهناك » أَلْفَيْنا «
وهنا » وجدنا « من باب التفنّن في البلاغة ، فلا تُطْلَبُ له مناسبةٌ ، وإن كنتُ
قد تكلَّفْتُ ذلك ونقلته عن الناس في كتاب » التفسير الكبير « .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قوله
تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } : الجمهورُ على نصب « أنفسكم » وهو منصوب على
الإِغراء ب « عليكم »؛ لأنَّ « عليكم » هنا اسمُ فعل إذ التقدير : الزموا أنفسَكم
أي : هدايتَها وحِفْظَها مِمَّا يؤذيها ، ف « عليكم » هنا يرفع فاعلاً تقديره :
عليكم أنتم ، ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوع نحو : « عليكم أنتم وزيدٌ الخيرَ
» كأنك قلت : الزموا أنتم زيدٌ الخيرَ . واختلف النحاة في الضميرِ المتصلِ بها
وبأخواتِها نحو : إليك ولديك ومكانك ، فالصحيح أنه في موضعِ جر كما كان قبلَ
تُنْقَلَ الكلمة إلا الإِغراء ، وهذا مذهب سيبويه واستدل له الأخفش بما حكى عن
العرب « على عبدِ الله » بجرِّ « عبد الله » وهو نص في المسألة . وذهب الكسائي إلى
أنه منصوب المحل وفيه بُعْدٌ لنصب ما بعدهما ، أعني « على » وما بعدها كهذه الآية
. وذهب الفراء إلى انه مرفوعُه ، وقد حَقَّقْتُ هذه المذاهبَ بدلائلها مبسوطة في «
شرح التسهيل » . وقال أبو البقاء : - بعد أن جعل « كم » في موضع جر ب « على »
بخلافِ رُوَيدَكم فإن الكاف هناك للخطاب ولا موضعَ لها ، فإن « رويد » قد
استُعْمَلِتْ للأمر المواجَهِ من غير كاف الخطاب ، وكذا قولُه تعالى : {
مَكَانَكُمْ } [ يونس : 28 ] « كم » في محل جر « . قلت : في هذه المسألة كلامٌ
طويل ، صحيحُه أنَّ » رويد « تارةً يكون ما بعدها مجرورَ المحلِّ وتارةً منصوبَه ،
وليس هذا موضعه ، وقد قَدَّمْتُ في سورةِ النساءِ الخلافَ في جواز تقديم معمول هذا
الباب عليه .
وقرأ نافع بن أبي نعيم : » أنفسُكم « رفعاً فيما حكاه عنه صاحب » الكشاف « وهي
مُشْكَلِةٌ وتخريجُها على أحد وجهين : إما الابتداء ، و » عليكم « خبره مقدم عليه
، والمعنى على الإِغراء أيضاً ، فإن الإِغراء قد جاء بالجملة الابتدائية ، ومنه
قراءةُ بعضِهم { ناقةُ الله وسُقْياها } [ الشمس : 13 ] وهذا تحذيرٌ وهو نظيرُ
الإِغراء ، والثاني من الوجهين : أن تكون توكيداً للضمير المستترِ في » عليكم «
لأنه كما تقدم قائمةٌ مقامَ الفعل ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيد
بضمير منفصل ، والمفعول على هذا محذوفٌ ، تقديرُه : عليكم أنتم أنفسُكم صلاح حالكم
وهدايتكم .
قوله : { لاَ يَضُرُّكُمْ } قرأ الجمهور بضم الراء مشددة . وقرأ الحسن البصري : {
لا يَضُرْكم } بضم الضاد وسكون الراء ، وقرأ إبراهيم النخعي : { لا يَضِرْكم }
بكسر الضاد وسكون الراء ، وقرأ أبو حيوة : { لا يَضْرُرُكم } بسكون الضاد وضم
الراء الأولى والثانية . فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونَ
الفعلُ فيها مجزوماً على جواب الأمر في » عليكم « وإنما ضُمَّت الراءُ إتباعاً
لضمةِ الضاد ، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى نُقِلَتْ للضادِ لأجلِ إدغامها
في الراء بعدها ، والأصل : { لا يَضْرُرْكم } ، ويجوز أن يكونَ الجزمُ لا على وجه
الجواب للأمرِ ، بل على وجهِ أنه نهيٌ مستأنف ، والعملُ فيه ما تقدَّم ، وينصُر
جوازَ الجزم هنا على المعنيين المذكورَيْن من الجواب والنهي قراءةُ الحسن والنخعي
فإنهما نَصٌّ في الجزم ولكنهما محتملتان للجزمِ على الجوابِ أو النهي .
والوجه
الثاني : أن يكونَ الفعلُ مرفوعاً وليس جواباً ولا نهياً ، بل هو مستأنفٌ سِيقَ
للإِخبار بذلك ، وينصرُه قراءةُ أبي حيوة المتقدمة .
وأمَّا قراءةُ الحسنِ فَمِنْ { ضارَه يَضُوره } كصانَه يصونه . وأما قراءة النخعي
فمِنْ { ضاره يضيره } كباعة يَبيعه ، والجزم فيهما على ما تقدم في قراءة العامة من
الوجهين . وحَكَى أبو البقاء : « لا يَضُرَّكم » بفتح الراء ، ووجهها على الجزم ،
وأن الفتح للتخفيف وهو واضح ، والجزم على ما تقدم أيضاً من الوجهين . وهذه كلُّها
لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران .
و { مَّن ضَلَّ } فاعل ، و « إذا » ظرفٌ ناصبُه « يَضُرُّكم » أي : لا يَضُرَّكم
الذي ضلَّ وقتَ اهتدائِكم ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ
الكلام عليه . وقال أبو البقاء : « ويبعد أن تكون ظرفاً ل » ضَلَّ « لأنَّ المعنى
لا يَصِحُّ معه » . قلت : لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّن يضل وقت
اهتدائهم ، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينفي عنهم ضرر مَنْ ضَلَّ في غيرِ وقتِ اهتدائهم
، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذَكَرَه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
قوله
تعالى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } : هذه الآية وما بعدها من أشكلِ القرآنِ حُكْماً
وإعراباً وتفسيراً ، ولم يَزَلِ العلماء يستشكلونها ويَكِعَّون عنها حتى قال مكي
بن أبي طالب - رحمه الله- في كتابه المسمى بالكشف : « هذه الآيةُ في قراءتها
وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامِها من أصعب آيٍ في القرآن وأشكلِها ، قال : »
ويحتمل أن يُبْسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر « قال : وقد ذكرناها
مشروحة في كتاب مفرد » . وقال ابن عطية : « وهذا كلام من لم يقع له الثلج في
تفسيرها ، وذلك بَيِّنٌ من كتابه » وقال السخاوي : « لم أر أحداً من العلماء
تَخَلَّص كلامُه فيها من أولها إلى آخرها » . وقال الواحدي : « وهذه الآية وما
بعدها من أغوص ما في القرآن معنى وإعراباً » قلت : وأنا أستعين الله تعالى في
توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها مِمَّا
يختصُّ بهذا الموضوع ، وأمَّا بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه في كتابي «
تفسير القرآن العزيز » إنْ شاء الله ، وبه الحول والقوة .
قرأ الجمهور { شهادةُ بينكم } برفع « شهادة » مضافة ل « بينكم » . وقرأ الحسن
والأعرج والشعبي برفعها منونة ، « بينَكم » نصباً . والسلمي والحسن والأعرج - في
رواية عنهما - « شهادةً » منونةً منصوبة ، « بينَكم » نصباً . فأمَّا قراءة
الجمهور ففي تخريجهما خمسة أوجه ، أحدها : أنها مرفوعةٌ بالابتداء ، وخبرُها «
اثنان » ولا بد على هذا الوجهِ من حذف مضافٍ : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني
، فتقديرُه من الأول : ذوا شهادةِ بينكم اثنان ، أي صاحبا شهادةِ بينكم اثنان ،
وتقديرُه من الثاني : شهادةُ بينِكم شهادُة اثنين ، وإنما اضطررنا إلى حذفٍ من
الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبر على شيء واحد ، لأنَّ الشهادةَ معنًى
والاثنان جثتان ، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو : « زيدٌ عدلٌ » وهما جعله
نفسَ المصدر مبالغةً أو وقوعُه اسم الفاعل ، لأنَّ المعنى يأباهما هنا ، إلا أنَّ
الواحدي نقل عن صاحب « النظم » أنه قال : « شهادة » مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسماء «
يريد بالشهادة الشهود ، كما يقال : رجلٌ عَدْلٌ ورِضا ، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْر
، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشهود كان على حذف المضاف ، ويكون المعنى : عدةُ شهودٍ
بينكم اثنان ، واستشهد بقوله : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] أي : وقت الحج
، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل : الحج في اشهر » . قلت فعلى ظاهر أنه جَعَلَ
المصدر نفسَ الشهود مبالغةً ، ولذلك مَثَّله ب « رجال عدل » وفيه نظر . الثاني :
أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً ، وخبرها محذوف يَدُلُّ عليه سياق الكلام ، و «
اثنان » على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو « شهادة » والتقدير : فيما فرض عليكم أن
يشهد اثنان ، كذا قَدَّره الزمخشري وهو أحد قولي الزجاج ، وهو ظاهرُ جداً ، و «
إذا » على هذين الوجهين ظرف ل « شهادة » أي ليُشْهَد وقت حضور الموت - أي أسبابه -
و « حين الوصية » على هذه الأوجه فيه ثلاثة أوجه ، أوجهها : أنه بدلٌ من « إذا »
ولم يذكر الزمخشري غيره ، قال : « وفي إبدالِه منه دليلٌ على وجوبِ الوصية » .
الثاني
: أنه منصوبٌ بنفسِ الموت أي : يقع الموت وقت الوصية ، ولا بُدَّ من تأويله
بأسبابِ الموت؛ لأنَّ وقتَ الموت الحقيقي لا وصيةَ فيه . الثالث : انه منصوبٌ ب «
حَضَر » أي : حَضَر أسبابَ الموت حين الوصية .
الثالث : أنَّ « شهادةُ » مبتدأ وخبره : « إذا حضر » أي وقوعُ الشهادة في وقتِ
حضور الموت/ ، و « حين » على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً ، ولا يجوزُ فيه
والحالةُ هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ
صلتِه وهو لا يجوز ، وقد عرفت شرح ذلك مِمَّا مَرًَّ . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا
الوجهَ لم يستدرك هذا ، وهو عجيب منه . الرابع : أنَّ « شهادة » مبتدأُ ، وخبرُها
« حين الوصية » و « إذا » على هذا منصوبٌ بالشهادة ، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية
وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدرَ المؤولَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريين ولو
كان ظرفاً ، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأنَّ تقديم
المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه ، ولم يجوِّزوا
تقديمَ معمولِ المضاف إليه على المضاف إلا في مسألة واحدة وهي : إذا كان المضافُ
لفظة « غير » ، وأنشدوا :
1819- إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
ف « عندي » منصوبُ ب « مكفور » ، قالوا : لأنَّ « غير » بمنزلة « لا » ، و « لا »
يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها . وقد ذكر الزمشخري ذلك آخرَ الفاتحة ، وذكر
أنه يجوزُ « أنا زيداً غيرُ ضارب » دون « أنا زيداً مثلُ ضارب » . و « اثنان » على
هذين الوجهين الآخيرين يرتفعان على أحدِ وجهين : إمَّا الفاعليةِ أي : « يشهد
اثنان » يدل عليه لفظ « شهادة » وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب « شهادة
» أيضاً أي : الشاهدان اثنان .
الخامس : أنَّ « شهادةُ » مبتدأ ، و « اثنان » فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر ، ذكره أبو
البقاء وغيره وهو مذهبُ الفراء ، إلا أنَّ افراء قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقعَ
فعلِ الأمر كأنه قال : « ليشهد اثنان » فجعله من باب نيابةِ المصدرِ عن فعل الطلب
، وهو مثل « الحمدُ لله » و
{
قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] من حيث المعنى ، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو : «
ضَرْبي زيداً قائماً » يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر ، وهذا مذهب ضعيفٌ
ردَّه النحويون ، ويخصون ذلك بالوصفِ المعتمدِ على نفي أو استفهام نحو : « قام
أبواك » وعلى هذا المذهب ف « إذا » و « حين » ظرفان منصوبان على ما تقرَّر فيهما
في غير هذا الوجه . وقد تحصَّلْنا فيما تقدَّم أن رفع « شهادة » من وجه واحد وهو
الابتداء ، وفي خبرها خمسة أوجه تقدَّم ذكرُها مفصلةً ، وأنَّ رفع « اثنان » من
خمسة أوجه ، الأول : كونه خبراً لشهادة بالتأويل المذكور ، الثاني : أنه فاعل ب «
شهادة » ، الثالث : أنه فاعل ب « يشهد » مقدراً ، الرابع : أنه خبر مبتدأ أي :
الشاهدان اثنان . الخامس أنه فاعل سَدَّ مسدَّ الخبر . وأنَّ في « إذا » وجهين :
إمَّا النصبَ على الظرفية ، وإمَّا الرفعَ على الخبرية ل « شهادة » ، وكل هذا
بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبل . وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدم في
قراءة الجمهور من غير فرق .
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وإليه ذهب ابن جني - : أنها
منصوبةٌ بفعل مضمر ، و « اثنان » مرفوع بذلك الفعل ، والتقدير : لِيُقِمْ شهادةَ
بينكم اثنان ، وتبعه الزمشخري على هذا فذكره . وقد ردَّ الشيخ هذا بأن حَذْفَ
الفعل وإبقاء فاعله لم يُجِزْه النحويون إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله كقوله تعالى :
{ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 3637 ] في قراءة ابن
عامر وأبي بكر أي : يسبحه رجال ، ومثله ، :
1820- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ
وفيه خلافٌ : هل يُنْقاسُ أو لا؟ أو يُجاب به نفي كقوله :
1821- تَجَلَّدْتُ حتى قيل : لم يَعْرُ قلبَه ... من الوجدِ شيءٌ قلتُ : بل أعظمُ
الوَجْدِ
أي : بل عراه أعظمُ الوجد ، أو يُجاب به استفهامٌ كقوله :
1822- ألا هَلْ أتى أمَّ الحويرثِ مُرْسِلي ... نعم خالدٌ إنْ لم تُعِقْه
العوائِقُ
أي : بل أتاها أو يَأْتيها ، وما نحن فيه ليس من الأشياء الثلاثة . الثاني : أن «
شهادةً » بدل من اللفظ بفعل أي : إنها مصدر ناب مناب الفعل فيعملُ عملَه ،
والتقدير : لِيَشْهد اثنان ، ف « اثنان » فاعل بالمصدر لنيابته منابَ الفعلِ ، أو
بذلك الفعلِ المحذوفِ على حَسَبِ الخلاف في أصل المسألة ، وإنما قَدَّرْتُه «
ليشهد اثنان » فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر ، ولم أقدِّرْه فعلَ
أمرٍ بصيغة « افعل » كما يُقَدَّرُه النحويون في نحو : « ضرباً زيداً » أي :
اضرِبْ ، لأنَّ هذا قد رَفَع ظاهراً وهو « اثنان » وصيغةُ « افعل » لا ترفع إلا
ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً ، ومثلُه قوله :
1823-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ
الثَّعالِبِ
ف « زريق » يجوز أن يكون منادى أي : يا زرق ، والثاني : أنه مرفوع ب « ندلاً » على
أنه واقعٌ موقع « ليندلْ » وإنما حُذِف تنوينه/ لالتقاء الساكنين على حَدِّ قوله :
1824- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
الثالث : أنَّ « شهادةً » بدل من اللفظ بفعل أيضاً ، إلا أنَّ هذا الفعل خبري وإن
كان أقلَّ من الطلبي نحو : « حمداً وشكراً لا كفراً » و « اثنان » أيضاً فاعلٌ به
تقديرُه : يشهد شهادةً اثنان ، وهذا أحسن التخاريج المذكورة في قول امرئ القيس :
1825- وقوفاً بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
« وقوفاً » مصدرٌ بدلٌ من فعل خبري رفع « صحبي » ونصب « مطيهم » تقديره : وقف صحبي
، وقد تقدَّم أنَّ الفراء في قراءة الرفع قَدَّر أن « شهادة » واقعةٌ موقعَ فعل ،
وارتفع « اثنان » بها ، وتقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكونَ مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل
مسدَّ الخبر . و « بينكم » في قراءةِ مَنْ نوَّن « شهادة » نصبٌ على الظرف وهي
واضحةٌ .
وأمَّا قراءةُ الجر فيها فَمِنْ باب الاتساع في الظروف أي بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ
لذلك الفعلِ ، ومثلُه : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] وكقوله
تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمن رفع قال الشيخ : «
وقال الماتريدي - وتبعه الرازي إنَّ الأصلَ » ما بينكم « فحذف » ما « . قال الرازي
: » وبينكم « كنايةٌ عن التنازع ، لأنه إنما يُحتاج إلى الشهود عند التنازع ،
وحَذْفُ » ما « جائزٌ عند ظهورِه ، ونظيرُه كقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ
بَيْنَكَمْ } في قراءة من نصب » . قال الشيخ : « وحَذْفُ » ما « الموصولة غيرُ
جائز عند البصريين ، ومع الإِضافة لا يَصِحُّ تقدير » ما « البتة ، وليس قولُه {
هذا فِرَاقُ بَيْنِي } نظيرَ { لقد تقطَّع بينكم } لأن هذا مضافٌ ، وذلك باقٍ على
ظرفيتِه فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ » ما « بخلاف » هذا فراقُ بيني « و » شهادةُ
بينكم « فإنه لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ » ما « لأنَّ الإِضافة أخْرَجَتْه عن
الظرفية وصَيَّرَته مفعولاً به على السعة » قلت : هذا الذي نقله الشيه عنهما قاله
أبو علي الجرجاني بعينه قال - رحمه الله - : « قولُه شهادةُ بينكم » أي : ما بينكم
، و « ما بينكم » كناية عن التنازع والتشاجر ، ثم اضاف الشهادة إلى التنازع لأن
الشهود إنما يحُتاج إليهم في التنازع الواقعِ فيما بين القوم ، والعربُ تضيف الشيء
إلى الشيء إذا كان منه بسبب كقوله تعالى :
{
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِِ } [ الرحمن : 46 ] أي : مقامه بين يدي ربه ،
والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذِكْرَ « ما » و « مَنْ » في الموضع الذي يُحتاج إليهما
فيه كقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } [ الإِنسان : 20 ] أي : ما ثَمَّ ، وكقوله
: { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } و { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أي ما
بيني ، وما بينكم « ، وقول الشيخ » لا يُتَخَيَيَّل فيه تقدير « ما » إلى آخره «
ممنوعٌ لأنَّ حالة الإِضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف ، ولا يَلْزم من
ذلك أَنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى لا من حيث الإِعرابُ نظراً إلى الأصلِ ،
وأمَّا حَذْفُ الموصولِ فقد تقدَّم تحقيقُه .
وقوله : { ذوا } صفةٌ لاثنين أي : صاحبا عدل ، وكذلك قولُه » منكم « صفة أيضاً
لاثنين ، وقوله : { أَوْ آخَرَانِ } نسقٌ على اثنين ، و » من غيركم « صفةٌ
لآخَرَين والمراد ب » منكم « من قرابِتكم وعِتْرَتِكم ، ومن غيركم من المسلمينَ
الأجانبِ وقيل : » منكم « من أهل دينكم ، » ومن غيركم « من أهل الذمة . ورجَّح
النحاسُ الأولَ ، فقال : » هذا يَنْبني على معنىً غامضٍ في العربية ، وذلك أنَّ
معنى « آخر » في العربية من جنس الأولِ تقولُ : « مررت بكريمٍ وكريم آخر » ولا
يجوز « وخسيس آخرَ » ولا : « مررت بحمارٍ ورجلٍ آخرَ » ، فكذا هنا يجب أن يكون «
أو آخَران » : أو عَدْلان آخران ، والكفارُ لا يكونون عُدولاً . وردَّ الشيخ ذلك
فقال : « أمَّا ما ذكره من المُثُل فصحيح لأنه مَثًَّل بتأخير » آخَر « وجَعَلَه
صفة لغير جنس الأول ، وأمَّا الآية فمن قبيل ما يُقَدَّم فيه » آخر « على الوصف
واندرج » آخر « في الجنس الذي قبلَه ، ولا يُعْتَبرُ وصفُ جنس الأول ، تقول : »
مررتُ برجلٍ مسلمٍ وآخرَ كافرٍ ، واشتريت فرساً سابقاً وآخرَ بطيئاً « ولو
أخَّرْتَ » آخر « في هذين المثالين فقلت : » مررتُ برجل مسلم وكافر آخر « لم
يَجُزْ ، وليس الآية من هذا لأن تركيبَها » اثنان ذوا عَدْل منكم أو آخران من غيركم
« ف » آخران « من جنسِ قوله » اثنان « ولا سميا إذا قَدَّرْته : » رجلان اثنان « ف
» آخران « هما من جنس » رجلان اثنان « ، ولا يُعتبر وصفُ قولِه : » ذوا عدل منكم «
وإن كان مغايراً لقوله » من غيركم « ، كما لا يُعتبر وصفُ الجنس في قولك : » عندي
رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران « ، إذ ليس من شرطِ » آخر « إذا تقدم أن يكون من
جنس الأول بقيد وصفِه ، وعلى ما ذكرته جاء لسان العرب قال الشاعر :
1826-
كانوا فريقين يُصْفون الزِّجاجَ على ... قُعْسِ الكواهلِ في أَشْداقِها ضَخَمُ
وآخَرين تَرَى الماذِيَّ فوقَهُمُ ... مِنْ نَسْجِ داودَ او ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
التقدير : كانوا فريقين : فريقاً - أو ناساً - يُصْفون الزجاج ، ثم قال : وآخرين
ترى الماذِيَّ ، ف « آخرين » من جنس قولك « فريقاً » ولم يعتبره بوصفه بقوله «
يصفون الزجاج » لأنه قَسَّم مَنْ ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنس .
قال : « وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يفهمه فضلاً عَمَّنْ يعرفه » .
وقوله : { أو } الظاهرُ أنها للتخيير ، وهو واضحٌ على القول بأن معنى « من غيركم »
. من غير أقاربكم من المسلمين ، يعني الموصي مخيِّرٌ بين أَنْ يُشْهِد اثنين من
أقاربه أو من الأجانبِ المسلمين ، وقيل : « أو » للترتيب أي : لا يُعْدَلُ عن
شاهدَيْن منكم إلا عند فَقْدِهما ، وهذا لايجيء إلا إذا قلنا « من غيركم » : من
غير أهل مِلَّتكم .
قوله : { إِنْ أَنتُمْ } « أنتم » مرفوعٌ محذوفٍ يفسِّره ما بعده وهي مسألة
الاشتغال ، والتقديرُ : إنْ ضَرَبْتُم ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ،
وهذا مذهبُ جمهور البصريين ، وذهب الأخفشُ منهم والكوفيون إلى جواز وقوعِ المبتدأ
بعد « إنْ » الشرطية كما أجازوه بعد « إذا » أيضاً ، ف « ضربتم » لا محلَّ له عند
الجمهور لكونه مفسِّراً ، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش لكونه خبراً ،
ونحوُه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] ، { إِذَا
الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] . وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه قوله تعالى :
{ اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ } ولكنَّ تقديرَ هذا الجوابِ يتوقف
على خلافٍ في هذا الشرط : هل هو قيدٌ في أصلِ الشهادة أو قيدٌ في « آخران مِنْ
غيركم » فقط؟ بمعنى أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصية إلى أهلِ الذمةِ
إلا بشرطِ الضربِ في الأرض وهو السفر . فإن قيل : هو شرطٌ في أصلِ الشهادةِ
فتقديرُ الجوابِ : إنْ ضَرَبْتُم في الأرضِ فليشهد اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم ،
وإنْ كان شَرَطاً في العدول إلى آخَرَين من غير الملَّة فالتقدير : فأشْهِدُوا
آخَرَيْن من غيركم ، أو فالشاهد آخران من غيركم ، فقد ظهر انَّ الدالَّ على جواب
الشرط : إمَّا مجموعُ قوله : « اثنان ذوا عدل إلى آخره » على القولِ الأول ،
وإمَّا « أو آخران من غيركم » فقط على القولِ الثاني .
والفاء في « فأصابتكم » عاطفةٌ هذه الجملةَ على نفس الشرط ، وقوله تعالى : {
تَحْبِسُونَهُمَا } فيه وجهان : أحدُهما : أنها في محلِّ رفع صفةَ ل « آخران »
وعلى هذا فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها ،
فإنَّ قوله « تَحْبسونهما » صفةٌ لقوله « آخران » وإلى هذا ذهب الفارسي ومكي بن
أبي طالب والحوفي وأبو البقاء وابن عطية وقد أوضح الفارسي ذلك بعبارةٍ خاصةٍ فقال
: « تحبسونهما صفةُ ل » آخران « واعترض بقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي
الأرض } وأفاد الاعتراضُ أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة أو القرابة
حَسَبَ اختلاف العلماء فيه إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه ، واستغنى عن
جواب » إنْ « لِما تقدَّم في قولِه » آخران من غيركم « قلت : فقد ظهر من كلامه أن
يجعلُ الشرطَ قيداً في » آخران من غيركم « فقط لا قيداً في أصل الشهادة ، فتقديرُ
الجوابِ على رأيه كما تقدم : » فاستشهدوا آخَرَين من غيركم « أو » فالشاهدان آخران
من غيركم « .
والثاني
: أنه لا محلَّ له لاستئنافِه ، وإليه ذهب الزمخشري قال : « فإنْ قلت : ما موقعُ
قولِه : { تَحْبِسُونَهُمَا } ؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل : بعد اشتراطِ
العدالة فيهما : فكيف نعمل إنْ ارتَبْنا فيهما؟ فقيل : تَحْبِسونهما » . وهذا الذي
ذكرَه أبو القاسم أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأولِ الفصلُ بكلام طويل بين
الصفةِ وموصوفِها ، وقال : « اشتراطِ العدالة » بناءً على مختاره في قوله : { أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : أو عَدْلان من الأجانب .
قال الشيخ : « في قوله : » إن أنتم ضربتم « إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب
، إذ لو جَرَى على لفظ » إذا حضَر أحدَكم الموتُ « لكان التركيب : إن هو ضرب في
الأرض فاصابته ، وإنما جاء الالتفات جمعاً لأنَّ » أحكم « معناه : إذا حضر كلَّ
واحد منكم الموتُ » . وفيه نظرٌ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطاب الأول من قوله :
{ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى آخره . وقال ابن عباس :
« في الكلامِ حذفٌ تقديرُه : فأصابتكم مصيبةُ الموت وقد أشهدتموهما على الإِيصاءِ
» . وعن سعيد بن جبير : تقديره « وقد أوصيتم » . قال بعضُهم : « هذا أَوْلى لأنَّ
الوصِيَّ يحلف والشاهدَ لا يَحْلِفُ » . والخطابُ في « تحبسونهما » لولاةِ الأمور
لا لِمَنْ خوطب بإصابتِه الموتَ لأنه يتعذَّر ذلك فيه . و « من بعد » متعلق ب «
تحبسونهما » ومعنى الحَبْسِ : المنعُ ، يقال : حَبَسْتُ وأَحَبَسْتُ فرسي في سبيل
الله فهو مُحْبَسٌ وحبيس . ويقال لمصنعِ الماءِ : « حَبَسْ » لأنه يمنعه ، ويقال :
« حَبَّست » بالتشديد ايضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير
في الفعل نحو : « حَبَّسْتُ الرجال » والأف واللام في « الصلاة » فيها قولان ،
أحدهما : أنها للجنس أي : بعد أيِّ صلاة كانت . والثاني - وهو الظاهر- أنها للعهد
، فقيل : العصر ، وقيل غيرُ ذلك .
قوله : { فَيُقْسِمَانِ } في هذه الفاء وجهان ، أظهرهما : انها عاطفة هذه الجملةَ
على جملةِ قوله : { تَحْبِسُونَهُمَا } فتكون في محل رفع ، أو لا محلَّ لها
حَسْبما تقدَّم من الخلاف .===
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق