الأحد، 14 مايو 2023

المختصر القويم في دلائل نبوة الرسول الكريم إعداد/وليد نور


(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ)

المختصر القويم في دلائل نبوة الرسول الكريم

إعداد/وليد نور

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن الله عزوجل لم يخلق البشر في هذا الكون عبثًا، إنما خلقهم لغاية وهدف أوضحه في كتابه العزيز فقال جل وعلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58]؛ ووعد الله عزوجل مطيعيه الذين يسعون إلى تحقيق هذه الغاية بالسعادة في الدنيا والجنة في الآخرة، أما المعارضين والمخالفين فإن نصيبهم النكد في الدنيا ونار الجحيم في الآخرة.

ولما كانت الغاية من خلق الإنسان وإنشاء الأكوان بهذه المثابة والدرجة الهامة، فإن الله تبارك وتعالى وهو أرحم الراحمين لم يترك خلقه هملاً دون دليل على الطريق إليه وعلى السبيل المؤدى إلى هذه الغاية، فكان أن أرسل الله رسله وأنبيائه إلى الأمم يدعون الناس إلى دين الله ويبينوا لهم الحق ويوضحوا لهم السبل إلى طاعة الله ورضاه، وإلى ما به سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وبهذا يتضح بجلاء أن لأنبياء الله ورسله دور في الحياة أهم من كل الأدوار، فحاجة البشرية إليهم أهم وأعظم من الحاجة إلى الأطباء، بل وأهم من الحاجة إلى الغذاء والهواء لما للإيمان من الأنبياء من دور في تحقيق الغاية التي خلق الإنسان من أجلها.

ولما كان شأن الرسل بهذه المثابة فإن الله عزوجل مدهم من دلائل النبوة بالشيء الكثير والمقصود بدلائل النبوة الإمارات والعلامات التي تثبت نبوة الأنبياء وتؤكد صحة ما يبلغونه عن رب العالمين، ومن رحمة الرب الرحيم بعباده الضعفاء أن جعل دلائل النبوة من الوضوح والكثرة بحيث لا يعمي عنها إلا من فقد البصر والبصيرة.

ولقد سعينا في تلك الرسالة وهذا الكتاب إلى تبيان دلائل نبوة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بشكل مختصر وبأسلوب معاصر يفهمه المسلم وغير المسلم، مما يجعل المؤمن والمعاند يقر بنبوة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم بإذن الله رب العالمين.

وقبل الحديث عن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، بدأنا حديثنا بمقدمة عن حاجة البشر والإنسانية إلى الدين، ردًا على الملحدين من أهل الغرب، وثنينا بمقدمة عرفنا فيها بدلائل النبوة وآثارها، ثم كان الحديث عن محاور دلائل نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا عليها، ولله الفضل والمنة.

وليد عبد الجابر أحمد نور الله

الإسكندرية

حاجة البشر إلى الدين:

خلق الله تبارك وتعالى هذا الكون العظيم وسخره للإنسان لا ليقضى فيه شهواته أو ينعم بلذاته فحسب، ولكن ليعبد الله عزوجل ويقيم شرع الله في الأرض، يقول تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 115-116].

يقول الطبري: "يقول تعالى ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم، لعبا وباطلا وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟"[1].

ويقول الحافظ ابن كثير: "وقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]، يعني هملا.

وقوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي: تقدَّس أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، (لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، فذكر العرش؛ لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي: حسن المنظر بهي الشكل، كما قال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)[لقمان: 10]"[2].

فالله عزوجل لم يخلق الإنسان عبثا، بل خلقه لحكمة وغاية، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56-58].

يقول الشيخ السعدي في تفسيره: "هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم، فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق، فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته، أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته، أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين"[3].

فالغاية من خلق الإنسان هو عبادة الله عزوجل، وهو ما يعرف بالدين، وحاجة البشر إلى الدين أعظم من حاجتهم إلى ما سواه من ضرورات الحياة ، لأن الإنسان لا بد له من معرفة مواقع رضي الله عزوجل ومواقع سخطه، ولا بد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفع والتي تضر، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن للناس أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه.

ولقد فطر الله تبارك وتعالى الناس منذ القديم على التوجه إليه عزوجل بالعبادة، وإن انحرفت الفطرة في بعض فترات التاريخ فإنها لا تنكر وجود الرب عزوجل، ولكنها تتوجه بهذه العبادة إلى ألهة أخرى من اختراعها سواء أكانت الأصنام في الماضي، أو الطبيعة والعلم في الحاضر، يقول المؤرخ الإغريقي "بلوتارك": "قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد".

وقد تضافرت الدلائل الشرعية على أن التدين فطرة فطر الله الناس عليها، فمن أدلة الكتاب قول الحق سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف:172].

ومن أدلة السنة ما ثبت في "لصحيحين" عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)"[4]، فقد اتفقت أدلة الكتاب والسنة على أن التدين جِبِلَّةٌ إنسانية خُلقت مع الإنسان ووجدت بوجوده، إلا أن تنشئة الإنسان وتربيته تؤثر سلبا على جبلة التدين وتنحرف بها عن مسارها الصحيح.

وحاجة الإنسان إلى الرب والدين تفوق كل حاجاته الحياتية، ولعل من الدلائل على أن التدين ضرورة إنسانية، ما يحسه الإنسان في نفسه من ضعف أمام بعض مظاهر قدرة الرب عزوجل، كالرياح العاتية، والبحار الهائجة، والزلازل، والبراكين، فإن الإنسان مهما عظمت قوته، وعظم ذكاؤه، فإنه يبقى ضعيفا أمام هذه الظواهر التي ابتلى الله بها عباده، فيعلم الإنسان من نفسه أن لا قدرة له على دفعها، أو الاحتراز منها، فمن هنا عظمت حاجة الإنسان إلى إله يلجأ إليه ويتوكل عليه، يقول أرنست رينان : "إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الإنسان في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية".

ويقول محمد فريد وجدي : "يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين، لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان، بل إن هذا الميل سيزداد، ففطرة التدين ستلاحق الإنسان مادام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه".

ومن الأمور التي لا يجد الإنسان الإجابة الصحيحة عليها إلا في الدين، هي تلك الأسئلة التي حيرت الفلاسفة منذ القديم: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟!.

ومهما تشغله مطالب العيش عن هذا التساؤل، فإنه لابد وأن يقف يوما ليسأل نفسه هذه الأسئلة الخالدة ؟، ولا إجابة شافية على هذه الأسئلة إلا في الإسلام، الذي يعرف الإنسان: إلى أين يسير بعد الحياة والموت؟ إنه يعرفه أن الموت ليس فناء محضا، ولا عدما صرفا، إنما هو انتقال إلى مرحلة أخرى إلى حياة برزخية بعدها نشأة أخرى توفى فيها كل نفس ما كسبت.

والدين هو الذي يقول لماذا خُلق الإنسان؟، وما الغاية من وجوده؟، فالإنسان لم يخلق عبثا، ولم يترك سدى، إنما خلق لعبادة الرب عزوجل وإعلاء شرعه الذي جاءت به الرسل.

وبهذا الوضوح في الإجابة تستقيم حياة الإنسان وتصلح حال المجتمعات، فيعيش الإنسان في دنياه مطمئنًا مرتبط بالله عزوجل وباليوم الآخر الذي يعلم أن المحسن سوف يكافأ على إحسانه، بينما يعاقب المسئ على إساءته، أما الذي يعيش بدون هذه الأجوبة، ويفتقد لهذا الوضوح فهو إنسان شقي محروم لا يخضع إلا لقوة العصا ولا يعيش إلا لبريق المال ولذة الشهوة، بل إنه في نظر نفسه مخلوق حيواني، ولا يفترق عن الحيوانات الكبيرة التي تدب على الأرض من حوله إلا إنه "حيوان ناطق" فهو يعيش بدون أن يعرف للحياة هدفًا، إنه يرى في نفسه مخلوق صغير تافه لا وزن له ولا قيمة،

وما أقسى حياة إنسان يعيش في جحيم الشك والحيرة أو في ظلمات العمى والجهل، في أخص ما يخصه: في حقيقة نفسه، وسر وجوده، وغاية حياته، إنه الشقي التعيس حقا، وإن غرق في الذهب والحرير وأسباب الرفاهية والنعيم، وحمل أرقى الشهادات، وتسلم أعلى الدرجات.

ومن الحاجات الهامة التي يلبيها الدين، حاجة الإنسان إلى الاطمئنان النفسي، فإن الإنسان في أشد الاحتياج إلى ركن شديد يأوي إليه، وإلى سند متين يعتمد عليه، فإذا ألمت به الشدائد، وحلت بساحته الكوارث، هنا تأتي العقيدة الدينية، لتمنحه القوة عند الضعف، والأمل في ساعة اليأس، والرجاء في لحظة الخوف، والصبر في البأساء والضراء، وحين البأس.

ويجسد هذا الأمر قول الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ يقول: "ما أصبت بمصيبة إلا كان لله علي فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني لم أحرم الرضا عند نزولها، وأنني أرجو ثواب الله عليها".

أما الذي يعيش في دنياه بغير دين، بغير إيمان، يرجع إليه في أموره كلها وبخاصة إذا ادلهمت الخطوب، وتتابعت الكروب، والتبست على الناس المسالك والدروب، فهو يعيش في نكد وهم، يقتله القلق وتدمر حياته الأخبار السيئة، وتمزقه أنباء البورصة وتحركات الأسهم.

يقول المؤرخ البريطاني "آرنولد توينبى": "الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا".

ويقول "ديل كارنيجي" في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة": "إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض".

كذلك فإن الدين يحقق للمجتمع التماسك والترابط والصلاح، فمن أهم حاجات المجتمعات حاجتها إلى بواعث وضوابط؛ بواعث تدفع أفراده إلى عمل الخير، وأداء الواجب وإن لم يوجد من البشر من يراقبهم، أو يكافئهم، وضوابط تحكم علاقاتهم، وتلزم كل واحد منهم أن يقف عند حده، ولا يعتدي على حق غيره أو يفرط في خير مجتمعه، من أجل شهوات نفسه، أو منفعته المادية العاجلة، ولا تحقق القوانين ذلك، بل ما أيسر خرق القوانين لمن لم يكن متدينًا ولعل من الوقائع في هذا الأمر في القديم والحديث الشيء الكثير، ومن ذلك أن مدينة أمريكية انقطعت فيها الكهرباء لمدة ثماني ساعات فما ترك فيه محل إلا وسرق، وما حدث إبان إعصار كاترينا الذي ضرب الساحل الشرقي لأمريكا ليس ببعيد حيث انتشر النهب والسرقة والاغتصاب بشكل لم يتصوره أحد، ولم يكن ذلك إلا بسبب غياب كاميرات المراقبة فظهرت الأخلاق الأمريكية على حقيقتها، وعن أهمية الدين في ضبط المجتمعات يقول " فولتير": "لم تشككون في وجود الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي"، ويقول "بلوتارك": "إن مدينة بلا أرض تقوم عليها، أسهل من قيام دولة بلا إله".

لذلك فإنه لا يوجد على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه.

ولذلك فأنه مهما استعلنت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت، ومهما تعددت الأفكار والنظريات فلن تغني الأفراد والمجتمعاالأنبياء، الصحيح، ولن تستطيع أن تلبي متطلبات الروح والجسد ، بل كلما توغل الفرد فيها أيقن تمام اليقين أنها لا تمنحه آمنا ، ولا تروي له ظمأ ، وألا مهرب منها إلا إلى الدين الصحيح.

دور الرسل في نقل الدين:

كما رأينا فإن الإنسان لا يستغنى عن الدين، بل إنه لا حياة لمن لا دين له، وإن كانت الفطرة السليمة تتوجه بطبيعتها إلى الرب عزوجل وإذا كان العقل الصحيح يقر بالإله القدير، إلا إن معرفة الطريق الموصلة إلى رضا الرب الجليل ومعرفة النهج المحقق للغاية من خلق الإنسان لا تستطيع أن تقوم به الفطرة أو يقوم به العقل، بل لابد من رسل يبلغون الناس ما يرضى ربهم، ويحذرونهم مما يسخط الرحمن عزوجل.

إن أعظم ما يجب على الإنسان أن يعلمه في هذه الحياة معرفة ربه الذي أوجده من عدم، وأسبغ عليه النعم، وإن أعظم غاية خلق الله الخلق لأجلها هي عبادته وحده سبحانه، فكيف يعرف الإنسان ربه حق معرفته وما يجب له من الحقوق والواجبات؟ وكيف يعبد ربه؟، هل يعرف ذلك عن طريق العقول؟، لا لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة مراد الله منها، إذ العقل البشري أضعف من أن يدرك مراد بشر مثله قبل أن يخبره بمراده، فكيف بمعرفة مراد الله؟.

لذلك فإن هذه المهمة مقصورة على الرسل والأنبياء الذين يصطفيهم الله لإبلاغ الرسالة، وعلى من بعدهم من أئمة الهدى ورثة الأنبياء ، الذين يحملون منهاجهم ، ويقتفون آثارهم، ويبلغون عنهم رسالتهم.

لذلك فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام قاموا بأعظم دور في حياة البشرية، حيث كانوا هم الصلة بين البشر وبين ربهم تبارك وتعالى، ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه ما ترك قومًا إلا وأرسل لهم رسولا يبشرهم وينذرهم قال تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل:36]، فما من طائفة من لدن آدم عليه السلام إلى قيام إلا وجاءه رسول أو نبي يأمره بعبادة الله ويحذرها مما يغضب الرب تبارك وتعالى.

ومن عظيم رحمته وعدله عزوجل أنه اشترط لوقوع العذاب بالناس أن يأتيهم الرسل وتأتيهم الحجة من عند الرب جل وعلا قال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [الإسراء: 15].

يقول الإمام الطبري: "وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا): إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا، أو يأتيه من الله بيِّنة، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه"[5].

لذلك فليس لأحد من البشر حجة على الله عزوجل بعد إرسال الرسل ونزول الشرائع، يقول تعالى: "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا"[النساء: 165].

ولقد كثر عدد الأنبياء والمرسلين وبلغوا عددًا عظيمًا، فها هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَأَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ قَالَ نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ رُوحَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا آدَمُ قُبْلًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا"[6].

يقول الشيخ السعدي: "فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وذلك أيضا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار فله الحمد وله الشكر ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم إنه جواد كريم"[7].

وبذلك يتضح لنا حاجة البشر الملحة للرسل، ورحمة الله عزوجل وعدله بالبشرية حيث أرسل لهم رسلاً وأنبياء يهدونهم إلى طريق الحق، ولعل من أعظم الشواهد الحسية على حاجة البشر للرسول، هو حاجة الإنسان إلى قوانين وأخلاق تنظم حياته، وتضبط سلوكه، ليتميز بذلك عن سائر الحيوان.

فإن الناس إما أن يعيشوا من غير دين ينظم حياتهم، ويضبط سلوكهم.

وإما أن يتخذوا لهم من يشرّع لهم دينا.

وإما أن يكونوا على الدين الحق الذي جاءهم بالبينات والهدى، فيكونوا بذلك على وفاق مع فطرتهم التي فطروا عليها، فتنتظم أمور حياتهم خير انتظام.

فإن اختاروا الأول عاشوا في بهيمية نكراء يأكل الضعيف منهم القوي، وكان اختلافهم عن سائر الحيوان بالشكل والصورة فحسب.

وإن اختاروا الثاني فقد اختاروا العبودية لطائفة من البشر، تتسلط عليهم، وتذيقهم من ظلمها سوء العذاب، فلم يبق إلا أن يحتكموا إلى الدين الحق ليأخذوا منه شرائعهم، ويبين لهم ما يحل لهم فيأتوه، وما يحرم عليهم فيجتنبوه، وهنا تكمن قمة السعادة ، ولا سعادة حقيقية للإنسان - أي إنسان - إلا بإتباع الدين الذي ارتضاه الله لعباده والذي أرسل به الرسل وأنزل من أجله الشرائع، وتتضح هذه النقطة بمزيد الإيضاح في المحور القادم عند الحديث عن وظائف الأنبياء والرسل، صلوات الله عليهم وسلامه.

وظائف الأنبياء والرسل[8]:

لقد أرسل الله عزوجل الرسل لهداية الناس وإرشادهم طريق الحق، وكلفهم الله تبارك وتعالى بوظائف ومهام حصرها العلماء في الوظائف الآتية:

أولا: البلاغ المبين:

ووظيفة البلاغ المبين هي المهمة الأساسية للرسل فما بعثهم الله تعالى إلا لإبلاغ الناس ما نزل إليهم من ربهم وقد جاء في القرآن الكريم ثلاث عشرة أية تنص على أن مهمة الرسول إنما هي (البلاغ)، ومن أجمع الآيات في ذلك قوله الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67].

يقول الشيخ السعدي: "هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويالمسلمين".كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية، فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله. فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين"[9].

والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم الخوف من الناس لأن الرسول يأتي بما يخالف أهواء الناس ويهدد مركز قادتهم وكبراءهم المسيطرون على الناس بالباطل ويأمرهم بما يستنكرون ويكرهون لأنه خلاف ما اعتادوه، لذلك امتدح الله تعالى رسله قائلا : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39].

ولقد بذل الرسل جهدهم ووقتهم في إبلاغ شرع ربهم بدون زيادة فيه أو نقص ولو كان الأمر متعلقا بهم شخصيا وأوضح مثال على ذلك ما تكرر في القرآن الكريم من عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) [الأحزاب:37]"[10].

ثانيا: بيان الدين الحق للناس:

ومن وظائف الرسل التي تعد مكملة لوظيفة البلاغ، هي بيان الدين الحق للناس، وأعظم الحقائق التي دعت إليها الرسل جميعا: توحيد الله تعالى وإفراده بالخلق والملك والتدبير والعبادة قال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].

ولقد قام الرسل بتصحيح كل ما يخالف هذا الاعتقاد في الله تعالى مثل جعل شريك له في ملكه أو خلقه أو عبادته أو جعل صاحبة له أو جعل ولد له أو نسبة البنات إليه، يقول تعالى: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72]، ولما طلب قوم موسى منه أن يجعل لهم إلها مثل الأصنام التي رأوها عند المشركين قال الله تعالى حكاية عنه في ذلك: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 138-140]، وإضافة إلى ذلك فإن الرسل قاموا بتعليم الناس شئون عباداتهم وشعائرهم من صلاة وصيام وحج وزكاة وأحكام هذه العبادات مع التطبيق العملي النموذجي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلى )[11]، وفوق ذلك فإن الرسل كانوا في جميع ما يدعون الناس إليه يمثلون القدوة الحسنة والمثال المحتذى فهم يلتزمون بكل ما يأمرون الناس به ويجعلونه سلوكا عاما لهم في حياتهم لذلك، يقول تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) [الأنعام، 90]، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب، 21].

ثالثا: التبشير والإنذار:

ومن وظائف الرسل الكرام التي كلفهم الله عزوجل بها، التبشير والإنذار، فإنه لما كانت الغاية الأساسية من وجود الإنسان في حياته الدنيا هي طاعة أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وكانت رسل الله تعالى هي المبينة لتلك الأحكام والمبلغة عن الله تعالى لزم أن تكون من مهام الرسل الكرام عليهم السلام مهمة التبشير لمن اتبع أوامر الله تعالى بالفوز الكبير في الدنيا والآخرة والإنذار لمن خالف أوامره بالوعيد الشديد والعذاب الأليم في الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس كما قال الله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 165]، وقال الله تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [الأنعام:48]، وهذه الوظيفة تقتضيها حكمة الله تعالى وكمال عدله ولطفه بعباده إذ إنه لا يتركهم سدي حتى يبين لهم ما يتقون فلا يؤخذون على حين غرة وغفلة بل كما قال الله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال:42]، ومن كمال رحمته وعدله أنه تكفل ببيان صنوف النعيم وألوان المتع التي أعدها لعباده المؤمنين كما بين أنواع العذاب المهلك التي أعدها للمجرمين الكافرين.

رابعا: تقويم الفكر المنحرف وتصحيح العقائد:

خلق الله تعالى عباده حنفاء ولكن جاءتهم الشياطين فاجتالتهم وانحرفوا عن الفطرة السليمة التي كانوا عليها، ولأجل ذلك أرسل الله تعالى رحمة منه رسله كلما زاغ الناس عن الطريق المستقيم قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة: 213]، أي كان الناس أمة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله تعالى وحده فاختلفوا فأرسل الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين، وإذا كانت دعوة الرسل جميعا تقوم على التوحيد الخالص لله تعالى إلا أن كل رسول كان يختص بتقويم الانحراف الحادث في عصره وموطنه ذلك أن الانحراف على الصراط المستقيم يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان فنوح عليه السلام أنكر على قومه عبادة الأصنام التي كانت عامة فيهم وكذلك إبراهيم عليه السلام إضافة إلى أنه أنكر على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبر فيها، وصالح عليه السلام أنكر على قومه الفساد في الأرض وإتباع المفسدين، ولوط عليه السلام حارب الشذوذ الجنسي المتفشي في قومه، وموسى عليه السلام وقف في وجه النزعة المادية التي انحرف إليها بنو إسرائيل، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فقد جاءت رسالته عامة شاملة لكل أسس التقويم والهداية التي جاءت في الكتب السماوية وزائدة عليها حتى تكون صالحة لكل زمان ومكان، كما قال الله تعالى:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة:48].

خامسًا: إقامة شرع الله بين العباد وسياسة الأمة به:

يقول الله تبارك وتعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: 49]، إن المؤمنين بالرسل يكونون جماعة وأمة والجماعة لا يستقيم لها أمر إلا أن تكون تحت إمرة زعيم تدين له بالطاعة وتوكل إليه تدبير شئونها ورعاية مصالحها وتحقيق غاياتها وأهدافها ولما كان الرسول هو رمز الأمة وهاديها في شئون دينها إلى ربها لزم أن يكون قائدها في شئون دنياها حتى لا تنفصم عراها وتوهن قواها بالصراع الموهوم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية فالرسول يؤسس شئون الأمة جميعا بهدى من الكتاب منير كما قال الله تعالى لداود عليه السلام : (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]، وقال الله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) [المائدة: 44].

هذه بعض وظائف المرسلين، التي تزيدهم شرفاً إلى شرفهم، وفضلاً إلى فضلهم، ويكفيهم فخراً أنّهم يُبلّغون عن ربّ العالمين.

فسبحان من خصّهم بهذه الرتبة العليّة، ومنحهم هذه الوظيفة السنيّة، واصطفاهم واختارهم من بين سائر عباده ليقوموا بهذه الخدمة المرضيّة.

دلائل النبوة

كما تقدم فإن للنبوة أهمية كبيرة في حياة البشر، فالنبوة واسطة بين الخالق والمخلوق في تبليغ شرعه وسفارة بين الملك وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم - تبارك وتعالى - لخلقه ليُخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

فهي نعمة مهداة من الله - تبارك وتعالى - إلى عبيده، وفضل إلهيّ يتفضّل بها عليهم. هذا في حقّ المرسَل إليهم.

ولما كانت النبوة بهذه المثابة ولما كان للأنبياء هذا الدور فإنه من رحمة الله عزوجل وعدله بعباده أن أرسل أنبيائه ورسله تترى إلى البشر، غير أنه كيف للبشر أن يعرفوا النبي الصادق من الدعي الكاذب، خاصة وأن الشيطان قد زين لكثيرين إدعاء دعوى النبوة والتزي بزي الرسل من أجل ضلال العباد، فإن الله عزوجل منح رسله وأنبيائه دلائل وعلامات هي من الكثرة بمكان ومن الوضوح بمحل تكفى الواحدة منها أن تكون سببًا ودافعًا لإيمان البشر بهذا النبي.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ودلائل النبوّة من جنس دلائل الربوبية، فيها الظاهر والبيِّن لكلّ أحد؛ كالحوادث المشهودة؛ فإنّ الخلق كلّهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق، والإقرار برسله".

ولا شك أنّ معرفة الله، والإيمان به، وعبادته، ومعرفة رسوله، وطاعته، يحتاجها كلّ مخلوق مكلّف.

ومن حكمة الله تعالى أنّه كلّما كان الناس إلى معرفة شيء أحوج، فإنّه - جلّ وعلا - يجعله سهلاً ميسّراً غير ذي عِوَج.

ولحاجة الناس إلى معرفة النبوة، والإقرار بالرسول، فقد وضّحها المولى - جلّ وعلا - في كتابه توضيحاً أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ الشرح يطول.

يقول شيخ الإسلام: "فتقرير النبوات من القرآن الكريم أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ ذلك هو عماد الدين، وأصل الدعوة النبوية، وينبوع كلّ خير، وجماع كلّ هدى".

معني دلائل النبوة:

الدّليل لغةً : هو المرشد والكاشف، من دللت على الشّيء ودللت إليه، والدّالّ وصف للفاعل.

والدّليل ما يتوصّل بصحيح النّظر فيه إلى العلم بمطلوبٍ خبريٍّ ولو ظنّاً، وقد يخصّه بعضهم بالقطعيّ.

وقال الجرجاني في التعريفات: الدليل في اللغة: هو المرشد، وما به الإرشاد، وفي الاصطلاح: هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن دلائل النبوة: "وهي الأدلة والعلامات المستلزمة لصدقهم، والدليل لا يكون إلاَّ مستلزما للمدلول عليه مختصاً به، لا يكون مشتركاً بينه وبين غيره؛ فإنّه يلزم من تحقّقه تحقّق المدلول.

وإذا انتفى المدلول انتفى هو؛ فما يوجد مع وجود الشيء، ومع عدمه، لا يكون دليلاً عليه، بل الدليل ما لا يكون إلاَّ مع وجوده، فما وُجد مع النبوّة تارةً، ومع عدم النبوّة تارةً، لم يكن دليلاً على النبوّة، بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها".

ودلائل النبوة من الكثرة والوضوح بدرجة لا تخفى إلا على من عميت بصيرته وضل سبيله في هذه الحياة، وقد حصر العلماء دلائل النبوة في خمسة محاور أساسية هي:

بشارات الأنبياء السابقين بالنبي اللاحق.

الآيات والمعجزات الخارقة للعادة التي يجريها الله على يد النبي.

سيرة النبي وأخلاقه ودلائل صدقه.

نصر الله وتأييده للنبي.

النظر في مبادئ الرسالة ودعوتها إلى الصلاح والسعادة.

هذه هي المحاور الأساسية لدلائل النبوة، وهي كما نرى قسمين، قسم يعتمد على الأخبار والوقائع المنقولة وهي البشارات والآيات، والقسم الثاني يعتمد على النظر في شخص النبي ودعوته ووقائع سيرته.

لو عرفتموه لأحببتموه

وفي هذه الرسالة سوف نحاول عرض وسرد دلائل نبوة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بشكل مختصر وجامع ، وذلك لأن دلائل النبوة لها فوائد كثيرة لعل من أولها الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق بخبره والطاعة لأمره، ومن فوائد دلائل النبوة كذلك محبته صلى الله عليه وسلم، حيث يجمع المنصفون من أهل الغرب والشرق أن من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا أحبه، وإن كان يعرفه من قبل فسوف يزداد له حبًا.

وفي قلب كل مسلم توجد بذرة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه البذرة إذا نمت بالمعرفة والإيمان صارت شجرة تزيد الإيمان قوة وتزيد الإتباع هديًا واقتداء بفعل النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ[12].

يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "جواب عمر أولا كان بحسب الطبع[13] ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى فأخبر بما اقتضاه الاختيار ولذلك حصل الجواب بقوله الآن يا عمر أي الآن عرفت فنطقت بما يجب".

فمعرفة شمائل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وفضائله العظيمة تزيد من محبة المسلم لنبيه، فكم يزداد محبة المسلم لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عن النصوص التي بشرت به في كتب السابقين من الأنبياء والرسل المكرمين، كم تزداد محبتك أخي في الله وأنت تقرأ اعتراف أهل الكتاب في الماضي بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترافات المنصفين في الحاضر بفضله وعظمته، كم تزداد محبتك وأنت ترى الجمادات والمخلوقات تحب نبيك صلى الله عليه وسلم وتقر بنبوته وفضله صلى الله عليه وسلم.

كم تزداد محبة المسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يعيش معه في طفولته وصباه، وهو يعيش معه وجبريل عليه السلام يحتضنه في غار حراء.

كم تزداد محبة المسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يراه يضحى بوقته وحياته وأمواله من أجل أن يصل إليه هذا الدين نقيًا، كم اضطهده المشركون، كم عذبه الكافرون، أفلا نحبه؟.

عذراً رسولَ الله لم يعرفوا قـدرَك حيــن نـادَوا باسمِك وشوهوا رسمَــكْ

هم لم يفعلوا ما فعـلوا إلا بجهـلٍ ولـو علموا الحقيقــةَ لقبّلوا قدمَـــكْ

لو علمــوا أنّك المصباحُ المنـيرُ لمــا قبلـوا الاستضـاءةَ إلا بضوئــك

لقد وبخ الله عزوجل المشركين لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون أخلاقه وصدقه، فقال تعالي: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون:69].

يقول البغوي في تفسيره:"(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) محمدا صلى الله عليه وسلم، (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا، وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود، وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعدما عرفوه بالصدق والأمانة"[14].

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف بأخلاقه وأمانته قبل بعثته، وبعد البعثة عضده الله بالمعجزات الباهرة والآيات الدالة على صدقه ونبوته صلى الله عليه وسلم، فمن عرفه بحق وصدق أمن به وأحبه صلى الله عليه وسلم.

إننا في هذا البحث لا نسعى إلا إن نقدم نبذة بسيطة في التعريف برسول الله صلى الله عليه وسلم وبدلائل نبوته وأمارات صدقه وبعثته، وإننا لنعلم أن هذه الدلائل والأمارات كفيلة بترسيخ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب كل مسلم.

غير أننا نوجه هذا الكتاب أيضًا لغير المسلم فسوف يرى فيه من البشارات التي تحويها الكتب السابقة (التوراة والإنجيل) ما لا يدع مجالاً للشك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم الذي كان ينتظره بنو إسرائيل كما كانوا ينتظرون المسيح عليه السلام، ومن قرأ بإنصاف وألق عنه تدليس السفهاء وشبهات الغوغاء لأمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه.

أولا: البشارات الواضحات من الكتب السابقات:

من أعظم دلائل نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، تبشير الأنبياء السابقين به صلى الله عليه وسلم، ورغم أن البشارات في هذا الشأن تبلغ العشرات بل المئات إلا إن اكتفينا بأمثلة لها قليل، وذلك أنه إذا صحت بشارة واحدة وصدقت دلالتها فإنها كافية بل لازمة للإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذا لم نرد الاستزادة من البشارات بل اكتفينا بتوضيح الأمثلة المختارة.

مدخل إلى البشارات

تعددت البشارات في الكتب السابقة بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بشر الأنبياء السابقون بقدومه وأمروا أتباعهم بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وتصديقه إذا ظهر، ولولا ما أصاب هذه الكتب من تحريف وتزييف عن عمد أو غير عمد لكانت النصوص الدالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس في وسط النهار؛ وقبل أن نناقش تلك البشارات، نقدم لها بعدة نقاط حتى يكون تحليل هذه البشارات تحليل علميًا سليمًا:

أولاً: هل بشرت الكتب السابقة برسول الله صلى الله عليه وسلم؟:

يزعم أهل الكتاب اليوم أن كتبهم لم تبشر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النصوص التي يستشهد بها المسلمون غير دالة على ذلك، والإجابة على هذا الزعم تنحصر في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: إن وجود هذه البشارات أو عدمها في الكتب المشار إليها آنفا سواء، فرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل الخارجي بطلت؛ إنها رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها في الكتب السابقة عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.

فهي حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنى عما سواها، ودليلها قائم خالد صالح للفحص في كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف.

ودلائل النبوة لا تنحصر في وجود هذه البشارات بل إن دلائل صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تنحصر أو تحصر في البشارات.

النقطة الثانية: إنه إن صح أن الكتب السابقة لم تخبر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بأمر أمته سلبًا أو إيجابًا، فإن ذلك طعن في هذه الكتب وليس طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن من قرأ الكتب السابقة وجدها تخبر بأخبار الحوادث القادمة كحادثة بختنصر وقورش واسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم الذي كسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقاً وغرباً وغلب الأديان وامتد زمنًا طويلاً ويبقي إلى آخر الزمان، فهذه الحوادث ليست بأقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الإخبار عن الحادثة العظيمة.

النقطة الثالثة: النصوص ذاتها التي سوف نوردها ترد على هذا الزعم وتنفى ذلك الوهم.

ثانيًا: هل ختمت النبوات ببعثة عيسي عليه السلام؟:

يزعم أهل الكتاب أن عيسي عليه السلام هو خاتم النبيين وأن الدنيا ليست في حاجة إلى نبي بعده، وهذا الزعم الباطل نرد عليه من نصوص أهل الكتاب أنفسهم التي تؤكد أنهم كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء، فقد جاء في إنجيل يوحنا (1: 19-25) أن علماء اليهود سألوا يحيي عليه السلام: أأنت المسيح ؟ فقال لهم: لا، فسألوه: أأنت إيلياء ؟، فقال: لا، فسألوه : أأنت النبي ؟ أي النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فقال يحيي عليه السلام: لا".

فهؤلاء ثلاثة أنبياء كان ينتظرهم بنو إسرائيل الأول المسيح عليه السلام والثاني إيلياء علمحمد صلى والثالث النبي الذي أخبر عنه موسي عليه السلام، فمن يكون هذا النبي إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان المسيح عليه السلام قد حذر من الكذابين الذين يأتون بعده كما جاء في إنجيل متى [7: 15]: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتوكم بثبات الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة)، فإنه لم يحذر من النبي الصادق محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قيد بالكذبة.

ويبقي أن نقول أنه كما أن اليهود لا يؤمنوا بعيسي عليه السلام غير أن هذا لا يطعن في نبوته، فكذلك الشأن في رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كذب اليهود والنصارى بنبوته صلى الله عليه وسلم فدلائل صدقه وثبوت بعثته صلى الله عليه وسلم أكثر من تحصر ولا مجال للطعن فيها.

وسوف نورد في ثنايا هذه الرسالة من الأدلة والوقائع ما تشير إلى اعتراف أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ثالثًا: تنبيهات لفهم البشارات:

حتى نستطيع التعامل وفهم النصوص التي حوتها الكتب السابقة والتي بشرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد من التقديم بعدة تنبيهات بشأن هذه البشارات.

التنبيه الأول: أنه كما يزعم النصارى اليوم أن بشارات الكتب السابقة لا تصدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اليهود قد سبقوا إلى ذلك ونفوا أن تصدق البشارات بعيسي عليه السلام على عيسي، غير أن النصارى لم يلتفتوا إلى تفاسير وتأويلات اليهود واعتبروها غير صحيحة، وكما أن تأويلات اليهود في البشارات السابقة مردودة غير صحيحة وغير لائقة عند النصارى كذلك تأويلات النصارى في البشارات التي هي في حق محمد صلى الله عليه وسلم مردودة وغير مقبولة، وسيظهر أن البشارات التي ننقلها في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أظهر صدقاً من البشارات الواردة في حق عيسي عليه السلام، فلهذا فنحن لا نبالي بمخالفة النصارى في حق هذه البشارات بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أننا سنؤكد أن هذه البشارات أليق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

التنبيه الثاني: إذا أخبر النبي المتقدم عن النبي المتأخر، فلا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلاني، وتكون صفته كيت وكيت، بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملاً عند العوام، وأما عند الخواص فقد يصير جلياً بواسطة القرائن، وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جلياً عندهم بلا ريب.

ويدخل في هذا الإشارة إلى أن الكتاب المقدس كثير الاستعارات، تكثر فيه الرموز والإشارات خاصة فيما يتعلق بالمستقبل، يقول صاحب كتاب "مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين": "وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة وخاصة العهد العتيق".

ويقول أيضاً: " واصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً... ".

وبإيضاح هذه النقطة يجب أن يكون واضحًا أن نصوص الكتب السابقة في حاجة إلى التعامل معها بشيء من الانفتاح الذهني الذي لا ينغلق على ظاهرية النص، بل إن نصوص الكتب السابقة وخاصة البشارات يجب دراستها في ضوء الأحداث التاريخية السابقة والمعاصرة، حتى تقع في موقعها الصحيح.

التنبيه الثالث: من عادة أهل الكتاب سلفاً وخلفاً أنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام الذي هو كلام اللّه في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ولكم ضاع بسبب هذا الصنيع من دلالات واضحات، منها نبوءة المسيح عن البارقليط، والذي تسميه التراجم الحديثة: المعزي، ومن الأمثلة قريبة العهد اختلاف الترجمة في النص الإنجليزي عن النص العربي، ففي المزامير (84 : 4-7) جاء تعبير "وادي البكاء"، وعند العودة إلى النص الإنجليزي وجدنها " valley of Baca " والاختلاف بين الأمرين أن النص الإنجليزي ليس المقصود منه وادي البكاء ولكن المقصود واد اسمه "بكة" أما كلمة "وادي البكاء" فهي من وضع مترجمي الإنجيل الذين ترجموه وفقًا لتفاسيرهم وتأويلاتهم، وسوف نناقش هذا النص بمزيد من التفصيل في هذه الرسالة.

وقد أورد رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" ثلاثة عشر مثالاً لهذا الصنيع من المترجمين قارن فيها بين طبعات مختلفة للكتاب المقدس، ليقف منها على أثر هذا الصنيع في ضياع دلالات النصوص، منها:

أنه جاء في الطبعة العربية (1811م) " سمى إبراهيم اسم الموضع: مكان يرحم الله زائره " (انظر التكوين 22/14) فاسم المكان العبراني أبدله المترجم بمعناه، وفي طبعة (1844م) العربية قال: " دعا اسم ذلك الموضع:" الرب يرى"، وبذلك ضاع الاسم الصحيح، واختلفت المعاني، ومثله كثير....ثم يقول رحمة الله الهندي: "فهؤلاء المترجمون لو بدلوا في البشارات المحمدية لفظ رسول الله بلفظ آخر، فلا استبعاد منهم".

ونقول زيادة على ذلك إن النية لدى النصارى في هذا العصر صارت واضحة على تغيير وتحريف كل ما يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى أمته، وإن عجزوا عن ذلك فإنهم يعمدون إلى تفسيرها بتفاسير لا يقبلها المنطق.

لهذا فكلما كان الاعتماد على نصوص الكتب السابقة في النسخ القديمة وبلغاتها الأصلية كان أفضل، خاصة وأن علماء المسلمين أوردوا من الكتب السابقة ما فيها دلالة واضحة على التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الصدد نقل العلامة رحمة الله الهندي أيضاً عن حيدر القرشي صاحب كتاب "خلاصة سيف المسلمين" قوله: "إن القسيس أوسكان الأرمني ترجم كتاب إشعياء باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست وستين، وطبعت هذه الترجمة في سنة ألف وسبعمائة وثلاث وثلاثين في مطبعة أنتوني بورتولي، ويوجد في هذه الترجمة في الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة: "سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطنته على ظهره، واسمه أحمد" (إشعيا 42/10 – 11)[15].

البشارات بالنبي الكريم في كتب السابقين:

كثرت النصوص في الكتب السابقة التي تبشر بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ما أصاب هذه الكتب من تحريف وتزييف للحقائق لأذعن كل من قرأ الإنجيل أو التوراة لما فيهما من دعوة صريحة إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم اقتناعنا بأن هذه الكتب قد أصابها من التحريف الشيء الكثير والخطير، إلا إننا على يقين كذلك بوجود بعض نصوص متناثرة أبقاها الله لتكون دليلا وحجة على أهل الكتاب الذين يعرضون عن الإيمان بخاتم النبيين وسيد البشر أجمعين صلى الله عليه وسلم.

لقد أخذ الله تعالى على النبيين والمرسلين الميثاق بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وتبشير أقوامهم به، يقول الله عزوجل في كتابه الكريم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:81].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه.

وقال طاووس، والحسن البصري، وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وهذا لا يضاد ما قاله عليّ وابن عباس ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن طاووس، عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم -قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا -قال: فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ"[16].

حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر حدثنا إسحاق، حدثنا حماد، عن مُجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّه -واللهِ-لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي"[17].

وفي بعض الأحاديث:"لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي".

فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، دائما إلى يوم الدين، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر في إتيان الرب لِفَصْل القضاء، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه، فيكونَ هو المخصوص به"[18].

ويقول تبارك وتعالي: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة:146].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم كما يعرف أحدُهم ولده، والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير: "ابنك هذا؟" قال: نعم يا رسول الله، أشهد به قال: "أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه"[19].

قال القرطبي: ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ولدك ابنك، قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمره. قلت: وقد يكون المراد { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } من بين أبناء الناس لا يشك أحد ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم.

ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

ثم ثبّت تعالى نبيه والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)"[20].

ويقول تبارك وتعالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ) [الأعراف:157].

قال الإمام الطبري في تفسيره: "حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله: "الذي يجدونه مكتوبًا عندهم"، يقول: يجدون نعتَه وأمرَه ونبوّته مكتوبًا عندهم"[21].

وروى الإمام أحمد بسنده عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمُنْجَدِلٌ[22] فِي طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ تَرَيْنَ[23].

أما قولُه صلى الله عليه وسلم: "دعوةُ أبي إبراهيم"، فقد عنى به قولَه تعالى - حاكياً عن إبراهيمَ وإسماعيلَ وهما يبنيان الكعبة –: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 129].

وقوله :"وبشارة عيسى" ، وفي بعض الروايات : "وبشرى أخي عيسى"، فقد عنى به قولَ الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللـه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : 6].

ولقد حوت الكتب السابقة من النصوص التي تبشر برسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه وصفته وصفة أتباعه، غير أن هذه النصوص أصابها التحريف والبتر مثلما أصاب بقية الكتب، إلا إن أهل الكتاب كان لهم عناية خاصة بتحريف النصوص المبشرة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير ما لجأ أهل الكتاب إلى إخفاء هذه النصوص أو تفسيرها بشكل محرف حتى لا تتفق مع صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته عن "سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ فقال كعب: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إلي وقال: اعمل بهذا، وختم على سائر كتبه وأخذ علي بحق الوالد على ولده أن لا أفض الخاتم، فلما كان الآن ورأيت الإسلام يظهر ولم أر بأسا قالت لي نفسي: لعل أباك غيب عنك علما كتمك فلو قرأته، ففضضت الخاتم فقرأته فوجدت فيه صفة محمد وأمته فجئت الآن مسلما"[24].

ولقد اهتم المسلمون الأوائل رضي الله عنهم بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، روى البخاري في صحيحه بسنده عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، وَحِرْزًا[25] لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ[26] لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ[27] اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا[28].

وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم "هداية الحياري" عن أبي العالية قال: لما فتح المسلمون تستر، وجدوا دانيال – عليه السلام – ميتًا، ووجدوا عنده مصحفا، قال أبو العالية : أنا قرأت ذلك المصحف وفيه: صفتكم، وأخباركم، وسيرتكم، ولحون كلامكم[29].

ويبقي أن نشير إلى أن هذه البشارات على كثرتها لا تمثل في نظر المعتقد المسلم أكثر من واحدة من آلاف الأمارات والدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، إنها ليست إلا شيء واحد من أشياء كثيرة لا يحيط بها العد ولا يحصيها الإحصاء تشير إلى الحقيقة الكبيرة وهي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما هو رسول الله ونبيه الخاتم.

ولقد أوردنا هنا بعضًا من النصوص والنبوءات التي تشير إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وهناك كثير من الكتب والدراسات التي أوردت مئات البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك على الرغم من محاولات التحريف المستمرة وسوء الترجمة للإنجيل والتوراة.

البشارات بالنبي الكريم في التوراة:

ونبدأ بذكر البشارات التي وردت في نصوص التوراة والتي يؤمن بها اليهود والنصارى، وتعرف اليوم باسم "العهد القديم".

البشارة الأولى:

جاء في سفر التثنية 18 ( 17-22 ): (قال لي الربُّ: قد أحسَنوا فيما تكلَّموا، أقيمُ لهم نبياً من وسَطِ إخوَتِهم مثلَك، وأجعلُ كلامي في فمِه، فيكلِّمُهم بكلِّ ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمعُ لكلامي الذي يتكلمُ به باسمي، أنا أطالبُه.

وأما النبيُّ الذي يطغى فيتكلَّم باسمي كلاماً لم أوصِهِ أن يتكلَّمَ به، أو الذي يتكلمُ باسمِ آلهةٍ أخرى، فيموت ذلك النبيُّ، وإن قلتَ في قلبكَ: كيفَ نعرفُ الكلامَ الذي لم يتكلمْ به الربُّ؟ فما تكلمَ به النبيُّ باسمِ الربِّ، ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلامُ الذي لم يتكلمْ به الرب، بل بطغيانٍ تكلَّم به النبي، فلا تخفْ منه).

وهذا النص كما هو واضح يتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى عليه السلام، ويذكر صفات هذا النبي، والتي نستطيع من خلالها معرفة من يكون، ويزعم النصارى أن هذا النبي قد جاء، وهو عيسى عليه السلام، لكن النص دال على نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لا دليل عند النصارى على تخصيصه بالمسيح، بينما يظهر في النص عند تحليله أدلة كثر تشهد بأن المقصود به هو نبينا صلى الله عليه وسلم، ولقد أفاض الشيخ الجليل "أحمد ديدات" رحمه الله في دراسة هذا النص في مناقشة مع أحد القساوسة الذين يرون أن المبشَر به في هذا النص هو عيسي عليه السلام، ونلخص فيما يلي دراسة الشيخ ديدات لهذا النص مع بعض الإضافات الهامة:

"مثلك":

جاء في البشارة "أقيم لهم من وسط أخوتهم نبيًا مثلك"، وأول نقطة لدراسة هذا النص هي المقارنة بين مشابهة نبي الله عيسي عليه السلام لموسي عليه السلام ومشابهة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لموسي عليه السلام، لنرى أيهما أولى أن ينطبق عليه وصف "مثلك".

يعتقد النصارى أن عيسي عليه السلام إلهًا وابن للإله، وهو بذلك لا يشابه موسي عليه السلام.

بمقتضى عقيدة النصارى أيضاً أن عيسى عليه السلام جاء ومات من أجل خطايا العالم، ولكن موسى لم يكن ليموت من أجل خطايا العالم، فعيسى لا يشابه موسى عليهما السلام.

بينما يتشابه موسي ومحمد عليهما السلام من وجوه كثيرة، فقد ولد الاثنان ولادة عادية بطريقة طبيعية من أم وأب، ولكن عيسي عليه السلام ولد من أم دون أب وذلك بمعجزة ربانية.

تزوج موسى ومحمد عليهما السلام وأقاما حياة أسرية، وذلك على خلاف عيسى عليه السلام الذي لم يتزوج حتى رفعه الله عزوجل إليه.

جاء رسول الله وموسي عليهما السلام بشريعة جديدة وأحكام جديدة، بينما جاء عيسي عليه السلام مكملاً لشريعة موسي عليه السلام، جاء في إنجيل متي (5/17): "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء, ما جئت لأنقض بل لأكمل".

توفى الله عزوجل محمد وموسى عليهما السلام وفاة طبيعية، ولكن عيسي عليه السلام رفعه الله عزوجل إليه وسوف ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، كما يعتقد النصارى أن عيسي عليه السلام مات شر ميتة وذلك بقتله على الصليب.

ويتضح من هذه المقارنة أن عيسى عليه السلام ليس مثل موسى عليه السلام، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه بموسي عليه السلام وهو الذي ينطبق عليه وصف "مثلك"، ويؤكد ذلك أيضًا أن التوراة نفسها نصت على أنه لن يأتِ في بني إسرائيل نبي مثل موسي عليه السلام، فقد جاء في سفر التثنية (34/10): "ولا يقوم أيضاً نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله".

"من وسط إخوتهم":

يقول النص:" أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك"، والتركيز على هذه الكلمات يؤكد أن المراد في هذا النص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخطاب موجه إلى موسى عليه السلام وشعبه الذين هم "بنو إسرائيل" وعندما يقول "إخوتهم" فهو يعني بذلك "إخوة" بني إسرائيل وبالتأكيد ليس "بني إسرائيل" والذي منهم عيسي بن مريم عليه السلام، لذلك فإن "من وسط إخوتهم" لا تنطبق على عيسي عليه السلام، لأنه ينتمي إلى من يخاطبهم النص، أما "أخوة" بني إسرائيل، فهم العرب أبناء إسماعيل عليه السلام، فقد كان لإبراهيم الخليل عليه السلام ولدان هما إسماعيل وإسحاق, وأبناء إسماعيل هم العرب وأبناء إسحاق هم اليهود, ومحمد صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل عليه السلام بينما عيسي عليه السلام فهو من نسل إسحاق بني إسرائيل, وبهذا ينطبق الوصف على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وليس على غيره.

ومن الجيد أن نشير هنا إلى أنه من المعهود في التوراة إطلاق لفظ "الأخ" على ابن العم، ومن ذلك قول موسى لبني إسرائيل: « أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو » التثنية 2/4 وبنو عيسو بن إسحاق هم أبناء عمومة لبني إسرائيل، وهذا يؤكد أن النبي المقصود في هذا النص هو محمد صلى الله عليه وسلم.

"وأجعل كلامي في فمه":

تستأنف النبوءة قولها: "وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به"، وبذلك نستنتج أن من صفات هذا النبي المبشَر به أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، والوحي الذي يأتيه وحي شفاهي، يغاير ما جاء الأنبياء قبله من صحف مكتوبة، وقد كان المسيح عليه السلام قارئاً كما جاء في إنجيل لوقا (4/16-18).

يقول الشيخ أحمد ديدات معلقًا على هذا النص مخاطباً القس فان هيردن: أنت تشاهد عندما أسألك أيها القس أن تفتح التوراة على سفر التثنية الإصحاح الثامن عشر, والعدد الثامن عشر, في البداية، وإذا ما طلبت منك أن تقرأ, وإذا ما قرأت, هل أجعل كلامي في فمك؟.

أجاب القس: لا.

فقال أحمد ديدات: ولكن إذا أردت أن أعلمك لغة باللسان العربي، تلك اللغة التي لا تعلم عنها شيئاً, فإذا ما طلبت منك أن تقرأ أو تتلو القراءة عني فيما أنطق به على سبيل المثال (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) [سورة الإخلاص]، أليس هكذا أضع هذه الكلمات التي لم تسمع عنها من قبل عن لسان أجنبي التي تنطق بها الآن في فمك؟.

وافق القس قائلاً: بالحق إنه هكذا.

قلت (أحمد ديدات) وبأسلوب مشابه في تنزيل القرآن كان جبريل يجعل كلام الله في فم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحياً فنزل به جبريل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون من المرسلين.

"يكلمهم بكل ما أوصيه به":

ومن علامات هذا النبي المنتظر أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، فهو "يكلمهم بكل ما أوصيه به"، وهو ما ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينطبق على عيسي عليه السلام، فقد كان من أواخر ما نزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، بينما رُفع عيسي عليه السلام ولديه الكثير مما يود أن يبلغه إلى تلاميذه، لكنه لم يتمكن من بلاغه، لكنه بشرهم بالقادم الذي سيخبرهم بكل الحق، لأنه النبي الذي تكمل رسالته، ولا يحول دون بلاغها قتله أو إيذاء قومه، جاء في إنجيل يوحنا (16/12-13): "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به".

"ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه":

يستفاد من هذا النص أن النبي المنتظر التي تبشر بها البشارة هو نبي واجب السمع والطاعة، ومن عصاه أو خالفه فإنه متعرض لعقوبة الله عزوجل، وهو ما ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث انتقم الله من كل من كذبه من مشركي العرب والعجم، وأما عيسي عليه السلام فلم يكن له هذه القوة وتلك المنعة، ولم يتوعد حتى قاتليه، فكيف بأولئك الذين لم يسمعوا كلامه.

"فما تكلمَ به النبيُّ باسمِ الربِّ، ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلامُ الذي لم يتكلمْ به الرب":

تصف هذه الجملة النبي المنتظر بأنه يخبر بأمور غيبية أوحى الله عزوجل إليه بشأنه، ووقوع الأمور الغيبية المستقبلية هو دليل آخر على صدق النبي المنتظر، وهذا الأمر هو ما يصدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما سنذكر بعض أمثلة منه عند الحديث عن دلائل نبوته ومعجزاته والذي منها الإخبار عن الأمور المستقبلية.

وهكذا يظهر أن النبي الذي تنبأ عنه موسى عليه السلام لا تتحقق أوصافه في عيسي عليه الصلاة والسلام، إنما تتحقق في خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

البشارة الثانية: نبوءة موسي عليه السلام:

جاء في سفر التثنية (33: 1-2): "وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال : جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم".

يقول الدكتور "منقذ بن محمود السقار": "وقبل أن نمضى في تحليل النص نتوقف مع الاختلاف الكبير الذي تعرض له هذا النص في الترجمات المختلفة، فقد جاء في الترجمة السبعينية: "واستعلن من جبل فاران، ومعه ربوة من أطهار الملائكة عن يمينه، فوهب لهم وأحبهم، ورحم شعبهم، وباركهم وبارك على أطهاره، وهم يدركون آثار رجليك، ويقبلون من كلماتك، أسلم لنا موسى مثله، وأعطاهم ميراثاً لجماعة يعقوب".

وفي ترجمة الآباء اليسوعيين: "وتجلى من جبل فاران، وأتى من ربى القدس، وعن يمينه قبس شريعة لهم".

وفي ترجمة 1622م " شرف من جبل فاران، وجاء مع ربوات القدس، من يمينه الشريعة "، ومعنى ربوات القدس أي ألوف القديسين الأطهار، كما في ترجمة 1841م " واستعلن من جبل فاران، ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار ".

واستخدام ربوات بمعنى ألوف أو الجماعات الكثيرة معهود في الكتاب المقدس "ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه" (دانيال7/10)، ومثله قوله: "كان يقول: ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل" (العدد 10/36)، فالربوات القادمين من فاران هم الجماعات الكثيرة من القديسين، الآتين مع قدوسهم الذي تلألأ في فاران.

والنص التوراتي يتحدث عن ثلاثة أماكن تقع منها البركة، أولها: جبل سيناء حيث كلم الله موسى. وثانيها: ساعير، وهو جبل يقع في أرض يهوذا (انظر يشوع 15/10)، وثالثها:هو جبل فاران.

وتنبئ المواضع التي ورد فيها ذكر "فاران" في الكتاب المقدس أنها تقع في صحراء فلسطين في جنوبها، لكن تذكر التوراة أيضاً أن إسماعيل قد نشأ في برية فاران (التكوين 21/21)، ومن المعلوم تاريخياً أنه نشأ في مكة المكرمة في الحجاز.

ويرى اليهود والنصارى في هذا النص أنه يتحدث عن أمر قد مضى يخص بني إسرائيل، وأنه يتحدث عن إضاءة مجد الله وامتداده لمسافات بعيدة شملت فاران وسعير وسيناء.

ويرى المسلمون أن النص نبوءة عن ظهور عيسى عليه السلام في سعير في فلسطين، ثم محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، حيث يأتي ومعه الآلاف من الأطهار مؤيدين بالشريعة من الله عز وجل.

وذلك متحقق في رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمور:-

1) أن جبل فاران هو جبل مكة، حيث سكن إسماعيل، تقول التوراة عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر " (التكوين 21/20-21).

وقد انتشر أبناؤه في هذه المنطقة، فتقول التوراة " هؤلاء هم بنو إسماعيل..... وسكنوا من حويلة إلى شور " (التكوين 25/16 - 18)، وحويلة كما جاء في قاموس الكتاب المقدس منطقة في أرض اليمن، بينما شور في جنوب فلسطين. وعليه فإن إسماعيل وأبناؤه سكنوا هذه البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله، وهو يشمل أرض فاران التي سكنها إسماعيل.

2) أن وجود منطقة اسمها فاران في جنوب فلسطين لا يمنع من وجود فاران أخرى هي تلك التي سكنها إسماعيل، وقامت الأدلة التاريخية على أنها الحجاز، حيث بنى إسماعيل وأبوه الكعبة، وحيث تفجر زمزم تحت قدميه، وهو ما اعترف به عدد من المؤرخين منهم المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس فقالا بأن فاران هي مكة.

3) لا يقبل قول القائل بأن النص يحكي عن أمر ماضٍ، إذ التعبير عن الأمور المستقبلة بصيغة الماضي معهود في لغة الكتاب المقدس. يقول اسبينوزا: " أقدم الكتاب استعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر، وعلى الماضي بلا تمييز كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل... فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات".

4) ونقول: لم خص جبل فاران بالذكر دون سائر الجبال لو كان الأمر مجرد إشارة إلى انتشار مجد الله.

5) ومما يؤكد أن الأمر متعلق بنبوءة الحديث عن آلاف القديسين، والذين تسميهم بعض التراجم "أطهار الملائكة " أي أطهار الأتباع، إذ يطلق هذا اللفظ ويراد به: الأتباع، كما جاء في سفر الرؤيا أن " ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنينُ وملائكتُه …." (الرؤيا 12/7).

فمتى شهدت فاران مثل هذه الألوف من الأطهار[30]؟ فما ذلك إلا محمد وأصحابه صلى الله عليه وسلم"[31].

وتشبه نبوءة موسي عليه السلام قول الله عزوجل في القرآن العظيم: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال بعض الأئمة: هذه مَحَالٌّ ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيًا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلى الله عليه وسلم.

قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء -يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - وأشرق من سَاعيرَ -يعني بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى-واستعلن من جبال فاران -يعني: جبال مكة التي أرسل الله منها محمدًا-فذكرهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما"[32].

البشارة الثالثة: نبوءة حبقوق .. فاران مرة أخرى:

ويوجد بالتوراة نبوءة أخرى ونص آخر يؤكد نبوءة موسي عليه السلام، وهي نبوءة النبي حبقوق عليه السلام (من أنبياء بني إسرائيل) حيث جاء في سفر حبقوق (3/2-12):

(يا رب قد سمعت خبرك فجزعت يا رب عملك في وسط السنين أحييه.. في وسط السنين عرف.. في الغضب أذكر الرحمة.

الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران، سلاه، جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه.

وكان لمعان كالنور له من يده شعاع وهناك استتار قدرته.

قدامه ذهب الوبا وعند رجليه خرجت الحمى.

وقف وقاس الأرض نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية وخسفت آكام القدم مسالك الأزل له.

رأيت خيام كوشان تحت بلية، رجفت شقق أرض مديان[33].

هل على الأنهار حمى يا رب، هل على الأنهار غضبك أو على البحر سخطك، حتى أنك ركبت خيلك، مركباتك مركبات الخلاص.

عريت قوسك تعرية ، سباعيات سهام كلمتك ، شققت الأرض أنهارا

أبصرتك ففزعت الجبال، سيل المياه طما، أعطت اللجة صوتها، رفعت يديها إلى العلاء

الشمس والقمر وقفا في بروجهما، لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك.

بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم).

إذا ما قرأ شخص منصف النص السابق وعلم المقصود بكلمة تيمان وفاران لأيقن بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا النص لا يتحدث إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاران كما أوضحنا منذ قليل هي مكة المكرمة - حرسها الله – أما تيمان فهي اليمن وهو ما سنثبته في الأسطر القادمة، وذلك على خلاف النصارى الذين سعوا إلى طمس أبصارهم عن الحقيقة وجاهدوا لتحريف معنى هذا النص الحقيقي.

تيمان: رجح العلماء المسلمون الذين تعرضوا قبل ذلك لهذه النبوءة أن اليمن هي نفسها تيمان، وذلك نظرا للتشابه اللفظي بينهما، ولأن معنى كل منهما هو الجنوب، وأيضا بسبب اقتران تيمان في النص بفاران الثابت تاريخيا أنها هي مكة المكرمة والتي تقع شمال اليمن، ويقول الدكتور "محمد عبد الخالق شريبة" في بحث له عن البشارات: ".. يقول قاموس الكتاب المقدس في تعليقه على تيمان : (هي مكان يقع جنوب إدوم)، ولكن ما هي إدوم ؟.

يقول معجم الطرق القديمة (إنشنت تراد روتس)تحت عنوان إمبراطوريات(إمبيرز): (إدوم بدأت من النهاية الجنوبية للبحر الميت إلى مساحات من الصحراء العربية إلى الشرق، ومن هذا الخط امتدت إدوم لتشمل كل الأراضي جنوب البحر الأحمر والأراضي على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر .. والجزء الجنوبي من إدوم كان عبارة عن أرض صحراوية ممتدة واشتملت إدوم على جزء من طريق البخور يمتد جنوبا إلى شيبا والتي تمثل منطقة اليمن حاليا).

وتيمان التي يقول قاموس الكتاب المقدس أنها تقع جنوب إدوم معناها في جميع المعاجم الخاصة بأصول ومعاني الكلمات هو: الجنوب.

وإذا كانت تيمان تقع جنوب إدوم كما يقول قاموس الكتاب المقدس، واليمن تقع جنوب إدوم كما يقول معجم الطرق القديمة، والمعنى العبري لتيمان واليمن هو الجنوب؛ فإن ما سنستنتجه بداهة هو أن تيمان هي نفسها اليمن.

هذا ما قاله معجم الطرق القديمة وقاموس الكتاب المقدس، واستنتجنا منه أن تيمان هي نفسها اليمن.. عموما فإن كل المصادر التي عثرنا عليها تتحدث مباشرة عن تيمان قد أراحتنا من عناء هذا الاستنتاج !!..فماذا قالت؟!.

تحكي الموسوعة اليهودية (جويش إنسيكلوبيديا) عن رحالة يهودي شهير فتقول: (كارازو ديفيد صمويل رحالة يهودي ولد في سالونيكا بتركيا، وقام برحلة إلى اليمن بالجزيرة العربية سنة 1874، ودرس حالة اليهود في تلك المنطقة ودونها في مؤلف أسماه ذيكرون تيمان،رحلتي إلى اليمن).

ويقول موقع يهودي يسمى موقع الموسوعة اليهودية ويكيبديا: (اليهود اليمنيون يسمون بالعبرية التيمانيون وهم اليهود الذين يعيشون الآن في اليمن والتي تسمى في العبرية تيمان وهي أمة تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية ، وهم ينتمون إلى طائفة اليهود المزراحية).

ويقول موقع يهودي آخر يسمى مؤسسة مانفريد ليهمان عن يهود اليمن : (أي شخص يتاح له مقابلة أحد يهود اليمن سوف يندهش من التواضع والنقاء والتقوى التي تصبغه(!) وجذور يهود اليمن – تيمان بالعبرية – تبدأ من بداية تاريخنا. فبجانب الذي ذكر في التوراة العبرانية:(أليفاز صديق يعقوب كان من تيمان وكثير من الأنبياء قد تحدثوا عن تيمان) ، فلقد قيل أيضا أن ملكة شيبا(سبأ) قد سمعت عن الملك سولومون(سليمان) من خلال اليهود في اليمن والتي تقع بجوار مملكة شيبا).

ويحكي لنا موقع يهودي آخر يسمى أيريديس إنسيكلوبديا عن تاريخ يهود اليمن: (واحد من أفضل علماء اليهود في اليمن وهو يعقوب الفيومي قد كتب خطابا يستشير فيه رابي موشي ابن ميمون والمعروف بميمونيديس فقام بالرد عليه في خطاب عنوانه إيجريت تيمان-مكتوب اليمن-وهذا الخطاب كان له تأثير هائل على يهود اليمن)"[34].

وإذا كان نصارى اليوم يصرون على الزعم بأن فاران هي برية بين سيناء وفلسطين، وأن تيمان تقع في الأردن، فإن عليهم أن يجيبوا عن سؤال واحد، من هو هذا النبي الذي خرج من بين تيمان وفاران وامتلأت من تسبيحه الأرض؟، بل إن السؤال يجب أن يكون أكثر دقة، هل خرج من هذا المكان نبي أصلا؟.

أضف إلى ذلك فإن بقية النبوءة لا تنطبق إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعته فلقد رجح الدكتور إبراهيم خليل أحمد والذي كان قسًا فأسلم، أن قول حبقوق "جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه" المقصود به الأذان في الإسلام حيث يرفع تسبيح الله عزوجل خمس مرات في اليوم والليلة، أما قول "وقف وقاس الأرض نظر فرجف الأمم" فلعله موافق لما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا[35].

البشارة الرابعة: نبوءة داود عليه السلام ورأس الزاوية:

ومن النصوص الواضحة على تبشير الأنبياء السابقين برسول الله صلى الله عليه وسلم نصان ورد أحدهما على لسان داود عليه السلام في المزامير، بينما جاء الآخر على لسان عيسي عليه السلام في الإنجيل، والنصان يدوران حول أمر واحد.

جاء في (المزمور 118 : 22- 23): "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا".

إن هذا يعني أن أنبياء بني إسرائيل على كثرتهم تشير إليهم الحجارة الكثيرة في بناء بيت الرب، أما الحجر الذي هو رأس الزاوية ويمسك البناء كله فهو وإن كان حجرًا واحدًا إلا أنه هو الأهم والأعظم أثرًا في إقامة البناء وتماسكه، إنه يشير إلى محمد خاتم النبيين والذي بدونه لا ترتبط النبوات معًا ولا يمكن أن تكون لها قيمة تذكر تمامًا كما أنه بدون ذلك الحجر "رأس الزاوية" لا يكتمل البناء ولا يكون له قيمة، لقد كان هذا الأمر "من قبل الرب".

ربما يقول قائل إن هذا الكلام يشير إلى عيسي عليه السلام، إلا إننا نجد عيسي عليه السلام يخاطب تلاميذه موردًا هذا النص ويؤكد لهم أنه ليس هو المذكور؛ جاء في إنجيل متى (21 : 43-44):"قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار هو رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه".

وهذه الكلمات قالها المسيح عليه السلام لجماعة من اليهود بعدما وبخهم على قتل الأنبياء، وإنكار الرسالات، والنص يوضح إخبار المسيح عليه السلام لليهود باستبدال الله لهم بأمة أخرى تحل محلهم في القيام بأمر الدين وأداء رسالته (لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمه تعمل أثماره).

ويخبرهم المسيح عليه السلام أيضا عن ذلك الحجر الذي سيصير رأس الزاوية ( الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية ).

ويواصل عيسي عليه السلام كلامه عن ذلك الحجر الذي سيصير رأس الزاوية فيقول: (ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه)، واستخدام لفظي (يترضض) و(يسحقه) يؤكد أن الكلام يشير إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أيده الله بالقوة المادية وخاض العديد من الحروب حتى أظهر الله به الدين وسحق به كل أعدائه.

ولا يستقيم حمل هذا الكلام على المسيح وأمته؛ لأن المسيح نفسه من أمة بني إسرائيل، كما أن المسيح عليه السلام يقول: (وهو عجيب في أعيننا)، مما يدل على أنه يتكلم عن شخص آخر غيره.

ولقد أكدت الوقائع التاريخية صحة انطباق هذه البشارة على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وأمته حيث استطاعت قلة ضعيفة من العرب المسلمين أن تكتسح أعظم إمبراطوريتين قويتين في زمن ظهور الإسلام فقد قضى المسلمون الناشئون على الإمبراطورية الفارسية، كما اقتطعوا من الإمبراطورية الرومانية نصف أملاكها التي كانت أرضًا كثيرة الخيرات غنية بالأموال والرجال.

وتتفق هذه النبوءة مع ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ[36].

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو رأس الزاوية الذي أعجب النبيين والناس أجمعين صلى الله عليه وسلم.

البشارة الخامسة: مكة.. ووادي البكاء:

ومن النصوص العجيبة التي تدل على تبشير كتب السابقين بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتدل في الوقت ذاته على التحريف المستمر المتعمد لهذه الكتب لإخفاء ما به من حقائق باهرة، ما ورد في المزمور 84 (4-7)؛ حيث جاء في هذه الفقرة: (طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك، طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم. عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعاً أيضا ببركات يغطون مورة. يذهبون من قوة إلى قوة يرون قدام الله في صهيون).

ولدراسة هذا النص يجب أن نعرف ما المقصود بوادي البكاء؟، وأين يقع هذا الوادي؟.

"أما وادي البكاء وعلاقته ببكة: فيسأل عنها القساوسة العرب، لأن وادي البكاء في النسخة الإنجليزية لنفس النص مكتوبة (وادي بكة) وليس وادي البكاء كما هو في النص العربي، ونلاحظ أنها تبدأ بحرف (بي كابتال)، مما يدل على أنه اسم لعلم لا يمكن ترجمته.

وأما كلمة صهيون: فمعناها الأصلي المكان المقدس أو المجتمع الديني الخالص، كما ورد في القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس..

والنص كما ورد في النسخة الإنجليزية هو هكذا:

(Blessed are they that dwell in thy house. they will be still praising thee, blessed is the man whose strength is in thee, in whose heart are ways of them who passing through the valley of Baca make it awell, The rain also filleth the pools, they go from strength to strength, every one of them in Zion appeareth before God)

وبذلك فإن الترجمة الصحيحة للنص الإنجليزي هي كما يأتي:

(طوبى للساكنين في بيتك أبدا يسبحونك، طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم عابرين في واد بكة يصيرونه ينبوعا المطر أيضا يغطيه بالبركات يذهبون من قوة إلي قوة يرون قدام الله في الأرض المقدسة).

وبالمناسبة فإن قاموس الكتاب المقدس لم يستطع تحديد أين توجد بكة!!، وكل ما قاله عن موقعها: (ربما)! يكون هذا مكان يمر به الحجاج !!.

فهل هناك بكة غير التي يحج إليها المسلمون ؟!.

ولو كان هناك بكة غيرها ، فهل ادعى أحد أن بها بيت الله الذي يحج إليه الناس ؟!.

هذه أسئلة تحتاج إلى أجوبة.. فهل من مجيب ؟!"[37].

إذًا فإن وادي البكاء هو بكة، ولمن لا يعلم فإن بكة هي أسم من الأسماء التي أطلقها الله عزوجل في القرآن الكريم على مكة المكرمة حفظها الله، يقول تعالي: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96]، وبذلك يتضح أن المقصود بوادي البكاء هو مكة المكرمة.

كما أن بقية النص لا تنطبق على مكة وبيت الله الحرام، فجملة (طوبي للساكنين في بيتك أبدًا يسبحونك) لا تنطبق إلا على مكة وبيت الله الحرام، فلا يخلو بيت الله الحرام من معتمر أو ذاكر أو مصل يدعو الله عزوجل ويسبحه.

(طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم) أما هذه الجملة فهي تشير إلى الشوق لدي حجاج هذا البيت، ويعلم الجميع كم يشتاق المسلم إلى زيارة بيت الله الحرام والطواف.

(عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعاً أيضا ببركات يغطون مورة.يذهبون من قوة إلى قوة يرون قدام الله في صهيون).

هذه الجملة تشير بكل وضوح إلى مناسك الحج وما فيها من خشوع وسكينة يصحب الحجيج، فالعبور والبكاء والانتقال من مكان إلى مكان أليس هذا أشبه بالسعي والطواف وبقية مناسك الحج.

البشارة السادسة: نبوءة أشعياء:

ومن النصوص العجيبة كذلك، نبوءة أشعياء والتي بالتأمل فيها ودراستها بإنصاف نجدها لا تنطبق إلا على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، جاء في سفر أشعياء (42 : 11- 13):

(هو ذا عبدي الذي أعضده مُختاري الذي سُرت به نفسي وضعتُ روحي عليه فيُخرجُ الحقَّ للأمم.

لا يصيحُ ولا يرفعُ ولا يُسمِعُ في الشارع صوته.

قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفيء، إلى الأمان يُخرجُ الحقَّ.

لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.

هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها، باسطُ الأرض ونتائجها مُعطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا.

أنا الربُ قد دعوتُك بالبر فأُمسكُ بيدك وأحفظُك وأجعلُك عهدا للشعب ونورا للأمم.

لتفتح عيون العُمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.

أنا الربُ هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات.

هُوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبُت أعلمكم بها.

غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحهُ من أقصى الأرض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر(جمع جزيرة) وسكانها.

لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار. لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا.

ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر.

الرب كالجبار يخرج كرجل حُروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه.

قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت كالوالدة أصيح انفخ وانخر معا.

أخرب الجبال و الآكام و أجفف كل عشبها واجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام.

وأسير العمى في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم اجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور افعلها ولا اتركهم.

قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتن آلهتنا).

وهذا النص على طوله من أعجب النصوص في التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أطلع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ هذا النص بعد معرفة المقصود بكلمتي "قيدار" و"سالع" لأيقن بما لا مجال للشك معه أن عبد الله المختار الذي يتحدث عنه هذا النص ليس هو إلا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد البشر أجمعين.

وقبل دراسة هذا النص، نبدأ بتحليل كلمتي "قيدار" و"سالع" لمعرفة المقصود بهما.

أما "قيدار" فهو أحد أبناء إسماعيل عليه السلام وهو الجد الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر أقرته التوراة وكتب التاريخ، جاء في سفر التكوين (25: 13): (وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبائيل ومبسام).

وقيدار بن إسماعيل ينسب له العرب المستعربة، والتي تسمى أيضا بالعرب العدنانية نسبة إلى عدنان الذي انحدر من صلب قيدار بن إسماعيل عليه السلام.

وتؤكد المصادر التاريخية أن قيدار ابن إسماعيل سكن وأقام في مكة المكرمة، جاء في كتاب "الرحيق المختوم": (وقد رزق الله إسماعيل اثني عشر ولدا ذكرا وهم: نابت أو بنايوط وقيدار وأدبائيل ومبشام ومشماع ودوما وميشا وحدد ويتما ويطور ونفيس وقيدمان، وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، وانتشرت هذه القبائل فى أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها، ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان إلا أولاد نابت وقيدار.

وقد ازدهرت حضارة الأنباط –أبناء نابت- في شمال الحجاز وكونوا حكومة قوية ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد.

وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار إلى أربعة قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذين كثرت بطونهما فكان من ربيعة: أسد بن ربيعة وعنزة وعبد القيس وابنا وائل-بكر- وتغلب وحنيفة وغيرها.

وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس بن عيلان بن مضر وبطون إلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: بنو سليم وبنو هوازن وبنو غطفان، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة وهذيل بن مدركة وبنو أسد بن خزيمة وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة:قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.

وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها بطون قصي بن كلاب وهى عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي وعبد مناف بن قصي.

وكان من عبد مناف أربع فصائل:عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله وسلم). صلى الله عليه وسلم)[38].

إذًا فقيدار هو أحد أجداد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك تكون الديار التي سكنها قيدار هي مكة المكرمة، وهي أيضًا الديار التي شهدت مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما "سالع" أو "سلع" فمن غير العجيب أن نعرف أن أشهر جبال المدينة النبوية هو جبل "سلع" الذي يقع غرب المسجد النبوي، وهذا الجبل ورد ذكره في كتب الأقدمين وأشعار السابقين كثيرًا، وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شهدت سفوح هذا الجبل معركة تاريخية هامة هي غزوة الخندق مع الأحزاب، لذلك عندما تقول تلك البشارة "لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال" فإنها في حقيقة الأمر تصف استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم مهاجرًا إليهم، ويزداد عجب المرء عندما يرى هذا الترتيب الزمني في سياق البشارة، حيث بدأ الحديث عن ديار قيدار وهي مكة المكرمة ثم الحديث عن سكان سالع وهي المدينة النبوية وهكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأت بمكة ثم انتهت في المدينة.

وعند النظر في بقية البشارة بعد الحديث عن سكان سالع نجده تتحدث عن الحروب وعن انتقام الله عزوجل من أعدائه "الرب كالجبار يخرج كرجل حُروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه"، وهذا أيضًا ما يتفق مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن الجهاد ولا الغزوات ولا الفتوحات العظيمة إلا بعد الهجرة إلى المدينة النبوية وإلا بعد "ترنم سكان سالع".

وإذا تعمقنا قليلاً في بقية النص لوجدناه لا ينطبق إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقول "لا يصيحُ ولا يرفعُ ولا يُسمِعُ في الشارع صوته"، يتفق مع ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه سابقًا، حيث وصفت التوراة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه "لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ".

أما قول "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يُخرجُ الحقَّ. لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته"، فإنها تتحدث عن صفة هذا النبي المنتظر الذي لا يكل ولا يقف حتى يكمل دعوته ويبلغ رسالة ربه عزوجل، ولا تنطبق هذه الصفة على رسول إلا خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى في سورة المائدة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]، بينما ورد عن المسيح عليه السلام في إنجيل يوحنا قوله: "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم لكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق".

وجملة: (أنا الربُ قد دعوتُك بالبر فأُمسكُ بيدك وأحفظُك وأجعلُك عهدا للشعب ونورا للأمم، لتفتح عيون العُمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة).

دليل آخر على التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم لقد وعد الله هذا النبي المنتظر بأنه سيحفظه حتى يبلغ رسالته وهذا يتوافق مع قوله عزوجل في القرآن الكريم: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، وهو ما يتفق كذلك مع ما ورد في حديث "عبد الله بن عمرو بن العاص": " وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا".

والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرج الناس من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام والمنحوتات إلي عبادة الله الواحد، وهو ما ينطبق عليه ما ورد في هذه البشارة :(أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات).

والنص السابق لا ينطبق على المسيح عليه السلام الذي لم يدع أنه قد أخرج كل الحق للأمم؛ فقد قال المسيح عليه السلام أنه لم يأت إلا لهداية بني إسرائيل كما جاء في إنجيل متى: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة).

ومن المعلوم أيضا أن دعوة المسيح عليه السلام لم تظهر في الديار التي سكنها قيدار وهي مكة، ولا رفعت بها الصحراء صوتها، كم أنها قد ظهرت في بني إسرائيل، وهي أمة كتابية ليست من عبدة الأصنام مثل أهل مكة الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن نغادر تلك البشارة التي لم نطيل في دراستها، نكشف هذه المفاجأة التي كشفها الدكتور محمد عبد الخالق شربية (.. والمفاجأة التي وجدناها في النص عند قراءته في النسخة الإنجليزية ( وما أكثر المفاجآت عند مقارنة النسخة العربية بالنسخة الإنجليزية ! ) هو أن كلمة ( الأمم ) الواردة في النص ليست ترجمة لكلمة(nations) كما هو متوقع، ولكن الكلمة الواردة في النسخة الإنجليزية هي(gentiles) ، وتترجم بالعربية إلى الأمميين .. ويقول قاموس الكتاب المقدس عن هذا اللفظ أن اليهود يستخدمونه على الأمم الأخرى من غيرهم، فهم يعتبرون أنفسهم حملة الرسالات وشعب الله المختار، ويقول أيضا أن اليهود يستخدمونه كمصطلح لاحتقار الأمم الأخرى من غير اليهود باعتبارها أمم وثنية.. وبالطبع يرفض النصارى هذا التقسيم باعتبارهم أيضا من أهل الكتاب، وهذا هو الحق عند المسلمين وهو أن هذا اللفظ كان يستخدم لوصف الأمم من غير أهل الكتاب قبل ظهور الإسلام كما يخبرنا القرآن الكريم: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) [آل عمران:20] .. وهم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2]"[39].

إن هذا النص من أعجب البشارات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا أن الجهل والضلال طمس أعين أهل الكتاب لما منعهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم مانع.

البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل:

الفارقليط أو المعزي:

ومن البشارات الواضحة لولا عمى القلوب ما جاء في إنجيل يوحنا (14 :16-17) على لسان المسيح عليه السلام:"أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم ".

وجاء في إنجيل يوحنا (14: 25-26): "بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم".

وفي إنجيل يوحنا (15 : 26-27): "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء".

وفي يوحنا (16 : 7- 11): "لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِين إن لي أمورًا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم".

إن هذا النص من أهم البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا ما أصابه من تحريف لرأينا اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحًا فيه كما قال تعالي: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف:6].

وحتى ندرس هذا النص، فيجب أن نعرف من هو المعزي القادم، أو البارقليط كما في النص الأصلي وليس المعزي كما جاء في الترجمة العربية لهذا النص، ".. يرى النصارى بأن الآتي هو روح القدس الذي نزل على التلاميذ يوم الخمسين ليعزيهم في فقدهم للسيد المسيح، وهناك "صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا » أعمال الرسل 2/1 - 4.

ولا تذكر أسفار العهد الجديد شيئاً - سوى ما سبق - عن هذا الذي حصل يوم الخمسين من قيامة المسيح.

يقول الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا: « البارقليط هو روح الله القدوس نفسه المعزي، البارقليط: المعزي » الروح القدس الذي يرسله الأب باسمي "يوحنا 14/26" ، وهو الذي نزل عليهم يوم الخمسين أعمال 2/1 - 4 فامتلأوا به وخرجوا للتبشير، وهو مع الكنيسة وفي المؤمنين، وهو هبة ملازمة للإيمان والعماد ».

أما المسلمون فيعتقدون أن ما جاء في يوحنا عن المعزي، إنما هو بشارة المسيح بنبينا صلى الله عليه وسلم وذلك يظهر من أمور:

1- منها لفظة « المعزي » لفظة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة 1820م، 1831م، 1844م تضع الكلمة اليونانية «البارقليط» كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية.

2- وفي تفسير كلمة «بارقليط» اليوناني نقول: إن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين، الأول أنه «باراكلي توس» . فيكون بمعنى: المعزي والمعين والوكيل.

والثاني أنه « بيروكلوتوس » ، فيكون قريباً من معنى: محمد وأحمد.

ويقول أسقف بني سويف الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا « إن لفظ بارقليط إذا حرف نطقه قليلاً يصير (بيركليت)، ومعناه: الحمد أو الشكر، وهو قريب من لفظ أحمد ».

ويسأل عبد الوهاب النجار الدكتور كارلو نيلنو – الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود اليونانية القديمة- عن معنى كلمة « بيركلوتس » فيقول: « الذي له حمد كثير ».

ومما يؤكد خطأ الترجمة أن اللفظة اليونانية «بيركلوتس » اسم لا صفة، فقد كان من عادة اليونان زيادة السين في آخر الأسماء، وهو ما لا يصنعونه في الصفات.

ويرى عبد الأحد داود أن تفسير الكنيسة للبارقليط بأنه « شخص يدعى للمساعدة أو شفيع أو محام أو وسيط » غير صحيح، فإن كلمة بارقليط اليونانية لا تفيد أياً من هذه المعاني، فالمعزي في اليونانية يدعى «باركالوف أو باريجوريس» ، والمحامي تعريب للفظة «سانجرس»، وأما الوسيط أو الشفيع فتستعمل له لفظة « ميديتيا » ، وعليه فعزوف الكنيسة عن معنى الحمد إلى أي من هذه المعاني إنما هو نوع من التحريف. يقول الدكتور سميسون كما في كتاب «الروح القدس أو قوة في الأعالي»: «الاسم المعزي ليس ترجمة دقيقة جداً».

ومما سبق يتضح أن ثمة خلافاً بين المسلمين والنصارى في الأصل اليوناني لكلمة « بارقليط » حيث يعتقد المسلمون أن أصلها « بيركلوتوس » وأن ثمة تحريفاً قام به النصارى لإخفاء دلالة الكلمة على اسم النبي صلى الله عليه وسلم أحمد: الذي له حمد كثير.

ومثل هذا التحريف لا يستغرب وقوعه في كتب القوم، ففيها من الطوام مما يجعل تحريف كلمة «البيرقليط» من السهل الهين.

كما أن وقوع التصحيف والتغير في الأسماء كثير عند الترجمة بين اللغات وفي الطبعات، فاسم «بارباس» في الترجمة البروتستانتية هو في نسخة الكاثوليك «بارابا»، وكذا «المسيا، ماشيح» و «شيلون، شيلوه» وسوى ذلك، وكلمة «البارقليط» مترجمة عن السريانية لغة المسيح الأصلية فلا يبعد أن يقع مثل هذا التحوير حين الترجمة.

ولجلاء التحريف في هذه الفقرة فإن أدوين جونس في كتابه « نشأة الديانة المسيحية » يعترف بأن معنى البارقليط: محمد، لكنه يطمس اعترافه بكذبة لا تنطلي على أهل العلم والتحقيق، فيقول بأن المسيحيين أدخلوا هذا الاسم في إنجيل يوحنا جهلاً منهم بعد ظهور الإسلام وتأثرهم بالثقافة الدينية للمسلمين.

وأياً كان المعنى للبارقليط: أحمد أو المعزي فإن الأوصاف والمقدمات التي ذكرها المسيح للبارقليط تمنع أن يكون المقصود به روح القدس، وتؤكد أنه كائن بشري يعطيه الله النبوة، وذلك واضح من خلال التأمل في نصوص يوحنا عن البارقليط.

استعمل يوحنا في حديثه عن البارقليط أفعالاً حسية (الكلام، والسمع، والتوبيخ) في قوله:"كل ما يسمع يتكلم به"، وهذه الصفات لا تنطبق على الألسنة النارية التي هبت على التلاميذ يوم الخمسين، إذ لم ينقل أن الألسنة النارية تكلمت يومذاك بشيء، وأما الروح فغاية ما يصنعه إنما هو الإلهام القلبي، وأما الكلام فهو صفة بشرية، لا روحية.

فهم أوائل النصارى قول يوحنا بأنه بشارة بكائن بشري، وادعى مونتنوس في القرن الثاني (187م) أنه البارقليط القادم، ومثله صنع ماني في القرن الرابع فادعى أنه البارقليط، وتشبه بالمسيح فاختار اثنا عشر تلميذاً وسبعون أسقفاً أرسلهم إلى بلاد المشرق، ولو كان فهمهم للبارقليط أنه الأقنوم الثالث لما تجرؤوا على هذه الدعوى.

"إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي"؛ ومن صفات الآتي أنه يجيء بعد ذهاب المسيح من الدنيا، فالمسيح وذلك الرسول المعزي لا يجتمعان في الدنيا، وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن المعزى لا يمكن أن يكون الروح القدس الذي أيد المسيح طيلة حياته، بينما المعزي لا يأتي الدنيا والمسيح فيها، وروح القدس سابق في الوجود على المسيح، وموجود في التلاميذ من قبل ذهاب المسيح، فقد كان شاهداً عند خلق السماوات والأرض (انظر سفر التكوين 1/2)، وكان مع بني إسرائيل طويلاً "أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه" (سفر إشعيا 63/11).

وكان لروح القدس دور في ولادة عيسى، كما اجتمعا سوياً يوم تعميد المسيح، حين "نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (لوقا 3/22)، فالروح القدس موجود مع المسيح وقبله، وأما المعزي "إن لم أنطلق لا يأتيكم"، فهو ليس الروح القدس، والقادم المنتظر سيد هذا العالم لم يأت بعد، ففي الرهبانية اليسوعية :"لأن سيد هذا العالم آت، وليس له يد علي".

ما يدل على بشرية الروح القدس أنه من نفس نوع المسيح، والمسيح كان بشراً، وهو يقول عنه: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر"، وهنا يستخدم النص اليوناني كلمة (allon) وهي تستخدم للدلالة على الآخر من نفس النوع، فيما تستخدم كلمة (hetenos) للدلالة على آخر من نوع مغاير، وإذا قلنا إن المقصود من ذلك رسول آخر أصبح كلامنا معقولاً، ونفتقد هذه المعقولية إذا قلنا: إن المقصود هو روح القدس الآخر، لأن روح القدس واحد وغير متعدد.

كما أن الآتي عرضة للتكذيب من قبل اليهود والتلاميذ، لذا فإن المسيح يكثر من الوصية بالإيمان به وأتباعه، فيقول لهم: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي"، ويقول:"قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنوا"، ويؤكد على صدقه فيقول: "لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به"، وهذه الوصاة لا معنى لها إن كان الآتي هو الروح القدس، حيث نزل على شكل ألسنة نارية، فكان أثرها في نفوسهم معرفتهم للغات مختلفة، فمثل هذا لا يحتاج إلى وصية للإيمان به والتأكيد على صدقه، لأنه يقوم في القلب من غير حاجة لرده أو قدرة على تكذيبه.

كما أن الروح القدس أحد أطراف الثالوث، وينبغي وفق عقيدة النصارى أن يكون التلاميذ مؤمنين به، فلم أوصاهم بالإيمان به؟.

وروح القدس وفق كلام النصارى إله مساو للآب في ألوهيته، وعليه فهو يقدر أن يتكلم من عند نفسه، وروح الحق الآتي "لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به".

ودل نص يوحنا على تأخر زمن إتيان البارقليط، فقد قال المسيح لهم: "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق"، فثمة أمور يخبر بها هذا النبي لا يستطيع التلاميذ إدراكها، لأن البشرية لم تصل لحالة الرشد التام في فهم هذا الدين الكامل الذي يشمل مناحي الحياة المختلفة، ومن غير المعقول أن تكون إدراكات التلاميذ قد اختلفت خلال عشرة أيام من صعود المسيح إلى السماء، وليس في النصوص ما يدل على مثل هذا التغيير.

بل إن النصارى ينقلون عنهم أنهم بعد نزول الروح عليهم قد أسقطوا كثيراً من أحكام الشريعة وأحلوا المحرمات، فسقوط الأحكام عندهم أهون من زيادة ما كانوا ليحتملوها أو يطيقوها زمن المسيح، فالبارقليط يأتي بشريعة ذات أحكام تثقل على المكلفين الضعفاء.

كما أن المسيح أخبر أنه قبل أن يأتي البارقليط ستقع أحداث هامة وبارزة "سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله"، وهذا الأمر إنما حصل بعد الخمسين، بل بعد قرون من رفع المسيح، فالنص لا يتحدث عن اضطهاد الرومان أو اليهود لأتباع المسيح، وإنما يتحدث عن اضطهاد رجالات الكنيسة لأتباع المسيح الموحدين، وهم - أي رجال الكهنوت - يظنون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، ويقدمون خدمة لله ودينه، فقررت مجامعهم طرد آريوس والموحدين، وأخرجوهم من المجامع الكنسية ، وحكموا عليهم بالحرمان والاضطهاد، واستمر الاضطهاد بأتباع المسيح حتى ندر الموحدون قبيل ظهور الإسلام.

وذكر يوحنا أن المسيح خبّر تلاميذه بأوصاف البارقليط، والتي لم تتمثل بالروح القدس الحال على التلاميذ يوم الخمسين، فهو شاهد تضاف شهادته إلى شهادة التلاميذ في المسيح " فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً"، فأين شهد الروح القدس للمسيح؟ وبم شهد؟، بينما نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد للمسيح عليه السلام بالبراءة من الكفر وادعاء الألوهية والبنوة لله، كما شهد ببراءة أمه مما رماها به اليهود.

وأخبر المسيح عن تمجيد الآتي له، فقال: "ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" ولم يمجد المسـيح أحد ظهر بعده كما مجده نبي الإسلام، فقد أثنى عليه، وبيّن فضله على سائر العالمين، في حين أنه لم ينقل لنا أي من أسفار العهد الجديد أن روح القدس أثنى على المسيح أو مجده يوم الخمسين، حين نزل على شكل ألسنة نارية.

وأخبر المسيح أن البارقليط يمكث إلى الأبد، أي دينه وشريعته، بينا نجد أن ما أعطيه التلاميذ من قدرات يوم الخمسين - إن صح - اختفت بوفاتهم، ولم ينقل مثله عن رجالات الكنيسة بعدهم ، وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فيمكث إلى الأبد بهديه ورسالته، إذ لا نبي بعده ولا رسالة.

كما أن البارقليط "يذكركم بكل ما قلته لكم" وليس من حاجة بعد رفع عيسي عليه السلام بعشرة أيام إلى مثل هذا التذكير، ولم ينقل العهد الجديد أن روح القدس ذكرهم بشيء، بل إنا نجد كتاباتهم ورسائلهم فيها ما يدل على تقادم الزمن ونسيان الكاتب لبعض التفاصيل التي يذكرها غيره، بينما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما غفلت عنه البشرية من أوامر الله التي أنزلها على أنبيائه ومنهم المسيح عليه السلام.

والمعزي له مهمات لم يقم بها الروح القدس يوم الخمسين فهو "متى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة"، ولم يوبخ الروح القدس أحداً يوم الخمسين، بل هذا هو صنيع رسول الله مع البشرية الكافرة.

ويرى عبد الأحد داود أن التوبيخ على البر قد فسره المسيح بقوله بعده: "وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني"، ومعناه أنه سيوبخ القائلين بصلبه، المنكرين لنجاته من كيد أعدائه، وقد أخبرهم أنه سيطلبونه ولن يجدوه، لأنه سيصعد إلى السماء، "يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن" (يوحنا 13/32).

كما سيوبخ النبي الآتي الشيطان ويدينه بما يبثه من هدي ووحي "وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين".

وصفة التوبيخ لا تناسب من سمي بالمعزي، وقيل بأنه جاء إلى التلاميذ يعزيهم بفقد سيدهم ونبيهم، ثم العزاء إنما يكون في المصائب، والمسيح كان يبشرهم بذهابه ومجيء الآتي بعده.

كما أن العزاء إنما يكون حين المصيبة وبعدها بقليل، وليس بعد عشرة أيام (موعد نزول الروح القدس على التلاميذ)، ثم لماذا لم يقدم المعزي القادم العزاء لأم المسيح، فقد كانت أولى به.

ثم لا يجوز للنصارى أن يعتبروا قتل المسيح على الصليب مصيبة تستوجب العزاء، إذ هو برأيهم سبب الخلاص والسعادة الأبدية للبشرية، فوقوعه فرحة ما بعدها فرحة، وإصرار النصارى على أن التلاميذ احتاجوا لعزاء الروح القدس يبطل عقيدة الفداء والخلاص.

ومن استعراض ما سبق ثبت بأن روح القدس ليس هو البارقليط، فكل صفات البارقليط صفات لنبي يأتي بعد عيسى، وهو النبي الذي بشر به موسى عليه السلام، فالبارقليط "لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به"، وكذا الذي بشر به موسى "أجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به "، وهو وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 3 -5].

بل كل ما ذكر عن البارقليط له شواهد في القرآن والسنة تقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذه النبوءة، إذ هو الشاهد للمسيح، وهو المخبر بالغيوب، الذي لا نبي بعده، وقد ارتضى الله دينه إلى قيام الساعة ديناً"[40].

البشارة الثانية من إنجيل متي:

ومن البشارات كذلك ما جاء في إنجيل متى (20: 1-16 ): ( فإن ملكوت السماواتِ يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكَرْمِه، فاتَّفَقَ مع الفعلة على دينارٍ في اليوم، وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج نحو الساعةِ الثالثة ورأى آخرين قياماً في السوقِ بطالينَ، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكُم ما يحقُّ لكم، فمضوا، وخرج أيضاً نحوَ الساعة السادسة والتاسعة وفعل ذلك، ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرجَ ووجدَ آخرين قياماً بطالين، فقال لهم: لماذا وقفتم ههنا كلَّ النهار بطالين؟ قالوا له: لأنه لم يستأجِرْنا أحدٌ، قال: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحقُّ لكم، فلما كان المساءُ قال صاحبُ الكرم لوكيلِه: ادع الفعلة وأعطِهِم الأجرةَ مبتدئاً من الآخرينَ إلى الأولينَ، فجاء أصحابُ الساعةِ الحاديةَ عشرةَ وأخذوا ديناراً ديناراً، فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثرَ فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً، وفيما هم يأخذون، تذمّروا على ربِّ البيتِ قائلين: هؤلاءِ الآخرون عملوا ساعةً واحدةً وقد ساويتَهم بنا نحن الذين احتملنا ثقلَ النهارِ والحر، فأجاب وقال لواحدٍ منهم: يا صاحب ما ظلمتك! أما اتفقت معي على دينار؟ فخذ الذي لكَ واذهبْ، فإني أريدُ أن أعطيَ هذا الأخيرَ مثلَك، أوَ ما يحلُّ لي أن أفعلَ ما أريدُ بمالي؟ أم عينُك شريرةٌ لأني أنا صالحٌ؟ هكذا يكونُ الآخرون أولين والأولون آخرين ، لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون).

ولن نطيل في دراسة هذا النص، بل نكتفي بمقارنته بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثلُكم ومثلُ أهلِ الكتابَيْنِ كمثلِ رجلٍ استأجَرَ أُجراءَ فقال: من يعمل لي من غدوةٍ إلى نصفِ النهارِ على قيراطٍ ؟ فعمِلَتْ اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصفِ النهارِ إلى صلاةِ العصرِ على قيراطٍ؟، فعملت النصارى، ثم قال: من يعملْ لي من العصرِ إلى أن تغيبَ الشمسِ على قيراطينِ؟ فأنتم هم. فغضبتْ اليهودُ والنصارى فقالوا: ما لَنا أكثرُ عملاً وأقلُّ عطاءً؟ قال: هل نقصتكم من حقِّكم ؟ قالوا : لا . قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء "[41] .

وليس هناك أمةٌ بعدَ اليهودِ والنصارى غيرَ أمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أمةٌ كانت بطّالةً لم تُستَعْمِلْ غيرَ أمةِ العرَبِ، فإنهم ما أُرسِلَ لهم رسولٌ من عهدِ أبيهم إسماعيلَ عليه السلام الذي هو أصلُ العربِ المستعرِبة، فهذا النص ينطبق بكل وضوح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته وكان اليهود يعلمون ذلك إلا إن الكبر منعهم من قول الحق والإيمان به.

فهذه ثمان بشارات ست في العهد القديم واثنين في العهد الجديد نكتفي بها حتى لا يطول بحثنا، وإلا فإن البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم تبلغ العشرات برغم ما أصاب الكتب القديمة من تحريف وتزييف عمدًا أو بغير عمد، إلا إن ما أوردناه من بشارات لكافية للإيمان والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن صفا قلبه وأبصرت عيناه الحقيقة.

اعتراف أهل الكتاب بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يقول تعالى في كتابه الكريم محتجًا على المكذبين برسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء:197].

أولا: قبل مولده صلى الله عليه وسلم:

لقد كان أهل الكتاب يعرفون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويعلمون مخرجه وسيرته قبل أن يولد، وعاش بعضهم وهو ينتظر ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حملت كتب التاريخ قصصًا كثيرة في هذا الشأن، نذكر منها ما يلي:

1- روى أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة بسنده عن أبي سوية بن خليفة قال: سألت محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد فقلت: كيف سماك أبوك محمدا؟[42] فضحك، ثم قال: أخبرني أبي عدي بن ربيعة، قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن عمر بن ربيعة، وأسامة بن مالك نريد ابن جفنة[43]، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير، فقلنا: لو اغتسلنا وزهينا ثيابنا ههنا من قشف السفر، فجعلنا نتحدث، فأشرف علينا ديراني[44] من قائم[45] له، فقال: إني أسمع لغة قوم ليست بلغة أهل هذه البلاد، قلنا: نحن قوم من مضر، قال: من أي المضريين؟ قلنا: من خندف، قال: (إنه سيبعث وشيكا نبي منكم، فخذوا نصيبكم منه تسعدوا، قلنا: ما اسمه؟ قال: محمد، فأتينا ابن جفنة، فقضينا حاجتنا، ثم انصرفنا، فولد لكل رجل منا ابن فسماه محمدا، يدور على ذلك الاسم"[46].

2- ومن ذلك أيضًا إخبار اليهود أهل المدينة بقرب خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن إسحاق في السيرة بسنده عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجالٍ من قومه، قالوا : إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمةِ الله تعالى وهُداه لنا، لما كنا نسمَعُ من رجالِ يهود وكنا أهلَ شركٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهل كتاب، عندَهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرَهون، قالوا لنا : إنه قد تقاربَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآن، نقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإِرَمٍ فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم فلما بعثَ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أجبناه فآمنّا به، وكفروا به. ففينا نزلَ هؤلاءِ الآياتِ من البقرة: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة: 89][47] .

3- ومن ذلك أيضًا، ما رواه ابن إسحاق عن سلمة بن سلامة بن وقش - وكان من أصحابِ بدر - قال: كان لنا جارٌ من يهودٍ في بني عبدِ الأشهَلِ، قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقفَ على بني عبدِ الأشهل - قال سلمة : وأنا يومئذٍ من أحدثِ من فيه سناً، على بردةٍ لي، مضطجعٌ فيها بفناءِ أهلي - فذكرَ القيامةَ والبعثَ والحسابَ والميزانَ والجنةَ والنارَ، قال: فقال ذلك لقومٍ أهلِ شركٍ أصحابِ أوثانٍ، لا يرَوْنَ أن بعثاً كائنًا بعد الموتِ، فقالوا له: ويحكَ يا فلانُ أَوَ ترى هذا كائناً، أن الناسَ يُبعَثون بعدَ موتِهم، إلى دارٍ فيها جنةٌ ونارٌ يُجْزَونَ فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلَفُ به ولوَدَّ أن له بحظِّه من تلك النارِ أعظم تَنُّورٍ في الدارِ، يُحمونَه ثم يُدخِلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجوَ من تلكَ النارِ غداً، فقالوا: ويحك يا فلان ! فما آيةُ ذلك ؟ قال: نبيٌّ مبعوثٌ من نحوِ هذه البلادِ، وأشار بيده إلى مكةَ واليمنِ، فقالوا: ومتى تراه ؟ قال: فنظرَ إليَّ وأنا من أحدَثِهم سناً، فقال: إن يستَنْفِدْ هذا الغلامُ عمرَه يُدْرِكْه قال سلمة: فوالله ما ذهب الليلُ والنهارُ حتى بعثَ الله محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حي بينَ أظهُرِنا، فآمنا به، وكفرَ به بغياً وحسداً قال: فقلْنا له : ويحكَ يا فلانُ، ألستَ الذي قلتَ لنا فيه ما قلتَ ؟ قال : بلى، ولكن ليس به[48].

4- ومن القصص العجيبة في هذا الشأن، قصة ابن الهيبان؛ فقد ذكر ابن إسحاق عن عاصم بن عمرَ بن قتادة عن شيخٍ من بني قريظةَ قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلامُ ثعلبةَ بنِ سعية، وأُسيدِ بنِ سعية، وأسدِ بنِ عُبيد ؟ - نفرٌ من بني هدل ، إخوة بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتِهم ، ثم كانوا سادتهم في الإسلام - قال : قلت : لا والله.

قال: فإن رجلاً من يهود من أهلِ الشامِ يقال له : ابن الهيبان قدم علينا قُبَيل الإسلامِ بسنين فحلَّ بين أظهرِنا، لا والله، ما رأينا رجلاً قطُّ لا يصلي الخمسَ أفضلَ منه، فأقامَ عندنا، فكنا إذا قحطَ عنا المطرُ، قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستَسْقِ لنا، فيقول: لا والله، حتى تقدِّموا بين يديْ مخرَجِكم صدقةً، فيقولون له : كم ؟ فيقول : صاعاً من تمرٍ أو مُدَّينِ من شعير فنُخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهرِ حرَّتِنا، فيستسقي اللهَ لنا، فوالله ما يبرَحُ مجلسه حتى يمرَّ السحابُ ونُسْقى قد فعل ذلكَ غيرَ مرَّةٍ ولا مرتينِ ولا ثلاث.

قال: ثم حضَرَتْه الوفاةُ عندنا، فلما عرفَ أنه ميتٌ، قال: يا معشرَ يهودَ، ما تَرَوْنَه أخرجني من أرضِ الخمرِ والخميرِ إلى أرضِ البؤسِ والجوعِ؟ قال : قلنا: إنك أعلمُ، قال: فإني إنما قدِمْتُ هذه البلدةَ، أتَوَكَّفُ[49] خروجَ نبيٍّ قد أظلَّ[50] زمانُه، وهذه البلدةُ مهاجرُه[51]، فكنت أرجو أن يُبعَثَ، فأتَّبِعُه، وقد أظلَّكم زمانُه، فلا تُسبَقَنَّ إليه يا معشرَ يهود، فإنه يُبعَثُ بسفكِ الدماءِ، وسَبْيِ الذراري والنساءِ ممن خالفَه، فلا يمنَعُكم ذلك منه، فلما بُعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحاصرَ بني قريظة، قال هؤلاءِ الفتيةُ - وكانوا شباباً أحداثاً[52] - : يا بني قُريظَةَ، والله إنه للنبيُّ الذي كان عَهِدَ إليكم فيه ابنُ الهيبان، قالوا : ليس به، قالوا : بلى والله إنه لهو بصفَتِه، فنزلوا وأسلَموا، وأحرَزُوا دماءَهم وأموالهَم وأهْليهم[53].

فتلك أربع قصص لأشخاص متفرقين كانوا يعلمون بقرب خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ينتظرونه، فمنهم من آمن به، ومنهم من منعهم الحسد والكبر عن الإيمان فخسر الدنيا والأخرة، نعوذ بالله من الخذلان.

ثانيًا: من مولده صلى الله عليه وسلم وحتى بعثته:

ومن الوقائع التي تؤكد نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع بعد مولده من قصص مماثلة ذكرتها كتب السيرة، والتاريخ.

1- من ذلك ما حدثَ ليلةَ مولِدِه، من طلوعِ نجمِه الذي يدُلُّ على ولادته صلى الله عليه وسلم، وبه عرفتْ اليهودُ أنه قد وُلِدَ.

روى ابن إسحاق بسنده عن حسان بن ثابتٍ رضي الله عنه قال: والله إني لغلامٌ يفعةٌ[54]، ابنُ سبعِ سنينَ أو ثمانٍ، أعقِلُ كلَّ ما سمعتُ، إذ سمعتُ يهودياً يصرُخُ بأعلى صوته : يا معشرَ يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له : ويلَكَ ، مالَكَ ؟ قال : طلعَ نجمُ أحمدَ الذي وُلِدَ به.

قال ابن إسحاق: فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ؟ فقال: ابن ستين، وقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين[55].

2- كانت قصة حسان بن ثابت في المدينة حيث كثر اليهود انتظارًا لخروج النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعرفون أنه سوف يهاجر إلى المدينة النبوية، أما في مكة المكرمة فقد وقعت حادثة مماثلة، روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن عائشةَ رضي الله عنها قالت : كان يهوديٌّ قد سَكَنَ مكةَ، يتَّجِرُ بها، فلما كانتْ الليلةُ التي وُلِدَ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلسٍ من قريش : يا معشرَ قُريشٍ، هل وُلِدَ فيكم الليلةَ مولودٌ ؟ فقال القوم : والله ما نعلمُه، قال : الله أكبرقال:ا إذ أخطَأَكم فلا بأسَ، انظروا واحفَظوا ما أقولُ لكم، وُلِدَ فيكم هذه الليلة نبيُّ هذه الأمةِ الأخيرةِ بين كَتِفَيْهِ علامةٌ[56]، فيها شعراتٌ متواتراتٌ كأنهنَّ عرفُ فَرَسٍ، لا يرضَعُ ليلتينِ، وذلك أن عِفريتاً من الجنِّ أَدْخَلَ إصبَعَه في فمه فمنعه الرضاعَ فتصدَّعَ القومُ من مجلِسهم، وهم يتعجَّبونَ من قولِه وحديثِه، فلما صاروا إلى منازِلهم، أخبَرَ كلُّ إنسانٍ منهم أهلَه، فقالوا : لقد وُلِدَ لعبدِ الله بنِ عبدِ المطلب غلامٌ سَمَّوه محمداً، فالتقى القومُ، فقالوا : هل سمعتُم حديثَ هذا اليهوديِّ ؟ بلَغَكُم مولدُ هذا الغلامِ ؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهوديَّ فأخبروه الخبرَ، قال: فاذهبوا معي حتى أنظرَ إليه، فخرجوا به حتى أدْخَلُوه على آمنةَ، فقال: أَخرِجي إلينا ابنَكِ، فأخْرَجَتْه، وكشَفوا له عن ظهرِه، فرأى تلك الشامةَ، فوقعَ اليهوديُّ مغْشِياً عليه، فلما أفاقَ، قالوا: ويلَكَ مالَكَ ؟ قال: ذهبتْ واللهِ النبوةُ من بني إسرائيلَ، أَفَرِحْتُمْ به يا معشرَ قريش ؟ أما والله ليَسْطُوَنَّ بكم سطوةً يخرج خبرُها من المشرقِ والمغربِ.

وكان في النفرِ الذي قال لهم اليهوديُّ ما قال : هشامٌ ، والوليدُ ، ابنا المغيرة ، ومسافرُ بنُ أبي عمرو ، وعبيدةُ بنُ الحارث ، وعقبةُ بنُ ربيعة - شابٌ فوقَ المحتلم - في نفرٍ من بني عبدِ منافٍ وغيرُهم من قريش[57] .

3- ومن القصص ذات الشأن في هذا الأمر، قصة بحيرى الراهب وموقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآه صغيرًا مع عمه أبي طالب في رحلته إلى الشام، قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب[58] به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدا، أو كما قال.

فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، يقال له بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر .

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم.

قال ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم فما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى: صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.

فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي؛ قالوا له يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.

قال فقال رجل من قبحيرى:القوم واللات والعزى ، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني، قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حبلى به قال صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده.

فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام؛ فزعموا فيما روى الناس أن زريرا وتماما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه[59].

فهذا حديث عظيم يظهر كيف أن أهل الكتاب يهود كانوا أو نصارى كانوا في ترقب وانتظار لخروج النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، منهم من كان ينتظر ليقتله وما كان له ذلك من سبيل، ومنهم من كان ينتظر ليؤمن به فيسعد في الدنيا والآخرة، وقد زعم بعض المستشرقين وأعداء الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بحيرى الراهب في هذا اللقاء ما كان السبب فيما بعد في إعلانه النبوة، ورغم تهافت هذه الشبهة وسقوطها، إلا إننا ننقل هنا دحض باحث غربي لهذه الشبهة، ولقد بحث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل قضية لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ببحيرى الراهب، يقول توماس كارليل في كتابه الأبطال: (ولما شب محمد وترعرع، صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه، وفي الثامنة عشر من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب، غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين ، رحلة إلى مشارف الشام ، إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره ، أعنى الديانة المسيحية، وإني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرى) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في الدار، ولا ماذا عساه أن يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشر، ولم يكن يعرف إلا لغته، ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها "[60].

ثالثًا: بعد بعثته صلى الله عليه وسلم:

بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ووحي الله له، تكثر القصص والوقائع الدالة على تصديق أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بعضهم كان صادقًا مع نفسه فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقه وآمن به، بينما كان آخرون يطمس الحسد والبغي أعينهم عن رؤية الحق، ومن الوقائع في هذا الأمر، ما نذكره:

قصة ورقة بن نوفل رضي الله عنه:

هذا ورقة بن نوفل، وكان قد خرج لما كره عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسأل عن الدين، فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، وتعلم منهم، فلما قابل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء اللقاء الأول، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره يقول "زملوني زملوني" من روعة اللقاء الأول، اقترحت عليه الزوجة الرؤوم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد أن يذهبا إلى ورقة بن نوفل فيعرضا عليه الأمر.

روى البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة أم المؤمنين قالت: ".. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ.

فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ[61] الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا[62] لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ.

قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا[63] ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ[64] وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ[65].

هذه هي قصة ورقة بن نوفل رضي الله عنه، ولعل من أعظم فوائدها الدليل على أن علماء أهل الكتاب كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون عناء وجهد في البحث حيث كانت علامات النبوة وأمارات الرسالة ظاهرة واضحة لمن كان على علم وتبصر في شأنه صلى الله عليه وسلم.

إسلام عبد الله بن سلام:

ومن هذه الوقائع إسلام عالم اليهود وابن عالمهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.

كان عبد الله بن سلام من يهود المدينة الذين يعرفون صفة النبي المنتظر وينتظرون خروجه، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية كان عبد الله بن سلام كان فوق نخلة له، فسمع رجة فقال: ما هذا؟، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدم، فألقى بنفسه من أعلى النخلة ثم خرج ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبحث عن علامات النبوة.

يقول عبد الله بن سلام: فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب[66]، فكان أول شيء سمعته يقوله: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)[67].

ثم رجع فقالت له أمه: لله أنت، لو كان موسى بن عمران عليه السلام ما كان بذلك تلقي نفسك من أعلى النخلة، فقال: والله لأنا أشد فرحا بقدوم رسول الله من موسى إذ بعث[68].

وفي رواية ابن إسحاق: أنه قال لعمته خالدة: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به، فقالت: أي ابن أخي ! أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نَفَس الساعة؟ فقلت لها : نعم[69].

ثم توجه ابن سلام بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسأله عن أمور يعلم أنه لا يعرفها إلا نبي، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ.

قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا.

قَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتْ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ.

قَالُوا: أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا وَأَخْبَرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ.

قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ، قَالَ: هَذَا ما كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ[70].

وفي رواية: فَخَرَجَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ.

3- إسلام سلمان الفارسي:

ومن القصص العجيبة في هذا الشأن، قصة إسلام الصحابي الجليل سلمان الفارسي.

قال عبد الله بن عباس: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ أَيْ مُلَازِمَ النَّارِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً، قَالَ وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا.

فَقَالَ لِي يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ.

قَالَ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا فَقُلْتُ لَهُمْ أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ قَالُوا بِالشَّامِ قَالَ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ.

قَالَ فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ أَيْ بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ.

قَالَ قُلْتُ يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ.

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ.

قَالَ: قُلْتُ كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا قَالَ فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.

قَالَ وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ.

قَالَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى قَالَ فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ.

قَالَ فَقُلْتُ لَهُمْ إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ.

قَالَ فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ قَالُوا الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ.

قَالَ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ قَالَ فَادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ.

قَالَ فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ، قَالَ وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ.

فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا.

قَالُوا وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ.

قَالَ قُلْتُ أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ قَالُوا فَدُلَّنَا عَلَيْهِ قَالَ فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ قَالَ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا قَالَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ.

قَالَ يَقُولُ سَلْمَانُ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ، قَالَ فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ.

فَقُلْتُ لَهُ يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي.

قَالَ أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلَانٌ فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ.

قَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ.

قَالَ فَقَالَ لِي أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ.

قُلْتُ لَهُ يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي.

قَالَ أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ.

وَقَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي.

قَالَ فَأَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ.

قُلْتُ لَهُ يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي.

قَالَ أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ قَالَ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.

قَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي.

فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ قَالَ وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ قَالَ ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ فَلَمَّا حَضَرَ.

قُلْتُ لَهُ يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي.

قَالَ أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ.

قَالَ ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا فَقُلْتُ لَهُمْ تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ قَالُوا نَعَمْ فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.

قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي قَالَ وَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ مَاذَا تَقُولُ قَالَ فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ قَالَ قُلْتُ لَا شَيْءَ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا.

قَالَ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ.

قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ.

فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا.

قَالَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَاتَانِ اثْنَتَانِ.

ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَالَ وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي.

قَالَ فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي.

فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَوَّلْ فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ.

قَالَ فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ.

قَالَ ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ أَعِينُوا أَخَاكُمْ فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ يَعْنِي الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ.

فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي فَقَالَ مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ قَالَ فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ فَقُلْتُ وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ قَالَ فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعُتِقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ[71].

4- مخيريق خير يهود:

وهذا يهودي آخر كاد أن تضله نفسه عن طريق الحق إلا إنه أفاق وذكر قومه من أهل الكتاب بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة، إنه مخيريق خير يهود كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر ابن هشام في السيرة النبوية عن ابن إسحاق قال: كان من حديث مخيريق، وكان حبرا عالما، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في علمه وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، فقال : يا معشر يهود ! والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق.

قالوا : إن اليوم يوم السبت.

قال : لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء.

فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( مخيريق خير يهود )[72].

5- أجدك مثلك ومثل هيأتك:

ومن ذلك ما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن الفَلْتَانِ بن عَاصِمٍ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَشَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي فِي الْمَسْجِدِ.

فَقَالَ:"يَا فُلانُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلا يُنَازِعُهُ الْكَلامَ إِلا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟".

قَالَ: لا، قَالَ:"أَتَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، وَالإِنْجِيلَ، قَالَ:"وَالْقُرْآنَ؟".

قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَشَاءُ لَقَرَأْتُهُ، قَالَ: ثُمَّ نَاشَدَهُ.

قَالَ:"تَجِدُنِي فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ؟".

قَالَ: أَجِدُكَ مِثْلَكَ وَمِثْلَ هَيْأَتِكَ وَمِثْلَ مَخْرَجِكَ، وَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنَّا، فَلَمَّا خَرَجْتَ تَحَيَّرْنَا أَنْ تَكُونَ أَنْتَ هُوَ فَنَظَرْنَا وَإِذَا لَيْسَ أَنْتَ هُوَ.

قَالَ:"وَلِمَ ذَلِكَ؟".

قَالَ: إِنَّ مَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، وَمَعَكَ نَفَرٌ يَسِيرٌ.

قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنَا هُوَ وَإِنَّهُمْ لأُمَّتِي لأَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا"[73].

6- إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك:

ومن الأخبار المماثلة للخبر السابق، ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي صخر العقيلي قال حدثني رجل من الأعراب، قال: جَلَبْتُ جَلُوبَةً[74] إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعَتِي، قُلْتُ لَأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ، قَالَ فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ[75] حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي.

فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا.

فَقَالَ ابْنُهُ إِنِّي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.

فَقَالَ أَقِيمُوا الْيَهُودَ عَنْ أَخِيكُمْ ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ وَحَنَّطَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ[76].

7- أطع أبا القاسم:

وإذا كان هذا الأب لم يهزه منظر ابنه المحتضر ليدفعه إلى الإسلام والإيمان، فإن يهوديًا آخر نصح ابنه نصيحة ليته عمل بها، روى البخاري في صحيحه عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ[77].

وفي الحديث من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقين اليهود ببعثة ونبوته صلى الله عليه وسلم، غير أن من أعظم الدلائل التي دل عليها هذا الحديث رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصه على هداية الناس وقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جهده ووقته وحياته وهو ما لا يقوم به إلا خاتم النبيين الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم.

كما أن فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهداية هذا الصبي الصغير المقبل على الموت دليل آخر على عظمة هذا النبي الكريم، فما يستفيده رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبي صغير مقبل على الموت إلا هداية هذا الصبي إلى طريق الحق.

8- سيدا بني النضير:

أما من الأخبار العجيبة التي تؤكد معرفة أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبنائهم وجحدهم لنبوته صلى الله عليه وسلم رغم الدلائل الباهرة والأمارات الظاهرة، فهو قصة سيدا بني النضير "حيي بن أخطب"، وأخوه "أبو ياسر"، تروى لنا هذا الخبر أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها بعد إسلامها؛ جاء في كتب السير عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه.

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين[78]، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى[79]، فهششت[80] إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم.

قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو ؟، قال: نعم، والله.

قال: أتعرفه، وتثبّتَّه؟.

قال : نعم.

قال:فما في نفسك منه ؟ قال :عداوته والله!![81].

9- نصارى نجران والطمع في الدنيا:

ومن أخبار الضلال عن الحق بسبب الطمع في الدنيا والحرص على المكانة، قصة وفد نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعرفون نبوته ويقرون برسالته، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إليهم يدعوهم فيه إلى الإسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع به وذعر ذعراً شديدا، ثم دعا أهل الرأي في نجران فأطلعهم على الكتاب، وتشاوروا فيه، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاختاروا ستين راكبا، منهم أربعة عشر من أشرافهم، يتزعمهم ثلاثة منهم، وهم : العاقب، وكان أمين القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبد المسيح، والسيد، وكان عالمهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وكان أسقفهم وحبرهم ، وإمامهم وصاحب مراميهم.

وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم حتى حسن علمه في دينهم، وكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه وقبلوه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من اجتهاده في دينهم، فلما توجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى المدينة، وإلى جنبه أخ له يقال له :كرز بن علقمة يُسايره في الطريق، فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز : تعس الأبعد - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له أبو حارثة :بل أنت تعست !.

فقال: ولم يا أخ ؟.

قال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر !!.

قال له كرز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه ؟!!.

قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم :شرفونا وأمرونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو قد فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر الإسلام أخوه كرز بن علقمة، وأسلم بعد ذلك[82].

ولا ينتهي العجب من نصارى نجران عند هذا الموقف، فقد ذكر ابن إسحاق أن وفد نصارى نَجْران، لما قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة دخلوا عليه مَسْجِدَه حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرَات: جُبَب وأرْدية، يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق.

ثم دار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حوار دعاهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأقام عليهم الحجة وأزال الشبهة.

فلما كلمه الحَبْران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسْلِمَا" قالا قد أسلمنا.

قال: "إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما".

قالا بلى، قد أسلمنا قبلك.

قال: "كَذَبْتُمَا، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما لله ولدا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ".

قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فَصَمَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدَ المسيح، ماذا ترى؟.

فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من خَبَر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صَغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجعَ على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضًا[83].

10- النجاشي وعمرو بن العاص:

ومن الأخبار الدالة على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إسلام النجاشي ملك الحبشة، ودعوته إلى عمرو بن العاص.

روى الإمام أحمد في مسنده عن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنْ الْأَحْزَابِ عَنْ الْخَنْدَقِ جَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ مَكَانِي وَيَسْمَعُونَ مِنِّي فَقُلْتُ لَهُمْ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا كَبِيرًا مُنْكَرًا وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ.

قَالُوا وَمَا رَأَيْتَ.

قَالَ رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونَ عِنْدَهُ فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عُرِفَ فَلَنْ يَأْتِيَنَا مِنْهُمْ إِلَّا خَيْرٌ.

فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ.

قَالَ فَقُلْتُ لَهُمْ فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِي لَهُ وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ[84].

فَجَمَعْنَا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ.

قَالَ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ.

قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ.

فَقَالَ مَرْحَبًا بِصَدِيقِي أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكَ شَيْئًا.

قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْمًا كَثِيرًا.

قَالَ ثُمَّ قَدَّمْتُهُ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا فَأَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا.

قَالَ فَغَضِبَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنْ قَدْ كَسَرَهُ فَلَوْ انْشَقَّتْ لِي الْأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ.

ثُمَّ قُلْتُ أَيُّهَا الْمَلِكُ وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ.

فَقَالَ لَهُ أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ.

قَالَ قُلْتُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَكَذَاكَ هُوَ.

فَقَالَ وَيْحَكَ يَا عَمْرُو أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الْحَقِّ وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ.

قَالَ قُلْتُ فَبَايِعْنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ.

قَالَ نَعَمْ فَبَسَطَ يَدَهُ وَبَايَعْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي وَقَدْ حَالَ رَأْيِي عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَكَتَمْتُ أَصْحَابِي إِسْلَامِي ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسْلِمَ فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ .

فَقُلْتُ أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ.

قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ[85]، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ أَذْهَبُ وَاللَّهِ أُسْلِمُ فَحَتَّى مَتَى.

قَالَ قُلْتُ وَاللَّهِ مَا جِئْتُ إِلَّا لِأُسْلِمَ.

قَالَ فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ ثُمَّ دَنَوْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَلَا أَذْكُرُ وَمَا تَأَخَّرَ.

قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَمْرُو بَايِعْ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا قَالَ فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ[86].

فهذا النجاشي كان ملكًا متوجًا على الحبشة ولم تمنعه الدنيا من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علم صدقه رغم ما بينهما من مفاوز وبحار وجبال، إلا إن لقاء النجاشي مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما كان كفيلاً بأن يكون سببًا في هدايته، فرضي الله عنه وأرضاه.

رابعًا: بعد وفاته:

أما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الاعتراف بنبوة رسول الله يتمثل في إسلام مئات الآلاف من الناس سنويًا، بينهم قساوسة وأساتذة وعلماء، فإن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقًا ما أمن به هؤلاء وفيهم من حاز الشهادات الكبرى والمناصب الرفيعة، وإن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًا لم بقي دينه طوال هذه الفترة أكثر من أربعة عشر قرنًا وهو في تزايد مستمر رغم ما أصاب المسلمين من ضعف وهوان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبئ الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم حيث رأى رجلا يسب النبي صلى الله عليه وسلم من رؤوس النصارى ويرميه بالكذب فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبئ الكذاب كم تبقى نبوته فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء إن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة لمدة قريبة إما ثلاثين سنة أو نحوها فقال لهم هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وهو ظاهر مقبول متبوع فكيف يكون هذا كذابا ثم ضرب عنق ذلك الرجل"[87].

فبقاء هذا الدين وازدهاره وتقدمه، دليل صدق وأمارة ظاهرة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنكتفي هنا بذكر قصة أو قصتين تدلان على اعتراف أهل الكتاب من بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبوته وبعثته.

1- إسلام الترجمان:

من أعجب الأخبار في هذا الباب قصة الإمام أبي محمد عبد الله الترجمان الميورقي المتوفى سنة 832هـ، كان يدعى "انسلم تورميدا" وكان من أكبر قساوسة النصارى في وقته، بل كان مهيئا لأن يصبح البابا الأكبر، ثم أسلم عندما وقع على آية في الإنجيل تبشر بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعد إسلامه ألف الترجمان كتابه الشهير "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"، وقسمه قسمين؛ القسم الأول: في ذكر قصة إسلامه، والثانية في الردود المفصلة على النصارى، ونختصر هنا قصة انتقاله إلى الإسلام التي أفاض في تفصيلها:

قال: اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة[88]، وكان والدي محسوبا من أهل حاضرة ميورقة، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعمل المنطق في ست سنوات، ثم ارتحلت من بلدي إلى مدينة لاردة من أرض القسطلان[89]، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر، ويجتمع فيها طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف وخمسمائة ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازما ذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة بلونية من أرض الأنبردية، وهي مدينة كبيرة جدا، وهي مدينة علم ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف[90] (الذي هو صباغ الله)[91]، فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه: (نقلاو مرتيل)، وكانت منزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جدا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم تَرد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك.

فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلىَّ مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه، وصير جميع ذلك على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، والله أعلم.

فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوما من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس إقرائه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل - على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل - :( إنه يأتي من بعده نبي اسمه (البارقليط)[92]، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه، وعظم مقالهم وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة، فأتيت مسكن القسيس، فقال: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم (البارقليط) وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل.

فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل، فبادرت قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم.

فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي، والله أنت لتعز علي كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليَّ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين.

فقلت له: يا سيدي، والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به، لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك.

فقال لي: إذن فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام[93]، وأخبر أنه نزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل.

فقلت: وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟، فقال لي: يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول، لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.

فقلت: يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر ؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام.

فقلت:وهل ينجو الداخل فيه ؟ قال: نعم ينجو في الدنيا والآخرة، فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم؛ فإذا علمتَ فضل دين الإسلام فما يمنعك منه ؟ فقال: يا ولدي إن الله لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك، لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى، من رفعة الجاه والعز، والترف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام، لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلما، فيقولون لي : قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت فيه نفسك من عذاب الله، فأبقى فيهم شيخا كبيرا فقيرا ابن تسعين، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي[94].

فقلت: يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل دينهم؟ فقال: إن كنت عاقلا، طالبا للنجاة، فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقله عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، وأنا برئ من ذلك إن فهت[95] بشيء، فعاهدته بما يرضيه.

ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته، فدعا لي عند الوداع بخير، فانصرفت إلى بلدي ميورقة، ثم سافرت إلى جزيرة صقلية، وأقمت فيها خمسة أشهر وأنا انتظر مركبا يتوجه لأرض المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس، فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى تونس قبل الزوال، فلما نزلت بديوان تونس، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أتوا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبتهم أيضاً بعضُ التجار الساكنين أيضاً بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد – رحمه الله- فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدللت عليه واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسُر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، فاستأذنه لي فأذن لي، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له:خمسة وثلاثون عاماً، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله.

فقلت للترجمان – وهو الطبيب المذكور- : قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم[96].

ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا، فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم ؟، قالوا: نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل ذلك أبداً.

فلما سمع ما عند النصارى بعث إليّ، فحضرت بين يديه (وشهدت)شهادتي الحق بمحضر النصارى، فصلّبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج، وخرجوا مكروبين محزونين، فرتب لي السلطان - رحمه الله - ربع دينار كل يوم في دار المختص، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها، أعطاني مائة دينار ذهباً وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها، وولد لي منها ولد سميته محمد على وجه التبرك باسم نبينا صلى الله عليه وسلم[97].

2- وكيل دير المحرق وشهادة الحق:

ومن القصص المعاصرة في اعتراف أهل الكتاب بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الدكتور أحمد حجازي السقا في كتابه "البشارة بنبي الإسلام"، حيث يروي: أنه التقى بـ ( قمص ) نصراني في أحد القطارات، علم أنه نصراني لأنه كان يقرأ في الكتاب المقدس، فدار بينهما حوار حول الأحداث التي يشير إليها الإصحاح الثامن من سفر دانيال النبي – عليه السلام-.

وبعد نزولهم من القطار سأله حجازي: أمحمد نبي المسلمين لا يشير إليه الكتاب المقدس ؟.

فأجابه القمص: يشير إليه في آيات كثيرة !! ثم سرد له كثيرا من تلك الآيات !!

ثم عرف أن اسمه ( جرجس سلمون فيلمون )، وكان وكيل الدير المحرق في القوصية بأسيوط، وهذا الموقف كان من أسباب كتابة حجازي لكتاب البشارة[98] .

3- رئيس لجان التنصير يشهد بالحق:

ومن القصص المعاصرة إسلام القس إسحق هلال مسيحة، والذي كان يعمل في مجال التنصير، بل كان يشغل منصب الرئيس الفخري لجمعيات خلاص النفوس المصرية بأفريقيا وغرب آسيا، يحكى "إسحاق" قصته فيقول: ولدت في محافظة المنيا من والدين نصرانيين أرثوذكس، وحين بدأت أدرس حياة الأنبياء بدأ الصراع الفكري في داخلي وكانت أسئلتي تثير المشاكل في أوساط الطلبة مما جعل البابا شنودة الذي تولّى بعد وفاة البابا كيرلس يصدر قراراً بتعييني قسيساً قبل موعد التنصيب بعامين كاملين لإغرائي وإسكاتي فقد كانوا يشعرون بمناصرتي للإسلام مع أنه كان مقرراً ألا يتم التنصيب إلا بعد مرور 9 سنوات من بداية الدراسة اللاهوتية.

ثم عيّنت رئيساً لكنيسة المثال المسيحي بسوهاج ورئيساً فخرياً لجمعيّات خلاص النفوس المصريّة (وهي جمعيّة تنصيريّة قويّة جدّاً ولها جذور في كثير من البلدان العربية وبالأخص دول الخليج).

وكان البابا يغدق عليّ الأموال حتّى لا أعود لمناقشة مثل تلك الأفكار لكنّي مع هذا كنت حريصاً على معرفة حقيقة الإسلام ولم يخبو النور الإسلامي الذي أنار قلبي فرحاً بمنصبي الجديد بل زاد، وبدأت علاقتي مع بعض المسلمين سراً وبدأت أدرس وأقرأ عن الإسلام.

وطُلب منّي إعداد رسالة الماجستير حول مقارنة الأديان وأشرف على الرسالة أسقف البحث العلمي في مصر سنة 1975، واستغرقت في إعدادها أربع سنوات وكان المشرف يعترض على ما جاء في الرسالة حول صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأميته وتبشير المسيح بمجيئه.

وأخيراً تمّت مناقشة الرّسالة في الكنيسة الإنكليكيّة بالقاهرة واستغرقت المناقشة تسع ساعات وتركزت حول قضيّة النّبوّة والنّبي صلى الله عليه وسلم علماً بأن الآيات صريحة في الإشارة إلى نبوّته وختم النّبوّة به، وفي النهاية صدر قرار البابا بسحب الرسالة منّي وعدم الاعتراف بها، ووقتها أخذت أفكر في أمر الإسلام تفكيراً عميقاً حتّى تكون هدايتي عن يقين تام ولكن لم أكن أستطيع الحصول على الكتب الإسلامية فقد شدّد البابا الحراسة عليّ وعلى مكتبتي الخاصّة.

في اليوم السادس من الشهر الثامن من عام 1978م كنت ذاهباً لإحياء مولد العذراء بالإسكندريّة أخذت قطار الساعة الثالثة وعشر دقائق الذي يتحرك من محطة أسيوط متجهاً إلى القاهرة وبعد وصول القطار في حوالي الساعة التاسعة والنصف تقريباً ركبت الحافلة من محطة العتبة رقم 64 المتجهة إلى العباسيّة.

وأثناء ركوبي في الحافلة بملابسي الكهنوتية وصليب يزن ربع كيلو من الذهب الخالص وعصاي الكرير صعد صبيّ في الحادية عشر من عمره يبيع كتيبات صغيرة فوزعها على كلّ الركّاب ماعدا أنا، وهنا صار في نفسي هاجس لم كل الركاب إلا أنا، فانتظرته حتّى انتهى من التوزيع والجمع فباع ما باع وجمع الباقي.

قلت له: "يا بنيّ لماذا أعطيت الجميع بالحافلة إلا أنا"، فقال: "لا يا أبونا أنت قسيس"، وهنا شعرت وكأنّني لست أهلاً لحمل هذه الكتيّبات مع صغر حجمها (لا يمسّه إلاّ المطهرون).

ألححت عليه ليبيعني منهم فقال: "لا دي (هذه) كتب إسلاميّة" ونزل، وبنزول هذا الصّبي من الحافلة شعرت وكأنّني جوعان وفي هذه الكتب شبعي وكأنّني عطشان وفيها شربي، نزلت خلفه فجرى خائفاً منّي فنسيت من أنا وجريت وراءه حتّى حصلت على كتابين.

عندما وصلت إلى الكنيسة الكبرى بالعبّاسيّة (الكاتدرائيّة المرقسيّة) ودخلت إلى غرفة النّوم المخصّصة بالمدعوّين رسميّاً كنت مرهقاً من السفر، ولكن عندما أخرجت أحد الكتابين وهو (جزء عم) وفتحته وقع بصري على سورة الإخلاص فأيقظت عقلي وهزت كياني، بدأت أرددها حتى حفظتها وكنت أجد في قراءتها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً وسعادة روحية، وبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ أحد القساوسة وناداني: "أبونا إسحاق"، فخرجت وأنا أصيح في وجهه (قل هو الله أحد) دون شعور منّي.

بعد ذلك ذهبت إلى الإسكندريّة لإحياء أسبوع مولد العذراء، وفي يوم الأحد أثناء صلاة القداس المعتاد وفي فترة الراحة ذهبت إلى كرسي الاعتراف لكي أسمع اعترافات الشعب الجاهل الذي يؤمن بأن القسيس بيده غفران الخطايا.

جاءتني امرأة تعض أصابع الندم، قالت: "إني انحرفت ثلاث مرات وأنا أمام قداستك الآن أعترف لك رجاء أن تغفر لي وأعاهدك ألا أعود لذلك أبدا"، ومن العادة المتبعة أن يقوم الكاهن برفع الصليب في وجه المعترف ويغفر له خطاياه.

وما كدت أرفع الصليب لأغفر لها حتى وقع ذهني على العبارة القرآنية الجميلة (قل هو الله أحد) فعجز لساني عن النطق وبكيت بكاءً حارّاً وقلت: "هذه جاءت لتنال غفران خطاياها منّي فمن يغفر لي خطاياي يوم الحساب والعقاب.

هنا أدركت أن هناك كبير أكبر من كل كبير، إله واحدٌ لا معبود سواه. ذهبت على الفور للقاء الأسقف وقلت له: "أنا أغفر الخطايا لعامة الناس فمن يغفر لي خطاياي"، فأجاب دون اكتراث: "البابا"، فسألته: "ومن يغفر للبابا"، فانتفض جسمه ووقف صارخاً وقال: "أنت قسيس مجنون واللي أمر بتنصيبك مجنون حتّى وإن كان البابا لأنّنا قلنا له لا تنصّبه لئلاّ يفسد الشعب بإسلاميّاته وفكره المنحل"؛ على إثر ذلك صدر قرار البابا بحبسي في دير (ماري مينا) بوادي النطرون.

أخذوني معصوب العينين وهناك استقبلني الرهبان استقبالاً عجيباً كادوا لي فيه صنوف العذاب علماً بأنّني حتّى تلك اللحظة لم أسلم، كل منهم يحمل عصا يضربني بها وهو يقول: "هذا ما يصنع ببائع دينه وكنيسته".

استعملوا معي كل أساليب التعذيب الذي لا تزال آثاره موجودةً على جسدي وهي خير شاهدٍ على صحّة كلامي حتّى أنّه وصلت بهم أخلاقهم اللاإنسانيّة أنهم كانوا يدخلون عصا المقشّة في دبري يوميّاً سبع مرّات في مواقيت صلاة الرهبان لمدّة سبعة وتسعين يوماً، وأمروني بأن أرعى الخنازير.

وبعد ثلاثة أشهر أخذوني إلى كبير الرهبان لتأديبي دينياً وتقديم النصيحة لي فقال: "يا بنيّ . . إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، اصبر واحتسب، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب"، قلت في نفسي ليس هذا الكلام من الكتاب المقدس ولا من أقوال القديسين، وما زلت في ذهولي بسبب هذا الكلام حتى رأيته يزيدني ذهولاً على ذهول بقوله: "يا بنيّ نصيحتي لك السر والكتمان إلى أن يعلن الحق مهما طال الزمان" تُرى ماذا يعني بهذا الكلام وهو كبير الرهبان.

ولم يطل بي الوقت حتى فهمت تفسير هذا الكلام المحيّر، فقد دخلت عليه ذات صباح لأوقظه فتأخر في فتح الباب، فدفعته ودخلت وكانت المفاجأة الكبرى التي كانت نوراً لهدايتي لهذا الدين الحق دين الوحدانيّة عندما شاهدت رجلاً كبيراً في السنّ ذا لحية بيضاء وكان في عامه الخامس والستّين وإذا به قائماً يصلي صلاة المسلمين (صلاة الفجر).

تسمرتُ في مكاني أمام هذا المشهد الذي أراه ولكنّي انتبهت بسرعة عندما خشيت أن يراه أحد من الرهبان فأغلقت الباب، جاءني بعد ذلك وهو يقول: "يا بنيّ استر عليّ ربّنا يستر عليك"، أنا منذ 23 سنة على هذا الحال: غذائي القرآن وأنيس وحدتي توحيد الرحمن ومؤنس وحشتي عبادة الواحد القهّار الحقّ أحقّ أن يتّبع يا بنيّ.

بعد أيّام صدر أمر البابا برجوعي لكنيستي بعد نقلي من سوهاج إلى أسيوط لكن الأشياء التي حدثت مع سورة الإخلاص وكرسي الاعتراف والراهب المتمسّك بإسلامه تركت في نفسي أثراً كبيراً لكن ماذا أفعل وأنا محاصر من الأهل والأقارب والزوجة وممنوع من الخروج من الكنيسة بأمر شنودة.

بعد مرور عام جاءني خطاب والمودع بالملف الخاص بإشهار إسلامي بمديرية أمن الشرقيّة، يأمرني فيه بالذهاب كرئيس للّجنة المغادرة إلى السودان في رحلة تنصيريّة فذهبنا إلى السودان في الأوّل من سبتمبر 1979م وجلسنا به ثلاثة شهور وحسب التعليمات البابويّة بأن كلّ من تقوم اللجنة بتنصيره يسلّم مبلغ 35 ألف جنيه مصريّ بخلاف المساعدات العينيّة فكانت حصيلة الذين غرّرت بهم اللجنة تحت ضغط الحاجة والحرمان خمسة وثلاثين سودانيّاً من منطقة واو في جنوب السودان.

وبعد أن سلّمتُهم أموال المنحة البابويّة اتّصلت بالبابا من مطرانيّة أم درمان فقال: "خذوهم ليروا المقدسات المسيحيّة بمصر (الأديرة)" وتم خروجهم من السودان على أساس عمّال بعقود للعمل بالأديرة لرعي الإبل والغنم والخنازير وتم عمل عقود صوريّة حتّى تتمكّن لجنة التنصير من إخراجهم إلى مصر.

بعد نهاية الرحلة وأثناء رجوعنا بالباخرة (مارينا) في النّيل قمت أتفقّد المتنصرين الجدد وعندما فتحت باب الكابينة 14 بالمفتاح الخاص بالطاقم العامل على الباخرة فوجئت بأن المتنصر الجديد عبد المسيح (وكان اسمه محمّد آدم) يصلّي صلاة المسلمين.

تحدّثت إليه فوجدته متمسّكاً بعقيدته الإسلاميّة فلم يغريه المال ولم يؤثّر فيه بريق الدنيا الزائل، خرجت وبعد حوالي الساعة أرسلت له أحد المنصّرين فحضر لي بالجناح رقم 3 وبعد أن خرج المنصّر قلت له: "يا عبد المسيح لماذا تصلّي صلاة المسلمين بعد تنصّرك"، فقال: "بعت لكم جسدي بأموالكم، أمّا قلبي وروحي وعقلي فملك الله الواحد القهّار لا أبيعهم بكنوز الدنيا وأنا أشهد أمامك بأن لا إله إلا الله وأنّ محمّد رسول الله".

بعد هذه الأحداث التي أنارت لي طريق الإيمان وهدتني لأعتنق الدين الإسلامي وجدت صعوبات كثيرة في إشهار إسلامي نظراً لأنّني قس كبير ورئيس لجنة التنصير في أفريقيا وقد حاولوا منع ذلك بكل الطرق لأنه فضيحة كبيرة لهم، ذهبت لأكثر من مديريّة أمن لأشهر إسلامي وخوفاً على الوحدة الوطنيّة أحضرتْ لي مديريّة الشرقيّة فريقاً من القساوسة والمطارنة للجلوس معي وهو المتّبع بمصر لكل من يريد اعتناق الإسلام.

هدّدتني اللجنة المكلّفة من 4 قساوسة و 3 مطارنة بأنها ستأخذ كلّ أموالي وممتلكاتي المنقولة والمحمولة والموجودة في البنك الأهلي المصري - فرع سوهاج وأسيوط والتي كانت تقدّر بحوالي 4 مليون جنيه مصريّ وثلاثة محلات ذهب وورشة لتصنيع الذهب بحارة اليهود وعمارة مكوّنة من أحد عشر طابق رقم 499 شارع بور سعيد بالقاهرة فتنازلت لهم عنها كلّها فلا شئ يعدل لحظة الندم التي شعرت بها وأنا على كرسي الاعتراف.

بعدها كادت لي الكنيسة العداء وأهدرت دمي فتعرضت لثلاث محاولات اغتيال من أخي وأولاد عمّي، فقاما بإطلاق النّار عليّ في القاهرة وأصابوني في كليتي اليسرى وتم استئصالها في 7/1/1987م[99].

ثانيُا: المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة:

أرسل الله عزوجل رسله وأنبيائه إلى الأقوام والأمم المختلفة وأيدهم بمعجزات باهرة وآيات ظاهرة فإن كذبهم المعارضون والمخالفون كانت آياتهم ومعجزاتهم دليل صدقهم وإثبات صحة كلامهم، فكان مع كل نبي من المعجزات الكثير التي على مثلها يؤمن من شرح الله صدره للإيمان.

وإذا كان ذلك في أنبياء الله السابقين وقد أرسلهم الرب تبارك وتعالى إلى أقوامهم وأزمانهم، فإن الشأن أعظم مع نبي الله الخاتم وخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم حيث أرسله الله إلى البشر أجمعين، بل وشملت رسالته الجن والإنس، وامتدت دعوته عبر الأزمان والقرون فهو النبي الذي ختمت به رسالة الأنبياء قبله، وقد مده الله عزوجل من دلائل النبوة بالكثير، وهي دلائل من الوضوح والظهور ما لا يحتاج معها من صفا قلبه وخلُصت نيته إلى كثير تفكر وتأمل.

وقد مهدنا لحديثنا عن هذه المعجزات، بمقدمة تحدثنا فيها عن تعريف المعجزات وعن خصائصه، وعن الفوارق بينها وبين ما قد يأتي به السحرة والكهان من أفعاله يظنه الظان خارقة للعادة، ثم تحدثنا عن هذه المعجزات وعددها كبير غير أن اكتفينا بأن نرد أمثلة على هذه المعجزات، فمعجزة واحدة كافية بإثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجب على العارف بها الإيمان به صلى الله عليه وسلم.

مقدمة عن تعريف المعجزة وخصائصها:

من أعظم دلائل صدق الأنبياء ما أعطاهم الله من معجزات وآيات خارقة للعادة، وقد أُعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها الكثير، والمراد من المعجزات الشيء الخارق للعادة الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله فيكون ما يأتي به النبي معجزًا لغيره من سائر الناس، بحيث لم يقدروا عليه أفرادًا أو جماعات؛ لأنه خارج عن طوق البشر واستطاعتهم.

ولفظ المعجزة غير وارد في القرآن الكريم، وإنما الوارد لفظ الآية؛ لأنّ الأصل في الآية العلامة الدالة على الشيء، إذ يقول الإنسان لأخيه: فلان يقول لك: أعطني كذا أو كذا، فيقول له: ما آية ذلك؟ أي: ما علامته أنه قال: أعطه كذا أو كذا؟ فيريه خاتمه أو كتابه أو سيفه أو أي شيء خاص به فيكون ذلك آية وعلامة على صدق ما ادعاه وطالب به.

ولا تحصل المعجزة الخارقة للعادة إلا مع النبوة الصادقة، فالمعجزة دليلٌ على النبوة الصادقة،

هي:آية الله الخارقة الدالة على النبوة الصادقة.

خصائص المعجزة:

أخص خواص المعجزة خرق العادة، والمقصود بخرق العادة: مخالفة سنن الطبيعة، وخواص المادة، وقانون الأسباب والمسبّبات.

ومن خصائص معجزات الأنبياء أنها لا تقع إلا لنبي فلا يستطيع ساحر أو كاهن أو غيرهما أن يأتي بمثلها، وإذا قررنا ذلك فإن المعجزات لا يأتي بها أو بمثلها من يكذّب بنبوة الأنبياء، ولا من يدّعي نبوّة كاذبة.

ومن خصائص المعجزة أنها لا تكون إلا في زمن النبوات وقد ختمت النبوات ببعثة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا يشترط في معجزات الأنبياء أن يقرنها النبي بتحدي معارضيه أن يأتوا بمثلها، وذلك لأن المعجزة قد تكون لنصرة النبي أو لمساعدة أتباعه مثل ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام ونبع الماء بين يديه.

ومن أخص خصائص المعجزات أنّه لا يُمكن معارضتها، فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها، كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء، بخلاف ما كان موجوداً لغيرها، وكان ذلك دليل على صحة نبوة صاحب هذه المعجزة، وسوف نرى في معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنه لم يستطيع أحد في السابق ولا في الحاضر معارضتها أو الإتيان بمثلها، وأعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم في ذلك القرآن الكريم.

روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: أنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[100].

يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "قوله : ( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي) هذا دال على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة، (من الآيات) أي المعجزات الخوارق.

قوله: (ما مثله آمن عليه البشر) .. المثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه، والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها، وعليه بمعنى اللام أو الباء الموحدة، والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة ، أي يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال الله تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما ) وقال الطيبي : الراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوبا عليه في التحدي، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل موقعه من قوله : (فأتوا بسورة مثله) أي على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة"[101].

المعجزة مستلزمة للإيمان بالنبي:

إذا ثبتت المعجزة، فإنها تستلزم صدق النبي الذي أتي بها، ويجب على من رآها أو علم بها أن يؤمن بنبوة هذا النبي ويصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر، ومن أخبر عن نبوّة نبيّ من الأنبياء، وأتى بآيةٍ على صدقه في خبره، كانت تلك آية ودليلاً على نبوّة النبيّ، وأنّ إخبار المخبر بنبوته صدق.

بل كون غيره هو المخبر، الآتي بالعلامة أبلغ، ولهذا كانت من أعظم آيات النبي: إخبار غيره من الأنبياء بنبوّته.

والآيات كلّها شهادة بالنبوة، وإخبارٌ بها، وتصديق للمخبر؛ فهي تستلزم ثبوت النبوّة في نفسها، وأنّ صاحب الآيات قد نبأه الله، وأوحى إليه؛ كما أوحى إلى غيره من الأنبياء، وتستلزم أيضاً: صدق الإخبار بأنّه نبيّ؛ فهو إذا قال: إنّي نبيّ، كان صادقاً، وكذلك كل من أخبر بنبوته، فإنّه يكون صادقاً.

الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها من خوارق العادات:

مع تقدم أدوات العلم وسبل المعرفة، قد يظن البعض أن معجزات الأنبياء تشبه ما يفعله السحرة أو غيرهم من أشياء قد تظهر وكأنها خارقة للعادة، غير أن هناك فروق واضحة جلية بين معجزات الأنبياء وغير ذلك من خوارق العادات الموهومة، نجملها فيما يلي[102]:

الأول: النبيّ صادقٌ فيما يخبر به عن الكتب، لا يكذب قط، ومن خالفهم من السحرة، والكهّان، لا بُدّ أن يكذب.

الثاني: الأنبياء لا يأمرون إلاَّ بالعدل، وطلب الآخرة، وعبادة الله وحده، وأعمالهم البر والتقوى، ومخالفوهم يأمرون بالشرك، والظلم، ويعظّمون الدنيا، وفي أعمالهم الإثم والعدوان.

الثالث: أنَّ السحر، والكهانة، ونحوهما أمور معتادة معروفة لأصحابها، ليست خارقة لعادتهم. وآيات الأنبياء لا تكون إلا لهم ولمن اتّبعهم.

الرابع: الكهانة والسحر يناله الإنسان بتعلّمه، وسعيه، واكتسابه، وهذا مجرّبٌ عند الناس، بخلاف النبوة؛ فإنّه لا ينالها أحدٌ باكتسابه فهي اصطفاء واختيار من الله عزوجل.

الخامس: لو قُدِّر أنَّ النبوّة تنال بالكسب، فإنّما تُنال بالأعمال الصالحة، والصدق، والعدل، والتوحيد، لا تحصل مع الكذب على من دون الله، فضلاً عن أن تحصل مع الكذب على الله. فالطريق الذي تحصل به لو حصلت بالكسب مستلزمٌ للصدق على الله فيما يُخبر به.

السادس: ما يأتي به الكهّان، والسحرة، لا يخرج عن كونه مقدوراً للجنّ والإنس، وهم مأمورون بطاعة الرسل، وآيات الرسل لا يقدر عليها؛ لا جنّ، ولا إنس، بل هي خارقة لعادة كلّ من أُرسل النبيّ إليه.

السابع: أنَّ هذه يمكن أن تُعارض بمثلها. وآيات الأنبياء لا يمكن أحداً أن يعارضها بمثلها.

الثامن: أنَّ تلك ليست خارقة لعادات بني آدم، بل كلّ ضربٍ منها معتادٌ لطائفة غير الأنبياء. وأما آيات الأنبياء: فليست معتادة لغير الصادقين على الله، ولمن صدّقهم.

التاسع: أنَّ هذه قد لا يقدر عليها مخلوق؛ لا الملائكة، ولا غيرهم؛ كإنزال القرآن، وتكليم موسى. وتلك تقدر عليها الجنّ والشياطين.

العاشر: أنَّ النبي لا يأمر إلا بمصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ فيأمر بالتوحيد، والإخلاص، والصدق؛ وينهى عن الشرك، والكذب، والظلم. فالعقول، والفطر توافقه؛ كما توافقه الأنبياء قبله؛ فيصدقه صريح المعقول وصحيح المنقول الخارج عمّا جاء به.

الحادي عشر: السحرة يذم بعضهم بعضاً، والأنبياء يصدّق بعضهم بعضاً.

هذه هي الفوارق الظاهرة بين الأنبياء وغيرهم ممن يدعون قدرتهم الإتيان بأمور خارقة وأفعال باهرة، وبهذه الفوارق يتضح لنا بجلاء أن معجزة واحدة يأتي بها النبي كافية في الإيمان به والتصديق بخبره والطاعة لأمره، فكيف إذا كان الحال وقد كثرت المعجزات وزادت حتى بلغت المئات وشهدها ورأها من البشر الآلاف، وهذا هو حال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما نقدم منه أمثلة في هذه الرسالة، فمن صفا قلبه وصدق يقينه فلابد له من أن يؤمن بهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.

المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة على نبوة سيد البرية صلى الله عليه وسلم:

لرسول الله وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم معجزات كثيرة أكرمه الله تعالى بها، عدها بعض أهل العلم فبلغت ألف معجزة إن لم تكن أكثر من ذلك، ونورد هنا فقط بعض الأمثلة على هذه المعجزات.

1- القرآن الكريم:

القرآن الكريم هو أعظم معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو أعظم معجزات الأنبياء جميعهم، لأنه معجزة خالدة باقية فقد تعهد الله عزوجل بحفظه ما دامت السموات والأرض.

فالقرآن الكريم أعظمَ ما أوتيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم دلالة على صحةِ رسالته، وهو نفسُ رسالتِه المتمثلةِ في شِقِّها الأولِ بالقرآنِ العظيمِ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه.

قال الله عزوجل: "قَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [العنكبوت:51].

يقول الحافظ ابن كثير: "أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي، كما قال تعالى: { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 197] ، وقال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى } [طه: 133]"[103].

سر كون القرآن المعجزة العظمي:

تحدث الحافظ ابن حجر رحمه الله عن السر الذي صار القرآن الكريم من أجله أعظم معجزات الأنبياء، فقال رحمه الله في شرحه لحديث أبي هريرة رضى الله عنه "إنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[104].

"قوله: (وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي) أي إن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره وكذلك إحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه، ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك.

وقيل المراد أن القرآن ليس له مثل لا صورة ولا حقيقة ، بخلاف غيره من المعجزات فإنها لا تخلو عن مثل.

وقيل المراد أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ".

وقيل المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما.

وقيل المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة ، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه ، وهذا أقوى المحتملات ، وتكميله في الذي بعده.

وقيل المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا.

قلت : ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد ؛ فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا.

قوله : ( فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )

رتب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون ، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت، فإنه أكثر الأنبياء تبعا"[105].

فالقرآنُ الكريمُ هو المعجزةُ الخالدةُ للرسالةِ المحمدية، وذلك أن المعجزاتِ الأخرى معجزاتٌ وقتِيَّةٌ، ودلالتُها على صحةِ الرسالةِ لا تكونُ إلا لمن عايَنَها، ولذا خصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه المعجزةَ هنا بالذكرِ، وناسبت هذه المعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم النبيين ولابد من أن تكون معجزته خالدة باقية على مر العصور والدهور.

بعض أوجه إعجاز القرآن الكريم:

لا يتسع المقال للحديث عن جميع أو أكثر أوجه إعجاز القرآن الكريم، وذلك لكثرتها وعظمتها فما من آية من القرآن الكريم إلا وهي معجزة قائمة بذاتها تدل الناس على الإيمان بالله عزوجل والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

الإعجاز اليلاغي واللغوي:

ومن أظهر أوجه إعجاز القرآن الكريم، الإعجاز اللغوي والبلاغي، فقد نزل القرآن على نبي كريم لا يقول الشعر في بيئة تتقن الشعر وتملك زمام لغة من أقوى اللغات وأوسعها معجمًا، ورغم ما مثل لهم القرآن من تحدى إلا إنهم لم يستطيعوا مواجهته أو الإتيان بآية مثله، وأقروا بإعجازه.

إن من أعظم خصائص معجزات الأنبياء أنها خارجةٌ عن مقدور من أُرسل الأنبياء إليه؛ وهم الجنّ والإنس؛ فلا تقدر الإنس والجن أن يأتوا بمثل معجز الأنبياء؛ لذلك تحدى الله عزوجل لا العرب وحدهم بل الإنس والجن جميعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال تعالي: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88]، وتحدى الله تبارك وتعالي المنكرين أن يأتوا بعشر سور فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود:13-14]، وتحداهم الله عزوجل أن يأتوا بسورة واحدة فقال: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [يونس: 37-39]، ولم يستطيع المنكرون أن يأتوا بمثله أو أن يطعنوا في بلاغتها وإعجازه اللغوي، وليس في ذلك عجب فإنه كلام خالق الأكوان جميعًا الله رب العالمين.

يقول الفخر الرازي : "لو لم يكن قاطعاً بصحة نبوته، لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله، لأنه - إذا لم يكن قاطعاً بصحة نبوته - كان يجوز خلافه، وتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه، فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام ولا يجزم به فلما جزم دل على أنه كان قاطعاً في أمره"[106].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا (أي هذا التحدي المذكور في الآية) لا يقدم عليه من يطلب من الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك، إذ لو كان عنده شك في ذلك، لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر، فيفسد عليه قصده"[107].

ويمكن إجمال إعجاز القرآن الكريم البلاغي واللغوي في النقاط التالية:

"1ـ نظمُ القرآنِ ككُلٍّ خارجٌ عن المألوفِ من كلامِ العربِ كالشعرِ والنثرِ وغيرِ ذلك.

2ـ فصاحةُ الألفاظِ، وقوةُ المعاني، وكثرةُ الحِكَمِ، مع عدمِ التفاوتِ والاختلافِ، مما لا يُعرَفُ في أسلوبِ أحدٍ من البشرِ، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء : 82].

3ـ اشتمالُ القرآنِ على كثيرٍ من الأغراضِ ، مثل : القصصِ ، والمواعظِ ، والحِكَمِ ، والإعذارِ ، والإنذارِ ، والأحكامِ . وقد جاءَ في أروعِ ما يمكنُ أن يكونَ من براعةِ النظم والتأليف . أما الشاعرُ البليغُ فلا يُجيدُ إلا لوناً واحداً أو لونينِ، فإذا خرجَ عما اعتادَ عليه وبرَعَ فيه ، أساءَ وقصَّرَ .

4ـ أنه وقعَ موقِعاً من البلاغةِ، عجزَ عن الإتيانِ بمثلِه الجنُّ كما عجزَ الإنسُ ، لأنه تحدّاهم فلم يستطيعوا.

5ـ اشتمالُه على جميعِ أنواعِ البلاغةِ، ويتجاوزُها إلى مالم يعرفْه العربُ ولا يستطيعونه.

6ـ أنه تألَّفَ من حروفِ العربِ، وقد افْتُتِحَتْ بعضُ السورِ بهذه الحروفِ تنبيهاً على ذلك ، ومع هذا فلم يستطيعوا أن يأتُوا بمثله.

7ـ أتى في أسلوبٍ سهلٍ لا غموضَ فيه ، له تأثيرٌ عجيبٌ في النفوسِ ، يبادرُ معناه لفظَه إلى القلب"[108].

إعجاز القرآن الكريم الغيبي:

ومن الصور الباهرة لإعجاز القرآن الإخبار بوقائع الأمم المتقدمة، وقصص الأنبياء السابقين بشكل لا مثيل له يفوق ما ورد في التوراة والإنجيل من قصص السابقين[109].

لقد حوى القرآن الكريم من قصص السابقين الكثير وحوى من أسرارها ما لم يأتي في كتاب آخر، مما ينسف أية شبهة أو زعم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من نصارى أو يهود، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون بخبر الأمم السابقة قبل أن ينزل القرآن الكريم بذلك، "فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم وهو لم يعاشر إلا قومه وقومه يعلمون ذلك منه ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ويعلمون أيضا أنه هو لم يكن تعلم ذلك وأنه لم يكن يعاشر غيرهم وهم لا يعلمون ذلك صار هذا حجة على قومه وعلى من بلغه خبر قومه"[110].

ولقد جاء في القرآن الكريم تفصيل أخبار الأنبياء السابقين بشيء لا يوجد في الكتب المتقدمة، فقد "أخبر عن قصة آدم وسجود الملائكة له وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة وهبط هو وزوجه، وأخبر عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده، وأخبر عن قصة الخليل وما جرى له مع قومه وإلقائه في النار وذبح ولده ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان وتبشيره بإسحاق ويعقوب وذهاب الملائكة إلى لوط وما جرى للوط مع قومه وإهلاك الله مدائن قوم لوط وقصة إسرائيل مع بنيه كقصة يوسف وما جرى له بمصر وقصة موسى مع فرعون وتكليم الله إياه مرة بعد مرة وآياته كالعصا واليد البيضاء والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وتظليل الغمام على بني إسرائيل وإطعامهم المن والسلوى وانفجار الماء من الحجر اثني عشر عينا لسقيهم وعبادتهم العجل وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم وقصة البقرة ونتق الجبل فوقهم وقصة داود وقتله لجالوت وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه وغير ذلك من أحوال بني إسرائيلإلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى وعيسى بن مريم وأحوال المسيح وآياته ودعائه لقومه والآيات التي بعث بها وتفاصيل ذلك وذكر قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة أنه لم يتعلم هذا من بشر بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك لا يهودي ولا نصراني ولا غيرهم فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي أو من أخذ عن نبي فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي تعين أن يكون نبيا"[111].

الرد على الشبهات المتعلقة بأخبار الأمم السابقة:

أما المزاعم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي خبر هذه الأمم السابقة من رهبان أو أحبار فهو من أبطل الباطل الذي يعلمه كل منصف، ويدل على بطلانه أمور:

"الأول: أن قومه المعادين له الذين هم من أحرص الناس على القدح في نبوته مع كمال علمهم لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر لطعنوا عليه بذلك وأظهروه فإنهم مع علمهم بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان ومع حرصهم على القدح فيه يمتنع أن لا يقدحوا فيه ويمتنع أن لا يظهر ذلك.

الثاني: أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون أنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك.

الثالث: أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب مع عداوته لهم لكانوا يخبرون بذلك ويظهرونه ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله.

الرابع: أنه حين بُعث صلى الله عليه وسلم كان الناس إما مشركا وإما كتابيا فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين من قريش وغيرهم لم يكونوا يعرفون هذه القصص ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه فلو كان فيهم من علمه أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك.

الخامس: أن مثل هذا لو كان فلا بد أن يعرفه ولو خواص الناس وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك وكان ذلك يشيع ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك فكيف وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن.

فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا، علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته وأنه حين أخبر قومه بهذا مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له لم يمكن أحدا منهم أن يقول له بل فينا من كان يعلم ذلك وأنت كنت تعلم ذلك وقد تعلمته منا أو من غيرنا فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم ومع فرط عداوتهم له آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك.

ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة كانوا كلهم يعلمون كذبه وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول إنه مجنون وبعضهم يقول إنه كاهن وبعضهم يقول إنه ساحر وبعضهم يقول إنه تعلمه من بشر وبعضهم يقول أضغاث أحلام، فحكى الله أقوالهم مبينا لظهور كذب من قال ذلك وأنه قول ضال حائر قد بهره حال الرسول فحار فلم يدر ما يقول"[112].

السادس: حوى القرآن من أخبار الأمم السابقة ما لم يأتِ في كتاب أو يعلمه حبر أو راهب، فقصة نبي الله هود لا ذكر لها في الكتب القديمة، وهناك من التفاصيل الكثيرة لم تذكر في الكتب القادمة، فأين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار إن صح هذا الزعم الكاذب.

أما زعم بعض المشركين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي خبر الأمم السابقة من فتي أعجمي بمكة، فهو من أبين الكذب وأظهره، فهو وإن كان بمكة في هذا الوقت مولى أعجمي لبعض قريش قيل إنه مولى لبني الحضرمي، إلا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحسن أن يتكلم بلسان العجمي وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي فلما قالوا إنه افترى هذا القرآن وأنه علمه إياه بشر قال تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ) [النحل:103] أي يضيفون إليه هذا التعليم وينسبونه إليه وعبر عنه بلفظ الإلحاد لما فيه من الميل فقال لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن لسان أعجمي وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي بل إلى هذا الأعجمي لكونه كان يجلس أحيانا إلى النبي وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي بل هو أعجمي ومحمد لا يعرف العجمية لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن.

فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه بل ما يظهر كذبه لكل أحد فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد"[113].

لذلك أكد الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع أن قصص الأمم السابقة هي من أنباء الغيب، فقال عقب ذكر قصة مريم: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران:44].

إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد تفرد القرآن الكريم بأخبار الأمم والأنبياء السابقين بما ينفى أية شبهة أو زعم يلقيه المنكرون والأعداء، ونعرض في هذا الشأن مثالين فقط؛ اخترناهما لأن البحوث التاريخية المعاصرة أكدت ما ذكره القرآن الكريم من أمور لم تأتي في الكتب السابقة، بم يدلل بما لا شك فيه أن هذا القرآن الكريم هو كلام الله رب العالمين.

حاكم مصر في عهد يوسف ملك أم فرعون:

من الأدلة الباهرة على إعجاز القرآن الكريم التاريخي، حديث القرآن الكريم عن حاكم مصر في عهد نبي الله يوسف عليه السلام، فمن قرأ القرآن الكريم علم أن الكتاب العزيز كان إذا ذكر حكام مصر القدامى لا يذكرهم إلا بلقب (فرعون) وذلك في حوالي ستين آية كريمة إلا في سورة واحدة ذكر فيها حاكم مصر بلقب (ملك) وذلك في سورة يوسف، قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ)، وقوله تعالى: (وقـال الملك ائتوني به).

فما السر وراء عدم وصف حاكم مصر بأنه "فرعون" وتلقيب الكتاب العزيز له بأنه "ملك"، لعل أن هذا السر بقي أعوامًا طويلة وقرونًا مديدة دون الوصول إلى جواب شاف، حتى كان العصر الحديث وكان اكتشاف ترجمة اللغة الهيروغلفية (المصرية القديمة) وبدأ العالم في دراسة تاريخ مصر القديمة، وكانت الإجابة على هذا السؤال.

فإن حياة يوسف عليه السلام في مصر كانت أيام (الملوك الرعاة : الهكسوس ) الذين تغلبوا على جيوش الفراعنة، وظلوا في مصر من 1730 ق.م إلى 1580 ق.م حتى أخرجهم أحمس الأول وشكل الدولة الحديثة (الإمبراطورية).

لذلك كان القرآن العظيم دقيقاً جداً في كلماته لم يقل : قال فرعون ائتوني به، ولم يقل : وقال فرعون إني أرى سبع بقرات سمان، بل قال : )وقال الملك( .

لأن يوسف عليه السلام عاش في مصر أيام ( الملوك الرعاة ) حيث تربع على مصر ملوك بدل الفراعنة الذين انحسر حكمهم إلى الصعيد وجعلوا عاصمتهم طيبة.

إن في ذلك معجزة قرآنية تشهد أنه كلام الرب تبارك وتعالى وتشهد بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كما تشهد كذلك بأن القرآن معجزة متجددة لا تنقضى عجائبه ولكنها تزداد مع زيادة العلم.

القرآن الكريم وجثة فرعون:

ومن الأخبار التاريخية التي تفرد القرآن الكريم بذكرها، وجاء العلم الحديث ليكتشف أن ما قاله القرآن الكريم صحيحًا، هو مصير فرعون مصر الذي طارد موسي عليه السلام حتى دخل ورائه ماء البحر وكان مصيره الغرق، ومما يعلمه كل أحد فإن الذي يموت غرقًا يتحلل جسمه وتختفى ملامحه، غير أن القرآن الكريم أكد أن الله عزوجل أنجى بدن فرعون ليكون آية لمن خلفه، قال تعالي: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس:92].

وجاء الدكتور الفرنسي موريس بوكاي في كتابه القرآن والعلم الحديث ليؤكد تطابق ما ورد في القرآن الكريم بشأن مصير فرعون موسى بعد إغراقه في اليم مع الواقع المتمثل في وجود جثته إلى يومنا هذا آيةً للعالمين؛ يقول الدكتور بوكاي - الذي كانت هذه الآية وأخواتها سببًا في إسلامه- : "إن رواية التوراة بشأن خروج اليهود مع موسى عليه السلام من مصر تؤيد بقوة الفرضية القائلة بأن منفتاح Mineptah خليفة رمسيس الثاني هو فرعون مصر في زمن موسى عليه السلام، وإن الدراسة الطبية لمومياء منفتاحMineptah قدمت لنا معلومات مفيدة أخرى بشأن الأسباب المحتملة لوفاة هذا الفرعون.

إن التوراة تذكر أن الجثة ابتلعها البحر ولكنها لا تعطي تفصيلاً بشأن ما حدث لها لاحقاً، أما القرآن فيذكر أن جثة الفرعون الملعون سوف تنقذ من الماء كما جاء في الآية السابقة، وقد أظهر الفحص الطبي لهذه المومياء أن الجثة لم تظل في الماء مدة طويلة، إذ أنها لم تظهر أية علامات للتلف التام بسبب المكوث الطويل في الماء"[114].

ويزيد موريس بوكاي الأمر تفصيلاً، فيقول: "وجاءت نتائج التحقيقات الطبية لتدعم الفرضية السابقة، ففي عام 1975 جرى في القاهرة انتزاع خزعة صغيرة من النسيج العضلي، بفضل المساعدة القيمة التي أسداها الأستاذ Michfl Durigon.

وأظهر الفحص الدقيق بالميكروسكوب حالة الحفظ التامة لأصغر الأجزاء التشريحية للعضلات، وتشير إلى أن مثل هذا الحفظ التام لم يكون ممكناً لو أن الجسد بقي في الماء بعض الوقت، أو حتى لو أن البقاء خارج الماء كان طويلاً قبل أن يخضع لأولى عمليات التحنيط.

وفعلنا أكثر من ذلك و نحن مهتمون بالبحث عن الأسباب الممكنة لموت فرعون وأكدت دراسات الطب الشرعي للمومياء وجود سبب لموت سريع كل السرعة بفعل كدمات جمجمية ـ مخية سببت فجوة ذات حجم كبير في مستوى صاقورة القحف مترافقة مع آفة رضية، و يتضح أن كل هذه التحقيقات متوافقة مع قصص الكتب المقدسة التي تشير إلى أن فرعون مات حين ارتد عليه الموج).

ووفقًا لروايات التوراة فإن جثة الفرعون التي غرقت في مياه البحر يجب أن تكون قد تحللت، غير أن العلم الحديث أثبت أن جثة فرعون ظلت باقية وتم حفظها وهو ما ذكره القرآن الكريم منذ 14 قرنًا قبل أن يصل العلم إلى ما يملك من أدوات اليوم، يقول الدكتور بوكاي: "وفي العصر الذي وصل فيه القرآن للناس عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، كانت جثث كل الفراعنة الذين شك الناس في العصر الحديث صواباً أو خطاً أن لهم علاقة بالخروج، كانت مدفونة بمقابر وادي الملوك بطيبة على الضفة الأخرى للنيل أمام مدينة الأقصر الحالية.

في عصر محمد صلى الله عليه وسلم كان كل شيء مجهولاً عن هذا الأمر ولم تكتشف هذه الجثث إلا في نهاية القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن جثة فرعون موسى التي مازالت ماثلة للعيان إلى اليوم تعد شهادة مادية في جسد محنط لشخص عرف موسى عليه السلام، وعارض طلباته، وطارده في هروبه ومات في أثناء تلك المطاردة، وأنقذ الله جثته من التلف التام ليصبح آية للناس كما ذكر القرآن الكريم[115].

إن هذه المعلومة التاريخية عن مصير جثة فرعون لم تكن في حيازة أحد من البشر عند نزول القرآن ولا بعد نزوله بقرون عديدة، لكنها بينت في كتاب الله على قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام.

هذان مثالان تاريخيان أثبتهما العلم الحديث بعد أن ذكرهما الله عزوجل في كتابه العزيز قبل أربعة عشر قرنًا في دليل واضح على صحة نبوة خاتم النبيين وخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم.

ج- القرآن معجزة متجددة:

إن إحدى أهم أوجه إعجاز القرآن الكريم، أن معجزته متجددة وعجائبه لا تنقض، فالقرآن معجزة باقية على طول الزمان، من حين جاء به الرسول تُتْلى آيات التحدّي به، ويُتلى قوله: (فَليَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) [الطور:34]، و(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود:13]، و (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [يونس:38].

وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا في أول الأمر، وقطعه بذلك، مع علمه بكثرة الخلق، دليلٌ على أنّه كان خارقاً يعجز الثقلين عن معارضته، وهذا لا يكون لغير الأنبياء.

وها هو القرآن الكريم مع طول الزمان، قد سمعه الموافق، والمخالف، والعرب، والعجم، وليس في الأمم من أظهر كتاباً يقرأه الناس، وقال إنّه مثله، وهذا يعرفه كلّ أحدٍ.

والقرآن ممّا يعلم الناس؛ عربهم، وعجمهم أنّه لم يُوجد له نظيرٌ، مع حرص العرب، وغير العرب على معارضته؛ فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، وإذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية. كلّ ذلك لا يوجد له نظيرٌ في العالم.

ولعل ما يندرج تحت إعجاز القرآن الكريم الباقي المتجدد، ما يتم كشفه في العصر الحديث من علوم يثبت أن القرآن الكريم قد أشار إليها قبل عدة قرون، وقد أفاض العلماء والأئمة في الحديث عن هذا الأمر وأوردوا من الأمثلة الكثير، غير أننا نكتفي بمثال واحد وآية واحدة جمعت بين الإعجاز الغيبي والإعجاز العلمي.

يقول الله عزوجل: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) [الروم: 1-4].

إن الله عزوجل يقرر في هذه الآيات التي نزلت بعد هزيمة الروم أمام الفرس أن العاقبة سوف تكون للروم مرة أخرى بعد بضع سنين في إعجاز غيبي تحقق كما وعد الله عزوجل به، يقول الحافظ ابن كثير: "نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، واضطر هرقل مَلك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل، كما سيأتي.

قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ } قال: غُلبت وغَلَبت، قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذُكر ذلك لأبي بكر، ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم سيغلبون" فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا. فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا جعلتها إلى دُون" أراه قال: "العشر". "قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } .

هكذا رواه[116] الترمذي والنسائي جميعا، عن الحسين بن حُرَيْث، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان بن سعيد الثوري به، وقال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان، عن حبيب"[117].

وجاء في أطلس تاريخ الإسلام للأستاذ الفاضل حسين مؤنس: "وعندما تولى هرقل عرش الروم سنة‏610‏ م (وهي سنة البعثة المحمدية) كان الفرس قد اجتاحوا بلاد الشام ومصر وهزموا البيزنطيين سنة‏613‏ م عند أنطاكية‏,‏ واستولوا على فلسطين والقدس سنة‏614‏ م‏,‏ وغزوا مصر ودخلوا الإسكندرية سنة‏618‏ م أو‏619‏ م‏,‏ وبعد أن أقام هرقل دولته بدأ قتال الفرس سنة‏622‏ م‏,‏ وفي سنة‏627‏ م أنزل بهم هزيمة قاصمة قرب نينوى,‏ واسترد منهم أراضي الدولة البيزنطية في أرمينيا والشام وفلسطين ومصر‏,‏ وفي سنة‏630‏ م استعاد بيت المقدس.

ومن استقراء كل هذه التواريخ السابقة يتضح أن هزيمة الروم الحقيقية على أيدي جيوش الفرس كانت في حدود سنة‏614‏ م إلى‏615‏ م‏,‏ وأن استعادتهم النصر على الفرس كانت في حدود سنة‏624‏ م‏,‏ واستمر تقدم الروم على أرض الفرس حتى تم لهم استعادة بيت المقدس".

لقد تحقق ما وعد به الله عزوجل في هذه الآيات من انتصار الروم، وفرح المؤمنون وازداد فرحهم بعد ذلك بعد أن انتصروا على المشركين في بدر، غير أن ما معنى قوله تعالى: "أدني الأرض" رأى السابقون من العلماء والمفسرين أن كلمة "أدنى الأرض" تعنى الأرض الأقرب إلى الشام، وهو تفسير صحيح تقبله اللغة وتؤيده ما وصلوا إليه من علم في ذاك الزمان، غير أن العلم الحديث أثبت أن القرآن الكريم سبق العصر الحديث بكشف علمي لم يظهر إلا حديثًا.

يقول الدكتور زغلول النجار في مقال له عن هذه المعجزة: أكدت الدراسات الحديثة أن منطقة حوض البحر الميت‏,‏ بالاضافة إلى كونها أقرب الأراضي التي كان الروم يحتلونها إلى الجزيرة العربية هي أيضا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً‏, حيث يصل منسوب سطح الأرض فيها إلى حوالي الأربعمائة متر تحت متوسط مستوى سطح البحر‏,‏ وأن هذه المنطقة كانت من مناطق الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم‏,‏ وأن المعركة الحاسمة التي أظهرت جيوش الفرس على جيوش إمبراطورية روما الشرقية‏ (‏الإمبراطورية البيزنطية‏)‏ لابد أنها وقعت في حوض البحرالميت‏,‏ وأن الوصف بـ (أَدْنَى الأَرْضِ) هنا كما يعني أقربها للجزيرة العربية‏,‏ يعني أيضاً أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً‏,‏ وهذه الإشارة القرآنية العابرة تعتبر من السبق العلمي في كتاب الله‏,‏ لأن أحداً لم يكن يعلم هذه الحقيقة في زمن الوحي بالقرآن الكريم‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده.

ويضيف الدكتور النجار: "ثبت علمياً بقياساتٍ عديدةٍ أن أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً هو غور البحر الميت‏,‏ ويقع البحر الميت في أكثر أجزاء الغور انخفاضاً‏,‏ حيث يصل مستوى منسوب سطحه إلى حوالي أربعمائة متر تحت مستوى سطح البحر‏,‏ ويصل منسوب قاعه في أعمق أجزائه إلى قرابة الثمانمائة متر تحت مستوى سطح البحر‏,‏ وهو بحيرة داخلية بمعنى أن قاعها يعتبر في الحقيقة جزءاً من اليابسة‏.

وغور البحر الميت هو جزء من خسف أرضي عظيم يمتد من منطقة البحيرات في شرقي إفريقيا إلى بحيرة طبريا‏,‏ فالحدود الجنوبية لتركيا‏,‏ مروراً بالبحر الأحمر‏,‏ وخليج العقبة‏,‏ ويرتبط بالخسف العميق في قاع كل من المحيط الهندي‏,‏ وبحر العرب وخليج عدن‏,‏ ويبلغ طول أغوار وادي عربة –البحر الميت - الأردن حوالي الستمائة كيلومتر‏,‏ ممتدة من خليج العقبة في الجنوب إلى بحيرة طبريا في الشمال‏,‏ ويتراوح عرضها بين العشرة والعشرين كيلومتراً‏.

ويعتبر منسوب سطح الأرض فيها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً حيث يصل منسوب سطح الماء في البحرالميت إلى‏402‏ متراً تحت المستوى المتوسط لمنسوب المياه في البحرين المجاورين‏:‏ الأحمر والأبيض المتوسط‏,‏ وهو أخفض منسوب أرضي على سطح اليابسة كما يتضح من الأرقام التالية‏:

منسوب سطح الأرض في وادي عربة‏=355‏ ـ‏400‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.

منسوب أعمق نقاط قاع البحرالميت‏=794‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.‏

منسوب سطح الماء في البحرالميت‏=402‏ تحت مستوى سطح البحر‏.‏

مستوى سطح الأرض في غور الأردن‏=212‏ ـ‏400‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.‏

منسوب سطح الماء في بحيرة طبريا‏=209‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.‏

منسوب قاع بحيرة طبريا‏=252‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.‏

منسوب سطح الأرض في قاع منخفض القطارة في شمال صحراء مصرالغربية‏=133‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.‏

منسوب سطح الأرض في قاع وادي الموت‏/‏ كاليفورنيا‏=86‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.

منسوب سطح الأرض في قاع منخفض الفيوم‏/‏مصر‏=45‏ م تحت مستوى سطح البحر‏.

ويتراوح عمق الماء في الحوض الجنوبي من البحر الميت بين الستة والعشرة أمتار‏,‏ وهو بذلك في طريقه إلى الجفاف‏,‏ ويعتقد أنه كان جافاً إلى عهد غير بعيد من تاريخه‏,‏ وكان عامراً بالسكان‏,‏ وأن منطقة الأغوار كلها من وادي عربة في الجنوب إلى بحيرة طبريا في الشمال كانت كذلك عامرة بالسكان منذ القدم حيث عرف البحر الميت في الكتابات التاريخية القديمة‏,‏ ووصف بأسماء عديدة من مثل بحر سدوم، بحيرة لوط، بحيرة زغر‏,‏ البحر النتن‏,‏ بحر عربة‏,‏ بحر الأسفلت والبحر الميت‏,‏ وذلك لأن المنطقة اشتهرت بخصوبة تربتها‏,‏ ووفرة مياهها فعمرتها القبائل العربية منذ القدم‏,‏ واندفعت إليها من كل من العراق والجزيرة العربية وبلاد الشام.

وخلاصة القول: أن منطقة أغوار وادي عربة – البحرالميت - الأردن تحوي اخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق‏,‏ والمنطقة كانت محتلة من قبل الروم البيزنطيين في عصر البعثة النبوية الخاتمة‏,‏ وكانت هذه الإمبراطورية الرومانية يقابلها ويحدها من الشرق الإمبراطورية الفارسية الساسانية‏,‏ وكان الصراع بين هاتين الإمبراطوريتين الكبيرتين في هذا الزمن على أشده‏,‏ ولابد أن كثيراً من معاركهما الحاسمة قد وقعت في أرض الأغوار‏,‏ وهي أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق‏,‏ ووصف القرآن الكريم لأرض تلك المعركة الفاصلة التي تغلَّب فيها الفرس على الروم في أول الأمر بـ(أَدْنَى الأَرْضِ) وصفٌ معجزٌ للغاية لأن أحداً من الناس لم يكن يدرك تلك الحقيقة في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ وورودها بهذا الوضوح في مطلع سورة الروم يضيف بعداً آخر إلى الإعجاز التنبؤي في الآيات الأربع التي استهلت بها تلك السورة المباركة، ألا وهو الإعجاز العلمي".

وهكذا يتضح مجددًا بما لا مجال للشك فيه أن القرآن العظيم هو كتاب الله الذي أنزله على خاتم النبيين وسيد البشر أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن عجائبه وأسراره لا تنقضى، بل إن ذلك من وجوه إعجازه المعدودة، فهو آيةً باقيةً لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله عزوجل بحفظه، فقال تعالي: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر : 9]، وقال : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : 42].

إن سائر معجزات الأنبياء قد انقضت بانقضاء أوقاتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العزيز الباهرة آياته، الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم حجته قاهرة، ومعارضته ممتنعة، والأعصار كلها طافحة بأهل البيان، وحملة علم اللسان، وأئمة البلاغة، وفرسان الكلام، وجهابذة البراعة، وفيهم الملحد، والمعادي للشرع، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته، ولا ألف كلمتين في مناقضته، ولا قدر فيه على مطعن صحيح، ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه والنكوص على عقبيه.

أقوال الغربيين المنصفين عن القرآن الكريم[118]:

نذكر هنا طائفة من أقوال المنصفين من أهل الغرب عن القرآن الكريم؛ يقول المستشرق آرثر آدبري : "عندما أستمع إلى القرآن يتلى بالعربية ، فكأنما أستمع إلى نبضات قلبي"[119].

ويقول الشاعر الألماني الشهير جوته : "إن أسلوب القرآن محكم سام مثير للدهشة … فالقرآن كتاب الكتب، وإني أعتقد هذا كما يعتقده كل مسلم … وأنا كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي … ولما بلغ غوته السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بليلة القدر التي أنزل فيها القرآن على النبي محمد، ولما أبصر غوته ريشة طاووس بين صفحات القرآن هتف : "مرحباً بك في هذا المكان المقدس ، أغلى كنز في الأرض"[120].

وتقول المستشرقة الألمانية أنا ماريا شميل: "القرآن هو كلمة الله ، موحاة بلسان عربي مبين ، وترجمته لن تتجاوز المستوى السطحي ، فمن ذا الذي يستطيع تصوير جمال كلمة الله بأي لغة؟!"[121].

ويقول الباحث الأمريكي مايكل هارت صاحب كتاب "العظماء مائة": "لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بقي بحروفه كاملاً دون تحوير سوى القرآن".

ويقول المستشرق بودلي: "بين أيدينا كتاب فريد في أصالته وفي سلامته ، لم يُشكّ في صحته كما أُنزل ، وهذا الكتاب هو القرآن"[122].

ويقول المستشرق "فون هامر" في مقدمة ترجمته لمعاني القرآن: "القرآن ليس دستور الإسلام فحسب، وإنما هو ذروة البيان العربي، وأسلوب القرآن المدهش يشهد على أن القرآن هو وحي من الله، وأن محمداً قد نشر سلطانه بإعجاز الخطاب ، فالكلمة لم يكن من الممكن أن تكون ثمرة قريحة بشرية".

ويقول البروفسور يوشيودي كوزان – مدير مرصد طوكيو: "إن هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة في الوجود … إن الذي قال هذا القرآن يرى كل شيء في هذا الكون ، وكل شيء مكشوف أمامه".

ويحاول المفكر مارسيل بوازار أن يصل إلى سر التأثير العجيب للقرآن فيقول: "القرآن يخاطب الإنسان بكليته … أعمق مشاعره، وعمله اليومي من منظور تستطيع نسبته إلى علم النفس التطبيقي"[123].

ويقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي الذي أسلم عام1982م،: "إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه نصوص القرآن لأول مرة هو ثراء الموضوعات العلمية المعالجة ، وعلى حين نجد في التوراة – الحالية – أخطاء علمية ضخمة ، لا نكتشف في القرآن أي خطأ، ولو كان قائل القرآن إنساناً فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنتمي إلى عصره ، ليس هناك تفسير وضعيّ لمصدر القرآن"[124].

لقد أطلنا الوقوف قليلاً على معجزة القرآن الكريم رغم أننا لم نوفيها حقها أو عُشر حقها، وليس ذلك إلا إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة والشريعة الفريدة التي أتت بالسعادة للبشرية جميعها إذا ما التزموا بهديه واستناروا بنوره.

أما بقية معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا نذكر منها بعضها، والتي تناقلت الركبان بذكرها وتنوعت ما بين تحديًا للمشركين مثل "انشقاق القمر"، وما بين تثبيتًا للمؤمنين وقضاء حوائجهم مثل "حنين الجذع"، و"تكثير الطعام"وغيرهم مما يرد ذكره بعون الله عزوجل.

2- انشقاق القمر:

من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة على رسالة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر في مكة المكرمة، وهي معجزة تواترت الأخبار بنقلها وصح الأثر بشأنها، فقد سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر ينشق إلى شقين غير أن قلوبهم المريضة لم ترعوى رغم روعة المعجزة.

روى الإمام البخاري في صحيحه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِقَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اشْهَدُوا[125].

وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ[126].

وروى الترمذي في سننه عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَعَلَى هَذَا الْجَبَلِ فَقَالُوا سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ سَحَرَنَا فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ[127]

وقد ذكر الله عزوجل انشقاق القمر في كتابه الكريم، فقال: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) [القمر:1-3].

فهذا آية بينة أراد بعض المشركين التشكيك فيها بزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد عليهم البعض بسؤال المسافرين إذا كانوا رأوا هذه الحادثة أم لا روى أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كفار قريش: هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة ، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال : فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: "قال أبو إسحاق الزجاج في " معاني القرآن ": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم : لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر[128]، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم.

وقال الخطابي : انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر، وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم ، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره.

والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر.

وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف[129]، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات.

وقال ابن عبد البر : قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة ، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين . ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا ، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة ، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر"[130] .

فمعجزة انشقاق القمر من أعظم معجزات الأنبياء بعد القرآن الكريم، وهي أعظم من معجزة شق البحر لموسي عليه السلام لأن البحر في الأرض أما القمر في السماء والبرهان فيه أظهر.

العلم الحديث وانشقاق القمر:

رغم أن انشقاق القمر من المعجزات التي وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقضت، إلا إن آثارها لا زالت باقية، حيث يذكر الدكتور زغلول النجار في مقال له عن انشقاق القمر أنه كان يتحدث عن هذه المعجزة في محاضرة بكلية الطب جامعة كارديف ببريطانيا، وبعد انتهاء حديثه وقف رجل بريطاني من الحضور واستأذن في أن يضيف شيئًا إلى إجابتي فأذنت له, ثم بدأ بتعريف نفسه على أن اسمه داود موسى بيدكوك, وأنه مسلم, ويرأس الحزب الإسلامي البريطاني.

ثم حكي "بيدكوك" قصته مع انشقاق القمر فقال: إن هذه الآيات في مطلع سورة القمر كانت هي السبب في إسلامه في أواخر السبعينيات من القرن العشرين؛ لأنه ببحث مستفيض في الأديان أهداه أحد المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم, وأنه عند فتح هذه الترجمة لأول مرة فوجئ بسورة القمر, فقرأ الآيات في مطلعها, ولم يكد يصدق أن القمر قد انشق ثم التحم فأغلق الترجمة وانصرف عنها, ثم شاء الله تعالى أن يشاهد على شاشة التلفاز البريطاني (B.B.C) برنامجًا عن رحلات الفضاء استضاف فيه المذيع البريطاني المعروف جيمس بيرك (James Burke) ثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين وذلك في سنة 1978 م, وفي أثناء الحوار كان المذيع ينتقد الإسراف على رحلات الفضاء بإنفاق ملايين الدولارات والأرض يتضور فيها ملايين البشر من الجوع, والمرض, والجهل, والتخلف, وكان جواب العلماء أنه بفضل هذه الرحلات تم تطوير عدد من التقنيات المهمة التي تطبق في مجالات التشخيص والعلاج الطبي والصناعة, والزراعة, وغيرها, وفي أثناء هذا الحوار جاء ذكر أول رحلة إنزال رجل على سطح القمر, وقد تكلفت أكثر من مائة مليار دولار, وجلس المذيع يتابع عتابه على هذا الإسراف, قرر العلماء بأن هذه الرحلة قد أثبتت لهم حقيقة لو أنفقوا أضعاف هذا المبلغ لإقناع الناس بها ما صدقهم أحد, فسأل المذيع : ما هي هذه الحقيقة؟ فأجابوا: أن هذا القمر قد سبق له أن انشق ثم التحم, وأن آثار محسوسة تؤيد ذلك الحدث قد وجدت على سطح القمر وامتدت إلى داخله.

يضيف بيدكوك: حينما سمعت ذلك قفزت من الكرسي الذي كنت أجلس عليه أمام التلفاز, وقلت: معجزة تحدث لمحمد قبل ألف وأربعمائة سنة ويرويها القرآن بهذا التفصيل العجيب يسخر الله من يثبتها للمسلمين في عصر العلوم والتقنية الذي نعيه, وينفق هذا المبلغ الكبير, لابد وأن يكون هذا الدين حقًا, وعدتُ إلى ترجمة معاني القرآن الكريم أقرؤها بشغف شديد, وكانت آيات افتتاح سورة القمر هي السبب المباشر لقبولي الإسلام دينًا.

وهكذا تعود معجزة انشقاق القمر لتطل علينا من جديد وتثبت للمنكرين صدق ونبوة خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم رغم مرور مئات السنين على هذه الآية الباهرة.

حنين الجذع:

ومن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم الباهرة التي تفوق معجزة إحياء الموتى لنبي الله عيسي عليه السلام، حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان عيسي قد أعطاه إحياء الموتى والذين هم في الأصل بشر، فهو ها جذع من نخل قد يبُس يبكي ويسمع صوت بكاءه حنينًا وشوقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يهدأ ويسكن لما يطيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ[131] فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ قَالَ كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا[132].

وأورد الإمام أحمد القصة بأبسط من ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ قَالَ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهَا غُلَامٌ نَجَّارٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا أَفَآمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ لَكَ مِنْبَرًا تَخْطُبُ عَلَيْهِ قَالَ بَلَى قَالَ فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا قَالَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ فَأَنَّ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ كَمَا يَئِنُّ الصَّبِيُّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنْ الذِّكْرِ[133] .

وفي رواية عند البيهقي في دلائل النبوة: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال كذا إلى يوم القيامة حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن[134].

قال ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري": "نقل ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت : أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك".

وفي حنين الجذع مصداق لقول الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء: 82]، فهذا الجذع دبت فيه الحياة ودب فيه الإدراك من يوم أن استند عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخطب في الناس ويتلو آيات الله، فلما سمع الجذع هذا الذكر المبارك كانت الحياة وكان الشفاء، ولما تظهر آثاره إلا يوم أن فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحن حنين الصبي المشتاق إلى ما يحييه.

وحنين الجذع شوقًا إلى سماع الذكر وتألمًا لفراق الحبيب الذي كان يخطب إليه واقفًا عليه وهو جماد لا روح له ولا عقل في ظاهر الأمر آية من أعظم الآيات الدالة على نبوة الحبيب صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته وهي معجزة كبرى على مثلها آمن البشر لعجزهم على الإتيان بمثلها.

4- شفاؤه صلى الله عليه وسلم للمرضى:

ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاؤه لعدد من أصحابه من أمراض لزمتهم أو أدواء أصيب بها، فشفاهم الله منها ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن يَزِيد بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ[135].

ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن عتيك ورجالاً من الأنصار لاغتيال سلّامِ بنِ أبي الحُقَيق الذي أذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبينما عبد الله بن عتيك في طريق العودة وقع، فانكسرت ساقه، فعصبها بعمامة، ثم يقول ابن عتيك: فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ابسط رجلك))، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكِها قطّ[136].

لقد تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم مراراً وعلى مرأى من الصحابة الكرام، يقول بريدة رضى الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل في رجل عمرو بن معاذ حين قُطِعت رجله فبرأ[137].

ومن ذلك شفاؤه صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد اشتكي عينيه، روى البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ[138] لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ [139].

وفي رواية عند الطبري في تهذيب الآثار من حديث علي قال: "فما رمدت ولا صدعت مذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية يوم خيبر"[140].

ومن ذلك رده صلى الله عليه وسلم لعين قتادة بن النعمان وقد أصيبت في المعركة، ذكر البيهقي في دلائل النبوة عن قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم بدر ، فسالت حدقته على وجنته[141]، فأراد القوم أن يقطعوها، فقال: أنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم نستشيره في ذلك ؟ فجئناه فأخبرناه الخبر ، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، فرفع حدقته[142] حتى وضعها موضعها ثم غمزها براحته وقال : « اللهم اكسه جمالا »، فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت[143].

وفي هذا أيضًا ورد حديث في مصنف ابن أبي شيبة ودلائل النبوة للبيهقي عن رجل من بني سلامان بن سعد، عن أمه، أن خالها حبيب بن فويك حدثها، أن أباه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فسأله: (ما أصابك ؟)، فقال : (كنت أمرن جملا لي فوقعت رجلي على بيض حية فأصيب بصري)، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة ، وإنه لابن ثمانين ، وإن عينيه لمبيضتان[144].

ويروي الإمام أحمدُ عن أمُ جُندُب أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة .. فأتته امرأة خثعمية بابْن لها فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا ذاهب العقل، فادع الله له. قال لها: ((ائتيني بماء)).

فأتته بماء في تَورٍ من حجارة، فتفل فيه، وغسل وجهه، ثم دعا فيه، ثم قال: ((اذهبي، فاغسليه به، واستشفي الله عز وجل)).

قالت أم جُندب: فقلت لها: هَبِي لي منه قليلاً لابني هذا، فأخذت منه قليلاً بأصابعي، فمسحتُ بها شِقَّة ابني، فكان من أبر الناس.

فسألتُ المرأة بعد: ما فعل ابنها؟ قالت: برِئ أحسن بَرء.[145]

وتحدِّثُ أم جميل ابنها محمدَ بن حاطب عن خبر حدث له إبّان طفولته، فقد أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد انكفأت قدر تغلي على ذراعه، تقول أم جميل: فأتيتُ بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب، فتفل في فيك، ومسح على رأسك، ودعا لك، وجعل يتفُل على يديك ويقول: ((أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) فقالت: فما قمتُ بك من عنده حتى برِأَت يدك[146].

نبوع الماء من بين يديه صلى الله عليه وسلم:

ومن الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم ما ثبت وصح عن عدد من الصحابة في عدد من الوقائع المتفرقة من نبع الماء من بين يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري في صحيحه عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ[147] فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَلَاثَ مِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِ مِائَةٍ[148].

قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث بفتح الباري: "قال عياض : هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك ، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته...

قال القرطبي: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه ، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال : " نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه ، لأن خروج الماء من الحجارة معهود ، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم"، وظاهر كلامه أن الماء نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع ، ويؤيده قوله في حديث جابر "فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه" وأوضح منه ما وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني " فجاءوا بشن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه ثم فرق أصابعه فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى ، فإن الماء تفجر من نفس العصا فتمسكه به يقتضي أن الماء تفجر من بين أصابعه ، ويحتمل أن يكون المراد أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء ، فرآه الرائي نابعا من بين أصابعه، والأول أبلغ في المعجزة ، وليس في الأخبار ما يرده وهو أولى"[149].

وفي رواية عند البخاري عن أنس: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَالْتُمِسَ الْوَضُوءُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ[150].

وعند البخاري عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ مَا لَكُمْ قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً[151].

وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ[152].

وذات مرة كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل، فدعا اثنين من أصحابه، فقال: (اذهبا فابتغيا الماء)، فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين[153] من ماء على بعير لها، فقالا لها: (أين الماء)، قالت: (عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفا[154])، قالا لها: (انطلقي إذا)، قالت: (إلى أين)، قالا: (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قالت: (الذي يقال له الصابئ)، قالا: (هو الذي تعنين)، فانطلقي فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث، فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين وأوكأ[155] أفواههما وأطلق العزالي[156] ونودي في الناس اسقوا واستقوا فسقى من شاء واستقى من شاء.

وأما المرأة صاحبة المزادتين فكانت قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها.

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تطييب خاطرها، فقال: (اجمعوا لها فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة) حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يديها، وقال لها: (تعلمين ما رَزِئْنا من مائِكِ شيئاً [أي لم نُنقِص منه شيئاً]، ولكن الله هو الذي أسقانا).

فأتت المرأة أهلها وقد احتبست عنهم قالوا: (ما حبسك يا فلانة؟)، قالت: (العجبُ لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - تعني السماء والأرض - أو إنه لرسول الله حقا)، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوما لقومها: (ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا فهل لكم في الإسلام فأطاعوها فدخلوا في الإسلام)[157].

قال ابن حجر: "وقد اشتمل ذلك على عَلمٍ عظيمٍ من أعلام النبوة ... وظاهره أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله تعالى وأوجده, وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة وإن كان في الظاهر مختلِطًا, وهذا أبدعُ وأغربُ في المعجزة .. ويُحتمل أن يكون المراد: ما نَقصْنَا من مِقدار مائِك شيئاً ".[158]

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر آخر فقال: (إنكم إنْ لا تدركوا الماء غداً تعطشوا)، ثم سار وسرنا هُنَيهةً، ثم نزل، فقال: (أمعكم ماء؟)، قال أبو قتادة: قلتُ: نعم، معي ميضأة فيها شيء من ماء.

فقال صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فأتيته بها، فقال: (مَسُّوا منها، مَسُّوا منها))، فتوضأ القوم، وبقيتْ جُرعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ازدهر بها [أي احتفظ بها] يا أبا قتادة، فإنه سيكونُ لها نبأ)...

يقول أبو قتادة: فلما اشتدت الظهيرة خرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول الله، هلكنا عطشاً، تقطعت الأعناق، فقال: (لا هُلْكَ عليكم)، ثم قال: (يا أبا قتادة ائت بالميضأة)، فأتيتُ بها، فقال: (اِحلِل لي غُمري) يعني قدَحَه، فحَللتُه، فأتيتُ به، فجعل يصبُ فيه، ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس أحسِنوا الملَأْ، فكُلكم سيصدُر عن رِيّ)، فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغيرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فصب لي، فقال: (اشرب يا أبا قتادة)، قلت: أنت يا رسول الله، قـال: (إن ساقيَ القومِ آخرُهم)، فشربتُ وشرِب بعدي، وبقي في الميضأة نحوٌ مما كان فيها، وهم يومَئذ ثلاثُ مائة"[159].

قال النووي: "وفي حديث أبي قتادة هذا معجزاتٌ ظاهراتٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

إحداها: إخباره بأن الميضأة سيكونُ لها نبأ، وكان كذلك.

الثانيةُ: تكثيرُ الماء القليل.

الثالثةُ: قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم سيَرْوى)), وكان كذلك"[160].

فهذه معجزات ظاهرة وآيات باهرة لم تقع مرة واحدة بل مرات، وليس في طوق البشر أن يأتوا بمثلها، إذ لم تجر سنة الله في الكون أن الماء ينبع من بين أصابع الإنسان مهما كان إلا أن تكون آية تدل على صدق نبّوة من ادعاها.

بئر الحديبية يفيض ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وهذا بئر الحديبية جفت ماؤه فبصق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاض بالماء.

روى البخاري في صحيحه عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً[161] وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا[162] حَتَّى لَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَفِيرِ[163] الْبِئْرِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي الْبِئْرِ فَمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حَتَّى رَوِينَا وَرَوَتْ أَوْ صَدَرَتْ رَكَائِبُنَا[164]" [165].

ففيضان الماء من بئر جافة لا ماء بها حتى سقى منها أهل معسكر بكامله لم يكن إلا آية نبويّة صادقة تنطق قائلة أن صدقوا محمدًا فيما جاءكم به ودعاكم إليه فإنه رسول الله إليكم حقًا وصدقًا.

تكثير الطعام ببركته صلى الله عليه وسلم:

ومن أعظم بركات النبي العدنان صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام القليل حتى أصبح يكفي ويشبع العدد الكثير، وهي معجزة ظاهرة وآية باهرة.

روى البخاري في صحيحه عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رضى الله عنه قال:

قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: (لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ).

قَالَتْ: (نَعَمْ)، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ (أنس): فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ[166] وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ)، فَقُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: (بِطَعَامٍ)، فَقُلْتُ نَعَمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً[167] فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ[168] ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا[169].

فهذه الحادثة من أعظم المعجزات، فها هي أقراص قليلة من شعير يحملها غلام تحت إبطه يطعم منها ثمانون رجلاً ويشبع كل واحدٍ منهم شبعًا لا مزيد عليه.

وقد شهدت غزوة الأحزاب حادثة مماثلة حيث كان المسلمون يعانون من الجوع وضيق ذات الحال.

روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ[170] شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ أَنَا نَازِلٌ ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا[171] أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ[172] فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ[173] ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ[174] قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ فَقُلْتُ طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ قَالَ كَمْ هُوَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ قَالَ قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ فَقَالَ قُومُوا فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَتْ هَلْ سَأَلَكَ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ[175].

فهذه قصة من دلائل نبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فإن إطعام ألف رجل حتى يشبعوا بعد أن أنهكهم الجوع، ومكثوا أياماً دون طعام، وهم محاصرون في الخندق في برد شديد، ويعملون في حفر الخندق ونقل التراب، تكسير الصخور، إطعام هؤلاء جميعاً من عنز صغير، مع صاع واحد من شعير -وهذا طعام لا يكفي في العادة إلا نحو خمسة رجال-.

ثم إن هؤلاء الألف الذين أكلوا حتى شبعوا قد تركوا برمة اللحم كما هي، والعجين كما هو، لم ينقص منه شيء، فأي دليل على إثبات النبوة، وحدوث المعجزة أعظم من هذا؟ فهذا دليل حسي مرئي اطلع عليه هذا العدد العظيم من الناس، ولم يشاهدوا الآية فقط، بل أكلوا وشبعوا، فاشترك في إدراك هذه المعجزة كل الحواس، النظر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم، وأدركوا كل ذلك بعقولهم وقلوبهم، وظهرت آثار بركة هذا في أعمالهم وأخلاقهم.

وقد تكررت معجزة تكثير الطعام أكثر من مرة بل بلغت عشرات المرات في ظروفٍ مختلفة ومناسباتٍ عديدة.

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ[176] غَزَاهَا فَأَرْمَلَ[177] فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَاحْتَاجُوا إِلَى الطَّعَامِ فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ فَأَذِنَ لَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِبِلُهُمْ تَحْمِلُهُمْ وَتُبَلِّغُهُمْ عَدُوَّهُمْ يَنْحَرُونَهَا بَلْ ادْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِغَبَرَاتِ[178] الزَّادِ فَادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ قَالَ أَجَلْ قَالَ فَدَعَا بِغَبَرَاتِ الزَّادِ فَجَاءَ النَّاسُ بِمَا بَقِيَ مَعَهُمْ فَجَمَعَهُ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بِالْبَرَكَةِ وَدَعَا بِأَوْعِيَتِهِمْ فَمَلَأَهَا وَفَضَلَ فَضْلٌ كَثِيرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا غَيْرَ شَاكٍّ دَخَلَ الْجَنَّةَ[179].

ومن الوقائع العجيبة والطريفة في هذا الأمر أن قدحًا صغيرًا من اللبن روى وأروى فئامًا من الناس، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

أَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ قَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي[180] قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ[181].

وهكذا تتجلى هذه المعجزة وهي آية النبوّة المحمدية، إذ قَدَحُ لبن لا يروي ولا يشبع جماعة من الناس كلهم جياع بحالٍ من الأحوال، فكيف أرواهم وأشبعهم؟ إنها المعجزة النبوية, وآية أخرى للكمال المحمدي أن يكون صلى الله عليه وسلم هو آخر من يشرب من ذلك القدح الذي شرب جماعة من الناس، وفي هذا إشارة واضحة إلى تواضع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

ولقد أدرك أبو هريرة رضى الله عنه ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فرغبت نفسه في نيل حظ منها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات فقال: يا رسول الله، ادع الله لي فيهن بالبركة، قال: فصَفّهن بين يديه، ثم دعا، فقال لي: ((اجعلهن في مِزْود [وعاء]، وأدخل يدك ولا تَنثُرْه)) قال: فحملت منه كذا وكذا وسْقاً في سبيل الله، ونأكل ونطعِم، وكان لا يفارق حقوي [أي معْقِدَ الإزار].

ثم يقول أبو هريرة: فلما قُتل عثمان رضي الله عنه انقطع المِزود عن حقويّ، فسقط[182].

وهذه معجزة باهرة حيث بقي أبو هريرة رضى الله عنه يأكل من الجراب زُهاء خمس وعشرين سنة، كل ذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعض بركة النبي صلى الله عليه وسلم استمر دهراً طويلاً بعد وفاته، ومن ذلك ما يحكيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ[183]

وروى مسلم أيضاً مثلَ هذا الخبر في قصة أم مالك، فعَنْ جَابِرٍ رضى الله عنه: "أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ[184]، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (عَصَرْتِيهَا؟)، قَالَتْ: (نَعَمْ)، قَالَ: (لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا)"[185].

قال النووي في شرح صحيح مسلم: " قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو تركتيها ما زال قائماً)) أي موجوداً حاضراً"، ثم بيّنَ رحمه الله سبب فناء سمنِ العُكّة والشعير حين عُصِرت أو كِيل ، فقال: "الحكمة في ذلك أن عصرَها وكَيْلَه مضادةٌ للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى, ويتضمن التدبيرَ, والأخذَ بالحول والقوة, وتكلُفَ الإحاطةِ بأسرار حِكم الله تعالى وفضله , فعوقب فاعِلُه بزواله"[186]؛ أي كأنه خرج من التسليم لقدرة الله وعظيمِ فِعله، إلى الطمع في معرفة سبب أرضي ومادي له، فانقطع لذلك.

8- تسليم الحجر وتسيبح الحصى في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة أن الحجر والجمادات كانت تعرفه وتقر له بالنبوة والرسالة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ[187].

قال النووي في شرح صحيح مسلم: "فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: (وإن منها لما يهبط من خشية الله)، وقوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)".

وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال : له السلام عليك يا رسول الله).

فسلام الحجر وهو جماد أمر خارق للعادة، معجز للبشر أن يأتوا بمثله، فلذا هو آية النبوة المحمدية ومعجزة من معجزات الحبيب صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك أيضًا، ما ذكرته كتب السنة من تسبيح الحصى والجماد في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ"[188]، أي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ويقول أبو ذر رضي الله عنه: إني شاهد عند النبي صلى الله عليه وسلم في حَلْقَة، وفي يده حصى، فسبّحنَ في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحَهن مَنْ في الحَلْقَة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فسبحن مع أبي بكر، سمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسبَّحنَ في يده، ثم دفعهنّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فسبحن في يده، وسمع تسبيحهنّ مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فسبّحن في يده، ثم دفعهنَّ إلينا، فلم يسبّحن مع أحدٍ منا[189].

ويقارن ابن كثير بين هذه المعجزة ومعجزة نبي الله داود عليهما السلام، فيقول: "ولا شك أن صدور التسبيح من الحصى الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها؛ أعجب من صدور ذلك من الجبال؛ لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تردِّدُ صدى الأصوات العالية غالباً .. ولكن من غير تسبيح؛ فإن ذلك [أي تِردادَها بالتسبيح] من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب".[190]

9- إيمان الجن والجمادات والمخلوقات برسول الله صلى الله عليه وسلم:

ويدخل في هذا الباب ما صح من آثار عن إقرار الجن والجمادات والمخلوقات بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونذكر هنا بعضًا من تلك الآثار التي رويت بأسانيد صحيحة في كتب السنن والآثار.

1- إيمان الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم:

روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ عَلَيَّ الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ[191] قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ:

أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا[192] وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا[193]

وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ[194] وَأَحْلَاسِهَا[195]

قَالَ عُمَرُ صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ يَا جَلِيحْ[196] أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ[197].

إيمان الشجر برسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعتها له:

ومن دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الباهرة أن الشجر أقر بنبوته وأذعن لطاعته صلى الله عليه وسلم.

روى الدارمي في سننه باب مَا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِيمَانِ الشَّجَرِ بِهِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ، فَأَقْبَلَ أَعْرَابِىٌّ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « أَيْنَ تُرِيدُ »، قَالَ: إِلَى أَهْلِى.

قَالَ: « هَلْ لَكَ فِى خَيْرٍ »، قَالَ: وَمَا هُوَ .

قَالَ « تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ».

فَقَالَ وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ.

قَالَ « هَذِهِ السَّلَمَةُ[198] »، فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِىَ بِشَاطِئِ الْوَادِى فَأَقْبَلَتْ تُخُدُّ[199] الأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلاَثاً فَشَهِدَتْ ثَلاَثاً أَنَّهُ كَمَا قَالَ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا وَرَجَعَ الأَعْرَابِىُّ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ إِنِ اتَّبَعُونِى أَتَيْتُكَ بِهِمْ وَإِلاَّ رَجَعْتُ فَكُنْتُ مَعَكَ[200].

ومن الأخبار العجيبة في طاعة الأشجار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال:

سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ[201]،فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ[202] الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لَأَمَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي جَمَعَهُمَا فَقَالَ الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا.

قَالَ جَابِرٌ فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ[203] مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ وَقْفَةً فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ أَقْبَلَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيَّ قَالَ يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا فَأَقْبِلْ بِهِمَا حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ قَالَ جَابِرٌ فَقُمْتُ فَأَخَذْتُ حَجَرًا فَكَسَرْتُهُ وَحَسَرْتُهُ فَانْذَلَقَ لِي فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي ثُمَّ لَحِقْتُهُ فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَمَّ ذَاكَ قَالَ إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ[204].

ومن ذلك كذلك، ما رواه الترمذي في سننه عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ قَالَ إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنْ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ ارْجِعْ فَعَادَ فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ[205].

ومن الأخبار العظيمة في هذا الشأن؛ ما ذكره الإمام أحمد في مسنده عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ:

ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ رَأَيْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(البعير يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).

بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَهُ إِذْ مَرَرْنَا بِبَعِيرٍ يُسْنَى[206] عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ[207] وَوَضَعَ جِرَانَهُ[208] فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ فَجَاءَ فَقَالَ بِعْنِيهِ فَقَالَ لَا بَلْ أَهَبُهُ لَكَ فَقَالَ لَا بِعْنِيهِ قَالَ لَا بَلْ أَهَبُهُ لَكَ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ قَالَ أَمَا إِذْ ذَكَرْتَ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ.

(شجرة تظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم)

قَالَ ثُمَّ سِرْنَا فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الْأَرْضَ حَتَّى غَشِيَتْهُ[209] ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهَا.

(علاجه صلى الله عليه وسلم لصبي مجنون)

قَالَ ثُمَّ سِرْنَا فَمَرَرْنَا بِمَاءٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جِنَّةٌ[210] فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْخَرِهِ فَقَالَ اخْرُجْ إِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ ثُمَّ سِرْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ سَفَرِنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ فَأَتَتْهُ الْمَرْأَةُ بِجَزُورٍ وَلَبَنٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرُدَّ الْجَزُورَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَشَرِبَ مِنْ اللَّبَنِ فَسَأَلَهَا عَنْ الصَّبِيِّ فَقَالَتْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ رَيْبًا بَعْدَكَ[211].

3- شهادة الذئب برسالته صلى الله عليه وسلم:

ومن عجيب الأخبار في ذلك أن الله عزوجل أنطق الذئاب فتكلمت وأقرت بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ودعت الناس إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:

عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ فَأَقْعَى[212] الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِه.

قَالَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ.

فَقَالَ يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ.

فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ.

قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ[213] سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ[214].

وقد أورد البيهقي في دلائل النبوة عددًا من الروايات لهذه القصة، جاء فيها:

فقال الأعرابي: العجب من ذئب يتكلم، فقال الذئب :مم تعجب؟ فقال: أعجب من مخاطبتك إياي.

فقال الذئب: أعجب من ذلك رسول الله بين الحرتين في النخلات يحدث الناس بما قد خلا ويحدث بما هو آت وأنت ها هنا تتبع غنمك.

فساق الأعرابي غنمه حتى ألجى إلى بعض المدينة وسعى إلى النبي حتى ضرب عليه بابه فأذن له فحدثه الأعرابي فصدقه ثم قال إذا صليت بالناس الصلاة فاحضرني.. فلما صلى رسول الله قال: أين صاحب الغنم ؟ فقام الأعرابي .فقال له النبي: حدث بما رأيت وبما سمعت.. فحدث الأعرابي بما سمع وبما رأى ،ثم قال : والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله فتخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده .

4- سجود البعير له صلى الله عليه وسلم:

ولقد سجد البعير رغم ما يعرف من شدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانًا وإقرارًا ببعثته، روى الإمام أحمد في مسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ[215] عَلَيْهِ وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ قُومُوا فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ[216] وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ فَقَالَ لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ[217].

وجاء في رواية أخرى عند الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال:

أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ حَتَّى إِذَا دَفَعْنَا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ بَنِي النَّجَّارِ إِذَا فِيهِ جَمَلٌ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَ أَحَدٌ إِلَّا شَدَّ عَلَيْهِ قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ فَدَعَا الْبَعِيرَ فَجَاءَ وَاضِعًا مِشْفَرَهُ[218] إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاتُوا خِطَامًا[219] فَخَطَمَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِهِ قَالَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا عَاصِيَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ[220].

5- أدب الحيوانات معه صلى الله عليه وسلم:

وقد كانت الحيوانات على عجماوتها تعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقه فما كانت تأتي شيئًا يؤذيه صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت:

كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْشٌ فَإِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ رَبَضَ[221] فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ[222] مَا دَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ[223].

كانت هذه بعض الآثار والصور على إقرار الحيوانات والجمادات بنبوته صلى الله عليه وسلم وقيامهم بحقوقه صلى الله عليه وسلم، ونستكمل بقية معجزاته .

10- تكلم ذراع الشاة يحذره صلى الله عليه وسلم من أكله:

ومن أظهر الأدلة على صدقه صلى الله عليه وسلم أن الله عزوجل أنطق ذراع الشاة لما وضعت اليهودية فيه السم فحذره الذراع؛ روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضلى الله عنه قال:

إنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ قَالَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ قَالَ أَوْ قَالَ عَلَيَّ قَالَ قَالُوا أَلَا نَقْتُلُهَا قَالَ لَا قَالَ فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[224].

وقد ذكر البيهقي القصة بأبسط من ذلك في دلائل النبوة عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية[225] ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط[226] من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ارفعوا أيديكم » وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها، فقال لها : « أسممت هذه الشاة ؟ » قالت اليهودية : من أخبرك ؟ قال : « أخبرتني هذه في يدي للذراع » قالت : نعم ، قال : « فما أردت إلى ذلك ؟ » قالت : قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة ، واحتجم[227] رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة.

قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: "فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم كما قال الله : { والله يعصمك من الناس } وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السم المهلك لغيره ، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة ، وكلام عضو منه له".

11- إجابة الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم:

ومن أظهر الأدلة وأوضح البراهين على نبوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إجابة الله عزوجل دعائه حين يدعوه ويرفع إليه يديه، وتكرار إجابة الدعاء واستمراره دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، فالله عزوجل لا يؤيد كاذباً ولا دعياً يدعي عليه الكذب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعلوم أن من عوّده الله إجابة دعائه، لا يكون إلا مع صلاحه ودينه، ومن ادّعى النبوة، لا يكون إلا من أبرّ الناس إن كان صادقاً، أو من أفجرهم إن كان كاذباً، وإذا عوّده الله إجابة دعائه، لم يكن فاجراً، بل برّاً، وإذا لم يكن مع دعوى النبوة إلا برّاً، تعيّن أن يكون نبياً صادقاً، فإن هذا يمتنع أن يتعمّد الكذب، ويمتنع أن يكون ضالاً يظن أنه نبي"[228].

وقد تعددت الوقائع التي شهدت إجابة الله عزوجل لدعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحدة من هذه الوقائع تكفى دليلاً شاهدًا على صدقه صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا.

يقول أنس: فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً[229]، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَمِنْ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى.

وفي الجمعة الأخرى َقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ أَوْ قَالَ: غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا).

يقول أنس: فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ وَصَارَتْ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ[230] شَهْرًا وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ[231].

يقول الحافظ ابن حجر: "وفيه عَلَمٌ من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقِبه أو معَه، ابتداء في الاستسقاء، وانتهاء في الاستصحاء، وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة"[232].

وقال النووي: "ومراده بهذا؛ الإخبار عن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظيم كرامته على ربه سبحانه وتعالى، بإنزال المطر سبعة أيام متوالية متصلاً بسؤاله من غير تقديم سحاب ولا قزَع، ولا سببٍ آخر، لا ظاهرٍ ولا باطن"[233].

ولقد أجاب الله عزوجل دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم في عدد من أتباعه وأصحابه، ومن ذلك دعائه صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضى الله عنه، روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: (أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ)، ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً، قَالَ: مَا هِيَ، قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ؛ فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالًا؛ وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ[234].

وفي رواية عند مسلم في صحيحه قال أنس رضى الله عنه: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ صَوْتَهُ، فَقَالَتْ: (بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أُنَيْسٌ)، فَدَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الْآخِرَةِ[235].

قال ابن حجر: "وفيه التحدّث بنعم الله تعالى، وبمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم لما في إجابة دعوته من الأمر النادر، وهو اجتماع كثرة المال مع كثرة الولد"[236].

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابي من أصحابه بالبركة، فكان لو اشترى التراب ربح فيه، روى البخاري في صحيحه عن عروة البارقي رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ وَكَانَ لَوْ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ[237].

وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ)، يقول عروة: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقِفُ بِكُنَاسَةِ الْكُوفَةِ فَأَرْبَحُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إِلَى أَهْلِي"[238].

يقول ابن حجر: "المقصود منه الذي يدخل في علامات النبوة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعروة فاستجيب له، حتى كان لو اشترى التراب لربح فيه"[239].

ولأبي هريرة رضى الله عنه واقعتان أجاب الله فيهما دعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، تحقق في أول هاتين الواقعتين أمنية غالية لأبي هريرة، يقول أبو هريرة رضى الله عنه: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: (إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

يقول أبو هريرة: فَلَمَّا جِئْتُ، فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ (صوت مشيه)، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا[240].

لقد ذهب أبو هريرة أول النهار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي حُزناً على تمنُّعِ أمِّه عن الإسلام وسِبها للنبي صلى الله عليه وسلم، فما لبِث أن عاد يبكي فرَحاً بإسلامها ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول النووي: "وفيه استجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفَور بعين المسؤول، وهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم"[241].

ويفرح أبو هريرة رضى الله عنه بإسلام أمه، ويسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة ثانية، يقول أبو هريرة: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ).

يقول أبو هريرة: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي"[242].

ومن الأخبار العجيبة في هذا الشأن دعاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص بسداد رميته وإجابة دعوته، فكان سعد رضي الله عنه كلما رمى عدوا أصابه ، ومتى دعا الله أجابه ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرون أن ذلك بسبب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له: (اللهم سدد رميته، وأجب دعوته)[243].

ويروى أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة أن سعدًا رضى الله عنه سمع رجلا يسب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة وعليا والزبير رضي الله عنهم، فنهاه فلم ينته فقال له سعد: (لتنتهين أو لأدعون الله عليك)، فقام الرجل مغضبا وهو يقول: (يخوفنا بدعائه كأنه نبي)، قال سعد: (اللهم إن كان عبدك ذكر قوما سبق لهم منك أراد بذكره إياهم شتما فأره اليوم آية تجعله بها آية للعباد)، فخرج الرجل من المسجد مغضبا فأقبل فحل هائج يشق الناس حتى انتهى إلى الرجل فضربه فصرعه ثم برك عليه فلم يزل يطحنه ما بين الأرض وكركرته حتى قطعه.

يقول سعيد بن المسيب : فأنا رأيت الناس يسعون إلى سعد يقولون : تهنيك الإجابة[244].

ومن الأخبار في هذا الشأن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه أن يجمله الله عزوجل، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي زيد الأنصاري قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(ادْنُ مِنِّي)، قَالَ فَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ قَالَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ وَأَدِمْ جَمَالَهُ.

قَالَ فَلَقَدْ بَلَغَ بِضْعًا وَمِائَةَ سَنَةٍ وَمَا فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَيَاضٌ إِلَّا نَبْذٌ يَسِيرٌ وَلَقَدْ كَانَ مُنْبَسِطَ الْوَجْهِ وَلَمْ يَنْقَبِضْ وَجْهُهُ حَتَّى مَاتَ.

وفي رواية عند الترمذي: مَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِي، وَدَعَا لِي.

قَالَ عَزْرَةُ : إِنَّهُ عَاشَ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ إِلاَّ شَعَرَاتٌ بِيضٌ[245].

وكما أجاب الله عزوجل دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم لأتباعه وأصحابه، فقد أجاب دعائه على أعدائه ومخالفيه، يقول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا؛ قَالَ: اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ.

فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)[246].

فهذه عدد من الوقائع التي أجاب الله عزوجل فيها دعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان مرسلاً من عند الله عزوجل، فالله لا يؤيد الكاذبين فضلاً عن أن يؤيد من يكذب عليه.

12- نبوءات النبي الأكرم وتحققها:

ومن آيات النبوة الباهرة والمعجزات الظاهرة، إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأمور غيبية وأحداث مستقبلية وقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك دليل على أنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى، فالغيب سر الله، فهو وحده تبارك وتعالى الذي يعلم السر وأخفى، والنبي صلى الله عليه وسلم كسائر البشر لا يعلم الغيب: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188].

فإذا ما أخبر النبي عن شيء من الغيوب؛ فإنما يخبر بشيء من علم الله الذي خصه به وأطلعه عليه، ليكون برهان نبوته ودليل رسالته.

وقد كثرت الأمثلة والأحداث التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدها العلماء فبلغت قرابة ألف أمر غيبي تحقق معظمها وإنا على يقين بتحقق بقيتها، وما كثرة هذه الوقائع إلا لحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغ الحق وتبيين الطريق لأمته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، جاء في الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ[247].

ويفصل عمرو بن أَخطب أمر هذه الخطبة فيقول: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الظُّهْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا[248].

يقول الحافظ ابن حجر: "دل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتُدئت إلى أن تفنى، إلى أن تُبعث, فشمل ذلك الإخبارَ عن المبدأ والمعاش والمعاد, في تيسير إيراد ذلك كلِّه في مجلس واحد من خوارق العادة أمرٌ عظيم, ويقْرَب ذلك - مع كون معجزاته لا مرية في كثرتها - أنه صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم"[249].

ونذكر هنا بعضًا من تلك الوقائع والأحداث:

إخباره صلى الله عليه وسلم عمه أبي طالب بأن الأرضة أكلت صحيفة المقاطعة الظالمة التي علقتها قريش في الكعبة ووضعت فيها بنود المقاطعة المفروضة على المسلمين ومن ناصرهم من آل عبد المطلب، يقول ابن هشام في السيرة النبوية: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: يا عم إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان، فقال أربك أخبرك بهذا ؟، قال نعم، قال فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها ؟ وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم رضينا، فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا[250].

ومن الغيوب التي تنبأ بها صلى الله عليه وسلم ووقعت حال حياته خبر الريح التي تنبأ بها هو منطلق وأصحابُه إلى تبوك، يقول أبو حميد الساعدي راوي الحديث: فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ، قَالَ (رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ)، فَعَقَلْنَاهَا، وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ[251].

يقول النووي: "هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة؛ من إخبارِه عليه الصلاة والسلام بالمغيَّب، وخوفِ الضرر من القيام وقت الريح، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته, والرحمةِ لهم, والاعتناءِ بمصالحهم, وتحذيرِهم مما يضرُّهم في دين أو دنيا"[252].

ومن الغيوب كذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بموت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضى الله عنهما شهيدين، روى البخاري في صحيحه عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ[253]"، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فمات أبو بكر بمرضٍ أصابه، وقُتل عمر في المحراب شهيدًا، وقُتل عثمان في داره شهيدًا، فرضي الله عنهم أجمعين.

وفي الحديث دلالة أخرى على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الجبل يسكن ويثبت لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي هذا إشارة لطاعة الجبال والجمادات لخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتنة بين علي ومعاوية رضى الله عنهما، روى البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ[254].

فهذان خبران أخبر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقعا كما أخبر، فقد اقتتل عليّ ومعاوية رضي الله عنهما بجيشيهما في صفين، ودعواهما واحدة، فكان ما أخبر به صلى الله عليه وسلم كما أخبر فهي آية نبوّته صلى الله عليه وسلم ومعجزته التي على مثلها آمن البشر.

وأما الخبر الثاني فقد ظهر مصداق ذلك في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة باليمامة، والأسود العنسي باليمن، ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح التميمية في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في خلافة عمر، ونقل أن سجاح أيضا تابت.

وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة وبدت له شبهة، وقد أهلك الله تعالى من وقع له ذلك منهم.

ومن الغيوب كذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن استشهاد أمراء مؤته قبل أن يأتي الخبر بمقتلهم؛ روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)[255].

ومن الغيوب الباهرة الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وعده لأصحابه بالنصر والتمكين لهذا الدين رغم ما كان يصيبهم من أذى واضطهاد من قريش في مكة، روى البخاري عن خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا،قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ[256]، وقد تم هذا كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فكان آية نبوته ومعجزتها التي لا يقدر عليها أحدٌ إلا الله جل جلاله، وعظم سلطانه.

ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بفتوح أمته للبلدان المتفرقة، وانتشار الإسلام حتى يرفرف على جهات الأرض المختلفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن ملك أمته وسلطانها: (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ)[257].

يقول النووي: "هذا الحديث فيه معجزات ظاهرة، وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم قال العلماء : المراد بالكنزين الذهب والفضة، والمراد كنزي كسرى وقيصر ملكي العراق والشام، وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب، وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب، وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"[258].

ولقد فصل صلى الله عليه وسلم أخبار تلك الفتوحات في العديد من الأحاديث، منها إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح مصر روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضى الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا[259].

ولقد تحقق ذلك زمن الخلفاء الراشدين، وكان أبو ذر رضى الله عنه ممن فتح مصر وسكنها، يقول: فرأيت عبدَ الرحمنِ بنَ شرحبيلَ بنِ حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لَبِنة، فخرجت منها[260].

يقول النووي: "وفيه معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : منها إخباره بأن الأمة تكون لهم قوة وشوكة بعده بحيث يقهرون العجم والجبابرة، ومنها أنهم يفتحون مصر، ومنها تنازع الرجلين في موضع اللبنة ، ووقع كل ذلك ولله الحمد"[261].

ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والروم، روى مسلم في صحيحه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ[262].

كما أخبر صلى الله عليه وسلم بفتح المسلمين للسند والهند، روى الإمام أحمد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي خَلِيلِي الصَّادِقُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْثٌ إِلَى السِّنْدِ وَالْهِنْدِ، فهذا الخبر الصادق وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم فقد فتح المسلمون الهند أيام معاوية سنة 44هـ أربع وأربعين ثم توالى الغزو والفتح كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان صلى الله عليه وسلم يبلغ أصحابه بهذه الغيوب رغم ما كان عليه المسلمون من ضعف، يروى لنا عدى بن حاتم رضى الله عنه إحدى هذه الأخبار، فيقول: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، [فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فلعلك إنما يمنعك عن الإسلام أنك ترى من حولي خصاصة، إنك ترى الناس علينا ألبا)][263]، ثم قال: (يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ)، قُلْتُ: (لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا).

قَالَ: (فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)، [يقول عدي، وهو يتشكك من وقوع هذا الخبر] قُلْتُ: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ.

ثم يقول صلى الله عليه وسلم: وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلْتُ: (كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ).

قَالَ: (كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ).

هذه ثلاث نبوءات يبشر بها رسول الله عليه وسلم رغم ما كان عليه المسلمون من ضعف وفاقة، حتى أن عديًا تشكك في وقوعها، ولكن هل تحققت هذه النبوءات يقول عدي: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ[264].

وصدق عدي رضى الله عنه، حيث تحققت النبوءة الثالثة زمن الخليفةِ الراشدِ عمر بن عبد العزيز.

ومن الأخبار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبت التاريخ والعلم الحديث وقوعها، إخباره صلى الله عليه وسلم بخروج نار من أرض الحجاز، روى البخاري في صحيحه عن أَبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى[265].

يقول الدكتور‏ زغلول النجار: في هذا الحديث الشريف إشارة علمية دقيقة إلى حقيقة من حقائق أرض الحجاز لم تدرك إلا في منتصف القرن العشرين حين بدئ في رسم الخريطة الجيولوجية لأرض شبه الجزيرة العربية, وكان من نتائج ذلك انتشار الطفوح البركانية على طول الساحل الغربي لجزيرة العرب من عدن جنوبًا إلى المرتفعات السورية شمالاً, عبر كل من الحجاز والأردن, وفلسطين, مغطية مساحة من تلك الطفوح تقدر بحوالي مائة وثمانين ألفًا (180.000 كم2) من الكيلومترات المربعة, ومكونة واحدًا من أهم أقاليم النشاط البركاني الحديث في العالم, ويقع نصف هذه المساحة تقريبًا في أرض الحجاز (حوالي تسعين ألفًا من الكيلو مترات المربعة) موزعة في ثلاثة عشر حقلاً بركانيًا تعرف باسم الحرات, وأغلب هذه الحرات تمتد بطول الساحل الشرقي للبحر الأحمر ممتدة في داخل أرض الحجاز بعمق يتراوح بين 150 كيلو مترًا, 200 كيلو مترًا, ويعتقد بأن هذه الطفوح البركانية قد تدفقت عبر عدد من الصدوع الموازية لاتجاه البحر الأحمر, ومن فوهات مئات من البراكين المنتشرة في غرب الحجاز , كما يعتقد بأن تلك الصدوع والبراكين لا تزال نشطة منذ نشأتها وإلى يومنا الحاضر, سببت العديد من الهزات الأرضية, كما تم مشاهدة تصاعد أعمدة من الغازات والأبخرة الحارة من عدد من تلك الفوهات البركانية.

والحرات الثلاث عشر المنتشرة في أرض الحجاز هي من الجنوب إلى الشمال: حرة السراة, البرك, البقوم, النواصف, هادان, الكشب, رهط, حلة أبو نار, خيبر, إشارة, العويرض, الشامة والحماد, بالإضافة إلى عدد آخر من الحرات الصغيرة في مساحاتها .

وتقع المدينة المنورة (على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم) بين حرة رهط في الجنوب, وحرة خيبر في الشمال, وتمتد حرة رهط بين المدينة المنورة شمالاً, ووادي فاطمة بالقرب من مكة المكرمة جنوبًا عبر مسافة تقدر بحوالي 310 كيلو مترًا في الطول, وستين كيلو مترًا في متوسط العرض لتغطي مساحة تقدر بحوالي 19830 كيلو مترًا مربعًا, بسمك متوسط حوالي المائة متر وإن كان يصل إلى أربعمائة مترًا في بعض الأماكن .

ويوجد في حرة رهط وحدها أكثر من سبعمائة فوهة بركانية, ويعتبر الجزء الشمالي من حرة رهط والذي يقع إلى الجنوب من المدينة المنورة مباشرة من أكثر أجزاء تلك الحرة نشاطًا؛ لأنه قد شهد أكثر من ثلاثة عشر ثورة بركانية وتدفقًا للحمم خلال الخمسة آلاف سنة الماضية (بمتوسط ثورة بركانية واحدة كل أربعمائة سنة تقريبًا) منها ثورة سنة 21 هجرية (644 ميلادية) ثورة 654 هـ (1256 ميلادية) واللتين سبقتا بعدد من الهزات الأرضية العنيفة وأصوات الانفجارات الشديدة.

وقد كونت الثورة البركانية الأخيرة (654 هـ / 1256 م) ستة مخاريط بركانية جديدة, ودفعت بطفوحها لمسافة زادت على ثلاثة وعشرين كيلو مترًا من الشمال إلى الجنوب, وامتدت حتى الطرف الجنوبي لموقع مطار المدينة المنورة الحالي, ثم تحولت إلى الشمال لطفا بأهل المدينة, وكرامة لساكنها صلى الله عليه وسلم بعد أن أصاب الناس كثير من الذعر والهلع .

ويوجد في حرة خيبر أكثر من أربعمائة فوهة بركانية تضم عددًا من أحدث تلك الفوهات عمدًا وأكثرها نشاطًا, فقد تم تسجيل أكثر من ثلاثمائة هزة أرضية خفيفة, حول إحدى تلك الفوهات البركانية في سنة من السنوات الماضية, مما يوحي بتحرك الصهارة الصخرية تحت ذلك المخروط ويهدد بإمكانية انفجاره بثورة بركانية عارمة.

وتشير الدراسات العلمية التي أجريت على منطقة الحجاز إلى أن الثورات البركانية التي كونت حرة رهط قد بدأت منذ عشرة ملايين من السنين على الأقل, تميزت بتتابع عدد من الثورات البركانية التي تخللتها فترات من الهدوء النسبي, ونحن نحيا اليوم في ظل إحدى هذه الفترات الهادئة نسبيًا.

ومعنى هذا الكلام أن المنطقة مقبلة حتمًا على فترة من الثورات البركانية تندفع فيها الحمم من تلك الفوهات والصدوع كما اندفعت من قبل بملايين الأطنان فتملأ المنطقة نارًا ونورًا تصديقًا لنبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي قال فيها : "لا تقوم حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى".

وبصرى مدينة في جنوب بلاد الشام (سوريا) كذلك فإن حرة خيبر تعتبر أكبر هضبة بركانية في أرض الحجاز؛ حيث تغطي قرابة العشرين ألف كيلو مترًا مربعًا, بسمك يترواح بين الخمسمائة والألف متر, يمثل عدة طفوح بركانية متتالية, يتركز أحدثها في وسط الحرة ؛ حيث تنتشر غالبية الفوهات البركانية الحديثة في حزام يمتد بطول ثمانين كيلو مترًا موازيًا لاتجاه البحر الأحمر, وبعرض 15 كيلو مترًا في المتوسط, وقد تم تسجيل زلزالين كبيرين وقعا في حرة خيبر, أحدهما في سنة 460 هـ, والآخر في سنة 654 هـ, وقد سبقت الزلزال الأخير أصوات انفجارات عالية, تلتها ثورة بركانية كبيرة, وصاحبتها هزات أرضية استمرت بمعدل عشر هزا ت يوميًا لمدة خمسة إلى ستة أيام قدرت شدة أكبرها بخمسة درجات ونصف الدرجة على مقياس ريختر, وقد كونت هذه الثورة البركانية الأخيرة عددًا من المخاريط البركانية, ورفعت بملايين الأطنان من الحمم في اتجاه الجنوب, ولا تزال تلك المخاريط تتعرض لأعداد كبيرة من الرجفات الاهتزازية الخفيفة التي توحي بأن الصهارات الصخرية تحت المخروط البركاني لا تزال نشطة, مما يؤكد حتمية وقوع ثورات بركانية عارمة تخرج من أرض الحجاز في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله, وذلك تصديقًا لنبوءة النبي الخاتم, والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وشهادة له بالنبوة وبالرسالة , وبأنه (عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم) كان موصولاً بالوحي, ومعلمًا من قبل خالق السماوات والأرض.

ومن الغيوب التي أبلغ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يظهر تحققها إلا في العقود الأخيرة، ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا"[266].

يقول الدكتور زغلول النجار: ".. وهذا الحديث الشريف من المعجزات العلمية التي تصف حقيقة كونية لم يدركها العلماء إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين حين ثبت لهم بأدلة قاطعة أن جزيرة العرب كانت في القديم مروجًا وأنهارًا, كما تشير الدراسات المناخية إلى أن تلك الصحراء القاحلة في طريقها الآن للعودة مروجًا وأنهارًا مرة أخرى, وذلك لأن كوكب الأرض يمر – في تاريخه الطويل – بدورات مناخية متقلبة تتم على مراحل زمنية طويلة ومتدرجة – كما قد تكون فجائية , ومتسارعة.

وبدراسات متأنية ثبت لنا أن جزيرة العرب قد مرت في خلال الثلاثين ألف سنة الماضية بسبع فترات مطيرة تخللت ثماني فترات جافة, تمر حاليًا بالفترة الثامنة منه.

وتشير الدراسات المناخية إلى أننا مقدمون على فترة مطيرة جديدة شواهدها بدايات زحف للجليد في نصف الكرة الشمالي باتجاه الجنوب, وانخفاض ملحوظ في درجات حرارة فصل الشتاء.

وفي فترات المطر كسيت الجزيرة العربية بالمروج الخضراء, وتدفقت الأنهار بالمياه الجارية, وتحولت المنخفضات إلى بحيرات زاخرة بالحياة, وعمرت اليابسة بمختلف صور الحياة الأرضية, كما وصفها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نحن بصدده وحتى صحراء الربع الخالي التي تعتبر اليوم واحدة من أكثر أجزاء الأرض قحولة وجفافًا ثبت أن بها أعدادًا من البحيرات الجافة, والمجاري المائية القديمة المدفونة تحت رمالها السافية, وأن تلك البحريات والمجاري المائية كانت زاخرة بالحياة, ومتدفقة بالمياه إلى زمن قوم عاد الذين أقاموا في جنوب الجزيرة العربية حضارة مادية لم يكن يدانيها في ازدهارها المادي حضارة أخرى في زمانها.

وقد وصف الحضارة المادية لقوم عاد أثناء ازدهارها اثنان من المؤرخين القدامى كان أولهما بطليموس الإسكندري, الذي كان أمينًا لمكتبة الإسكندرية وقام برسم الأنهار المتدفقة في منطقة الربع الخالي الحالية بتفرعاتها, والبحيرات التي كانت تفيض إليها , وكان ثانيهما هو يليني الكبير , أحد مؤرخي الحضارة الرومانية والذي وصف حضارة عاد بأنها لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخرى.

وتمثل فترة الأمطار الغزيرة الأخيرة في شبه الجزيرة العربية في خلال الثلاثين ألف سنة الماضية نهايات العصر الجليدي الأخير الذي عم الأرض خلال المليوني سنة الأخيرة في دورات متتالية من زحف الجليد وانحساره تركت بصماتها واضحة على أشكال سطح الأرض الحالية بصفة عامة, وفي نصفها الشمالي بصفة خاصة, وقد حصى العلماء من تلك الدورات عشرين دورة استغرقت كل منها حوالي المائة ألف سنة, كان نصفها دورات زحف جليدي تخللتها عشرة دورات من دورات انحسار هذا الزحف الجليدي, ونعيش اليوم في نهاية آخر دورة من دورات هذا الانحسار الجليدي, ويبشر العلماء ببداية دورة من دورات هذا الانحسار الجليدي, ويبشر العلماء ببداية دورة جليدية جديدة قريبًا إن شاء الله, وقد بدأت شواهد هذا بالفعل.

وإشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليها في حديثه الكريم "تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا" مما يشهد له بالنبوة وبالرسالة, وبأنه عليه الصلاة وأزكى التسليم كان دومًا موصولاً بالوحي, ومُعَلَّمًا من قِبَل خالق السماوات والأرض .

ويدخل كذلك في دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم إخباره بأشراط الساعة وعلامات القيامة، فكل ما يحدث من أشراط الساعة؛ كظهور الدجال، ويأجوج ومأجوج، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، بل والنفخ في الصور، وغير ذلك؛ هو من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بها قبل أن يكون، فكذّبهم المكذّبون، فإذا ظهر بعد مئات، أو آلاف السنوات، كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقه صلى الله عليه وسلم.

ختامًا: معجزات نبينا أظهر من معجزات الرسل

وفي الختام ننقل هنا ما قاله القاضي عياض في كتابه الشفا عن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من التصرف: قال القاضي عياض[267]: " قد أتينا في هذا الباب على نكت من معجزاته واضحة، وجمل من علامات نبوته مقنعة، في واحد منها الكفاية والغنية وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا، وبحسب هذا الباب لو تقصي أن يكون ديواناً جامعاً يشتمل على مجلدات عدة.

ومعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين:

أحدهما : كثرتها، وأنه لم يؤت نبي معجزةً إلا وعند نبينا مثلها، أو ما هو أبلغ منها، وقد نبه الناس على ذلك، وأما كونها كثيرة فهذا القرآن، وكله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، أو آية في قدرها، وذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وزاد آخرون أن كل جملة منتظمة منه معجزة.

ثم إعجازه ـ كما تقدم ـ بوجهين : طريق بلاغته، و طريق نظمه، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان ، فتضاعف العدد من هذا الوجه.

ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة الخبر عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعف العدد كرة أخرى.

ثم وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها توجب التضعيف، هذا في حق القرآن وحده، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته، ولا يحوي الحصر براهينه.

ثم الأحاديث الواردة، والأخبار الصادرة عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب وعما دل على أمره مما أشرنا إلى جمله يبلغ نحواً من هذا.

الوجه الثاني : وضوح معجزاته صلى الله عليه وسلم، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم، وبحسب الفن الذي سما فيه قرنه، أما معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة القرآن الكريم فهي متجددة ومناسبة لأهل كل زمان ومكان، فالقرآن الكريم كما ذكرنا لا تنقضى عجائبه، فإن كانت معجزات الرسل قد انقرضت بانقراضهم، وعُدمت بعدم ذواتها، فإن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تبيد ولا تنقطع، وآياته تتجدد ولا تضمحل، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في أول الفصل: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة).

شبهة وردها:

قد يقول البعض أو يزعم من في قلبه مرض أن هذه المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة التي أوردنا أمثلة منها، إنما اختص المسلمون بنقلها فما الدليل على وقوعها، والإجابة على هذه الشبهة الباطلة، من وجوه:

أولها: لكل قوم تاريخها وأخبارها وتواترها:

مما يجمع عليه العقلاء أن لكل قوم أخبار يتناقلونها عبر الأزمنة وأحداث تنتقل عبر الأجيال جيل بعد جيل، فللأمريكان مثلا أخبارهم وقصصهم، ولكل دولة من دول أوروبا قصصها وتاريخها الذي قد تعتمد في كتابتها على أشخاص مجهولين وأحداث مشكوك في صحتها، فهل يصح أن يقول أحد ما الدليل على صحة هذه الأخبار دون أن يدرسها ويناقشها بعد أن يكون قد ألم بها إلمامًا واسعًا، فإذا كان كذلك مع أخبار الأمم والأقوام والتي لا يهتم عامة الناس بضبط أحداثها ودقة تفاصيلها، فما الشأن برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله إلى قوم عرفوا بقوة الحافظة وسعة الذاكرة ودقة الملاحظة، فإن هذه الأخبار والوقائع التي ذكرنها منها ما هو في القرآن ومنها ما هو متواتر يعلمه العامة والخاصة؛ والمتواتر هو ما نقله العدد الكثير من الناس الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب، وهو ما تناقلته الأمة المسلمة جيلاً بعد جيل وخلفًا عن سلف من أخبار معجزات النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يشكك في شهادة هؤلاء الأخيار الأفاضل، أو يزعم أن هؤلاء الأفاضل إنما شهدوا لنبيهم فشهادتهم غير مقبولة، فإن هذا الزعم من شأنه أن يلغى جميع معجزات الأنبياء وجميع ما ورد عن أخبار السابقين لأنه يمكننا أن نقول أن ما ورد عن عيسي عليه السلام أو ورد عن موسي عليه السلام إنما ذكره أصحابهما والمقربون منهما، وكذلك الشأن مع بقية أخبار الأمم السابقة والمعاصرة.

ولا يزال الناس على مر العصور يعتمدون على بعضهم البعض في نقل الأخبار والأحداث ولم يقل أحد بإلغاء هذه الأخبار لأنها تعتمد على نقل أناس قد يخطئون أو يوهمون، غير أننا نقول أنه مع ذلك فإن الإسلام تميز بمنهج في نقل الأخبار ونقد الروايات فاق كل المناهج المعروفة وفاق كل النظريات المعرفية.

الوجه الثاني: منهج نقل الروايات ونقدها لدى المسلمين:

تميز المسلمون بمنهج في نقل الروايات والآثار ونقدها لا يوجد عند غيرها من الأمم، حيث يعتمد هذا المنهج على الإسناد، والمقصود بالإسناد هو تلقي الخبر من راو ينقله عمن فوقه وهكذا حتى نصل إلى أول الإسناد، وقد وضع علماء المسلمين شروطًا صارمة للقبول بصحة الخبر اعتمادًا على الإسناد، يقول الإمام عبد الله بن المبارك: (الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء ولكن إذا قيل له : من حدثك ؟ بَقِيَ)[268]، ويقول الحافظ أبا حاتم الرازي كان في مجلس فقال: (لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار نبيهم وأنساب سلفهم إلا في هذه الأمة، فقال له رجل: يا أبا حاتم، ربما رووا حديثا لا أصل له ولا يصح، فقال أبو حاتم: علماؤهم يعرفون الصحيح والسقيم فروايتهم ذلك-أي الحديث الواهي – للمعرفة، ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها)[269].

ومن الشروط التي وضعها العلماء للقبول بخبر ما أن يكون الراوي عدل ضبط، أي عدل فلا يكذب ولا يأتي بما يقدح في دينه وشهادته، وضبطه فلا يكون سيئ الحفظ أو كثير الخطأ، وأن يكون الراوي قد سمع هذا الخبر من شيخه الذي ينقل عنه الخبر فلا يكون بينهم انقطاع، وبهذه الشروط تميزت الأمة المسلمة بمنهج نقدي تاريخي لا يوجد مثيله لدى الأمم الأخرى لا في الماضي ولا في الحاضر يقول ابن حزم في الفِصَل في الملل والنحل: (نقل الثقة عن الثقة حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، ويخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه عندهم غَضَّا جديدا على قديم الدهور، يدخل في طلبه إلى الآفاق البعيدة مَنْ لا يُحصِي عددَهم إلا خالقُهم، ويواظب على تقييده من كان الناقل قريبا منه.

قد تولى الله حفظه عليهم والحمد لله رب العالمين فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شئ من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسقا أن يقحم كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر، وأما مع الإرسال والإعضال – سقط في السند - فيوجد في كثير من اليهود ولكنهم لا يَقْرُبُون فيه من موسى عليه الصلاة والسلام قُربَنَا من محمد صلى الله عليه وسلم، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرا في أزيد من ألف وخمسمائة عام ، وإنما يبلغون بالنقل إلى شمعون ونحوه، وأما النصارى فلبس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وحده فقط، على أن مخرجه من كذاب قد صح كذبه، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى، وأما أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلا ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولس)[270].

ولقد مارس المسلمون المنهج النقدي ذاته في نقد الروايات التاريخية والتأكد من صحتها، ومن رجع إلى كتب العلماء الأعلام في ذلك لوجد الأدلة متضافرة على ذلك، فمن قرأ "طبقات ابن سعد" أو "البداية والنهاية" لاستطاع أن يخرج بمنهج نقدي متكامل للروايات التاريخية، أما صحيح البخاري الذي أكثرنا النقول عنه في رسالتنا تلك، فهو في القمة بين كتب المسلمين بل هو أعظم وأصح كتب المسلمين بعد القرآن الكريم يقول العلامة مصطفى صبري: (الطريقة المتبعة في الإسلام لتوثيق الأحاديث النبوية أفضل طريق وأعلاها لا تدانيها في دقتها وسموها أي طريقة علمية غريبة اتبعت في توثيق الروايات، ففي صحيح البخاري مثلا ألفان وستمائة واثنان من الأحاديث المسندة سوى المكررة انتقاها البخاري من مائة ألف حديث صحيح يحفظها وفيه قريب من ألفي راو اختارهم من نيف وثلاثين ألفا من الرواة الثقات الذين يعرفهم وكتاب البخاري البالغ أربع مجلدات كبيرة يبقى بعد حذف أسانيده على حجم مجلد واحد متوسط الحجم فهل سمعتم وسمعت الدنيا أن كتاب تاريخ في هذا الحجم يروى مافية سماعا من ألفي رجل ثقة يعرفهم المؤلف وغيره من أهل العلم بأسمائهم وأوصافهم على أن تكون كل جملة معينة من الكتاب مؤلفة من سطر أو أكثر أو أقل تقريبا سمعها فلان وهو من فلان إلى أن تصل – الإسناد والسماع – بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقام لكل سطر من سطور الكتاب تقريبا شهود من الرواة يتحملون مسؤولية روايته)[271].

الوجه الثالث: أن هذه المعجزات والوقائع التي ذكرنا بعضها وقعت بمحضر من الخلق الكثير كتكثير الطعام يوم الخندق فإنه كان أهل الخندق رجالهم ونساؤهم ألوفا وكذلك نبع الماء من بين أصابعه وفيضان البئر بالماء يوم الحديبية وكانوا يومئذ ألفا وخمسمائة وكلهم صالحون من أهل الجنة لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك تكثير الماء والطعام في غزوة خيبر كانوا ألفا وخمسمائة وفي تبوك كانوا ألوفا مؤلفة وكان بعض من حضر هذه المشاهد نقل هذه الآيات قدام آخرين ممن حضرها وينقلها لأقوام فيذهب أولئك فيخبرون بها أولئك ويصدق بعضهم بعضا ويحكي هذا مثل ما حكى هذا من غير تواطىء وتشاعر وأدنى أحواله أن يقره ولا ينكر عليه روايتها ونحن نعلم بموجب العادة الفطرية التي جبل الله عليها عباده وبموجب ما كان عليه سلف الأمة من اعتقاد الصدق وتحريه واعتقادهم أن ذلك واجب ومن شدة توقيهم الكذب على نبيهم وتعظيمهم[272]، فإذا كان الحال كذلك فما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقروا من يعلمون أنه يكذب عليه ومن أخبر عنه بما كانوا مشاهدين له وكذب عليه فقد علموا انه كذب عليه فلما اتفقوا على الإقرار على ذلك وعلى تناقله بينهم من غير إنكار أحد منهم لذلك علم قطعا أن القوم كانوا متفقين على نقل ذلك كما هم متفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة.

ثالثًا: الأدلة النظرية على نبوة سيد البرية صلى الله عليه وسلم:

ناقشنا فيما سبق بشارات الأنبياء السابقين بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم تبعنا ذلك بذكر شيء من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذان الأمران يندرجان تحت الأدلة النقلية على نبوة الرسول الكريم، أما الأدلة النظرية والمتمثلة في خلقه صلى الله عليه وسلم وشريعته والبيئة التي أرسل فيها، فهذا ما سوف نناقشه في الصفحات القادمة، ولقد اخترنا لمناقشة هذا الأمر قصة عظيم الروم هرقل مع أبي سفيان بعد أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فإن هرقل لما جاءه هذا الكتاب بحث وسأل وحاور أبا سفيان عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ودعوته حتى استدل وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر.

وهذا المنهج الذي اتبعه هرقل هو منهج نظري بحثي اعتمد على التفكر في الوقائع والتأمل في الأحداث التي لا يستطيع أن يشكك فيها، ولعل هرقل وكان على علم بالدين النصراني قد استقي هذا المنهج مما ورد في الرسالة الأولى ليوحنا؛ حيث جاء "أيها الأحياء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من اللّه، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم"، فهذا القول لم ينف وجود نبي منتظر يخرج في آخر الزمان ولكن دعا إلى امتحان واختبار من يعلن نفسه نبيًا حتى يتم التأكد من نبوته والتمييز بين الصادق والكاذب، وهو ما اتبعه هرقل حتى جزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم الذي بشرت به الكتب السابقة.

وجاء في إنجيل متي وصف النبي المنتظر والصالحين بالقول المنسوب لعيسي عليه السلام: "من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً"، فهذه دعوة إلى النظر في مبادئ الرسالة وثمارها لمعرفة الحق من الباطل.

لذلك فإنه إذا كان الغرب يزعم اليوم أنه أهل المعرفة والبحث فإننا ندعوه إلى أن يبحث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل هرقل، ولا نستدل عليه بالبشارات والمعجزات، ولكننا نستدل بوقائع وأحداث ومبادئ لا يشكك فيها أحد ولا يختلف عليها اثنان، فأين العقول النيرة والعيون المبصرة والقلوب الواعية.

قصة هرقل مع أبي سفيان:

هذه القصة العظيمة رواها البخاري ومسلم وأبو داود والإمام أحمد ووردت في عدد من كتب السنة، وفيما يلي نص هذه القصة كما جاءت في صحيح البخاري، وما بين القوسين فهي زيادات وجدناها في الروايات الأخرى.

روى البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ.

وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ)، وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ[273].

فَقَالَ (هرقل): أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟.

(قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا.

قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَقُلْتُ هُوَ ابْنُ عَمِّي؛ وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي).

فَقَالَ (هرقل): أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ[274] ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، (قالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ).

قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟، قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.

قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟، قُلْتُ لَا.

قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟، قُلْتُ لَا.

قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟، فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.

قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟، قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ.

قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟، قُلْتُ لَا.

قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟، قُلْتُ لَا.

قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟، قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ[275].

قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟، قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟، قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ[276] يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.

قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟، قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ[277].

فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.

وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي[278] بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.

وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.

وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ[279].

وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.

وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.

وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.

وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ.

(وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ).

وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ[280]، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ[281] فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ[282] إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ[283] لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.

ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ[284] أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ[285] وَ{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، (فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ لَقَدْ أَمِرَ[286] أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ[287] هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ وَأَنَا كَارِهٌ).

وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً[288] يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ[289] وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ[290] حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا[291] حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ"[292].

تلك قصة هرقل مع أبي سفيان كما وردت في كتب الصحاح وهي توضح لنا بجلاء كيف أن هرقل كان ملكًا ذكيًا اتبع منهجًا علميًا للتأكد من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يقابل الأمر بكفر وجحود وكبر مثلما فعل كسرى عظيم فارس، بل ناقش وبحث وسأل حتى يتأكد من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبني على هذه المعلومات قراره الذي لم يكن صائبًا بل خذلته شجاعته وطمعه في الرياسة والمنصب فاختار الفانية على الباقية، غير أن ما يهمنا المنهج الذي اتبعه هرقل في معرفة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأسئلة والبحث الذي قام به هرقل أفاده علما جازما بأن هذا هو النبي الذي ينتظره.

وكل عاقل سليم الفطرة إذا سمع هذه الأسئلة وأطلع على هذا البحث علم أنه من أدل الأمور على عقل السائل وخبرته واستنباطه ما يتميز به هل هو صادق أو كاذب وأنه بهذه الأمور تميز له ذلك، وقبل عرض هذا المنهج الذي اتبعه هرقل والذي ينبني على ثلاثة محاور أساسية هي:

النظر في شأن الرسول وسيرته.

النظر في نصر الله أو خذلانه لمدعى الرسالة.

النظر في منهج ومبادئ هذه الرسالة.

هذه هي المحاور الثلاثة التي دار حولها بحث هرقل، وقبل تفصيلها نود الإشارة إلى وجود إضافات مهمة لهذه القصة هي:

رد هرقل على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

روى الإمام أحمد في مسنده حديثًا يفيد أن هرقل أرسل برسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن رسالته، روى الإمام أحمد بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْصَ وَكَانَ جَارًا لِي شَيْخًا كَبِيرًا، فَقُلْتُ أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ رِسَالَةِ هِرَقْلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ؛ فلما أبلغه بخبر رسالة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وموقف هرقل.

قال: ثم دعا هرقل "رَجُلًا مِنْ عَرَبِ تُجِيبَ كَانَ عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَالَ: (ادْعُ لِي رَجُلًا حَافِظًا لِلْحَدِيثِ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ أَبْعَثْهُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِجَوَابِ كِتَابِهِ)، فَجَاءَ بِي فَدَفَعَ إِلَيَّ هِرَقْلُ كِتَابًا، فَقَالَ: (اذْهَبْ بِكِتَابِي إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَمَا ضَيَّعْتُ مِنْ حَدِيثِهِ فَاحْفَظْ لِي مِنْهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ انْظُرْ هَلْ يَذْكُرُ صَحِيفَتَهُ الَّتِي كَتَبَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ، وَانْظُرْ إِذَا قَرَأَ كِتَابِي فَهَلْ يَذْكُرُ اللَّيْلَ، وَانْظُرْ فِي ظَهْرِهِ هَلْ بِهِ شَيْءٌ يَرِيبُكَ.

ثم يقول التنوخي: فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِهِ حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ مُحْتَبِيًا عَلَى الْمَاءِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَاحِبُكُمْ، قِيلَ هَا هُوَ ذَا فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ كِتَابِي فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: (مِمَّنْ أَنْتَ)، فَقُلْتُ: أَنَا أَحَدُ تَنُوخَ، قَالَ: (هَلْ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ)، قُلْتُ: (إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ وَعَلَى دِينِ قَوْمٍ لَا أَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ)، فَضَحِكَ.

وَقَالَ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، يَا أَخَا تَنُوخَ إِنِّي كَتَبْتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ وَاللَّهُ مُمَزِّقُهُ وَمُمَزِّقٌ مُلْكَهُ وَكَتَبْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِصَحِيفَةٍ فَخَرَقَهَا وَاللَّهُ مُخْرِقُهُ وَمُخْرِقٌ مُلْكَهُ وَكَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ.

قُلْتُ: (هَذِهِ إِحْدَى الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَوْصَانِي بِهَا صَاحِبِي)، وَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي فَكَتَبْتُهَا فِي جِلْدِ سَيْفِي، ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ، قُلْتُ: (مَنْ صَاحِبُ كِتَابِكُمْ الَّذِي يُقْرَأُ لَكُمْ) قَالُوا: (مُعَاوِيَةُ).

فَإِذَا فِي كِتَابِ صَاحِبِي [أي كتاب هرقل]: (تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فَأَيْنَ النَّارُ؟)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ)، قَالَ: (فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي فَكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي).

فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ كِتَابِي، قَالَ: (إِنَّ لَكَ حَقًّا وَإِنَّكَ رَسُولٌ فَلَوْ وُجِدَتْ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ جَوَّزْنَاكَ بِهَا إِنَّا سَفْرٌ مُرْمِلُونَ)، قَالَ فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ طَائِفَةِ النَّاسِ قَالَ أَنَا أُجَوِّزُهُ فَفَتَحَ رَحْلَهُ فَإِذَا هُوَ يَأْتِي بِحُلَّةٍ صَفُورِيَّةٍ فَوَضَعَهَا فِي حَجْرِي، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ الْجَائِزَةِ قِيلَ لِي عُثْمَانُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ يُنْزِلُ هَذَا الرَّجُلَ، َقَالَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا، َقَامَ الْأَنْصَارِيُّ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا خَرَجْتُ مِنْ طَائِفَةِ الْمَجْلِسِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: تَعَالَ يَا أَخَا تَنُوخَ، فَأَقْبَلْتُ أَهْوِي إِلَيْهِ حَتَّى كُنْتُ قَائِمًا فِي مَجْلِسِي الَّذِي كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَلَّ حَبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَقَالَ هَاهُنَا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ لَهُ فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ غُضُونِ الْكَتِفِ مِثْلِ الْحَجْمَةِ[293] الضَّخْمَةِ[294].

مصير ضغاطر:

أما صاحب رومية، فقد ذكر ابن إسحاق أن اسمه كان ضغاطر، وروى محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم‏:‏ أن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي، حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك، والله إني لأعلم أن صاحبك نبيٌّ مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ضغاطر الأسقفّ، فاذكر له أمر صاحبكم، فهو أعظم في الروم مني، وأجوز قولاً مني عندهم، فانظر ما يقول‏.

فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ضغاطر‏:‏ صاحبك، والله نبيٌّ مرسل، نعرفه في صفته ونجده في كتابنا باسمه، ثم ألقى ثياباً كانت عليه سوداً، ولبس ثياباً بيضاً، ثم أخد عصاه، ثم خرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال‏:‏ يا معشر الروم، إنه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا فيه إلى الله وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن أحمد رسول الله‏.

فوثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد، فضربوه فقتلوه، فرجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر، فقال‏:‏ قد قلت لك‏:‏ إنا نخافهم على أنفسنا، وضغاطر كان، والله، أعظم عندهم مني‏.‏

مصير كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال ابن حجر في فتح الباري: ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب ، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله، فامتنع.

قلت (ابن حجر): وأنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي، قال: حدثني سيف الدين فليح المنصوري قال: أرسلني الملك المنصور قلاوون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلني ملك الغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا.

فلا يزال كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودًا حتى الآن، غير أننا لا نتوقف كثيرًا عند تلك النقطة، ونناقش الآن المنهج الذي اتبعه هرقل في معرفة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المنهج النظري لمعرفة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم

أولا: النظر في شخص الرسول الكريم وسيرته:

أولى النقاط التي اعتمدها هرقل لمعرفة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النظر في شأنه وسيرته، حيث سأل أبا سفيان عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أجداده وعن صدقه ووفاءه، وهذه الأسئلة تصب مباشرة في المنهج الذي اتبعه هرقل للتأكد من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أخلاق الإنسان شاهدة عليه، وسلوكه حاكم لأفعاله، والخُلق هيئة راسخة بالإنسان لا تنفك عنه فلا يستطيع من شيمته الكذب أن يكذب تارة ويصدق تارة، ومن اعتاد الصدق حتى اشتهر به بين الناس وصار علمًا عليه فلا يكذب على الله عزوجل، وهو يعلم أن الله يهلك من يكذب عليه سبحانه.

فمن أعظم دلائل النبوة الأخلاق الحسنة والفضائل العليا، فشتان بين الكاذب الدعي والنبي الصادق، فالدعي الكاذب تفضحه أخلاقه وتكشفه جرائمه، أما النبي الصادق فتلوح عليه علامات الصدق وتزينه الأخلاق الحسنة ويجافيه سيئها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا جمع الله له من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه، فلم يستطيع أعدائه الذين يتربصون به ويقفون في طريق دعوته مؤذين له محذرين منه تحصيل شيء يعيبونه به وأنى لهم ذلك، وقد شهدوا بصدقه وأمانته وهما الغاية من الأخلاق، وها هي السيدة الفاضلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تستدل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخلاقه وشيمه؛ ففي حديث بدء الوحى الذي رواه الإمام البخاري قالت السيدة خديجة رضى الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء إليها فؤاده يرجف بعد لقاءه الأول مع جبريل عليه السلام يقول زَمِّلُونِي ‏زَمِّلُونِي، ‏وأخبر خديجة بالخبر، فقالت له خديجة: ‏كَلَّا وَاللَّهِ ‏مَا يُخْزِيكَ ‏‏اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ ‏الْكَلَّ ‏وَتَكْسِبُ ‏الْمَعْدُومَ ‏وَتَقْرِي ‏الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى ‏نَوَائِبِ ‏الْحَقِّ[295].

ولقد دارت أسئلة هرقل عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم على محورين، المحور الأول: تركز على اتصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة الصدق والإمانة والوفاء، فيما تركز المحور الثاني: على مناقشة البيئة التي ظهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف نقوم بمناقشة أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الحديث عن البيئة التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم.

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله:

من المعلوم أن مدعى الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم؛ فهما شخصان لا ثالث لهما لذلك فإن معرفة الصادق والتمييز بينه وبين الكاذب من أسهل الطرق وأيسرها لبعد ما بين الشخصين، فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم.

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من نبي صادق إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز، بل إن كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة.

وقبل الحديث عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم يحسن بنا أن نقدم بمقدمة نتحدث فيها عن الأخلاق وأهميتها وحرص الإسلام عليها.

تعريف الأخلاق:

أما تعريف الخلق، فالخليقة هي: الطبيعة، كما قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: وفي التنزيل: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] والجمع: أخلاق، والخُلْق والخُلُق السجية، والخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة -وهي نفسه- وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة.

وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم : الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك: أي: ضد الأخلاق المحمودة، كالكذب والغش والقسوة ونحوها من الأخلاق الرديئة.

وقد عرّف الجرجاني الخلق في التعريفات بقوله: الخلق: عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، وهو تعريف جيد حيث أن الأخلاق تترسخ في نفس الإنسان وتصطبغ بها أفعاله وسلوكياته، ولا يمنع ذلك من إمكانية تغيير الأخلاق السيئة إلا إن ذلك يحتاج إلى جهد وإرادة من صاحب الخلق السيء.

مكانة الأخلاق في الإسلام:

للأخلاق في الإسلام مكانة عظيمة، بلغت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر مهمة بعثته، وغاية دعوته، بكلمة عظيمة جامعة، فقال فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ[296].

وفي هذا أكبر دليل وأنصع حُجة على أن رسالة الإسلام حققت ذروة الكمال، وقمة الخير والفضيلة والأخلاق، كما أن قدوة هذه الأمة عليه الصلاة والسلام كان المثل الأعلى والنموذج الأسمى للخلق الكريم.

وكما كانت سيرته العملية، وسنته الفعلية نبراساً في الأخلاق، فقد زخرت سنته القولية بالإشادة بمكارم الأخلاق، ومكانة أهلها، وعظيم ثوابها، وهي مبثوثة في الصحاح والسنن وغيرها، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)، (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق)، (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً).

فللأخلاق الحسنة في الإسلام شأن عظيم من تخلف عنها نقص من حسناته وزيد في سيئاته، فالحذار الحذار من مذموم الأخلاق وسيئها.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من محاسن الأخلاق وكريمها، ولم يتخلف عنها، فأخلاق المرء لا تنفك عنه، ولا يستطيع التحلى بها في وقت وتركها في وقت آخر، وقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول أمره إلى آخرة لحظة من لحظاته متحليا بكل خلق كريم، مبتعدا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، وأكثرهم حياء، يضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف.

ولا عجب فقد أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم منزلة، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه شهد له بذلك العدو والصديق، ونورد هنا شهادات الأحباب والأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن أخلاقه واكتسابه لكريمها.

شهادة الله العلي على حسن أخلاق النبي الكريم:

يكفى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شهادة له بحسن خلقه وصف اللهُ عزوجل بذلك، قال الله في كتابه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]؛ يقول الحافظ ابن كثير: "قال العوفي، عن ابن عباس: أي: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.

وقال عطية: لعلى أدب عظيم، وقال مَعْمَر، عن قتادة: سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن، تقول كما هو في القرآن.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أم المؤمنين -عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقلتُ: نعم. فقالت: كان خلقه القرآن.

هذا حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه[297]، من حديث قتادة بطوله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن[298]...

ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل. كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم[299]"[300].

ونتجول الآن مع بعض أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم التي حاز منها القدح المعلى، لنرى كيف أنه صلى الله عليه وسلم كان في الذروة العليا من الأخلاق التي لا تكون إلا لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.

1- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه ووفائه ومطابقة قوله لعلمه علم علمًا يقينيًا أنه صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ولا كاهن ولا كاذب؛ وإذا كان الناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات فما الشأن بمن يرسله الله عزوجل إلى البشر يبلغهم رسالته ويدعوهم إلى عبادته أليس يكون يحمل من علامات الصدق وكريم الأخلاق ما يلوح على قسمات وجهه قبل أن يظهر في أقواله وأفعاله، وهذا هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي بسببه أسلم عبد الله بن سلام الحبر اليهودي.

يقول عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ[301] النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"[302]؛ فهذا عبد الله بن سلام حبر من أحبار اليهود لم يحتج الأمر أن يعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أن نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف أنه ليس بوجه كذاب.

إن دلائل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر ونكتفي هنا بإيراد شهادات الأعداء على صدقه صلى الله عليه وسلم.

شهادة الأعداء بصدق النبي المختار صلى الله عليه وسلم :

من أعظم دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعدائه شهدوا له بالصدق والإمانة، فها هو أبو سفيان وكان يوم لقائه مع هرقل على الشرك والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد أنه لم يكذب في حياته قط، فما كان جواب هرقل على هذه الشهادة إلا بقوله ما كان – رسول الله صلى الله عليه وسلم - ليترك الكذب على الناس ليكذب على الله.

ولقد كان المشركون يعلمون يقينًا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عاش بينهم أربعين عامًا قبل البعثة وتعامل معهم وتعاملوا معه حتى لقبوه بالأمين، يقول "عبد الله بن السائب" وهو يصف تجديد بناء الكعبة قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر (الأسود) وما يرى الحجر أحد فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل، وإن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف، فقال : اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : هذا الأمين، وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين، فقالوا : يا محمد، قد رضينا بك، « فدعا بثوب فبسطه ووضع الحجر فيه، ثم قال لهذا البطن، ولهذا البطن ليأخذ كل بطن منكم بناحية من الثوب، ففعلوا، ثم رفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده.

ومن الأخبار في هذا الشأن، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }[303].

وروى أبو داود عن السَّائِبِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ يَعْنِي بِهِ قُلْتُ صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي[304].

وروى الترمذي في سننه عن عَلِيٍّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام:33]"[305]، ولما قال له الأخنس بن شريق: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟"فقال: "ويحك والله إن محمدا صادق وما كذب محمد قط".

فهذا أبو جهل أكبر أعداء الإسلام يقر بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، وما حمله على عداوته إلا الحسد والبغي، كما اعترف هو قائلاً: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه[306].

ومن عجائب الأخبار في ذلك ما يرويه عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ سَعْدٌ أَنَا سَعْدٌ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ تَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَتَلَاحَيَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أُمَيَّةُ لسَعْدٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ قَالَ فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ دَعْنَا عَنْكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ قَالَ إِيَّايَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ قَالَتْ وَمَا قَالَ قَالَ زَعَمَ أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ قَالَ فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ قَالَ فَأَرَادَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَسَارَ مَعَهُمْ فَقَتَلَهُ اللَّه"[307].

فهؤلاء أشراف مكة قد حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاردوه ورغم ذلك لم يستطيعوا أن ينكروا صدقه صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذبًا – حاشاه وكلا – ما وجد أعداؤه مطعنًا فيه أفضل من ذلك.

صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاده دليل على صدقه:

ومن دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم صبره على الأذى وتكذيب قومه له فما رجل يواجه ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يعاني ما عاناه ويصبر على هذا إلا وكان صادقًا في دعواه.

روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر:28]).

هذه صورة واحدة من صور الأذى الذي تعرض له صلى الله عليه وسلم، بلغ درجة أنهم حاولوا اغتياله وقتله إلا إن ذلك لم يثنيه عن دعوته، بل إن أعدائه ذهبوا إلى عمه أبي طالب وكان ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أن يسلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابل ابن من أبنائهم، فأبلغه أبو طالب بهذا الأمر، وقال له: فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه سوف يخذله ويسلمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه)، فمن يصبر ذلك الصبر ويكافح هذا الجهاد لا يكون إلا صادقًا في دعواه، بل هو أصدق الصادقين صلى الله عليه وسلم.

2- كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده:

ومن حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والتي لا تكون إلا لنبي اصطفاه الله عزوجل، سخاؤه وكرمه فهو إن لم يكن يملك المال ما كان ليرد سائله بشيء يكرهه أو يجيبه إجابة تحرجه، روى الإمام البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: ‏مَا سُئِلَ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا[308].

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:"مَعْنَاهُ مَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْء مِنْ أَمْر الدُّنْيَا فَمَنَعَهُ, قَالَ الْفَرَزْدَق:" مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّده" .. وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ يُعْطِي مَا يُطْلَب مِنْهُ جَزْمًا, بَلْ الْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَنْطِق بِالرَّدِّ, بَلْ إِنْ كَانَ عِنْدَه أَعْطَاهُ إِنْ كَانَ الْإِعْطَاء سَائِغًا وَإِلَّا سَكَتَ، وَقَدْ وَرَدَ بَيَان ذَلِكَ فِي حَدِيث مُرْسَل لِابْنِ الْحَنَفِيَّة أَخْرَجَهُ اِبْن سَعْد وَلَفْظه " إِذَا سُئِلَ فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَل قَالَ نَعَمْ , وَإِذَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْعَل سَكَتَ" .. وَقَالَ الشَّيْخ عِزُّ الدِّين بْن عَبْد السَّلَام : مَعْنَاهُ لَمْ يَقُلْ " لَا " مَنْعًا لِلْعَطَاءِ, وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُولهَا اِعْتِذَارًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : ( قُلْت لَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ عَلَيْهِ ) وَلَا يَخْفَى الْفَرْق بَيْنَ قَوْل لَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ وَبَيْنَ لَا أَحْمِلكُمْ".

وقد تواترت الأخبار بجوده صلى الله عليه وسلم، وكرمه، فما بخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ولا منع أحدًا سأله شيئًا قط روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)[309].

ومن الأخبار العجيبة في هذا الشأن ما رواه البخاري عن سهل بن سعد رضى الله عنه ‏أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏بِبُرْدَةٍ ‏مَنْسُوجَةٍ فِيهَا ‏حَاشِيَتُهَا ‏أَتَدْرُونَ مَا ‏الْبُرْدَةُ ‏قَالُوا ‏الشَّمْلَةُ ‏قَالَ نَعَمْ ‏قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ ‏سَهْلٌ ‏فَكَانَتْ كَفَنَهُ[310].

وفي هذا الحديث دليل واضح وإشارة ظاهرة على كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده، فرغم حاجته الشديدة لهذه البردة إلا إنه لم يرد الصحابي الذي طلبها، وهذه الدرجة من الجود والكرم لا تكون إلا لأكرم المصطفين الأخيار محمد صلى الله عليه وسلم.

3- شجاعته صلى الله عليه وسلم:

من روؤس الأخلاق التي اتسم بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، شجاعته وجوده بنفسه، ومن قصص شجاعته ما رواه مسلم عن أنس بنِ مالك رضى الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ[311] فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا[312] أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ[313].

وفي هذه القصة بيان عملي لشجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه وهو قائد المسلمين وسيد المدينة نجده أسرع الناس إلى تبين الأمر برغم ما في ذلك من خطر بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج قبل الناس كلهم، وكشف الحال ، ورجع قبل وصول الناس، وهذا أمر لا يكون إلا لمن استجمع من الشجاعة أطرافها.

وروى عن عليٍّ رضى الله عنه قال : كنا إذا احمَرَّ البأسُ[314] ولقي القوم، اتَّقَيْنا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منه[315].

وقال علي رضى الله عنه أيضًا: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا[316].

وجاء رجلٌ إلى البراء، فقال: أكنتُم وَلَّيْتُم يومَ حُنين يا أبا عمارة؟ فقال : أشهدُ على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولّى، ولكنه انطلقَ أخفاء من الناسِ وحَسَرَ إلى هذا الحي من هوازن، وهم قومٌ رماةٌ، فرمَوْهم برشقٍ من نَبْلٍ، كأنها رجل من جراد، فانكَشَفوا، فأقبلَ القومُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ يقودُ به بغلتَه، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:

أنا النبيُّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبدِ المطَّلِبْ

اللهم نَزِّلْ نصرَك.

قال البراء: كنا والله إذا احمرَّ البأسُ، نَتَّقِي به، وإن الشجاعَ منا للَّذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم"[317].

4- حيائه صلى الله عليه وسلم:

ومن روؤس الأخلاق التي اتصف بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ودعا المسلمين إلى الالتزام بها، خلق الحياء، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ[318].

وقد حاز منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية العليا روى البخاري في صحيحه عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ [319].

غير أن حيائه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه من قول الحق والغضب له إلا إنه لم يكن يواجه أحدًا بما يكره، لهذا وصفه الصحابة بأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا كره شيئًا عُرف في وجهه إشارة إلى أنه لم يكن يواجه أحدا بما يكرهه بل يتغير وجهه فيفهم أصحابه كراهيته لذلك.

ومما يذكر في ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْمَحِيضِ قَالَ خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْيَا فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ أَوْ قَالَ تَوَضَّئِي بِهَا فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[320].

وفي هذا الحديث دليل بين على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظيم حلمه وحيائه.

5- زهده صلى الله عليه وسلم:

ومن عظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم التي تؤكد نبوته وبعثته للبشر أجمعين، زهده في هذه الدنيا مثله في ذلك مثل كافة الأنبياء الذين سبقوه، فلم تتشوف نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا يومًا من الأيام بل كان دعاؤه صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[321].

وبلغ من زهده صلى الله عليه وسلم أنه كانت تمر عليه وعلى أهل بيته الهلالين والثلاثة ولا يوقد في بيوته صلى الله عليه وسلم نارًا أي أنهم لم يكونوا يطبخون اللحم لشهرين متواصلين، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لعروة بن الزبير: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ قَالَ قُلْتُ يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ[322].

بل إن الخبز نفسه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشبع منه، روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ[323] فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ[324].

وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت : ما شبِعَ آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم منذُ قدِمَ المدينةَ من طعامِ البرِّ ثلاثَ ليالٍ تباعاً حتى قُبِضَ [325].

وعن عمروِ بنِ الحارثِ ختنِ[326] رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخي جويريةَ بنتِ الحارثِ قال: ما تركَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عندَ موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئاً ، إلا بغلتَه البيضاءَ وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة[327].

وروى مسلم عن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ[328] مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ[329].

وكان يبلغ به صلى الله عليه وسلم الجوع أنه يخرج في الليل يبحث عن طعام من شدة الجوع، روى مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: "ما أخرَجَكما من بيوتِكما هذه الساعة "؟ قالا : الجوعُ يا رسولَ الله، قال : "وأنا والذي نفسي بيده لأَخْرَجَني الذي أخرَجَكُما"، قوموا، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصارِ، فإذا هو ليسَ في بيته، فلما رأتْه المرأةُ، قالت: مرحباً وأهلاً فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أين فلانٌ"، قالت: ذهبَ يَسْتَعْذِبُ[330] لنا من الماءِ، إذ جاءَ الأنصاريُّ فنَظَرَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصاحِبَيهِ، ثم قال: الحمدُ لله، ما أحدٌ اليومَ أكرمَ أضيافاً مني، قال: فانطَلَقَ فجاءهم بعذقٍ فيه بُسرٌ وتمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المديةَ[331]، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والحلوبَ" فذَبَحَ لهم، فأكلوا من الشاةِ، ومن ذلك العذقِ وشرِبوا، فلما أن شبِعوا ورَوُوا، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتُسأَلُنَّ عن هذا النعيمِ يومَ القيامةِ، أخرجكم من بيوتِكم الجوعُ ثم لم ترجعوا، حتى أصابكم هذا النعيمُ"[332].

وفي هذا الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه - رضي الله عنهم - من التقلل من الدنيا، وما ابتلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات.

وكان زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الآخرة الباقية ونفورًا من الدنيا الفانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في اليسار والقلة حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فتارة يوسر، وتارة ينفد ما عنده لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر، وإيثار المحتاجين، وضيافة الطارقين، وتجهيز السرايا، وغير ذلك، وهكذا كان خلق صاحبيه - رضي الله عنهما - بل أكثر أصحابه.

وروى البخاري في صحيحه عن عقبةَ قال: صلَّيتُ وراءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ العصرَ فسلَّمَ، ثم قام مسرعاً، فتخطّى رقابَ الناسِ إلى بعضِ حُجَرِ نسائِه، ففزِع الناسُ من سُرْعَتِه، فخرَج عليهم فرأى أنهم عجِبوا من سرعته فقال:"ذكرتُ شيئاً من تِبْرٍ[333] عندَنا، فكرِهْتُ أن يحبِسَني[334]، فأَمَرْتُ بقِسْمَته"[335].

6- تواضعه صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم القمة في التواضع فكان يرقّع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ورغم انشغاله كان يجيب دعوة الجارية الصغيرة ويسير معها في طرقات المدينة لا يتحرج من ذلك، يقول أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ[336].

وهذا الحديث يدل على عظم تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو تواضع لم يسبق إليه أحد، فالتي ينقاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة من أي إماء المدينة لا يهم نسبها أو مكانتها، وتذهب به صلى الله عليه وسلم إلى المكان التي تريد؛ يقول الحافظ ابن حجر: (والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم".

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضى الله عنه قال: "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى"[337].

ونرى كيف أنه لم يكن من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء.

وعن أنس رضى الله عنه أن ناساً قالوا: يا رسولَ الله، يا خيرَنا وابنَ خيرِنا، وسيدَنا وابنَ سيدنا، فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يسْتَهْوِيَنَّكم الشيطانُ، أنا محمدٌ عبدُ الله ورسوله ما أحبُّ أن ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلني الله عزوجل"[338].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية، فاستسقى، فقال العباس: يا فضلُ اذهب إلى أمك فأْتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشرابٍ من عندِها، فقال: "اسقني"، قال: يا رسولَ الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال:"اسقني"، فشرِبَ منه، ثم أتى زمزمَ وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: "اعملوا فإنكم على عملٍ صالح"، ثم قال : "لولا أن تُغلَبوا لنزلت حتى أضع الحبلَ على هذه - يعني عاتقِه - وأشار إلى عاتقه"[339].

وعن أسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ركِبَ على حمارٍ على إكافٍ عليه قطيفة، وأردفَ أسامةَ وراءه[340].

فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يمنعه عظيم مقامه وكبير عمره من أن يركب الحمار بل ويركب معه شابًا صغيرًا في السن هو أسامة بن زيد رضى الله عنه، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف من التعامل مع المصابين في عقولهم، روى مسلم عن أنس رضى الله عنه أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا[341].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ[342]، وقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم المبالغة في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ[343].

7- رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم:

الرفق هو: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف، ولقد وصف الله عزوجل نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].

يقول الشيخ السعدي في تفسيره: (أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.

{ولو كنت فظا} أي: سيئ الخلق {غليظ القلب} أي: قاسيه، {لانفضوا من حولك} لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.

فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!.

أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله.

ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان"[344].

وقد سارت الركبان بأخبار رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم، يحكى معاوية بن الحكم فيقول: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي[345] وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي قَالَ إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[346].

ومن أعجب المواقف الدالة على عظيم ما حبا اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بالرفق واللين ما رواه مسلم عن أنس بن مالك رضى الله عنه: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُزْرِمُوهُ[347] دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ[348] عَلَيْهِ[349].

وعن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: "ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينَ أمرَيْنِ إلا أَخَذَ أيسَرَهما مالم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعدَ الناسِ منه، وما انتَقَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تُنْتَهَكُ حرمةُ الله فينتقمُ لله بها "[350].

وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الغضب ممن يطيلون في الصلاة وخلفهم الضعيف والكبير، عن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: قال رجل: يا رسولَ الله، لا أكادُ أدركُ الصلاةَ مما يطول بنا فلان، فما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في موعظةٍ أشدَّ غضباً من يومئذ، فقال: "يا أيها الناس إنكم مُنَفِّرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريضَ، والضعيفَ، وذا الحاجة"[351].

بل إن أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم نالهم من رفقه الشيئ الكثير فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ[352].

وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا[353].

8- مزاحه صلى الله عليه وسلم وتبسمه:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح مع الآخرين فلم تكن تفارق البسمة وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، روى الترمذي عن عبد الله بن الحارث رضى الله عنه قال: ما رأيتُ أحداً أكثرَ تبسُّماً من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم[354].

وروى البخاري عن جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ[355].

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا قَالَ إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا[356].

وروى أبو داود عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ[357].

قال صاحب عون المعبود: "( قال وما أصنع بولد الناقة ) : لما كان المتعارف عند العامة في بادي الرأي استعمال ولد الناقة فيما كان صغيرا لا يصلح للركوب وإنما يقال للصالح الإبل توحش الرجل على فهم المعنى .. والمعنى إنك لو تدبرت لم تقل ذلك ففيه الإشارة إلى أنه ينبغي لمن سمع قولا أن يتأمله ولا يبادر إلى رده، وفي هذا الحديث إباحة المزاح والدعابة، وكان صلى الله عليه وسلم يداعب الصحابة ولا يقول إلا حقا".

9- وفاؤه صلى الله عليه وسلم:

أما وفاؤه صلى الله عليه وسلم فقد كثرت الأخبار في هذا الأمر منذ ولادته وحتى وفاته، روى أبو داود عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ فَنَسِيتُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ فَقَالَ يَا فَتًى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ[358]، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى المكان المتفق عليه في الموعد ثلاث مرات متوالية حتى يأتيه الرجل وما ذلك إلا لصدق وعده وحسن وفائه صلى الله عليه وسلم لا لقبض ثمنه، وإذا كان ذلك حاله قبل البعثة فإن حاله بعد الإسلام أعظم وأكبر كيف لا وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يف بوعده من المتلبسين بعلامات النفاق، روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ[359].

ومن وفائه صلى الله عليه وسلم وفاؤه لزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تقول أمُ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ [360].

أما وفاؤه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه فكان ذلك من عظيم أخلاقه رغم ما واجهه من اضطهاد وتعذيب، ولقد رأينا كيف أن هرقل عظيم الروم سأل أبا سفيان بن حرب ولم يكن أسلم يؤمئذ سأله إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدر فكانت إجابة أبي سفيان الصريحة: لا.

وهذا صحابي يتخلف عن غزوة بدر لا لشيء إلا وفاءًا بالعهد، يقول حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: (انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ)[361].

ولقد شهد له الأعداء بوفائه ومن ذلك أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه إلى العمرة بعد صلح الحديبية مع قريش، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون معه يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد بها نفرا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا، فأخبروهم بالذي رأوا من السلاح والخيل، ففزعت قريش وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا وهدنتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج[362] حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش، حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، والهدي والسلاح قد تلاحقوا فقالوا: يا محمد، ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب[363] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أدخل عليهم السلاح»، فقال مكرز:هذا الذي يعرف به البر والوفاء، ثم رجع سريعا بأصحابه إلى مكة[364].

10- رحمته صلى الله عليه وسلم:

وصف الله عزوجل نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107]، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: تمت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل.

فالله عزوجل أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله.

ولقد تمثلت رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكامه وهديه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ [365] .

ومن صور رحمته العحيبة ما رواه البخاري عن أَبِي قَتَادَةَ الأنصاري رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ[366].

ولم يحرم رسولُ الله المشركين من رحمته، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً[367] .

ولم تقتصر رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على البشر فقط بل تعدت إلى الحيوانات، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً[368] مَعَهَا فَرْخَانِ[369] فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ[370] فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ قُلْنَا نَحْنُ قَالَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ[371].

وكانت الحيوانات تعرف رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته فتلجأ إليه وتشكو له ظلم أصحابها يقول عبد الله بن جعفر: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفًا[372] أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ قَالَ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ[373] وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ[374] فَسَكَتَ فَقَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ[375]" [376].

ونكتفي بهذا الأمثلة على رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفيه أنه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.

11- حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عن من أساء له:

ومن الأخلاق التي كانت سببًا في إسلام حبر يهودي، حلمه صلى الله عليه وسلم، وعفوه عن من أساء له، روى الطبراني عن عَبْدِ اللَّهِ بن سَلامٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بن سَعْنَةَ، قَالَ زَيْدُ بن سَعْنَةَ: مَا مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ، يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَلا تَزِيدُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا، فَكُنْتُ أَلْطُفُ لَهُ لأَنْ أُخَالِطَهُ، فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ مِنْ جَهْلِهِ.

قَالَ زَيْدُ بن سَعْنَةَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا مِنَ الْحُجُرَاتِ وَمَعَهُ عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بُصْرَى قَرْيَةَ بني فُلانٍ قَدْ أَسْلَمُوا، وَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، وَكُنْتُ حَدَّثَتْهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا، وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ[377] وَشِدَّةٌ وقُحُوطٌ مِنَ الْغَيْثِ، فَأَنَا أَخْشَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الإِسْلامِ طَمَعًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ تُعِينُهُمْ بِهِ فَعَلْتَ، فَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ أُرَاهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَالَ زَيْدُ بن سَعْنَةَ: فَدَنَوْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِي تَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ حَائِطِ[378] بني فُلانٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ : لا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أَبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلا تُسَمِّي حَائِطَ بني فُلانٍ، قُلْتُ : بَلَى، فَبَايَعَنِي فَأَطْلَقْتُ هِمْيَانِي، فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالا مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، فَأَعْطَاهَا الرَّجُلَ، فَقَالَ : اغْدُ عَلَيْهِمْ فَأَعِنْهُمْ بِهَا.

فَقَالَ زَيْدُ بن سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثٍ، أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلا تَقْضِيَنِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمَطْلٌ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عَلِمٌ، وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كالْفَلَكِ الْمُسْتَدِير، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعُ بِهِ مَا أَرَى، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وتُؤَدَةٍ، ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ وأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رَوَّعْتَهُ.

قَالَ زَيْدٌ : فَذَهَبَ بِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَعْطَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ : مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ ؟ فَقَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رَوَّعْتُكَ، قُلْتُ : وتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ ؟، قَالَ : لا ، مَنْ أَنْتَ ؟، قُلْتُ : أَنَا زَيْدُ بن سَعْنَةَ، قَالَ : الْحَبْرُ، قُلْتُ : الْحَبْرُ ، قَالَ : فَمَا دَعَاكَ أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فَعَلْتَ وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟.

قُلْتُ : يَا عُمَرُ، لَمْ تَكُنْ مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ، يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيدُهُ الْجَهْلُ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا، فَقَدْ أُخْبِرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي وَإِنِّي أَكْثَرُهَا مَالا صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.

فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِنَّكَ لا تَسَعُهُمْ، قُلْتُ : أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَرَجَعَ عُمَرُ وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَبَايَعَهُ وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً[379].

ولعل في هذا الحديث غنية عن إيراد أمثلة أخرى عن حلم النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.

11- لطف معاملته وحسن معاشرته للآخرين صلى الله عليه وسلم:

ومن جماع محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم لطف معاملته وحسن عشرته للآخرين، وقد ورد في هذا آثار كثيرة وأخبار متفرقة تدل على طيب عشرته صلى الله عليه وسلم، روى الترمذي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ[380].

وعند أبي داود عن أَنَسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ[381] أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأَسَهُ وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ[382].

وأورد الترمذي في الشمائل المحمدية عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَى أَشَرِّ الْقَوْمِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ، فَكَانَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَيَّ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي خَيْرُ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا خَيْرٌ، أَوْ أبُو بَكْرٍ ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْر، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا خَيْرٌ أَمْ عُمَرُ ؟ فَقَالَ: عُمَرُ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا خَيْرٌ أَمْ عُثْمَانُ؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ، فَلَمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَدَقَنِي، فَلَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ[383].

ومن أجمع ما ورد في ذلك ما رواه البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا[384].

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (قوله :(فاحشا ولا متفحشا) أي ناطقا بالفحش، وهو الزيادة على الحد في الكلام السيئ، والمتفحش المتكلف لذلك أي لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا".

ومن عجيب الأخبار في ذلك ما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفا والله ما كان يمتنع في غداة[385] باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه، وما سأله سائل قط إلا أصغى[386] إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.

هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه برودة المياه من قبوله من صبي أو فتاة صغيرة في السن لا لشيء حتى يدخل السرورَ على قلوبهم ولا يواجههم بما يكرهون، وما كان صلى الله عليه وسلم ينزع يده من يد أحد أخذها، ونذكر فيما يأتي شيئ من التفصيل عن معاملته صلى الله عليه وسلم لنسائه وأولاده ولأطفال المسلمين.

معاملته صلى الله عليه وسلم لنسائه:

شهدت له زوجته عائشة رضى الله بسمو خلقه صلى الله عليه وسلم مع نسائه فقالت: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ[387].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بخدمة أهله رغم مشاغله ومهامه الجسام، روى البخاري عن الأسودِ قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ [388].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حاجات زوجاته النفسية فهذه عائشة زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكانت صغيرة في السن تحكي فتقول: دخلَ الحبشةُ المسجدَ يلعبونَ، فقال لي: "يا حميراء، أتحبينَ أن تنظري إليهم ؟" فقلت: نعم، فأسندْتُ وجهي على خَدِّه، قالت: ومِن قولهم يومئذٍ: أبا القاسمِ طيباً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " حسبُكِ " فقلت: يا رسولَ الله لا تعجلْ، فقام لي ثم قال: "حسبك"، فقلت: لا تعجلْ يا رسولَ الله، قالت: ومالي حبُّ النَّظَرِ إليهم، ولكني أحببتُ أن يبلغَ النساءَ مقامُه لي، ومكاني منه[389].

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأنف منهن وهن في حال الحيض بل كان يتحبب إليهن، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ[390].

وكان يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه، روى البخاري عن أنسٍ بنِ مالكٍ أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ[391].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبر على غضبهن وغيرتهن روى البخاري في صحيحه عن أنسٍ قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ "غَارَتْ أُمُّكُمْ" ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ [392].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاورهن في أمور الدين والدولة فقد ذكر البخاري في قصةِ صلح الحديبيةِ بعد أن فرغ المسلمون من كتابة الصلح قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا فانحروا ثم احلِقوا "، قال: فوالله ما قامَ منهم رجلٌ، حتى قال ذلكَ ثلاثَ مراتٍ فلما لم يقمْ منهم أحدٌ دخلَ على أم سلمةَ فذكر لها ما لَقِيَ من الناس، فقالت أمُّ سلمة: يا نبيَّ الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ، ثم لا تكلِّمْ أحداً منهم كلمةً حتى تنحَرَ بُدَنَك، وتدعو حالقَكَ فيحلقك فخرج فلم يكلِّمْ أحداً منهم حتى فعلَ ذلك؛ نَحَرَ بُدَنَه، ودعا حالقَه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضُهم يحلِقُ بعضاً، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضاً غما[393].

رسول الله صلى الله عليه وسلم أب:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجًا للأب المثالي الذي يحب أطفاله ويداعِبُهم ويمازِحُهم، ويهتم بتأديبِهم، ولا يفرق بين الذكر والأنثي، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟، فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالُوا لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ [394].

وعن أبي هريرةَ رضى الله عنه أن الأقرَعَ بنَ حابسٍ أبصَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ الحَسَنَ، فقال: إن لي عشرةً من الولَدِ ما قبِّلْتُ واحداً منهم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنه من لا يَرحَمُ لا يُرْحَمُ "[395].

وروى ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلَعُ لسانه للحسين، فيرى الصبي حمرةَ لسان، فيهش إليه، فقال له عيينة بن حصن بن بدر: ألا أرى تصنع هذا بهذا، والله ليكون لي الابن قد خرج وجهه وما قبلته قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لا يرحم لا يرحم »[396].

وروى البخاري عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا[397].

معاملته لأطفال المسلمين:

ومن حسن أخلاقه انبساطه صلى الله عليه وسلم، وملاعبته لأطفال المسلمين روى البخاري عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا[398] وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ نُغَرٌ[399] كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا[400].

وعن أمِّ خالدٍ بنتِ خالدٍ قالت: قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً لَهَا أَعْلَامٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الْأَعْلَامَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ سَنَاهْ سَنَاهْ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ [401].

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ [402].

وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأنف من اللعب معهم، يقول سلمة بنِ الأّكْوَعِ رضي الله عنه: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ[403] فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ قَالُوا كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ "[404].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف حقهم فلم يكن يهضمه حتى وإن كان هناك كبار، روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ يَا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ قَالَ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ [405].

هذه صورة مختصرة لأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمائله الكريمة، التي تكفي دليلاً على نبوته وبعثته، فإن الله عزوجل لم يكن ليصطفي من يحمل هذه الرسالة العظيمة إلا من كان في مثل هذه الأخلاق، وكان متصفًا بتلك الشمائل، فإن النبوة اصطفاء واختيار من الرب تبارك وتعالى.

التوازن النفسي والسلوكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وإضافة لما سبق ذكره من الأخلاق القويمة والشيم الكريمة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع بتوازن نفسي وسلوكي لا يتصف به إلا أنبياء الله ورسله الذين اصطفاهم الله عزوجل واختارهم لأعظم مهمة وأفضل دور.

عن أنسٍ رضى الله عنه قال : جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوتِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا : وأينَ نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفَرَ الله له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّرَ .

قال أحدُهم : أما أنا فأنا أصلّي الليلَ أبداً، وقال آخر : أنا أصومُ الدهرَ ولا أفطرُ ، وقال آخرُ : أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوجُ أبداً .

فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصومُ وأفطر ، وأصلي وأرقُد ، وأتزوَّجُ النساءَ ، فمن رغِبَ عن سنتي فليس مني"[406].

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما كان عليه من زهد في الحياة وإقبال على الأخرة، ورغم اجتهاده في عبادته لربه إلا إنه لم يعتزل الدنيا بل إنه نهى أصحابه عن فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عظيم عبادته وخشيته وزهده يسير أمر الأمة أعظم تسيير ويراعى حاجات بيته ويداعب أطفاله كما رأينا فيما ذكرناه من أخلاقه الكريمة وشيمه العظيمة وليس ذلك إلا لما تمتع به من توازن نفسي وسلوكي حباه به الله عزوجل.

2- البيئة التي نشأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

دار جزء من المحاورة بين هرقل وأبي سفيان، عن البيئة التي نشأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك للتأكد من أن إعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة ليس محل شبهة، فلم يكن في العرب من قبل نبي أو رسول كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن طالب ملك أو ساع لثأر، وهذا مما يؤكد بعثته صلى الله عليه وسلم.

إن من علامات النبوة أن تظهر في زمان في حاجة إلى نبي، وقد كان ذلك هو زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انحرفت الأرض وضلت عن سواء السبيل، خطب رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقَالَ: "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ"[407].

لقد كان العالم كله في هذا الوقت في حاجة شديدة إلى رسالة نبي الهدي والرحمة صلى الله عليه وسلم، حيث انتشر الظلم والفساد والانحراف في حياة الناس ولم يكن الخلاص إلا برسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.

ولقد ظهر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قبيلة ليسوا من أهل العلم ومن بلدة كانت الجهالة غالبة عليهم، ولم يتفق له الاتصال بعالم، فإذا نبت في هذه البيئة ثم بلغ في معرفة الله وصفاته وأفعاله وأحكامه هذا المبلغ العظيم وجاء بكتاب يحتوي على مختلف العلوم عجز جميع الأذكياء من العقلاء عن القرب منه، فإن ذلك يحمل كل ذي عقل سليم وطبع قويم على الاقرار بأن هذا العلم الفذ لا يتيسر لأحد من البشر إلا بتعليم إلهي خاص؛ وهذا ما قرره الله عزوجل في كتابه الكريم يقول تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [ هود : 49 ].

غير أنه قد ترد هنا شبهة يلقيها بعض أهل الكتاب بزعمهم أن النبوات ختمت بعيسي عليه السلام، وهذا الزعم الباطل نرد عليه من نصوص أهل الكتاب أنفسهم التي تؤكد أنهم كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء، فقد جاء في إنجيل يوحنا (1: 19-25) أن علماء اليهود سألوا يحيى عليه السلام: أأنت المسيح ؟ فقال لهم: لا، فسألوه: أأنت إيلياء ؟، فقال: لا، فسألوه : أأنت النبي ؟ أي النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فقال يحيي عليه السلام: لا".

فهؤلاء ثلاثة أنبياء كان ينتظرهم بنو إسرائيل الأول المسيح عليه السلام والثاني إيلياء عليه السلام والثالث النبي الذي أخبر عنه موسي عليه السلام، فمن يكون هذا النبي إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما أن عيسي عليه السلام قال كما روى عنه في إنجيل متي (15 : 24): "لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة"، فإذا كان عيسي عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل فحسب فماذا عن بقية العالم، كما أن عيسي عليه السلام أبلغ تلاميذه أنه لم يقل لهم كل ما يريده بل بقيت أمور يبلغها المعزي الذي يأتي بعده، جاء في إنجيل يوحنا (16 :12-13 ): "إن لي أمورًا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق".

فرسالة عيسي عليه السلام ورسالة الأنبياء قبله كانت في حاجة إلى من يكملها ويبلغها العالم كله، وقد كان ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك حذر المسيح عليه السلام من الكذابين الذين يأتون بعده، ولولا أنه يعلم أن هناك نبيًا خاتمًا سوف يأتي لأبلغ تلاميذه بأن خاتم الأنبياء وأنه لن يأتي أحد بعده بدلا من أن يطالبهم بالتمييز بين الكاذب والصادق.

ثانيًا: النظر في نصر الله أو خذلانه لمدعى الرسالة:

المحور الثاني الذي دارت حوله محاورة هرقل لأبي سفيان، تمثل في معرفة هل نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا، فإن كان قد نصره فهذا دليل على نبوته وبعثته، أم إذا كانت الإجابة لا، فإن الله عزوجل لا يؤيد أو ينصر الكذابين.

يقول هرقل: "وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.

وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.

وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.

وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ".

في ضوء هذه الأسئلة والأجوبة يدور ذلك المحور تأييد الله ونصره لأنبيائه، فإن من أبلغ أدلة صدق النبي صلى الله عليه وسلم إقرار الله لدعوته؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم لو تقوّل على ربه شيئا من الأقاويل لأهلكه، قال تعالي: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة :41-47]، وقال سبحانه: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) [طه:61]، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [يونس:69]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر: 3]، وما خاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا ضل بل هُدي وأفلح في كل المجالات، وصار دينه من أعظم الأديان في الأرض وأكثرها انتشارا.

الله عزوجل لا يؤيد الكذابين:

لقد دلّ القرآن الكريم واتفقت الكتب والشرائع على أنّ الله عزوجل لا يؤيّد الكذّاب عليه، بل لا بُدّ أن يظهر كذبه، وأن ينتقم منه، وعد الله عزوجل إدعاء النبوة والرسالة كذبًا من أعظم الافتراء عليه فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِليَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيء وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله) [الأنعام: 93].

وإن القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذبًا في نبوته لهو طعن في الرب تبارك وتعالى، ولقد استدل الإمام ابن القيم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله وتأييده له، يقول ابن القيم: وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام: أنتم بتكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم قد شتمتم الله أعظم شتيمة، فعجب من ذلك وقال: مثلك يقول هذا الكلام؟ فقلت له: اسمع الآن تقريره؛ إذا قلتم : إن محمدا ملك ظالم، وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا، وأُوحي إلي كذا؛ ولم يكن من ذلك شيء، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء، ومعاداة أممهم، ونسخ شرائعهم؛ فلا يخلو إما أن تقولوا: إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه، أو تقولوا: إنه خفي عنه ولم يعلم به.

فإن قلتم: لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل، وكان من عَلَم ذلك أعلم منه.

وإن قلتم: بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه، فلا يخلو إما أن يكون قادرا على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا، فإن لم يكن قادرا فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرا وهو مع ذلك يعزه وينصره، ويؤيده ويعليه ويعلى كلمته، ويجيب دعاءه، ويمكنه من أعدائه، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له، فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلا عن رب الأرض والسماء، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه، وهذه عندكم شهادة زور وكذب.

فلما سمع ذلك قال معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد.

قلت : فما لك لا تدخل في دينه ؟، قال : إنما بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه.

قلت له : غُلبت كل الغلب، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق، وإن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به، فأمسك ولم يحر جواباً"[408].

إن هذه المناظرة التي أجراها الإمام ابن القيم لهي دليل واضح على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله عزوجل لم يكن لينصره ويؤيده هذا التأييد إن لم يكن خاتم النبيين وسيد المرسلين، ونذكر هنا بعض صور نصر الله عزوجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

1- زيادة أتباعه وانتشار دينه صلى الله عليه وسلم:

من أكبر صور نصرة الله عزوجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أتباعه في زيادة مطردة مستمرة ودينه في انتشار وصعود دائم، قد مضى عليه أكثر من 14 قرنًا وهو في انتشار وتزايد حتى بلغ عدد أتباعه أكثر من 1.3 مليار مسلم ويوشك أن يصبح الإسلام في الأعوام القادمة هو الدين الأول في الأرض، فقد أظهرت إحصائية غربية عن معدل انتشار الأديان الثلاثة (اليهودية والنصرانية والإسلام) في العالم خلال الخمسين سنة الماضية النتائج التالية:

اليهودية: - 4%.

النصرانية : 57%.

الإسلام: 235%[409].

إن هذه النتائج لهي من علامات الصدق والحق فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه.

ولقد صح لدى النصارى أن المتنبىء الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة، يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه أن بعض ملوك النصارى رأى رجلا يسب النبي صلى الله عليه وسلم من رؤوس النصارى ويرميه بالكذب فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبىء الكذاب كم تبقى نبوته فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء إن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة لمدة قريبة إما ثلاثين سنة أو نحوها فقال لهم هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وهو ظاهر مقبول متبوع فكيف يكون هذا كذابا ثم ضرب عنق ذلك الرجل.

لقد دخل في الإسلام فئام من الناس في الماضي والحاضر، من بينهم ملوك وعلماء لا يشك أحد في عقولهم ورجاحته، وسوف نورد هنا بعض الأمثلة على ذلك من القديم والحديث:

إسلام النجاشي ملك الحبشة:

هذا أصحمة النجاشي كان ملكًا نصرانيًا على الحبشة، لجأ إليه المسلمون هربًا بدينهم من قريش فلما أطلع على دينهم وعرف الحق أمن به واتبعه، ولا يستطيع أحد أن يورد شبهة على إيمان النجاشي فيزعم مثلا أنه فعل ذلك رغبة في الدنيا، فلقد كان النجاشي ملكًا متوجًا والمسلمون كان ضعفاء مضطهدون فما منعه ذلك من الإيمان والتصديق، ولعل في القصة خير برهان على ذلك.

تقول أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ثم قدموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم.

قالت فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه، فقالا له أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي ثم قال لا ها الله ايم الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه، قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم.

قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء.

قالت فقال له جعفر نعم.

فقال له النجاشي فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من كهيعص، قالت فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد.

قالت أم سلمة فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص والله لأنبئنهم غدا عيبهم عندهم ثم أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، ثم غدا عليه الغد فقال له أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.

قالت فأرسل إليهم يسألهم عنه قالت ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه قالوا نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى بن مريم.

فقال له جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

قالت فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال.

فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - من سبكم غرم ثم من سبكم غرم فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة الجبل- ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.

قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار"[410].

تلك كانت قصة ملك عظيم في التاريخ القديم، أما الحاضر فإن قصص الذين آثروا الحياة الأخرة على الدنيا كثيرة، نورد منها قصتين فحسب:

البروفسور خالد ميلاسنتوس

(آرثر ميلاسنتوس) دكتوراه في اللاهوت، وكان الرجل الثالث في مجمع كنائس قارة آسية، في أثناء عمله بالتنصير عام 1983 قال لنفسه: أي ضير في قراءة القرآن من أجل الرد على المسلمين؟ فتوجه إلى أحد المسلمين سائلاً إياه أن يعيره كتاب المقدس، فوافق المسلم مشترطاً عليه أن يتوضأ قبل كل قراءة، ثم شرع آرثر يقرأ القرآن خفية، ولنستمع إليه يحدثنا عن تجربته الأولى مع القرآن: "عندما قرأت القرآن أول مرة، شعرت بصراع عنيف في أعماقي، فثمة صوت يناديني ويحثني على اعتناق هذا الدين، الذي يجعل علاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة، لا تحتاج إلى وساطات القسس، ولا تباع فيها صكوك الغفران !! وفي يوم توضأت، ثم أمسكت بالقرآن فقرأت: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ علَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } فأحسستُ بقشعريرة، ثم قرأت: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} فحلت السكينة في الروح الحيرى، وشعرت أني قد خُلقت من جديد".

في تلك الليلة لم يصبر آرثر حتى تطلع الشمس، بل اتجه حالاً إلى منزل صديقه المسلم ليسأله عن كيفية الدخول في الإسلام ، وبين حيرة الصديق ودهشته نطق آرثر بالشهادتين"[411].

الدكتور موريس بوكاي

طبيب فرنسي، رئيس قسم الجراحة في جامعة باريس ، اعتنق الإسلام عام1982م ، ويُعتبر كتابه (التوراة والقرآن والعلم) من أهم الكتب التي درست الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة ، وله كتاب (القرآن الكريم والعلم العصري) منحته الأكاديمية الفرنسية عام 1988م جائزة في التاريخ، يقول :"إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه نصوص القرآن لأول مرة هو ثراء الموضوعات العلمية المعالجة، وعلى حين نجد في التوراة الحالية أخطاء علمية ضخمة، لا نكتشف في القرآن أي خطأ، ولو كان قائل القرآن إنساناً فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنتمي إلى عصره، ليس هناك تفسير وضعيّ لمصدر القرآن"[412].

"لم أجد التوافق بين الدين والعلم إلا يوم شرعت في دراسة القرآن الكريم فالعلم والدين في الإسلام شقيقان توأمان لأن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يدعوان كل مسلم إلى طلب العلم، طبعاً إنما نجمت إنجازات الحضارة الإسلامية العظيمة عن امتثال الأوامر المفروضة على المسلمين منذ فجر الإسلام"[413].

هذان مثالان فقط نكتفي بهما لنثبت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء العقلاء والمفكرين والعلماء الذين يقرون كل يوم بصحة هذا الدين وفضل ذلك النبي لا يستطيع أحد أن يطعن في عقولهم ورجاحته.

2 - نصر الله رسوله على قومه:

ومن صور تأييد الله عزوجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن الله نصره على قومه، وأهلك الله المكذبين منهم، والأمئلة على ذلك كثيرة، نكتفي بإيراد مثالين منها:

1- الأسْدُ تنتصر لرسول الله (مصير عتبة بن أبي لهب):

كان "عتبة بن أبي لهب" من أشد المتطاولين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، بلغ من جرمه وعدوانه أن أمسك بتلابيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في وجهه الشريف، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلط عليه الله كلبًا من كلابه.

ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره[414] أن ابن عساكر أورد في "تاريخ دمشق" في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" من طريقه عن هَبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه، سبحانه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك"، ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر له ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" قال: يا بني، والله ما آمنُ عليك دُعاءه.

فسرنا حتى نزلنا الشراة، وهي مأْسَدَة، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً، والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.

2- الكلاب تثأر لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

ومن الوقائع العجيبة في انتقام الله عزوجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"؛ حيث ذكر الحافظ ابن حجر ".. أن بعض أمراء المغل[415] تنصر فحضر عنده جماعة من كبار النصارى والمغل فجعل واحد منهم ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم وهناك كلب صيد مربوط فلما أكثر من ذلك وثب عليه الكلب فخمشه[416] فخلصوه منه.

وقال بعض من حضر: هذا بكلامك في محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال كلا بل هذا الكلب عزيز النفس رآني أشير بيدي فظن أني أريد أن أضربه، ثم عاد إلى ما كان فيه فأطال فوثب الكلب مرة أخرى فقبض على زردمته[417] فقلعها فمات من حينه فأسلم بسبب ذلك نحو أربعين ألفا من المغل"[418].

اكتفينا بهذين المثالين ومن راجع كتب التاريخ والسير لرأى كيف أن الله عزوجل نصر نبيه وهزم أعدائه على مر الدهور والعصور وفي مختلف الأماكن والأنحاء، وهي وقائع كثيرة تؤكد أن الله نصر نبيه وأيده بسلطانه ولا يكون ذلك إلا إقرار من الله عزوجل للنبي بأنه رسوله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

ثالثًا: النظر في منهج ومبادئ هذه الرسالة:

المحور الثالث الذي دار عليه بحث هرقل عن حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النظر في الرسالة التي جاء بها ومقارنتها بما يعرف من رسالات الأنبياء والرسل السابقين.

يقول هرقل:"وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ".

إن النبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، ولقد اتفقت الشرائع السماوية جميعها على الدعوة إلى الخير والصلاح، فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل وأمر بالشرك وعبادة الأوثان وإباحة الفواحش والظلم والكذب ولم يأمر بعبادة الله ولا بالإيمان باليوم الآخر، فهل مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو يشك في كذبه أنه نبي ولو قدر أنه أتى بما يظن أنه معجزة لعلم أنه من جنس المخاريق أو الفتن والمحنة.

ولقد استدل النجاشي، كما رأينا، على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع القرآن الكريم وقارنه بما يعرفه من علوم الأنبياء السابقين حتى قال: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة"، لذلك فإن الكذاب الفاجر لا يتصور أن يكون في أخباره وأوامره موافقا للأنبياء بل لا بد أن يخالفهم في الأصول الكلية التي اتفق عليها الأنبياء كالتوحيد والنبوات والمعاد كما أن القاضي الجاهل أو الظالم لا بد أن يخالف سنة القضاة العالمين العادلين وكذلك المفتي الجاهل أو الكاذب والطبيب الكاذب أو الجاهل فإن كل هؤلاء لا بد أن يتبين كذبهم أو جهلهم بمخالفتهم لما مضت به سنة أهل العلم والصدق.

وإن كان قد يخالف بعضهم بعضا في أمور اجتهادية فإنه يعلم الفرق بين ذلك وبين المخالفة في الأصول الكلية التي لا يمكن مخالفتها.

إن القيم العظيمة والمبادئ السامية التي يدعو إليها الإسلام لهي دليل واضح بين على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل الحديث عن رسالة الإسلام ومميزاتها العظيمة، يحسن بنا أن نشير إلى حاجة البشرية الشديدة إلى الرسل ورسالاتهم، وقد أوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - حاجة العباد إلى بعثة المرسلين في مواضع شتى من كتبه، فمن ذلك قوله: "والرسالة ضرورية للعباد، لا بدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كلّ شيء، والرسالة روح العالم، ونوره، وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة. وكذلك العبد ما لم تُشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة، وهو من الأموات. قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)[الأنعام، 122]، فهذا وصف المؤمن، كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس. وأما الكافر فميّت القلب في الظلمات"[419].

وقال - رحمه الله - أيضاً: "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإنّ الإنسان مضطر إلى الشرع؛ فإنه بين حركتين؛ حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضرّه. والشرع هو النور الذي يُبيِّن ما ينفعه وما يضرّه، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً، وليس المراد بالشرع التمييز بين الضارّ والنافع بالحسّ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميّز بين الشعير والتراب. بل التمييز بين الأفعال التي تضرّ فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصديق والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه واحتساب الثواب عنده، وتصديقه، وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد. فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشرّ حالاً منها. فمن قبل رسالة الله واستقام عليها، فهو من خير البرية، ومن ردَّها وخرج عنها فهو من شرّ البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"[420].

فحاجة الناس إلى الرسل لا تماثلها حاجة، واضطرارهم إلى بعثتهم لا تفوقها ضرورة، فهم في أشدّ حاجة، وأعظم ضرورة.

وهذا ما وضّحه شيخ الإسلام - رحمه الله - بقوله: "وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشدّ حاجة من كلّ ما يقدّر ويخطر بالبال. فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده"[421].

إن اضطرار العباد إلى المرسلين لا يُعادله اضطرار، وحاجتهم إلى المبشرين والمنذرين لا تماثلها حاجة، وفيما نقلناه من أقوال بيان كاف شاف لمن ألقي السمع وهو شهيد، أما الإسلام فهو خاتمة الرسالات وجاء بالسعادة والصلاح للبشرية في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنعرضه في الصفحات القادمة.

مزايا الرسالة المحمدية:

تميزت الشريعة المحمدية بعدة مزايا عن بقية الرسالات التي سبقتها، ولا عجب في ذلك فهي الرسالة الخاتمة والتي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة؛ ومن هذه المزايا:

الأولى: شمول التشريع الإسلامي لجميع شئون الحياة وإحاطته بها:

لقد أنزل الله سبحانه هذه الشَريعة وجعلها منهاجاً لهذه الأمة وطريقاً تسلكها في جميع شئونها، فهذه الشريعة شاملة لجميع شئون الحياة ومرافقها، فانتظمتها جميعاً بأحكامها العادلة وتوجيهاتها الحكيمة.

وعندما ننظر في أحكام الشريعة وموقفها من شئون الناس وأحوالهم نجدها على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: من شئون الناس والحياة، أمرت به الشريعة ودعت إليه، وقد يكون هذا الأمر على وجه الإلزام أو على غير وجه الإلزام.

النوع الثاني: من شئون الناس والحياة نهي عنه الشارع وحذر منه، وقد يكون، هذا النهي كذلك على وجه الإلزام أو على غير وجه الإلزام.

النوع الثالث: ما سكت عنه الشارع، وهذا السكوت ليس عن غفلة ولا نسيان، وإنما بقصد التخفيف، وهو ما يدخل في دائرة المباح وتحكمه ضوابط تحقيق المصلحة ورعاية حاجات البشر وعدم الإتيان بمخالفة لضوابط الإسلام وثوابته.

ولقد دل النقل الصريح والعقل الصحيح على عموم الشريعة الإسلامية وشمولها لجميع شئون الحياة:

الدليل الأول: النص من الكتاب والسنة وواقع الأمة الإسلامية خاصة في عصر النبوة والخلافة الراشدة، يقول الله عزوجل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال ابن مسعود- رضي الله عنه- قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء، وقال مجاهد- رحمه الله - كل حلال وكل حرام وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم"[422].

والآيات الواردة في هذا الصدد كثيرة، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على شمولية الرسالة الخاتمة، فهذا يهودي يقول لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، فأجابه سلمان قائلاً: أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ"[423].

وقال حذيفة - رضي الله عنه-: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ[424].

ومن نظر إلى واقع الأمة الإسلامية في العهد النبوي لرأى كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رعى جميع أحوال المسلمين، وتولى جميع شئونهم الدينية والدنيوية فأفتي وقضي في الحقوق والحدود، وقاد الجيوش وقسم الغنائم وأم المسلمين في الجمع والجماعات، وكاتب الملوك ودعاهم إلى الإسلام، وتفقد أحوال المسلمين في تعاملهم بالبيوع والإجارات وأنواع المزارعة وفي النكاح والطلاق والرجعة وفي الاستطباب وتجهيز الأموات وقسمة المواريث فلا يمكن أن يتم أمر في المدينة من أحوال الناس وشئونهم إلا وله عليه الصلاة والسلام حكمة في ذلك من إقرار أو إنكار، وفي عهد الخلفاء الراشدين- رضى الله عنهم وعن الصحابة أجمعين- فكذلك، ما كان يبت في أمر من الأمور الدقيقة أو الجليلة إلا بالرجوع إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالاجتهاد وفق أصول الشرع وقواعده.

فمسألة شمول الإسلام وإحاطته بجميع شئون المسلمين كما أمر الله كانت واضحة تماما في هذا العصر الزاهر الذي يعتبر امتداداً لعصر النبوة ولا زال الأمر كذلك في العصور الإسلامية التالية، مع شيء من الضعف الذي أصبح شديداً في القرون المتأخرة، حيث غلبت العادات القبلية والتقاليد الواردة من الأمم الأخرى على الأحكام الشرعية.

الدليل الثاني: إقرار العقل الصحيح بشمولية رسالة الإسلام، فإن العقل والاستنتاج لا يتصور أن الله سبحانه يترك خلقه مهملين دون ما رعاية ترعاهم وعناية تحوطهم في كل ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، لأن هذا لو حصل لاعتبر تقصيرا وتفريطا لا يليق بالله سبحانه وحاشاه من ذلك، فكيف وإذا كانت هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع بنبيها وكتابها.

لذلك فإن التشريع الإسلامي يشمل أحوال الناس وينظمها في كل الأحوال ينظم أحوال الفرد والأسرة، وينظم شئون الدولة في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، يحدد السياسة الداخلية والخارجية وصلة الدولة بالأعداء والأصدقاء في حالة السلم والحرب، ويحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين العامل ورب العمل وبين الابن وأبويه والزوج وزوجه.

الثانية: العدل:

ومن أعظم مزايا الشريعة الإسلامية، تميزها بالعدل في المبادئ وعند التطبيق، وصور العدل في التشريع الإسلامي كثيرة متعددة، يدركها من يمعن النظر في أحكامه ويتدبرها بتجرد وإخلاص، فأحكام الأسرة وحقوق الأفراد وواجباتهم في الأسرة لا تماثلها أحكام مما تواضع عليه البشر واعتادوه، فالأب له حقوقه وعليه التزاماته، والأم كذلك، والأبناء المكلفون كذلك، ونجد هذه القاعدة الفريدة في التعامل بين الزوجين المتمثلة في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة) [البقرة: 299].

وتتدرج صور العدل في أحكام الشريعة حتى تعم الفئات كلها والحياة جميعها بل إن أعداء الإسلام ينالون نصيبًا كبيرًا من هذا العدل، يقول الله تبارك وتعالى: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].

أما عند التطبيق، فقد طالب الإسلام المسلمين والعلماء منهم خاصة وولاة الأمر بتحري العدل في تطبيق الأحكام، أو عند استنباطها، فوضع قوالب عامة ومعايير دقيقة ومقاييس عادلة لاستنباط الأحكام، فالأحكام الاجتهادية ليست عشوائية في استنباطها ولا ارتجالية في وضعها، ولكنها محكومة بقواعد وأصول فلابد أن تكون منسجمة مع الأصول العامة للشريعة، والقواعد الأساسية، والغايات والأهداف الكبرى، ويمكن الرجوع إلى هذا الموضوع في كتب أصول الفقه.

وفي مجال التطبيق كذلك فقد حث الله سبحانه المسلمين عامة وولاة الأمر بصفة خاصة على العدل، وحث على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".[425]

الثالثة: المصلحة:

ومن أهم معالم الشريعة الإسلامية تميزها بحرصها على كل ما فيه مصلحة للبشر، حتى صار ذلك من قواعد الدين وأصول الفتيا؛ يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "والشريعة ما وُضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم"، ويقول الإمام ابن القيم الجوزية: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها".

أما في التطبيق فإن وقائع المسلمين وفتاوى علمائهم في القديم والحديث حاوية بأمثلة كثيرة على ذلك، غير أن المصلحة ليست أمرًا عامًا يسوغ العمل به دون ضوابط، لأن ذلك يؤدي إلى الإخلال بالأحكام التشريعية، وقد وضع الفقهاء شروطاً يجب إستيفاؤها قبل الإذن بالعمل بالمصلحة، وهي :

1 - أن تكون منسجمة مع مقاصد الشرع ، غير معارضة لنص قطعي ولا لأصل من الأصول .

2 - أن يرفع بها مشقة واقعة أو حرجاً لازماً.

3- أن تكون عامة للأمة وليست خاصة لأفراد معدودين.

4- أن لا تتعارض مع مصلحة أكبر أو تتسبب في مفسدة أخطر.

وبهذه الضوابط وبهذا الحرص على صالح الناس، تنسجم الشريعة الإسلامية مع أحوال الناس في كل مكان وزمان.

الرابعة: اليسر:

من مزايا التشريع الإسلامي الاتجاه إلى التيسير على الناس وعدم إيقاعهم في الحرج والضيق والمشقة وهذا واضح من الآيات والأحاديث الكثيرة يقول جل ذكره: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، ويقول سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم)[النساء: 28].

أما هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك فتقول السيدة عائشة رضى الله عنها: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".

وهذا واضح في العبادات من صلاة وصوم وحج، وكذلك في المعاملات فإنها مبنية على التيسير على الناس وعدم إيقاعهم في المشقة والحرج، أما فيما يتصل بحقوق الناس إن كانت في الأموال أو الدماء أو الأعراض، فهذه ينبغي أن يمكن صاحب الحق من حقه، ولكن برفق، لذلك فإن أي نظام يسن ينبغي أن يراعى فيه التيسير والرفق بمن وضع لهم والرحمة بهم.

الخامسة: الحكمة:

والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه المناسب، ونلاحظ الحكمة في التشريع الإسلامي في عدة مواضع, فمنها فيما يختص بالإرث وتقسيمه بنسب معينة, نلاحظ أنها في منتهى الحكمة, فعندما نقارن بين أنصبة البنين والبنات والأخوة والأخوات والأبوين والزوجين, نجدها تتناسب مع مسئولياتهم ومع واجباتهم وصلتهم بالميت, وعندما نلاحظ العقوبات وتفاوتها من حد إلى حد ومن جناية إلى جناية نجد التناسب التام والانسجام الدقيق العقوبة والجريمة, وكذلك نجد الحكمة في تفاوت أنصبة الزكاة ومقاديرها من مال إلى مال, كذلك العبادات فأحكامها في غاية الحكمة, وهذا شأن التشريع الإسلامي وصفته المميزة له الحكمة, فهو من لدن عليهم حكيم.

السادسة: العناية بالدنيا والآخرة:

من المميزات الرئيسية للتشريع الإسلامي بصفة عامة، أنه شامل للدنيا والآخرة، علاج للظاهر والباطن، فهو لا يكتفي بعلاج الظاهر دون الباطن، ولا يكتفي بالحديث عن الدنيا دون الحديث عن الآخرة.

ولذلك فإن النظم الإسلامية كلها يجب أن تكون مبنية على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر وبالبعث بعد الموت والمجازات بالعمل إن خيراً فخيرا وإن شراً فشراً، ولاشك أن النظم التي ترتكز على هذه القواعد العظيمة، وتعتبر مستمدة من المنهج الإلهي لا شك أنه سوف يكون لها قدسية في نفوس الناس وأثر كبير وهيبة عظيمة، وإن المسلم الذي يعتقد أنه أن أفلت في الدنيا من قبضة الحاكم فلن يفلح في الآخرة من قبضة الله سبحانه وأنه له بالمرصاد، وأن أعماله وحركاته وسائر تصرفاته مرصودة وأن أنفاسه محسوبة معدودة.

وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي لا ترتكز على دعائم من الإيمان في جوهرها، ولا تراعي أحاسيس الإنسان ومشاعره في أسلوبها، فهي مجرد أوامر ونواه جافة، تكتفي بعلاج الظاهر والحديث عن الدنيا على ضعف في العلاج وقصور في الحديث وركاكة في الأسلوب.

السابعة: العصمة والصدق:

ومن أعظم مزايا الشريعة الإسلامية أنها معصوما عن الخطأ، معصوما عن التحريف والتبديل والتغيير، وذلك لأنها من عند الله تبارك وتعالى خالق الإنسان والخبير بما ينفعه ويضره، كما أن الله عزوجل تعهد بحفظ كتابه وحفظ شريعته من أي تحريف أو تزييف أو انحراف؛ يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله-: إن هذه الشريعة معصومة كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة ثم دلل على ذلك بأمرين:

الأول:من القرآن الكريم حيث قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

والثاني: دليل الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن[426].

وكما تعتبر هذه الشريعة معصومة، فهي صادقة مصيبة يقول الله جل وعلا: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) [النساء: 87]، ويقول تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، ويصف الله القرآن فيقول: (َلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82].

هذه هي أهم مميزات الشريعة الإسلامية التي تجعلها بحق أفضل الشرائع والتي تلزم كل من أقر بها أن يؤمن ويعمل بها لا أن ينحرف ويضل عنها؛ غير أن البعض قد يتهم الشريعة الإسلامية بالقسوة وذلك بسبب الحدود والعقوبات المقدرة, ونرد على هذه الشبهة في النقاط التالية:

ماذا عن العقوبات والحدود؟:

يتهم غير المنصفين الإسلام بأن أحكامه قاسية ويدللون على ذلك بالحدود التي قررتها الشريعة الإسلامية لمرتكبي الجرائم المختلفة من السرقة والزنا والقتل، غير أن المتبصر والمتأمل في مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها لأدرك عظمة هذا الدين، فهو ليس الدين الفرد الواحد الذي يقدم شهواته ورغباته على صالح المجتمع والأمة، بل هو دين جماعي مجتمعي يحافظ على وحدة المجتمع وينفى عنه ما يضره، وبالتأكيد فإن مكونات هذا المجتمع هم الأفراد أنفسهم، وإنما نهت الشريعة الإسلامية عن الأشياء التي تعتبرها جرائم لا لشيء إلا لأن في ارتكابها أضراراً جسيمة تلحق بنظام المجتمع وعقائده أو بأمنه وكرامته أو بحياة أفراده وأموالهم وأعراضهم ومشاعرهم.

والحكمة من الحدود في الشرع الحنيف هي معالجة الأمراض الاجتماعية فإذا نظرنا إلى المجتمع كوحدة واحدة وجسم واحد، ونظرنا إلى الأفراد وهم يمثلون خلايا الجسم وأعضائه وأطرافه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقـد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.

ويحسن بنا أن ننقل مقارنة عقدها الأستاذ القانوني عبد القادر عودة رحمه الله في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي حيث قال: "فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام".

وإن كان الغرب قد ألغى عقوبة الإعدام في هذا العصر واتخذ بدلاً منها عقوبة الحبس والسجن، فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجـل ليس إلا قتلا بالتقسيـط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.

لقد لخص "عبد القادر عودة"رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط؛ فذكر منها:

أولا: إرهاق خزانـة الدولة وتعطيل الإنتاج: حيث تتحمل الدولة نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.

ثانيا: إفساد المسجونين: ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وبذلك أصبح السجن مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.

إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمـة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به.

ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: فوق أن عقوبة الحبس غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.

رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقـة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.

خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.

من خلال هذه النظرة السريعة يتضح لنا بجلاء أن العقوبات الإسلامية أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من عيوبه.

ضمانات تنفيذ الحدود الشرعية:

إضافة إلى هذه الفوائد التي ذكرناها، فإن الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية أُحيطت بضمانات كثيرة حتى تنحصر في أضيق دائرة ممكنة فالحدود تدرأ بالشبهات والإثبات فيها اقترن بضمانات قوية تمنع الكذب كما أن الإسلام في تطبيقه القضائي ما سوغ لأحد التتبع والتجسس على الناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12].

فلا تجسس ولا تتبع للعورات بل إنّ العقاب يكون حيث يتحقق الإثبات فهو مفسدة ودفعها مصلحة.

إن من ينظر إلى الحدود في جريمتي الزنا والسرقة، يلاحظ أنها لا تثبت إلا عن طريقين فقط.

الطريق الأولى : طريِقة الاعتراف الصحيح، الخالي من الموانع، الصادر من عاقل بالغ، وفى حالة معتبرة شرعاً، دون إكراه أو ضرورة، وأن يثبت على إقراره حتى يتم تنفيذ العقوبة فيه، وله الحق أن يرجع عن إقراره ولو بعد الشروع في معاقبته، فأي شدة أو قسوة في ذلك؟.

الطريقة الثانية : أن تثبت هذه الحدود عن طريق الشهادة، وإنها لطريق صعبة، ومسلك وعر، فقد وضعت شروط دقيقة عديدة، قل أن تتوفر، خاصة بالنسبة للزنا، فهناك شروط في الشاهد، وهناك شروط في الشهادة وشروط في الإحصان، وشروط في الزنا، ومن النادر جدا أن تتوفر هذه الشروط في قضية من القضايا.

ولعلنا قبل أن نترك تلك النقطة ننقل شهادة أوروبي عن نتائج وآثار العقوبات الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وآثار العقـوبات الوضعية في المجتمعات الأخرى، ينقل لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي انطباعات الأستاذ محمد أسد، وهو من النمسا عندما زار دمشق في أول القرن العشرين الميلادي، يوم كانت دمشق تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية، على ما كان فيها من تقصير وإهمال يقول: "وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، ثم يسترسل فيقول: وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعاملون بعضهم بعضا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة الذين كانوا يبدون وكأنـما ليس فيهم أيما قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب دكان فيهم ليترك دكانـه في عهدة جاره ومزاحمة، كل ما دعته حاجته إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونا يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه، يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع أو ينتقل إلى الدكان المجـاور، فيتقدم التاجر المجاور دائما "التاجر المزاحم "، ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة، لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب، ويـترك له الثمن على مقعـده، أين في أوروبا يستطيـع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة".

هذه هي الشريعة الإسلامية، وتلك مميزاتها وهذا رد على أهم الشبهات المحيطة بها، فأين المنصفون والعقلاء.

ثبوت نبوة خير الأنام بدليل الإلزام:

تعرضنا في المحاور السابقة إلى المنهج النظري العقلي الذي اتبعه هرقل للتأكد من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعرض الآن دليلا جدليًا لم يأتي في قصة هرقل إلا إنه من الدلائل الهامة التي تثبت نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو دليل الإلزام، وهو دليل جدلي يستخدم عند مجادلة أهل الكتاب أو مناظرتهم بشأن نبوة خير الأنام صلى الله عليه وسلم.

دليل الإلزام:

الغاية من هذا الدليل هو إقامة الحجة على من يقر بنبوة موسي وعيسي عليهما السلام وينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان لهؤلاء الأنبياء والرسل دلائل على نبوتهما وصدقهما، فإن دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأظهر.

فنسأل أهل الكتاب من اليهود: ما الذي جعلكم تؤمنون بموسي عليه السلام؟، عندها سوف تنحصر إجابتهم في الحديث عن دلائل نبوته عليه السلام من معجزات، وأخلاق، وتأييد الله له، ورسالته ومبادئها، أو غير ذلك من الأدلة.

وتكون إجابتنا عليهم عندها: إن كل ما ذكرتموه، فهو موجود في النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل أكثر من ذلك وأظهر وأوضح.

فمعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجاوزت ألفًا وهي ظاهرة وواضحة وأعظم من معجزات موسي عليه السلام، فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر وهي تفوق معجزة شق البحر لموسي عليه السلام، ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه وهي تفوق معجزة ضرب موسي الحجر بالعصا فنبعت منه أعين الماء، وهكذا فما من معجزة أجراها الله عزوجل على يد نبي من الأنبياء السابقين إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها وأكثر وأظهر، ويكفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزةً هذا القرآن الكريم المعجز في لغته وبلاغته، والمعجز في تشريعه، والمعجز بما كشفه من حقائق علمية لم تعرف إلا في العصور المتأخرة، والمعجز بما حواه من حقائق تاريخية وقصص الأمم السابقة ما لم يأتي في كتب السابقين مع تناسق وتماسك ووضوح وأسلوب أبلغ وأوضح من أسلوب الكتب السابقة.

أما أخلاقه صلى الله عليه وسلم فقد ذكرنا منها طائفة في هذه الرسالة ورأينا كيف أنه صلى الله عليه وسلم كان في قمة الأخلاق وتمتع بتوازن نفسي وسلوكي لا يكون إلا لمن أدبه ربه عزوجل فأحسن تأديبه صلى الله عليه وسلم.

أما دعوته ورسالته صلى الله عليه وسلم فهي أكمل الشرائع وأفضلها، وقد عرضنا مميزات الشريعة الإسلامية ورددنا على أهم شبهة يلقيها أعداء الإسلام.

لذلك فإن أهل الكتاب إذا أقروا بما سقناه لهم من أدلة وبراهين فلا يسعهم إلا أن يصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا بشرعته.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب النبوات: "ثم نبوة عين هذا النبيّ[427] تكون ظاهرة؛ لأنّ الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء، فمن أقرّ بجنس الأنبياء، كان إقراره بنبوة محمّد في غاية الظهور، أبين مما أقرّ أنّ في الدنيا نحاة، وأطباء، وفقهاء .. ولهذا كان من نازع من أهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به، وهو الغالب على عامتهم، أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم، والعرب عرفوا ما جاء به محمد. فلمّا أقرّوا بجنس الأنبياء، لم يبق عندهم في محمّد شكّ.

وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الأنبياء، يدلّ على نبوّة محمّد بطريق الأولى؛ إذ كانوا من جنس واحد، ونبوّته أكمل، فينبغي معرفة هذا، فإنّه أصل عظيم، ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به، فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية. فإنّهم لما عرفوا نبوته، وأنّه لا بُدّ من متابعته، أو متابعة اليهود والنصارى، عرفوا أنّ متابعته أولى".

وناقش شيخ الإسلام ابن تيمية أهل الكتاب الذين يؤمنون بنبوة موسي وعيسي عليهما السلام، وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإما أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك؛ فيقال لهم فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم لمحمد بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا صلى الله عليه وسلم في جميع ما يقوله أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر، وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها فإن الدلائل الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى .. فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام مع التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا أن يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم؛ فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه فإن من كان رسولا لله فإنه لا يكذب على الله ومحمد صلى الله عليه وسلم قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره".

وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين؛ فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح عليه السلام لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي المعصوم فهو باطل؛ وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو قد جمع في شريعته بين العدل والفضل"[428].

الخاتمة

ماذا بعد:

بعد ما أوردناه في هذا الكتاب من دلائل نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، نقول إن على كل من قرأ تلك الدلائل أو أطلع أن يعلم أن تلك الدلائل هي أدلة على صدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعظم ما صدق فيه محمد صلى الله عليه وسلم تبليغه بأنه نبي مرسل من الرب الرحيم للبشرية جمعاء.

فما سقناه في هذا الكتاب من أخبار وآثار ليس من أجل الإشادة بحسن أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، ولكن سقناها من أجل الإيمان بنبوته ورسالته وتصديقه فيما أبلغ عن ربه وطاعته فيما أمر.

ونود أن نشير هنا إلى أن الهدف من دراسة سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليس الإشادة بعبقريته ولكن للتدليل بعبقريته صلى الله عليه وسلم على نبوته، فما اصطفاه الله عزوجل إلا وهو يعلم أنه في الغاية العليا من حسن الأخلاق وعبقرية الأفعال، ويحسن الإشارة هنا إلى أمر قد يغفل بعض المسلمين عند سماعهم أقوال الغربيين بحق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم واعترافهم بشيمه وعظيم أخلاقه، فكثيرون من الغربيين يشيدون بتلك الأخلاق ويقفون عند هذا الأمر ولا يتجاوزونها إلى ما يجب بشأنه صلى الله عليه وسلم من التصديق برسالته والإيمان بنبوته، وقد أشار شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله إلى هذه النقطة في كتابه الماتع "الجواب الصحيح"، فقال: "فسواء قالوا هو ملك عادل أو هو عالم من العلماء أو هو رجل صالح من الصالحين أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين فمهما عظموه به ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة متى كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله إنه رسول الله وأنه بلغ هذا القرآن عن الله ومن كان كاذبا في قوله إنه رسول الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة البتة لكن له أسوة أمثاله .. فتبين أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله.

وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب وأكثرهم يعظمون محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا إليه من توحيد الله تعالى ولما نهى عنه من عبادة الأوثان ولما صدق التوراة والإنجيل والمرسلين قبله ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به ومحاسن الشريعة التي جاء بها وفضائل أمته التي آمنت به ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات البراهين والمعجزات والكرامات لكن يقولون مع ذلك إنه بعث غيرنا وإنه ملك عادل له سياسة عادلة وإنه مع ذلك حصل علوما من علوم أهل الكتاب وغيرهم ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه كما وضع أكابرهم لهم القوانين والنواميس التي بأيديهم.

ومهما قالوه من هذا فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله لأنه قد عرف بالنقل المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال إنه رسول الله إلى جميع الناس وأن الله أنزل عليه القرآن فإن كان صادقا في ذلك فمن كذبه في كلمة واحدة فقد كذب رسول الله ومن كذب رسول الله فهو كافر وإن لم يكن صادقا في ذلك لم يكن رسولا لله بل كان كاذبا ومن كان كاذبا على الله يقول الله أرسلني بذلك ولم يرسله به لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله"[429].

إذن فإن المنتظر من قارئ هذا الكتاب أن يمعن فيه بنظره ويعمل فيه عقله، فإن كان مسلمًا فيزيده ما جاء في الكتاب إيمانًا بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فيقوم بحقوقه من تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وإتباعه فيما فعل صلى الله عليه وسلم.

أما إذا كان القارئ غير مسلم فإننا ندعوه إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لما رآه من دلائل باهرة على صدقه وصدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فلا يمنعن كبره أو حسده أن يقر بالحق ويشهد بكلمة التوحيد، ونقول له لا يكفي منك أن تشهد بعبقرية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل عليك أن تتبع ذلك بالإيمان به صلى الله عليه وسلم.

ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين – الإنس والجن – الذين أدركتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز.

يقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158]، وقال تعالى في حق من لم يؤمن: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح: 13].

ولقد وردت في السنة أحاديث كثيرة جدا تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم على الجن والإنس الذين أدركتهم رسالته، سواء كانوا أهل كتاب، أم ليسوا بأهل كتاب، ويستوي في ذلك عربهم وعجمهم، وذكرهم وأنثاهم، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع لي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"[430].

و"الإيمان بالرسول: هو تصديقه وطاعته وإتباع شريعته"[431]، فهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

أما تصديقه صلى الله عليه وسلم فيتعلق به أمران عظيمان[432]:

أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به صلى الله عليه وسلم.

ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدة أمور منها:

1- الإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنهم.

2- الإيمان بكونه خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات.

3- الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.

4- الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها وأدى الأمانة ونصح لأمته حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها.

5- الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم.

6- الإيمان بماله من حقوق خلاف ما تقدم ذكره كمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم.

الثاني:"تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب إتباعه، وهذا يجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل أحد"[433].

أما طاعته وإتباع شريعته، فالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يتضمن تصديقه فيما جاء به فهو يتضمن كذلك العزم على العمل بما جاء به وهذه هي الركيزة الثانية من ركائز الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وهي تعني: الانقياد له صلى الله عليه وسلم وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وزجر امتثالا لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7].

فيجب على الخلق إتباع شريعته والالتزام بسنته مع الرضا بما قضاه والتسليم له، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله وأن معصيته معصية لله لأنه هو الواسطة بين الله وبين الثقلين في التبليغ.

وبهذا يتحقق الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وينال المرء الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.

وفي الختام أسال الله عزوجل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بالرضي والقبول والتكريم، وأن ينفع الله به المسلمين والمؤمنين، وأن يجمعنا مع نبيه صلى الله عليه وسلم في الجنة ويحشرنا تحت رايته بعد أن يحيينا على سنته ويمتنا على شرعته.

وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

1- تفسير الطبري (19/83).

2- تفسير ابن كثير (5/367).

1- تفسير السعدي (1/812).

2- رواه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات فهل يصلى عليه، ومسلم في صحيحه كتاب القدر باب "معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين".

5- تفسير الطبري (17/402).

6- جزء من حديث رواه الإمام أحمد في مسنده (5/265)، ورواه ابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن 1/508)، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، والحاكم في مستدركه (2/288) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (2/246).

7- تفسير السعدي (1/214).

1- استفدنا في هذه النقطة من الكتاب القيم "الرسل والرسالات" للدكتور عمر سليمان الأشقر.

2- تفسير السعدي 1/239.

10- جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب معنى قول الله عز وجل (ولقد رآه نزلة أخرى).

11- السنن الكبرى للبيهقي (2/245).

1- رواه البخاري في صحيحه كتاب "الأيمان والنذور" باب "كيف كانت يمين النبي"

2- نقل ابن حجر عن الخطابي قوله: وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : حُبُّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ طَبْعٌ ، وَحُبّ غَيْره اِخْتِيَار بِتَوَسُّطِ الْأَسْبَاب ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حُبَّ الِاخْتِيَار إِذْ لَا سَبِيل إِلَى قَلْب الطِّبَاع وَتَغْيِيرهَا عَمَّا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، لهذا فليس في هذا الحديث مطعن في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خاصة وأن عمر قبل هذا الحديث كان قائمًا بحقوق النبي من تعظيم وتعزير وتوقير وإتباع خير قيام فرضي الله عنه وأرضاه.

1- معالم التنزيل للبغوي (5/423) طبعة دار طيبة.

[15]- انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (4/1097 – 1107)، (4/1208 – 1209).

1- المسند (4/265) قال الهيثمي في المجمع (1/173): "رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابر الجعفي وهو ضعيف" وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (5308).

1- مسند البزار برقم (124) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (3/387) والدارمي في السنن (1/115) قال الهيثمي في المجمع (1/174): "رواه البزار وأحمد وأبو يعلى". وقد حسنه الشيخ الألباني، وتوسع في الكلام عليه فليراجع في كتابه: "إرواء الغليل" (6/34).

2- تفسير ابن كثير 2/49.

3- رواه أحمد في المسند (2/226 ، 228) وأبو داود في السنن برقم (4495).

1- تفسير ابن كثير 1/266.

2- تفسير الطبري الأثر رقم 15228.

3- أي مُلْقًى على الجَدَالة وهي الأرض.

4- مسند الإمام أحمد رقم (17191) وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه: "حديث صحيح لغيره دون قوله : " وكذلك أمهات النبيين ترين"، وقد جاء زيادة في رواية أخرى "ورؤيا أمي التي رأت انه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام".

1- طبقات ابن سعد 7/445 طبعة دار صادر بتحقيق إحسان عباس.

2- حرزا أي حصنا ، والأميين هم العرب.

3- أي على الله لقناعته باليسير ، والصبر على ما كان يكره .

4- يميته.

5- صحيح البخاري كتاب البيوع باب كراهية السخب في السوق.

6- هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص109

1- ورد في كتب السير أن عدد الصحابة الذين توجهوا لفتح مكة كان عشرة آلاف صحابي، بينما كان عدد من يحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ما يزيد عن 124 ألفًا من الصحابة، وفي هذا دليل واضح على انطباق النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه.

2- هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم؟.

1- تفسير ابن كثير (8/339).

1- يقول قاموس الكتاب المقدس أن خيام كوشان هو إشارة لقبائل كوش العربية، وهي قبائل كانت تستوطن أثيوبيا وبلاد النوبة وامتدت لتشمل أجزاء واسعة من الجزيرة العربية، وأرض مديان كانت تقع في شمال الجزيرة العربية، والفقرة كلها إشارة صريحة لجنوب وشمال الجزيرة.

1- "محمد رسول الله في التوراة والإنجيل" بحث للدكتور محمد عبد الخالق شربية بحث منشور على شبكة الإنترنت.

2- صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.

1- صحيح البخاري كتاب المناقب باب خاتم النبيين، وصحيح مسلم كتاب الفضائل باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.

1- محمد رسول الله في التوراة والإنجيل.

1- الرحيق المختوم 21-22 باختصار.

1- محمد رسول الله في التوراة والإنجيل، باختصار.

1- هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ د. منقذ بن محمود السقار بتصرف.

1- أخرجه البخاري في الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار ( 4/445 ).

1- لم يكن اسم محمد منتشرًا في الجاهلية بل لا يعلم أحد تسمي به سوى هؤلاء الأربعة، وهذا ما يندرج في دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان أهل الكتاب يعرفونه باسمه ولم يكن اسمه صلى الله عليه وسلم منتشرًا.

2- ملك الغساسنة في هذا العهد، ويبدو أن القوم كانوا في رحلة تجارة.

3- ديراني: الراهب المقيم بالدير.

4- قائم أي صومعة.

5- رواه الطبراني في المعجم الكبير (13723)، والبيهقي في دلائل النبوة وأبو نعيم في الدلائل.

1- رواه البيهقي في الدلائل (2/75)، وذكره ابن هشام في السيرة النبوية (1/182).

2- رواه الإمام أحمد في مسنده (15879) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، وذكره ابن هشام في السيرة النبوية (1/183)، وأورده البيهقي في دلائل النبوة.

2- انتظر.

1- اقترب.

2- التي يهاجر إليها.

3- صغار في العمر.

4- ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (1/183)، ورواه البيهقي في السنن وفي دلائل النبوة.

5- أيْفَعَ الغُلامُ فهو يَافِع إذا قارب الاحْتِلامَ ولَمَّا يَحْتَلمْ.

1- ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (1/142).

2- هي خاتم النبوة وكانت في ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم عند كتفه الأيسر.

3- أخرجه الحاكم في المستدرك ( 2/601 ) وعنه البيهقي في الدلائل ( 1/108، 109 ) وقالفتح.كم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ا.هـ، وإسناده حسن، وله طريق آخر عند ابن سعد في الطبقات ( 1/160 )، وحسنه الحافظ في الفتح.

4- الصبابة: الشوق والاشتياق.

1- رواية ابن إسحاق أوردها ابن هشام في السيرة النبوية (1/160)، وقد روى قصة بحيرى الراهب عدد من أصحاب السنن؛ منهم الترمذي في كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في الدلائل، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد ضعفه عدد من العلماء من بينهم الذهبي، وقد أورده الشيخ الألباني في صحيح السيرة النبوية، ومال إلى تصحيحه في تعليقه على "فقه السيرة".

2- توماس كارليل : الأبطال ص : 68.

2- الناموس هو صاحب السر، والمقصود به هنا جبريل عليه السلام.

1- الجذع هو القوي الصغير في العمر، فكان ورقة بن نوفل رضى الله عنه يتمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره، وهذه من مناقبه.

2- أي قويًا.

3- يلبث.

4- صحيح البخاري كتاب بدء الوحى رقم (3)، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب بدء الوحى إلى رسول الله.

1- في هذا دليل صريح على أن إمارات الصدق ودلائل النبوة كانت تلوح من وجه رسول الله ÷، فمن رأه ولم يؤمن به فقد خاب خيبة كبيرة.

2- رواه الإمام أحمد في مسنده (22668).

3- قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أن حمزة بن يوسف لم يدرك جده عبدالله بن سلام ،مجمع الزوائد 8/243.

4- ابن هشام في السيرة النبوية (2/125).

1- رواه الإمام البخاري في صحيحه (3699)، (4210)، 3621).

1- مسند الإمام أحمد (5/441)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/336): رواه أحمد كله والطبراني في الكبير بنحوه بأسانيد وإسناد الرواية الأولى عند أحمد والطبراني رجالها رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع . ورجال الرواية الثانية انفرد بها أحمد ورجالها رجال الصحيح غير عمرو بن أبي قرة الكندي وهو ثقة ورواه البزار، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة رقم (894).

1- السيرة النبوية لابن هشام (2/126).

2- قال الهيثمي :رواه الطبراني ، ورجاله ثقات من أحد الطريقين ، انظر مجمع الزوائد للهيثمي 8 /242.

1- الجلوبة: ما يُجْلَبُ للبيع من كل شيء وجَمْعُه الجَلاَئب.

2- أي تبعتهم من ورائهم.

3- رواه الإمام أحمد في مسنده (5/411)، وقال ابن كثير في السيرة النبوية:"هذا إسناد جيد وله شواهد في الصحيح عن أنس بن مالك رضى الله عنه" السيرة النبوية (1/323).

4- رواه الإمام البخاري في صحيحه 1290.

1- الغلس ظلام آخر الليل، والمقصود أنهما بدأ في التوجه إلى رسول الله ÷ مبكرًا جدًا قبل أن يشرق الفجر.

2- نوع من المشى فيه ضعف وفتور.

3- أي بششت لهما فرحُا بهما.

4- ابن هشام في السيرة النبوية (2/126)، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (786).

1- رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3906) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ():

1- ابن هشام في السيرة النبوية (2/180) باختصار، وقد روى قصة المباهلة بين رسول الله ÷ ووفد نجران البخاري ومسلم في صحيحهما بأخصر من ذلك.

2- ما يُؤكَلُ مع الخُبْزِ أيّ شيء كان.

1- أي تبين الطريق ووضح.

1- رواه الإمام أحمد في مسنده (4/198-199)، وقال شعيب الأرناوؤط: إسناده حسن.

2- شرح العقيدة الأصفهانية (128) طبعة مكتبة الرشد.

1- ميورقة: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، جنوب شرقي أسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة 290هـ، وتغلب عليها العدو البرشلوني وخربوها في عام 508هـ.

2- تدعى اليوم "كاستيلون" و"قسطلة" مدينة بالأندلس.

3- زي يلتحف به.

4- لعله زي مصبوغ بصباغ له قداسة عندهم.

1- الموجود في الأناجيل حاليًا لفظة "المعزي" بدلا من "البارقليط" وقد ناقشنا هذه البشارة في فصل البشارات.

2- انظر في مناقشة بشارة النبي دانيال كتاب إظهار الحق للإمام رحمة الله الهندي (2/267).

1- هذا سوء ظن وخيال فاسد بالمسلمين أقعد الكثيرين عن اللحوق بركب النجاة، فمن قرأ تاريخ المسلمين ونظر في حاضرهم وماضيهم لعلم كيف تعامل المسلمون مع أهل الذمة من غير المسلمين وأكرموهم، فما الشأن بمن أقبل مسلمًا، وقد عُرف عن المسلمين حبهم وترحيبهم لكل من أقبل على الإسلام مؤمنًا، وهَب أن هذا الوهم صحيح وهذا الظن متحقق فماله لا يصبر على الدنيا الفانية من أجل الأخرة الباقية.

2- نطقت.

1- أوردنا قصة "عبد الله بن سلام" رضى الله عنه فيما سبق من اعتراف أهل الكتاب بنبوته.

2- تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب للإمام الميورقي طبعة دار البشائر الإسلامية.

1- البشارة بنبي الإسلام 1/45، بتصرف.

1- نشرت هذه القصة في عدد من مواقع الإنترنت منها موقع "طريق الإسلام"، وقصص الذين أسلموا من أهل الكتاب في العصور المتأخرة كثيرة وبها من العبر الكثير ولله الحمد والمنة.

1- رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم، ومسلم في كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

1- فتح الباري (9/6).

2- هذه الفوارق ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه النبوات.

1- تفسير ابن كثير (6/155).

2- رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم، ومسلم في كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

1- فتح الباري ( 9/6 ، 7 ) .

1- مفاتيح الغيب للفخر الرازي (2/120).

1- الجواب الصحيح 5 / 408.

2- ذكر هذه الأوجه من الإعجاز القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن".

3- عقد الأستاذ مالك بن نبي مقارنة ممتعة بين عرض قصة يوسف في القرآن الكريم والتوراة، أثبت فيها أن قصة يوسف عليه السلام كانت متماسكة ممتعة في القرآن الكريم خلاف الحال في التوراة.

1- الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/323) بتصرف.

2- الجواب الصحيح لابن تيمية (5/324-326) بتصرف.

1- الجواب الصحيح (5/326-328).

1- الجواب الصحيح (5/330-332) بتصرف.

1- القرآن والعلم الحديث موريس بوكاي.

1- دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة د . موريس بوكاي ، ص 269 دار المعارف ط 4 / 1977 ، بتصرف.

1- روى هذا الحديث المسند (1/276) وسنن الترمذي برقم (3193) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11389)، وقال شعيب الأرناوؤط في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي.

2- تفسير ابن كثير 6/162.

1- استفدنا في هذه النقطة من كتاب "ربحت محمدًا ولم أخسر المسيح" د.عبد المعطي الدالاتي.

2- كتاب (حتى الملائكة تسأل) (206) لعالم الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ الذي أعلن إسلامه.

3- نقلاً عن (جوته والعالم العربي) كاتارينا مومزن (177-188-261).

1- في مقدمتها لكتاب (الإسلام كبديل) لمراد هوفمان.

2- نقلاً عن (البحث عن الحقيقة) ص(522).

3- نقلاً عن (القرآن الكريم من منظور غربي) د. عماد الدين خليل (28).

4- دراسة الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة) د. موريس بوكاي ص(145).

1- البخاري كتاب المناقب باب علامات باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر.

2- نفس السابق.

3- سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة القمر

1- نشير هنا إلى أن كثيرًا من المعجزات التي يؤمن بها أهل الكتاب تفتقر إلى تواتر الناس جميعُا مثل إمساك الشمس ليوشع بن نون عليه السلام، ولم يطعن أحد في هذه المعجزة ولا في معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزوجل يفعل بهما ما يشاء، وعدم رؤية شخص أو جماعة لمعجزة نبي ليس دليل على عدم وقوعها.

2- ذكر الدكتور زغلول النجار في مقال له عن انشقاق القمر أن كلاً من التاريخ الهندي والصيني القديم دون حادثة انشقاق القمر وأرخوا به، موقع الدكتور زغلول على شبكة الإنترنت.

1- فتح الباري لابن حجر موسوعة الحديث الشريف لشركة حرف.

1- كان يستند إلى الجذع وهو يخطب في الناس في المسجد.

2- البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3- الإمام أحمد في مسنده (3/300)، ولما حدّث الحسن البصري بهذا الحديث بكي وقال يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه ، أفليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه، دلائل النبوة للبيهقي.

4- دلائل النبوة رقم 825.

1- صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر.

2- رواه البخاري ح (4039).

3- رواه ابن حبان ح (2146)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (2940).

1- أي باتوا في اختلاط واختلاف يتباحثون من يفوز بشهادة رسول الله ÷ أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وفي هذه منقبة للصحابة فلم تشتاق أنفسهم في الإمارة إلا يوم أن كانت علامة على محبة الله ورسوله.

2- صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر.

3- تهذيب الآثار للطبري رقم 1519.

4- خده.

5- السواد مستدير وسط العين.

6- دلائل النبوة للبيهقي رقم 1111.

7- مصنف ابن أبي شيبة (7/445).

1- رواه أحمد في المسند ح (26590).

2- رواه أحمد في المسند ح (15027)

3- مكان معروف بالمدينة بالقرب من سوقها.

4- صحيح البخاري كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.

1- فتح الباري (6/584-585) باختصار وتصرف بسيط.

5- نفسه.

5- نفسه.

6- نفسه.

1- المزادة قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها

2- أرادت أن رجالها تخلفوا لطلب الماء.

3- ربط.

4- هي مصب الماء من الراوية ، ولكل مزادة عزالان من أسفلها.

5- صحيح البخاري كتاب التيمم باب الصعيد الطيب وضوء المسلم.

6- فتح الباري (1/540).

1- صحيح مسلم رقم 1099.

2- شرح النووي على صحيح مسلم (5/189).

1- 1400 شخص.

2- أي استقوا منها الماء حتى جفت.

3-حافة البئر.

4- الإبل التي يسار عليها.

5 – صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الحديبية.

6- المراد بالمسجد الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق.

1- العكة: إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا والعسل، والمقصود أنها عصرت هذه العكة حتى أخذت ما فيها من بقايا فجعلته إدامًا يأتدم به.

2- قال ابن حجر في فتح الباري: (في رواية مبارك بن فضالة " فقال هل من سمن ؟ فقال أبو طلحة : قد كان في العكة سمن، فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج ، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته ثم مسح القرص فانتفخ وقال : بسم الله ، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتميع " وفي رواية سعد بن سعيد " فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا فيها بالبركة " وفي رواية النضر بن أنس " فجئت بها ففتح رباطها ثم قال : بسم الله ، اللهم أعظم فيها البركة " وعرف بهذا المراد بقوله : " وقال فيها ما شاء الله أن يقول ") فتح الباري (6/588).

3- صحيح البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.

4- الكدية: الصخرة العظيمة

5- أي رملاً، فهذه الصخرة العظيمة التي عجز أمامها الصحابة ومنهم الأقوياء الأشداء لانت أمام رسول الله ÷ ولعل هذا مما يندرج تحت دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم فقد كان عمره في ذلك الوقت 58 عامًا وبضربة واحدة تحولت الصخرة الصلبة إلى كومة من رمال.

6- الماعز الصغير.

7- إناء يكون أسفله أوسع من أعلاه.

8- الأحجار التي يحمل عليها الإناء .

1 - رواه البخاري كتاب المغازي باب غزوة الأحزاب.

2- وهي غزوة تبوك.

3- نفد زادهم واحتاجوا إلى الطعام.

4- غبرات الزاد : بقاياه.

5- رواه الإمام أحمد في مسنده (2/421) وصححه شعيب الأرناوؤط في تعليقه.

1- والسبب في استدعائهم فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخصهم بما يأتيه من الصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية، وأهل الصفة رضى الله عنه ذكرت بعض الروايات أن عددهم كان يختلف حسب الأوقات وذكرت بعض المصادر أن عددهم كان يصل إلى 400 صحابي، وكانوا ناسا فقراء لا منازل لهم ، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره.

2- رواه البخاري كتاب الرقاق باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وتخليهم.

1- رواه أحمد ح (8414)، والترمذي ح (3839) وحسّنه الألباني في صحيح الترمذي ح (3015).

2- رواه مسلم كتاب الفضائل باب في معجرات النبي صلى الله عليه وسلم.

3- أي ما يؤتدَم به الخبز

4- رواه مسلم كتاب الفضائل باب في معجرات النبي صلى الله عليه وسلم.

5- شرح النووي على صحيح مسلم (15/42).

1- صحيح مسلم كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم.

2- رواه البخاري ح (3579).

3- رواه الطبراني في الأوسط ح (1244)، والبزار ح (4040)، وقال الهيثمي: "وله طرق أحسن من هذا في علامات النبوة، وإسناده صحيح". مجمع الزوائد (5/327)، وصححه الألباني في تخريج كتاب "السنة" ح (1146).

4- البداية والنهاية (6/286).

1- الواحدة من الجن.

2- المراد به اليأس ضد الرجاء.

3- معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته ، فانقلبت عن الاستراق قد يئست من السمع، وكان مما سبق بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الله عزوجل السماء ومنع الجن من استراق السمع مثلما كان يحدث.

4- وهي الفتية من النياق.

5- ما يوضع على ظهور الإبل.

6- الوقح المكافح بالعداوة.

7- رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب إسلام عمر بن الخطاب.

1- نوع من شجر البادية.

2- تشق الأرض شقًا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

3- رواه الدارمي في سننه رقم (16)، وصححه محقق السنن "حسين سليم أسد"، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح.

4- واسعًا.

5- وهو الذي يجعل في أنفه عود إذا كان صعبا ، ويشد فيه حبل ليذل وينقاد.

6- أعدو وأسعى سعيا شديدا.

1- رواه مسلم في صحيحه كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، وما أوردناه هنا جزء من حديث جابر.

2- رواه الترمذي في سننه كتاب المناقب عن رسول الله، باب في آيات إثبات نبوة النبي صلبى الله عليه وسلم، وقال حديث حسن غريب صحيح، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي.

3- ينقل عليه الماء.

4- صوت البعير عند الغضب.

5- باطن العنق.

1- غطيته.

2- الصرع والجنون.

3- رواه الإمام أحمد في مسنده (4/173)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/6): رواه أحمد باسنادين والطبراني بنحوه ، وأحد إسنادى أحمد رجاله رجال الصحيح، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (5922)، وما بين القوسين في الحديث من عندنا.

4- الإقعاء أن يُلْصِقَ الرجُل ألْيَتَيه بالأرض، ويَنْصِب ساقَيه وفَخِذَيه، ويَضَع يديه على الأرض كما يُقْعِي الكلْب.

1- طرف الشيء.

2- رواه الإمام أحمد في مسنده (3/83)، وقال الأرناؤوط في تعليقه: رجاله ثقات رجال الصحيح، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (122).

3- أي ينقلون عليه الماء، وما شابه من الأشياء.

4- هو داء يصيب الإنسان والحيوان إذا ما عضه كلب مصاب بما يعرف بالسعار فيُصِيبُه شِبْه الجُنون فلا يَعَضُّ أحداً إلاّ كَلِب وتَعْرِض له أعْراضٌ رَدِيئة ويَمْتَنِع من شُرْب الماء حتى يموت عَطَشاً.

1- رواه الإمام أحمد في مسنده (3/158)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه: صحيح لغيره دون قوله " والذي نفسي بيده لو كان من قدمه ... الخ،

2- الشفة الغليظة.

3- كل ما وُضِعَ على أنف البعير ليُقتادَ به.

4- رواه الإمام أحمد في مسنده (3/310)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1718).

5- ربض: برك وسكن.

6- يتحرك.

7- رواه الإمام أحمد في مسنده (6/112)، وقال الأرناؤوط: رجاله ثقات رجال الصحيح إلا أن مجاهدا : وهو ابن جبر لم يصرح بما يفيد سماعه هذا الحديث من عائشة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/4): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح.

1- رواه البخاري كتاب المغازي باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ورواه مسلم في كتاب الطب والمرض والرقى باب السم واللفظ له.

2- مشوية.

3- الجماعة من الرجال دون العشرة.

4- تداوى بالحجامة وهي تشريط موضع الألم وتسخينه لإخراج الدم الفاسد منه.

1- الجواب الصحيح (6/297).

2- أي قطعة من السحاب

3- الجوبة: هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفُرجة في السحاب، ووادي القناة اسم لوادٍ مشهور من أودية المدينة. انظر فتح الباري (2/479).

4- رواه البخاري كتاب الجمعة باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، وروى مثله مسلم في كتاب صلاة الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء.

5- فتح الباري (2/480).

1- شرح صحيح مسلم (6/192).

2- صحيح البخارى كتاب الصوم باب من زار قومًا فلم يفطر عندهم،

3- صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أنس بن مالك.

4- فتح الباري (4/269).

5- صحيح البخاري كتاب المناقب باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية.

6- رواه أحمد في مسنده ح (18877).

7- فتح الباري (6/734).

1- صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي هريرة رضى الله عنه.

2- شرح صحيح مسلم (16/52).

3- صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي هريرة رضى الله عنه.

1- جزء من حديث رواه البزار في مسنده، والحاكم في مستدركه.

2- أبو نعيم في دلائل النبوة باب إجابة الدعوة.

3- أخرحه الإمام أحمد (5/77)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأحرجه الترمذي رقم: 3629، وصححه الشيخ الألباني.

4- رواه البخاري في كتاب الاستسقاء، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة.

1- رواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون إلى قيام الساعة، وقد رواه البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده عن آخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

2- نفس السابق.

1- فتح الباري (6/336).

2- السيرة النبوية لابن هشام (1/308).

3- البخاري في صحيحه كتاب الزكاة باب خرص الثمر، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.

4- شرح صحيح مسلم (15/42).

1- صحيح البخاري كتاب المناقب باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذًا خليلاً.

2- صحيح البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.

3- صحيح البخاري كتاب المناقب باب مناقب خالد بن الوليد رضى الله عنه.

1- صحيح البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.

2- صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض

3- شرح النووي على صحيح مسلم (18/13).

4- صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر.

1- رواه مسلم في صحيحه.

2- شرح صحيح مسلم (16/97).

3- صحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق.

4- هذه الزيادة من رواية الحاكم في مستدركه على الصحيحين.

1- رواه البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام، فيما عدا قوله: ((فلعلك إنما يمنعك عن الإسلام أنك ترى من حولي خصاصة، أنك ترى الناس علينا إلباً)).

2- صحيح البخاري كتاب الفتن باب خروج النار.

1- مسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.

1- الشفا للقاضي عياض (1/247) بتصرف.

1- رواه مسلم في مقدمة صحيحه ( 1/87).

2- المواهب اللدنية للزرقاني (5/454) والأجوبة الفاضلة لعبد الحي اللكنوي ص 24

[270] - الفصل في الملل والنحل . ابن حزم الأندلسي (2/81-82)

[271] - موقف العقل والعلم والعالم من رب العلمين وعباده . مصطفى صبري.(4/87)

1- استقر عند المسلمين الوعيد الشديد لمن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.

1- المترجم الذي ينقل من لغة إلى أخرى.

2- هذا ذكاء من هرقل، فالهدف من جلوسهم وراء أبي سفيان لكيلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب.

1- أي أنتقصه بها، على أن التنقيص هنا أمر نسبي، وذلك أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان معروفا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر, قاله ابن حجر في فتح الباري.

2- أي مَرَّة لنا ومَرَّة علينا.

3- هذه الأسئلة التي سألها هرقل، تدل على ذكاؤه وحصافته وعلمه، حيث كانت صياغة الأسئلة تجبر أبا سفيان على الإجابة بطريقة محددة، إما بنعم أو بلا، أو باختيار من متعدد وهذا من شأنه أن يضيق الخناق على أبي سفيان فلا يكذب، كما أن الأسئلة ذاتها تمثل منهجًا في إثبات نبوة الأنبياء بالدلائل العقلية والنظرية والتاريخية.

4- أي يقتدي، وإجابة هرقل تشير إلى السر في اختيار الله عزوجل للعرب ليكون منهم خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فلابد أن تزال كل الشبهات التي قد تحيط بدعوته وبعثته صلى الله عليه وسلم.

5- في هذا الاستدلال على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفاته وشمائله الكريمة، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية في الأخلاق، ويكفى أن الله مدحه وأثني عليه فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم).

1- إن القيم العظيمة والمبادئ السامية التي يدعو إليها الإسلام لهي دليل واضح بين على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- في هذا الاستدلال بالبشارات الواردة في الكتب السابقة، وتحوى الكتب السابقة عددًا من البشارات التي تنطبق جميعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما أصاب هذه الكتب من تحريف.

3-أصل وأتوجه.

4- أي تكلفت الوصول إليه، وقد كان هرقل ذكيًا إلا إنه لم يكن عاقلا فطنًا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده في كتابه إليه بأنه إذا أسلم فسوف يسلم، وهب أنه مات في سبيل هذا الأمر فإنه سوف يموت شهيدًا ويا له من مقام.

5- قال ابن حجر في فتح الباري: أي : بالكلمة الداعية إلى الإسلام ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

6- جمع أريسي، وهو منسوب إلى أريس، قال ابن سيده : الأريس الأكار، أي : الفلاح.

7- أي عظم.

8- أراد به النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا كبشة أحد أجداده.

1- كاهنا.

2- ورد في بعض الروايات أن اسمه كان ضغاطر وأنه كان بابا النصارى في ذلك الوقت.

3- لم يبرح من مكانه.

4- نفروا.

5- رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحى رقم (6).

1- الحجمة: النتوء.

2- مسند الإمام أحمد جزء 3 – صفحة 441، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(8/236): رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات ورجال عبد الله بن أحمد كذلك، وقال ابن كثير في السيرة النبوية (4/29) : هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به الامام أحمد.

1- صحيح البخاري كتاب بدء الوحي.

1- قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/61): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

1- صحيح مسلم برقم (746).

2- المسند (6/216).

3- صحيح البخاري برقم (6038) وصحيح مسلم برقم (2309).

4- تفسير ابن كثير (8/150-151) باختصار.

1- أي ذهبوا مسرعين.

2- رواه الترمذي (2485) وصححه الشيخ الألباني.

1- صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن باب وأنذر عشيرتك الأقربين

2- سنن أبي داود كتاب الأدب باب في كراهية المراء، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

3- سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن باب ما جاء في سورة الأنعام.

4- دلائل النبوة للبيهقي.

1- صحيح البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.

1- صحيح البخاري كتاب الأدب باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل.

2- صحيح مسلم كتاب الفضائل باب ما سئل رسول الله شيئُا فقال لا قط.

1- صحيح البخاري كتاب الجنائز باب من استعد الكفن في زمن النبي.

2- أي بدون سرج وفي هذا دليل على فروسية النبي العدنان فما يستطيع إلا القليل امتطاء الفرس بدون سرج.

3- أي سريع الجري وكان هذا الفرس بطيئ غير أنه انقلب ببركة رسول الله إلى فرس شديد السرعة.

4-أخرجه مسلم في الفضائل ، باب في شجاعة النبي وتقدمه للحرب، والبخاري في كتاب الجهاد والسير باب الحمائل وتعليق السيف.

5- احمرار البأس كناية عن شدة الحرب.

6- رواه أبو الشيخ ص 53 واللفظ له ، والنسائي في الكبرى ( انظر تحفة الأشراف 7/357 ).

7- مسند الإمام أحمد (1/86)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير حارثة بن مضرب.

1- رواه مسلم في المغازي ، باب غزوة حنين.

2- رواه ابن ماجة في سننه كتاب الزهد باب الحياء.

3- رواه البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

4- رواه البخاري في صحيحه كتاب الحيض باب غسل المحيض.

1- رواه الترمذي في سننه كتاب الزهد باب ما جاء في أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم.

2- رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق.

3 – مشوية.

4- رواه البخاري كتاب الأطعمة باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون.

5-أخرجه البخاري في الأطعمة ، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون.

6- الختن هو قريب الزوجة، وجويرية بنت الحارث رضى الله عنها هي أم المؤمنين وإحدى زوجات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

7- أخرجه البخاري في الوصايا ، باب الوصايا.

8- أردأ التمر.

9- رواه مسلم كتاب الزهد والرقائق.

1- أي يبحث عن ماء عذب.

2- السكين.

3- أخرجه مسلم في الأطعمة ، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققاً تاماً واستحباب الاجتماع على الطعام.

4- الذهب.

1- أي يشغله صلى الله عليه وسلم التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى.

2- رواه البخاري في الصلاة ، باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم.

3- البخاري كتاب الأدب باب الكبر.

4- صحيح البخاري كتاب الجنائز باب زيارة القبور.

5- أخرجه أحمد ( 3/153 ، 241 ، 249 )، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه: إسناده صحيح على شرط مسلم , رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم.

1- أخرجه البخاري في الحج ، باب سقاية الحاج.

2- أخرجه البخاري في الجهاد ، باب الردف على الحمار.

3- أخرجه مسلم في الفضائل ، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، وقال النووي في الشرح: أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية ، فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها ، لكن لا يسمعون كلامها ، لأن مسألتها مما لا يظهره.

4- رواه الترمذي في سننه (2754) وصححه الشيخ الألباني.

5- رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها".

1- تفسير السعدي (1/154).

2- انتهرني.

1- رواه مسلم في الصلاة ، باب تحريم الكلام في الصلاة.

2- تقطعوا عليه بوله.

3- أي صبه.

4- رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، ورواه البخاري في الوضوء، باب ترك النبي والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد.

5- رواه البخاري في المناقب ، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في الفضائل ، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.

6- أخرجه البخاري في العلم ، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا ما رأى ما يكره.

7- رواه البخاري كتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله.

1- رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير

2- رواه الترمذي كتاب المناقب ، باب في بشاشة النبي.

3- صحيح البخاري كتاب المناقب باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي.

4- سنن الترمذي كتاب البر والصلة باب ما جاء في المزاح.

5- سنن أبي داود كتاب الأدب باب ما جاء في المزاح.

1- رواه أبو داود كتاب الأدب باب "في العدة".

2- رواه البخاري كتاب الإيمان باب علامة المنافق.

3- رواه البخاري كتاب مناقب الأنصار ، باب تزويج النبي خديجة وفضلها رضي الله عنها.

4- روام مسلم كتاب الجهاد والسير باب الوفاء بالعهد.

1- بطن: وسط، ويأجج مكان بمكة.

2- القُرُب : جمع قِراب وهو الغمد الذي يحفظ فيه السيف ونحوه.

3- دلائل النبوة للبيهقي (4/426).

4- رواه البخاري كتاب الجمعة باب السواك يوم الجمعة.

5- رواه البخاري كتاب الجماعة والإمامة باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي.

6- أخرجه مسلم في البر والصلة ، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها.

1- طائر صغير كالعصفور.

2- الفرخ ولد الطائر.

3- أي رفرفت بجناحيها واقتربت من الأرض.

4- سنن أبي داود كتاب الجهاد باب في كراهية حرق العدو بالنار، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.

5- كل بناء مرتفع مشرف

6- رفع صوته وبكى.

7- مؤخر رأسه

8- تتعبه.

9- سنن أبي داود كتاب الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم.

1- قحط وجفاف.

2- البستان أو الحديقة وحوله جدار.

1- رواه الطبراني في المعجم الكبير (5/222) والحاكم في المستدرك (3/700) وقال صحيح الإسناد غير أن الذهبي قال في تعليقه (ما أنكره وأركه"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/240): رواه الطبراني ورجاله ثقات، وقال ابن حجر في الإصابة (1/566): رجال الإسناد موثقون وله شاهد من وجه آخر .

2 – رواه الترمذي في سننه رقم (2490).

3- أي: وضع فمه على أذنه صلى الله عليه وسلم للتناجي.

4- سنن أبي داود (4794) وحسنه الشيخ الألباني.

5- الشمائل للترمذي رقم 329 وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الشمائل.

1- البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

2- ما بين الفجر وطلوع الشمس.

3- أحسن الاستماع.

4- رواه مسلم في الفضائل ، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.

5- رواه البخاري في الأذان ، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج.

1- السنن الكبرى للنسائي (5/307)، وقال ابن حجر: إسناده صحيح ، ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا ( الفتح 2 / 444 ).

2- رواه مسلم في الحيض ، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها. وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه.

3- رواه البخاري في النكاح ، باب من طاف على نسائه في غسل واحد.

4- رواه البخاري في النكاح ، باب الغيرة.

5- رواه البخاري في الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.

1- رواه مسلم في الفضائل ، باب رحمة النبي الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك،.

2- السابق نفسه.

3 - رواه ابن حبان في صحيحه (5687).

4- رواه البخاري في الصلاة ، باب إذا حمل جارية صغيرة على عاتقه في الصلاة.

5- أي مفطوم.

6- نوع من أنواع الطيور.

7- رواه البخاري كتاب الأدب باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل.

1- رواه البخاري في مناقب الأنصار ، باب هجرة الحبشة.

2- صحيح البخاري كتاب الاستئذان ، باب التسليم على الصبيان.

3- يترامون.

4- رواه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قول الله تعالى ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ).

5- رواه البخاري كتاب المساقاة ، باب من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة.

1- رواه البخاري في النكاح ، باب الترغيب في النكاح.

1- صحيح مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي بعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.

1- هداية الحيارى لابن القيم.

[409] The Straight Path / Sept-Oct. 1991

1- مسند الإمام أحمد (1/201) وحسنه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند.

1- (لمَ أسلم هؤلاء الأجانب) محمد عثمان (1 / 147) .

2- (دراسة الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة) د. موريس بوكاي ص(145) .

1- (القرآن الكريم والعلم المعاصر) د. موريس بوكاي ص(123) .

2- تفسير ابن كثير (7/342).

1- المغل المقصود بهم المغول.

2- قال في لسان العرب: الخَمْشُ الخدْشُ في الوجه وقد يستعمل في سائر الجسد.

3- المقصود حنجرته، قال في لسان العرب: "( زردم ) زَرْدَمَهُ خنقه وزَرْدَبَه كذلك وزَرْدَمَه عصر حلقه والزَّرْدَمَةُ الغَلْصَمَةُ وقيل الزَّرْدَمَهُ من الإنسان تحت الحلقوم واللسانُ مركّب فيها".

4- الدرر الكامنة جزء 3 صفحة 202 .

1- مجموع الفتاوى 19/52.

2- مجموع الفتاوى 19/55.

1 - مجموع الفتاوى 19/56.

1 - تفسير ابن كثير 4/417.

2- صحيح مسلم.

3- رواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون إلى قيام الساعة، وقد رواه البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده عن آخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

1- صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الغار.

1- الموافقات: (2/ 40).

1- يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1- الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/153-160) باختصار وتصرف.

1- الجواب الصحيح (1/40).

1- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1/ 93).

2- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (ص 92).

3- استفدنا في هذه النقطة من كتاب "حقوق النبي على أمته".

4- مجموع الفتاوى (15/ 91).

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...