.

Translate ابودي

الأحد، 14 مايو 2023

ج13 وج14. الدر المصون في علم الكتاب المكنون المؤلف : السمين الحلبي

ج13. الدر المصون في علم الكتاب المكنون


المؤلف : السمين الحلبي

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)

قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } : في رفع « أنفسهم » وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ « شهداء » ، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه . والثاني : أنه نعتٌ له ، على أنَّ « إلاَّ » بمعنى « غير » . قال أبو البقاء : « ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان ، أو منصوباً على الاستثناء . وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ » إلاَّ « هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء » . قلت : وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ « كان » ناقصةً ، وخبرُها الجارُّ ، وأَنْ تكونَ تامةً أي : ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ .
وقرأ العامَّةُ « يكن » بالياءِ من تحتُ ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ « إلاَّ » على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو : « ما قام إلاَّ هندٌ » ولا يجوز : ما قامَتْ ، إلاَّ في ضرورة كقوله :
3433 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ : « لا ترى إلاَّ مَساكنُهم » وقرىء « ولم تَكُنْ » بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه .
قوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأ ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي : فعليهم شهادة ، أو مُؤَخَّرهُ أي : فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ . الثاني : أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالجوابُ شهادةُ أحدِهم . الثالث : أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : فيكفي . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ .
وقرأ العامَّةُ « أربعَ شهاداتٍ » بالنصبِ على المصدر . والعاملُ فيه « شهادة » فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه ، كما تقدَّم في قولِه { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع « أربع » على أنها خبرُ المبتدأ ، وهو قوله : « فشهادة » .
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله : « بالله » ، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : « فشهادةُ » أي : فشهادةُ أحدِهم بالله . ولا يَضُرُّ الفصلُ ب « أربع » لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً . والثالث : أن المسألةَ من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى ، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول ، وهو مختار البصريين . وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ . ولم يُختلفْ في « أربع » الثانية وهي قولُه « أَنْ تَشْهد أ ربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها . وهو الفعلُ .

وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)

قوله : { والخامسة } : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى ، واختلفوا في الثانية : فنصبها حفصٌ ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش . فالرفعُ على الابتداءِ ، وما بعده مِنْ « أنَّ » وما في حَيِّزها الخبرُ . وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ « أربعَ شهادات » يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها . وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي : ويَشْهَدُ الخامسةَ . وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو « أربع شهادات » . والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه : ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه . وأمَّا « أنَّ » وما في حَيِّزها : فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم ، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي : ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة .
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } قرأ العامَّةُ بتشديد « أنَّ » في الموضعين . وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين ، إلاَّ أنه يقرأ « غَضِبَ اللهُ » بجَعْلِ « غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعلَه . كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً ، ولم ينقُلْه غيره . فعلى قراءتِه يكون اسمُ « أنْ » ضميرَ الشأنِ في الموضعين ، و « لعنةُ الله » مبتدأ و « عليه » خبرُها . والجملةُ خبرُ « أنْ » . وفي الثانية يكون « غضِبَ الله » جملةً فعليةً في محل خبر « أنْ » أيضاً ، ولكنه يقال : يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن ، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً ، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ . تقريرُ ذلك : أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب « قد » وَجَبَ الفصلُ بينهما . بما تقدَّم في سورة المائدة . فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل « إنَّ » . حتى تأوَّلوا قولَه :
3434 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله :
3435 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
على إضمارِ القول . ومثلُه { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] . وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف « أنْ و » غَضَبُ الله « بالرفع على الابتداء ، والجارُّ بعدَه خبرُه . والجملةُ خبرُ » أنْ « .
وقال ابنُ عطية : » وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله : « أَنْ غَضِبَ » وقد وليها الفعلُ . قال أبو علي : « وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل : 20 ] { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] فأمَّا قولُه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ } [ النجم : 39 ] فذلك لقلةِ تمكُّنِ » ليس « في الأفعال . وأمَّا قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } ف » بُوْرِكَ « في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى » . قلت : فظاهرُ هذا أنَّ « غَضِبَ » ليس دعاءً ، بل هو خبرٌ عن « غَضَِبَ الله عليها » والظاهرُ أنه دعاءٌ ، كما أنَّ « بُورك » كذلك . وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } : جوابُ « لولا » محذوفٌ أي : لَهَلَكْتُمْ .

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

قوله : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك } : في خبر « إنَّ » وجهان ، أحدهما : أنه « عُصْبةٌ » و « منكم » صفتُه . قال أبو البقاء : « وبه أفادَ الخبر » . والثاني : أنَّ الخبرَ الجملةُ مِنْ قولِه { لاَ تَحْسَبُوهُ } ويكونُ « عُصْبَةٌ » بدلاً من فاعلِ « جاؤوا » . قال ابن عطية : « التقديرُ : إنَّ فِعْلَ الذين . وهذا أنْسَقُ في المعنى وأكثرُ فائدةً من أَنْ يكونَ » عُصبةٌ « خبرَ إنَّ . كذا أورده عنه الشيخ غيرَ معترِضٍ عليه . والاعتراضُ عليه واضحٌ : من حيث إنه أوقع خبرَ » إنَّ « جملةً طلبيةً ، وقد تقدم أنه لا يجوزُ . وإن وَرَدَ منه شيءٌ في الشعر أُوِّل كالبيتين المتقدمين ، وتقديرُ ابنِ عطيةَ ذلك المضافَ قبل الموصولِ ليَصِحَّ به التركيبُ الكلاميُّ؛ إذ لو لم يُقَدِّرْ لكان التركيبُ : لا تَحْسَبوهم . ولا يعودُ الضمير في » لا تَحْسَبوه « على قولِ ابنِ عطيةَ على الإِفكِ لئلا تَخْلُوَ الجملةُ من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ . وفي قولِ غيرِه يجوزُ أَنْ يعودَ على الإِفك أو على القَذِف ، أو على المصدرِ المفهومِ من » جاؤوا « أو على ما نال المسلمين من الغَمِّ .
قوله : { كِبْرَهُ } العامَّةُ على كسرِ الكافِ ، وضَمَّها في قراءته الحسنُ والزهريُّ وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن ، ورُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ والكسائيّ فقيل : هما لغتان في مصدرِ كَبُرَ الشيءُ أي : عَظُم ، لكن غَلَبَ في الاستعمالِ أنَّ المضمومَ في السِّنِّ والمكانةِ يُقال : هو كُبْرُ القومِ بالضمِّ أي : أكبرُهم سِنَّاً أو مكانةً . وفي الحديث في قصة مُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة » الكُبْرَ الكُبْرَ « وقيل : الضم معظمُ الإِفْكِ ، وبالكسرِ البُداءَةُ به . وقيل : بالكسر الإِثمُ .

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

قوله : { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون } : هذه تحضيضيةٌ ، و « إذ » منصوبٌ ب ظَنَّ . والتقدير : لولا ظَنَّ المؤمنين بأنفسِهم إذ سَمِعْتُموه . وفي هذا الكلامِ التفاتٌ . قال الزمخشري : « فإنْ قُلْتَ : هلاَّ قيل : لولا إذ سَمِعْتُموه ظَنَنْتُمْ بأنفسِكم خيراً وقُلْتم . ولِمَ عَدَلَ عن الخطابِ إلى الغَيْبة ، وعن الضميرِ إلى الظاهرِ؟ قلت : ليُبالِغَ في التوبيخِ بطريقةِ الالتفاتِ ، وليُصَرِّحَ بلفظِ الإِيمانِ دلالةً على أنَّ الاشتراكَ فيه مُقْتَضٍ أَنْ لا يُصَدِّقَ أحدٌ قالةً في أخيه » . وقوله « لِمَ عَدَلَ الخطابِ »؟ يعني في قولِه « وقالوا » فإنَّه كان الأصلُ : وقلتم فعدل عن هذا الخطاب إلى الغَيْبة في : « وقالوا » . وقوله : « وعن الضميرِ » يعني أنَّ الأصلَ كان : ظَنَنْتُمْ فَعَدَلَ عن ضميرِ الخطابِ إلى لفظِ المؤمنين .

لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)

قوله : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ } : « إذْ » منصوبٌ ب « الكاذبون » في قوله : { فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } . وهذا الكلامُ في قوةِ شرطٍ وجزاء .

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

قوله : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } : « إذْ » منصوبٌ ب « مَسَّكُمْ » أو ب « أَفَضْتُمْ » . وقرأ العامَّةُ « تَلَقَّوْنه » . والأصلُ : تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] ونحوه . ومعناه : يتلقَّاه بعضُكم من بعض . والبزيُّ على أصله : في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } [ البقرة : 267 ] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا . وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء . وقرأ أُبَيّ « تَتَلَقَّوْنَه » بتاءين ، وتقدَّم أنها الأصلُ . وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه « تُلْقُوْنَه » بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ « ألقى » إلقاءً . وقرأ هو في روايةٍ أخرى « تَلْقَوْنه » بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ .
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ . قال ابن سيده : « جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي . وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير » . يعني أنهم جاؤوا ب « تَلِقُوْنه » وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب « تُكذِّبون » وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر . وقال الطبري وغيره : « إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال : وَلَقَ في سَيْرِه أي : أسرع وأنشد :
3436 جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ ... وقال أبو البقاء : أي : تُسْرعون فيه . وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون » .
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر « تَأْلِقُوْنه » بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ . وقرأ يعقوب « تِيْلَقُوْنه » بكسر التاءِ من فوقُ ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل .
وقوله : { بِأَفْوَاهِكُمْ } كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] وقد تقدَّم .

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

قوله : { ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ } : كقوله : { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ } [ الآية : 12 ] ولكن لا التفاتَ فيه . وقال الزمخشري : « فإن قلت : كيف جاز الفصلُ بين » لولا « و » قُلْتم « . قلت : للظروفِ شأنٌ ليس لغيرِها لأنها لا يَنْفَكُّ عنها ما يقعُ فيها فلذلك اتُّسِع فيها » . قال الشيخ : « وهذا يُوْهِمُ اختصاص ذلك بالظروف ، وهو جارٍ في المفعول به تقول ، لولا زيداً ضَرَبْتَ ، ولولا عمراً قَتَلْتَ » .
وقال الزمخشري أيضاً : « فإِنْ قلتَ : أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ فاصلاً؟ قلت : الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به ، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه . فإنْ قلتَ : ما معنى » يكون « والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل : ما لنا أن نتكلَّم بهذا؟ قلت : معناه ينبغي ويَصِحُّ ، أي : ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } [ المائدة : 116 ] .

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)

قوله : { أَن تَعُودُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مفعولٌ من أجلهِ أي : يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا . الثاني : أنه على حَذْفِ « في » أي : في أَنْ تعودوا نحو : وَعَظْتُ فلاناً في كذا فتركه . الثالث : أنَّه ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدى ب عَنْ ، ثم حُذِفَتْ أي : يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ . وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ « أنْ » بعد نَزْعِ الخافضِ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

قوله : { فَإِنَّهُ يَأْمُرُ } : في هذه الهاءِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أنها ضميرُ الشَّأْن . وبه بدأ أبو البقاء . والثاني : أنها ضميرُ الشيطان . وهذان الوجهان إنما يجوزان على رَأْيِ مَنْ لا يَشْترط عَوْدَ ضميرٍ على اسمِ الشرط مِنْ جملة الجزاء . والثالث : أنه عائدٌ على « مَنْ » الشرطيَةِ .
قوله : { مَا زَكَا } العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال : زكا يَزْكُو . وفي ألفه الإِمالةُ وعدمُها . وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها . وكُتبت ألفُه ياءً وهو شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا . وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ المُشَدَّدِ . فعلى قراءة التخفيفِ يكون « مِنْ أحد » فاعلاً . وعلى قراءةِ التشديدِ يكونُ مفعولاً . و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن . والفاعلُ هو اللهُ تعالى .

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

قوله : { وَلاَ يَأْتَلِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله :
3437 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن « ولا يَتَأَلَّ » من الأَلِيَّة كقوله : « مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه » . ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] قال :
3438 وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه ... بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ
وقال أبو البقاء : وقُرِىء « ولا يَتَأَلَّ » على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً « .
قلت : ومنه :
3439 تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني ... إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ
قوله : { أَن يؤتوا } هو على إسقاطِ الجارِّ ، وتقديرُه على القول الأولِ ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا . وعلى الثاني : ولا يُقَصِّر أُولو الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا . وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب » تُؤْتُوا « بتاء الخطاب . وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه : » ألا تُحِبون « . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين : وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا ، بالخطاب ، وهو موافِقٌ لِما بعده .

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)

قوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ } : ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به « لهم » . وقيل : بل ناصبُه « عذابُ » . ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ وأجيب : بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه/ ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه . وقرأ الأخَوان « يَشْهَدُ » بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ، وقد وقعَ الفَصْلُ . والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ .

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

والتنوينُ في « إذ » عوضٌ من الجملة ، تقديرُه : يوم إذ تشهد . وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه ، وقرأ زيد بن علي « يُوْفِيْهِمْ » مخففاً مِنْ أوفى . وقرأ العامَّةُ بنصب « الحق » نعتاً ل « دينَهم » ، وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدٌ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ برفعِه نعتاً لله تعالى .

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

قوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً ، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « لهم » خبرَ « أولئك » و « مغفرةٌ » فاعلُه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

قوله : { تَسْتَأْنِسُواْ } : يجوزُ أن يكونَ من الاستئناس؛ لأنَّ الطارِقَ يَسْتَوْحِشُ من أنه : هل يُؤْذن له أو لا؟ فيُزالُ استيحاشُه ، وهو رَدِيْفُ الاستئذانِ فَوُضِع موضعَه . وقيل : من الإِيناس وهو الإِبْصار أي : حتى تَسْتَكْشفوا الحالَ . وفسَّره ابن عباس « حتى تَسْتَأْذِنُوا » وليست قراءةً . وما يُنقل عنه أنه قال : « تستأنسوا خطأٌ من الكاتب ، إنما هون تستأذنوا » . . . . . منحولٌ عليه . وهو نظيرُ ما تقدَّم في الرعد { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } [ الرعد : 31 ] وقد تقدَّم القول فيه .
والاستِئْناسُ : الاسْتِعْلام ، قال :
3440 كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا ... يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَِدِ
وقيل : هو من الإِنْس بكسرِ الهمزةِ أي : يتعرَّفُ : هل فيها إنسِيُّ أم لا؟ وحكى الطبريُّ أنه بمعنى : وتُؤْنِسُوا أنفسَكم « .
قال ابنُ عطية : » وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ « .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

قوله : { أَن تَدْخُلُواْ } : أي : في أن تدخلوا . والجارُّ متعلِّقٌ بجُناح .

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

قوله : { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } : في « مِنْ » أوجهٌ ، أحدُها : أنها للتبعيضِ لأنَّه يعفى عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ . والثاني : لبيانٍ الجنسِ . قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً ب « مِنْ » . والثالث : أنها لابتداءِ الغاية . وقاله ابنُ عطية . والرابعُ : أنها مزيدةٌ . وهو قولُ الأخفشِ .

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

قوله : { وَلْيَضْرِبْنَ } : ضَمَّن « يَضْرِبْنَ » معنى يُلْقِيْنَ فلذلك عدَّاه ب « على » . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بكسرِ لامِ الأمرِ .
وقرأ طلحة « بخُمْرِهنَّ » بسكونِ الميمِ ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ تسكينِ المفردِ . وكَسَر الجيمَ مِنْ « جُيُوْبِهِنَّ » ابنُ كثير والأخَوان وابن ذَكْوان .
والغَضُّ : إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية . قال :
3441 فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ ... فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا
والخُمُر : جمع خِمار . وفي القلَّة يُجْمَعُ على « أَخْمِرَة » ، قال امرؤُ القيس :
3442 وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ ... كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ
والجَيْبُ : ما في طَوْقِ القميصِ ، يبدو منه بعضُ الجَسَدِ .
قوله : { غَيْرِ أُوْلِي } قرأ ابن عامر وأبو بكر « غيرَ » نصباً . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه استثناءٌ ، والثاني : أنَّه حالٌ ، والباقون « غيرِ » بالجرِّ نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً ، والإِرْبَةُ : الحاجةُ . وتقدَّم اشتقاقُها في طه .
قوله : { مِنَ الرجال } حالٌ من « أُولي » وأمَّا قولُه : « أو الطفلِ الذين » فقد تقدَّم في الحج أن « الطفلَ » يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع . وقيل : لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم : « أهلكَ الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ » .
و « عَوْرات » جمعُ عَوْرَة وهو : ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه ، وغَلَبَ في السَّوْءَتين . والعامَّةُ على « عَوْرات » بسكون الواوِ ، وهي لغةُ عامَّةِ العربِ ، سَكَّنوها تخفيفاً ، لحرفِ العلة . وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ « عَوَرات » بفتح العين . ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش . وهي لغةُ هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة . قال الفراء : « وأنشدَني بعضُهم :
3443 أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ ... رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وجعلها ابن مجاهد لحناً وخطأ ، يعني من طريق الرواية ، وإلاَّ فهي لغة ثابتة .
قوله : { أَيُّهَا المؤمنون } العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء ، وهي » ها « التي للتنبيه . وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف { ياأيها الساحر } [ الآية : 49 ] ، في الرحمن { أَيُّهَا الثقلان } [ الآية : 31 ] بضم الهاء وصلاً ، فإذا وَقَفَ سَكَّن . ووجْهُها : أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً . وقد رُسِمَتْ هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ . فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ ، والباقون بدونِها ، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ ، وثَبَتَتْ في غير هذه المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل ، نحو : { يَاأَيُّهَا الناس } [ البقرة : 21 ] ، { يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 153 ] وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ مُتَّبَعَةٌ .

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)

قوله : { الأيامى } : هو جمعُ « أيِّم » بزنةِ فَيْعِل . يُقال منه : آمَ يَئِيْم كباع يبيع قال الشاعر :
3444 كلُّ امرىءٍ سَتَئِيْمُ مِنْهُ ... العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ
وقياسُ جمعِه « أيائم » كسَيِّد وسِيائِد . و « أيامى » فيه وجهان ، أظهرُهما : من كلام سيبويه أنه جمعٌ على فعالى غيرَ مقلوبٍ وكذلك « يتامى » ، وقيل : إن الأصل أيايِم ويتايِم في : أيِّم ويتيم فقُلبا . والأَيِّم : مَنْ لا زوجَ له ذكراً كان أو أنثى . وخَصَّه أبو بكر الخَفَّافُ بمَنْ فَقَدَتْ زوجَها فإطلاقُه على البِكْر مجازٌ . و « منكم » حالٌ ، وكذا « مِنْ عبادِكم » .

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

قوله : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء . والخبرُ الجملةُ المقترنةُ بالفاء ، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط . ويجوز نصبه بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال . وهذا أرجحُ لمكان الأمر .
وقال الزمخشري : « وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما : إذا لم يتزوَّجا ، بِكْرين كانا أو ثِّيَبْن . قال :
3445 فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي ... وإن كنتُ أفتى منكمُ أتَأَيَّمُ
وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم : » اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة والأيمة والكَزَم والقَرَم « قلت : أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن ، وبالمعجمةِ شدةُ العطشِ . والأَيْمة : طول العُزْبَة ، والكَزَم : شدةُ شهوةِ الأكل . والقَرَمُ : شدةُ شهوةِ اللحم .
قوله : { عَلَى البغآء } » البغاء « مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً ، أي : زَنَتْ . وهو مختصٌّ بزِنى النساء . ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرداة .
قوله : { فِإِنَّ الله } جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط . والعائدُ على اسمِ الشرط محذوفٌ تقديرُه : غفور لهم . وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه ، وابن عطية ، وأبو البقاء : فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي : للمُكْرَهات ، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ . لا يُقال : إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ : مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ ، تقول : » هندٌ عجبْتُ مِنْ ضَرْبِها زيداً « فهذا جائزٌ ، ولو قلت : هندٌ عجبتُ مِنْ ضَرْبِ زيدٍ أي : من ضَرْبِها ، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً .
وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ » بهم « ورَجِّح تقديرَ » بهنَّ « فقال : » فيه وجهان ، أحدُهما : غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَلَ . والثاني : فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ . وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ « . وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ . ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ » لهنَّ « أورد سؤالاً فقال : » فإن قلتَ : لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزنى بخلاف المكرِه [ عليه في أنها ] غيرُ آثمةٍ . قلت : لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ . وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً « .

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

وتقدَّمَ الخلافُ في « مُبَيّنات » كسراً وفتحاً .
قوله : { وَمَثَلاً } عطفٌ على « آيات » أي : وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين قبلكم .

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

قوله : { الله نُورُ السماوات } : مبتدأٌ وخبرٌ : إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذو نورٍ السماوات . والمرادُ بالنور عَدْلُه . ويؤْيِّد هذا قولُه { مَثَلُ نُورِهِ } . وأضاف النورَ لهذين الظرفين : إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته ، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ ، وأنَّهم يَسْتضيئون به . ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم : فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها ، قال النابغة :
3446 فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ
وقال :
3447 قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : مُنَّوِّرُ السماواتِ . ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي « نَوَّرَ » فعلاً ماضياً . وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى ، و « السماواتِ » مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ . و « الأرضَ » بالنصبِ نَسَقٌ عليه . وفَسَّره الحسنُ فقال : الله مُنَوِّرُ السماوات .
قوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً . وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها . وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : كَمَثَلِ نورِ مشْكاة . قال الزمخشري : « أي : صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي : كصفةِ مِشْكاة » .
واختلفوا في الضمير في « نُوره » فقيل : هو للهِ تعالى ، وهو الأولى ، والمرادُ بالنورِ على هذا : الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ ، أو الإِيمان ، وقيل : إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به . وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها . وأعاد الضميرَ على ما قرأ به . وقيل : يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ . وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد . / قال مكي : « يُوْقَفَ على » الأرض « في هذه الأقوالِ الثلاثةِ » .
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ : أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي : قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه . وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي : قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في « نوره » .
والمِشْكاةُ : الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ . وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ . وقيل : هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل ، وتكون في جَوْفُ الزجاجة ، وقيل : هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه المصباحُ ، وقيل : ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ ، وأمال « المِشْكاة » الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ . ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة .
والمِصْباح : السِّراجُ الضخمُ . والزجاجةُ : واحدةٌ الزجاج ، وهو جوهرٌ معروفٌ . وفيه ثلاثُ لغاتٍ : فالضم لغةُ الحجاز ، وهو قراءةُ العامَّة ، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس .

وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلافُ في قوله « الزجاجةُ » .
والجملةُ مِنْ قوله : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } صفةُ ل « مِشْكاة » . ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ ، و « مصباحٌ » مرتفعٌ به فاعلاً .
قوله : { دُرِّيٌّ } ، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ . والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ ، وهذه الثلاثةُ في السبع ، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء . وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً « دَرِّيْء » بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ .
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو « سِكِّين » وفي الصفاتِ نحوِ « سِكِّير » .
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي : يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها ، قيل : ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا : إنها من السرور ، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل ، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس ، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً ، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة ، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ . وقال بعضهم : « وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس ، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة .
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً ، وأَدْغم ، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين ، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها .
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها ، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر . والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ .
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ . قال أبو الفتح : » وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين « . قلت : وقد حكى الأخفشُ : » فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار « و » كوكَبٌ دَرِّيْءٌ « مِنْ » دَرَاْتُه « .
قولِه : { يُوقَدُ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو » تَوَقَّدَ « بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح ، ولا يعودُ على » كوكب « لفسادِ المعنى . والأخوان وأبو بكر » تُوْقَدُ « بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ ، مضارعَ أَوْقَدَ . وهو مبنيٌّ للمفعولِ . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على » زجاجة « فاسْتَتَرَ في الفعل . وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ .

والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح .
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن ، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك ، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال ، جعله مضارع « تَوَقَّدَ » ، والأصلُ : تَتَوَقَّد بتاءَيْن ، فحُذِفَ إحداهما ك « تَذَكَّرُ » . والضميرُ أيضاً للزُّجاجة .
وقرأ عبد الله « وَقَّدَ » فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً ، أي : المصباح . وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً « يَوَقَّدُ » بالياء مِنْ تحتُ ، وضَمِّ الدال ، مضارعَ تَوَقَّدَ . والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ ، وتاءٍ مِنْ فوقُ ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ . هذا شاذٌ إذ لم يتوالَ مِثْلان ، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف ، بخلافِ « تَنَزَّلُ » و « تَذَكَّرُ » وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن ، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد . / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو : أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين ، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء .
قوله : { مِن شَجَرَةٍ } « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : مِنْ زيتِ شجرةٍ . وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما : أنَّها بدلٌ مِنْ « شجرةٍ » . الثاني : أنها عطفٌ بيان ، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ . وقد تقدَّم هذا في قوله { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] .
قوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ } صفةٌ ل « شَجَرة » ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ . وقرأ الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي : لا هي شرقيةٌ . والجملةُ أيضاً في محل جَرٍّ نعتاً ل « شَجَرة » .
قوله : { يَكَادُ } هذه الجملةُ أيضاً نعتُ ل « شجرةٍ » .
قوله : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } جوابُها محذوفٌ أي : لأضاءَتْ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه ، والجملةُ حاليةٌ . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه « رُدُّوا السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس » وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ : حتى في هذه الحال . وقرأ ابن عباس والحسن « يَمْسَسْه » بالياءِ لأنَّ المؤنَّثَ مجازيٌّ ، ولأنه قد فُصِلَ بالمفعولِ أيضاً .
قوله : { نُّورٌ على نُورٍ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : ذلك نورٌ . و « على نورٍ » صفةٌ ل « نور » .

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)

قوله : { فِي بُيُوتٍ } : فيها ستةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها صفةٌ ل « مِشْكاةٍ » أي : كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي : في بيتٍ من بيوتِ الله . الثاني : أنه صفةٌ لمصباح . الثالث : أنه صفةٌ ل « زجاجة » . الرابع : أنه متعلقٌّ ب « تُوْقَدُ » . وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على « عليم » . الخامس : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : يُسَبِّحونه في بيوت . السادس : أَنْ يتعلَّقَ ب « يُسَبِّحُ » أي : يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت . وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] . وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على « عليم » . وقال الشيخ : « وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ » ولم يُذْكر سوى قولين .
قوله : { أَذِنَ الله } في محلِّ جرٍّ صفةً ل « بيوتٍ » ، و « أن تُرفع » على حَذْفِ الجارِّ أي : في أَنْ تُرْفَعَ . ولا يجوزُ تَعَلُّقُ « في بيوت » بقوله : « ويُذْكَرُ » لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز « أَنْ » ، وما بعد « أَنْ » لا يتقدَّم عليها .
قوله : { يُسَبِّحُ } قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة . والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه ، والذي يليه أولى . و « رجالٌ » على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين : إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه ، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل : يُسَبِّحُه رجالٌ . وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر :
3448 لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ
كأنه قيل : مَنْ يبكيه؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ . إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً ، منهم مَنْ جَوَّزَه ، ومنهم مَنْ مَنعه . والوجهُ الثاني في البيت : أنَّ « يَزيدُ » منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي : يا يزيد ، وهو ضعيف جداً .
والثاني : أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : المُسَبِّحه رجالٌ . وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال .
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل . والفاعلُ « رجال » فلا يُوْقَفُ على الآصال .
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة « تُسَبِّح » بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ . وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء ، كقولهم : « صِيْد عليه يومان » أي : وَحْشُها . وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي : تُسَبَّح التسبيحةُ ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين ، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً { ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ] أي : ليجزى الجزاءُ قوماً ، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح .

رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)

قوله : { لاَّ تُلْهِيهِمْ } : في محلِّ رفعٍ صفةً ل « رجالٌ » .
قوله : { يَخَافُونَ } يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال ، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مفعول « تُلْهِيْهم » ، و « يوماً » مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر . و « يتقلَّبُ » صفةٌ ل يوماً .

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

قوله : { لِيَجْزِيَهُمُ } : يجوز تعلُّقُه ب « يُسَبِّح » أي : يُسَبِّحون لأجل الجزاء . ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ أي : فعلوا ذلك ليَجْزيهم . وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنه من بابِ الإِعمال فإنه قال : « والمعنى : يُسَبِّحونَ ، ويَخافون ليجزِيَهم ، ويكونُ على إعمالِ الثاني للحذف من الأول .
قوله : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي ثوابَ أحسنِ ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا . و » ما « مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)

قوله : { بِقِيعَةٍ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب . والثاني : أنَّه ظرفٌ . والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه . والسَّرابُ : ما يتراءى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ . وقيل : ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان . قال الشاعر :
3449 فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ
يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ . / وقيل : هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري . والقِيْعَةُ : بمعنى القاعِ . وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ . وقد تقدَّم في طه . وقيل : بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة .
وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة . وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء ، ويَقف عليها بالهاء . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه : « مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ » قاله صاحب « اللوامح » . والثاني : أنه جمع قِيْعَة ، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم : « الإِخْوةُ والأخواهْ ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ » أي : والأخوات ، والبنات ، والمَكْرُمات . وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع . الثالث قال الزمخشري : « وقولُ بعضِهم : بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة » فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً .
وقوله : { يَحْسَبُهُ الظمآن } جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً . وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ . هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً . والضمائرُ المرفوعةُ في « جاءَه » وفي « لم يَجِدْه » وفي « وَجَد » ، والضمائرُ في « عنده » وفي « وَفَّاه » وفي « حسابه » كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً . وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ . وقيل : بل الضميران في « جاءه » و « وجد » عائدان على الظمآن ، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر ، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه : { والذين كفروا } حَمْلاً على المعنى ، إذِ المعنى : كلُّ واحدٍ من الكفار . والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ .
وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع « الظَّمان » بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ .

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ } : فيه : أوجهٌ ، أحدها : أنه نَسَقٌ على « كسَراب » ، على حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه : أو كذي ظُلُمات . ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ المحذوفِ وهو قولُ أبي عليّ . الثاني : أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما : أو كأعمال ذي ظلمات ، فتُقَدِّر « ذي » ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } ، وتُقَدِّر « أعمال » ليَصِحَّ تشبيهُ أعمالِ الكفارِ بأعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ . الثالث : أنه لا حاجةَ إلى حَذْفٍ البتة . والمعنى : أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يَهْتدي به بالظُّلْمة . وأمَّا الضميران في « أَخْرج يَده » فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي : إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها .
و « أو » هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ . وقيل : بل هي للتخييرِ أي : شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا .
وقرأ سفيان بن حسين « أوَ كظٌلُمات » بفتح الواو ، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ . وقد تَقدَّم ذلك في قولِه : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] .
قوله : { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } : « في بحرٍ » صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ . كذا قال الزمخشري . وقال غيرُه : منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمه ، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ .
قوله : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ } صفةٌ أخرى ل « بَحْرٍ » هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في « يَغْشاه » على « بحرٍ » وهو الظاهر . وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي : أو كذي ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في « يَغْشاه » عائداً عليه ، وكانت الجملةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة ، أو صفةً له .
قوله : { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر ، صفةً ل « موجٌ » الأول . ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و « مَوْجٌ » فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ .
قوله : { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } فيه الوجهان المذكوران قبلَه : من كونِ الجملةِ صفةً ل « موج » الثاني ، أو الجارِّ فقط .
قوله : { ظُلُمَاتٌ } قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان ، أجودُهما : أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هذه ، أو تلك ظلمات . الثاني : أَنْ يكونَ « ظُلُمات » مبتدأً . والجملةُ من قولِه « بعضُها فوقَ بعض » خبرُه . ذكره الحوفي . وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ : إنها موصوفةً تقديراً ، أي : ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم : « السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم » .
وقرأ ابن كثير « ظلماتٍ » بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من « سَحاب » ، فقرأ البزي عنه « سحابُ ظلماتٍ » بإضافة « سَحابُ » ل « ظلمات » .

وروى قنبل عنه التنوينَ في « سَحابٌ » كالجماعة مع جرِّه ل « ظُلُماتٍ » . فأمَّا روايةُ البزي فقال أبو البقاء : / « جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ » ، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ « ظلماتٍ » بدلاً مِنْ « ظلماتٍ » الأولى .
قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في « ظلمات » قبلَها لأنها صفةٌ لها . وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع « ظلماتٌ » في « بعضُها » أن يكونَ بدلاً من « ظلمات » . ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ فوق بعضٍ وصفاً لها بالتراكم ، لا أنَّ المعنى : أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ ، من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ . وفيه نظرٌ؛ إذ لا فرقَ بين قولِك « بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض » ، وبين قولك « الظلماتُ بعضُها فوقَ بعضٍ » وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ .
وقد تقدَّم الكلامُ في « كاد » ، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ . وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه . وقال الزمخشري هنا : « لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي : لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها . ومنه قولُ ذي الرمة :
3450 إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ ... رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أي : لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ » . وقال أبوة البقاء : « أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ . ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه : أنَّ موضوعَ » كاد « إذا نُفِيَتْ : وقوعُ الفعلِ . وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى : أنَّه لا يرى يدَه ، فعلى هذا : في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ التقديرَ : لم يَرَها ولم يَكَدْ ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين . وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه » لم يَرَها « جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله : » لم يَكَدْ « إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ : ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية . فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها ، وأنه رآها بعد جُهْدٍ ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها ، وإنْ كان معنى » لم يكَدْ يَراها « : لم يَرَها البتةَ على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب ، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها . والوجه الثاني : أنَّ » كاد « زائدةٌ وهو بعيدٌ . والثالث : أنَّ » كاد « أُخْرِجَتْ ههنا على معنى » قارب « والمعنى : لم يقارِبْ رؤيتَها ، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها .

وعليه جاء قولُ ذي الرمة :
إذا غَيَّر النَّأْيُ . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . أي : لم يقارِبِ البَراحَ . ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا رُوْجِع في هذا البيت قال : لم أجِدْ بدل « لم يَكَدْ » . والمعنى الثاني : أنَّه رآها بعد جُهْدٍ . والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها « انتهى .
أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ : مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً ، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة . وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو :
3451 أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيتين . وأمَّا [ ما ] ذكره مِنْ زيادةِ » كاد « فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه ، ولكنه مردودٌ عندَهم . وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني : وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ فهو مذهبُ الفراء والمبرد . والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟
وقال ابنُ عطية ما معناه : » إذا كان الفعلُ بعد « كاد » منفياً دَلَّ على ثبوتِه نحو : كاد زيدٌ لا يقوم ، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو : « كاد زيد يقوم » وإذا تقدَّم النفيُ على « كاد » احتمل أن يكونَ مُوْجَباً ، وأَنْ يكونَ منفياً . تقول : « المفلوج لا يَكاد يَسْكُن » فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ . وتقول : رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن ، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد « .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)

قوله : { والطير } : قرأ العامَّةُ « والطيرُ » رفعاً . « صافاتٍ » نصباً : فالرفعُ عطفٌ على « مَنْ » والنصبُ على الحال . وقرأ الأعرج « والطيرَ » نصباً على المفعولِ معه و « صافَّاتٍ » حالٌ أيضاً . وقرأ الحسن وخارجة عن نافع « والطيرُ صافَّاتٌ » برفعِهما على الابتداءِ والخبر . ومفعولُ « صافَّاتٌ » محذوفٌ أي : أجنحَتَها .
قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ } في هذه الضمائرِ أقوالٌ ، أحدُها : أنَّها كلَّها عائدةٌ على « كل » أي : كلٌّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها . وهذا/ أولى لتوافُقِ الضمائر . والثاني : أنَّ الضميرَ في « عَلِمَ » عائدٌ على اللهِ تعالى ، وفي « صلاتَه وتسبيحَه » عائدٌ على « كل » . الثالث : بالعكس أي : عَلِمَ كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي : أَمَرَ بهما ، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى الخالق .
ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ « كل » قال : « لأنَّ القراءة برفع » كلٌّ « على الابتداء ، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه ، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ » كل « لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها ، فيَصيرُ كقولك : » زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه « فتنصِبُ » زيداً « بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز » . قلت : وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ ، ولا في هذه السورة ، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب ، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ ، والرفعُ لا يُحْوج إليه ، فكانَ أرجحَ .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)

قوله : { بَيْنَهُ } : إنما دخلَتْ « بينَ » على مفردٍ وهي إنما تَدْخُلُ على المثَّنى فما فوقَه لأنه : إمَّا أَنْ يُرادَ بالسحاب الجنسُ فعاد الضميرُ عليه على حكمِه ، وإمَّا أَنْ يُرادَ حَذْفُ مضافٍ أي : بين قِطَعِه ، فإنَّ كلَّ قطعةٍ سَحابةٌ .
قوله : { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } تقدَّم الخلافُ في « خِلال » هل هو مفرد كحِجاب أم جمعٌ كجِبال جمع جَبَل؟ ويؤيِّد الأولَ قراءةُ ابنِ مسعودٍ والضحاكِ ، ويروى عن أبي عمروٍ أيضاً « مِنْ خَلَلِه » بالإِفرادِ .
والوَدْقُ قيلأ : هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً . قال :
3452 فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقيل : هو البَرْقُ . وأَنْشد :
3453 أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها ... خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ
والوَدْقُ في الأصل : مصدرٌ يقال : وَدَقَ السحابُ يَدِقُ وَدْقاً و « يَخْرجُ » حالٌ لأنها بَصَرية .
قوله : { مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } « مِن » الأولى لابتداء الغايةِ اتفاقاً . وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل . والتقدير : ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي : من جبالٍ فيها ، فهو بدل اشتمالٍ . الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري وابنُ عطية . فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ الإِنزالِ كأنه قال : ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ . الثالثَ : أنها زائدة أي : يُنَزِّل من السماءِ جبالاً . وقال الحوفيُّ : « مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى » . ثم قال : « وهي للتبعيضِ » .
ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً . لو قلت : « خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ » لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية .
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ : الثلاثةُ المتقدمةُ . والرابع : أنها لبيانِ الجنسِ . قاله الحوفي والزمخشري ، فيكون التقديرُ على قولِهما : ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ . ومفعولُ « يُنَزِّلُ » هو « مِنْ جبال » كما تقدَّمَ تقريرُه . وقال الزمخشري : « أو الأَوْلَيان للابتداء ، والثالثةُ للتبعيض » قلت : يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه ، وحنيئذ يكون مفعول « يُنَزِّل » هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه : ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها . وإذا قيل : بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ ، والثاني بدلٌ من الأول ، والتقدير : ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً ، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً ل « يُنَزِّل » ، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء ، وخبرُه الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ . الأولُ قولُ الأخفشِ ، والثاني قولُ الفراءِ . وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً ل « جبال » ، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ ، أو بالنصبِ اعتباراً بالمَحَلِّ .

ويجوزُ أن يكونَ « فيها » وحدَه هو الوصفَ ، ويكون « مِنْ بَرَدٍ » فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي : استقرَّ فيها .
وقال الزَّجاج : « معناه : ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ : » هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ « أي : خاتم حديدٍ في يدي . وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب » مِنْ « لمَّا فرَّقْتَ ، ولأنَّك إذا قلت : هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً » انتهى . فيكونُ « مِنْ بَرَدٍ » في موضعِ جَرٍّ صفةً/ ل « جبال » ، كما كان « من حديد » صفةً ل « خاتم » ، ويكونُ مفعولُ « يُنَزِّل » « من جبال » . ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً .
وقال أبو البقاء : « والوجه الثاني : أنَّ التقدير : شيئاً من جبالٍ ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ . وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه { فِيهَا مِن بَرَدٍ } يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه ، فيكونُ تقديرُه : ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ . وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه » . وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء ، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه ، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء . وقوله آخراً : « وتَقْديرٌ مستغنى عنه » ، وينافي قولَه : « وهذا الوجه هو الصحيح » . والضميرُ في « به » يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً ، جرياً بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ . كأنه قيل : فَيُصيب بذلك ، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ .
قوله : { سَنَا بَرْقِهِ } العامَّةُ على قَصْر « سَنا » وهو الضَّوْءُ ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ ، يُقال : سَنا يَسْنُو سَناً . أي : أضاءَ يُضيْءُ . قال امرؤُ القيس :
3454 يضيءُ سَناه ، أو مصابيحُ راهِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والسَّنا بالمدِّ : الرِفْعَةُ . قال :
3455 وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ ابنُ وثَّاب « سَناءُ بُرَقِه » بالمدِّ ، وبضمِّ الباء مِنْ « بُرَقِه » وفتح الراء . ورُوي عنه ضَمُّ الراءِ أيضاً . فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه المحسوسََ من البرقِ لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ . وأمَّا « بُرَقِه » فجمعُ بُرْقَة ، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب . وأمَّا ضمُّ الراءِ فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعاً لضم الظاء . وإنْ كان أصلُها السكونَ .
وقرأ العامَّة أيضاً « يَذْهَبُ » بفتح الياء والهاء . وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ . وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا : « لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة » .
وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر { تُنْبِتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] من أنَّ الباء مزيدةٌ ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ ، والباءُ بمعنى « مِنْ » تقديرُه : يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه :
3456 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)

قوله : { مِّن مَّآءٍ } : فيها وجهان . أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ ب « خَلَق » أي : خَلَقَ مِنْ ماءٍ كلَّ دابة . و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . وعلى هذا فيُقال : وُجِدَ من الدوابِّ ما لم يُخْلَقْ مِنْ ماءٍ كآدمَ فإنه مِنْ تراب ، وعيسى فإنَّه مِنْ رُوحٍ ، والملائكةِ فإنَّهم مِنْ نُور ، والجِنِّ فإنهم مِنْ نارٍ . وأُجيب بأنَّ الأمرَ الغالِبَ ذلك . وفيه نظرٌ فإنَّ الملائكةَ أَضعافُ الحيوان ، والجنَّ أيضاً أضعافُهم . وقيل : لأنَّ الحيوانَ لا يَعيش [ إلاَّ ] به ، فجُعِل منه لذلك ، وإن كان لنا من الحيوانِ ما لا يَحْتاج إلى الماءِ البتة ، ومنه الضبُّ .
وقيل : جاء في التفسير : أنه كان خَلَق في الأولِ جوهرة فنظرَ إليها فذابَتْ ماء ، فمنها خَلَق ذلك . والثاني : أنَّ « مِنْ » متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « دابَّة » والمعنى : الإِخبارُ بأنه خَلَق كلَّ دابةٍ كائنةٍ من الماء ، أي : كلُّ دابة من ماءٍ هي مخلوقةٌ للهِ تعالى . قاله القفَّال .
ونكَّر « ماء » وعَرَّفه في قوله : { مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] لأنَّ المقصودَ هنا التنويعُ .
قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي } إلى آخره . إنما أَطْلَقَ « مَنْ » على غيرِ العاقلِ لاختلاطِه بالعاقلِ في المفصَّل ب « مَنْ » وهو « كلَّ دابة » ، وكان التعبيرُ ب « مَنْ » أولى لِتَوافُقِ اللفظِ . وقيل : لمَّا وصفَهم بما يُوصف به العقلاء وهو المَشْيُ أَطْلق عليها « مَنْ » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذه الصفةَ ليسَتْ خاصةً بالعقلاء ، بخلافِ قولِه تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] . [ وقوله : ]
3457 . . . . . . . . . . . . . . هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه ... لَعَلِّي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في { خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } في سورة إبراهيم . واستعير المَشْيُ للزَحْفِ على البطنِ ، كما استُعير المِشْفَرُ للشَّّفَةِ وبالعكسِ .

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)

قوله : { لِيَحْكُمَ } : أفردَ الضميرَ وقد تقدَّمه اسمان وهما : اللهُ ورسوله ، فهو كقولِه تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] [ لأنَّ ] حكمَ رسولِه هو حكمُه . قال الزمخشري : « كقولك : » أعجبني زيدٌ وكَرَمَهُ « أي : كرمُ زيدٍ/ ومنه :
3458 ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ ... غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ
أي : قبل فُرَّط القَطا ، يعني قبل تقدُّمِ القطا .
وقرأ أبو جعفرٍ » ليُحْكَمَ بينَهم « هنا والتي بعدَها مبنياً للمفعولِ ، والظرفُ قائمٌ مقامَ الفاعل .
قوله : { إِذَا فَرِيقٌ } » إذا « هي الفجائيةُ . وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها . وهي جوابُ » إذا « الشرطيةِ أولاً . وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في » إذا « الشرطيةِ جوابُها؛ فإنَّ ما بعدَ الفجائيةِ لا يَعْمَلُ فيما قبلها ، كذا ذكره الشيخ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا ، وجوابُ الجمهور عنه .

وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)

قوله : { إِلَيْهِ } : يجوزُ تعلُّقُه ب « يَأْتُوا » لأنَّ أتى وجاء قد جاءا مُعَدَّيَيْنِ ب « إلى » . ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب « مُذْعِنين »؛ لأنه بمعنى مُسرِعين في الطاعة . وصَحَّحَه الزمخشري قال : « لِتقدُّم صلتِه ودلالتِه على الاختصاص » . و « مُذعِنين » حالٌ . والإِذْعان : الانقيادُ يُقال : أَذْعَنَ فلانٌ لفِلان أي : انقادَ له . وقال الزجاج : « الإِذعانُ الإِسْراعُ مع الطاعةِ » .

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

قوله : { أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ } : « أَمْ » فيهما منقطعٌ ، تتقدَّرُ عند الجمهورِ بحرفِ الإِضراب وهمزةِ الاستفهامِ . تقديرُه : بل ارْتابوا ، بل أيخافون . ومعنى الاستفهام هنام التقريرُ والتوقيفُ ، ويُبالَغُ به تارةً في الذمِّ كقوله :
3459 ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا ... على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ الدهر
وتارةً في المدح كقولِ جرير :
3460 أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا ... وأندى العالمينَ بُطونَ راحِ
و [ قوله ] : { أَن يَحِيفَ } مفعول الخوف . والحَيْفُ : المَيْلُ والجَوْرُ في القضاءِ .
يقال : حاف في قضائِه أي : مال .

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)

قوله : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } : العامَّةُ على نصبِه خبراً ل كان ، والاسمُ « أنْ » المصدريةُ وما بعدَها . وقرأ أمير المؤمنين والحسنُ وابن أبي إسحاق برفعِه على أنه الاسمُ و « أَنْ » وما في حيِّزها الخبرُ . وهي عندهم مَرْجوحةٌ؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأَوْلى جَعْلُ الأعرفِ الاسمَ ، وإنْ كان سيبويه خَيَّر في ذلك بين كلِّ معرفتين ، ولم يُفَرِّق هذه التفرقةَ . وقد تَقَدَّم تحقيقُ هذا في آل عمران .

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)

قوله : { وَيَتَّقْهِ } : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين : الأُولى تسكينُ القافِ ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ : الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً ، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي . الثانيةُ : تسكينُها قولاً واحداً . وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم . الثالثةُ : إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ . الرابعةُ : تحريكها من غير صلةٍ . وبها قرأ قالون وحفص . الخامسةُ : تحريكُها موصولةً أو مقصورةً . وبها قرأ هشامٌ .
فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ من هذا التصنيفِ . وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ : وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون : كَبْد وكَتْف وصَبْر في : كَبِد وكَتِف وصَبِر ، لأنها كلمةٌ واحدة ، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مجرى المتصل؛ فإنَّ « يَتَّقْهِ » صار منه « تَقِهِ » بمنزلة « كَتِف » فَسُكِّن كما تُسَكَّن . ومنه :
3461 قالَتْ سليمى اشْتَرْ لنا سَوِيقا ... بسكونِ الراءِ ، كما سَكَّن الآخرُ :
3462 فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا ... والآخر :
3463 عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان
يريد : مُنْتَصِباً ، ولم يَلِدْه . وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله : { فَهِيَ كالحجارة } [ الآية : 74 ] ، وهي وهو ونحوها .
وقال مكي : « كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها ، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو : مِنْهُ وعَنْهُ . ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به ، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ ، ولم يَصِلْها بياءٍ ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه » . وقال الفارسي : « الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين ، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه ، ولمَّا أُجْرِيَ » تَقْهِ « مجرى » كَتْف « وسكَّن القافَ التقى ساكنان ، ولَمَّا التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما : فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني . لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما . وأصلُ التقاءِ الساكنين [ الكسر ] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . لم يَلْدَه أَبَوانِ
وذلك أنَّ أصلَه » لَمْ يلِده « بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان ، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه ، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ .
وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول : » لا يَصِحُّ قولُه : إنه كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط « .

وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال : « وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في » أَرْجِهْ « و » فَأَلْقِهْ « وإذا قرأه في » أَرْجِهْ « و » فَأَلْقِهْ « احتمل أن يَكونَ » يَتَّقْهِ « عنده قبل سكون القاف كذلك ، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف » .
قلت : لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط ، الهاء من حيث هي هي ، وإنما عَنَى هاءَ « يَتَّقْهِ » بخصوصِها . وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ : « تعليلُه حَذْفَ الصلةِ : بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه ، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ » يُؤَدِّهي « وشبهِه بالصلة ، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها . قال أبو عبد الله : » وهو وإنْ قَرَأ « يؤدِّهي » وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ « يَرْضَهُ » بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي « يَتَّقْهِ » ب « يَرْضَهُ » وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين . وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه . وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه « يَتَّقِهِ » بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه ، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما . والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به ، لا على ما قَلَّ ونَدَر ، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

قوله : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ « أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين » : أُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْداً ، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى المفعولِ ك { َضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] ، قاله الزمخشري . والثاني أنه حالٌ تقديرُه : مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم : أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك . وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه : « وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل : جاهدين أَيْمانَهم » . وقد تقدَّم الكلامُ على { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } [ الآية : 53 ] في المائدة .
قوله : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ . الثاني : أنها مبتدأٌ ، والخبرُ محذوفٌ أي : أَمْثَلُ ، أو أولى . وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه : { صَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله :
3464 فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ ... وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ
على خلافٍ في ذلك . والثالث : أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي : ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ . واستُضْعِفَ ذلك : بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا تَقَدَّم مُشْعِرٌ به كقوله : { يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ] . / في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي : يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ : « بلى زيدٌ » لمَنْ قال : لم يقم أحدٌ ، أو استفهامٌ كقوله :
3465 ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ ... بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ
والعامَّةُ على رفعِ « طاعةٌ » على ما تقدَّم . وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ ، وهو الأصلُ . قال أبو البقاء « ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ جائزاً في العربية ، وذلك على المصدرِ أي : أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً . وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها { قُلْ أَطِيعُواْ الله } . قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه . وأمَّا قولُه : و { قُولُواْ قَوْلاً } فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [ محمد : 21 ] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ .

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ ماضياً ، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين . ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة . وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه . والأصل : تَتَوَلَّوْا . ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء : « فإنْ تَّوَلَّوْا » وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما . ويُرَجِّحه أيضاً الخطابُ في قولِه : { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } . ودعوى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانياً بعيدٌ .

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

قوله : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } : فيه وجهان ، أحدُهما : هو جوابُ قسمِ مضمرٍ أي : أُقْسِم لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ويكونُ مفعولُ الوعدِ محذوفاً تقديرُه : وَعَدَهم الاستخلافَ لدلالةِ قوله : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } عليه . والثاني : أَنْ يجريَ « وعد » مَجْرى القسمِ لتحقُّقِه ، فلذلك أُجيب بما يُجاب به القَسَمُ .
قوله : { كَمَا استخلف } أي : استخلافاً كاستخلافهم . والعامَّةُ على بناء « اسْتَخْلَفَ » للفاعل . وأبو بكر بناه للمفعول . فالموصولُ منصوبٌ على الأول ، ومرفوعٌ على الثاني .
قوله : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ } قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ « ولَيُبْدِلَنَّهم » بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ « أَبْدَلَ » . وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في قولِه : { أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] .
قوله : { يَعْبُدُونَنِي } فيه سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مستأنفٌ أي : جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل : ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل : يَعْبُدونني . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هم يعبدونني . والجملةُ أيضاً استئنافيةٌ تقتضي المدحَ . الثالث : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ « وَعَدَ اللهُ » . الرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعولُ « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » . الخامس : أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه . السادس : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعولِ « لَيُبَدِّلَنَّهُمْ » . السابع : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه .
قوله : { لاَ يُشْرِكُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « يَعْبُدُونَنِي » أي : يَعْبُدونني مُوَحِّدين ، وأن يكونَ بدلاً من الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها .

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)

قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } : فيه وجهان . أحدُهما : أنه معطوفٌ على { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ الآية : 54 ] . وليس ببعيدٍ أن يقعَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصلٌ وإنْ طال؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غيرَ المعطوفِ عليه . قاله الزمخشري . قلت : وقولُه : « لأنَّ حَقَّ المعطوفِ » إلى أخره لا يَظْهَرُ علةً للحكمِ الذي ادَّعاه . والثاني : أنَّ قولَه { وَأَقِيمُواْ } من بابِ الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ . وحَسَّنَهُ الخطابُ في قولِه قبل ذلك « منكم » .

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ } : قرأ العامَّة « لا تَحْسَبنَّ » بتاءِ الخطابِ . والفاعلُ ضميرُ المخاطبِ أي : لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ . ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه للرسولِ عليه السلام؛ لأنَّ/ مِثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى ينهى عنه . وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ « لا يَحْسَبَنَّ » بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة . فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي : لا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ أو أحدٌ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه . ولكنه ضعيفٌ للمعنى المتقدِّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء . قال النحاس : « ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلاَّ وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ ، فمنهم مَنْ يقولُ : هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلاَّ بمفعولٍ واحدٍ ل » يَحْسَبَنَّ « .
وقال الفراء : » هو ضعيفٌ « وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني . التقديرُ : » لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين « قلت : وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ » الذين « فاعلٌ ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو » معجزين « ، فلذلك قالوا ما قالوا . والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم ، أو على ما يُفْهَمُ من السياق ، كما سَبَقَ تحريرُه . الثاني : أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه : لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجزين . إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين . ومنه قولُ عنترةَ :
3466 ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه ... مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : لا تظني غيرَه واقعاً . ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال : » وأن يكونَ الأصلُ : لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين ، ثم حُذِف الضميرُ الذي هو المفعولُ الأول . وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن لَمَّا كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث « فقَدَّرَ المفعولَ الأول ضميراً متصلاً . قال الشيخ : » وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ عمران في قولِه : { لاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } في قراءةِ مَنْ قرأه بالغَيْبة ، وجَعَل الفاعلَ « الذين يَفْرحون » . وملخَّصُه : أن هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر « لا يَحْسَبَنَّهم » إذ لا يجوزُ : « ظَنَّه زيدٌ قائماً » على رَفْعِ « زيدٌ » ب « ظنَّه » قلت : وقد تقدَّم في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه .
الثالث : أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه : { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } قاله الكوفيون . ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال : « والمعنى : لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك . وهذا معنىً قويٌّ جيد » .

قلت : قيل : هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في « الأرض » ب « مُعْجِزين » فجعله مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه ، وهو نظيرُ : « ظَنَنْتُ قائماً في الدار » .
قوله : { وَمَأْوَاهُمُ النار } فيه ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض ، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً . وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه . الثاني : أنَّها معطوفةٌ عليها ، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ . والتقدير : الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار . قاله الزمخشري . كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ . هذا ظاهرُ حالِه . الثالث : أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ .
قال الجرجاني : « لا يُحتمل أَنْ يكونَ » ومَأْواهم « متصلاً بقولهِ : » لا تَحْسَبَنَّ ذاك « أي : وهذا إيجابٌ فهو إذن معطوفٌ بالواو على مضمرٍ قبلَه تقديرُه : لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا مُعْجِزين في الأرضِ بل هم مقهورون ، ومَأْواهم النار » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

قوله : { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي : ثلاثةَ أوقاتٍ ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله : { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ } { وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء } . والثاني : أنه منصوبٌ على المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ . ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/ : « والظاهرُ مِنْ قوله » ثلاثَ مرات « . ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ : ضربْتُ ثلاثَ مراتٍ لا تفْهَمُ منه إلاَّ ثلاثَ ضَرَبات . ويؤيِّده قولُه عليه السلام : » الاستئذانُ ثلاث « قلت : مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا ، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ . وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية » الحُلْمَ « بسكونِ العينِ وهي تميميةٌ .
قوله : { مِّن قَبْلِ صلاوة } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ قوله » ثلاث « فتكونُ في محلِّ نصبٍ . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ » عورات « فيكونُ في محلِّ جر . الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي من قبلِ أي : تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ .
قوله : { مِّنَ الظهيرة } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما : أنَّ » مِنْ « لبيانِ الجنس أي : حين ذلك الذي هو الظهيرةُ . الثاني : أنها بمعنى » في « أي تَضَعُونها في الظهيرةِ . الثالث : أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ . وأمَّا قولُه : { وَحِينَ تَضَعُونَ } فعطفٌ على محلِّ { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر } ، وقوله : { وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء } عطفٌ على ما قبلَه ، والظَّهيرةُ : شِدَّةُ الحَرِّ ، وهو انتصافُ النهارِ .
قوله : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } قرأ الأخَوان وأبو بكر » ثلاثَ « نصباً . والباقون رفعاً . فالأولى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله : { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } . قال ابن عطية : » إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ : أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه « ، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء . ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً ، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ . وعلى هذا الوجهِ أعني وجهَ البدل لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له ، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه .
الثاني : أنَّ { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء . يعني قولَه : { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر } وما عُطِفَ عليه ، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ .
الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ . فقَدَّره أبو البقاء أعني . وأَحْسَنُ من هذا التقديرِ » اتَّقوا « أو » احْذروا « ثلاثَ .
وأمَّا الثانية ف » ثلاثُ « خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ . وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال : » أي : هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ « . قلت : وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه .

قال الزمخشري : « وسمى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها . والعَوْرَةُ : الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ ، وأَعْوَرَ المكانُ . والأَعْوَرُ : المختلُّ العينِ » فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ ، مضافةً ل « عَوْراتٍ » بخلافِ كلامِه أولاً . فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان ، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقف على ما قبلَ { ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ } لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها .
وقرأ الأعمش « عَوَرات » وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم : يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ :
3467 أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ ... رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ
قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل : هُنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ ، بل هي كلامٌ مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً ، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب « ثلاثَ عَوْراتٍ » .
قوله : { بَعْدَهُنَّ } قال أبو البقاء : « التقديرُ : بعد استئذانِهم فيهنَّ ، ثم حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ ، فبقي : بعد استئذانِهم ، ثم حَذَفَ المصدرَ » يعني بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر . وهذا غيرُ ظاهرٍ ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنى : ليس عليكم جناحٌ . ولا عليهم أي : العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ ، ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره .
قوله : { طوافون } خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هم طَوَّافون ، و « عليكم » متعلِّقٌ به .
قوله : { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } في « بعضُكم » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، و « على بعض » الخبرُ ، فقدَّره أبو البقاء « يَطُوْفُ على بعض » . وتكونُ هذه الجملةُ بدلاً مِمَّا قبلها . ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة . يعني : أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً ، أو مؤكِّدةَ . ورَدَّ الشيخ هذا : بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه . والجوابُ عنه : أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه ، وهنا عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ الجارِّ مُقامَه ، ولذلك قال الزمخشري : « خبرُه » على بعض « ، على معنى : طائف على بعض ، وحُذِفَ لدلالةِ » طَوَّافون « عليه » .
الثاني : أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ « طوَّافون » قاله ابن عطية . قال الشيخ : « ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ » هم « لأنَّه يصيرُ التقديرُ : هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ ، وهو لا يَصِحُّ . فإنْ جَعَلْتَ التقدير : أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ ، فيدفَعُه أنَّ قولَه » عليكم « يَدُلُّ على أنهم هم المَطُوفُ عليهم ، و » أنتم طَوَّافون « يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا » .

قلت : نختار أنَّ التقديرَ : أنتم ، ولا يلزَمُ محذورٌ . قوله : « فيدفعه إلى آخره » لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنى : كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه ، وإن كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ ، ويكونُ « بعضُكم » بدلاً من « طَوَّافون » وقيل : « بعضُ » بدلٌ مِنْ « عليكم » بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ ، ومجروراً من مجرور . ونظيرُه قولُ الشاعرِ :
3468 فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه ... ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا
ف « بعضُه » بدلُ من « النبعَ » المنصوب ، و « ببعض » بدلٌ من المجرورِ بالباء .
الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي : يطوفُ بعضُكم على بعضٍ ، حُذِفَ لدلالةِ « طَوَّافون » عليه . قاله الزمخشري .
وقرأ ابن أبي عبلة « طوَّافين » بالنصبِ على الحال من ضميرِ « عليهم » .

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

قوله : { والقواعد } : جمع « قاعِد » من غيرِ تاءِ تأنيثٍ . ومعناه : القواعدُ عن النكاحِ ، أو عن الحيضِ ، أو عن الاستمتاعِ ، أو عن الحَبَل ، أو عن الجميع . ولولا تَخَصُّصُهُنَّ بذلك لوَجَبَتِ التاءُ نَحو : ضارِبة وقاعِدة من القعود المعروف . وقوله : { مِنَ النسآء } وما بعدَه بيانٌ لهن و « القواعدُ » مبتدأٌ . و « من النساء » حالٌ و « اللاتي » صفةٌ للقواعد لا للنساء . وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ } الجملةُ خبرُ المبتدأ ، وإنما دَخَلَتْ لأَنْ المبتدأَ موصوفٌ بموصول ، لو كان ذلك الموصولُ مبتدأً لجاز دخولُها في خبرِه ، ولذلك مَنَعْتُ أَنْ تكونَ « اللاتي » صفةً للنساء؛ إذ لا يبقى مسوِّغٌ لدخولِ الفاءِ في خبر المبتدأ . وقال أبو البقاء : « ودَخَلَتْ الفاءُ لِما في المبتدأ من معنى الشرطِ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ بمعنى الذي » . وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقُه في المائدة . ولكن هنا ما يُغْني عن ذلك : وهو ما ذَكَرْتُه من وصفِ المبتدأ بالموصولِ المذكورِ .
و { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ } حالٌ مِنْ « عليهنَّ » . والتبرُّجُ : الظهورُ ، مِن البُرْج : وهو البناءُ الظاهرُ . و « بزينةٍ » متعلقٌ به .
قوله : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } مبتدأٌ بتأويل : استعفافُهن ، و « خيرٌ » خبرُه .

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } : العامةُ على فتح/ الميمِ ، واللامُ مخففةٌ . وابن جبير « مُلِّكْتُم » بضمِ الميمِ وكسرِ اللامِ مشددةً أي : مَلَّككم غيرُكم . والعامَّةُ علكى « مفاتحَه » دونَ ياءٍ جمع مِفْتَح . وجَوَّز أبو البقاء أن يكون جمع « مِفْتَح » بالكسرِ وهو الآلةُ ، وأن يكون جمعَ « مَفْتح » بالفتح وهو المصدر . بمعنى الفتح . وابن جبير « مفاتيحَه » بالياء بعد التاء جمع مِفْتاح . والأولُ أقيسُ . وقرأ أبو عمرو في روايةِ هارونَ عنه « مِفتْاحَه » بالإِفراد وهي قراءةُ قتادة .
قوله : { أوْ صَدِيقِكُمْ } العامَّةُ على فتحِ الصادِ . وحميد الخزاز روى كسرَها إتْباعاً لكسرةِ الدال . والصَّدِيْق يقع للواحِد والجمع كالخَليط والقَطِين وشِبْهِهما .
قوله : { جَمِيعاً } حالٌ من « تَأْكُلوا » ، و « أَشْتاتاً » عطفٌ عليه وهو جمعُ شَتّ .
قوله : { تَحِيَّةً } منصوبٌ على المصدرِ مِنْ معنى « فسَلِّموا » فهو من بابِ قَعَدْتُ جُلوساً . وقد تقدَّم وزن التحيَّة . و { مِّنْ عِندِ الله } يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل « تحيةً » ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ « تحيِّة » أي : التحية صادرةً من جهةِ الله . و « مِنْ » لابتداء الغايةِ مجازاً ، إلاَّ أنه يُعَكِّر على الوصفِ تأخُّرُ الصفةِ الصريحةِ عن المُؤَولةِ . وقد تقدَّم ما فيه .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

قوله : { على أَمْرٍ جَامِعٍ } : « جامع » مِن الإِسنادِ المجازيِّ؛ لأنَّه لَمَّا كان سبباً في جَمْعِهم نُسِبَ الفعلُ إليه مجازاً . وقرأ اليمانيُّ « على أَمْرٍ جميعٍ » فيُحتمل أَنْ تكونَ صيغةَ مبالغةٍ بمعنى مُجَمِّع ، وأَنْ لا تكونَ . والجملةُ الشرطيةُ مِنْ قولِه : { وَإِذَا كَانُواْ } وجوابِها عطفٌ على الصلةِ مِنْ قوله : « آمَنوا » .
قوله : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } تعليلٌ أي : لأجلِ بعضِ حاجتِهم . وأظهر العامَّةُ الضادَ عند الشينِ ، وأدغَمها أبو عمرٍو فيها لِما بينهما من التقارُبِ؛ لأنَّ الضادَ من أقصى حافةِ اللسانِ ، والشينَ مِنْ وسَطِه . وقد اسْتَضْعَفَ جماعةٌ من النَّحَويين هذه الروايةَ واسْتَبْعدوها عن أبي عمرٍو رأسِ الصناعةِ من حيث إن الضادَ أقوى من الشين ، ولا يُدْغم الأقوى في الأضعف . وأساء الزمخشري على راويها السوسي .
وقد أجاب الناس فقال : « وجهُ الإِدغامِ أن الشينَ أشدُّ استطالةً من الضادِ ، وفيها نَفَسٌ ليس في الضادِ ، فقد صارَتِ الضادُ أنقصَ منها ، وإدغامُ الأنقصِ في الأَزْيد جائزٌ » . قال : « ويؤيِّد هذا أن سيبويه حكى عن بعضِ العرب » اطَّجَعَ « في » اضْطجع « ، وإذا جاز إدغامُها في الطاءِ فإدغامُها في الشين أَوْلى » . والخَصْمُ لا يُسَلِّمُ جميعَ ما ذُكِرَ ، وسَنَدُ المَنْعِ واضحٌ .

لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

قوله : { دُعَآءَ الرسول } : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لمفعولِه أي : دعاءَكم الرسولَ بمعنى : أنَّكم لا تنادُوه باسمِه فتقولون : يا محمدُ ، ولابكُنيته فتقولون : يا أبا القاسمِ ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير : يا رسولَ الله يا نبيَّ الله . وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل . واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل : لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤُون عنه ، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ ، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه . واختاره أبو العباس ، ويؤيِّدُه قوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } . وقيل : معناه لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم ، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله حاجةً ، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه ، ورُبَّما لا تُجاب . وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه السلام مسموعةٌ مستجابةٌ . . . في التخريجةِ الأخرى .
وقرأ الحسنُ « نَبِيِّكم » بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ [ بعدَها ] ياءٌ مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ « بينَكم » الظرفِ في قراءة العامَّة . وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه بدلٌ من الرسول . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ [ رسولٌ ] ، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول . الثالث : أنَّه نعتٌ . لا يُقال : إنَّه لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ مِنَ المنعوتِ . بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَماً بالغَلَبةِ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد تَسَاويا تعريفاً .
قوله : { قَدْ يَعْلَمُ الله } قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلاَّ في أفعالِ اللهِ تعالى ، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ . وقد رَدَّها بعضُهم إلى التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ ، فالتقليلُ ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه .
قوله : { لِوَاذاً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ الأولِ؛ إذ التقديرُ : يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلاً ، أو يُلاوِذُون لِواذاً . والثاني : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين . واللِّواذُ : مصدرُ لاوَذَ . وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها ، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو : لاوَذَ فلو أُعِلَّتْ في الفعلِ أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو : القيام والصِّيام لقَلْبها ألفاً في قام وصام . فأمَّا مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ/ فمعتلٌّ نحو : لاذَ لِياذاً ، مثل : صام صِياماً وقام قِياماً . واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ : التَّسَتُّرُ يُُقال : لاَوَذَ فلانٌ بكذا أي : اسْتَتَر به . واللَّوْذُ : ما يَطِيْفُ بالجبل . وقيل : اللِّواذُ : الرَّوَغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفْيَةٍ . وفي التفسير : أنَّ المنافقين كانوا يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا . والمفاعَلَةُ : لأنَّ كلاً منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ .
وقرأ يزيد بن قطيب « لَواذاً » بفتحِ اللامِ ، وهي محتملةٌ لوجهين أحدُهما : أَنْ تكونَ مصدرَ « لاذ » ثلاثياً فتكون مثلَ : طافَ طَوافاً .

وصَلَحَتْ أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ ، إلاَّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعاً لفتحةِ العينِ وهو تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ .
قوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين } فيه وجهان ، أشهرُهما : وهو الذي لا يَعْرِف النحاةُ غيرَه أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و « أن تصيبَهم » مفعولُه أي : فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ . والثاني : أنَّ فاعل « فَلْيَحْذَرْ » ضميرٌ مستترٌ ، والموصولُ مفعولٌ به . وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ منها : أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ . وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ المنطوقِ به ، فلا يُقال : هو خلافُ الأصلِ . ألا ترى أنَّ نحوَ : قُمْ ولْتقم فاعلُه مضمرٌ ، ولا يُقال في شيءٍ منه : هو خلافُ الأصلِ ، وإنما الإِضمارُ خلافُ الأصلِ فيما كان حَذْفاً نحو : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] .
ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي : ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً ، وأُجيب : بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو الموصولُ الأولُ أي : فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه فيكونون قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي : أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ . وقد رَدُّوا هذا بوجهين ، أحدُهما : أنَّ الضميرَ مفردٌ ، والذي يعودُ عليه جمعٌ ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسيرِ الضمائر . الثاني : أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون ، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم ، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم .
ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ : بأنَّ الضميرَ وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمعٍ باعتبارِ أنَّ المعنى : فليحذَرْ هو . أي : مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك . وحكى سيبويه « ضرَبني وضربْتُ قومَك » أي : ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر ، وهي مسألةٌ معروفةٌ في النحوِ ، أو يكونُ التقديرُ : فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين . وعن الثاني : بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازاً . يعني أنَّه لا يطاوعُها على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ . كأنه قيل : فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم ، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به ، ولهذا يُقال : أَمَر نفسَه ونهاها ، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ .
ومنها : أنَّه يَصيرُ قولُه : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مُفْلَتاً ضائِعاً؛ لأنَّ « يَحْذَرُ » يتعدَّى لواحدٍ ، قد أَخَذَه على زَعْمِكم وهو « الذين يُخالفون » ، ولا يتعدى إلى اثنين حتى يَقُولوا : إنَّ « أنْ تصيبَهم فتنةٌ » في محلِّ مفعولِه الثاني فبقي ضائعاً . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يُسَلَّم ضَياعُه؛ لأنه مفعولٌ من أجله . واعتُرِضَ على هذا : بأنه لم يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ . فنقول : مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة ، وهو مجرورٌ باللامِ تقديراً ، وإنما حُذِفَتْ مع « أَنْ » لطولِها بالصلة .
و « يُخالِفُون » يتعدى بنفسِه نحو : خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ ، و « إلى » نحو : خالَفْتُ إلى كذا ، فكيف تعدى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه ضُمِّن معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي : صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عنه مخالِفاً له . والثاني : قال ابن عطية : « معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ/ أَمْرِه ، كما تقول : كان المطر عن ريحِ كذا ، وعَنْ لما عدا الشيءَ » . الثالث : أنها مزيدةٌ أي : يخالفون أمرَه ، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة ، والزيادةُ خلافُ الأصلِ .
وقُرِىء « يُخَلِّفون » بالتشديد ، ومَفْعولُه محذوفٌ أي : يُخَلِّفون أنفسَهم .

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

قوله : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } : قال : الزمخشري : « أَدْخَلَ » قد « ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق ، ويرجع توكيدُ العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ : وذلك أنَّ » قد « إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت بمعنى » رُبَّما « فوافَقَتْ » رُبَّما « في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله :
3469 فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما ... أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ
ونحوٌ من ذلك قولُ زهير :
3470 أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه ... ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ : » وكونُ « قد » إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ لبعضِ النحاةِ . وليس بصحيحٍ ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق . والصحيحُ : أنَّ « رُبَّ » للتقليلِ للشيءِ ، أو لتقليلِ نظيرِه . وإنْ فُهِم تكثيرٌ فمِنْ السِّياقِ لا منها « .
{ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ } في » يوم « وجهان أحدُهما : أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } أي : يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم ، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } . والثاني : أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف . قال ابن عطية : » ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : والعلمُ الظاهرُ لكم أو نحو هذا يومَ ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ « انتهى .
وقرأ العامَّةُ » يُرْجَعون « مبنياً للمفعول . وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ . وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من الخطابِ في قولِه : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } إلى الغَيْبة في قوله : » يُرْجَعون « . والثاني : أنَّ » ما أنتم عليه « خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ . والضميرُ في » يُرْجَعُون « للمنافقين خاصةً ، فلا التفاتَ حينئذٍ .

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)

قوله : { لِيَكُونَ } : اللامُ متعلقةٌ ب « نَزَّل » . وفي اسم « يكون » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرٌ يعودُ على الذي نزَّل . أي : ليكونَ الذي نَزَّل الفرقانَ نذيراً . الثاني : أنه يعودُ على الفرقانِ وهو القرآنُ . أي : ليكون الفرقانُ نذيراً . الثالث : أنه يعودُ على « عبدِه » أي : ليكونَ عبدُه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نذيراً . وهذا أحسنُ الوجوهِ معنىً وصناعةً لقُرْبِه ممَّا يعودُ عليه ، والضميرُ يعودُ على أقربِ مذكورٍ . و « للعالمين » متعلقٌ ب « نذيراً » وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ . ودعوى إفادةِ الاختصاصِ بِعيدةٌ لعدمِ تأتِّيها هنا . ورَجَّح الشيخ عَوْدَه على « الذي » قال : « لأنه العُمْدةُ المسندُ إليه الفعلُ ، وهو مِنْ وصفِه تعالى كقوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] . و » نذيراً « الظاهرُ فيه أنه بمعنى مُنْذِر . وجَوَّزوا أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الإِنذار كالنكير مبعنى الإنكار ومنه { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 16 ] .

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)

قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ } : يجوز في « الذي » الرفعُ نعتاً للذي الأولِ ، أو بياناً ، أو بدلاً ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو النصبُ على المدحِ . وما بعد « نَزَّل » من تمام الصلة فليس أجنبياً ، فلا يضُرُّ الفصلُ به بين الموصولِ الأولِ والثاني إذا جَعَلْنا الثاني تابعاً له .
قوله : { وَخَلَقَ } الخَلْقُ هنا عبارةٌ عن الإِحداثِ والتهيئةِ لِما يَصْلُح له حتى يجيءَ قولُه : { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } مفيداً؛ إذ لو حَمْلَنا { خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقَدَّر كلَّ شيءٍ فقدَّره .

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

قوله : { واتخذوا } : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على الكفارِ الذينُ يَضُمُّهم لَفْظُ « العالمين » ، وأن يعودَ على مَنْ ادَّعَى للهِ شريكاً وَولداً لدلالةِ قولِه : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } ، وأنْ يعودَ على المُنْذَرين لدلالة « نذيراً » عليهم .
قوله : { لاَّ يَخْلُقُونَ } صفةٌ ل « آلهةً » ، وغَلَّبَ العقلاءَ على غيرَهم؛ لأنَّ الكفارَ/ كانوا يَعْبُدون العقلاءَ كعُزَيْرٍِ والمسيح والملائكةِ وغيرِهم كالكواكبِ والأصنامِ . ومعنى « لا يَخْلُقُون » لا يَقْدِرُوْن على التقدير ، والخَلْقُ يُوْصَفُ به العبادُ . قال زهير :
3471 وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
ويقال : خَلَقْتُ الأَديمَ أي : قدَّرْتُه . هذا إذا أُريد بالخَلْقِ التقديرُ . فإنْ أُريد به الإِيجادُ فلا يُوْصَفُ به غير الباري تعالى وقد تقدَّم . وقيل : بمعنى يَخْتَلِقون ، كقوله : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت : 17 ] .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)

قوله : { افتراه } : الهاءُ تعودُ على إفك . وقال أبو البقاء : « الهاء تعود على » عَبْدِه « في أول السورة » ولا أظنَّه إلاَّ غَلَطاً ، وكأنه أراد أَنْ يقولَ : الضمير المرفوع في افتراه فَغَلِط .
قوله : { ظُلْماً } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه مفعولٌ به؛ لأنَّ « جاء » يتعدى بنفسِه وكذلك « أتى » . والثاني : أنه على إسقاطِ الخافضِ أي : جاؤوا بظلمٍ . الثالث : أنه في موضعِ الحال ، فيجيءُ فيه ما في قولك « جاء زيدٌ عَدْلاً » من الأوجه .

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)

قوله : { اكتتبها } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحُدها : أَنْ يكونَ حالاً من أساطيرُ ، والعاملُ فيها معنى التنبيه ، أو الإِشارةِ المقدرةِ؛ فإنَّ « أساطيرُ » خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هذه أساطيرُ الأَوَّلِين مُكْتَتَبَةً . والثاني : أن يكونَ في موضع خبرٍ ثانٍ ل « هذه » . والثالث : أَنْ يكونَ « أساطيرُ » مبتدأً و « اكْتَتَبها » خبرُه ، واكْتَتَبها : الافتعالُ هنا يجوز أَنْ يكونَ بمعنى أَمَر بكتابتها كاقتصد واحتَجم ، إذا أَمَر بذلك ، ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى كَتَبَها ، وهو مِنْ جملةِ افترائِهم عليه لأنه [ عليه السلام ] كان أمِّيَّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتب ، ويكون كقولهم : اسْتَكَبَّه واصْطَبَّه أي : سكبه وصبَّه . والافتعالُ مُشْعِرٌ بالتكلُّفِ . ويجوز أَنْ يكونَ مِنْ كَتَبَ بمعنى جَمَعَ ، من الكَتْبِ وهو الجَمْعُ ، لا من الكتابة بالقلَم .
وقرأ طلحةُ « اكْتُتِبَها » مبنياً للمفعولِ . قال الزمخشري : « والمعنى اكتتبها له كاتِبٌ لأنه كان أمِّيَّاً لا يكتُب بيدِه ، ثم حُذِفَتِ اللامُ فأفضى الفعلُ إلى الضمير فصار : اكتتبها إياه كاتبٌ . كقولِه : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ثم بُني الفعلُ للضمير الذي هو » إياه « فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً ، وبقي ضمير الأساطير على حالِه فصارَ » اكْتُتِبَها « كما ترى » .
قال الشيخ : « ولا يَصِحُّ ذلك على مذهبِ جمهورِ البصريين؛ لأنَّ » اكتتبها له كاتب « وَصَل الفعلُ فيه لمفعولين أحدُهما مُسَرَّح ، وهو ضميرُ الأساطير ، والآخرُ مقيدٌ ، وهو ضميرُه عليه السلام ، ثم اتُّسِع في الفعلِ فحُذِفَ حرفُ الجر ، فصار : اكتتبها إياه كاتبٌ . فإذا بُني هذا للمفعولِ : إنما ينوبُ عن الفاعلِ المفعولُ المُسَرَّحُ لفظاً وتقديراً لا المسرَّحُ لفظاً ، المقيَّدُ تقديراً . فعلى هذا يكون التركيب اكْتُتِبَه لا اكتتبها ، وعلى هذا الذي قُلْناه جاء السماعُ . قال : الفرزدق :
3472 ومِنَّا الذي اختير الرجالَ سماحةً ... وجوداً إذا هَبَّ الرياحُ الزَّعازِعُ
ولو جاء على ما قَرَّره الزمخشريُّ لجاء التركيبُ : » ومنا الذي اختيره الرجالُ « لأنَّ » اخْتير « تَعدَّى إلى الرجال بإسقاطِ حرفِ الجرِّ؛ إذ تقديرُه : اختير من الرِّجال » . قلت : وهو اعتراضٌ حَسَنٌ بالنسبة إلى مذهبِ الجمهورِ ، ولكن الزمخشريَّ قد لا يلْتزمه ، ويوافق الأخفشَ والكوفيين ، وإذا كان الأخفشُ وهم ، يتركون المَسرَّحَ لفظاً وتقديراً ، ويُقيمون المجرورَ بالحرفِ مع وجودِه فهذا أَوْلَى وأحرى .
والظاهر أنَّ الجملةَ مِنْ قوله : { اكتتبها فَهِيَ تملى } مِنْ تَتِمَّةِ قولِ الكفارِ . وعن الحسن أنَّها من كلامِ الباري تعالى ، وكان حَقُّ الكلام على هذا أَنْ يَقْرَأَ « أَكْتَتَبها » بهمزةٍ مقطوعةٍ مفتوحةٍ للاستفهام كقولِه : { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } [ سبأ : 8 ] . ويمكنُ أن يُعْتَذَرَ عنه : أنه حَذَفَ الهمزةَ للعلمِ بها كقولِه تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] . وقول الآخر :
3473 أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصا نَبْلا
يريدُ : أو تلك ، وأَأَفْرَحُ ، فُحُذِفَ لدلالةِ الحالِ ، وحَقُّه أَنْ يقفَ على « الأوَّلين » . قال الزمخشري : « كيف قيل : اكْتَتَبها فهي تُمْلَى عليه ، وإنما يُقال : أَمْلَيْتُ عليه فهو يكتتبها؟ قلت : فيه وجهان ، أحدُهما : أراد اكتتابَها وطَلَبه فهي تُمْلَى عليه أو كُتِبَتْ له وهو أُمِّيٌّ فهي تُمْلَى عليه أي : تُلْقَى عليه مِنْ كتابٍ يَتَحفَّظُها؛ لأنَّ صورةَ الإِلقاءِ على الحافظِ كصورة الإِلقاءِ على الكاتبِ » .
وقرأ عيسى وطلحة « تُتْلَى » بتاءَيْن مِنْ فوقُ ، من التلاوة . و { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ظرفا زمان للإِملاء . والياءُ في « تملَى » بدلٌ من اللامِ كقولِه : { فَلْيُمْلِلْ } [ البقرة : 282 ] وقد تقدَّمَ .

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)

قوله : { مَالِ هذا } : « ما » استفهاميةٌ مبتدأةٌ . والجارُّ بعدَها خبرٌ . « ويَأْكل » جملةٌ حاليةٌ ، وبها تَتِمُّ فائدةُ الإِخبار كقوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } . وقدت تقدم في النساء أنَّ الجرِّ كُتِبَتْ مفصولةً من مجرورِها وهو خارجٌ عن قياسِ الخطِّ .
/ والعاملُ في الحالِ الاستقرارُ العاملُ في الجارِّ ، أو نفسُ الجارِّ ، ذكرَه أبو البقاء .
قوله : { فَيَكُونَ } العامَّةُ على نصبِه . وفيه وجهان ، أحدُهما : نصبٌ على جوابِ التحضيضِ . والثاني قال أبو البقاء : فيكونَ منصوبٌ على جوابِ الاستفهام « وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ما بعدَ الفاءِ لا يَتَرَتَّبُ على هذا الاستفهامِ . وشرطُ النصبِ : أن ينعقدَ منها شرطٌ وجزاءٌ . وقُرِىء » فيكونُ « بالرفعِ ، وهو معطوفٌ على » أُنْزِل « . وجاز عطفُه على الماضي؛ لأنَّ المرادَ بالماضي المستقبلُ ، إذ التقدير : لولا نُنَزِّلُ .

أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)

قوله : { أَوْ يلقى } : « أو تكونُ » معطوفان على « أُنْزِلَ » لِما تقدَّم مِنْ كونِه بمعنى نُنَزِّل . ولا يجوزُ أَنْ يُعْطفا على « فيكونَ » المنصوبِ في الجواب ، لأنهما مُنْدَرجان في التحضيض في حكم الواقعِ بعد « لولا » . وليس المعنى على أنهما جوابٌ للتحضيضِ فيعطفا على جوابِه . وقرأ الأعمش وقتادةُ « أو يكونُ له » بالياء من تحتُ؛ لأن تأنيثَ الجنةِ مجازيٌّ .
قوله : { يَأْكُلُ مِنْهَا } الجملةُ في موضعِ الرفعِ صفةً ل « جنةٌ » . وقرأ الأخَوان « نَأْكُلُ » بنون الجمعِ . والباقون بالياء من تحتُ أي : الرسول .
قوله : { وَقَالَ الظالمون } وَضَعَ الظاهرَ موضعَ المضمرِ ، إذ الأصل : وقالوا . قال الزمخشري : « وأرادَ بالظالمين إياهم بأعيانهم » . قال الشيخ : « وقوله ليس تركيباً سائغاً ، بل التركيبُ العربيُّ أَنْ يقولَ : أرادَهم بأعيانِهم » .

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)

قوله : { جَنَّاتٍ } : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « خيراً » ، وأَنْ يكونَ عطفَ بيانٍ عند مَنْ يُجَوِّزه في النكراتِ ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني . و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفةٌ .
قوله : { وَيَجْعَل لَّكَ } قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع « ويجعَلُ » والباقون بإدغامِ لامِ « يَجْعَلْ » في لام « لك » . وأمَّا الرفعُ ففيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه مستأنفٌ . والثاني : أنه معطوفٌ على جوابِ الشرط . قال الزمخشري : « لأنَّ الشرطَ إذا وقع ماضياً جاز في جوابِه الجزمُ ، والرفعُ كقولِه :
3474 وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
قال الشيخ : » وليس هذا مذهبَ سيبويه ، بل مذهبُه : أنَّ الجوابَ محذوفٌ ، وأنَّ هذا المضارعَ مَنْوِيُّ به التقديمُ ، ومذهبُ المبرد والكوفيين أنه جوابٌ على حَذْفِ الفاءِ . ومذهبُ آخرين : أنه جوابٌ لا على حَذْفِها ، بل لمَّا كان الشرطُ ماضياً ضَعُفَ تأثيرُ « إنْ » فارتفع « . قلت : فالزمخشريُّ بنى قولَه على هذين المذهبين . ثم قال الشيخ : » وهذا التركيبُ جائزٌ فصيحٌ . وزعم بعضُ أصحابِنا أنه لا يجيءُ إلاَّ في ضرورة « .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فتحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّ سكونَ اللامِ للجزمِ عطفاً على مَحَلِّ » جَعَل «؛ لأنَّه جوابُ الشرط . والثاني : أنه مرفوعٌ ، وإنما سُكِّن لأجلِ الإِدغام . قال الزمخشري وغيرُه وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ مِنْ جملةِ مَنْ قرأ بذلك وهو نافعٌ والأخَوان وحفصٌ ليس مِنْ أصولِهم الإِدغامُ ، حتى يدعى لهم في هذا المكانِ . نعم أبو عمرو أصلُه الإِدغامُ وهو يقرأ هنا بسكونِ اللامِ ، فيُحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسِنِ علمِ النحوِ والقراءاتِ معاً .
وقرأ طلحةُ بن سليمان » ويَجْعَلَ « بالنصبِ؛ وذلك بإضمارِ » أنْ « على جوابِ الشرطِ ، واستضعفها ابنُ جني . ومثلُ هذه القراءة :
3475 فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ ... رَبيعُ الناسِ والبَلدُ الحرامُ
ونَأْخُذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ ... أَجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
بالتثليث في » نَأْخذ « .

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)

قوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ } : هذه الجملةُ الشرطيةُ في موضعِ نصبٍ صفةً ل « سَعيراً » لأنَّه مؤنَّثٌ .
قوله : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } إنْ قيل : التغيُّظُ لا يُسْمع . فالجوابُ من ثلاثةِ أوجه ، أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ أي : صوتَ تغيُّظِها . والثاني : أنه على حَذْفٍ تقديرُه : سَمِعوا وَرَأَوْا تغيُّظاً وزفيراً ، فيرتفع كلُّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به أي : رَأَوْا تغيُّظاً وسَمِعوا زَفيراً . والثالث : أَنْ يُضَمَّن « سمعوا » معنىً يَشْمَلُ الشيئين أي : أَدْرَكوا لها تغَيُّظاً وزفيراً . وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قولِه :
3476 يا ليتَ زوجَك قد غَدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحاً
ومن قوله :
3477 فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : ومُعْتَقِلاً رمحاً ، وسَقَيْتُها ماءً ، أو تضمِّنُ « مُتَقَلِّداً » معنى مُتَسَلِّحاً ، و « عَلَفْتُها » معنى : أَطْعَمْتُها تِبْناً وماءً بارداً .

وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)

قوله : { مَكَاناً } : منصوب على الظرف و « منها » في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ « مكان » لأنه في الأصل صفةٌ له . و « مُقَرَّنين » حال مِنْ مفعول « أُلْقُوا » . و « ثُبوراً » مفعول به . فيقولون : يا ثُبوراه . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من معنى « دُعُوا » وقيل : منصوبٌ بفعلٍ من لفظِه مقدرٍ تقديرُه : ثَبَرْنا ثُبوراً . وقرأ/ معاذ بن جبل « مُقَرَّنُوْنَ » بالواو . ووجهُها أَنْ تكونَ بدلاً من مفعول « أُلْقُوا » .
وقرأ عمر بن محمد « ثَبورا » بفتح الثاء . والمصادرُ التي على فَعُوْل بالفتح قليلةٌ جداً . ينبغي أن يُضَمَّ هذا إليها ، وقد ذكرْتُها في البقرةِ عند قولِه { وَقُودُهَا الناس } [ البقرة : 24 ] .

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

قوله : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحالِ : إمَّا مِنْ فاعل « يَشاؤون » وإمَّا مِنْ فاعل « لهم » لوقوعِه خبراً . والعائدُ على « ما » محذوفٌ أي : لهم فيها الذي يَشاؤُونه حالَ كونِهم خالدين .
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ } في اسمِ كان وجهان ، أحدهما : أنه ضميرُ « ما يَشاؤون » ، ذكره أبو البقاء . والثاني : أَنْ يعودَ على الوَعْدَ المفهومِ مِنْ قولِه { وُعِدَ المتقون } . و { مَّسْئُولاً } على المجازِ أي : يُسْأَلُ : هل وُفِّي بك أم لا؟ أو يَسْأله مَنْ وُعِدَ به؟ .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)

قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } : قرأ ابنُ عامر « نَحْشُرهم » ِ « فنقول » بالنون فيهما . وابنُ كثير وحفصٌ بالياء مِنْ تحت فيهما . والباقون بالنونِ في الأولِ ، وبالياءِ في الثاني . وهنَّ واضحاتٌ . وقرأ الأعرج « نَحْشِرُهم » بكسر الشين في جميع القرآن . قال ابن عطية : « هي قليلةٌ في الاستعمالِ قويةٌ في القياس؛ لأنَّ يَفْعِلِ بكسرِ العين في المتعدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُل بضمِّ العين » . وقال أبو الفضل الرازي : « وهو القياس في الأفعالِ الثلاثيةِ المتعديةِ؛ لأنَّ يَفْعُل بضهم العين قد يكونُ من اللازمِ الذي هو فَعُل بضمِّها في الماضي » . قال الشيخ : « وليس كما ذكرا ، بل فِعْلُ المتعدِّي الصحيحُ جميعُ حروفِه ، إذا لم يكن للمغالبةِ ولا حلقيَّ عينٍ ولا لامٍ فإنه جاء على يَفْعِل ويَفْعُل كثيراً . فإنْ شُهرِ أحدُ الاستعمالين اتُّبعَ ، وإلاَّ فالخيارُ . حتى إنَّ بعضَ أصحابِنا خَيَّر فيهما : سُمِعا للكلمة أو لم يُسْمَعا » . قلت : الذي خَيَّرَ في ذلك هو ابنُ عصفور فيُجيزُ أَنْ تقولَ : « زيد يَفْعِل » بكسرِ العينِ ، و « يَضْرُب » [ بضمِّ ] الراءِ مع سماعِ الضمِّ في الأول والكسرِ في الثاني . وسبَقَه إلى ذلك ابنُ درستويهِ ، إلاَّ أنَّ النحاةَ على خلافِه .
قوله : { وَمَا يَعْبُدُونَ } عطفٌ على مَفْعولِ « نَحْشُرهم » ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة . وغَلَّب غيرَ العاقلِ فأتى ب « ما » دونَ « مَنْ » .
قوله : { هَؤُلاَءِ } يجوزُ أن يكونَ نعتاً لعِبادي ، أو بدلاً ، أو بياناً .
قوله : { ضَلُّوا السبيل } على حَذْفِ الجرِّ وهو « عن » ، كما صَرَّح به في قوله { يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 117 ] ثم اتُّسِع فيه فَحُذِف نحو : « هَدَى » ، فإنه يتعدَّى ب « إلى » ، وقد يُحْذَفُ اتِّساعاً . و « ظَلَّ » مطاوعُ أَضَلَّ .

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)

قوله : { يَنبَغِي } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل . وأبو عيسى الأسودُ القارىء « ينبغى » مبنياً للمفعولِ . قال ابنُ خالويه : « زعم سيبويه أن ينبغى لغة » .
قوله : { أَن نَّتَّخِذَ } فاعلُ « ينبغي » أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود . وقرأ العامَّةُ « نَتَّخِذَ » مبنياً للفاعل . و « من أولياء » مفعولُه ، وزِيْدَتْ فيه « مِنْ » . ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ « اتَّخَذَ » متعديةٌ لاثنين ، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ ، فعلى هذا « مِنْ دونِك » متعلِّقٌ بالاتِّخاذ ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ « أولياء » .
وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين « نُتَّخَذَ » مبنيَّاً للمفعول . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها المتعديةُ لاثنينِ ، والأولُ همز ضمير المتكلمين . والثاني : قولُه : « مِنْ أولياء » و « مِنْ » للتبعيضِ أي : ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء ، قاله الزمخشري . الثاني : أنَّ « مِنْ أولياء » هو المفعولُ الثاني ايضاً ، إلاَّ أنَّ « مِنْ » مزيدةٌ في المفعولِ الثاني . وهذا مردودٌ : بأنَّ « مِنْ » لا تُزاد في المفعول الثاني ، إنما تُزاد في الأولِ . قال ابن عطية : « ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ » مِنْ « في قوله : » مِنْ أولياء « . اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه » . الثالث : أَنْ يكونَ « مِنْ أولياء » في موضعِ الحالِ . قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : « ودَخَلَتْ » مِنْ « زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم ، كقولك : ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل » . قلت : فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ « مِنْ » مزيدةً ، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ « مِنْ » في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً ، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك .
وقوله : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } { أَمْ هُمْ ضَلُّوا } إنما قَدَّم الاسمَ على الفعل لمعنىً ذكرْتُه في قولِه تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] .
وقرأ الحَجَّاج « نتخذ مِنْ دونِك [ أولياءَ ] » فبلغ عاصماً فقال : « مُقِتَ المُخْدِجُ . أَوَ عَلِم أنَّ فيها » مِنْ «؟
قوله : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ } لَمَّا تََضَمَّن كلامُهم أنَّا لم نُضِلَّهم ، ولم نَحْمِلْهم على الضلالِ ، حَسُن هذا الاستدراكُ وهو أَنْ ذَكَرُوا سبَبَه أي : أَنْعَمْتَ عليهم وتَفَضَّلْتَ فَجَعَلوا ذلك ذَرِيْعةً إلى ضلالهم عكسَ القضية .
قوله : { بُوراً } يجوز فيه وجهان أحدُهما : أنه جمعُ بائرِ كعائذِ وعُوذ . والثاني : أنه مصدرٌ في الأصلِ ، فَيَسْتوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنثُ . وهو مِنْ البَوارِ وهو الهَلاكُ . وقيل : من الفسادِ . وهي لغةٌ للأزد يقولون : / بارَتْ بضاعتُه أي : فَسَدَتْ . وأمرٌ بائِرٌ أي : فاسدٌ . وهذا معنى قولِهم : » كَسَدَتِ البضاعةُ « . وقال الحسن : » وهو مِنْ قولِهم : أرضُ بُوْرٌ أي : لا نباتَ بها . وهذا يَرْجعُ إلى معنى الهلاكِ والفساد « .

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

قوله : { بِمَا تَقُولُونَ } : هذه الجملةُ من كلامِ اللهِ تعالى اتفاقاً ، فهي على إضمارِ القولِ والالتفاتِ . قال الزمخشري : « هذه المفاجأةُ بالاحتجاجِ والإِلزامِ حسنةٌ رائعةٌ ، وخاصةً إذا انضمَّ إليها الالتفاتُ وحَذْفُ القولِ . ونحُوها قولُه عَزَّ وجَلَّ { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] وقولُ القائل :
3478 قالوا خُراسانُ أَقْصى ما يُرادُ بنا ... ثم القُفُوْلُ فقد جِئْنا خُرسانا
انتهى . يريد : أن الأصلَ في الآيةِ الكريمة : فقُلْنا : قد كَذَّبوكم ، وفي البيت فقلنا : قد جِئْنا . والخطابُ في » كَذَّبوكم « للكفارِ ، فالمعنى : فقد كَذَّبكم المعبودون بما تقولون مِنْ أنَّهم أَضَلُّوكم . وقيل : المعنى : فقد كَذَّبوكم فيما تقولون من الافتراءِ عليهم أنَّهم أَضَلُّوكم وقيل : هو خطابٌ للمؤمنين في الدنيا أي : فقد كَذَّبكم أيَّها المؤمنون الكفارَ بما تقولون من التوحيدِ في الدنيا .
وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياءِ مِنْ تحتُ أي : فقد كَذَّبكم الآلهةُ بما يقولون { سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ } إلى آخِرِه . وقيل : المعنى : فقد كَذَّبكم أيها المؤمنونَ الكفَّارُ بما يقولون من الافتراءِ عليكم .
قوله : { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } قرأ حفص بتاءِ الخطاب والمرادُ عبادُها . والباقون بياءِ الغَيْبة . والمرادُ الآلهةُ التي كانوا يعبُدونها مِنْ عاقلٍ وغيرِه؛ ولذلك غَلَّب العاقَل فجيْءَ بواوِ الضميرِ .
قوله : { نُذِقْهُ } العامَّةُ بنونِ العظمةِ ، وقرىء بالياءِ وفي الفاعلِ وجهان ، أظهرهُما : أنَّه اللهُ تعالى لدلالةِ قراءةِ العامَّةِ على ذلك . والثاني : أنه ضميرُ الظلمِ المفهومِ من الفعل . وفيه تَجَوُّزُ بإسناد إذاقةِ العذابِ إلى سببِها وهو الظلمُ .

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج : « وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين » وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه . وقَدَّره ابنُ عطية : « رجالاً أو رُسُلاً » . والضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ . والثاني : أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا ، تقديرُه : إلاَّ مَنْ إنهم ، فالضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على معنى « مَنْ » المقدرةِ ، وإليه ذهب الفراء . وهو مردودٌ : بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ . الثالث : أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ . وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري . قال : التقديرُ : إلاَّ وإنهم ، يعني أنَّها حاليةٌ ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية . ورُدَّ : بكونِ ما بعدَ « إلاَّ » صفةً لِما قبلَها . وقدَّره أبو البقاء أيضاً .
والعامَّةُ على كسرِ « إنَّ » لوجودِ اللامِ في خبرِها ، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ . قال أبو البقاء : « وقيل : لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ ، إذ المعنى : إلاَّ وهم [ يأْكلون » ] . وقُرِىء « أنهم » بالفتح على زيادةِ اللامِ ، و « أَنْ » مصدريةٌ . التقدير : إلاَّ لأنَّهم . أي : ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم .
وقرأ العامَّةُ « يَمْشُوْن » خفيفةً . وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله « يُمَشَّوْن » مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . أي : تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ . وقرأ [ أبو ] عبد الرحمن « يُمَشُّون » بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى « يَمْشُون » . قال الشاعر :
3479 ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى ... قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ
قال الزمخشري : « ولو قُرِىء » يُمَشُّون « لكان أوجهَ ، لولا الروايةُ » يعني بالتشديد . قلت : قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد .
قوله : { أَتَصْبِرُونَ } المعادِلُ محذوفٌ أي : أم لا تصبرون . وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ قال الزمخشري : « موقعُها بعد الفتنةِ موقع » أيُّكم « بعد الابتلاءِ في قولهِ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } [ الملك : 2 ] يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)

قوله : { عُتُوّاً } : مصدرٌ . وقد صَحَّ هنا ، وهو الأكثرُ ، وأُعِلَّ في سورة مريم في { عِتِيّاً } [ الآية : 8 ] لمناسبةٍ ذُكِرَتْ هناك وهي تواخي رؤوسِ الفواصلِ .

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)

قوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ يَدُلُّ عليه قوله : « لا بشرى » أي : يُمْنعون البشرى يومَ يَرَوْن . الثاني : أنه منصوبٌ باذْكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به . الثالث : أنه منصوبٌ ب « يُعَذَّبون » مقدَّراً . ولا يجوز أَنْ يعملَ فيه نفسُ البشرى/ لوجهين ، أحدهما : أنها مصدرٌ ، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبله . والثاني : أنها منفيةٌ ب « لا » ، وما بعدَها لا يَعْمل فيما قبلَها .
قوله : { لاَ بشرى } هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ أي : يَرَوْنَ الملائكةَ يقولون : لا بشرى ، فالقولُ حالٌ من الملائكة . وهو نظيرُ التقديرِ في قولِه تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] . قال الشيخ : « واحْتَمَلَ » بُشْرَى « أَنْ يكونَ مبنياً مع » لا « ، واحْتَمَل أن يكونَ في نيةِ التنوينِ منصوبَ اللفظِ ، ومُنِع من الصرفِ للتأنيثِ اللازمِ . فإنْ كان مبنياً مع » لا « احْتَمَلَ أَنْ يكونَ » يومئذٍ « خبراً ، و » للمجرمين « خبرٌ بعد خبرٍ ، أو نعتاً ل » بشرى « ، أو متعلقاً بما تَعَلَّق به الخبرُ ، وأَنْ يكونَ » يومئذٍ « صفةً ل » بُشْرَى « ، والخبرُ » للمجرمين « ويجيءُ خلافُ سيبويهِ والأخفشِ : هل الخبرُ لنفسِ لا ، أو الخبرُ للمبتدأ الذي هو مجموعُ » لا « وما بُني معها؟ وإن كان في نيةِ التنوينِ وهو معربٌ جاز أن يكونَ » يومئذٍ « و » للمجرمين « . خبرين ، وجاز أَنْ يكونَ » يومئذٍ « خبراً و » للمجرمين « صفةً . والخبرُ إذا كان الاسمُ ليس مبنيَّاً لنفسِ » لا « بإجماع » .
قلت : قوله : « واحْتَمَلَ أَنْ يكونَ في نيةِ التنوينِ » إلى آخره لا يتأتى إلاَّ على قولِ أبي إسحاقَ . وهو أنَّه يرى أنَّ اسمَ « لا » النافيةِ للجنسِ معربٌ ، ويَعْتَذِرُ عن حذفِ التنوينِ بكثرةِ الاستعمالِ ، ويَسْتَدِلُّ عليه بالرجوعِ إليه في الضرورةِ . ويُنشِد :
3480 أَلا رجلاً جزاهُ اللهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويتأَوَّلُه البصريون على إضمار : ألا تَرَوْنَني رجلاً . وكان يمكنُ الشيخُ أنْ يجعلَه معرباً كما ادَّعى بطريق أخرى : وهي أن يَجْعَلَ « بشرَى » عاملةً في « يومَئذٍ » أو في « للمجرمين » فيصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل ، والمُطوَّلُ معربٌ ، لكنه لم يُلِمَّ بذلك . وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله . ويجوز أَن يكونَ « بُشرى » معرباً منصوباً بطريقٍ أخرى . وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ أي : لا يُبَشَّرون بشرى كقولِه تعالى : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } [ ص : 59 ] ، « لا أهلا ولا سهلاً » . إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا لقولهِ : « جاز أَنْ يكونَ » يومَئذٍ « و » للمجرمين « خبرين » فقد حكمَ أنَّ لها خبراً .

وإذا جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون ل « لا » حينئذٍ خبرٌ ، لأنها داخلةٌ على ذلك الفعلِ المقدرِ . وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه .
قوله : { يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } قد تقدَّم من « يومئذٍ » أوجهٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً ب « بشرى » قال : « إذا قَدَّرْتَ أنها منونةٌ غيرُ مبنيةٍ مع » لا « ويكونُ الخبرُ » للمجرمين « .
وجَوَّز أيضاً هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ » يومئذٍ « تكريراً ل » يومَ يَرَوْن « . ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال : » لأنَّ يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ « اذْكُر » ، أو مِنْ يَعْدِمون البشرى . وما بعد « لا » العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ما قبلَها . وعلى تقدير ما ذكراه يكون العاملُ فيه ما قبل لا « . قلت : وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ؛ وذلك لأنَّ الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالاً مِنَ » الملائكة « ، والملائكةُ معمولةٌ ل » يَرَوْن « ، ويَرَوْن معمولٌ ل » يوم « خفضاً بالإِضافة ، ف » لا « وما في حَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها . والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا ، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع التأمُّل؟
و » للمُجْرمين « مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك . والضميرُ في » يقولون « يجوزُ عَوْدُه للكفارِ و » للملائكة « .
و » حِجْراً « من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها ، ولا يُتَصَرَّف فيه . قال سيبويه : » ويقولُ الرجلُ للرجل : أَتفعل كذا؟ فيقول : حِجراً « . وهي مِنْ حَجَره إذا مَنَعَه؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه . وكأن المعنى : أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعاً ويَحْجُرَه حَجْراً .
والعامَّةُ على كسرِ الحاء . والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمِّها وهو لغةٌ فيه . قال الزمخشري : » ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه لاختصاصِه بموضعٍ واحد ، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك . وأنشدتُ لبعض الرُجاز :
3481 قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ ... عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ
وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ « حجراً » وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ على أنَّه يلزمُ النصبَ . وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ . قال : « وقد قُرِىء بها » . فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ .
ومَحْجُوْراً صفةٌ مؤكَّدةٌ للمعنى كقولهم : ذَيْل ذائِل ، ومَوْت مائتِ . والحِجْر : العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه .

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)

قوله : { هَبَآءً } : الهَباءُ والهَبْوَة : الترابُ الدقيق قاله ابن عرفة . قال الجوهري : « يُقال منه : هبا يَهْبو إذا ارتفع وَأَهْبَيْتُه أنا إهْباءً » . وقال الخليل والزجَّاج : « هو مثلُ الغبارِ الداخلِ في الكُوَّة يتراءَى مع ضوءِ الشمس » . وقيل : الهَباء ما تطايَرَ مِنْ شَرَرِ النارِ إذا أُضْرِمَتْ . والواحدةُ هَباءة على حَدّ تَمْر وتمرة . ومَنْثوراً أي مُفَرَّقاً ، نَثَرْتُ الشيء : فَرَّقْتُه . والنَّثْرَة : لنجومٍ متفرقة . والنَّثْرُ : الكلامُ غيرُ المنظوم على المقابلةِ بالشعرِ . وفائدةُ الوصفِ به أنَّ الهباءَ تراه منتظماً مع الضوء/ فإذا حَرَّكْتُه تَفَرَّقَ فجِيِْءَ بهذه الصفةِ لتفيدَ ذلك . وقال الزمخشري : « أو مفعولٌ ثالثٌ لجَعَلْناه أي : فَجَعَلْناه جامِعاً لحقارةِ الهَباء والتناثُرِ كقوله تعالى : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] أي : جامعين للمَسْخِ والخَسْءِ » . قال الشيخ : « وخالَفَ ابنُ درستويه ، فخالف النحويين في مَنْعِه أن يكونَ لكان خبران وأزيدُ ، وقياسُ قولِه في » جَعَلَ « أَنْ يمنعَ أن يكونَ لها خبرٌ ثالث » . قلت : مقصودُه أنَّ كلامَ الزمخشريِّ مردودٌ قياساً على ما مَنَعَه ابنُ درستويه مِنْ تعديدِ خبر « كان » .

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

قوله : { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ } : في أفْعَل هنا قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من التفضيل . والمعنى : أنَّ المؤمنين خيرٌ في الآخرة مستقراً مِنْ مستقرِّ الكفارِ ، وأحسنُ مقيلاً مِنْ مَقِيلهم ، لو فُرِض أَنْ يكونَ لهم ذلك ، أو على أنهم خيرٌ في الآخرةِ منهم في الدنيا . والثاني : أَنْ تكونَ لمجردِ الوصفِ مِنْ غيرِ مفاضلةٍ .

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)

قوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ } : العاملُ في « يومَ » : إمَّا اذْكُرْ ، وإمَّا : ينفردُ اللهُ بالمُلْك يومَ تَشَقَّقُ ، لدلالة قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] عليه .
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو هنا وفي ق « تَشَقَّق » بالتخفيف . والباقون بالتشديدِ . وهما واضحتان . حَذَفَ الأَوَّلون تاءَ المضارعةِ ، أو تاءَ التَّفَعُّلِ ، على خلافٍ في ذلك . والباقون أَدْغموا تاء التَفَعُّل في الشين لِما بينهما من المقاربَةِ ، وهما « كَتَظَاهَرون وتَظَّاهرون » حَذْفاً وإدغاماً . وقد مضى في البقرة .
قوله : { بالغمام } في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : على السببيَّة أي : بسببِ الغَمام ، يعني بسببِ طُلوعِه منها . ونحو { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] كأنَّه الذي تَنْشَقُّ به السماءُ . الثاني : أنها للحالِ أي : ملتبسَةً بالغَمام . الثالث : أنها بمعنى عَنْ أي : عن الغمامِ كقوله : { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ } [ ق : 44 ] .
قوله : { وَنُزِّلَ الملائكة } فيها اثنتا عشرة قراءة : ثِنْتان في المتواتِر ، وعشرٌ في الشاذ . فقرأ ابن كثير من السبعة « ونُنْزِلُ » بنونِ مضمومةٍ ثم أُخْرى ساكنةٍ وزايٍ خفيفةٍ مكسورةٍ مضارعَ « أَنْزَلَ » ، و « الملائكةَ بالنصبِ مفعولٌ به . وكان من حَقِّ المصدرِ أَنْ يجيءَ بعد هذه القراءةِ على إنْزال . قال أبو علي : » لَمَّا كان أَنْزَل ونَزَّل يَجْريان مَجْرىً واحِداً ، أجرى مصدرَ أحدِهما على مصدرِ الآخر : وأنشدَ :
3482 وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ ... لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَوَيْتُ بمعنىً « . قلت : ومثلُه { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] أي : تَبَتُّلاً . وقرأ الباقون من السبعةِ » ونُزِّل « بضمِّ النون وكسرِ الزاي المشدَّدةِ وفتحِ اللامِ ، ماضياً مبنياً للمفعول . » الملائكةُ « بالرفعِ لقيامةِ مقامَ الفاعلِ . وهي موافقةٌ لمصدرِها .
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء » ونَزَّلَ « بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعلِ ، وهو الله تعالى ، » الملائكةَ « مفعولٌ به . وعنه أيضاً » وأَنْزَل « مبنياً للفاعلِ عَدَّاه بالتضعيفِ مرةً ، وبالهمزة أخرى . والاعتذارُ عن مجيء مصدرِه على التفعيلِ كالاعتذارِ عن ابنِ كثير . وعنه أيضاً » وأُنْزِل « مبنياً للمفعولِ .
وقرأ هارون عن أبي عمرٍو » وتُنَزِّل الملائكةُ « بالتاء من فوق وتشديدِ الزايِ ورفعِ اللام مضارعاً مبنياً للفاعل ، » الملائكةُ « بالرفعِ ، مضارعَ نَزَّل بالتشديد ، وعلى هذه القراءةِ فالمفعولُ محذوفٌ أي : وتُنَزِّل الملائكةُ ما أُمِرَتْ أَنْ تُنَزِّلَه .
وقرأ الخَفَّاف عنه ، وجناح بن حبيش » ونَزَل « مخففاً مبنياً للفاعلِ » الملائكةُ « بالرفع . وخارجة عن أبي عمرٍو أيضاً وأبو معاذ » ونُزِّلُ « بضم النون وتشديدِ الزاي ونصب » الملائكةَ « . والأصل : ونُنَزِّلُ بنونين حُذِفَتْ إحداهما .
وقرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير في روايةٍ عنهما بهذا الأصلِ » ونُنَزِّل « بنونين وتشديدِ الزايِ . وقرأ أُبَيُّ و » نُزِّلَتْ « بالتشديدِ مبنياً للمفعولِ . و » تَنَزَّلَتْ « بزيادةِ تاءٍ في أولهِ ، وتاءِ التأنيث فيهما .

وقرأ أبو عمرٍو في طريقةِ الخَفَّاف عنه « ونُزِلَ » بضمِّ النون وكسرِ الزايِ خفيفةَ مبنياً للمفعول ، قال صاحب اللوامح : « فإنْ صَحَّتِ القراءةُ فإنَّه حُذِفَ منها المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، تقديره : ونُزِل نزولُ الملائكةِ ، فحُذِفَ النزولُ ، ونُقِل إعرابُه إلى الملائكة . بمعنى : نُزِل نازلُ الملائكةِ؛ لأنَّ المصدرَ يجيءُ بمعنى الاسمِ . وهذا ممَّا يجيءُّ على مذهب سيبويهِ/ في ترتيب بناءِ اللازمِ للمفعولِ به؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على مصدره » ، قلت : وهذا تَمَحُّلٌ كثيرٌ دَعَتْ إليه ضرورةُ الصناعةِ ، وقال ابن جني : « وهذا غيرُ معروفٍ؛ لأنَّ نَزَلَ لا يتعدى إلى مفعولٍ فيبنى هنا للملائكة . ووجهُه : أَْنْ يكونَ مثل : زُكِم الرجلُ وجُنَّ ، فإنه لا يُقال : إلاَّ : أَزْكمه وأَجَنَّه الله ، وهذا بابُ سماعٍ لا قياسٍ » . قلت : ونظيرُ هذه القراءة ما تقدَّم في سورة الكهفِ في قراءةِ مَنْ قرأ { فَلاَ يقوم له يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الآية : 105 ] بنصب « وَزْناً » من حيث تَعْدِيَةُ القاصرِ وتَقَدَّم ما فيها .

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)

قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ } : فيه ِأوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ « المُلْكُ » مبتدأً ، والخبر : « الحق » ، و « يومئذٍ » متعلِّقٌ بالمُلْك . و « للرحمن » متعلقٌ بالحق ، أو بمحذوفٍ على التبيين ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للحق . الثاني : أنَّ الخبرَ « يومئذٍ » ، و « الحقُّ » نعتٌ للمُلْك . و « للرحمن » على ما تقدَّم . الثالث : أنَّ الخبرَ « للرحمن » و « يومئذٍ » متعلقٌ بالمُلْك ، و « الحقُّ » نعتٌ للمُلك .

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)

قوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ } : معمولٌ لمحذوفٍ ، أو معطوفٌ على « يومَ تَشَقَّقُ » . و « يَعَضُّ » مضارعُ عَضَّ ، ووزنُه فَعِل بكسرِ العينِ ، بدليلِ قولِهم : عَضِضْتُ أَعَضُّ ، وحكى الكسائيُّ فتحَها في الماضي ، فعلى هذا يُقال : أَعِضُّ بالكسر في المضارع . والعَضُّ هنا كنايةٌ عن شدَّةِ اللزومِ . ومثله : حَرَقَ نابَه ، قال :
3483 أبى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نابَه ... عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
وهذه الكنايةُ أبلغُ من تصريحِ المكنى عنه . وأَلْ في « الظالم » تحتملُ العهدَ ، والجنسَ ، على حَسَبِ الخلافِ في ذلك .
قوله : { يَقُولُ } هذه الجملةُ حال مِنْ فاعل « يَعَضُّ » . وجملةُ التمنِّي بعد القولِ مَحْكيَّةٌ به . وتقدَّم الكلامُ في مباشرة « يا » ل « ليت » في النساء .
وفلانٌ كنايةٌ عن عَلَمِ مَنْ يَعْقِل وهو منصرفٌ ، وفُلُ كنايةٌ عن نكرةِ مَنْ يَعْقِل من الذكور ، وفُلَةُ عَمَّن يَعْقِلُ من الإِناثِ ، والفلانُ والفلانةُ بالألف واللام عن غير العاقلِ . ويختصُّ فُلُ وفُلَةُ بالنداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله :
3484 في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ ... وليس « فُلُ » مُرَخَّماً من فلان خلافاً للفراء ، وزعم الشيخ أنَّ ابنَ عصفورِ وابنَ مالك وابن العلج وَهِمُوا في جَعْلهم « فُلُ » كنايةً عن عَلَم مَنْ يَعْقِلُ كفُلان . ولامُ فُل وفلان فيها وجهان ، أحدهما : أنها واوٌ . والثاني : أنها ياءٌ ، وقرأ الحسن « يا ويلتي » بكسرِ التاء وياءٍ صريحةٍ بعدها ، وهي الأصلُ ، وقرأ الدُّوريُّ بالإِمالة ، قال أبو عليّ : « وتَرْكُ الإِمالةِ أحسنُ؛ لأنَّ أصلَ هذه اللفظةِ الياءُ ، فبُدِّلت الكسرةُ فتحةً ، والياءُ ألفاً؛ فِراراً من الياءِ . فَمَنْ أمال رَجَعَ إلى الذي منه فَرَّ أولاً » قلت : وهذا منقوضٌ بنحو « باع » فإنَّ أصلَه الياءُ ومع ذلك أمالوا ، وقد أمالُوا { يا حسرتى عَلَى مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] و { يَا أَسَفَى } [ يوسف : 84 ] وهما ك « يا ويلتى » في كونِ ألفِهما عن ياءِ المتكلم .

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

قوله : { وَكَانَ الشيطان } : يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ من مقولِ الظالمِ ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ بالقولِ ، وأَنْ تكونَ من مقولِ الباري تعالى : فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها .

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)

قوله : { مَهْجُوراً } : مفعولٌ ثانٍ ل « اتَّخَذُوا » أو حال . وهو مفعولٌ مِنْ الهَجْرِ بفتحِ الهاءِ وهو التَّرْكُ والبُعْدُ . أي : جعلوه متروكاً بعيداً . وقيل : هو من الهُجْر بالضم أي : مهجوراً فيه ، حيث يقولون فيه : إنه شِعْرٌ وأساطيرُ ، وجَعَل الزمخشري مفعولاً هنا مصدراً بمعنى الهَجْر قال : « كالمَجْلود والمَعْقُول » . قلت : وهو غيرُ مَقيسٍ ، ضَبَطَه أهلُ اللغةِ في أًُلَيْفاظٍ فلا تتعدى إلاَّ بنَقْلٍ .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

قوله : { هَادِياً } : حالٌ أو تمييزٌ . وقد تقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملةِ .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

قوله : { جُمْلَةً } : حالٌ من القرآن ، إذ هي في معنى مُجْتمعاً .
قوله : { كَذَلِكَ } إمَّا مرفوعةٌ المَحَلِّ أي : الأمرُ كذلك . و « لِنُثَبِّتَ » علةٌ لمحذوفٍ أي : لِنُثَبِّتَ فَعَلْنا ذلك . وإمَّا منصوبتُه على الحالِ أي : أنزل مثلَ ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوفٍ ، و « لِنُثَبِّتَ » متعلقٌ بذلك الفعلِ المحذوفِ . وقال أبو حاتمٍ : « هي جوابُ قسمٍ » وهذا قولٌ مرجُوْحٌ نحا إليه الأخفش وجَعَلَ منه « ولتصغى » ، وقد تقدَّم في الأنعام .
وقرأ عبد الله « لِيُثَبِّتَ » بالياءِ أي : اللهُ تعالى .
والتَّرْتيل : التفريقُ . ومجيءُ الكلمةِ بعد الأخرى بسكونٍ يسيرٍ دونَ قَطْع النَّفَسِ . ومنه ثَغْرٌ رَتْلٌ ومُرَتَّل أي : مُفَلَّجُ الأسنان ، بين أسنانِه فُرَجٌ يسيرةٌ .
قال الزمخشري : « ونُزِّل هنا بمعنى : أَنْزَل لا غير ك خَبَّر بمعنى أَخْبر ، وإلاَّ تدافَعا » يعني أنَّ « نَزَّلَ » بالتشديدِ يقتضي بالأصالةِ التنجيمَ والتفريق ، فلو لم يُجْعَلْ بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك لتدافعَ مع قولِه « جُمْلَةً » لأنَّ الجملةَ تُنَافي التفريقَ ، وهذا بناءً منه على معتقدِه وهو أنَّ التضعيفَ يَدُلُّ على التفريقِ . وقد نَصَّ على ذلك في مواضعَ من كتابة « الكشاف » . وتقدَّم ذلك في البقرةِ وأولِ آل عمران وآخرِ الإِسراء ، وحكى هناك عن ابنِ عباس ما يُقَوِّي ظاهرُه صحتَه .

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)

قوله : { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق } هذا الاستثناءُ مفرَّغٌ . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : لا يَأْتُونك بمَثَلٍ إلاَّ في حالِ إتيانِنا إياك كذا . والمعنى : ولا يَأْتُونك بسؤالٍ عجيبٍ إلاَّ جِئْناك بالأمرِ الحقِّ . و « تَفْسيراً » تمييزٌ ، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي : تفسيراً مِنْ مِثْلِهم .

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

قوله : { الذين يُحْشَرُونَ } : يجوز رفعُه خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هم الذين . ويجوزُ نصبُه على الذمِّ ، ويجوز أن يرتفعَ بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } . ويجوز أَنْ يكونَ « أولئك » بدلاً من أو بياناً للموصول ، و « شَرٌّ مكاناً » خبر الموصول .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)

قوله : { هَارُونَ } : بدلٌ أو بيانٌ ، أو منصوبٌ على القطع . و « وزيراً » مفعولٌ ثانٍ ، وقيل : حالٌ ، والمفعولُ الثاني قوله : « معه » .

فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)

قوله : { فَدَمَّرْنَاهُمْ } : العامَّةُ على « فَدَمَّرْنا » فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوفٍ أي : فَذَهبا فكذَّبُوهما فدَمَّرْناهم . وقرأ عليٌّ كرَّم اللهُ وجهَه « فَدَمِّراهم » أمراً لموسى وهارون . وعنه أيضاً « فَدَمِّرانِّهم » كذلك أيضاً ، ولكنه مؤكَّدٌ بالنونِ الشديدةِ . وعنه أيضاً : « فدَمِّرا بهم » بزيادةِ باءِ الجر بعد فعلِ الأمرِ ، وهي تُشْبِهُ القراءةَ قبلَها في الخَط . ونَقَلَ عنه الزمخشري « فَدَمَّرْتُهم » بتاءٍ المتكلِّمِ .

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)

قوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ، عطفاً على مَفْعول « دَمَّرْناهم » . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره قولُه « أغْرَقْناهم » . ويُرَجَّح هذا بتقدُّم جملةٍ فعليةٍ قبلَه . هذا إذا قُلنا : إنَّ « لَمَّا » ظرفُ زمانٍ ، وأمَّا إذا قُلْنا إنَّها حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ « أَغْرقناهم » حينئذٍ جوابٌ « لَمَّا » ، وجوابُها لا يُفَسِّر ، ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ لا على سبيلِ الاشتغالِ ، أي : اذكرْ قومَ نوحٍ .

وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)

قوله : { وَعَاداً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أَنْ يكونَ معطوفاً على قومِ نوح ، وأنْ يكونَ معطوفاً على مفعولِ « جَعَلْناهم » ، وأَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ « للظالمين » لأنَّه في قوةِ : وَعَدْنا الظالمين بعذابٍ .
قوله : { وَأَصْحَابَ الرس } فيه وجهان ، أحدهما : من عَطْفِ المغايِرِ . وهو الظاهرُ . والثاني : أنَّه من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ . والمرادُ بأصحابِ الرِّسِّ ثمودُ؛ لأنَّ الرَّسَّ البِئْرُ التي لم تُطْوَ ، عن أبي عبيد ، وثمودُ أصحابُ آبار . وقيل : الرَّسُ نهرٌ بالمشرق ، ويقال : إنهم أناسٌ عبدةُ أصنامٍ قَتَلوا نبيَّهم ، ورسَوْه في بئرٍ أي : دَسُّوه فيها .
قوله : { بَيْنَ ذَلِكَ } « ذلك » إشارةٌ إلى مَنْ تقدَّم ذكرُه ، وهم جماعاتٌ ، فلذلك حَسُنَ « بين » عليه .

وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)

قوله : { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } : يجوزُ نصبُه بفعلٍ يفسِّره ما بعده أي : وحَذَّرْنا أو ذكَّرْنا ، لأنهما في معنى : ضَرَبْنا له الأمثالَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما تقدَّم ، و « ضَرَبْنا » بيانٌ لسببِ إهْلاكهم . وأمَّا « كلاً » الثانيةُ فمفعولٌ مقدمٌ .

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

قوله : { مَطَرَ السوء } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ أي : إمْطار السَّوْء . الثاني : أنه مفعولٌ ثانٍ؛ إذ المعنى : أعطيتُها وأَوْلَيْتُها مطرَ السَّوْء . الثالث : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : إمطاراً مثلَ مطرِ السَّوْء .
وقرأ : زيد بن علي « مُطِرَت » ثلاثياً مبنياً للمفعولِ و « مَطَرَ » متعدٍ قال :
3485 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَمَنْ بِوادِيْه بعد المَحْلِ مَمْطورِ
وقرأ أبو السَّمَّال « مَطَرَ السُّوء » . بضم السين . وقد تقدَّم الكلامُ على السُّوء والسَّوْء في براءة .
وقوله : { أَتَوْا عَلَى القرية } إنما عدى « أتى » ب « على » لأنه ضُمِّنَ معنى « مَرَّ » .

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)

قوله : { إِن يَتَّخِذُونَكَ } : « إنْ » نافيةٌ و « هُزُواً » مفعولٌ ثانٍ ، ويحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ : موضعَ هُزْء ، وأَنْ يكونَ مَهْزُوَّاً بك . وهذه الجملةُ المنفيةُ تحتمل وجهين ، أحدهما : أنها جوابُ الشرطية . واختصَّت « إذا » بأنَّ جوابها متى كان منفياً ب « ما » أو « إنْ » أو « لا » ، لا يَحْتاج إلى الفاءِ ، بخلافِ غيرِها مِنْ ِأدواتِ الشرط . فعلى هذا يكون قولُه : « أهذا الذي » في محلِّ نصبٍ بالقولِ المضمرِ . وذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : إنْ يَتَّخذونك قائلين ذلك . والثاني : أنَّها جملةٌ معترضةً بين « إذا » وجوابِها ، وجوابُها : هو ذلك القولُ المضمرُ المَحْكيُّ به « أهذا الذي » والتقديرُ : وإذا رَأَوْك قالوا : أهذا الذي بعثَ ، فاعترض بجملة النفي . ومفعولُ « بَعَثَ » محذوفٌ هو عائدٌ الموصولِ أي : بَعَثَه . و « رسولاً » على بابِه من كونِه صفةً فينتصبُ على الحالِ . وقيل هو مصدرٌ/ بمعنى رِسالة فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا رسولٍ ، بمعنى : ذا رسالة ، أو يُجْعَلُ نفسَ المصدرِ مبالغةً ، أو بمعنى مُرْسَل . وهو تكلُّف .

إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)

قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } : قد تقدَّم نظيرُه في « سبحان » .
قوله : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا } جوابُها محذوفٌ أي : لضَلَلْنا عن آلهتِنا ، قال الزمخشري : « ولولا في مثلِ هذا الكلامِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعةُ مَجْرى التقييدِ للحكمِ المطلقِ » .
قوله : { مَنْ أَضَلُّ } جملةُ الاستفهامِ معلِّقةٌ ل « يَعْلمون » ، فهي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها إنْ كانَتْ على بابِها ، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ بمعنى عَرَفَ . ويجوزُ في « مَنْ » أَنْ تكنَ موصولةً . و « أَضَلُّ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، هو العائدُ على « مَنْ » تقديرُه : مَنْ هو أضلُّ . وإنما حُذِفَ للاستطالةِ بالتمييزِ كقولِهم : « ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً » ، وهذا ظاهرٌ إن كانَتْ متعديةً لواحد ، وإنْ كانَتْ متعديةً لاثنين فتحتاجُ إلى تقديرٍ ثانٍ ولا حاجةَ إليه .

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)

قوله : { مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } مفعولا الاتِّخاذِ مِنْ غيرِ تقديمٍ ولا تأخيرٍ لاستوائِهما في التعريفِ ، وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ أَخَّر » هواه « والأصلُ قولُك : اتَّخذ الهوى إلَهاً »؟ قلت : ما هو إلاَّ تقديمُ المفعولِ الثاني على الأولِ للعنايةِ به ، كما تقولُ « عَلِمْتُ منطلقاً زيداً » لفضلِ عنايتِك بالمنطَلقِ « . قال الشيخ : » وادِّعاءُ القلبِ يعني التقديمَ ليس بجيدٍ لأنَّه من ضرائرِ الأشعارِ « . قلت : قد تقدَّم فيه ثلاثةُ مذاهبَ . على أنَّ هذا ليس من القلبِ المذكورِ في شيء ، إنما هو تقديمٌ وتأخيرٌ فقط .
وقرأ ابن هرمز » إلاهَةً هواه « على وزن فِعالة . والإَهة بمعنى : المألوه ، والهاءُ للمبالغةِ كعلاَّمَة ونسَّابة . وإلاهَةً مفعولٌ ثانٍ قُدِّم لكونِه نكرةً ، ولذلك صُرِفَ . وقيل : الإَهَةً هي الشمسُ . ورُدَّ هذا : بأنَّه كان ينبغي أن يمتنعَ من الصرفِ للعلميةِ والتأنيث . وأُجيب بأنها تدخُل عليها أل كثيراً فلمَّا نُزِعَتْ منها صارَتْ نكرةً جاريةً مجرى الأوصافِ . ويُقال : أُلاهَة بضمِّ الهمزةِ أيضاً اسماً للشمس .
وقرأ بعضُ المدنيين » آلهةً هواه « جمع إلَه ، وهو أيضاً مفعولٌ مقدَّمٌ ، وجمُِع باعتبارِ الأنواعِ ، فقد كان الرجلُ يعبُدُ آلهةً شَتى . ومفعولُ » أرأيتَ « الأولِ » مَنْ « ، والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ .

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)

قوله : { كَيْفَ } : منصوبةٌ ب « مَدَّ » وهي مُعَلِّقَةٌ ل « تَر » فهي في موضعِ نصبٍ وقد تقدَّم القولُ في « ألم تَرَ » .
قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا } قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : » ثم « في هذين الموضعين كيف موقعُها؟ قلت : موقعُها لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثلاثةِ ، كأنَّ الثاني أعظمُ من الأولِ ، والثالثَ أعظمُ منهما تشبيهاً؛ لتباعُدِ ما بينها في الفَضْلِ بتباعُدِ ما بينها في الوقتِ » .

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)

قوله : { لِّنُحْيِيَ بِهِ } : فيه وجهان أظهرُهما : أنَّه متعلقٌ بالإِنزالَ . والثاني : وهو ضعيفٌ أنَّه متعلقٌ ب « طَهورٍ » . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : إنزالُ الماءِ موصوفاً بالطهارة ، وتعليلُه بالإِحياءِ والسَّقْيِ يُؤْذِنُ بأنَّ الطهارةَ شرطٌ في صحةِ ذلك كما تقول : » حَمَلني الأميرُ على فَرَس جوادٍ لأَصِيْدَ عليه الوحشَ « ، قلت : لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِنْ جملة ما أُنْزِل له الماءُ وُصِفَ بالطهارة إكراماً لهم وتَتْميماً للمِنَّةِ عليهم » .
و « طَهُور » يجوز أَنْ يكونَ صفةَ مبالغةٍ منقولاً من طاهر كقوله تعالى : { شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ، وقال :
3486 إلى رُجَّح الأَكْفالِ غِيْدٍ من الصِّبا ... عِذابِ الثَّنايا رِيْقُهُنَّ طَهُوْرُ
وأَنْ يكونَ اسمَ ما يُتَطَهَّرُ به كالسَّحُور ، وأَنْ يكونَ مصدراً كالقَبول والوَلُوع . ووصفُ « بَلْدةً » ب « مَيْت » وهي صفةٌ للمذكورِ لأنها بمعنى البلد .
قوله : { وَنُسْقِيَهِ } العامَّةُ على ضمِّ النونِ . وقرأ أبو عمرو وعاصم في روايةٍ عنهما وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بفتحها . وقد تقدم أنه قُرىء بذلك في النحل والمؤمنين . وتقدم كلامُ الناسِ عليهما .
قوله : { مِمَّا خَلَقْنَآ } يجوز أن تَتَعلَّقَ ب « نُسْقيه » ، وهي لابتداء الغاية . ويجوزُ أن تَتَعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِنْ « أنعاماً » . ونُكِّرَتِ الأنعام والأناسيّ : قال الزمخشري : « لأنَّ عليَّةَ الناسِ وجُلَّهم مُنيخون بالأودية والأنهارِ ، فبهم غُنْيَةٌ عن سقْي الماء ، وأعقابُهم وهم كثيرٌ منهم لا يُعَيِّشهم إلاَّ ما يُنْزِلُ اللهُ مِنْ رحمتِه وسُقْيا سمائِه » .
قوله : { وَأَنَاسِيَّ } فيه وجهان ، أحدهما : وهو مذهبُ سيبويه أنَّه جمعُ إنسان . والأصلُ : إنسان وأنَاسين ، فَأُبْدِلَتِ النونُ ياءً وأُدْغم فيها الياءُ قبلَها ، ونحوَ ظِرْبانِ وظَرابِيّ . والثاني : وهو قولُ الفراء والمبرد والزجَّاج أنه جمع إنْسِيّ . وفيه نظرٌ لأنَّ فَعالِيّ إنما يكونُ جمعاً لِما فيه ياءٌ مشددةٌ لا تدلُّ على نَسَبٍ نحو : كُرْسِيّ وكَرَاسيّ . / فلو أُريد ب كرسيّ النسبُ لم يَجُزْ جمعُه على كراسيّ . ويَبْعُدُ أَنْ يُقالَ : إن الياءَ في إِنْسِي ليست للنسبِ وكان حقُّه أَنْ يُجْمَعَ على أَناسِية نحو : مَهالبة في المُهَلَّبي وأَزارِقة في الأَزْرقي .
وقرأ يحيى بن الحارث الذِّماري والكسائي في رواية « وأناسِيَ » بتخفيف الياء . قال الزمخشري : « بحذفِ ياءِ أفاعيل كقولك : أناعِم في أناعِيم » . وقال : « فإنْ قلت لِمَ قَدَّمَ إحياءَ الأرضِ وسَقْيَ الأنعامِ على سَقْي الأناسي . قلت : لأن حياةَ الأناسيِّ بحياةِ أرضِهم وحياةِ أنعامهم ، فقدَّم ما هو سببُ حياتِهم ، ولأنَّهم إذا ظَفِروا بسُقيْا أرضِهم وسَقْيِ أنعامِهم لم يَعْدِموا سُقْياهم » .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } : يجوزُ أَنْ تعودَ الهاءُ على القرآن ، وأن تعودَ على الماءِ أي : صَرَّفنا نُزولَه مِنْ وابِل وَطلّ وجَوْد ورَذاذ وغيرِ ذلك . وقرأ عكرمة « صَرَفْناه » بتخفيف الراء .

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

قوله : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } : أي بالقرآن ، أو بتركِ الطاعةِ المدلولِ عليها بقولهِ { فَلاَ تُطِعِ } ، أو بما دَلَّ عليه { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } مِنْ كونِه نذيرَ كافةِ القُرى أو بالسيف .

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)

قوله : { مَرَجَ البحرين } : في مَرَجَ قولان ، أحدهما : بمعنى : خَلَطَ ومَرَجَ ، ومنه مَرَجَ الأمرُ أي : اختلط قاله ابن عرفة . وقيل : مَرَجَ : أجرى . وأَمْرَجَ لغةٌ فيه . قيل : مَرَجَ لغةُ الحجاز ، وأَمْرَجَ لغةُ نجدٍ . وفي كلامِ بعضِ الفصحاء : « بَحْران أحدُهما بالآخرِ ممروجٌ ، وماءُ العذب منهما بالأُجاج ممروج » .
قوله : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ ، جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ . كأنَّ قائلاً قال : كيف مرْجُهما؟ فقيل : هذا عَذْبٌ وهذا مِلْحٌ . ويجوز على ضَعْفٍ أن تكونَ حاليةً . والفُراتُ المبالِغُ في الحلاوةِ . والتاءُ فيه أصليةٌ لامُ الكلمةُ . ووزنُه فُعال ، وبعضُ العربِ يقفُ عليها هاءً . وهذا كما تقدَّم لنا في التابوت . ويُقال : سُمِّي الماءُ الحُلْوُ فُراتاً؛ لأنه يَفْرُتُ العطشَ أي : يَشُقُّه ويَقْطَعُه . والأُجاج : المبالِغُ في الملُوحة . وقيل : في الحرارةِ . وقيل : في المَرارة ، وهذا من أحسنِ المقابلةِ ، وحيث قال تعالى عَذْبٌ فُراتٌ ومِلْحٌ أُجاجٌ . وأنشدْتُ لبعضهم :
3487 فلا واللهِ لا أَنْفَكُّ أَبْكي ... إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتا
أألحى إنْ نَزَحْتُ أُجاجَ عَيْني ... على جَدَثٍ حوى العَذْبَ الفُراتَا
ما أحسنَ ما كنى عن دَمْعِه بالأجاج ، وعن المبكيِّ عليه بالعذب الفُراتِ ، وكان سببَ إنشادِي هذين البيتين أنَّ بعضَهم لحَّن قائلَهما في قولِه « عُراتا » : كيف يَقِفُ على تاءِ التأنيث المنونة بالألفِ؟ فقلت : إنها لغةٌ مستفيضةٌ يَجْعلون التاءَ كغيرِها فيُبْدلون تنوينَها بعد الفتحِ ألفاً . حَكَوْا عنهم . أكلْتُ تَمْرَتا ، نحو : أكلْتُ زَيْتا .
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي « مَلِحٌ » بفتح الميم وكسرِ اللام ، وكذا في سورة فاطر ، وهو مقصورٌ مِنْ مالح ، كقولهم : بَرِد في بارد قال :
3488 وصِلِّيانا بَرِدا ... وماء مالح لغةٌ شاذةٌ . وقال أبو حاتم : « وهذه قراءةٌ مُنْكَرَةٌ » .
قوله : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } : الظاهرُ عطفُه على « بَرْزَخاً » . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : حِجراً مَحْجُوراً ما معناه؟ قلت : هي الكلمةُ التي يَقُولُها المتعوِّذُ ، وقد فَسَّرناها ، وهي هنا واقعةٌ على سبيلِ المجازِ . كأنَّ كلَّ واحدٍ من البحرَيْن يقول لصاحبِه : حِجْراً مَحْجُوراً ، وهي من أحسنِ الاستعاراتِ » ، فعلى ما قالَه يكونُ منصوباً بقولٍ مضمرٍ .
قوله : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } يجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ متعلِّقاً بالجَعْل ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ « بَرْزَخاً » ، والأولُ أظهرُ .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

قوله : { مِنَ المآء } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بخَلَقَ ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ « ماء » و « مِنْ » للابتداء أو للتبعيض . والصِّهْرُ : قال الخليل : « لا يُقال لأهلِ بيتِ المرأةِ إلاَّ » أَصْهار « ، ولا لأهلِ بيتِ الرَّجل إلاَّ » أَخْتان « . قال : » ومن العربِ مَنْ يُطلق الأصهارَ على الجميع « . وهذا هو الغالب .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

قوله : { على رَبِّهِ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « ظَهيراً » وهو الظاهر ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه خبرُ « كان » و « ظهيراً » حالٌ . والظَّهير : المُعاوِن .

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)

قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : هو منقطعٌ أي : لكنْ مَنْ شاءَ أَنْ يتَّخِذَ إلى ربه سبيلاً فَلْيَفْعَلْ . والثاني : أنه متصلٌ على حَذْفِ مضافٍ يعني : إلاَّ أجرَ مَنْ ، أي : الأجر الحاصل على دعائِه إلى الإِيمانِ وقَبولِه؛ لأنَّه تعالى يَأْجُرُني على ذلك . كذا حكاه الشيخ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يُسْنِدِ السؤالَ المنفيَّ في الظاهر إلى اللهِ تعالى ، إنما أسندَه إلى المخاطبين . فكيف يَصِحُّ هذا التقديرُ؟

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)

قوله : { الذي خَلَقَ السماوات } : يجوزُ فيه على قراءةِ العامَّةِ في « الرحمنُ » بالرفع أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأ و « الرحمنُ » خبره ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مقدرٍ أي : هو الذي خَلَقَ ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ ، وأَنْ يكونَ صفةً للحيِّ الذي لا يموت أو بدلاً/ أو بياناً . وأمَّا على قراءةِ زيدِ بن علي « الرحمنِ » بالجرِّ فيتعيَّن أَنْ يكونَ « الذي خلق » صفةً للحيِّ فقط؛ لئلا يُفْصَلَ بين النعتِ ومنعوتِه بأجنبيّ .
قوله : { الرحمن } مَنْ قرأ بالرفعِ ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه خبرُ « الذي خَلَق » وقد تقدَّم . أو يكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو الرحمنُ ، أو يكونُ بدلاً من الضمير في « استوى » أو يكونُ مبتدأ ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه { فَسْئَلْ بِهِ } على رأيِ الأخفش . كقوله :
3489 وقائلةٍ خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو يكونُ صفةً للذي خلق ، إذا قلنا : إنه مرفوعٌ . وأمَّا على قراءةِ زيدٍ فيتعيَّن أَْن يكونَ نعتاً .
قوله : « به » في الباء قولان : أحدهما : هي على بابِها ، وهي متعلقةٌ بالسؤالِ . والمرادُ بالخبير اللهُ تعالى ، ويكونُ مِنَ التجريدِ ، كقولك : لقيت به أَسَداً . والمعنى : فاسألِ اللهَ الخبيرَ بالأشياء . قال الزمخشري : « أو فاسْأَلْ بسؤالِه خبيراً ، كقولك : رأيتُ به أسداً أي : برؤيتِه » انتهى . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ صلةً « خبيراً » و « خبيراً » مفعول « اسْأَلْ » على هذا ، أو منصوبٌ على الحالِ المؤكِّدة . واستضعفه أبو البقاء . قال « ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ خبيراً حالاً مِنْ فاعل » اسألْ « لأنَّ الخبيرَ لا يُسْأل إلاَّ على جهةِ التوكيد كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ثم قال : » ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من « الرحمن » إذا رَفَعْتَه ب استوى . والثاني : أن تكونَ الباءُ بمعنى « عن » : إمَّا مطلقاً ، وإمَّا مع السؤالِ خاصةً كهذه الآيةِ الكريمةِ وكقولِ الشاعر :
3490 فإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . والضميرُ في « عنه » للهِ تعالى و « خبيراً » من صفاتِ المَلَكِ وهو جبريلُ عليه السلام . ويجوز على هذا أعني كونَ « خبيراً » من صفاتِ جبريل أَنْ تكونَ الباءُ على بابِها ، وهي متعلقةٌ ب « خبيراً » كما تقدَّم أي : فاسْأَلِ الخُبَراء به .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

قوله : { لِمَا تَأْمُرُنَا } : قرأ الأخَوان « يأْمُرُنا » بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم . والباقون بالخطاب يعني : لِما تأمرنا أنت يا محمد . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي . والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ « أَمَرَ » يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ . ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء : وهو أنَّ الأصلَ : لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له ، ثم بسجودِه ، ثم تَأْمُرُناه ، ثم تأْمُرُنا . كذا قَدَّره ، ثم قال : هذا على مذهبِ أبي الحسن ، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنْ غيرِ تَدْريج « . قلت : وهذا ليس مذهبَ سيبويه . ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً ، والكلامُ في عائِدها موصوفةً كهي موصولةً . ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً ، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي : أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْرِكَ ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً . أي : أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا . وعلى هذا لا تكونُ » ما « واقعةً على العالِم . وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك ، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ .

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)

قوله : { سِرَاجاً } : قرأ الجمهورُ بالإِفراد ، والمرادُ به الشمسُ ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه . والأخَوان « سُرُجاً » بضمتين جمعاً ، نحو حُمُر في حِمار . وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات . وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد انتظامِهما في الملائكةِ . وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك ، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً . والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و « قُمْراً » بضمةٍ وسكونٍ ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء . والمعنى : وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا ، فحذف المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب « منيرا » . ولو لم يَعْتَبِرْه لقال : منيرةً ، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان :
3491 يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ ... بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
الأصل : ماء بَرَدَى ، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ : « يُصَفِّقُ » بالياءِ مِنْ تحتُ ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ « تُصَفِّقُ » بالتاء مِنْ فوقُ . على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه :
3492 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها
مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

قوله : { خِلْفَةً } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ ثانٍ . والثاني : أنه حالٌ بحَسَبِ القَوْلَيْن في « جَعَل » . وخِلْفَة يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ خَلَفَه يَخْلُفه ، إذا جاء مكانَه ، وأَنْ يكونَ اسمَ هيئةٍ كالرِّكْبَةِ ، وأَنْ يكونَ من الاختلافِ كقولِه :
3493 ولها بالماطِرُوْنَ إذا ... أكلِ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفةً حتى إذا ارتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيعاً
في بيوتٍ وَسْطَ دَسْكَرةٍ ... حَوْلَها الزيتونُ قد يَنَعا
ومثلُه قول زهير :
3494 بها العِيْنُ والآرام يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأَفْرَدَ « خِلْفَةً » قال أبو البقاء : « لأنَّ المعنى : يَخْلُفُ/ أحدُهما الآخرَ ، فلا يتحقَّق هذا إلاَّ منهما » انتهى .
والشُّكور : بالضم مصدرٌ بمعنى الشُكر ، وبالفتحِ صفةُ مبالغةٍ .

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)

قوله : { وَعِبَادُ الرحمن } : رفعٌ بالابتداءِ . وفي خبره وجهان ، أحدهما : الجملةُ الأخيرةُ في آخرِ السورة : { أولئك يُجْزَوْنَ } [ الآية : 75 ] وبه بَدَأ الزمخشريُّ . « والذين يَمْشُون » وما بعده صفاتٌ للمبتدأ . والثاني : أنَّ الخبرَ « يَمْشُوْن » . العامَّةُ على « عباد » . واليماني « عُبَّاد » بضمِّ العين ، وشدِّ الباءِ جمع عابد . والحسن « عُبُد » بضمتين .
والعامَّةُ « يَمْشُوْن » بالتخفيفِ مبنياً للفاعل . واليماني والسُلميُّ بالتشديد مبنياً للمفعول .
قوله : { هَوْناً } : إمَّا نعتُ مصدرٍ أي : مَشْياً هَوْناً ، وإمَّا حالٌ أي : هَيِّنِيْن . والهَوْن : اللِّيْنُ والرِّفْقُ .
قوله : { سَلاَماً } : يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : نُسَلِّم سَلاماً ، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم ، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي : قالُوا هذا اللفظَ . قال الزمخشري : أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى . والمرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله :
3495 ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة ، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ ، ثم نُسِخَ ذلك ، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ .

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)

قوله : { سُجَّداً } : خبرُ « يَبِيْتُون » ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ تامةَ . أي : دَخَلوا في البَيات . و « سُجَّداً » حال . و « لربِّهم » متعلقٌ بسُجَّداً وقَدَّمَ السجودَ على القيام ، وإن كان بعدَه في الفعلِ لاتفاق الفواصل . وسُجَّداً جمعُ ساجِد كضُرِّب في ضارِب . وقرأ أبو البرهسم « سُجوداً » بزنة قُعُود . و « يَبِيْتُ » هي اللغةُ الفاشيةُ ، وأَزْدُ السَّراة وبُجَيْلَة يقولون : يَباتُ وهي لغةُ العوامِّ اليوم .

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)

قوله : { غَرَاماً } : أي : لازمِاً دائماً . وعن الحسن : كلُّ غَريمٍ يفارِقُ غَريمه إلاَّ غريمَ جهنَّمَ . وأنشدُوا قولَ بشر بن أبي خازم :
3496 ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفا ... رِ كانا عَذاباً وكانا غَراما
وقال الأعشى :
3497 إن يُعاقِبْ يكُنْ غَراماً وإنْ يُع ... طِ جَزِيلاً فإنَّه لا يُبالي
ف « غراماً » بمعنى لازم .

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)

قوله : { سَآءَتْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى أَخْزَنَتْ فتكونَ متصرفةً ، ناصبةً المفعولَ به ، وهو هنا محذوفٌ أي : إنها أي : جهنَم أَحْزَنَتْ أصحابَها وداخليها . ومُسْتقراً : يجوزُ أن يكونَ تمييزاً ، وأَنْ يكونَ حالاً . ويجوز أَنْ تكونَ « ساءَتْ » بمعنى بِئْسَتْ فتعطى حكمَها . ويكونُ المخصوصُ محذوفاً . وفي ساءَتْ ضميرٌ مبهمٌ . و « مُسْتَقَراً » يتعيَّنُ أنْ يكونَ تمييزاً أي : ساءَتْ هي . ف « هي » مخصوصٌ . وهو الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين ما وَقَعَتْ خبراً عنه ، وهو « إنَّها » ، وكذا قَدَّره الشيخ . وقال أبو البقاء : « ومُسْتَقَرَّاً تمييزٌ . وساءَتْ بمعنى بِئْسَ » . فإن قيلَ : يَلْزَمُ من هذا إشكالٌ ، وذلك أنه يَلْزَمُ تأنيثُ فعلِ الفاعلِ المذكَّرِ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ لذلك ، فإنَّ الفاعلَ في « ساءَتْ » على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعدَه ، وهو « مُسْتقراً ومُقاماً » ، وهما مذكَّران فمِنْ أين جاء التأنيثُ؟ والجوابُ : أن المستقرَّ عبارةٌ عن جهنَّمَ فلِذلك جاز تأنيثُ فِعْلِه . ومثلُه قولُه :
3498 أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَبْجاءُ مُجْفَرَةٌ ... دعائمُ الزَّوْرِ نعْمَتْ زَوْرَقُ البلدِ
ومُسْتقراً ومُقاماً : قيل : مُترادفان ، وعُطِفَ أحدُهما على الآخر لاختلافِ لَفْظَيْهما . وقيل : بل هما مختلفا المعنى ، فالمستقرُّ : للعُصاةِ فإنهم يَخْرُجون . والمُقام : للكفَّارِ فإنَّهم يَخْلُدون .
وقرأت فرقةُ « مَقاماً » بفتح الميم أي : مكانَ قيامِ . وقراءةُ العامَّةِ هي المطابِقَةُ للمعنى أي : مكانَ إقامةٍ وثُوِيّ وقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً } يُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ كلامِهم ، فتكونَ منصوبةً المحلِّ بالقول ، وأَنْ تكونَ مِنْ كلامِ اللهَ تعالى .

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

قوله : { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } : قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو عمرٍو بالفتحِ والكسرِ . ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ أَقْتَرَ . وعليه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] . وأنكر أبو حاتم/ « أقتر » وقال : « لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } . ورُدَّ عليه : بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق .
وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في قَتَّر بمعنى ضَيَّق .
قوله : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } في اسم كان وجهان ، أشهرهما : أنه ضميرٌ يعودُ على الإِنفاقِ المفهومِ مِنْ قوله : » أَنْفَقُوا « أي : وكان إنفاقُهم مُسْتوياً قَصْداً لا إسرافاً ولا تَقْتيراً . وفي خبرِها وجهان . أحدُهما : هو قَواماً و » بينَ ذلك « : إمَّا معمولٌ له ، وإمَّا ل » كان « عند مَنْ يرى إعمالَها في الظرف ، وإمَّا لمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ » قَواما « . ويجوزُ أَنْ يكونَ » بين ذلك قواماً « خبرَيْن ل » كان « عند مَنْ يرى ذلك ، وهم الجمهور خلافاً لابن دُرُسْتَوَيْه . الثاني : أن الخبرَ » بين ذلك « و » قَواماً « حالٌ مؤكدةٌ .
والثاني : من الوجهين الأَوَّلين : أَنْ يكونَ اسمُها » بين ذلك « وبُني لإضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ ، و » قواماً « خبرُها . قاله الفراء . قال الزمخشري : » وهو من جهةِ الإِعرابِ لا بأسَ به ، ولكنه من جهةِ المعنى ليس بقويٍ ، لأنَّ ما بينَ الإِسْرافِ والتَّقْتيرِ قَوامٌ لا مَحالةَ ، فليس في الخبر الذي هو معتمدُ الفائدةِ فائدةٌ « . قلت : هو يُشْبِهُ قولَك » كان سيدُ الجارية مالكَها « .
وقرأ حسان بن عبد الرحمن » قِواما « بالكسرِ فقيل : هما بمعنىً . وقيل : بالكسرِ اسمُ ما يُقام به الشيءُ . وقيل : بمعنى سَداداً ومِلاكاً .

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)

قوله : { إِلاَّ بالحق } : يَجُوزُ أَنْ تتعلَّقَ الباءُ بنفسِ « يَقْتُلون » أي : لا يَقْتُلونها بسببٍ من الأسبابِ إلاَّ بسببِ الحق ، وأَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ للمصدرِ أي : قَتْلاً ملتبساً بالحقِّ ، أو على أنها حالٌ أي : إلاَّ مُلْتَبِسين بالحقِّ .
قوله : « ذلك » إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم لأنه بمعنى : ما ذُكِر ، فلذلك وُحِّدَ . والعامَّةُ على « يَلْقَ » مجزوماً على جزاءِ الشرط بحذفِ الألِف . وعبد الله وأبو رجاء « يلقى » بإثباتها كقوله : { فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] على أحدِ القولين ، وكقراءةِ : { لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] في أحدِ القولين أيضاً ، وذلك بأَنْ نُقَدِّرَ علامةَ الجزمِ حَذْفَ الضمة المقدِرة .
وقرأ بعضُهم « يُلَقَّ » بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف مِنْ لَقَّاه كذا . والأَثام مفعولٌ على قراءةِ الجمهورِ ، ومفعولٌ ثانٍ على قراءةِ هؤلاء . والأَثام : العقوبةُ . قال الشاعر :
3499 جزى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيث أمسى ... عَقوقاً والعُقوقُ له أَثامُ
أي : عقوبةٌ . وقيل : هو الإِثمُ نفسُه . والمعنى : يَلْقَ جزاءَ إثمِ ، فأطلقَ اسمَ الشيءِ على جزائِه . وقال الحسن : « الأَثامُ اسمٌ مِنْ أسماءِ جهنَّم . وقيل : بئرٌ فيها . وقيل : وادٍ . وعبد الله » أيَّاماً « جمعُ » يوم « يعنى شدائدَ ، والعرب تُعَبِّر عن ذلك بالأيام .

يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)

قوله : { يُضَاعَفْ } : قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع « يُضاعَفُ » و « يَخْلُدُ » على أحدِ وجهين : إمَّا الحالِ ، وإمَّا على الاستئنافِ . والباقون بالجزمِ فيها ، بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال . ومثلُه قولُه :
3500 متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا
فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ . وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين ، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ عامرٍ مع ابنِ كثير ، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم .
وقرأ أبو جعفر وشيبة « نُضَعِّفْ » بالنون مضمومة وتشديدِ العين ، « العذابَ » نصباً على المفعول به . وطلحة « يُضاعِف » مبنياً للفاعل أي اللَّهُ ، « العذابَ » نصباً . وطلحة بن سليمان و « تَخْلُدْ » بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ . وأبو حيوةَ « وُيخَلِّد » مشدداً مبنياً للمفعولِ . ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك ، إلاَّ أنه بالتخفيف .
قوله : { مُهَاناً } حالٌ . وهو اسمُ مفعولٍ . مِنْ أَهانه يُهِيْنُه أي : أذلَّه وأَذاقه الهوان .

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)

قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الذي لم يَعْرف الناسُ غيرَه أنَّه استثناءٌ متصلٌ لأنَّه من الجنسِ . الثاني : أنه منقطع . قال الشيخ : « ولا يَظْهَرْ يعني الاتصال لأنَّ المستثنى منه مَحْكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له العذابُ ، فيصيرُ التقديرُ : إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحاً فلا يُضاعَفُ له . ولا يَلزَمُ من انتفاءِ التضعيفِ انتفاءُ العذابِ غيرِ المضعَّفِ ، فالأولى عندي أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً أي : لكن مَنْ/ تابَ وآمنَ وعَمِل عملاً صالحاً فأولئك يُبَدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ . وإذا كان كذلك فلا يَلْقَى عذاباً البتةَ » . قلت : والظاهرُ قولُ الجمهورِ . وأمَّا ما قاله فلا يَلْزَمُ؛ إذ المقصودُ الإِخبارُ بأنَّ مَنْ فعل كذا فإنه يَحُلُّ به ما ذَكَرَ ، إلاَّ أَنْ يتوبَ . وأمَّا إصابةُ أصلِ العذابِ وعدمُها فلا تَعرُّضَ في الآية له .
قوله : { سَيِّئَاتِهِمْ } هو المفعولُ الثاني للتبديلِ ، وهو المقيَّدُ بحرفِ الجر ، وإنما حُذِفَ لفهم المعنى وحَسَنات هو الأولُ المُسَرَّح وهو المأخوذُ ، والمجرورُ بالباءِ هو المتروكُ . وقد صَرَّح بهذا في قولِه تعالى : { بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] . وقال الراجز :
3501 تَضْحَكُ منِّي أختُ ذاتِ النِّحْيَيْنْ ... أَبْدلكِ اللهُ بلونٍ لَوْنَيْنْ
سوادَ وجهٍ وبياضَ عَيْنَيْنُ ... وقد تقدم تحقيقُ هذا في البقرةِ عند قولِه : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)

قوله : { الزُّورَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به أي : لا يَحْضُرون الزُّوْرَ . وفُسِّر بالصنمِ واللهوِ . الثاني : أنه مصدرٌ ، والمرادُ شهادةُ الزُّوْرِ .
قوله : { بِاللَّغْوِ } أي بأهِله .

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)

قوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً } : النفيُ مُتَسَلِّطٌ على القيدِ ، وهو الصَّمَمُ والعمى أي : إنهم يَخِرُّون عليها ، لكنْ لا على هاتين الصفتين . وفيه تعريضٌ بالمنافقين .

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

قوله : { مِنْ أَزْوَاجِنَا } : يجوزُ أَنْ تكونَ « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وأنْ تكونَ للبيانِ . قاله الزمخشري ، وجعله من التجريدِ ، أي : هَبْ لنا قُرّةَ أَعْيُنٍ من أزواجِنا كقولِك : « رأيت منك أسداً » وقرأ أبو عمرٍو والأخَوان وأبو بكر « ذُرِّيَّتِنا » بالتوحيدِ ، والباقون بالجمعِ سلامةً . وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود « قُرَّاتِ » بالجمعِ . وقال الزمخشري : « أتى هنا ب » أَعْيُن « صيغةِ القلةِ ، دون » عيون « صيغةٍ الكثرة ، إيذاناً بأنَّ عيونَ المتقين قليلةٌ بالنسبةِ إلى عُيون غيرهم » . ورَدَّه الشيخُ بأنَّ أَعْيُناً يُطْلَقُ على العشرة فما دونَها ، وعيونَ المتقين كثيرةٌ فوق العَشرة « ، وهذا تَحَمُّل عليه؛ لأنه إنما أراد القلةَ بالنسبة إلى كثرةِ غيرِهم ، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً .
قوله : { إِمَاماً } فيه وجهان ، أَحدُهما : أنَّه مفردٌ ، وجاء به مفرداً إرادةً للجنس ، وحَسَّنَه كونُه رأسَ فاصلةٍ . أو المراد : اجعَلْ كلَّ واحدٍ منا إماماً ، وإمَّا لاتِّحادِهم واتفاقِ كلمتِهم ، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ كصِيام وقِيام . والثاني : أنه جمعُ آمّ كحالٍّ وحِلال ، أو جمعُ إِمامة كقِلادة وقِلاد .

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)

قوله : { الغرفة } : مفعولٌ ثانٍ ل « يُجْزَوْن » . والغُرْفَةُ ما ارتفعَ من البناءِ ، والجمعُ غُرَفٌ .
قوله : { بِمَا صَبَرُواْ } أي : « بصَبْرِهم » أي : بسببِه أو بسببِ الذي صبروه . والأصلُ : صبروا عليه ، ثم حُذِفَ بالتدريج . والباءُ للسببية كما تقدَّم . وقيل : للبدلِ كقوله :
3502 فليت لي بهُم قَوْماً . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . ولا حاجةَ إلى ذلك .
قوله : { وَيُلَقَّوْنَ } قرأ الأَخَوان وأبو بكر بفتح الياء ، وسكونِ اللام ، مِنْ لَقِيَ يلقى . الباقون بضمِّها وفتحِها وتشديدِ القافِ على بنائِه للمفعول .

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

قوله : { لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } : جوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم . أي : لولا دعاؤُكم ما عَنَى بكم ولا اكترَثَ . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً . وهو الظاهرُ . وقيل : استفهاميةٌ بمعنى النفي ، ولا حاجةَ إلى التجوُّزِ في شيءٍ يَصِحُّ أَنْ يكونَ حقيقةً بنفسه . و « دعاؤُكم » : يجوز أن يكونَ مضافَاً للفاعلِ أي : لولا تَضَرُّعُكم إليه . ويجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي : لولا دعاؤُه إيَّاكم إلى الهدى . ويقال : ما عَبَأْتُ بك أي : ما اهتَمَمْتُ ولا اكتَرَثْتُ . ويقال : عَبَأْتُ الجيشَ وعَبَّأته أي : هَيَّأْتُه وأَعْدَدْتُه ، والعِبْء : الثِّقَلُ .
قوله : { لِزَاماً } خبرُ « يكون » واسمُها مضمرٌ أي : يكون العذابُ ذا لِزام . واللِّزام : بالكسرِ مصدرٌ كقوله :
3503 فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ ... فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما
وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال « لَزاماً » بفتح اللامِ . وهو مصدرٌ أيضاً نحو : البَيات . وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً « لَزامِ » بكسر الميم كأنه جَعَله مصدراً معدولاً نحو : « بَدادِ » فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال :
3504 إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا ... فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ

طسم (1)

قوله : { طسم } : أظهر حمزةُ نونَ « سين » قبل الميمِ كأنه ناوِي الوقفِ/ وإلاَّ فإدغامُ مثلِه واجبٌ . والباقون يُدغمون . وقد تقدَّم إعرابُ الحروفِ المقطعة . وفي مصحفِ عبد الله ط . س . م . مقطوعةً من بعضها . قيل : وهي قراءةُ أبي جعفر ، يَعْنُون أنه يقف على كلِّ حرفٍ وَقْفَةً يميز بها كلَّ حرفٍ ، وإلاَّ لم يُتَصَوَّرْ أَنْ يُلْفَظُ بها على صورتِها في هذا الرسمِ . وقرأ عيسى وتروى عن نافع بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء . وأمال الطاءَ الأخَوان وأبو بكر . وقد تقدَّم ذلك .

إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)

قوله : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ } : العامَّةُ على نونِ العظمةِ فيهما . ورُوِي عن أبي عمرٍو بالياء فيهما أي : إنْ يَشَأْ اللهُ يُنَزَّلْ . و « إنْ » أصلُها أَنْ تدخلَ على المشكوكِ أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُه ، والآيةُ من هذا الثاني .
قوله : { فَظَلَّتْ } عطفٌ على « نُنَزِّلْ » فهو في محلِّ جزمٍ . ويجوز أن يكونَ مستأنفاً غيرَ معطوفٍ على الجزاءِ . ويؤيِّد الأولَ قراءةُ طلحة « فَتَظْلِلْ » بالمضارعِ مفكوكاً .
قوله : { خَاضِعِينَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ عن « أعناقُهم » . واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ . وأُجيب عنه بأوجهٍ ، أحدُها : أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ ، كما قِيل : لهم وجوهٌ وصدورٌ قال :
3505 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ
الثاني : أنه على حذفِ مضافٍ أي : فظلَّ أصحابُ الأعناقِ ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ . وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ { وَقُمْراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] . الثالث : أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه :
3506 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ
الرابع : أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس ، وهم الجماعةُ ، فليس المرادُ الجارحةَ البتة . ومن قولُه :
3507 أنَّ العراقَ وأهلَه ... عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
قلت : وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ . إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً ، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم . الخامس : قال الزمخشري : « أصلُ الكلامِ : فظلًُّوا لها خاضعين ، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع ، وتُرِكَ الكلامُ على أصله ، كقولهم : ذهبَتْ أهلُ اليمامة ، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور » . قلت : وفي التنظير بقولِه : ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ « نظرٌ؛ لأنَّ » أهل « ليس مقحماً البتة؛ لأنه المقصودُ بالحكم وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ . السادس : أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله { ساجِدِين } و { طائِعِين } في يوسف والسجدة .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في » أعناقُهم « قاله الكسائي ، وضَعَّفه أبو البقاء قال : » لأنِّ « خاضعين » يكون جارياً على غيرِ فاعلِ « ظَلَّتْ » فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل ، فكان يجبُ أَنْ يكونَ « خاضعين هم » . قلت : ولم يَجْرِ « خاضعين » في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له ، وهو الضمير في « أعناقُهم » ، والمسألة التي قالها : هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى ، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به ، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ . على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)

قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } : جملةٌ حاليةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا وما قبلَه في أول الأنبياء .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)

قوله : { كَمْ أَنبَتْنَا } : « كم : للتكثيرِ فهي خبريةٌ ، وهي منصوبةٌ بما بعدَها على المفعولِ به أي : كثيراً من الأزواج أنْبتنا . و { مِن كُلِّ زَوْجٍ } تمييزٌ . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً ولا معنى له .
قال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : ما معنى الجمعِ بين كم وكل؟ ولو قيل : أنبتنا فيها مِنْ كل زوج؟ قلت : قد دَلَّ « كل » على الإِحاطةِ بأزواجِ النباتِ على سبيلِ التفصيلِ ، و « كم » على أن هذا المحيطَ متكاثرٌ مُفْرِطٌ « .

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

قوله : { وَإِذْ نادى } : العامُ فيه مضمرٌ . فقدَّره الزجَّاج : اتلُ ، وغيرُه : اذكر .
قوله : { أَنِ ائت } يجوزُ أن تكونَ مفسِّرةً ، وأن تكونَ مصدريةً أي بأن .

قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)

قوله : { قَوْمَ فِرْعَوْنَ } : بدلٌ أو عطفُ بيانٍ للقومِ الظالمين . وقال أبو البقاء : « إنه مفعولٌ » تَتَّقون « على قراءةِ مَنْ قرأ » تتقون « بالخطاب وفتح النون كما سيأتي . ويجوز على هذه القراءةِ أن يكونَ منادى » .
قوله : { أَلا يَتَّقُونَ } العامَّةُ على الياء في « يتَّقون » وفتحِ النون ، والمرادُ قومُ فرعونَ . والمفعولُ محذوفٌ أي : يتقون عقابَ . قرأ عبد الله بن مسلم ابن يسار وحماد وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق على الالتفات ، خاطبهم بذلك توبيخاً ، والتقدير : يا قومَ فرعونَ/ وقرأ بعضُهم « يتقونِ » بالياءِ مِنْ تحتُ وكسرِ النونِ . وفيها تخريجان ، أحدهما : أنَّ يتَّقونِ « مضارعٌ ، ومفعولُه ياءُ المتكلم ، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ . الثاني : جَوَّزَه الزمخشري أن تكونَ » يا « للنداء . و » اتقون « فعلُ أمرٍ كقوله : » ألا يا اسْجدوا « أي يا قومِ اتقونِ . أو ياناسُ اتقونِ . وسيأتي تحقيقُ مثلِ هذا في النمل . وهذا تخريجٌ بعيد .
وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ . وجَّوزَ الزمخشري أن تكونَ حالاً من الضمير في الظالمين أي : يَظْلِمون غيرَ متقين اللهَ وعقابَه . فأُدْخلت همزةُ الإِنكارِ على الحالِ . وخطَّأه الشيخ من وجهين ، أحدهما : أنه يلزَمُ منه الفصلُ بين الحالِ وعامِلها بأجنبيّ منهم ، فإنه أعربَ » قومَ فرعون « عطفَ بيانٍ للقوم الظالمين . والثاني : أنه على تقديرِ تسليمِ ذلك لا يجوزُ أيَضاً؛ لأنَّ ما بعد الهمزةِ لا يعمل فيه ما قبلها . قال : » وقولك : جئت أمسرعاً « إن جعلت » مسرعاً « معمولاً ل جئت لم يَجُزْ فإنْ أضمرْتَ عاملاً جاز .
والظاهرُ أن » ألا « للعرض . وقال الزمخشري : » إنها لا النافيةُ دخلت عليها همزةُ الإِنكار « . وقيل : هي للتنبيهِ .

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)

قوله : { أَن يُكَذِّبُونِ } : مفعولُ « أخافُ » أي : « أخاف تكذيبهم إيَّاي » .

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)

قوله : { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ } : الجمهورُ على الرفع . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه مستأنفٌ ، أخبر بذلك . والثاني : أنه معطوفٌ على خبر « إنَّ » . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى والأعمش بالنصب فيهما . والأعرج بنصبِ الأولِ ورفعِ الثاني : فالنصبُ عطفٌ على صلة « أنْ » فتكونُ الأفعالُ الثلاثة : يُكَذِّبُونِ ، ويَضيقُ ، ولا يَنْطَلِقُ ، داخلةً في حَيِّز الخوف . قال الزمخشري : « والفرقُ بينهما أي الرفع والنصب أن الرفعَ فيه يُفيد أن فيه ثلاثَ عللٍ : خوفَ التكذيبِ ، وضيقِ الصدر ، وامتناعَ انطلاقِ اللسانِ . والنصبُ : على أنَّ خَوْفَه متعلقٌ بهذه الثلاثة . فإنْ قلتَ : في النصبِ تعليقُ الخوفِ بالأمور الثلاثةِ . وفي جُملتها نفيُ انطلاقِ اللسانِ ، وحقيقةُ الخوف إنماهي غَمٌّ يَلْحَقُ الإِنسانَ لأمرٍ سيقعُ ، وذلك كان واقعاً ، فكيف جازَ تعليقُ الخوفِ به؟ قلت : قد عَلَّقَ الخوفَ بتكذيبهم ، وبما يَحْصُل له [ بسببِه ] من ضيقِ الصدرِ ، والحَبْسَةُ في اللسانِ زائدةٌ على ما كان به . على أن تلك الحَبْسَةَ التي كانَتْ به زالَتْ بدعوتِه . وقيل : بَقيَتْ منها بقيةٌ يسيرةٌ . فإنْ قلت : اعتذارُك هذا يَرُدُّه الرفعُ؛ لأن المعنى : إني خائفٌ ضَيِّقُ الصدرِ غيرُ منطلقِ اللسانِ . قلت : يجوز أن يكونَ هذا قبلَ الدعوةِ واستجابتِها . ويجوز أَنْ يريدَ القَدْرَ اليسيرَ الذي بقي » .
قوله : { فَأَرْسِلْ } أي : فأَرْسِلْ جبريلَ أو المَلَكَ ، فحذف المفعولَ به .

قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)

قوله : { فاذهبا } : عطفٌ على ما دَلَّ عليه حرفُ الرَّدْعِ من الفعل . كأنه قيل : ارتدِعْ تظنُّ فاذهَبْ أنت وأخوكَ .

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)

قوله : { إِنَّا رَسُولُ } : إنما أَفْرد رسولاً : إمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى رسالة ، والمصدرُ يُوَحَّد . ومن مجيءِ « رسول » بمعنى رسالة قوله :
3508 لقد كَذَبَ الواشُون ما فُهْتُ عندهمْ ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برسولِ
أي : برسالة ، وإمَّا لأنهما ذوا شريعةٍ واحدة فنُزِّلا منزلةَ رسول ، وإمَّا لأنَّ المعنى : أنَّ كلَّ واحدٍ منا رسولٌ ، وإمَّا لأنه مِنْ وَضْعِ الواحدِ موضعَ التثينةِ لتلازُمِهما ، فصارا كالشيئين المتلازِمَيْن كالعينين واليدين ، وحيث لم يقصِدْ هذه المعانيَ طابَقَ في قولِه : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] .

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

قوله : { أَنْ أَرْسِلْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً ل « رسول » إذ قيل : بأنَّه بمعنى الرسالة ، شرحا الرسالة بهذا ، وبَيَّناها به . ويجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي : رسولٌ بكذا .

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)

قوله : { وَلِيداً } : حال من مفعول « نُرَبِّكَ » وهو فَعيل بمعنى مَفْعول . والوليد : الغلامُ تسميةً له بما كان عليه .
قوله : { مِنْ عُمُرِكَ } حال من « سنين » . وقرأ أبو عمرٍو في روايةٍ بسكونِ الميم تخفيفاً ل فُعُل .

وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)

وقرأ « فِعْلتَك » بالكسرِ على الهيئة : الشعبيُّ لأنها نوع من القَتْلِ وهي الوَكْزَةُ . و { أَنتَ مِنَ الكافرين } يجوز أن تكونَ حالاً ، وأَن تكونَ مستأنفةً .

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)

قوله : { إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } : إذن هنا حرفُ جوابٍ فقط . وقال الزمخشري : « إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً » قال : « فإنْ قلتَ : إذَنْ حرفُ جوابٍ وجزاءٍ معاً ، والكلامُ وقع جواباً لفرعون فكيف وقع جزاءً؟ قلت : قولُ فرعون » وفَعَلْتَ فعْلتَك « فيه معنى : أنك جازَيْتَ نعمتي بما فعلْتَ . فقال له موسى : نعم : فعلتُها مُجازياً لك تسليماً لقولِه ، كأنَّ نعمتَه كانت عنده جديرةً بأَنْ تجازى/ بنحوِ ذلك الجزاءِ » .
قال الشيخ : « وهذا مذهبُ سيبويهِ يعني أنها للجزاءِ والجوابِ معاً . قال : ولكنَّ شُرَّاح الكتابِ فهموا أنَّه قد تتخلَّفُ عن الجزاءِ ، والجوابُ معنىً لازمٌ لها » .

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)

قوله : { لَمَّا خِفْتُكُمْ } : العامَّة على تشديدِ الميم وهي « لَمَّا » التي هي حرف وجوبٍ عند سيبويهِ أو بمعنى حين عند الفارسي . وروي عن حمزةَ بكسرِ اللام وتخفيف الميم أي : لتخَوُّفي منكم . و « ما » مصدريةٌ . وهذه القراءةُ تُشْبِهُ قراءتَه في آل عمران : « لِما آتَيْتُكم » وقد تقدَّمَتْ مستوفاةً . وقرأ عيسى « حُكُماً » بضمِّ الكاف إتباعاً .

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

قوله : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } : فيه وجهان أحدُهما : أنه خبرٌ على سبيلِ التهكُّمِ أي : إن كانَ ثَمَّ نعمةُ فليسَتْ إلاَّ أنَّك جَعَلْتَ قومي عبيداً لك . وقيل : حرفُ الاستفهام محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : أو تلك وهذا مذهب الأخفش ، وجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر :
3509 أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم هذا مشبعاً في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ الآية : 79 ] وفي غيرِه .
قوله : { أَنْ عَبَّدتَّ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان ل « تلك » ، كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه . والثالثَ : أنها بدلٌ من « نعمةٌ » . الرابع : أنها بدلٌ من « ها » في « تَمُنُّها » . الخامس : أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي : بأَن عَبَّدْت . السادس : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي . السابعُ : أنها منصوبةٌ بإضمار أعني . والجملة مِنْ « تَمُنُّها » صفةٌ لنعمة . و « تُمُنُّ » يتعدَّى بالباء فقيل : هي محذوفةٌ أي : تمُنُّ بها ، وقيل : ضَمَّنَ « تَمُنُّ » معنى تَذْكُرُ .

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)

قوله : { وَمَا رَبُّ العالمين } : إنما أتى ب « ما » دون « مَنْ »؛ لأنها يُسْأل بها عن طلبِ الماهيةِ كقولك : ما العنقاء؟ ولَمَّا كان جوابُ هذا السؤالِ لا يمكنُ عَدْلُ موسى عليه الصلاة والسلام إلى جوابٍ ممكنٍ ، فأجاب بصفاتِه تعالى ، وخَصَّ تلك الصفاتِ لأنه لا يشارِكُه تعالى فيها أحدٌ . وفيه إبطالٌ لدعواه أنه إلَهٌ . وقيل : جَهِلَ السؤالَ ، فأتى ب « ما » دون « مَنْ » وليس بشيءٍ . وقيل : إنما سأَلَ عن الصفاتِ . ذكره أبو البقاء . وليس بشيءٍ؛ لأنَّ أهلَ البيانِ نَصُّوا على أنها يُطْلَبُ بها الماهياتِ وقد جاء ب « مَنْ » في قوله : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] .

قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)

قوله : { وَمَا بَيْنَهُمَآ } : عادَ ضميرُ التثنيةِ على جمعَيْن : اعتباراً بالجنسَيْن كما فَعَلَ ذلك في الظاهر في قول الشاعرِ :
3510 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ

قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

قوله : { لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } : إنما عَدَل عن لأَسْجُنَنَّك وهو أَخَصُّ منه؛ لأنَّ فيه مبالغةً ليسَتْ في ذاك ، أو معناه : لأَجْعَلَنَّك مِمَّنْ عَرَفْتَ حالَه في سُجوني .

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)

قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ } : هذه واوُ الحالِ . وقال الحوفي : « للعطف » . وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } [ الآية : 170 ] في البقرة . وغالبُ الجملِ هنا تقدَّم إعرابُها .

قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)

قوله : { حَوْلَهُ } : حالٌ من « الملأ » . ومفعولُ القولِ قولُه : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } ، وقيل : صلةٌ للملأ فإنه بمعنى الذي . وقيل : الموصولُ محذوفُ ، وهما قولان للكوفين .

فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)

قوله : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } : يجوزُ أن يكون قَسَماً ، وجوابُه : { إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } . ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : نَغْلِبُ بسببِ عزَّتِه ، يَدُلُّ عليه ما بعدَه ، ولا يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب « الغالبون » ، لأنَّ ما في حَيِّز « إنَّ » لا يتقدم عليها .

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)

قوله : { فَأُلْقِيَ } : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : فاعلُ الإِلقاءِ ما هو لو صُرِّح به؟ قلت : هو اللهُ عزَّ وجل » ، ثم قال : « ولك أَن لا تقدِّرَ فاعلاً؛ لأنَّ » أُلْقُوا « بمعنى خَرُّوا وسقطوا » . قال الشيخ : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لا يبنى الفعلُ للمفعولِ إلاَّ وله فاعلٌ ينوبُ المفعولُ به عنه . أما أنه لا يُقَدَّر له فاعلٌ فقولُ ذاهِبٌ عن الصوابِ » .
قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } قد تقدَّم خلافُهم فيها . وقال ابن عطية هنا : « وقرأ البزي وابن فليح عن ابن كثير بشدِّ التاءِ وفتح اللام وشدِّ القاف . ويلزم على هذه القراءةِ إذا ابتدَأَ أن يحذف همزةَ الوصلِ ، وهمزةُ الوصلِ لا تدخلُ على الأفعالِ المضارعةِ كما لا تدخُل على أسماءِ الفاعلين » ، قالا لشيخ : « كأنه يُخَيِّل إليه أنه لا يمكن الابتداءُ بالكلمةِ إلاَّ باجتلابِ همزةِ الوصلِ ، وهذا ليس بلازم ، كثيراً ما يكون الوصلُ مخالفاً للوقفِ ، والوقفُ مخالفاً للوصل ، ومَنْ له تَمَرُّنٌ في القراءات/ ، عَرَفَ ذلك » . قلت : يريد قولَه : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } فإن البزيَّ يُشَدِّد التاء ، إذ الأصل : تَتَلَّقَّفُ بتاءَيْن فَأَدْغم ، فإذا وَقَفَ على « هي » وابتدأ تَتَلَقَّفَ فحقُّه أَنْ يَفُكَّ ولا يُدْغِمَ؛ لئلا يُبتدأَ بساكنٍ وهو غيرُ مُمْكِنٍ ، وقولُ ابن عطية : « ويَلْزمُ على هذه القراءةِ » إلى آخره تضعيفٌ للقراءةِ لِما ذكره هو : مِنْ أنَّ همزةَ الوصلِ لا تَدْخُل على الفعلِ المضارعِ ، ولا يمكن الابتداءُ بساكنٍ ، فمِنْ ثَمَّ ضَعُفَتْ . وجوابُ الشيخ بمَنْعِ الملازَمَةِ حَسَنٌ ، إلاَّ أنه كان ينبغي أن يُبْدِلَ لفظةَ الوقفِ بالابتداء؛ لأنه هو الذي وقع الكلامُ فيه ، أعني الابتداءَ بكلمة « تَّلَقَّفُ » .

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

قوله : { أَن كُنَّآ } : قرأ العامَّة بفتح « أَنْ » أي : لأَنْ كُنَّا مبدأ القول بالإِيمان . وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسرِ الهمزةِ . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّها شرطيةٌ ، والجوابُ محذوفٌ لفهمِ المعنى أو متقدمٌ عند مَنْ يُجِيزه . والثاني : أنها المخففةُ من الثقيلة واسْتُغْني عن اللامِ الفارقةِ لإِرشادِ المعنى : إلى الثبوت دونَ النفي ، كقوله :
3511 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإنْ مالِكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ
وفي الحديث : « إن كانَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُحِبُّ العَسَلَ » أي : ليُحبه .

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)

قوله : { حَاشِرِينَ } : هو مفعولُ « أَرْسَلَ » و « حاشرين » معناه : حاشرين السحرةَ .

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)

قوله : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ } : معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي : قال إنَّ هؤلاءِ . وهذا القولُ يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : أَرْسَلَهم قائلاً ذلك ، ويجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً ل أَرْسَلَ ، والشِّرْذِمَةُ : الطائفةُ من الناسِ . وقيل : كلُّ بقيةٍ مِنْ شيءٍ خسيسٍ يُقال لها : شِرْذِمة ، ويقال : ثوبٌ شَراذم أي : أَخْلاق ، قال :
3512 جاء الشتاءُ وقميصي أُخْلاقْ ... شراذِمٌ يضحكُ منه الخَلاَّقْ
وأنشد أبو عبيدة :
3513 [ يُحْذَيْنَ ] في شَراذِمِ النِّعالِ ...

وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)

قوله : { حَاذِرُونَ } : قرأ الكوفيون وابن ذكوان « حاذِرُون » بالألفِ ، والباقون « حَذِرُوْن » بدونهِا ، فقال أبو عبيدة : « هما بمعنىً واحد يُقال : رجلٌ حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذِرٌ بمعنىً » وقيل : بل بينهما فرقٌ . فالحَذِرُ : المُتَيَقِّظُ . والحاذِرُ : الخائفُ . وقيل : الحَذِر : المخلوقُ مَجْبُولاً على الحَذَرِ . والحاذِرُ : ما عُرِض في ذلك ، وقيل : الحَذِرُ : المُتَسَلِّح أي : له شوكةُ سلاحٍ . وأنشد سيبويهِ في إعمال حَذِر على أنه مثالُ مبالغةٍ مُحَوَّلٌ مِنْ حاذر قولَه :
3514 حَذِرٌ أموراً لا تَضِيْرُ وآمِنٌ ... ما ليسَ مُنْجِيَه من الأَقْدارِ
وقد زعم بعضُهم أنَّ سيبويهِ لمَّا سأله : هل تحفظُ شيئاً في إعمالَ فَعِل؟ صنع له هذا البيتَ . فعيب على سيبويه : كيف يأخذُ الشواهدَ الموضوعةَ؟ وهذا غَلَطٌ؛ فإن هذا الشخصَ قد أقرَّ على نفسِه بالكذبِ فلا يُقْدَحُ قولُه في سيبويهِ . والذي ادعى أنَّه صنعَ البيتَ هو اللاحقيُّ . وحَذِر يتعدَّى بنفسه ، قال تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة } [ الزمر : 9 ] ، وقال العباس بن مرادس :
3515 وإني حاذِرٌ أَنْمِيْ سِلاحي ... إلى أوصالِ ذَيَّالٍ مَنيعِ
وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عمار « حاذِرُوْن » بالدال المهملة من قولهم : « عَيْنٌ حَدْرَة » أي : عظيمة ، كقوله :
3516 وعَيْنٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمعنى : عظيماً . وقيل : الحادِرُ : القويُّ الممتلىء . وحُكي : رجلٌ حادِرٌ أي : ممتلِىءٌ غَيْظاً ، ورجلٌ حادِرٌ أي : أحمقُ كأنه ممتلىءٌ مِنْ الحَمَقِ ، قال :
3517 أُحِبُّ الغلامَ السَّوْءَ من أجلِ أُمِّه ... وأُبْغِضُهُ من بُغْضِها وهو حادِرُ
ويقال : أيضاً : رجلٌ حَذُر ، بزنة « يَقُظ » مبالغةً في حاذِر ، من هذا المعنى قلت : فقد صار يُقال : حَذِرَ وحَذُر وحاذر بالدال المعجمة والمهملة ، والمعنى مختلف .

وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)

قوله : { وَمَقَامٍ } : قرأ العامَّةُ بفتحِ الميمِ ، وهو مكانُ القيامِ ، وقتادة والأعرج بضمِّها . وهو مكانُ الإِقامة .

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

قوله : { كَذَلِكَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، قال الزمخشري : « يَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ : النصبَ على » أخْرَجْناهم مثلَ ذلك الإخراج الذي وَصَفْنا . والجرُّ على أنَّه وصفٌ ل مَقامٍ أي : ومقامٍ كريمٍ مثلِ ذلك المَقامِ الذي كان لهم . والرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي : الأمر كذلك « . قال الشيخ : » فالوجهُ الأولُ لا يَسُوْغُ؛ لأنه يَؤُوْل إلى تشبيهِ الشيءِ بنفسِه ، وكذلك الوجهُ الثاني لأنَّ/ المَقامَ الذي كان لهم هو المَقامُ الكريمُ فلا يُشَبَّهُ الشيءُ بنفسِه « قلت : وليس في ذلك تشبيهُ الشيِءِ بنفسِه؛ لأنَّ المرادَ في الأول : أَخْرَجْناهم إخراجاً مثلَ الإِخراجِ المعروفِ المشهورِ ، وكذلك الثاني .
قوله : { وَأَوْرَثْنَاهَا } عطفٌ على » فَأَخْرَجْناهم « .

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)

قوله : { فَأَتْبَعُوهُم } : العامَّةُ بقطع الهمزة مِنْ أَتْبَعَه أي : ألحقه نفسَه ، فحذف الثاني ، وقيل : يُقال : أتبعه بمعنى اتَّبعه بوصل الهمزة أي : لحقه ، والحسن والحارث الذماري بوصِلها وتشديدِ التاءِ وهي بمعنى اللَّحاق .
قوله : { مُّشْرِقِينَ } منصوبٌ على الحالِ . والظاهرُ أنه من الفاعلِ . ومعنى مُشْرِقين أي : داخِلين في وقتِ الشروقِ كأصبح وأمسى أي : دخَلَ في هذين الوقتين ، وقيل : داخلين نحو : المَشْرق كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ ، وقيل : مُشْرقين بمعنى مُضيئين . وفي التفسير : أنَّ بني إسرائيل كانوا في نُوْر ، والقِبْطَ في ظُلمة ، فعلى هذا يكون « مُشْرِقين » حالاً من المفعول ، وعندي أنه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل والمفعول ، إذا جَعَلْنا « مُشرِقين » داخلين في وقتِ الشُّروق ، أو في مكانٍ المَشْرِق؛ لأنَّ كلاً من القبيلين كان داخِلاً في ذلك الزمانِ ، أو في ذلك المكان .

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

قوله : { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } : قرأ العامَّةُ « تراءى » بتحقيقِ الهمزة ، وابن وثاب والأعمش من غير همزٍ . وتفسيرُه أن تكنَ الهمزةُ مخففةً بينَ بينَ ، لا بالإِبدال المحض؛ لئلا تجتمعَ ثلاثُ أَلِفاتٍ : الأولى الزائدةُ بعد الراءِ ، والثانيةُ المبدلةُ عن الهمزةِ ، والثالثةُ لامُ الكلمة ، لكن الثالثة لا تَثْبُتُ وَصْلاً . لحذفِها لالتقاء الساكنين . ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فأقول : هذا الحرف إمَّا أَنْ يُوْقَفَ عليه أو لا . فإن وُقِفَ عليه : فحمزةُ يُميل ألفَه الأخيرةَ لأنها طرفٌ منقبلةٌ عن ياء . ومن ضرورةِ إمالتِها إمالةُ فتحةِ الهمزةِ المُسَهَّلَةٍ؛ لأنه إذا وُقف على مثلِ هذه الهمزةِ سَهَّلَها على مقتضى مذهبِه ، وأمال الألفَ الأولى إتْباعاً لإِمالةِ فتحةِ الهمزةِ . ومِنْ ضرورةِ إمالَتِها إمالةُ فتحةِ الراءِ قبلها . وهذا هو الإِمالةُ لإِمالةٍ .
وغيرُه من القُرَّاءِ لا يُميل شيئاً من ذلك ، وقياسُ مذهبِ الكسائيِّ أَنْ يُميلَ الألفَ الأخيرةَ وفتحةَ الهمزةِ قبلها . وكذا نقله ابنُ الباذش عنه وعن حمزةَ .
وإنْ وُصِلَ : فإنَّ ألفَه الأخيرةَ تَذْهَبُ لالتقاءِ الساكنين ، ولذهابِها تَذْهَبُ إمالةُ فتحةِ الهمزة وتبقى إمالةُ الألف الزائدة . وإمالةُ فتحةِ الراءِ قبلَها عنده اعتداداً بالألفِ المحذوفةِ . وعند ذلك يُقال : حُذِفَ السببُ وبقي المُسَبَّبُ؛ لأن إمالةَ الألفِ الأولى إنما كان لإِمالةِ الألفِ الأخيرةِ كما تقدَّم تقريرُه ، وقد ذَهَبَتِ الأخيرةُ ، فكان ينبغي أَنْ لا تُمال الأولى لذهابِ المُقْتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوفَ ، وجعلَه في قوةِ المنطوقِ ، ولذلك نحا عليه أبو حاتمٍ فقال : « وقراءةُ هذا الحرفِ بالإِمالةِ مُحالٌ : قلت : وقد تقدَّم في الأنعام عند » رأى القمر « و » رأى الشمس « ما يُشْبه هذا العملَ فعليك باعتبارِه ثَمَّة .
قوله : { لَمُدْرَكُونَ } العامَّةُ على سكونِ الدالِ اسمَ مفعولٍ مِنْ أَدْرك أي : لمُلْحَقُون . وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدالِ مشدَّدةً وكسرِ الراء . قال الزمخشري : » والمعنى : متتابِعُون في الهَلاك على أيديهم . ومنه بيت الحماسة :
3518 أَبَعْدَ بَني أمِّي الذين تتابَعُوا ... أُرَجِّيْ الحياةَ أم مِنْ الموتِ أجْزَعُ
يعني : أن ادَّرَك على افْتَعَل لازمٌ بمعنى فَنِي واضْمَحَلَّ . يقال : ادَّرَكَ الشيءُ يَدَّرِكُ فهو مُدَّرِك أي : فَنِيَ تتابعاً ، ولذلك كُسِرَت الراءُ . وممَّنْ نَصَّ على كسرِها أبو الفضلِ الرازي قال : « وقد يكون » ادَّرَكَ « على افْتَعَل بمعنى أَفْعَلَ متعدِّياً ، ولو كانَتِ القراءةُ مِنْ هذا لَوَجَبَ فتحُ الراءِ ، ولم يَبْلُغْني عنهما يغني عن الأعرجِ وعُبيد إلاَّ الكسرُ » .

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)

قوله : { فانفلق } : قبلَه جملةٌ محذوفةٌ أي : فضربَ فانفلقَ . وزعم ابنُ عُصْفور أنَّ المحذوفَ إنما هو ضَرَبَ وفاءُ انفلقَ ، وأن الفاءَ الموجودَة هي فاء « فَضَرَبَ » ، فأبقى من كلٍ ما يُدْلُّ على المحذوفِ . أبقى الفاءَ مِنْ « فضرب » لِتَدُلَّ على « ضَرَبَ » وأبقى « انفلق » لِتَدُلَّ على الفاء المتصلةِ به ، وهذا كلامٌ متهافتٌ .
واختلفَ القُراء في ترقيقِ راءِ « فِرْق » عن ورشٍ لأجلِ القاف . وقُرِىء « فِلْق » بلامٍ بَدَلِ الراءِ لموافقةِ « فانفلقَ » . والطَّوْدُ : الجبلُ العظيمُ/ المتطاولُ في السماءِ .

وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)

قوله : { وَأَزْلَفْنَا } : أي : قَرَّبْنا مِنَ النجاةِ . و « ثَمَّ » ظرفُ مكانٍ بعيدٍ . و « الآخرين » هم موسى وأصحابُه ، وقرأ الحسن وأبو حيوة « وزَلَفْنا » ثلاثياً ، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف أي : أَزْلَلْنا . والمرادُ بالآخَرين في هذه القراءة فرعونُ وقومُه .

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)

قوله : { إِذْ قَالَ } : العاملُ في « إذ » « نَبَأَ » أو اتْلُ . قاله الحوفي . وهذا لا يتأتى إلاَّ على كونِ « إذ » مفعولاً به . وقيل : « إذ » بدلٌ مِنْ « نَبَأ » بدلُ اشتمالٍ . وهو يَؤُوْلُ إلى أنَّ العاملَ فيه « اتْلُ » بالتأويلَ المذكورِ .
قوله : { وَقَوْمِهِ } الهاءُ تعودُ على « إبراهيم » لأنَّه المُحَدَّثُ عنه . وقيل : تعودُ على أبيه ، لأنَّه أقربُ مذكورٍ ، أي : قال لأبيه وقومِ أبيه ، ويؤيِّده { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } [ الأنعام : 74 ] ، حيث أضافَ القومَ إليه .

قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)

قوله : { نَعْبُدُ أَصْنَاماً } : أَتَوْا في الجوابِ بالتصريحِ بالفعل ليَعْطِفُوا عليه قولَهم « فَنَظَلُّ » افتخاراً بذلك وابتهاجاً به ، وإلاَّ فكان قولُهم « أصناماً » كافياً ، كقوله تعالى : { قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] { قَالُواْ خَيْراً } [ النحل : 30 ] .

قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)

قوله : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } : لا بُدَّ مِنْ محذوفٍ أي : يسمعون دعاءَكم ، أو يَسْمَعُوْنكم تَدْعُون . فعلى التقديرِ الأولِ : هي متعديةٌ لواحدٍ اتفاقاً ، وعلى الثاني : هي متعديةٌ لاثنين ، قامَتِ الجملةُ المقدرَّةُ مَقام الثاني . وهو قولُ الفارِسيِّ . وعند غيرِه الجملةُ المقدَّرَةُ حالٌ . وقد تقدَّمَ تحقيقُ القولَيْن . وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضمِّ الياءِ وكسرِ الميمِ ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ . أي : يُسْمِعُونَكم الجوابَ .
قوله : { إِذْ تَدْعُونَ } منصوبٌ بما قبلَه ، فما قبله وما بعده ماضيان معنىً ، وإنْ كانا مستقبلَيْنِ لفظاً ، لعملِ الأولِ في « إذ » ، ولعَمَلِ « إذ » في الثاني . وقال بعضُهم : « إذ » هنا بمعنى إذا . وقال الزمخشري : « إنه على حكاية الحالِ الماضيةِ ، ومعناه : اسْتَحْضِروا الأحوالَ [ الماضيةَ ] التي كنتم تدَّعُونها فيها ، [ وقولوا ] : هل سَمِعُكم أو أَسْمَعُوا ، وهو أبلغ في التَّبْكِيْتِ » . و قد تقدَّم أنه قُرِىءَ بإدغامِ ذال « إذا » وإظهارِها في التاء . وقال ابنُ عطيةَ : ويجوز فيه قياسُ « مُدَّكِر » ونحوِه . ولم يَقْرَأْ به أحدٌ . والقياسُ أن يكون اللفظُ به « إدَّدْعون » والذي مَنَعَ من هذا اللفظِ اتصالُ الدالِ الأصلية في الفعل ، فكَثُرَتْ المتماثلاتُ « قلت : يَعْني فيكون اللفظُ بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ ثم بدالٍ ساكنةٍ مهملةٍ أيضاً » .
قال الشيخ : « وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ هذا الإِبدالَ إنما هو في تاءِ الافتعالِ بعد الدالِ والذالِ والزايِ نحو : ادَّهَنَ وادَّكَرَ وازْدَجَر ، وبعد جيمٍ شذوذاً نحو : » اجْدمَعُوا « في » اجتمعوا « ، أو في تاء الضميرِ بعد الدالِ والزايِ نحو » فُزْدُ « في » فُزْتُ « و » جَلَدَّ « في » جَلَدْتُ « أو تاء » تَوْلَج « قالوا فيها : » دَوْلج « ، وتاء المضارعة ليس شيئاً مِمَّا ذَكر . وقوله : » والذي مَنَعَ إلى آخرِه « يَقْتضي جوازَه لو لم يُوْجَدْ ما ذُكِر ، فعلى مقتضى قولِه يجوز أَنْ تقولَ في إذْ تَخْرج : ادَّخْرُج ، ولا يقول ذلك أحدٌ ، بل يقولون : اتَّخْرُج ، فيُدغمون الذالَ في التاءِ » .

قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

قوله : { كَذَلِكَ } : منصوبٌ ب « يَفْعَلون » أي : يَفْعَلون مثلَ فِعْلِنَا . ويَفْعَلُون في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً ل « وَجَدْنا » .

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

قوله : { عَدُوٌّ } : اللغةُ العاليةُ إفرادُ « عَدُوّ » وتذكيرُه . قال تعالى : { هُمُ العدو } [ المنافقون : 4 ] . وإنما فُعِل به ذلك تَشْبيهاً بالمصادرِ نحو : الوَلُوع والقَبُول . وقد يُقال : أعداءٌ وعَدُوَّة . وقوله : { عَدُوٌّ لي } على أصلِه مِنْ غيرِ تقديرِ مضافٍ ولا قلبٍ . وقيل : الأصنامُ لا تُعادِي لأنها جَمادٌ ، فالتقديرُ : فإنَّ عُبَّادَهم عدوُّ لي . وقيل : بل في الكلامِ قَلْبٌ ، تقديرُه : فإنِّي عدوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامةِ الكلامِ بدونِهما .
قوله : { إِلاَّ رَبَّ العالمين } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه منقطعٌ أي : لكنْ ربُّ العالمين ليس بعدُوّ لي . وقال الجرجاني : « فيه تقديمٌ وتأخيرٌ أي : أفَرَأَيْتُمْ ما كنتم تَعْبُدُوْنَ أنتم وآباؤكم الأَقْدمون ، إلاَّ ربَّ العالمين فإنهم عدوٌّ لي ، و » إلاَّ « بمعنى/ » دون « و » سوى « . والثاني : أنه متصلٌ . وهو قول الزجاج؛ لأنهم كانوا يَعْبدون اللهَ تعالى والأصنامَ .

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)

قوله : { الذي خَلَقَنِي } : يجوز فيه أوجهٌ : النصبُ على النعتِ ل « رَبَّ العالمَين » أو البدلِ ، أو عطفِ البيانِ ، أو على إضمارِ أعني . والرفعُ على خبرِ ابتداءِ مضمرٍ أي : هو الذي خلقني أو على الابتداءِ .
و [ قوله ] : { فَهُوَ يَهْدِينِ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ رفعٍ خبراً له . قال الحوفي : « ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تَضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط » . وهذا مردودٌ؛ لأنَّ الموصولَ مُعَيَّنٌ ليس عامَّاً ، ولأنَّ الصلةَ لا يمكنُ فيها التجدُّدُ ، فلم يُشْبِهِ الشرطَ . وتابع أبو البقاء الحوفيَّ ولكنه لم يتعرَّضْ للفاء . فإنْ عنى ما عناه الحوفيُّ فقد تقدَّمَ ما فيه . وإن لم يَعْنِهِ فيكونُ تابعاً للأخفش في تجويزِه زيادةَ الفاءِ في الخبر مطلقاً نحو : « زيدٌ فاضربه » ، وقد تقدَّم تحريرُه .

وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)

قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي } : يجوز أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه محذوفٌ . وكذلك ما بعده . ويجوزُ أَنْ يكونوا أوصافاً للذي خَلَقني . ودخولُ الواوِ جائزٌ . وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ البقرةِ كقوله :
3519 إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابنُ أبي إسحاقَ وتُرْوى عن عاصم أيضاً ياءَ المتكلمِ في « يَسْقِينِ » و « يَشْفِينْ » و « يُحْيِيْنِ » . والعامَّةُ « خَطِيئَتي » بالإفرادِ . والحسن « خطاياي » جمعَ تكسيرٍ .

وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)

قوله : { مِن وَرَثَةِ } : إمَّا أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً أي : مستقِرَّاً أو كائناً مِنْ وَرَثَةِ ، وإمَّا أَنْ يكونَ صفةً لمحذوفٍ هو المفعولُ الثاني ، أي : وارِثاً مِنْ وَرَثَةِ .

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)

قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } : بدلٌ مِنْ « يوم » قبلَه . وجعل ابنُ عطيةَ هذا من كلامِ اللهِ تعالى إلى آخر الآياتِ مع إعرابِه « يومَ لا ينفعُ » بدلاً مِنْ « يوم يُبْعَثون » . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ العامِلَ في البدلِ هو العامِلُ في المبدلِ منه ، أو آخرُ مثلُه مقدَّرٌ . وعلى كِلا هذين القولَين لا يَصِحُّ لاختلافِ المتكلِّمين .

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

قوله : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منقطِعٌ أي : لكنْ مَنْ أتى اللهَ بقَلْبٍ سليمٍ فإنه ينفَعُه ذلك . وقال الزمخشري : « ولا بُدَّ لك مع ذلك مِنْ تقديرِ مضافٍ وهو الحالُ المرادُ بها السلامةُ ، وليست من جنسِ المالِ والبنينَ ، حتى يَؤول المعنى إلى : أنَّ البنينَ والمالَ لا ينفعانِ ، وإنما ينفعُ سَلامةُ القلبِ ، ولو لم يُقَدَّرِ المُضافُ لم يَتَحصَّلْ للاستثناءِ معنى » .
قال الشيخ : « ولا ضرورةَ تَدْعُو ألى حذفِ المضافِ كما ذكر » . قلت : إنما قَدَّرَ المضافَ ليُتَوَهَّمَ دخولُ المستثنى في المستثنى منه؛ لأنه متى لم يُتَوَهَّمْ ذلك لم يَقعِ الاستثناءُ ، ولهذا مَنَعوا : « صَهَلَتِ الخيلُ إلاَّ الإِبِلَ » إلاَّ بتأويلٍ .
الثاني : أنه مفعولٌ به لقوله : « لا يَنْفَعُ » أي : لا ينفعُ المالُ والبنونَ إلاَّ هذا الشخصَ فإنه ينفَعُه فإنه ينفَعُه مالُه المصروفُ في وجوهِ البِرِّ ، وبنوه الصلحاءُ ، لأنه عَلَّمهم وأحسنَ إليهم . الثالث : أنه بدلٌ مِن المفعولِ المحذوفِ ، أو مستثنى منه ، إذ التقديرُ : لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ أحداً من الناس إلاَّ مَنْ كانت هذه صفتَه . والمستثنى منه يُحْذَفُ كقوله :
3520 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولم يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سيفٍ ومِئْزرا
أي : ولم يَنْجُ بشيءٍ . الرابع : أنه بدلٌ مِنْ فاعلٍ « يَنْفَعُ » فيكون مرفوعاً . قال أبو البقاء : « وغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فيكون التقديرُ : إلاَّ مالُ مَنْ ، أو بنو مَنْ فإنه ينفع نفسَه وغيرَه بالشفاعة » .
قلت : وأبو البقاء خَلَط وجهاً بوجهٍ : وذلك أنه إذا أرَدْنا أن نجعلَه بدلاً من فاعل « ينفع » فلنا فيه طريقان ، أحدهما : طريقةُ التغليب أي : غَلَّبْنا البنين على المالِ ، فاستثنى من البنين ، فكأنه قيل : لا ينفعُ البنونَ إلاَّ مَنْ أتى مِن البنين بقلبٍ سليم فإنه ينفع نفسَه بصلاحِه ، وغيرَه بالشفاعةِ .
والطريقة الثانية : أَنْ تُقَدِّر مضافاً محذوفاً قبل « مَنْ » أي : إلاَّ مالُ مَنْ أو بنو مَنْ فصارَتِ الأوجُه خمسةً .
ووجَّه الزمخشريُّ اتصالَ الاستثناءِ ، بوجهين ، أحدُهما : إلاَّ حالَ مَنْ أتى اللهِ بقلبٍ سليمٍ ، وهو مِنْ قوله :
3521 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
« وما ثوابُه إلاَّ السيفُ » ومثاله أن يقال : هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال : مالُه وبَنُوه سلامةُ قلبِه . تريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه ، وإثباتَ سلامةِ قلبِه بدلاً عن ذلك . والثاني قال : « وإن شِئْتَ حَمَلْتَ الكلامَ على المعنى وجَعَلْتَ المالَ والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يومَ لا يَنْفع غِنَى إلاَّ غَنى مَنْ أتى ، لأنَّ غِنى الرجلِ في دينِه بسلامةِ قلبِه ، كما أنَّ غِناه في دنياه بمالِه وبنيه . » .

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)

قوله : { وَبُرِّزَتِ } : قرأ مالك بن دينار « وَبَرَزَتْ » بفتح الباء والراء خفيفةً ، مبنياً للفاعل ، مسنداً للجحيم فلذلك رُفِعَ .

فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)

قوله : { فَكُبْكِبُواْ } : أي : أُلْقُوا ، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض . قال الزمخشري : « الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ . جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى » . وقال ابن عطية نحواً منه ، قال : « وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ بَيِّنٌ نحو : صَرَّ وصَرصَرَ » وهذا هو مذهب الزجاج . وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ مذاهبَ ، أحدها : هذا . والثاني : وهو مذهبُ البصريين أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ . والثالث وهو قول الكوفيين أنَّ الثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني ، فأصل كَبْكَبَ : كَبَّبَ بثلاثِ باءات . ومثلُه : لَمْلَمَ وكَفْكَفَ . هذا إذا صَحَّ المعنى بسقوطِ الثالث . فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من غيرِ خلافٍ نحو : سِمسِم وخِمْخِم .
وواو « كُبْكِبوا » قيل : للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ . وقيل : لعابديها .

قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)

قوله : { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } : جملةٌ حاليةٌ معترضةٌ بين القولِ ومعمولِه ، ومعمولُه الجملةُ القسميةُ .

تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)

قوله : { إِن كُنَّا لَفِي } مذهبُ البَصْريين : أنَّ « إنْ » مخففة واللامَ فارقةٌ ، ومذهبُ الكوفيين : أنَّ « إنْ » نافية ، واللامَ بمعنى « إلاَّ » .

إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)

قوله : { إِذْ نُسَوِّيكُمْ } : « إذ » منصوبٌ : إمَّا ب « مُبين » ، وإمَّا بمحذوفٍ أي : ضَلَلْنا في وقتِ تَسْويتنا لكم بالله في العبادةِ . ويجوز على ضَعْفٍ أَنْ يكونَ معمولاً ل « ضلال » ، والمعنى عليه . إلاَّ أنَّ ضعفَه صناعيٌّ : وهو أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يَعْمَلُ بعد وصفِه .

وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)

قوله : { حَمِيمٍ } : الحميمُ : القريبُ مِنْ قولِهم : « حامَّةُ فلانٍ » أي : خاصَّتُه . وقال الزمخشري : « الحميمُ مِنَ الاحتمامِ ، وهو من الاهتمام ، أو من الحامَّةِ وهي الخاصَّةُ ، وهو الصديقُ الخالص » والنفي هنا يَحْتمل نفيَ الصديقِ من أصلِه ، أو نفيَ صفتِه فقط فهو من باب :
3522 على لاحِبٍ لا يهتدى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والصديقُ : يحتمل أَنْ يكونَ مفرداً ، وأَنْ يكونَ مُسْتَعملاً للجمع ، كما يُسْتعمل العدوُّ له يقال : هم صديق وهم عدو .

فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)

قوله : { فَلَوْ أَنَّ } : يجوزُ أَنْ تكونَ المُشْرَبَةَ معنى التمني ، فلا جوابَ لها على المشهورِ . ويكون نصبُ « فنكونَ » جواباً للتمني الذي أَفْهَمَتْه « لو » ويجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها ، وجوابُها محذوفٌ أي : لَوَجَدْنا شُفَعاءَ وأصدقاءَ أو لَعَمِلْنا صالحاً . وعلى هذا فنَصْبُ الفعلِ ب « أَنْ » مضمرةً عطفاً على « كَرَّةً » أي : لو أنَّ لَنا كَرَّةً فكوناً ، كقولها :
3523 لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)

قوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ } : إنَّما أَنَّثَ فعلَ القومِ؛ لأنه مؤنثُ بدليلِ تصغيره على قُوَيْمَة . وقيل : لأنَّه بمعنى « أُمَّة » ولمَّا كانَتْ آحادُه عقلاءَ ذكوراً وإناثاً عاد الضميرُ عليه باعتبارِ تغليبِ الذكورِ فقيل : « لهم أخوهم » . وحَذَفَ مفعولَ « تتَّقون » أي : ألا تتَّقون عقابَ الله .

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)

قوله : { واتبعك الأرذلون } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ كاف « لك » . وقرأ عبد الله وابن عباس وأبو حيوة « وأَتْباعُك » مرفوعاً ، جمعَ تابع كصاحِب وأَصْحاب ، أو تَبِيْع كشَريف وأشراف ، أو تَبع ك بَرَم وأَبْرام . وفي رفعه وجهان ، أحدهما : أنَّه مبتدأٌ ، و « الأَرْذَلُون » خبرُه . والجملةُ حاليةٌ أيضاً . والثاني : أنه عطفٌ على الضميرِ المرفوعِ في « نُؤْمِنُ » وحَسَّن ذلك الفصلُ بالجارِّ . و « الأرذلون » صفتُه .
وقرأ اليماني : « وأتباعِك » بالجرِّ عطفاً على الكاف في « لك » . وهو ضعيفٌ أو ممنوعٌ عند البصريين . وعلى هذا فيرتفع « الأَرْذَلُون » على خبر ابتداء مضمر أي : هم الأرذلون . وقد تقدَّم مادة « الأَرْذَل » في هود .

قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)

قوله : { وَمَا عِلْمِي } : يجوز في « ما » وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء . و « علمي » خبرها . والباء متعلقة به . والثاني : أنها نافيةٌ . والباءُ متعلقةٌ ب « عِلْمي » أيضاً . قاله الحوفي ، ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلامُ به جملةً .

إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)

قوله : { لَوْ تَشْعُرُونَ } : جوابُها محذوفٌ ، ومفعولُ « تَشْعُرون » أيضاً .
وقرأ الأعْرج وأبو زرعة « لو يَشْعُرون » بياء الغَيْبة ، وهو التفاتٌ . ولا يَحْسُنُ عَوْدُه على المؤمنين .

فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)

قوله : { فَتْحاً } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به ، بمعنى المفتوحِ/ ، وأَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً .
قوله : { وَنَجِّنِي } المنجى منه محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : ممَّا يَحُلُّ بقومي . و { مِنَ المؤمنين } بيانٌ لقولِه { مَنْ مَّعِي } .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)

قوله : { المشحون } : أي المَمْلوءُ المُؤْقَرُ . يقال : شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورِجالاً . والشَّحْناء : العَداوةُ؛ لأنها تملأَ الصدورَ إحَناً . والفُلْكُ هنا مفردٌ بدليلِ وَصْفِه بالمفردِ . وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة .

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)

قوله : { تَعْبَثُونَ } : جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ « تَبْنُون » . والرِّيع بكسر الراء وفتحها : جمع رَِيْعة . وهو في اللغةِ المكانُ المرتفعُ . قال ذو الرمة :
3524 طِراقُ الخَوافي مُشْرِفٌ فوقَ رِيْعَةٍ ... ندى ليلِه في رِيْشه يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة : « هو الطريقُ » وأنشد للمسيَّب بن عَلَس يصفُ ظُعُناً :
3525 في الآلِ يَخْفِضُها ويَرْفَعُهما ... رِيْعٌ يَلُوْحُ كأنه سَحْلُ
واختلفَ المفسِّرون في العبارة عنه على أقوالٍ كثيرةٍ . والرَّيْعُ بالفتح : ما يَحْصُل مِنَ الخَراج .

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)

قوله : { تَخْلُدُونَ } : العامَّةُ على تخفيفِه مبنياً للفاعلِ . وقتادَةُ بالتشديدِ مبنياً للمفعول . ومنه قولُ امرِىء القيس :
3526 وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ ... قليلُ الهُمومِ ما يَبِيْتُ بأَوْجالِ
و « لَعَلَّ » هنا على بابِها . وقيل : للتعليل . ويؤيِّده قراءةُ عبدِ الله « كي تَخْلُدون » فقيل : للاستفهام ، قال زيد بن علي . وبه قال الكوفيون . وقيل : معناها التشبيهُ أي : كأنكم تَخْلُدُون . ويؤيِّدُه ما في حرفِ أُبَيّ « كأنكم تَخْلُدون » . وقُرِىء « كأنَّكم خالِدُون » . وكم مَنْ نَصَّ عليها أنَّها تكونُ للتشبيهِ .
والمصانِعُ : جمعُ مَصْنَعَة ، وهي بِرَكُ الماء . وقيل : القصور . وقيل : بُروجُ الحَمام .

وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)

قوله : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ } : أي : وإذا أَرَدْتُمْ . وإنما احْتَجْنا إلى تقديرِ الإِرادة لئلا يَتَّحدَ الشرطُ والجزاءُ . و « جَبَّارِين » حالٌ .

وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)

قوله : { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ الجملةَ الثانيةَ بيانٌ للأولى ، وتفسيرٌ لها . والثاني : أَنَّ « بأَنْعامٍ » بدلٌ مِنْ قولِه : { بِمَا تَعْلَمُونَ } بإعادةِ العاملِ كقولِه { اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } [ يس : 20 - 21 ] قال الشيخ : « والأكثرون لا يَجْعَلُون هذا بدلاً ، وإنما يَجْعلونه تكريراً وإما يَجْعلون بدلاً بإعادةِ العاملِ إذا كانَ حرفَ جرّ مِنْ غيرِ إعادةِ متعلِّقِه نحو : » مَرَرْتُ بزيدٍ بأخيكَ « ولا يقولون : » مَرَرْت بزيدٍ ، مررتُ بأخيك « على البدل » .

قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)

قوله : { أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } : معادِلٌ لقولِه : { أَوَعَظْتَ } ، وإنما أتى المعادِلِ كذا ، دونَ قولِه : « أم لم تَعِظْ » لتواخي القوافي ، وأبدى له الزمخشريُّ معنىً فقال : وبينهما فرقٌ ، لأنَّ المعنى : سَواءٌ علينا أَفَعَلْتَ هذا الفعلَ الذي هو الوعظُ أم لم تَكُنْ أصلاً مِنْ أهلِه ومباشرَتِه ، فهو أبلغُ في قِلَّةِ اعْتِدادِهم بوَعْظِه . مِنْ قولِك : أَمْ لم تَعِظْ « .
وقرأ العامَّةُ » أَوَعَظْتَ « باظهارِ الظاءِ قبل التاءِ ، ورُوِيَ عن أبي عمرٍو والكسائيِّ وعاصمٍ ، وبها قرأ الأعمشُ وابن محيصن بالإِدْغامِ ، وهي ضعيفةٌ؛ لأنَّ الظاءَ أقوى ولا يُدْغَمُ الأقوى في الأضعفِ ، على أنَّه قد جاء من هذا في القرآنِ العزيزِ أشياءُ متواترةٌ يجبُ قَبولُها نحو : { زُحْزِحَ عَنِ } [ آل عمران : 185 ] و { لَئِن بَسَطتَ } [ المائدة : 28 ] .

إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)

قوله : { إِلاَّ خُلُقُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتحِ الخاءِ وسكونِ اللامِ . والباقون بضمَّتين فقيل : معناهما الاختلاقُ وهو الكَذِبُ . وكذا قرأ ابنُ مسعودٍ . وقيل : ما نحن فيه من البِنْية حياةٌ وموتٌ هو خُلُقُ الأوَّلينَ وعادَتُهُم . وروى الأصمعيُّ عن نافعٍ ، وبها قرأ أبو قلابة ، بضمِّ الخاءِ وسكونِ اللام وهي تخفيفُ المضمومَةِ .

فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)

قوله : { فِي جَنَّاتٍ } : بدلٌ مِنْ « فيما ههنا » بإعادةِ العاملِ؛ فَصَّل بعدما أَجْمَلَ كما في الآيةِ قبلَها . و « ما » موصولةٌ ، وظرفُ المكان صلتُها .

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)

قوله : { وَنَخْلٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ ذِكْرِ الخاص بعد العامِّ؛ لأنَّ الجناتِ تشمَل النخلَ ، ويجوزَ أَنْ يكونَ تكريراً للشيءِ الواحدِ بلفظٍ آخَرَ ، فإنَّهم يُطْلِقُوْن الجنةَ ولا يريدونَ إلاَّ النخلَ . قال زهير :
3527 كأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ ... من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا
/ وسُحُقاً : جمعُ « سَحُوْق » ولا يُوْصَفُ به إلاَّ النخلُ والطَّلْعُ الكفرى ، وهو عُنقودُ التَّمْرِ قبل خروجهِ من الكُمِّ . قال الزمخشري : « الطَّلْعَةُ : هي التي تَطْلُع من النخلةِ كنَصْلِ السيفِ ، في جَوْفه شماريخُ القِنْو . والقِنْو هو اسمٌ للخارج من الجِذْعِ كما هو بعُرْجُوْنِه » . والهَضِيْمُ : اللطيفُ ، مِنْ قولهم : « كَشْحٌ هضيمٌ » . وقيل المتراكِبُ .

وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)

قوله : { وَتَنْحِتُونَ } العامَّةُ على الخطابِ وكسرِ الحاءِ . والحسنُ وعيسى وأبو حيوة بفتحها ، وعن الحسن أيضاً « تَنْحاتون » بألفٍ للإِشباعِ ، وعنه وعن أبي حيوة « يَنْحِتُون » بالياء مِنْ تحتُ . وقد تَقَدَّم ذلك كلُّه في الأعراف .
قوله : { فَارِهِينَ } قرأ الكوفيون وابنُ عامر « فارِهيْنَ » بالألف كما قرؤوا « حاذِرون » بها والباقونَ « فَرِهين » بدون ألف ، كما قرؤوا « حَذِرُون » بدونِها . والفَراهَةُ : النشاطُ والقوةُ . وقيل : الحِذْقُ . يقال : دابَّة فارِهٌ ، ولا يقال : فارِهَة ، وقد فَرُه يَفْرُه فَراهة .

قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

قوله : { لَّهَا شِرْبٌ } : صفةٌ ل « ناقَةٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه الجارَّ والمجرورَ و « شِرْبٌ » فاعلٌ به لاعتمادِه . وقرأ ابن أبي عبلة « شُرْبٌ » بالضمِّ فيهما . والشِّرْبُ : بالكسرِ النصيبُ كالسِّقْيِ ، وبالضمِّ المصدرُ .

قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)

قوله : { لِعَمَلِكُمْ } : كقولِه : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] وقد تقدَّم . وقيل : « من القالِيْن » صفةٌ لخبرٍ محذوفٍ . وهذا الجارُّ متعلِّقٌ به . أي : إنِّي قالٍ لِعملكم من القالِيْنَ .

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)

قوله : { فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } : المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : مَطَرهم . والقالي : المُبْغِضُ . يقال : قَلاه يَقْليه قِلَىً ويَقْلاه ، وهي شاذَّة . قال :
3528 وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أي : أنتَ مُذْنِبٌ ... وتَقْلِينني لكنَّ إياكِ لا أَقْلي
وقال آخر :
3529 واللهِ ما فارَقْتُكم عَنْ قِلَىً لكمْ ... ولكنَّ ما يقضى فسوفَ يكونُ
واسمُ المفعولِ منه : مَقْلِيّ . والأصلُ مَقْلُوْي . فأُدْغِمَ ك مَرْمِيّ قال :
3530 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَلسْتُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ
أي : لا يَبْغُضُني غيري ولا أَبْغَضُه . وغَلِط بعضُهم فَجَعَلَ ذلك مِنْ قولهم قلا اللحمَ أي : شواه ، فكأنه : قلا كَبِدَه بالبُغْض . ووَجْهُ الغَلَطِ : أنَّ هذا من ذواتِ الياءِ ، وذَلك من ذواتِ الواوِ . ويُقال : قلا اللحمَ يَقْلُوه قَلْواً فهو قالٍ كغازٍ ، ومَقْلُوٌّ .

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)

قوله : { الأيكة } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر « لَيْكَةَ » بلامٍ واحدةٍ وفتح التاء . جعلوه اسماً غيرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافاً إليه « أصحاب » هنا ، وفي ص خاصة . والباقون « الأَيْكَةِ » مُعَرَّفاً بأل موافقةً لِما أُجْمِعَ عليه في الحجر وفي ق .
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ الناسِ في القراءةِ الأُولى . وتجرَّأَ بعضُهم على قارئها ، وسأذكر لك من ذلك طرفاً . فَوَجْهُها على ما قال أبو عُبيد : « أَنَّ لَيْكَةَ اسمٌ للقريةِ التي كانوا فيها ، والأيْكَةَ اسمٌ للبلدِ كله . قال أبو عبيد : » لا أُحِبُّ مفارقَةَ الخَطِّ في شيءٍ من القرآنِ إلاَّ ما يَخْرُج من كلامِ العربِ ، وهذا ليسَ بخارجٍ من كلامِها مع صحةِ المعنى في هذه الحروفِ؛ وذلك أنَّا وَجَدْنا في بعضِ التفسيرِ الفرقَ بين لَيْكة والأَيْكة فقيل : لَيْكة هي اسمُ القرية التي كانوا فيها ، والأَيْكَةُ : البلادُ كلُّها فصار الفرقُ بينهما شبيهاً بما بين بَكَّة ومَكَّة ، ورَأَيْتُهُنَّ مع هذا في الذي يقال : إنه الإِمامُ مصحفُ عثمانَ مفتَرِقاتٍ ، فوجَدْتُ التي في الحجر والتي في ق « الأَيْكَة » ، ووَجَدْتُ التي في الشعراءِ والتي في ص « لَيْكَة » ، ثم اجْتَمَعَتْ عليها مصاحفُ الأمصارِ بعدُ ، فلا نَعْلَمُها اختلفَتْ فيها . وقرأ أهلُ المدينةِ على هذا اللفظِ الذي قَصَصْنا يعني بغيرِ ألفٍ ولامٍ ولا إجراءٍ « . انتهى ما قاله أبو عبيد . قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقَلْتُه عنه : » هذه عبارتُه وليسَتْ سديدةَ؛ فإن اللامَ موجودةٌ في « لَيْكة » وصوابُه بغير ألفٍ وهمزةٍ « . قلت : بل هي سديدةٌ . فإنه يعني بغيرِ ألفٍ ولامِ معرفةٍ لا مُطْلقَ لامٍ في الجملة .
وقد تُعُقِّبَ قولُ أبي عبيدٍ ، وأنكروا عليه ، فقال أبو جعفر : » أَجْمع القرَّاءُ على خفضِ التي في الحجر وق فيجبُ أَنْ يُرَدَّ ما اخْتُلِفَ/ فيه إلى ما اتُّفِقَ عليه إذا كان المعنى واحداً . فأمَّا ما حكاه أبو عبيدٍ مِنْ أَنَّ « ليكَةَ » اسمُ القرية ، وأن الأَيْكَةَ اسمُ البلدِ كلِّه فشيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ، ولو عُرِفَ لكان في نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ العلمِ جميعاً من المفسِّرين والعالِمين بكلامِ العرب على خلافِه . ولا نَعْلم خلافاً بين أهلِ اللغة أنَّ الأَيْكَة الشجرُ الملتفُّ . فأمَّا احتجاجُ بعضِ منِ احتجَّ لقراءة مَنْ قَرَأ في هذين الموضعين بالفتح أنَّه في السَّوادِ « لَيْكة » فلا حجَّةَ فيه . والقولُ فيه : أنَّ أصلَه : الأَيْكَة ، ثم خُفِّفَتِ الهمزةُ فَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ فسَقَطَتْ واستَغْنَيْتَ عن ألفِ الوصلِ؛ لأنَّ اللامَ قد تحرَّكَتْ ، فلا يجوزُ على هذا إلاََّ الخفضُ ، كما تقول : مررتُ بالأَحْمَرِ على تحقيقِ الهمزةِ ، ثم تُخَفِّفُها فتقول : بِلَحْمَرِ فإنْ شِئْتَ كَتَبْتَه في الخَطِّ على ما كتبتَه أولاً ، وإن شِئْتَ كَتَبْتَه بالحَذْفِ ولم يَجُزْ إلاَّ الخفضُ ، فلذلك لا يجوزُ في « الأَيْكَةِ » إلاَّ الخفضُ .

قال سيبويه : « واعلَمْ أنَّ كلَّ ما لم يَنْصَرِفْ إذا دَخَلَتْه الألفُ واللامُ أو أَضَفْتَه انصرَفَ » ، ولا نعلمُ أحداً خالَف سيبويه في هذا « .
وقال المبردُ في كتاب » الخط « » كَتَبُوا في بعضِ المواضعِ « كَذَّبَ أصحابُ لَيْكَة » بغير ألفٍ؛ لأن الألفَ تذهبُ في الوصلِ ، ولذلك غَلِطَ القارىءُ بالفتحِ فَتَوَهَّم أنَّ « لَيْكَةَ » اسمُ شيءٍ ، وأنَّ اللامَ أصلٌ فَقَرأ : أصحابُ ليكةَ « . وقال الفراء : » نرى والله أعلم أنها كُتِبَتْ في هذين الموضعين بتركِ الهمزِ فسَقَطَتِ الألفُ لتحريكِ اللام « . قال مكي : تَعَقَّب ابنُ قتيبَة على أبي عبيد فاختار » الأَيْكَةِ « بالألفِ والهمزةِ والخفضِ قال : » إنما كُتِبَتْ بغيرِ ألفٍ على تخفيفِ الهمزِ « . قال : » وقد أجمعَ الناسُ على ذلك ، يعني في الحجر وق ، فوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ما في الشعراء وص بما أَجْمَعوا عليه ، فما أَجْمَعُوا عليه شاهِدٌ لما اخْتَلفوا فيه « .
وقال أبو إسحاق : » القراءة بجَرِّ قوله : « ليكةِ » وأنت تريد « الأيكة » أجودُ مِنْ أَنْ تجعلَها « لَيْكَةَ » ، وتفتَحها؛ لأنَّها لا تنصرفُ؛ لأنَّ لَيْكَة لا تُعَرَّفُ ، وإنما هي أَيْكة للواحدِ ، وأَيْك للجمعِ مثل : أَجَمَة وأَجَم . والأَيْكُ : الشجرُ الملتفُّ فأجودُ القراءةِ فيها الكسرُ ، وإسقاطُ الهمزة ، لموافقة المصحف ولا أعلمه إلاَّ قد قُرِىء به « .
وقال الفارسيُّ : » قولُ مَنْ قال « ليكةَ » ففتحَ التاءَ مُشْكِلٌ ، لأنه فَتَحَ معِ لَحاقِ اللامِ الكلمةَ . وهذا في الامتناعِ كقولِ مَنْ قال : « مَرَرْتُ بِلَحْمَرَ » ففتحَ الأخِرَ مع لَحاقِ لامِ المعرفةِ ، وإنما كُتِبَتْ « لَيْكَةَ » على تخفيفِ الهمزِ ، والفتحُ لا يَصِحُّ في العربيةِ؛ لأنه فَتْحُ حرفِ الإِعرابِ في موضع الجرِّ مع لامِ المعرفةِ ، فهو على قياسِ قَوْلِ مَنْ قال « مررتُ بلَحْمَرَ » . ويَبْعُدُ أَنْ يفتحَ نافعٌ ذلك مع ما قال عنه ورش « .
قلت : يعني أنَّ وَرْشاً نَقَلَ عن نافعٍ نَقْلَ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها ، حيث وُجِد بشروطٍ مذكورةٍ ، ومن جملةِ ذلك : ما في سورةِ الحجر وق مِنْ لفظِ » الأيكة « فقرَأ على قاعدتِه في السورتين بنَقْلِ الحركةِ وطَرْحِ الهمزةِ وخَفْضِ الياءِ ، فكذلك ينبغي أَنْ يكونَ الحكمُ في هذين الموضعينِ أيضاً .
وقال الزمخشري : » قُرِىءَ « أصحابُ الأَيْكة » بالهمزة وتخفيفها وبالجرِّ على الإِضافةِ ، وهو الوجهُ . ومَنْ قَرَأَ بالنصبِ وزعَمَ أنَّ لَيْكَة بوزنِ لَيْلة اسمُ بلد ، فَتَوَهُّمٌ قاد إليه خطُّ المصحفِ ، وإنما كُتبت على حكمِ لفظِ اللافظ كما يكتب أَصحاب [ النحو ] ، لأن .

. . على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف ، وقد كُتِبَتْ في سائرِ القرآنِ على الأصلِ ، والقصة واحدةٌ . على أنَّ لَيْكَة اسمٌ لا يُعْرَفُ . ورُوي أنَّ أصحابَ الأَيْكة كانوا أصحابَ شجرٍ مُلْتَفٍّ وكان شجرُهم الدَّوْمَ ، يعني أنَّ مادةَ لام ي ك مفقودةٌ في لسانِ العرب كذا قال النُّقَّابُ مِمَّنْ تَتَبَّع ذلك قال : « وهذا كما نَصُّوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يُجامعا الجيمَ في لغةِ العربِ » ولذلك لم يَذْكرها صاحب « الصحاح » مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ عن أبي عبيد ، ولو كانت موجودةً في اللغةِ لذكرها مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ لشدة الاحتياجِ إليها .
وقال الزجاج أيضاً : « أهلُ المدينة يفتحون على ما جاء في التفسيرِ : أن اسمَ المدينة التي كان فيها شعيبٌ لَيْكة » قال أبو علي : « لو صَحَّ هذا فلِمَ/ أجمعَ القرَّاءُ على الهمزِ في قوله : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة } [ الآية : 78 ] في الحجر . والأَيْكة التي ذُكِرَتْ ههنا هي الأَيْكَةُ التي ذُكِرَتْ هناك . وقد قال ابن عباس : » الأَيْكَةُ : الغَيْضَةُ « ولم يُفَسِّرْها بالمدينةِ ولا البلدِ » .
قلت : وهؤلاء كلُّهم كأنَّهم زعموا أن هؤلاء الأئمةَ الأثباتَ إنما أَخَذوا هذه القراءةَ مِنْ خَط المصاحفِ دونَ أفواهِ الرجالِ ، وكيف يُظَّنُّ بمثلِ أَسَنِّ القراءِ وأعلاهُمْ إسناداً ، الآخذِ للقرآن عن جملةٍ من جُلَّة الصحابةِ أبي الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما ، وبمثل إمامِ مكةَ شَرَّفها الله تعالى وبمثل إمامِ المدينةِ؟ وكيف يُنْكَرُ على أبي عبيدٍ قولُه ، أو يُتَّهَمُ في نَقْلِه؟ ومَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ ، والتواتُرُ قَطْعِيٌّ فلا يُعارَضُ بالظنِّي .
وأمَّا اختلافُ القراءةِ مع اتحادِ القصةِ فلا يَضُرُّ ذلك ، عَبَّر عنها تارةً بالقريةِ خاصةً ، وتارةً بالمصرِ الجامعِ للقرى كلِّها ، الشاملِ هو لها . وأمَّا تفسيرُ ابنِ عباس فلا ينافي ذلك ، لأنَّه عَبَّر عنها كَثُر فيها . ومَنْ رأى ما ذكرْتُه من مناقبِ هؤلاء الأئمةِ في شَرْحِ « حرز الأماني » اطَّرَحَ ما طُعِنَ به عليهم ، وعَرَفَ قَدْرهم ومكانتَهم . وقال أبو البقاء في هذه القراءةِ : « وهذا لا يَسْتقيمُ؛ إذ ليس في الكلامِ » لَيْكة « حتى يُجْعَلَ عَلَماً . فإن ادُّعِي قَلْبُ الهمزة لاماً فهو في غايةِ البُعْدِ » . قلت :
3531 وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ
« أطرقْ كرا إنَّ النِّعامِ بالقرى » « مَنْ أنت وزيداً » .

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

قوله : { الجبلة } العامَّةُ على كسرِ الجيمِ والباءِ وشَدِّ اللامِ . وأبو حُصَيْن والأعمشُ والحسن بضمِّهما وشدِّ اللام . والسُّلمي بفتحِ الجيمِ أو كسرها مع سكون الباء . وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ ومعناه : الخَلْقُ المتَّحِدُ الغليظُ مأخوذٌ من الجَبَل . قال الشاعر :
3532 والمَوْتُ أعظمُ حادِثٍ ... فيما يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
وقال المهدَوِيُّ : « الجِبْلُ والجَبْلُ والجُبْلُ لغاتٌ ، وهو الجمعُ الكثيرُ العددِ من الناس . وقيل : الجِبِلَّةُ مِنْ قولِهم : جُبِل على كذا أي : خُلِق وطُبِع عليه . وسيأتي في يس إنْ شاء الله تعالى تمامُ الكلامِ على ذلك عند قولهِ : { جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] واختلافُ القراء فيه .

وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)

قوله : { وَمَآ أَنتَ } : جاء في قصةِ هود « ما أنت » بغير واو وهنا « وما أنت » بالواو ، فقال الزمخشري : « إذا دَخَلَتْ الواوُ فقد قُصِدَ مَعْنيان كلاهما مخالِفٌ للرسالةِ عندهم : التسخيرُ والبَشَريَّةُ ، وأنَّ الرسولَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ مُسَخَّراً ولا بَشَراً . وإذا تُرِكَتِ الواوُ فلم يُقْصَدْ إلاَّ معنىً واحدٌ وهو كونُه مُسَخَّرا ، ثم قَرَّر بكونِه بشراً » . وتقدَّم الخلافُ في « كِسَفاً » واشتقاقُه في الإِسراء .

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)

قوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ } : الهاءُ تعودُ على القرآنِ ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به . وتنزيل بمعنى مُنَزَّل ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : ذو تنزيل .

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)

قوله : { نَزَلَ } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص « نَزَل » مخففاً . و { الروح الأمين } مرفوعان على إسنادِ الفعلِ للروحِ ، والأمينُ نعتُه ، والمرادُ به جبريل . وباقي السبعة بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهو اللهُ تعالى . « الروحَ الأمينَ » منصوبان على المفعولِ . و « الروحُ الأمينُ » مرفوعان على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه . و « به » إمَّا متعلِّقٌ ب « نَزَلَ » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ .

عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)

قوله : { على قَلْبِكَ لِتَكُونَ } : قال الشيخ : الظاهرُ تعلُّقُ « على قلبِك » و « لتكون » ب « نَزَل » ولم يَذْكُرْ ما يقابلُ هذا الظاهرَ . وأكثرُ ما يُتَخيل أنَّه يجوزُ أن يتعلقا ب « تنزيل » أي : وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين على قلبك لتكون . ولكنْ فيه ضَعْفٌ من حيث الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بجملة « نَزَلَ به الروحُ » . وقد يُجاب عنه بوجهين ، أحدُهما : أنَّ هذه الجملةَ اعتراضيةٌ وفيها تأكيدٌ وتسديدٌ ، فليسَتْ بأجنبية . والثاني : الاغتفارُ في الظرفِ وعديلِه . وعلى هذا فلا يَبْعُدُ أن يجيءَ في المسألةِ بابُ الإِعمالِ؛ فإنَّ كُلاًّ من/ « تنزيل » و « نَزَل » يطلبُ هذين الجارَّيْن .

بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

قوله : { بِلِسَانٍ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب المُنْذِرين أي : ليكونَ من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسانِ العربيِّ وهم : هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وإسماعيلُ ومحمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . ويجوز أن يتعلَّقَ ب « نَزَلَ » أي : نَزَلَ باللسانِ العربيِ لتنذرَ به؛ لأنه لو نَزَلَ بالأعجمي لقالوا : لِمَ نَزَل علينا ما لا نفهمُه؟ وجَوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من « به » بإعادةِ العاملِ قال : « أي : نَزَلَ بلسانٍ عربيّ أي : برسالة أو لغة » .

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

قوله : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ } : أي : وإن القرآنَ . وقيل : وإن محمداً . وفيه التفاتٌ؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم لقيل : وإنَّك لفي زُبُر . وقرأ الأعمش « زُبْرِ » بسكون الباء ، وهي مخففةٌ من المشهورةِ .

أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)

قوله : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً } : قرأ ابن عامر « تكن » بالتاء مِنْ فوقُ « آيةٌ » بالرفع . والباقون « يكنْ » بالياء مِنْ تحتُ « آيةً » بالنصب . وابن عباس « تكن » بالتاء مِنْ فوقُ و « آيةً » بالنصبِ . فأمَّا قراءةُ ابن عامرٍ ف « تكون » تُحتمل أَنْ تكونَ تامةً ، وأَنْ تكونَ ناقصةً . فإن كانَتْ تامةً جاز أن يكونَ ِ « لهم » متعلقاً بها ، و « آيةٌ » فاعلاً بها . و « أَنْ يعلَمَه » : إمَّا بدلٌ مِنْ آية ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : أو لم يَحْدُثْ لهم علامَةُ عِلْمِ علماءِ بني إسرائيل .
وإنْ كانَتْ ناقصةً جاز فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ اسمُها مضمراً فيها بمعنى القصةِ ، و « آيةٌ أَنْ يَعْلَمَه » جملةٌ قُدِّم فيها الخبرُ واقعةٌ موقعَ خبر « تكن » . الثاني : أن يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ أيضاً ، و « لهم » خبرٌ مقدمٌ ، و « آيةٌ » مبتدأٌ مؤخر ، والجملةُ خبر « تكن » و « أَنْ يعلَمَه » : إمَّا بدلٌ من « آيةٌ » ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي أَنْ يعلَمه . الثالث : أَنْ يكونَ « لهم » خبرَ « تكنْ » مقدَّماً على اسمها ، و « آيةٌ » اسمُها و « أَنْ يعلَمَه » على الوجهين المتقدِّمين : البدليةِ وخبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . الرابع : أَنْ يكونَ « آيةٌ » اسمَها و « أَنْ يعلمَه » خبرُها . وقد اعتُرِضَ هذا : بأنه يَلْزَمُ جَعْلُ الاسمِ نكرةً ، والخبرِ معرفةً . وقد نصَّ بعضُهم على أنه ضرورةٌ كقوله :
3533 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يَكُ مَوْقِفٌ منكِ الوَداعا
وقوله :
3534 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقد اعتُذِر عن ذلك : بأنَّ « آية » قد تخصَّصَتْ بقوله : « لهم » فإنه حالٌ منها ، والحال صفة ، وبأن تعريفَ الجنسِ ضعيفٌ لعمومه . وهو اعتذارٌ باطلٌ ولا ضرورةَ تَدْعُو إلى هذا التخريجِ ، بل التخريجُ ما تقدم .
وأمَّا قراءةُ الباقينَ فواضحةٌ جداً ف « آيةً » خبرٌ مقدمٌ ، و « أَنْ يَعْلَمه » اسمُها مؤخرٌ ، و « لهم » متعلِّقٌ بآية حالاً مِنْ « آية » .
وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فكقراءةِ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهم إلاَّ أَنْ قَالوا } [ الأنعام : 23 ] وكقول لبيد :
3535 فمضَى وقدَّمها وكانت عادَةً ... منه إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
إمَّا لتأنيثِ الاسمِ لتأنيِث [ الخبر ] ، وإمَّا لأنه بمعنى المؤنث . ألا ترى أنَّ « أَنْ يعلَمَه » في قوةِ « المعرفةِ » و « إلاَّ أَنْ قالوا » في قوة « مقالتهم » وإقدامها « بإقدامتها » .
وقرأ الجحدريُّ : « أَنْ تعلمَه » بالتاء من فوق . شَبَّه البنين بجمع التكسير في تغيُّر واحدِه صورةً ، فعامَلَ فعلَه المسندَ إليه معاملةَ فعلِه في لَحاقِ علامةِ التأنيثِ . وهذا كقوله :
3536 قالَتْ بنو عامرٍ خالُوا بني أَسَدٍ ... يا بؤسَ للجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوامِ
وكتبوا في الرسم الكريم « عُلَمؤا » بواو الميمِ والألف . قيل : هو على لغة مَنْ يُميل الألفَ نحو الواوِ ، وهذا كما فُعِلَ في الصلاةِ والزكاةِ .

وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)

قوله : { الأعجمين } : قال صاحب « التحرير » : « الأعْجَمين جمع أعجمي بالتخفيف . ولولا هذا التقديرُ لم يَجُزْ أَنْ يُجمعَ جَمْعَ سلامةٍ » قلت : وكان سببُ مَنْعِ جمعهِ : أنه من بابِ أَفْعَل فَعْلاء كأَحْمر حَمْراء . والبصريون لا يُجيزون جَمْعَه جمعَ سلامة إلاَّ ضرورةً كقوله :
3537 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حلائلَ أَسْوَدِيْنَ وأَحْمَرينا
فلذلك قَدَّره منسوباً فخففَ الياء . وقد جعله ابنُ عطية جمعَ أَعْجَم فقال : ألأَعْجَمون جمعُ أَعْجَمُ/ وهو الذي لا يُفْصِحُ ، وإن كان عربيَّ النسبِ يقال له « أعجمُ » وذلك يقال للحيوانات . ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « جُرْحُ العجماء جُبار » وأسند الطبريُّ عن عبدِ الله بن مطيع : أنه كان واقفاً بعرفةَ وتحته جَمَلٌ فقال : جملي هذا أعجمُ ، ولو أنه أُنْزِل عليه ما كانوا يُؤْمِنون . والعَجَمِيُّ : هو الذي نِسْبَتُه في العَجَمِ ، وإن كان أفصحَ الناسِ « .
وقال الزمخشريُّ : » الأعجمُ : الذي لا يُفْصِحُ ، وفي لسانِه عُجْمَةٌ أو استعجامٌ . والأعجميُّ مثلُه ، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ النسَبِ توكيداً « قلت : وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا في سورة النحلِ . وقد صَرَّح أبو البقاء بمَنْع أن يكون » الأعجمين « جمعَ » أَعْجم « وإنما هو جمعُ أعجمي مخففاً مِنْ أعجميّ ك » الأَشْعرون « في الأشعري قال : » الأعجمين [ أي ] : الأعجميين فحذف ياءَ النسب كما قالوا : الأشعرون أي : الأشعريُّون ، وواحدُه أعجمي ، ولا يجوز أن يكونَ جمعَ أعجم لأنَّ مؤنثَه عَجْماء . ومثلُ هذا لا يُجْمَعُ جَمْعَ التصحيح « .
قلت : وقد تقدَّم ذلك . ففيما قال ابنُ عطية نظرٌ . وأمَّا الزمخشري فليس في كلامِه أنه جمع أَعْجم مخففاً أو غيرَ مخففٍ ، وإنْ كان ظاهرُه أنَّه جمع أعجم مِنْ غيرِ تخفيفٍ . ولكن الذي قاله ابن عطية تَبِعَ فيه الفراء فإنه قال : » الأعجمين جمعَ أَعْجم أو أعجمي على حَذْفِ ياءِ النِّسَبِ كما قالوا : الأشعرين وواحدهم أشعري . وأنشد للكميت :
3538 ولو جَهَّزْتَ قافيةً شَرُوْدا ... لقد دَخَلَتْ بيوتَ الأَشْعَريْنا
لكنَّ الفراء لا يَضُرُّه ذلك فإنه من الكوفيين . وقد قَدَّمْتُ عنهم أنهم يُجيزون جمع أَفْعَل فَعْلاء .
و [ قرأ ] الحسن وابن مقسم « الأَعْجميِّين » بياءَي النسب ، وهي مؤيدةٌ لتخفيفِه منه في قراءةِ العامَّة .

كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)

قوله : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } : أي : مثلَ ذلك ، أو الامر كذلك . والضمير في « سَلَكْناه » عائدٌ على القرآن وهو الظاهرُ أي : سلكناه في قلوبِ المجرمين ، كما سَلَكْناه في قلوبِ المؤمنين . ومع ذلك لم ينجَعْ فيهم . وقيل : عائدٌ على التكذيبِ أو الكفر .

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)

قوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } : في الجملةِ وجهان ، أحدُهما : الاستئنافُ على جهةِ البيانِ والإِيضاح لِما قبله . والثاني : أنها حالٌ من الضمير في « سَلَكْناه » أي : سَلَكْناه غيرَ مُؤْمَنٍ به . ويجوز أن يكونَ حالاً من « المجرمين » لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه .

فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)

قوله : { فَيَأْتِيَهُم } : و « فيقولوا » عطفٌ على « يَرَوْا » . وقرأ العامة بالياءِ مِنْ تحتُ . والحسن وعيسى بالتاء مِنْ فوقُ . أَنَّث ضميرَ العذابِ لأنَّه في معنى العقوبة . وقال الزمخشري : « أنَّثَ على أن الفاعل ضميرُ الساعة » . وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : ما معنى التعقيب في قوله : » فَيَأْتِيَهم «؟ قلت : ليس المعنى التعقيبَ في الوجود ، بل المعنى تَرَتُّبُها في الشدَّة . كأنَّه قيل : لا يُؤْمِنُون بالقرآنِ حتى تكونَ رُؤْيَتُهم العذابَ [ فما هو ] أشدُّ منها . ومثالُ ذلك أن تقول : » إنْ أسَأْتَ مَقَتَك الصالحون فَمَقَتَك اللهُ « ، فإنَّك لا تَقْصِدُ [ بهذا الترتيب ] أنَّ مَقْتَ اللهِ بعد مَقْتِ الصالحين ، وإنما قَصْدُك إلى ترتيبِ شدَّةِ الأمرِ على المسيء » .
وقرأ الحسن « بَغَتَةً » بفتحِ الغين .

أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)

قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : قد تقدَّمَ تحقيقُه . وقد تنازَعَ « أفرأيت » و « جاءهم » في قوله : « ما كانوا يُمَتَّعون » فإن أَعْمَلْتَ الثاني وهو « جاءهم » رَفَعْتَ به « ما كانوا » فاعلاً به ، ومفعولُ « أرأَيْتَ » الأولُ ضميرُه ، ولكنه حُذِفَ ، والمفعولُ الثاني هو الجملةُ الاستفهاميةُ في قوله : « ما أَغْنَى عنهم » . ولا بُدَّ مِنْ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين المفعولِ الأولِ المحذوفِ ، وهو مقدَّرٌ ، تقديره : أفرأيْتَ ما كانوا يُوْعَدُون ما أغنى عنهم تَمَتُّعُهم ، حين حَلَّ أي : الموعودُ به . ودَلَّ على ذلك قوةُ الكلامِ . وإنْ أَعْمَلَتْ الأولَ نصبْتَ به « ما كانوا يُوْعَدُون » وأَضْمَرْتَ في « جاءهم » ضميرَه فاعلاً به . والجملةُ الاستفهاميةُ مفعولٌ ثانٍ أيضاً . والعائدُ مقدرٌ على ما تقرَّرَ في الوجهِ قبلَه ، والشرطُ معترضٌ ، وجوابُه محذوفٌ . وهذا كلُّه مفهومٌ مما تقدَّم في سورةِ الأنعامِ ، وإنما ذكرْتُه هنا لأنه تقديرُ عَسِرٌ يحتاج إلى تأمُّلٍ وحسنِ صناعةٍ ، وهذا كلُّه إنَّما يتأتى على قولِنا : إنَّ « ما » استفهاميةٌ ، ولا يَضُرُّنا تفسيرُهم لها بالنفي ، فإن الاستفهامَ قد يَرِدُ بمعنى النفي . وأمَّا إذا جَعَلْتَها نافيةً حرفاً ، كما قال أبو البقاء ، فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ مفعولَ « أرأيت » الثاني لا يكونُ إلاَّ جملةً استفهاميةً كما تقرَّر غيرَ مرة .

مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)

قوله : { مَآ أغنى } : يجوز أَنْ تكونَ « ما » استفهاميةً في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدَّماً ، و « ما كانوا » هو الفاعلُ ، و « ما » مصدريةٌ بمعنى : أيُّ شيءٍ أغنى عنهم كونَهم متمتِّعين . وأَنْ تكونَ نافيةً والمفعولُ محذوفٌ أي : لم يُغْنِ عنهم تمتُّعُهم شيئاً .
وقرىء « يُمْتَعُون » بإسكانِ الميم وتخفيف التاءِ ، مِنْ أَمْتَع اللهُ زيداً بكذا .

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)

قوله : { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } : يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ل « قريةٍ » ، وأَنْ تكونَ حالاً منها . وسَوَّغَ ذلك سَبْقُ النفيِ . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف عَزَلْتَ الواوَ عن الجملةِ بعدَ » إلاَّ « ولم تُعْزَلْ عنها في قولِه : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] قلت : الأصلُ عَزْلُ الواوِ؛ لأنَّ الجملةَ صفةٌ ل » قريةٍ « . وإذا زِيْدَتْ فلتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ كما قي قوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] . قال الشيخ : » ولو قدَّرنا « لها مُنْذِرُون » جملةً لم يَجُزْ أن تجيءَ صفةً بعد « إلاَّ » .
ومذهبُ الجمهورِ أنه لا تجيءُ الصفةُ بعد « إلاَّ » معتمدةً على أداةِ الاستثناءِ نحو : ما جاءَني أحدٌ إلاَّ راكبٌ . وإذا سُمِع مثلُ هذا خَرَّجوه على البدلِ ، أي : إلاَّ رجلٌ را كبٌ . ويَدُلُّ على صحةِ هذا المذهبِ أنَّ العربَ تقولُ : « ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ قائماً » ولا يُحْفَظُ عنهم « إلاَّ قائمٍ » بالجرِّ . فلو كانت الجملةُ صفةً بعد « إلاَّ لَسُمِعَ الجرُّ في هذا . [ وأيضاً فلو كانَتْ الجملةُ صفةً للنكرة لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفةِ بعد » إلاَّ « يعني نحو : » ما مررتُ بزيدٍ إلاَّ العاقلِ « ] .
ثم قال : » فإنْ كانَتِ الصفةُ غيرَ معتمدةٍ على الأداةِ جاءَتِ الصفةُ بعد « إلاَّ » نحو : « ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمروٍ » . التقدير : ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ . وأمَّا كونُ الواوِ تُزاد لتأكيد وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ فغيرُ معهودٍ في عبارةِ النَّحْويين . لو قلتَ : « جاءني رجلٌ وعاقلٌ » أي : « رجلٌ عاقلٌ » لم يَجُزْ . وإنما تدخل الواوُ في الصفاتِ جوازاً إذا عُطِفَ بعضُها على بعضٍ ، و تَغَايَرَ مدلُولها نحو : مررت بزيدٍ الشجاعِ والشاعرِ . وأمَّا { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] فتقدَّم الكلامُ عليه « .
قلت : أمَّا كونُ الصفةِ لا تقعُ بعد » إلاَّ « معتمدةً ، فالزمخشريُّ يختارُ غيرَ هذا ، فإنَّها مسألةً خلافيةً . وأمَّا كونُه لم يُقَلْ » إلاَّ قائماً « بالنصبِ دونَ » قائم « بالجرِّ فذلك على أحدِ الجائزين وليس فيه دليلٌ على المَنْعِ مِنْ قَسيمِه . وأمَّا قولُه » فغيرُ معهودٍ من كلامِ النحويين « فمَمنوعٌ . هذا ابنُ جني نَصَّ عليه في بعضِ كتبه . وأمَّا إلزامُه أنها لو كانَتِ الجملةُ صفةً بعد » إلاَّ « للنكرةٍ لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفة بعد » إلاَّ « فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ ذلك مختصٌّ بكونِ الصفةِ جملةً . وإذا كانت جملةً تعذَّر كونُها صفةً للمعرفةِ . وإنما اختصَّ ذلك بكونِ الصفةِ جملةً؛ لأنها لتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ ، والتأكيد لائقٌ بالجملةِ . وأمَّا قولُه : » لو قلتَ : جاءني رجلٌ وعاقلٌ لم يَجُزْ « فمُسَلَّمٌ ، ولكن إنما امتنع ذلك في جملةً ، فإنَّ اللَّبْسَ مُنْتَفٍ . وقد تقدَّم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } فَلْيُلْتَفَتْ إليه ثَمَّة .

ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)

قوله : { ذكرى } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مفعولٌ مِنْ أجله . وإذا كانَتْ مفعولاً مِنْ أجلهِ ففي العاملِ فيه وجهان ، أحدهما : « مُنْذِرُوْن » ، على أنَّ المعنى : مُنْذِرون لأجلِ الموعظةِ والتذكرةِ . الثاني : « أَهْلَكْنا » . قال الزمخشري : « والمعنى : وما أهلَكْنا مِنْ أهلِ قريةٍ ظالمين إلاَّ بعدَما ألزَمْناهم الحُجَّةَ بإرسالِ المُنْذَرِين إليهم ليكون [ إهلاكُهم ] تذكرةً وعبرةَ لغيرِهم فلا يَعْصُوا مثلَ عصيانِهم » ثم قال : « وهذا الوجهُ عليه المُعَوَّل » .
قال الشيخ « وهذا لا مُعَوَّلَ عليه؛ فإنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ ما قبل » إلاَّ « لا يعمل فيما بعدها ، إلاَّ أَنْ يكونَ مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعاً له غيرَ معتمدٍ على الأداة نحو : » ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٌ من عمروٍ « ، والمفعولُ له ليس واحداً من هذه . ويتخرَّج مذهبُه على مذهبِ الكسائي والأخفشِ ، وإن كانا لم يَنُصَّا على المفعولِ له بخصوصيَّته » . قلت : والجواب ما تقدَّم قبلَ ذلك مِنْ أنَّه يختارُ مذهبَ الأخفش .
الثاني : من الأوجهِ الأُوَلِ : أنَّها في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : هذه ذكرى . وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً . الثالث : أنها صفةٌ ل مُنْذِرُوْن : إمَّا على المبالغةِ ، وإمَّا على الحذفِ أي : مُنْذروْن ذَوو ذكرى ، أو على وقوعِ المصدرِ وقوعَ اسمِ الفاعلِ أي : مُنْذِرون مُذكِّرون . وقد تقدَّم تقريرُ ذلك . الرابع : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال أي : مُذَكِّرين ، أو ذوي ذكرى ، أو جُعِلوا نفسَ الذكرى مبالغةً . الخامس : أنها منصوبةٌ على المصدرِ المؤكِّد . وفي العاملِ فيها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : لفظُ « مُنْذِرُون » لأنَّه مِنْ معناها فهما ك « قَعَدْتُ جلوساً » . والثاني : أنه محذوفٌ مِنْ لفظِها أي : تَذْكُرون ذِكْرى . وذلك المحذوفُ صفةٌ ل « مُنْذِرون » .

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)

قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } : العامَّةُ على الياء/ ورفعِ النونِ ، وهو جمعُ تكسيرِ . وقرأ الحسن البصري وابن السَّمَيْفع والأعمش بالواوِ مكانَ الياءِ ، والنونُ مفتوحةٌ إجراءً له مُجْرى جمعِ السلامة . وهذه القراءةُ قد رَدَّها جمعٌ كثيرٌ من النحويين . قال الفراء : « غَلِطَ الشيخُ ظنَّ أنها النونُ التي على هِجاءَيْن » . وقال النضر بن شميل : « إنْ جاز أن يُحْتَجَّ بقولِ العَجَّاجِ ورؤبةَ فهلا جازَ أَنْ يُحْتَجَّ بقولِ الحسنِ وصاحبِه يعني محمد بن السميفع ، مع أنَّا نعلُم أنَّهما لم يُقْرآ به إلاَّ وقد سَمِعا فيه » . وقال النحاس : « هو غَلَطٌ عند جميعِ النَّحْويين » . وقال المهدويُّ : « هو غيرُ جائزٍ في العربيةِ » . وقال أبو حاتم : « هي غلطٌ منه أو عليه » .
وقد أَثْبَتَ هذه القراءةَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ ، ودفعوا عنها الغَلَطَ ، فإنَّ القارىءَ بها من العلمِ بمكانٍ مَكينٍ ، وأجابوا عنها بأجوبةٍ صالحةٍ . فقال : النضر بن شميل : « قال يونس بن حبيب : سمعتُ أعرابياً يقول : » دَخلتُ بساتينَ من ورائِها بساتُون « فقلت : ما أشبَه هذا بقراءةِ الحسنِ » وخرَّجها بعضُهم على أنها جمعُ شَيَّاط بالتشديد مِثالَ مبالغةٍ ، مثلَ « ضَرَّاب » و « قتَّال » ، على أَنْ يكونَ مشتقاً من شاط يَشِيْط أي : أَحْرَقَ ، ثم جُمِع جَمْعَ سلامةٍ مع تخفيفِ الياءِ فوزنُه فَعالُون مخففاً مِنْ فعَّالين بتشديد العين . ويَدُلُّ على ذلك أنَّهما وغيرَهما قرؤُوا بذلك أعني بتشديدِ الياءِ . وهذا منقولٌ عن مؤرج السدوسي ووجَّهها آخرون : بأنَّ أخِرَه لَمَّا كان يُشْبِهُ آخرَ يَبْرِين وفِلَسْطين أُجْري إعرابُه تارةً على النونِ ، وتارةً بالحرفِ كما قالوا : هذه يَبْرِينُ وفِلَسْطينُ ويبرونَ وفلسطونَ . وقد تقدَّم القولُ في ذلك في البقرة .
والهاء في « به » تعود على القرآن .
وجاءت هذه الجمل الثلاث منفيةً على أحسنِ ترتيبٍ نفى أولاً تنزيلَ الشياطين به؛ لأنَّ النفيَ في الغالبِ يكونُ في الممكنِ ، وإنْ كان الإِمكانُ هنا منتفياً . ثم نفى ثانياً انْبِغاءَ ذلك أي : ولو فُرِضَ الإِمكانُ لم يكونوا أهلاً له ، ثم نفى ثالثاً الاستطاعةَ والقُدْرَةَ ، ثم ذكر علةَ ذلك ، وهي انعزالهُم عن السَّماع من الملأِ الأعلى؛ لأنهم يُرْجَمُون بالشُّهُبِ لو تَسَمَّعوا .

فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)

قوله : { فَتَكُونَ } : منصوبٌ في جوابِ النهي .

فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)

قوله : { فَإِنْ عَصَوْكَ } : في هذه الواوِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها ضميرُ الكفارِ أي : فإنْ عَصاك الكفارُ في أَمْرِك لهم بالتوحيدِ . الثاني : أنها ضميرُ المؤمنين أي : فإنْ عَصاك المؤمنون في فروعِ الإِسلام وبعضَ الأحكامِ بعد تصديقِك والإِيمان برسالتِك . وهذا في غاية البعد .

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)

قوله : { وَتَوكَّلْ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر بالفاءِ . والباقون بالواوِ . فأمَّا قراءةُ الفاءِ جَعَلَ فيها ما بعد الفاءِ كالجزاءِ لِما قبلها مُتَرَتِّباً عليه ، وقراءةُ الواوِ لمجرَّدِ عَطْفِ جملةٍ على أخرى .

الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)

قوله : { الذي يَرَاكَ } : يجوزُ أنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو منصوبَه على المدحِ ، أو مجرورَهُ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ .

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)

قوله : { وَتَقَلُّبَكَ } : عطفٌ على مفعول « يَراك » أي : ويرى تَقَلُّبَك . وهذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ جناح بن حبيش بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً ، وكسر اللامِ ورفعِ الباء جَعَلَه فعلاً ، ومضارع « قَلَّب » بالتشديد ، وعَطَفْه على المضارعِ قبلَه ، وهو « يراك » أي : الذي يُقَلِّبُك .

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)

قوله : { على مَن تَنَزَّلُ } متعلِّقٌ « ب » تَنَزَّلُ « بعده . وإنما قُدِّمَ لأنَّ له صدَر الكلامِ ، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله مِنْ فعلِ التنبئةِ لأنَّها بمعنى الِعلْمِ . ويجوزُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لاثنين فتسدَّ الجملةُ المشتملةُ على الاستفهام مَسَدَّ الثاني؛ لأن الأولَ ضميرُ المخاطبين ، وأَنْ تكونَ متعدِّيةً لثلاثة فتسدَّ مَسَدَّ اثنين . وقرأ البزي » على مَنْ تَّنَزَّلُ « بتشديد التاء [ مِنْ تنزَّل ] في الموضعين ، والأصل تَتَنَزَّلُ بتاءَيْن ، فأدغم . والإِدغامُ في الثاني سَهْلٌ لتحرُّكِ ما قبل المُدْغَمِ ، وفي الأول صعوبةٌ لسكونِ ما قبلَه ، وهو نونُ » مَنْ « وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] .

يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)

قوله : { يُلْقُونَ } : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على « الشياطين » ، فيجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ « يُلْقُون » حالاً ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً . ومعنى إلقائِهم السمعَ : إنصاتُهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُّوا شيئاً ، أو يُلْقُوْن الشيءَ المسموعَ إلى الكهنةِ . ويجوزُ أَنْ يعودَ على { كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } من حيثُ إنَّه جَمْعٌ في المعنى . فتكونُ الجملة : إمَّا مستأنفةً ، وإمَّا صفةً ل « كلِّ أَفَّاكٍ » ومعنى الإِلقاء ما تقدَّم .
وقال الشيخ حالَ عَوْدِ الضميرِ على « الشياطين » ، وبعدما ذكر المعنيين المتقدِّمين في إلقاءِ السَّمْعِ قال : « فعلى معنى الإِنْصاتِ يكونُ » يُلْقُون « استئنافَ إخبار ، وعلى إلقاءِ المسموع إلى الكَهَنَةِ يُحْتَمَلُ الاستئنافُ ، واحْتُمِلَ الحالُ من » الشياطين « أي : تَنَزَّل على كلِّ أَفَّاكٍ أثيمٍ مُلْقِِيْنَ ما سَمِعُوا » . انتهى وفي تخصيصه الاستئنافَ بالمعنى الأولِ ، وتجويزِه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ؛ لأنَّ جوازَ الوجهين جارٍ في المعنَيَيْن فيُحتاج في ذلك إلى دليلٍ .

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)

قوله : { يَتَّبِعُهُمُ } : قد تقدَّمَ أن نافعاً يقرأ بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قولِه : { لاَ يَتَّبِعُوكم } [ الأعراف : 193 ] والفرقُ بين المخفَّفِ والمثقَّلِ ، فَلْيُنْظَرْ ثَمَّة . وسكَّن الحسنُ العينَ ، ورُوِيَتْ عن أبى عمروٍ ، وليسَتْ ببعيدةِ عنه ك { يَنْصُرْكم } [ آل عمران : 160 ] وبابِه . وروى هارونُ عن بعضِهم نصبَ العينِ وهي غلط . والقولُ بأنَّ الفتحةَ للإِتباعِ خطأٌ .
والعامَّةُ على رَفْعِ « الشعُراءُ » بالابتداءِ . والجملةُ بعدَه الخبرُ . وقرأ عيسى بالنصبِ على الاشتغال .

أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)

قوله : { يَهِيمُونَ } : يجوزُ أنْ تكون هذه الجملةُ خبرَ « أنَّ » . وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه مَحَطُّ الفائدةِ . و « في كل وادٍ » متعلقٌ به . ويجوزُ أَنْ يكونَ « في كل وادٍ » هو الخبرَ ، و « يهيمون » حالٌ من الضميرِ في الخبر . والعاملُ ما تَعَلَّق به هذا الخبرُ أو نفسُ الجارِّ ، كما تقدَّم في نظيرِه غيرَ مرة . ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً بعد خبرٍ عند مَنْ يرى تعدُّدَ الخبرَ مطلقاً وهذا من بابِ الاستعارةِ البليغةِ والتمثيلِ الرائعِ ، شبَّه جَوَلانَهم في أفانينِ القولِ وطرائقِ المدحِ والذمِّ والتشبيهِ وأنواعِ الشعرِ بِهَيْمِ الهائمِ في كلِّ وادٍ وطريقٍ .
والهائِمُ : الذي يَخْبِط في سَيْرِه ولا يَقْصِدُ موضعاً معيَّناً . هام على وجهه : أي ذَهَبَ . والهائِمُ : العاشِقُ من ذلك . والهيمانُ : العَطْشانُ . الهُيام : داءُ يأخذُ الإِبلَ من العطشِ . وجمل أَهْيَمُ ، وناقةٌ هَيْماءُ . والجمع فيهما : هِيم . قال تعالى : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } [ الواقعة : 55 ] . والهَيام من الرَّمْلِ : اليابسُ كأنهم تَخَيَّلُوا فيه معنى العطشِ .

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

قوله : { أَيَّ مُنقَلَبٍ } : منصوبٌ على المصدرِ . والناصبُ له « يَنْقَلِبُون » وقُدِّمَ لتضمُّنِهِ معنى الاستفهامِ . وهو مُعَلِّق ل « سَيَعْلَمُ » سادَّاً مَسَدَّ مفعولَيْها . وقال أبو البقاء : « أيَّ مُنْقَلبٍ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أَيْ : يَنْقلبون انقلاباً أيَّ مُنْقَلَبٍ . ولا يعملُ فيه » سَيَعْلم « لأنَّ الاستفهامَ لا يعمل فيه ما قبله » . وهذا الذي قاله مردودٌ : بأنَّ أَيَّاً الواقعةَ صفةً لا تكونُ استفهاميةً وكذلك الاستفهاميةُ لا تكونُ صفةً لشيء ، بل هما قِسْمان ، كلٌّ منهما قِسْمٌ برأسِه . و « أيّ » تنقسمُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ وهي : الشرطيةُ ، والاستفهاميةُ ، والموصولةُ ، والصفةُ والموصوفةُ عند الأخفش خاصة ، والمناداةُ نحو : يا أيُّهذا ، والمُوْصِلَةُ لنداءِ ما فيه أل نحو : يا أيُّها الرجلُ ، عند غير الأخفش . والأخفشُ يجعلُها في النداءِ موصولةً . وقد أَتْقَنْتُ ذلك في « شرح التسهيل » .
وقرأ ابن عباس والحسن « أي مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون » بالفاءِ والتاءِ من فوقُ . من الانفلاتِ ، ومعناها واضحٌ . والله أعلم .

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)

قوله : { وَكِتَابٍ } : العامَّةُ على جَرِّه عطفاً على القرآن ، وهل المرادُ نفسُ القرآنِ فيكونَ من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ ، والمدلولُ واحدٌ ، أو اللوحُ المحفوظُ أو نفس السورةِ؟ وقيل : القرآنُ والكتابُ عَلَمان للمنزَّلِ على نبيِّنا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فهما كالعبَّاسِ وعَبَّاس . يعني فتكون أل فيهما لِلَمْحِ الصفةِ . وهذا خطأٌ؛ إذ لو كانا عَلَمَيْن لما وُصِفا بالنكرةِ ، وقد وُصِف « قرآن » بها في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ الآية : 1 ] في سورة الحجر . ووُصِفَ بها « كتاب » كما في هذه الآية الكريمةِ . والذي يُقال : إنه نكرةٌ هنا لإِفادةِ التفخيم ، كقوله تعالى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } [ القمر : 55 ] .
وقرأ ابن أبي عبلة « كتابٌ مبينٌ » برفعِهما ، عطفٌ على « آياتُ » المُخْبِرِ بها عن « تلك » . فإن قيل : كيف صَحَّ أَنْ يُشارَ لاثنين ، أحدُهما مؤنثٌ ، والآخرُ مذكرٌ باسم إشارةِ المؤنثِ ولو قلتَ : « تلك هندٌ وزيدٌ » لم يَجُزْ؟ فالجواب من ثلاثةِ أوجه : أحدُهما : أنَّ المرادَ بالكتابِ هو الآياتُ؛ لأنَّ الكتابَ عبارةٌ عن آياتٍ مجموعةٍ فلمَّا كانا شيئاً واحداً/ صَحَّتْ الإِشارةُ إليهما بإشارةِ الواحدِ المؤنثِ . الثاني : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ أي : وآياتُ كتابٍ مبين . الثالث : أنه لَمَّا وَليَ المؤنثَ ما يَصِحُّ الإِشارةُ به إليه اكتُفي به وحَسُنَ ، ولو أُوْلِيَ المذكرَ لم يَحْسُنْ . ألا تراك تقولُ : « جاءَتْني هندٌ وزيدٌ » ولو حَذَفْتَ « هند » أو أَخَّرْتَها لم يَجُزْ تأنيثُ الفعلِ .

هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

قوله : { هُدًى وبشرى } : يجوزُ فيهما أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ يكونا منصوبَيْنِ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِهما أي : يَهْدي هُدَىً ويُبَشِّر بُشْرَى . الثاني : أن يكونا في موضعِ الحالِ من « آياتُ » . والعاملُ فيها ما في « تلك » مِنْ معنى الإِشارةِ . الثالث : أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ من « القرآن » . وفيه ضعفٌ من حيث كونُه مضافاً إليه . الرابع : أَنْ يكونَ حالاً من « كتاب » في قراءة مَنْ رَفَعه . ويَضْعُفُ في قراءة مَنْ جرَّه لِما تقدَّمَ مِنْ كونِه في حكمِ المضافِ إليه لعَطْفِه عليه . الخامس : أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في « مبين » سواءً رَفَعْتَه أم جَرَرْتَه . السادس : أَنْ يكونا بَدَلَيْن مِنْ « آيات » . السابع : أَنْ يكونا خبراً بعد خبر . الثامن : أن يكونا خبرَيْ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي هدىً وبشرى .

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)

قوله : { الذين يُقِيمُونَ } : يجوزْ أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً للمؤمنين ، أو بدلاً ، أو بياناً ، أو منصوبه على المدحِ أو مرفوعَه على تقديرِ مبتدأ أي : هم الذين .
قوله : { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } « هم » الثاني تكريرٌ للأول على سبيلِ التوكيدِ اللفظيَّ . وفهم الزمخشري منه الحَصْرَ أي : لا يُوقِنُ بالآخرةِ حقَّ الإِيقانِ إلاَّ هؤلاءِ المتصفونَ بهذه الصفاتِ . و « بالآخرةِ » متعلقٌ ب « يُوقنون » ولا يَضُرُّ الفصلُ بينهما بالتوكيدِ . وهذه الجملةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ داخلةً في حَيِّزِ الموصولِ ، وحينئذٍ يكون قد غايَرَ بين الصلتين لمعنىً : وهو أنَّه لَمَّا كان إقامةُ الصلاةِ وإيتاءُ الزكاةِ ممَّا يتكرَّرُ ويتجدَّدُ أتى بالصلتين جملةً فعليةً فقال : « يُقيمون » و « يُؤْتُون » . ولمَّا كان الإِيقانُ بالآخرةِ أمراً ثابتاً مطلوباً دوامُه أتى بالصلةِ جملةً اسميةً مكَّرراً فيها المسندُ إليه مُقَدَّماً فيها المُوْقَنُ به الدالُّ على الاختصاصِ ليدلَّ على الثباتِ والاستقرارِ . وجاء بخبرِ المبتدأ في هذه الجملةِ فعلاً مضارعاً ، دلالةً على أنَّ ذلك مُتَجَدِّدٌ كلَّ وقتٍ غيرُ منقطعٍ . ويُحتمل أَنْ تكونَ مستأنفةً غيرَ داخلةٍ في حَيِّز الموصولِ .
قال الزمخشري : « ويُحتمل أَنْ تَتِمَّ الصلةُ عنده » أي : عند قولِه : « وهم » . قال « وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً » يريد أنَّ الصلةَ تَمَّتْ عند « الزكاةِ » فيجوزُ في ذلك . وإلاَّ فكيف يَصِحُّ إذا أخَذْنا بظاهرِ كلامِه أنَّ الصِّلةَ تَمَّتْ عند قولِه « وهم »؟ وتسميتُه هذا اعتراضاً يعني من حيث المعنى ، وسياقُ الكلام ، وإلاَّ فالاعتراضُ في الاصطلاحِ لِما يكون بين متلازِمَيْنِ من مبتدأ وخبرٍ ، وشرطٍ وجزاءٍ ، وقَسَمٍ وجوابِه ، وتابعٍ ومتبوعٍ ، وصلةٍ وموصولٍ ، وليس هنا شيءٌ من ذلك .

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)

قوله : { الأخسرون } في أَفْعَل قولان ، أحدهما : وهو الظاهرُ أنَّها على بابِها من التفضيل ، وذلك بالنسبةِ إلى الكفَّار من حيث اختلافُ الزمانِ والمكانِ . يعني : أنَّهم أكثرُ خُسْراناً في الآخرةِ منهم في الدنيا ، أي : إنَّ خُسْرانَهم في الآخرة أكثرُ من خُسْرانِهم في الدنيا . وقال جماعةٌ منهم الكرماني : « هي هنا للمبالغةِ لا للشِّرْكة؛ لأن المؤمنَ لا خُسْران له في الآخرةِ البتة » . وقد تقدَّم جوابُ ذلك : وهو أنَّ الخسرانَ راجعٌ إلى شيءٍ واحدٍ . باعتبارِ اختلافِ زمانهِ و مكانِه .
وقال ابن عطية : « الأَخْسرون جمع » أَخْسَر « لأنَّ أَفْعَلَ صفةٌ لا يُجْمَعُ ، إلاَّ أن يُضافَ فَتَقْوى رتبتُه في الأسماء ، وفي هذا نظرٌ » . قال الشيخ : « ولا نظرَ في أنَّه يُجمع جَمْعَ سلامةٍ أو جمعَ تكسيرٍ إذا كان بأل ، بل لا يجوزُ فيه إلاَّ ذلك ، إذا كان قبله ما يُطابِقُه في الجمعيَّةِ . فتقول : » الزيدون هم الأفضلون والأفاضل « و » الهندات هنَّ الفُضْلَياتُ « ، والفُضُلُ . وأمَّا قوله : » لا يُجْمَعُ إلاَّ أَنْ يُضَافَ « فلا يَتَعَيَّنُ إذ ذاك جَمْعُه ، بل إذا أُضيف إلى نكرةٍ لا يجوزُ جَمْعُه ، وإن أضيف إلى معرفةٍ جاز في الجمعُ والإِفرادُ » .

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

قوله : { لَتُلَقَّى } : « لَقِيَ » مخفَّفاً يتعدى لواحدٍ ، وبالتضعيف يتعدى لاثنين فأُقيم أَوَّلُهما هنا مُقامَ الفاعلِ ، والثاني « القرآنَ » . وقول من قال : إنَّ أصلَه تَلَقَّنَ بالنون/ تفسيرُ معنىً فلا يَتَعَلَّقُ به مُتَعَلَّقٌ ، فإنَّ النونَ أُبْدِلَتْ حرفَ علةٍ .

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)

قوله : { إِذْ قَالَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار اذكُرْ أو تَعَلَّمْ مقدَّراً مدلولاً عليه ب عَليم أو ب حَليم . وفيه ضعفٌ لتقيُّدِ الصفةِ بهذا الظرفِ .
قوله : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قرأ الكوفيون بتنوين « شهاب » على أنَّ قَبَساً بدلٌ مِنْ « شهاب » أو صفةً له؛ لأنه بمعنى مَقْبوس كالقَبَضِ والنَّقَضِ . والباقون بالإِضافةِ على البيانِ؛ لأن الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه . والشِّهابُ : الشُّعلةُ . والقَبَس : القطعةُ منها ، تكونُ في عُوْدٍ وغيرِ عُوْد . و « أَوْ » على بابِها من التنويع . والطاء في « تَصْطَلُون » بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال لأنه مِنْ صَلِيَ بالنار .

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

قوله : { نُودِيَ } : في القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ موسى ، وهو الظاهرُ . وفي « أَنْ » حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها المُفَسِّرَةُ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول . والثاني : أنها الناصبةُ للمضارعِ ، ولكنْ وُصِلَتْ هنا بالماضي . وتقدَّم تحقيقُ ذلك ، وذلك على إسقاطِ الخافضِ أي : نُوْدي موسى بأَنْ بُورِك . الثالث : أنها المخففةُ ، واسمُها ضميرُ الشأنِ ، و « بُوْرِك » خبرُها ، ولم يَحْتَجْ هنا إلى فاصلٍ؛ لأنه دعاءٌ ، وقد تقدَّم نحوُه في النور في قوله : { أَنْ غَضِب } [ النور : 9 ] في قراءته فعلاً ماضياً .
قال الزمخشري : « فإن قلتَ : هل يجوزُ أن تكونَ المخففةَ من الثقيلةِ ، والتقدير : بأنَّه بُورك . والضميرُ ضميرُ الشأنِ والقصةِ؟ قلت : لا لأنه لا بُدَّ مِنْ » قد « . فإنْ قلتَ : فعلى إضمارِها؟ قلت : لا يَصِحُّ لأنها علامةٌ ولا تُحْذَفُ » . انتهى . فمنع أَنْ تكونَ مخففةً لِما ذًُكِر ، وهذا بناءً منه على أَنَّ « بُوْرِكَ » خبرٌ لا دعاءٌ . أمَّا إذا قُلْنا : إنه دعاءٌ كما تقدَّم في النورِ فلا حاجةَ إلى الفاصلِ كما تقدَّم . وقد تقدَّم فيه استشكالٌ : وهو أنَّ الطلبَ لا يَقَعُ خبراً في هذا البابِ فكيف وَقَعَ هذا خبراً ل « أَنْ » المخففةِ وهو دُعاءٌ؟
الثاني : من الأوجهِ الأُوَلِ : أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ نفسُ « أَنْ بُوْرِكَ » على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي : بأَنْ بُوْرِكَ . و « أَنْ » حينئذٍ : إمَّا ناصبةٌ في الأصلِ ، وإمَّا مخففةٌ .
الثالث : أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعلِ أي : نُودي النداءُ ، ثم فُسِّر بما بعدَه . ومثلُه { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
قوله : { مَن فِي النار } « مَنْ » قائمٌ مقامَ الفاعلِ ل « بُوْرك » . وبارَكَ يتعدى بنفسِه ، ولذلك بُني للمفعولِ . يقال : بارَكَكَ اللهُ ، وبارَكَ عليكَ ، وبارَكَ فيك ، وبارك لكَ ، وقال الشاعر :
3539 فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً ... وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب إذ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبدُ الله بن الزبير :
3540 فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ ... إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ
وقال آخر :
3541 بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْ ... رِكَ نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ
والمرادُ ب « مَنْ » : إمَّا الباري تعالى ، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي : مَنْ قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار . وقيل : المرادُ به موسى والملائكةُ ، وكذلك بمَنْ حولَها . وقيل : المرادُ ب « مَنْ » غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي حولَها .
قوله : { وَسُبْحَانَ الله } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه من تتمَّةِ النداءِ أي : نُوْدِي بالبركةِ وتَنْزِيْهِ ربِّ العزَّةِ . أي : نُودي بمجموعِ الأمرَيْنِ . الثاني : أنه من كلامِ اللهِ تعالى مخاطِباً لنبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ ، وهو على هذا اعتراضُ بين أثناءِ القصةِ . الثالث : أنَّ معناه : وبُوْرِك مَنْ سَبَّح اللهَ . يعني أنه حَذَفَ « مَنْ » وصلَتها وأبقى معمولَ الصلةِ إذ التقدير : بُوْرِكَ مَنْ في النار ومَنْ حَوْلَها ، ومَنْ قال : سبحان الله و « سُبْحانَ » في الحقيقةِ ليس معمولاً ل « قال » بل لفعلٍ مِنْ لفظِه ، وذلك الفعلُ هو المنصوبُ بالقول .

يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

قوله : { إِنَّهُ أَنَا الله } : في اسمِ « إنَّ » وجهان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الشأن . و { أَنَا الله } مبتدأ وخبرُه ، و { العزيز الحكيم } صفتان لله . والثاني : أنه ضميرٌ راجعٌ إلى ما دلَّ عليه ما قبله ، يعني : أنَّ مُكَلِّمَكَ أنا ، و « الله » بيانٌ ل « أنا » . واللهُ العزيزُ الحكيمُ صفتان للبيانِ . قاله الزمخشري . قال الشيخ : « وإذا حُذِفَ الفاعلُ وبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ فلا يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على ذلك/ المحذوفِ ، إذ قد غُيِّرَ الفعلُ عن بنائِه له . وعُزِمَ على أَنْ لا يكونَ مُحَدَّثاً عنه ، فَعَوْدُ الضميرِ إليه مِمَّا يُنافي ذلك؛ إذ يصيرُ مُعْتَنَىً به » .
قلت : وفيه نظرٌ؛ لأنَّه قد يُلْتَفَتُ إليه . وقد تقدَّم ذلك في قوله في البقرة { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } [ الآية : 178 ] ثم قال : « وأداءٌ إليه » قيل : أي : الذي عفا ، وهو وليُّ الدمِ ، على ما تقدَّم تحريره . ولَئِنْ سُلِّم ذلك فالزمخشريُّ لم يَقُلْ : إنه عائدٌ على ذلك الفاعلِ ، إنما قال : راجعٌ إلى ما دَلَّ عليهِ ما قبلَه ، يعني مِن السِّياقِ .
وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ » رَبّ « أي : إنَّ الرَّبَّ أنا الله ، فيكون » أنا « فَصْلاً ، أو توكيداً ، أو خبراً إنَّ ، واللهُ بدلٌ منه » .

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)

قوله : { وَأَلْقِ } : عطفٌ على ما قبلَه من الجملةِ الاسميةِ الخبريةِ . وقد تقدَّم أنَّ سيبويهِ لا يَشْترط تناسُبَ الجملِ ، وأنه يُجيز « جاء زيدٌ ومَنْ أبوك » وتقدَّمت أدلَّتُه في أول البقرة . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ علامَ عَطَفَ قولَه : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } ؟ قلت : على قولِه » بُوْرِكَ « لأنَّ المعنى : نُوْدِيَ أَنْ بُوْرِكَ . وقيل له : أَلْقِ عَصاك . والدليلُ على ذلك قولُه : » وأَنْ أَلْقِ عَصاك « بعد قولِه » يا موسى إنَّه أنا اللهُ « على تكريرِ حرفِ التفسيرِ كما تقول : » كتْبْتُ إليه أَنْ حُجَّ واعْتَمِرْ « وإنْ شِئْتَ : أَنْ حُجَّ وأَنِ اعْتَمِرْ » . قال : الشيخ : « وقولُه : » إنه معطوفٌ على « بُوْرِكَ » منافٍ لتقديرِه « وقيل له : » أَلْقِ عصاك « لأَنَّ هذه جملةٌ معطوفةٌ على » بُوْرِكَ « وليس جُزْؤها الذي هو معمول » وقيل « معطوفاً على » بُوْرِكَ « ، وإنما احتاج إلى تقديرِ » وقيل له : أَلْقِ « لتكونَ جملةً خبريةً مناسِبَةً للجملةِ الخبريةِ التي التي عُطِفَتْ عليها . كأنه يرى في العطفِ تناسُبَ الجملِ المتعاطفةِ . والصحيحُ أنَّه لا يُشْتَرَطُ ذلك » ثم ذكرَ مذهبَ سيبويه .
قوله : { تَهْتَزُّ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ هاء « تَراها » لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ .
قوله : { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانيةً ، وأَنْ تكونَ حالاً من ضمير « تَهْتَزُّ » فتكونَ حالاً متداخلةً . وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد « جَأَنٌّ » بهمزةٍ مكانَ الألفِ ، وتقدَّم تقريرُ هذا في آخرِ الفاتحةِ عند { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] .
قوله : { وَلَمْ يُعَقِّبْ } يجوز أن يكونَ عطفاً على « ولى » ، وأَنْ يكونَ حالاً أخرى . والمعنى : لم يَرْجِعْ على عَقِبِه . كقوله :
3542 فما عَقَّبوا إذ قيلَ : هل مَنْ مُعَقِّبٍ ... ولا نَزَلُوا يومَ الكَريهةِ مَنْزِلا

إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)

قوله : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ المرسلين مَعْصُومون من المعاصي . وهذا هو الظاهرُ الصحيحُ . والثاني : أنه متصلٌ . وِلأهلِ التفسيرِ فيه عباراتٌ ليس هذا موضعَها . وعن الفراء : أنَّه متصلٌ . لكن من جملةٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : وإنما يَخاف غيرُهم إلاَّ مَنْ ظَلَمَ . وردَّه النحاس : بأنه لو جاز هذا لجازَ « لا أضرب القوم إلاَّ زيداً » أي : وإنما أَضْرِبُ غيرَهم إلاَّ زيداً ، وهذا ضدُّ البيانِ والمجيءُ بما لا يُعْرَفُ معناه .
وقَدَّره الزمخشري ب « لكن » . وهي علامةٌ على أنه منقطعٌ ، وذكر كلاماً طويلاً . فعلى الانقطاعِ يكونُ منصوباً فقط على لغةِ الحجاز . وعلى لغةِ تميمٍ يجوزُ فيه النَصبُ والرفعُ على البدلِ من الفاعلِ قبلَه . وأمَّا على الاتصالِ فيجوزُ فيه الوجهان على اللغتين ، ويكون الاختيارُ البدلَ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ .
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم « ألا » بفتح الهمزة وتخفيفِ اللامِ جعلاها حرفَ تنبيهٍ . و « مَنْ » شرطيةٌ ، وجوابُها { فَإِنِّي غَفُورٌ } .
والعامَّةٌ على تنوينِ « حُسْناً » . ومحمد بن عيسى الأصبهاني غيرَ منوَّن ، جعله فُعْلى مصدراً كرُجْعَى فمنعَها الصرفَ لألفِ التأنيثِ . وابنُ مقسم بضم الحاء والسين منوناً . ومجاهد وأبو حيوة ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ بفَتْحِهما . وقد تقدَّم تحقيقُ القراءتين في البقرة .

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)

قوله : { تَخْرُجْ } : الظاهرُ أنه جوابٌ لقولِه « أَدْخِلْ » أي : إنْ أَدْخَلْتَها تَخْرُجْ على هذه الصفةِ ، وقيل : في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه : وأَدْخِلْ يدَك تَدْخُلْ ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ . فَحَذَفَ من الثاني ما أَثْبَتَه في الأولِ ، ومن الأولِ ما أَثْبته في الثاني . وهذا تقديرُ ما لا حاجةَ إليه .
قوله : { بَيْضَآءَ } حالٌ مِنْ فاعلِ « تَخْرُجْ » . و { مِنْ غَيْرِ سواء } يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً أخرى ، أو مِن الضميرِ في « بَيْضاء » أو صفةً ل « بَيْضاءَ » .
قوله : { فِي تِسْعِ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنهُ حالٌ ثالثة . قال أبو البقاء . يعني : مِنْ فاعل يَخْرُجْ « / أي : آيةً في تسعِ آياتٍ . كذا قدَّره ، والثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي : اذهَبْ في تسعِ . وقد تَقَدَّم اختيارُ الزمخشري لذلك في أولِ هذه الموضوعِ عند ذِكْر البَسْملةِ ، ونَظَّره بقولِ الآخرِ :
3543 وقُلْتُ إلى الطَعامِ فقالَ منهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولهم : » بالرَّفاهِ والبنين « ، وجَعَلَ هذا التقديرَ أعربَ وأحسنَ . الثالث : أَنْ يتعلَّقَ بقولِه : » وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ « . قال الزمخشري : » ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى : وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ يَدك في تسع آياتٍ أي : في جملةِ تسعِ آياتٍ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : كانَتِ الآياتُ إحدى عشرةَ منها اثنتان : اليدُ والعَصا . والتِّسْعُ : الفَلْقُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضفادِعُ والدَّمُ والطَّمْسَةُ والجَدْبُ في بَواديهم ، والنُّقْصانُ في مزارِعهم « انتهى . وعلى هذا تكونُ » في « بمعنى » مع « لأنَّ اليدَ والعَصا حينئذٍ خارِجتان مِن التِّسْع ، وكذا فعلَ ابنُ عطية ، أعني أنه جَعَلَ » في تِسْع « متصلاً ب » أَلْقِ « و » أَدْخِلْ « إلاَّ أنَّه جَعَلَ اليدَ والعَصا مِنْ جملةِ التسعِ . وقال : » تقديرُه نُمَهِّد لكَ ذلك ، ونُيَسِّر في [ جملةِ ] تسعِ « .
وجَعَلَ الزجاجُ أنَّ » في « بمعنى » مِنْ « قال : كما تقول : خُذْ لي من الإِبلِ عشراً فيها فَحْلان أي : منها فَحْلان » .
قولُه : { إلى فِرْعَوْنَ } هذا متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به « في تسعِ » ، إذا لم تَجْعَلْه حالاً ، فإنْ جَعَلْناه حالاً عَلَّقْناه بمحذوفٍ ، فقدَّره أبو البقاء « مُرْسَلاً إلى فرعون » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه كونٌ مقيدٌ وسبَقَه إلى هذا التقديرِ الزجاجُ ، وكأنهما أرادا تفسيرَ المعنى دونَ الإِعرابِ . وجَوَّزَ أبو البقاء أيضاً أن تكونَ صفةً لآيات ، وقدَّره : « واصلةً إلى فرعونَ » . وفيه ما تقدَّم .

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)

قوله : { مُبْصِرَةً } : حالٌ ، ونَسَبَ الإبصارَ إليها مجازاً؛ لأنَّ بها تُبْصِرُ ، وقيل : بل هي مِنْ أَبْصَرَ المنقولةِ بالهمزةِ مِنْ بَصِرَ أي : إنها تُبْصِرُ غيرَها لِما فيها من الظهور . ولكنه مجازٌ آخرُ غيرُ الأولِ ، وقيل : هو بمعنى مفعول نحو : ماءٌ دافِقٌ أي : مَدْفُوق . وقرأ علي بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصادِ أي : على وزنِ « أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ » ذاتُ سِباع ، ونصبُها على الحالِ أيضاً ، وجَعَلها أبو البقاء في هذه القراءةِ [ مفعولاً مِنْ أجله . وقد تَقَدَّم ذلك ] .

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

قوله : { واستيقنتهآ } : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ معطوفةً على الجملةِ قبلَها . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « جَحَدُوا » وهو أبلغُ في الذَّمِّ . واسْتَفْعل هنا بمعنى تَفَعَّل نحو : اسْتَعظم واسْتَكْبر ، بمعنى : تَعَظَّم وتَكَبَّر .
قوله : { ظُلْماً وَعُلُوّاً } يجوزُ أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ أي : ظالِمين عالِين ، وأَنْ يكونا مفعولاً مِنْ أجلِهما أي : الحامِلُ على ذلك الظُّلْمُ والعُلُوُّ . وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة « وعِليَّاً » بكسر العينِ واللامِ ، وقَلْبِ الواوِ ياءً . وقد تقدَّم تحقيقُه في « عِتيَّا » في مريم . ورُوي عن الأعمش وابن وثاب ضمُّ العين كما في « عِتيّا » . وقرىء و « غُلُوَّاً » بالغينِ مُعَجَمَةً ، وهو قريبٌ من هذا المعنى .
قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } « كيف » خبرٌ مقدمٌ « وعاقبةُ » اسمُها ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنها مُعَلِّقةٌ ل « انْظُرْ » بمعنى تَفَكَّرْ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)

قوله : { وَقَالاَ } : قال الزمخشري : فإن قلتَ : أليسَ هذا موضعَ الفاءِ دونَ الواو كقولك : « أَعْطَيْتُه فَشَكر » و « مَنَعْتُه فَصَبرَ »؟ قلت : بلى . ولكنَّ عَطْفَه بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاه بعضُ ما أَحْدَثَ فيهما إيتاءُ العِلْمِ وشيءٌ من مَواجبِهِ ، فأضمرَ ذلك ثُمَّ عَطَفَ عليه التحميدَ ، كأنه قال : « ولقد آتيناهُما عِلْماً فَعَمِلا به ، وعَلَّماه وعَرَفاه حَقَّ مَعْرِفَتِه وقالا : » الحمد « انتهى . وإنما نَكَّر » عِلْماً « تَعْظيماً له أي : علماً سَنِيَّاً ، أو دلالةً على التبعيضِ لأنه قليلٌ جداً بالنسبةِ إلى عِلْمِه تعالى .

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)

قوله : { مِنَ الجن } : وما بعَده بيانٌ لجنودِه ، فيتعلَّق بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الجارُّ حالاً ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً .
قوله : { يُوزَعُونَ } أي : يُمْنَعون ويُكَفُّون . والوَزْعُ : الكَفُّ والحَبْسُ ، يقال : وَزَعَه يَزَعُهُ فهو وازِعٌ ومَوْزُوْع ، وقال عثمان رضي الله عنه : « ما يَزَعُ السلطانُ أكثرُ مِمَّا يَزَغُ القرآنُ » وعنه : / « لا بُدَّ للقاضي مِنْ وَزَغَةٍ » .
وقال الشاعر :
3544 ومَن لم يَزَعْه لُبُّه وحَياؤُه ... فليس له مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْه وازِعُ
وقوله : { أوزعني أَنْ أَشكُرَ } بمعنى : أَلْهِمْني ، من هذا؛ لأن تحقيقَه : اجعلني أَزَعُ نفسي عن الكفر .

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)

قوله : { حتى إِذَآ } : في المُغَيَّا ب « حتى » وجهان ، أحدهما : هو يُوْزَعُون؛ لأنَّه مُضَمَّنٌ معنى : فهم يسيرون ممنوعاً بعضُهم مِنْ مفارقةِ بعضٍ حتى إذا . والثاني : أنَّه محذوفٌ أي : فسارُوا حتى . وتقدَّم الكلامُ في « حتى » الداخلةِ على « إذا » هل هي حرفُ ابتداءٍ أو حرفُ جرّ؟
قوله : « وادي » متعلقٌ ب « أَتَوْا » وإنما عُدِّيَ ب « على » لأنَّ الواقعَ كذا؛ لأنَّهم كانوا محمولِيْنَ على الرِّيح فهم مُسْتَعْلُون . وقيل : هو مِنْ قولِهم : أَتَيْتُ عليه ، إذا اسْتَقْصَيْتَه إلى آخره والمعنى : أنهم قَطَعوا الواديَ كلَّه وبَلَغُوا آخرَه . ووقف القُراءُ كلُّهم على « وادِ » دونَ ياءٍ اتِّباعاً للرَّسْمِ ، ولأنها محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الوصلِ ، ولأنها قد حُذِفَتْ حيث لم تُحْذَفْ لالتقاءِ الساكنين نحو : { جَابُواْ الصخر بالواد } [ الفجر : 9 ] فَحَذُفها وقفاً وقد عُهِدَ حَذْفُها دونَ التقاء ساكنين أولى . إلاَّ الكسائيَّ فإنه وَقَفَ بالياء قال : « لأنَّ المُوْجِبَ للحذفِ إنما هو التقاءُ ساكنين بالوصلِ ، وقد زالَ فعادَتِ اللامُ » ، واعتَذَر عن مخالفةِ الرسمِ بقوةِ الأصلِ .
والنَّمْلُ اسمُ جنسٍ معروفٌ ، واحده نَمْلة ، ويقال : نُمْلَة ونُمْلٌ بضمِّ النونِ وسكونِ الميم ، ونُمُلَةٌ ونُمُلٌ بضمهما ونَمُلَة بالفتح والضم ، بوزن سَمُرة ، ونَمُل بوزن رَجُل . واشتقاقُه من التنمُّلِ لكثرةِ حركتِه . ومنه قيل للواشي : المُنْمِل ، يقال : أَنْمَلَ بين القومِ يُنْمِلُ أي : وشى ، ونَمَّ لكثرةِ تَرَدُّدِه وحركتِه في ذلك ، قال :
3545 ولَسْتُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ ... ولا مُنْمِشٍ فيهمُ مُنْمِلُ
ويقال أيضاً : نَمَل يَنْمُلُ فهو نَمِل ونَمَّال . وتَنَمَّل القوم : تفرَّقوا للجمع تفرُّقَ النملِ . وفي المثل : « أجمعُ مِنْ نملة » . والنَّّمْلَةُ أيضاً : فُرْجَةٌ تخرج في الجَنْب تشبيهاً بها في الهيئة ، والنَّمْلَة أيضاً : شَقٌّ في الحافِر ، ومنه : فَرَسٌ مَنْمولُ القوائم . والأَنْمُلَة طرفُ الإِصْبَعِ مِنْ ذلك لِدِقَّتِها وسُرْعَةِ حركتِها . والجمعُ : أَنامِل .
قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى ، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل : نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو : حَمامةٌ ويَمامةٌ . وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه . أنه وقف على قتادةَ وهو يقول : سَلُوني . فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان : هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب . فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال : كانَتْ أنثى . واستدل بلَحاقِ العلامةِ . قال الزمخشري : « وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى ، وهو وهي » انتهى .
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال : « ولَحاقُ التاءِ في » قالَتْ « لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر : » قالت نملة «؛ لأنَّ » نملة « وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث ، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان ، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس » ، قال : « وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ .

وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث ، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين . ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى « قال : » وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب « قالَتْ » ولو كان ذَكَراً لقيل : قال ، فكلامُ النحاةِ على خِلافه ، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى « ، قال : » وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/ النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة ، وأمَّا تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ . لا تقول : هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو : المرأة ، أو غيرِ العاقل كالدابَّة ، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك ، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية « انتهى .
أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ : من حيث إنَّ التأنيثَ : أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ البتة ، بدليلِ أنه لا يجوز : » قامَتْ ربعةُ « وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز : قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً : وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه .
وأمَّا قولُه : » وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ « يعني : لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ . قد يمكن الاطلاعُ على ذلك ، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ . ومَنْعُه أيضاً أن يقال : هو الشاةُ ، وهو الحمامة ، ممنوعٌ .
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة .

وسليمان التميمي بضمتين فيهما . وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ .
قوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه نهيٌ . والثاني : أنه جوابٌ للأمرِ ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان ، أحدُهما : أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي : لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم : « لا أُرَيَنَّك ههنا » . والثاني : أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه ، وهي ادْخلوا . وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال : « فإنْ قلتَ : لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل : يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ . والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم ، فيَحْطِمَنَّكم ، على طريقةِ » لا أُرَيَنَّك ههنا « أرادَتْ : لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان ، فجاءت بما هو أبلغُ . ونحوُه » عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها « . قال الشيخ : أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ نهي » قلت : يعني أنَّ الأعمشَ قرأ « لا يَحْطِمْكم » بجزم الميمِ ، دونَ نونِ توكيدٍ .
قال : وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك ، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ . وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ . ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر :
3546 نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى ... حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا
وقول الآخر :
3547 فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ ... ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا
قال سيبويه : « وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب » قال : « وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ » لا يَحْطِمَنَّكم « مخالِفٌ لمدلولِ » ادْخُلوا « . وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى : لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ . نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ : لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ . وأمَّا قوله : » إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه « فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ ، بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه . وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : خيلُ سليمانَ وجنودُه ، أو نحو ذلك ، مما يَصِحُّ تقديره » . انتهى .
أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال : « وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار » .

وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى . وأمَّا قوله : « فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ » لم يُسَوِّغ ذلك ، وإنما فَسَّر المعنى . وعلى تقدير ذلك فقد قيل به . وجاء الخطابُ في قولها : « ادْخُلوا » كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم .
وقرأ أُبَيٌّ « ادْخُلْنَ » ، « مَساكِنَكُنَّ » ، « لا يَحْطِمَنْكُنَّ » بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل . وقرأ شهر بن حوشب « مَسْكَنَكُمْ » بالإِفراد . وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ ، وفتحِ الحاءِ ، وتشديدِ الطاءِ والنونِ ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد . وعن الحسن أيضاً قراءاتان : فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها . والأصل : لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم . وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في « لا يَهِدِّي » ونحوِه . وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية . والحَطْمُ : الكَسْر . يقال منه : حَطَمْتُه فحَطِمَ ثم اسْتُعمِل لكلِّ كَسْرٍ مُتَناهٍ . والحُطامُ : ما تكسَّر يُبْساً ، وغَلَبَ على الأشياءِ التافهةِ . والحُطَمُ : السائق السريع كأنه يَحْطِمُ الإِبل قال :
3548 قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ... ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ
ولا بَجَزَّارٍ على ظهرِ وَضَمْ ... والحُطَمَةُ : من دَرَكاتِ النار . ورجلٌ حُطَمة : للأكولِ . تشبيهاً لبطنه بالنارِ كقوله :
3549 كأنمَّا في جَوْفِه تَنُّوْرُ ...

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

قوله : { ضَاحِكاً } : قيل : هي حالٌ مؤكدةٌ؛ لأنَّها مفهومةٌ مِنْ تَبَسَّمَ . وقيل : بل هي حالٌ مقدرةٌ فإنَّ التبسُّمَ ابتداءُ الضحكِ . وقيل : لَمَّا كان التبسُّمُ قد يكون للغَضَبِ ، ومنه : تَبَسَّم تَبَسُّمَ الغَضْبانِ ، أتى بضاحكاً مبيِّناً له . قال عنترة :
3550 لمَّا رآني قد قَصَدْت أُرِيْدُه ... أبدى نواجِذَه لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتَبَسَّمَ تفعَّل ، بمعنى بَسَمَ المجرد . قال :
3551 وتَبْسِمُ عن ألمى كأن مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ له نَدِي
وقال بعض المُوَلَّدين :
3552 كأنَّما تَبْسِمُ عن لؤلؤٍ ... مُنَضَّدٍ أو بَرَدٍ أو أَقَاحِ
وقرأ ابن السمفيع « ضَحِكاً » مقصوراً . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى تَبَسَّم لأنه بمعناه . والثاني : أنه في موضعِ الحالِ فهو في المعنى كالذي قبله . الثالث : أنه اسمُ فاعل كفَرِح؛ وذلك لأنَّ فِعْلَه على فَعِل بكسر العين وهو لازم فَهو كفَرحِ وبَطرِ .
قوله : { أَنْ أَشْكُرَ } مفعولٌ ثانٍ لأَوْزِعْني لأنَّ معناه أَلْهِمْني . وقيل : معناه اجْعَلني أَزَعُ شكرَ نعمتك أي : أكُفُّه وأمنعُه حتى لا ينفلتَ مني ، فلا أزال شاكراً . وتفسير الزَّجاج له ب « امْنَعْني أن أكفَر نعمتَك » من بابِ تفسيرِ المعنى باللازم .

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)

قوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } : هذا استفهامُ توقيفٍ ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاء القَلْب ، وأنَّ الأصلَ : ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قويٌّ دونه . والهُدْهُدُ معروفٌ . وتصغيره على هُدَيْهِد وهو القياس . وزعم بعضُ النحويين أنه تُقْلَبُ ياءُ تصغيره ألفاً ، فيقال : هُداهِد . وأنشد :
3553 كهُداهِدٍ كَسَرَ الرماةُ جناحَه ... يَدْعو بقارعةِ الطريق هَدِيْلا
كما قالوا دُوابَّة وشُوابَّة ، في : دُوَيْبَّة وشُوَيْبَّة . ورَدَّه بعضُهم : بأن الهُداهِد الحَمامُ ، الكثيرُ ترجيعِ الصوتِ . تزعُمُ العربُ أن جارحاً في زمان الطُّوفانِ ، اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ تسمَّى الهديل . قالوا : فكلُّ حمامةٍ تبكي فإنما تبكي على الهديل .
قوله : { أَمْ كَانَ } هذه « أم » المنقطعةُ وقد تقدَّم الكلامُ فيها . وقال ابن عطية : « قوله مالي لا أرى الهدهد » مَقْصَدُ الكلامِ : الهُدْهُدُ غاب ، ولكنه أَخَذَ اللازمَ عن مُغَيَّبِه : وهو أَنْ لا يَراه ، فاستفهم على جهةِ التوقُّفِ عن اللازمِ ، وهذا ضَرْبٌ من الإِيجاز . والاستفهامُ الذي في قوله : « مالي » نابَ منابَ الألفِ التي تحتاجُها « أم » . قال الشيخ : « فظاهرُ كلامِه أنَّ » أم « متصلةٌ ، وأن الاستفهامَ الذي في قوله » مالي « ناب منابَ ألفِ الاستفهام . فمعناه : أغاب عني الآن فلم أَرَهُ حال التفقُّد أم كان مِمَّنْ غابَ قبلُ ، ولم أَشْعُرْ بغَيْبَتِه؟ » . قلت : لا يُظَّنُّ بأبي محمد ذلك ، فإنه لا يَجْهَلُ أنَّ شَرْطَ المتصلةِ تَقَدُّمُ همزةِ الاستفهامِ أو التسويةِ لا مطلقُ الاستفهامِ .

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

قوله : { عَذَاباً } : أي : تَعْذِيباً ، فهو اسمُ مصدرٍ أو مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقد كتبوا « أو لأَاذْبَحَنَّه » بزيادةِ ألفٍ بين لامِ ألفٍ والذال . ولا يجوز أن يُقرأ بها . وهذا كما تقدم أنهم كتبوا « ولأَاوْضَعوا خلالَكم » بزيادة ألف بين لام ألف والواو .
قوله : { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي } قرأ ابنُ كثيرٍ بنون التوكيد المشددة ، بعدها نونُ الوقايةِ . وهذا هو الأصلُ واتَّبع مع ذلك رَسْمَ مصحفِه . والباقون بنونٍ مشدَّدَةٍ فقط . الأظهرُ أنها نونُ التوكيدِ الشديدةِ ، تُوُصِّل بكسرِها لياءِ المتكلم . وقيل بل هي نونُ التوكيدِ الخفيفةِ أُدْغِمَتْ في نونِ الوقايةِ . وليس بشيءٍ لمخالَفَةِ الفعلين قبلَه . وعيسى بن عمر بنونٍ مشددةٍ مفتوحة لم يَصِلْها بالياء .

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

قوله : { فَمَكَثَ } : قرأ عاصم بفتحِ الكافِ . والباقون بضمِّها . وهما لغتان . إلاَّ أنَّ الفتحَ أشهرُ ، ولذلك جاءت الصفة على « ماكِث » دون مَكِيْث . واعْتُذِر عنه بأنَّ فاعِلاً قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو : حَمُض فهو حامِض ، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ ، وفَرُهَ فهو فارِهٌ .
قوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي : مُكْثاً غيرَ بعيدٍ ، وللزمان أي : زماناً غيرَ بعيدٍ ، وللمكان أي : مكاناً غيرَ بعيدٍ . والظاهرُ أنَّ الضمير في « مكث » للهُدْهُدِ . وقيل : لسليمان عليه السلام .
قوله : { مِن سَبَإٍ } : قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ ، جعلاه اسماً للقبيلة ، أو البُقْعَةِ ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث . وعليه قولُه :
3554 مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِها العَرِما
وقرأ قنبل بسكونِ الهمزةِ ، كأنه نوى الوقفَ وأجرى الوَصْلَ مُجْراه . والباقون بالجَرِّ والتنوينِ ، جعلوه اسماً للحَيِّ أو المكانِ . وعليه قولُه :
3555 الوارِدُون وتَيْمٌ في ذُرا سَبَأٍ ... قد عَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ
وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ . وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع : « التجانُسُ » وهو تَجْنيسُ التصريفِ . وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ . ومثلُه : { تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] وفي الحديث : « الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ » .
وقال آخر :
3556 للهِ ما صَنَعَتْ بنا ... تلك المَعاجِرُ والمحَاجِرْ
وقال الزمخشري : « وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } مِنْ جنسِ الكلامِ الذي سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع . وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ ، بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعاً ، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ ، يَحْفَظُ معه صحةَ المعنى وسَدادَه ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظاً ومعنىً . ألا ترى أنه لو وُضِع مكان » بنَبَأ « » بخبر « لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصَحُّ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال » . يريد بالزيادة : أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ ، وعلى ما لا شأنَ له ، فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ . وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحوِ { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالتَّرْدِيد . قاله صاحب « التحرير » . وقال غيرُه : إنَّ الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها ، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ الأولِ إلى النصف الثاني . فمثالُ الأولِ قولُه :
3557 سَريعٌ إلى ابنِ العَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَه ... وليس إلى داعي الخَنا بسَريعِ
ومثالُ الثاني قولُه :
3558 والليالي إذا نَأَيْتُمْ طِوالٌ ... والليالي إذا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في روايةٍ « مِنْ سَبَاً » مقصوراً منوَّناً . وعنه أيضاً : « مِنْ سَبْأَ » بسكون الباءِ وفتحِ الهمزةِ ، جعله على فَعْل ومَنَعَه من الصرفِ لِما تقدَّم .

وعن الأعمش « مِنْ سَبْءِ » بهمزةٍ مكسورةٍ غير منونةٍ . وفيها إشكالٌ؛ إذ لا وجهَ للبناء . والذي يظهر لي أنَّ تنوينَها لا بدَّ أَنْ يُقْلَبَ ميماً وصلاً ضرورةَ ملاقاتِه للباء ، فسمعها الراوي ، فظنَّ أنه كَسَر مِنْ غيرِ تنوينٍ . ورُوِيَ عن أبي عمروٍ « مِنْ سَبَا » بالألفِ صريحةً كقولِهم : « تَفَرَّقُوا أَيْدِيْ سَبا » . وكذلك قُرِىء « بنَبَا » بألفٍ خالصةٍ ، وينبغي أَنْ يكونا لقارِىءٍ واحدٍ .
و « سَبَأ » في الأصلِ اسمُ رجلٍ مِنْ قَحْطانَ ، واسمه عبد شمس ، وسَبَأُ لقبٌ له . وإنما لُقِّبَ به لأنه أولُ مَنْ سبى ، وَوُلِدَ له عشرةُ أولادٍ ، تيامَنَ ستةٌ وهم : حِمْيَرُ وكِنْدَةُ والأَزْدُ وأَشْعَرُ وَخَثْعَمُ وبُجَيْلَةُ ، وتشاءَمَ أربعةٌ وهم : لَخْمٌ وجُذامُ وعامِلَةُ وغَسَّانُ .

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)

قوله : { وَأُوتِيَتْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على « تَمْلِكُهم » . وجاز عَطْفُ الماضي على المضارع؛ لأنَّ المضارعَ بمعناه أي : مَلَكَتْهُمْ . ويجوز أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ « تَمْلِكُهم » ، و « قد » معها مضمرةٌ عند مَنْ يرى ذلك .
وقوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } عامٌّ مخصوصٌ بالعَقْلِ لأنها لم تُؤْتَ ما أُوْتِيَه سُلَيْمانُ .
قوله : { وَلَهَا عَرْشٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مستقلةً بنفسِها سِيْقَتْ للإِخبارِ بها ، وأَنْ تكونَ معطوفةً على « أُوْتِيَتْ » ، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ « أُوْتِيَتْ » . والأحسنُ أَنْ تُجْعَلَ الحالُ الجارَّ ، و « عَرْشٌ » مرفوعٌ به ، وبعضُهم يَقِفُ على « عَرْشٌ » ، ويَقْطَعُه عن نَعْتِه . قال الزمخشري : « ومِنْ نَوْكَى القُصَّاص مَنْ يقفُ على قولِه : { وَلَهَا عَرْشٌ } ثم يَبْتَدِىءُ » عظيمٌ وَجَدْتُها « يريد : أمرٌ عظيمٌ أَنْ وَجَدْتُها ، فَرَّ مِنْ استعظامِ الهُدْهُدِ عرشَها فوقع في عظيمةٍ وهي مَسْخُ كتابِ الله » . قلت : النوكى : الحمقى جمعَ أَنْوكِ . وهذا الذي ذكرَه مِنْ أَمْرِ الوقف نقله الدانيُّ عن نافعٍ ، وقَرَّره ، وأبو بكر بن الأنباري ، ورفعه إلى بعضِ أهل العلمِ ، فلا ينبغي أَنْ يُقال : « نوكى القُصَّاص » . وخرَّجه الدانيُّ على أَنْ يكونَ « عظيم » مبتدأ و « وَجَدْتُها » الخبرُ . وهذا خطأٌ كيف يُبْتدأ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ ، ويُخْبَرُ عنها بجملةٍ لا رابطَ بينها وبينَه؟ والإِعرابُ ما قاله الزمخشريُّ : مِنْ أنَّ عظيماً صفةٌ لمحذوفٍ خبراً مقدماً [ و « وَجَدْتُها » مبتدأٌ مؤخرٌ مُقَدَّراً معه حرفٌ مصدريٌّ أي : أمرٌ عظيمٌ وُجْداني إياها وقومَها غيرَ عابدي اللهِ تعالى .

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)

قوله : { وَجَدتُّهَا } : هي التي بمعنى لَقِيْتُ ] وأَصَبْتُ/ فتتعدى لواحدٍ ، فيكونُ « يَسْجُدون » حالاً مِنْ مفعولِها وما عُطِفَ عليه .
قوله : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } : قرأ الكسائيُّ بتخفيف « ألا » ، والباقون بتشديدها . فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف « ألا » فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ ، و « يا » بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و « اسْجُدوا » فعلُ أمرٍ . وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ « يا اسْجُدوا » ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ « يا » وهمزةَ الوصلِ من « اسْجُدوا » خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً ، ووَصَلُوا الياءَ بسين « اسْجُدوا » ، فصارَتْ صورتُه « يَسْجُدوا » كما ترى ، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً .
واختلف النحويون في « يا » هذه : هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه : يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه : { ياليتني } [ الآية : 73 ] في سورة النساء . والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ . ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ . ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو « ألا » . وقد اعْتُذِرَ عن ذلك : بأنه جُمِع بينهما تأكيداً . وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله :
3559 فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فغيرُ العامِلَيْن أولى . وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى ، كقوله :
3560 فلا واللهِ لا يلفى لِما بي ... ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ
فهذا أَوْلَى . وقد كَثُرَ مباشرةُ « يا » لفعلِ الأمرِ وقبلَها « ألا » التي للاستفتاح كقوله :
3561 ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي ... ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي
وقوله :
3562 ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى ... ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ
وقوله :
3563 ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ ... وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ
وقوله :
364 ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ ... وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ
وقوله :
3565 ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ ... لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري
وقوله :
3566 ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
3567 فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ ... فقلتُ : سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي
وقد جاءَ ذلك ، وإنْ لم يكنْ قبلَها « ألا » كقوله :
3568 يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ... بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ
فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم .
وقد سُمع ذلك في النثر ، سُمِع بعضُهم يقول : ألا يا ارحموني ، ألا يا تَصَدَّقوا علينا . وأمَّا قولُ الأخرِ :
3569 يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ
فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء ، والمنادى محذوف ، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ .

واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على « يَهْتَدون » تامٌّ .
وله أن يَقِفَ على « ألا يا » معاً ويَبْتَدىءَ « اسْجُدوا » بهمزة مضمومةٍ ، وله أَنْ يقفَ على « ألا » وحدَها ، وعلى « يا » وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان . وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما ، إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً . فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ ، والخطبُ فيها سَهْلٌ .
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ . وفيه أوجهٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنَّ « ألاَّ » أصلُها : أَنْ لا ، ف « أنْ » ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ ، و « لا » بعدها حَرفُ نفيٍ . و « أنْ » وما بعدها في موضع مفعولِ « يَهْتَدون » على إسقاطِ الخافضِ ، أي : إلى أن/ لا يَسْجُدوا . و « لا » مزيدةٌ كزيادتِها في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ « أعمالَهم » وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه : وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله . الثالث : أنه بدلٌ من « السبيل » على زيادةِ « لا » أيضاً . والتقديرُ : فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى . الرابع : أنَّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } مفعول له . وفي متعلَّقه وجهان ، أحدهما : أنه زَيَّن أي : زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا . والثاني : أنَّه متعلِّقٌ ب « صَدَّهم » أي : صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا . وفي « لا » حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه ليسَتْ مزيدةً ، بل نافيةٌ على معناها من النفي . والثاني : أنها مزيدةٌ والمعنى : وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم ، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم . وعدمُ الزيادةِ أظهرُ .
الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وهذا المبتدأُ : إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على « أعمالَهم » التقديرُ : هي أن لا يَسْجدوا ، فتكون « لا » على بابِها من النفي ، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على « السبيل » . التقديرُ : هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون « لا » مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى .
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على « يَهْتدون » لأنَّ ما بعدَه : إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ « زَيَّن » و « صَدَّ » ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ « أعمالَهم » أو من « السبيل » على ما قُرِّر وحُرِّرَ ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه .
وقد كُتِبَتْ « ألاَّ » موصولةً غيرَ مفصولةٍ ، فلم تُكْتَبْ « أنْ » منفصِلةً مِنْ « لا » فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على « أنْ » وحدَها لاتِّصالِها ب « لا » في الكتابةِ ، بل يُوْقَفُ لهم على « ألاَّ » بجملتِها ، كذا قال القُراء .

والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب « لا » غيرُ مانعٍ من ذلك . ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب « لا » ، فيكتبونها : أَنْلا ، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها ، قالوا ذلك تسامحاً .
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً : وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به ، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال : « فإنْ قلتَ : أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت : هي واجبةٌ فيهما ، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ ، والأخرى ذَمٌّ للتارك » . فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه .
قلت : وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ ، وظاهرُه الوجوبُ ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً ، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه ، على أنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر : وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى ، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه . فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال : يَقْتضي الوجوبَ ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه ، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يخفى .
وقرأ الأعمشُ « هَلاَّ » ، و « هَلا » بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ « لا » وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله . وقرأ عبدُ الله « تَسْجُدون » بتاء الخطابِ ونونِ الرفع . وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ . فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو : « ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث » وفي حرف عبدِ الله أيضاً : « ألا هَلْ تَسْجدُون » بالخطاب .
قوله : { الذي يُخْرِجُ الخبء } يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً له أو بدلاً منه أو بياناً ، أو منصوبَه/ على المدحِ ، ومرفوعَه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئاً أي : سَتَرْتُهُ ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء . ونحُوه : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] . وفي التفسير : الخَبْءُ في السماواتِ : المطرُ ، وفي الأرض : النباتُ . والخابِيَةُ مِنْ هذا ، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة والذُّرِّيَّة عند بعضِهم . وقرأ أُبَيٌّ وعيسى « الخَبَ » بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الباءِ ، وحَذْفِ الهمزة ، فيصيرُ نحوَ : رأيتُ الأَبَ . وقرأ عبد الله وعكرمةُ ومالك بن دينار « الخبا » بألفٍ صريحة . ووجْهُها : أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً فلزِمَ تحريكُ الباءِ ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفاً يجانِسُ حركتَها فيقول : هذا الخَبُوْ ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي ، ثم أُجْرِي الوصلُ مجرى الوقفِ .

وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها ، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةِ ما قبلها ، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون : المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ .
وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال : « لا يجوزُ في العربيةِ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقى حركتَها على الباء ، فقال : الخَبَ ، وإن حَوَّلها قال : الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها » قال المبرد : « كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ ، لم يَلْحَقْ بهم ، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه » .
قوله : { فِي السماوات } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب « الخَبْءَ » أي : المخبوءَ في السماواتِ . والثاني : أنه متعلقٌ ب « يُخْرِجُ » على أنَّ معنى « في » معنى « مِنْ » أي : يُخْرِجُه من السماواتِ . وهو قول الفراء .
قوله : { مَا تُخْفُونَ } قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما ، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ . فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به . والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ غيرَ حفصٍ ظاهرةٌ أيضاً؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله : « لهم » و « أعمالهم » و « صَدَّهم » و « فهمْ » . وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبَأ . ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه .
وقال ابن عطية : « القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد ، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم » . وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً . وكذلك الخلافُ في قولِه { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكاً منه ، لَمَّا وَصَفَ عَرْشَ بلقيسَ العظيمَ ، أو من كلامِ اللهِ تعالى رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها بالعظيم؟ .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

والعامَّةُ على جرِّ « العظيم » تابعاً للجلالة . وابن محيصن بالرفعِ . وهو يحتمل وجهين . أن يكونَ نعتاً للربِّ ، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عن تبعيَّةِ العرش إلى الرفعِ بإضمارِ مبتدأ .

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)

قوله : { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ } : الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ ب « نَنْظُرُ » لأنها معلَّقةٌ لها . و « أم » هنا متصلةٌ . وقوله : { أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } أبلَغُ مِنْ قولِه : « أم كَذَبْتَ » وإنْ كان هو الأصلَ؛ لأنَّ المعنى : مِن الذين اتَّصفوا وانْخَرَطوا في سِلْكِ الكاذبين .

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)

قوله : { هذا } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل « كتابي » أو بدلاً منه أو بياناً له .
قوله : { فَأَلْقِهْ } قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء ، وقالون بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه . وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ . والباقون بالصلة بلا خلاف . وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 75 ] و { نُوَلِّهِ مَا تولى } [ النساء : 115 ] . وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ : « فَأَلْقِهُوْ إليهم » وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ .
[ قوله : ] « ثم تَوَلَّ عنهم » زعم أبو علي وغيرُه أنَّ في الكلام تقديماً وأن الأصلَ : فانظرْ ماذا يَرْجِعون ثم تَوَلَّ عنهم . ولا حاجةَ إلى هذا [ لأن المعنى بدونِه صحيحٌ أي : قِفْ قريباً منهم لتنظرَ ماذا يكون ] .
قوله : { مَاذَا يَرْجِعُونَ } إنْ جَعَلْنا « انظر » بمعنى تأمَّلْ وتَفَكَّرْ كانت « ما » استفهاميةً . وفيها حينئذٍ وجهان ، / أحدُهما : أَنْ تُجْعَلَ مع « ذا » بمنزلةِ اسمٍ واحد ، وتكونُ مفعولةً ب « يَرْجِعُون » تقديرُه : أيَّ شيء يَرْجِعون . والثاني : أن تُجْعل « ما » مبتدأً ، و « ذا » بمعنى الذي و « يَرْجِعُون » صلتَها ، وعائدُها محذوفٌ تقديرُه : أيُّ شيء الذي يَرْجِعونه . وهذا الموصولُ هو خبر « ما » الاستفهامية ، وعلى التقديرين فالجملة الاستفهاميةُ مُعَلَّقَةُ ل « انْظُرْ » فمحلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ أي : انْظُرْ في كذا وفَكِّر فيه ، وإنْ جَعَلْناه بمعنى انتظرْ مِنْ قوله : { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ الحديد : 13 ] كانت « ماذا » بمعنى الذي ، و « يَرْجِعون » صلةٌ ، والعائدُ مقدرٌ كما مرَّ تقريرُه . وهذا الموصولُ مفعولٌ به أي : انتظر الذي يَرْجِعونه .
وقال الشيخ : « وماذا : إنْ كان معنى » انظرْ « معنى التأمُّلِ بالفكر كان » انظر « مُعَلَّقاً . و » ماذا « : إمَّا أَنْ يكونَ استفهاماً في موضعِ نصبٍ ، وإمَّا أَنْ يكونَ » ما « استفهاماً ، وذا موصول بمعنى الذي . فعلى الأولِ يكونُ » يَرْجِعون « خبراً عن » ماذا « ، وعلى الثاني يكون » ذا « هو الخبرََ ، وَيَرْجِعُون صلة » انتهى .
وهذا غَلَطٌ : إمَّا من الكاتبِ ، وإمَّا مِنْ غيرِه؛ وذلك أنَّ قولَه « فعلى الأولِ » يعني به أنَّ « ماذا » كلَّه استفهامٌ في موضع نصبٍ يمنعُ قولَه : « يَرْجِعون » خبرٌ عن « ماذا » . كيف يكون خبراً عنه وهو منصوبٌ به كما تقدَّم تقريرُه؟ وقد صَرَّح هو بأنه منصوبٌ يعنى بما بعدَه ، ولا يعملُ فيه ما قبلَه . وهذا نظيرُ ما تقدَّم في آخرِ السورةِ قبلَها في قولِه : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] في كونِ اسمِ الاستفهامِ معمولاً لِما بعدَه ، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله ، فكما حَكَمْتَ على الجملةِ مِنْ « يَنْقَلِبُوْن » وما اشتملَتْ عليه من اسمِ الاستفهامِ المعمولِ لها بالنصبِ على سبيلِ التعليقِ ، كذلك تَحْكُمُ على « يَرْجِعُون » فكيف تقول : إنها خبرٌ عن « ماذا »؟ .

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)

قوله : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ } : العامَّةُ على كسرِ الهمزتين على الاستئنافِ جواباً لسؤالِ قومِها كأنَّهم قالوا : مِمَّن الكتابُ؟ وما فيه؟ فأجابَتْهم بالجوابَيْن .
وقرأ عبد الله « وإنَّه مِنْ سليمانَ » بزيادةِ واوٍ عاطفةٍ « إنه من سليمان » على قولِه : { إني أُلْقِيَ إِلَيَّ } . وقرأ عكرمةُ وابن أبي عبلةَ بفتح الهمزتين . صَرَّح بذلك الزمخشري وغيرُه ، ولم يذكر أبو البقاء إلاَّ الكسرَ في « إنه من سليمان » ، وكأنه سكتَ عن الثانيةِ؛ لأنها معطوفةٌ على الأولى . وفي تخريجِ الفتح فيهما أوجهٌ ، أحدُهما : أنه بدلٌ من « كتاب » بدلُ اشتمالٍ ، أو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ ، كأنه قيل : أُلْقِي إليَّ أنه من سليمانَ ، وأنه كذا وكذا . وهذا هو الأصحُّ . والثاني : أنه مرفوعٌ ب « كريمٌ » ذكره أبو البقاء ، وليس بالقويِّ . الثالث : أنه على إسقاطِ حرفِ العلةِ . قال الزمشخري : « ويجوز أَنْ تريدَ : لأنه مِنْ سليمانَ ، ولأنَّه ، كأنها عَلَّلَتْ كرمَه بكونِه من سليمان وتصديرَه باسم الله » .
قال مكي : « وأجاز الفراء الفتحَ فيهما في الكلامِ » كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ .
وقرأ أُبَيٌّ « أَنْ مِنْ سليمانَ ، وأنْ بسمِ اللهِ » بسكون النون فيهما . وفيها وجهان ، أظهُرهما : أنَها « أنْ » المفسرةُ ، لتقدُّم ما هو بمعنى القول . والثاني : أنَّها المخففةُ ، واسمُها محذوفٌ وهذا لا يتمشى على أصول البصريين؛ لأنَّ اسمَها لا يكونُ إلاَّ ضميرَ شأنٍ ، وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍ بُجُزْأَيْها .

أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

قوله : { أَلاَّ تَعْلُواْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ « أنْ » مفسِّرةٌ ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في « أنْ » قبلَها في قراءةِ عكرمة ، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه . وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ : وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه « وَأْتُوْني » . والثاني : أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ « كتاب » كأنه قيل : أُلْقِيَ إليَّ : أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ . والثالث : أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هو أَنْ لا تَعْلُوا . والرابع : أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي : بأَنْ لا تَعْلُوا ، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران . والظاهر أنَّ « لا » في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ . وقد تقدَّم أنَّ « أَنْ » المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً . وقال الشيخ : « وأَنْ في قولِه : » أن لا تَعْلُوا عليَّ « في موضع رفعٍ على البدلِ من » كتاب « . وقيل : في موضعِ نصبٍ على [ معنى ] : بأن لا تَعْلُوا . وعلى هذين التقديرين تكون » أنْ « ناصبةً للفعل » . قلت : وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد « أَنْ » الناصبةِ للمضارع . ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال : « وقال الزمخشريُّ : وأنْ في » أَنْ لا تَعْلُوا « مفسرةٌ » قال : « فعلى هذه تكون » لا « في » لا تَعْلُوا « للنهي ، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه » . فقوله : « فعلى هذا » إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا يعني الوجهين المتقدمين ليست للنهي فيهما . ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه ، وليس هذا مقصوداً ، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك .
وقرأ ابن عباس والعقيلي « تَغْلُوا » بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ .

قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)

قوله : { مَاذَا تَأْمُرِينَ } : « ماذا » هو المفعولُ الثاني ل « تَأْمُرين » ، والأولُ محذوفٌ ، تقديره : تَأْمُرِيْنَنَا . والاستفهامُ مُعَلِّق للنظرِ ، ولا يخفى حكمُه ممَّا تقدَّم قبلَه .

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

قوله : { وكذلك يَفْعَلُونَ } : أي : مِثْلَ ذلك الفعلِ يَفْعلون . وهل هذه الجملةُ مِنْ كلامِها وهو الظاهرُ فتكونُ منصوبةً بالقولِ أو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى ، فهي استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ ، وهي معترضَةٌ بين قَوْلَيْها؟

وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

والهَدِيَّةُ : ما بُعِثَ على جهةِ الإِكرامِ ، وهي اسمٌ للمهدى فيحتمل أَنْ يكونَ اسماً صريحاً ، ويُحتملُ أَنْ يكونَ في الأصلِ مصدراً أُطْلِقَ على اسمِ المفعولِ ، وليسَتْ مصدراً قياسياً؛ لأنَّ الفعلَ منها « أهدى » رباعياً فقياسُ مصدرِه : إهداءً .
قوله : { فَنَاظِرَةٌ } : عطفٌ على « مُرْسِلَة » . و « بمَ » متعلقٌ ب « يَرجِعُ » . وقد وَهِمَ الحوفيُّ فجعَلَها متعلقةً ب « ناظِرَةٌ » وهذا لا يستقيمُ؛ لأنَّ اسمَ الاستفهامِ له صدرُ الكلامِ . « وبمَ يَرْجِعُ » مُعَلِّقٌ ل « ناظِرَةٌ » .

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)

قوله : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ } : أي : فلمَّا جاء الرسولُ ، أضمرَه لدلالةِ قَولِها « مُرْسِلَةٌ » فإنه يَسْتَلْزِمُ رسولاً . والمرادُ به الجنسُ لا حقيقةُ رسولٍ واحدٍ بدليلِ خطابِه لهم بالجمع في قوله : « أتُمِدُّونَنِ » إلى آخره . ولذلك قرأ عبد الله « فلمَّا جْاؤُوا » وقرأ « فارْجِعوا » إليهم اعتباراً بالأصلِ المشارِ إليه .
قوله : { أَتُمِدُّونَني } استفهامُ إنكارٍ . وقرأ حمزةُ بإدغام نونِ الرفع في نونِ الوقايةِ . وأمَّا الياءُ فإنه يَحْذِفُها وقفاً ويُثْبِتُها وصلاً على قاعدتِه في الزوائد . والباقون بنونَيْنِ على الأصل . وأمَّا الياءُ فإنَّ نافعاً وأبا عمروٍ كحمزةَ يُثْبِتانها وصلاً ويَحْذِفانها وَقْفاً ، وابنُ كثيرٍ يُثْبِتُها في الحالَيْن ، والباقون يَحْذِفونها في الحالَيْن . ورُويَ عن نافعٍ أنه يَقْرأ بنونٍ واحدة ، فتكمَّلَتْ ثلاثُ قراءات ، كما في { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .
قال الزمخشري : « فإن قلتَ ما الفرق بين قولِك : أتُمِدُّونني بمال وأنا أَغْنى منكم ، وبين أَنْ تقولَه بالفاء؟
قلت : إذا قلتُه بالواوِ فقد جَعَلْتُ مخاطَبي عالماً بزيادتي عليه في الغِنَى ، وهو مَعَ ذلك يَمُدُّني بالمال . وإذا قُلْتُه بالفاءِ فقد جَعَلْتُه مِمَّن خَفِي عليه حالي ، وإنما أُخْبِره الساعةَ بما لا أَحْتاجُ معه إلى إمدادهِ كأني أقولُ : أُنْكِرُ عليك ما فَعَلْتَ فإني غَنِيٌّ عنه ، وعليه وَرَد قولُه : { فَمَآ آتَانِي الله } انتهى . وفي هذا الفرِق نَظَرٌ؛ إذ لا يُفهم ذلك بمجردِ الواوِ والفاءِ ، ثم إنه لم يُجِبْ عن السؤال الأول : وهو أنه لِمَ عَدَلَ عن قوله : » وأنا أغنى منكم « إلى قوله : { فَمَآ آتَانِي الله } ؟ وجوابُه : أنه أًُسْنِدَ إيتاءُ الغنى إلى اللهِ إظهاراً لنعمتِه عليه ، ولو قال : وأنا أغنى منكم ، كان في افتخارٌ من غيرِ ذِكْرٍِ لنعمةِ اللهِ عليه .
قوله : { بَلْ أَنتُمْ } إضرابُ انتقالٍ . قال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : فما وجه الإِضرابِ؟ قلت : لَمَّا أَنْكر عليهم الإِمدادَ ، وعَلَّل إنكارَه ، أَضْرَبَ عن ذلك إلى بيان السببِ الذي حَمَلَهم عليه ، وهو أنَّهم لا يَعْرِفُون سببَ رضا إلاَّ ما يهدى إليهم/ من حُظوظِ الدنيا التي لا يَعْرِفُون غيرَها . والهديَّة يجوزُ إضافتُه إلى المُهْدي . وإلى المهدى إليه وهي هنا محتملةٌ للأمرَيْن « .
قال الشيخ : » وهي هنا مضافةٌ للمهدى إليه . وهذا هو الظاهرُ . ويجوز أَنْ تكونَ مضافةً إلى المُهْدِي أي : بل أنتم بهديَّتِكم هذه التي أَهْدَيْتُموها تَفْرَحُوْنَ فَرَحَ افتخارٍ « . قلت كيف يَجْعَلُ هذا الأولَ هو الظاهرَ ، ولم يُنْقَلْ أنَّ سليمان صلَّى الله عليه وسلَّم أرسلَ إليهم هديةً في هذه الحالةِ حتى يُضيفَها إليهم؟ ، بل الذي يتعيَّن إضافتُها إلى المُهْدِي .

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

قوله : { ارجع } : الظاهرُ أنَّ الضميرَ يعودُ على الرسولِ . وتقدَّمَتْ قراءةُ عبدِ الله « ارْجِعُوا » . وقيل : يعودُ على الهُدْهُدِ .
قوله : { لاَّ قِبَلَ } : صفةٌ ل « جُنودٍ » ومعنى لا قِبَلَ : لا طاقَةَ . وحقيقتُه لا مقابلةَ . والضميرُ في « بها » عائدٌ على « جنود » لأنه جمعُ تكسيرٍ فيجري مجرى المؤنثةِ الواحدةِ كقولهِم : « الرجال وأَعْضادُها » .
وقرأ عبد الله « بهم » على الأصلِ .
وقوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } حالٌ ثانيةٌ . والظاهرُ أنها مؤكِّدةٌ؛ لأنَّ « اَذِلَّة » تُغْني عنها . إنْ قيل : قولُه : « فَلَنَأْتِيَنَّهم » و « لنُخْرِجَنَّهُمْ » قسمٌ فلا بدَّ أن يقعَ . فالجوابُ : أنه مُعَلَّقٌ على شرطٍ حُذِفَ لفَهْمِ المعنى أي : إنْ لم يأْتُوْني مُسْلِمين .

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)

قوله : { عِفْرِيتٌ } : العامَّةُ على كسرِ العينِ وسكونِ الياء بعدها تاءٌ مجبورةٌ . وقرأ أبو حيوةَ بفتح العينِ . وأبو رجاء وأبو السَّمَّال ورُوِيَتْ عن أبي بكر الصدِّيق « عِفْرِيَةٌ » بياءٍ مفتوحةٍ بعدها تاءٌ التأنيثِ المنقلبةُ هاءً وَقْفاً . وأنشدوا على ذلك قولَ ذي الرمة :
3570 كأنه كوكبٌ في إِثْر عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ في سوادِ الليلِ مُنْقَضِبُ
وقرأَتْ طائفةٌ « عِفْرٌ » بحذفِ الياء والتاء . فهذه أربعُ لغاتٍ ، وقد قُرِىء بهِنَّ . وفيه لغتان أُخْرَيان وهما عَفارِيَة ، وطيِّىء وتميمٌ يقولون : عفرى بألفِ التأنيثِ كذكرى . واشتقاقُه من العَفْرِ وهو الترابُ يقال : عافَرَه فَعَفَرَه أي صارَعَه فَصَرَعَه ، وألقاء في العَفْرِ وهو الترابُ . وقيل : من العُفْر وهو القُوَّةُ ، والعِفْريتُ من الجنِّ المارِدُ الخبيثُ . ويقال : عِفْريت نِفْريت وهو إتْباعٌ كشَيْطان لَيْطان ، وحَسَن بَسَن . ويُستعار للعارِمِ من الإِنس ، ولاشتهارِ هذه الاستعارةِ وُصِفَ في الآيةِ بكونِه من الجِنِّ تمييزاً له . وقال ابن قتيبة : « العِفْرية : المُوَثَّقُ الخَلْقِ » وعِفْرِيَةُ الدِّيكِ والحبارى : الشَّعْر الذي على رأسِهما ، وعفرنى للقويِّ ، ورجلٌ عِفِرّ بتشديدِ الراءِ للمبالغةِ مثل : شَرٌّ شِمِرٌّ .

قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

قوله : { أَنَاْ آتِيكَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ فعلاً مضارعاً ، فوزنُه أفْعِلُ نحو : أَضْرِبُ ، والأصل أَأْتِيْك بهمزتين ، فَأُبْدلت الثانيةُ ألفاً ، وأن يكونَ اسمَ فاعِلٍ ، وزنُه فاعِل والألفُ زائدةٌ ، والهمزةُ أصليةٌ عكسُ الأول . وأمالَ حمزةُ « آتِيْكَ » في الموضعين من هذه السورةِ بخلافٍ عن خَلاَّد .
قوله : { طَرْفُكَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه الجَفْنُ . عَبَّر به عن سُرْعةِ الأمرِ . وقال الزمخشري : « هو تحريكُ أجفانِك إذا نظرْتَ فوُضِعَ مَوْضِعَ النظرِ » . والثاني : أنه بمعنى المَطْروفِ أي : الشيء الذي تَنْظُره . والأولُ هو الظاهرُ؛ لأنَّ الطَّرْفَ قد وُصِفَ بالإِرسال في قولِه :
3571 وكنتَ متى أرسَلْتَ طرفَك رائداً ... لقلبِك يوماً أَتْعَبَتْكَ المناظِرُ
رأيتُ الذي لا كلُّه أنت قادِرٌ ... عليه ولا عَنْ بَعْضِه أنتَ صابرُ
قوله : { مُسْتَقِرّاً } حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بَصَريةٌ . و « عنده » معمولٌ له . لا يُقال : إذا وقع الظرفُ حالاً وَجَبَ حَذْفُ متعلَّقِه فكيف ذُكِرَ هنا؟ لأنَّ الاستقرارَ هنا ليس هو ذلك الحصولَ المطلقَ بل المرادُ به هنا الثابتُ الذي لا/ يَتَقَلْقَلُ ، قاله أبو البقاء . وقد جَعَلَه ابنُ عطيةَ هو العاملَ في الظرفِ الذي كان يجبُ حَذْفُه فقال : « وظهرَ العاملُ في الظرفِ مِنْ قولِه » مُسْتَقرًّا « وهذا هو المقدَّرُ أبداً مع كلِّ ظرفٍ جاء هنا مُظْهَراً ، وليس في كتابِ اللهِ مثلُه » . وما قاله أبو البقاءِ أحسنُ . على أنَّه قد ظهرَ العاملُ المُطْلَقُ في قولِه :
3572 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأنتَ لدى بُحْبُوْحَةِ الهَوْنِ كائنُ
وقد تقدَّم ذلك مُحقَّقاً في أولِ الفاتحة ، فعليكَ بالالتفاتِ إليه .
قوله : { أَأَشْكُرُ } مُعَلِّقُ « لِيَبْلُوَني » و « أم » متصلةٌ ، وكذلك قولُه { نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 41 ] .
قوله : { وَمَن شَكَرَ } { وَمَن كَفَرَ } يُحْتمل أَنْ تكونَ « مَنْ » شرطيةً أو موصولةً مُضَمَّنَةً معنى الشرطِ ، فلذلك دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر . والظاهرُ : أنَّ جوابَ الشرطِ الثاني أو خبرَ الموصولِ قولُه : { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ ضميرٍ يعودُ على « مَنْ » تقديرُه : غنيٌّ عن شكرِه . وقيل : الجوابُ محذوفٌ تقديرهُ : فإنَّما كفرُه عليه؛ لدلالةِ مقابلِهِ وهو قولُه : { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } عليه .

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)

قوله : { نَنظُرْ } : العامَّةُ على جزمِه جواباً للأمرِ قبله . وأبو حيوةَ بالرفعِ جَعَلَه استئنافاً .

فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

قوله : { أَهَكَذَا } : فَصَلَ بحرفِ الجرِّ بينَ حرفِ التنبيهِ واسمِ الإِشارةِ . والأصلُ : أكهذا أي : أَمِثْلُ هذا عرشُكِ؟ ولا يجوزُ ذلك في غير الكافِ ، لو قلت : أبهذا مَرَرْتَ ، وأَلِهذا فعلتَ ، لم يَجُزْ أن يُفْصَلَ بحرفِ الجرِّ بين « ها » و « ذا » فتقول : أها بِذا مَرَرْتَ ، وأها لِذا فَعَلْتَ .
قوله : { وَأُوتِينَا العلم } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مِنْ كلامِ بلقيسَ . والضميرُ في « قَبْلِها » راجعٌ للمعجزةِ والحالةِ الدالِّ عليهما السياقُ . والمعنى : وأُوتيِنا العلمَ بنبوةِ سليمانَ من قبلِ ظهورِ هذه المعجزةِ ، أو من هذه الحالةِ؛ وذلك لِما رأَتْ قبلَ ذلك من أمرِ الهُدْهُدِ ورَدِّ الهديةِ . والثاني : أنه من كلامِ سليمانَ وأتباعِه ، فالضميرُ في « قَبْلِها » عائدٌ على بلقيسَ .

وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)

قوله : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ } : في فاعلِ « صَدَّ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرُ الباري . والثاني : ضميرُ سليمان . وعلى هذا ف { مَا كَانَت تَّعْبُدُ } منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ أي : وصدَّها اللهُ ، أو سليمانُ ، عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دونِ الله ، قاله الزمخشري مُجَوِّزاً له . وفيه نظرٌ : من حيث إنَّ حَذْفَ الجارِّ ضرورةٌ كقوله :
3573 تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوْجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كذا قاله الشيخ . وقد تقدَّم لك آياتٌ كثيرةٌ من هذا النوعِ فلهذه بِهِنَّ أُسْوَةٌ . والثالث : أنَّ الفاعلَ هو « ما كَانَتْ » أي : صَدَّها ما كانَتْ تعبدُ عن الإِسلامِ وهذا واضِحٌ . والظاهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه « وصَدَّها » معطوفةٌ على قولِه : « وأُوْتِيْنا » . وقيل : هي حالٌ مِنْ قوله : « أم تكونَ من الذينَ » و « قد » مضمرةٌ وهذا بعيدٌ جداً . وقيل : هو مستأنَفٌ إخبارٍ من اللهِ تعالى بذلك .
قوله : « إنَّها » العامَّةُ على كسرِها استئنافاً وتعليلاً . وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوةَ بالفتح ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها بدلٌ مِنْ « ما كانَتْ تعبدُ » ، أي : وصَدَّها أنها كانَتْ . والثاني : أنها على إسقاطِ حَرْفِ العلةِ أي : لأنَّها ، فهي قريبةٌ من قراءةِ العامة .

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

قوله : { الصرح } : قد تقدم الخلافُ في الظرف الواقع بعد « دخل » : هل هو منصوبٌ على الظرفِ؟ وشَذَّ ذلك مع « دخل » خاصةً كما قاله سيبويه ، أو مفعول به كهَدَمْتُ البيتَ كما قاله الأخفش . والصَّرْحُ : القَصْرُ أو صَحْنُ الدارِ أو بَلاطٌ متخَذٌ مِنْ زُجاج . وأصلُه من التصرِيح ، وهو الكشفُ . وكَذِبٌ صُراحٌ أي : ظاهرٌ مكشوفٌ وَلُؤْمٌ صُراحٌ . والصَّريحُ : مقابِلُ الكنايةِ لظهورِه واستتارِ ضدِّه . وقيل : الصريحُ : الخالِصُ ، مِنْ قولِهم : لَبَنٌ صَريحٌ بَيِّنُ الصَّراحَةِ والصُّرُوْحَةِ .
وقال الراغب : « الصَّرْحُ : بيتٌ عالٍ مُزَوَّقٌ ، سمِّي بذلك اعتباراً بكونِه صَرْحاً عن/ الشَّوْبِ أي : خالصاً » .
قوله : { سَاقَيْهَا } العامَّةُ على ألفٍ صريحةٍ . وقنبل روى همزَها عن ابنِ كثير . وضَعَّفَها أبو عليّ . وكذلك فعل قنبل في جمع « ساق » في ص ، وفي الفتح هَمَزَ واوَه . فقرأ « بالسُّؤْقِ والأَعْناق » « فاستوى على سُؤْقِه » بهمزةٍ مكانَ الواوِ . وعنه وجهٌ آخرٌ : « السُّؤُوْق » و « سُؤُوْقة » بزيادة واوٍ بعد الهمزةِ .
ورُوِي عنه أنه كان يَهْمِزُه مفرداً في قوله : { يُكْشَفُ عَن سَأْقٍ } [ القلم : 42 ] .
فأمَّا هَمْزُ الواوِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلَها يَقْلِبُها بعضُ العربِ همزةَ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أولِ البقرةِ عند « يُوْقنون » وأنشَدْتُ عليه :
3574 أَحَبُّ المُؤْقِدِين إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان أبو حَيَّةَ النميري يَهْمِزُ كلَّ واوٍ في القرآن ، هذا وَصْفُها . الثاني : أنَّ ساقاً على فَعَلَ كأَسَدٍ ، فجُمِعَ على فُعُل بضمِّ العين كأُسُدٍ . والواوُ المضمومةُ تُقْلب همزةً نحو : وُجوه ، ووُقِّتَتْ ، ثم بعد الهمزِ سَكَنَتْ .
الثالث : أنَّ المفردَ سُمِعَ هَمْزُه ، كما سيأتي تقريرُه ، فجاء جَمْعُه عليه .
وأمَّا « سُؤُوْق » بالواوِ بعد الهمزةِ فإنَّ ساقاً جُمِع على « سُوُوق » بواوِ ، فهُمِزَتْ الأولى لانضمامِها . وهذه الروايةُ غريبةٌ عن قنبلٍ ، وقد قَرَأْنا بها ولله الحمدُ .
وأمَّا « سَأْقَيْها » فوجهُ الهمزِ أحدُ أوجهٍ : إمَّا لغةُ مَنْ يَقْلِبُ الألفَ همزةَ ، وعليه لغةُ العَجَّاج في العَأْلَمِ والخَأْتَمِ . وأنشد :
3575 وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ ... وسيأتي تقريرُه أيضاً في « مِنْسَأَته » في سبأ إنْ شاء اللهُ تعالى ، وتقدَّم طَرَفٌ منه في الفاتحة ، وإمَّا على التشبيهِ برِأْس وكَأْس ، كما قالوا : « حَلأْت السَّويق » حَمْلاً على حَلأُتُه عن الماء أي طَرَدْتُه ، وإمَّا حَمْلاً للمفرد والمثنى على جَمْعِهما . وقد تَقَرَّر في جمعِهما الهمزُ .
قوله : { مُّمَرَّدٌ } أي مُمَلَّسٌ . ومنه الأَمْرَدُ لِمَلاسَةِ وجهه من الشَّعر . وبَرِّيَّة مَرْدَاء : لخُلُوِّها من النباتِ ، ورَمْلَةٌ مَرْداء : لا تُنْبِتُ شيئاً . والمارِدُ من الشياطين : مَنْ تعرى من الخيرِ وتَجَرَّد منه . ومارِدٌ : حِصْنٌ معروفٌ . وفي أمثال الزَّبَّاء : « تَمَرَّد مارِدٌ وعَزَّ الأَبْلَقُ » قالَتْها في حِصْنَيْنِ امتنع فَتْحُهما عليها .
والقوارِيْرُ : جمعُ قارُوْرة ، وهي الزُّجاج الشفافُ . و « مِنْ قواريرَ » صفةٌ ثانية ل « صَرْحٌ » .
قوله : { مَعَ سُلَيْمَانَ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، ولا يتعلَّقُ ب « أَسْلَمْتُ »؛ لأنَّ إسلامَه سابقٌ إسلامَها بزمانٍ . وهو وجهٌ لطيفٌ . وقال ابن عطية : « ومع ظرفٌ بُنِيَ على الفتحِ . وأمَّا إذا أُسْكِنَتِ العينُ فلا خِلافَ أنه حرفٌ » قلتُ : قد تقدَّم القولُ في ذلك . وقد قال مكي هنا نحواً مِنْ قولِ ابنِ عطيةَ .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)

قوله : { أَنِ اعبدوا } : يجوز في « أَنْ » أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً ، وأَنْ تكونَ مصدريةً أي : بأَنْ اعْبُدوا ، فيجيء في محلِّها القولان .
قوله : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ } تقدَّم الكلامُ في « إذا » الفجائيةِ . والمرادُ بالفريقين : قومُ صالحٍ ، وأنهم انقسموا فريقين : مؤمن وكافر . وقد صَرَّح بذلك في الأعراف حيث قال تعالى : { الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . وجَعَلَ الزمخشري الفريقَ الواحدَ صالحاً وحدَه ، والأخر جميعَ قومِه . وحَمَلَه على ذلك العطفُ بالفاءِ؛ فإنَّه يُؤْذِنُ أنه بمجرَّدِ إرسالهِ صاروا فريقَيْنِ ، ولا يصيرُ قومُه فريقين إلاَّ بعد زمانٍ ولو قليلاً . و « يَخْتَصمون » صفةٌ ل « فريقان » كقولِه : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } . واختير هنا مراعاةُ الجَمْعِ لكونِها فاصلةً .

قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

وقُرِىءَ « تَطَيَّرْنا بك » وهو الأصلُ وأُدْغِمَ . وقد تقدَّم تقريرُه .
قوله : { تُفْتَنُونَ } جاء بالخطاب مراعاةٌ لتقدُّمِ الضميرِ . ولو رُوْعِيَ ما بعدَه لقيل : « يُفْتَنُون » بياءٍ الغَيْبة ، وهو جائزٌ ، ولكنه مرجوحٌ . وتقول : أنت رجلٌ تَفْعل ، ويَفْعل ، بالتاء والياء ، ونحن قومٌ نقرأ ويَقْرؤون .

وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)

قوله : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } : الأكثرُ أَنَّ تمييزَ العددِ بهذا مجرورٌ ب « مِنْ » كقولِه : { أَرْبَعَةً مِّنَ الطير } [ البقرة : 260 ] . وفي المسألةِ مذاهبُ ، أحدُها : أنه لا يجوزُ إلاَّ في قليلٍ . الثاني : أنه يجوزُ ، ولكن لا ينقاس . الثالث : التفصيل بين أن/ يكونَ للقلة كرَهْطٍ ونَفَرٍ فيجوزَ أو للكثرةِ فقط ، أو لها وللقلةِ فلا يجوز ، نحو : تسعةُ قوم . ونَصَّ سيبويه على امتناعِ « ثلاث غنم » . قال الزمخشري : « وإنما جاز تمييزُ التسعةِ بالرَّهْطِ لأنه في معنى الجمعِ كأنه قيل : تسعةُ أنفسٍ » قال الشيخ : « وتقديرُ غيرِه » تسعة رجالٍ « هو الأولى لأنه من حيث أضافَ إلى أَنْفُس كان ينبغي أَنْ يقولَ » تِسْع أنفس « ، على تأنيث النفس؛ إذ الفصيحُ فيها التأنيثُ . ألا تراهُمْ عَدُّوا من الشذوذِ قولَ الشاعر :
3576 ثلاثةُ أَنْفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت : وإنما أراد تفسيرَ المعنى .
قوله : { يُفْسِدُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للمعدودِ أو العددِ ، فيكونَ في موضع جرٍّ أو رفعٍ .
قوله : { وَلاَ يُصْلِحُونَ } قيل : مؤكِّدٌ للأولِ . وقيل : ليس مؤكِّداً؛ لأنَّ بعض المفسدين قد يُصْلِحُ في وقتٍ ما ، فأخْبَرَ عن هؤلاءِ بانتفاءِ تَوَهُّمِ ذلك .

قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)

قوله : { تَقَاسَمُواْ } : يجوز في « تقاسموا » أَنْ يكونَ أمراً أي : قال بعضُهم لبعضٍ : احْلِفُوا على كذا . ويجوز أن يكونَ فعلاً ماضياً ، وحينئذٍ يجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً ل « قالوا » ، كأنه قيل : ما قالوا؟ فقيل : تقاسَمُوا . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار « قد » أي : قالوا ذلك متقاسِمِيْن ، وإليه ذهب الزمخشري ، فإنه قال : « يُحْتمل أَنْ يكونَ أمراً وخبراً في محلِّ الحالِ بإضمار قد » . قال الشيخ : « أمَّا قولهُ : » وخبراً « فلا يَصِحُّ لأنَّ الخبرَ أحدُ قسمَيْ الكلام؛ لأنه ينقسم إلى الخبرِ والإِنشاء ، وجميعُ معانيه إذا حُقِّقَتْ راجعةٌ إلى هذين القسمين » . قلت : ولا أدري : عدمُ الصحة مِنْ ماذا؟ لأنه جَعَلَ الماضي خبراً لاحتمالِه الصدقَ والكذبَ مقابلاً للأمرِ الذي لا يَحْتَملهما . أمَّا كونُ الكلامِ لا ينقسِمُ إلاَّ إلى خبر وإنشاء ، وأنَّ معانِيَه إذا حُقِّقَتْ تَرْجِعُ إليهما ، فأيُّ مَدْخلٍ لهذا في الردِّ على أبي القاسم؟
ثم قال الشيخ : والتقييدُ بالحالِ ليس إلاَّ من باب نسبةٍ التقييدِ لا من نسبةِ الكلامِ التي هي الإِسنادُ ، فإذا أُطْلِقَ عليها الخبرُ كان ذلك على تقديرِ : أنَّها لو لم تكنْ حالاً لجازَ أَنْ تُستعملَ خبراً . وكذلك قولُهم في الجملةِ الواقعةِ صلةٌ : هي خبريةٌ فهو مجازٌ والمعنى : أنها لو لم تكن صلةً لجاز أَنْ تُستَعْمَلَ خبراً وهذا فيه غموضٌ « . قلت : مُسَلَّمٌ أنَّ الجملةَ ما دامَتْ حالاً أو صلةً لا يُقال لها : خبرية ، يعني أنها تَسْتَقِلُّ بإفادةِ الإِسنادِ؛ لأنها سِيْقَتْ مَسَاقَ القَيْدِ في الحالِ ومَسَاقَ جزءِ كلمةٍ في الصلةِ ، وكان ينبغي أن تُذْكَرَ أيضاً الجملةُ الواقعةُ صفةً فإن الحكمَ فيها كذلك .
ثم قال : » وأمَّا إضمارُ « قد » فلا يُحتاج إليه لكثرةِ وقوع الماضي حالاً دون « قد » ، كثرةً ينبغي القياسُ عليها « قلت : الزمخشريُّ مشى مع الجمهورِ؛ فإنَّ مذهَبهم أنه لا بُدَّ من » قد « ظاهرةً أو مضمرةً لِتُقَرِّبَه من الحال .
وقرأ ابنُ أبي ليلى » تَقَسَّموا « دونَ ألفٍ مع تشديد السين . والتقاسُمُ والتَّقَسُّم كالتظاهُر والتظَهُّر .
قوله : { بالله } إن جَعَلْتَ » تقاسَمُوا « أمراً تَعَلَّق به الجارُّ قولاً واحداً ، وإنْ جَعَلْتَه ماضياً احْتَمَلَ أَنْ يَتَعلَّقَ به ، ولا يكونُ داخلاً تحت المَقُولِ ، والمقولُ هو » لَنُبَيِّتَنَّه « إلى آخره . واحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ هو فعلُ القسمِ ، وجوابه » لَنُبَيِّتَنَّه « فعلى هذا يكونُ مع ما بعده داخلاً تحتَ المَقُوْلِ .
قوله : { لَنُبَيِّتَنَّهُ } قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ . » ثم لَنَقولَنَّ « قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ . والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ .

ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن ، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين . وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني .
فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن : فإنْ جَعَلْنا « تقاسَمُوا » فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه . وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك . وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ : فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً ، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم . وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ « تَقاسَمُوا » ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ . وإنْ جَعَلْناه أمراً كان « لَنُبيِّتَنَّه » جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل : كيف تقاسَمُوا؟ فقيل : لنبيِّتَنه . وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين .
قال الزمخشري : « وقُرِىءَ » لَنُبيِّتَنَّه « بالياء والتاء والنون . فتقاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان » يعني يَصِحُّ في « تقاسَمُوا » أن يكونَ أمراً ، وأَنْ يكونَ خبراً قال : « ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً » . قلت : وليس كذلك لِما تقدَّم : مِنْ أنَّه يكونُ أمراً ، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ . وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال : « تقاسَمُوا » فيه وجهان ، أحدهما : هو أمرٌ أي : أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً . فعلى هذا يجوزُ في « لَنُبَيِّتَنَّه » النونُ تقديرُه : قولوا : لَنُبَيِّتَنَّهُ ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ . ولا يجوزُ الياء . والثاني : هو فعل ماضٍ . وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ يعني بالأوجه : النونَ والتاءَ والياءَ . قال : « وهو على هذا تفسيرٌ » أي : تقاسَمُوا على كونِه ماضياً : مُفَسِّرٌ لنفسِ « قالوا » . وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ . وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة . وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم ، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى . وتقدَّم الكلامُ في { مَهْلِكَ أَهْلِهِ } في النمل .

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)

قوله : { أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ } : قرأ الكوفيون بالفتح . والباقون بالكسر . فالفتح من أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ أي : لأَنَّا دَمَّرْناهم . و « كان » تامةٌ و « عاقبةٌ » فاعلٌ بها ، و « كيفِ » حالٌ . الثاني : أَنْ يكونَ بدلاً من « عاقبة » أي : كيف كان تدميرُنا إيَّاهم بمعنى : كيف حَدَثَ . الثالث : أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هي أنَّا دَمَّرْناهم أي : العاقبةُ تدميرُنا إياهم . ويجوزُ مع هذه الأوجهِ الثلاثةِ أَنْ تكونَ « كان » ناقصةً ، وتُجْعَلَ « كيف » خبرَها ، فتصيرَ الأوجهُ ستةً : ثلاثةً مع تمام « كان » وثلاثةً مع نُقْصانها . ويُزاد مع الناقصة وجهٌ أخر : وهو أَنْ تُجْعَلَ « عاقبة » اسمَها و « أنَّا دَمْرناهم » خبرَها و « كيف » حالٌ . فهذه سبعةُ أوجهٍ .
والثامن : أَنْ تكونَ « كان » « زائدةً ، و » عاقبة « مبتدأٌ ، وخبرُه » كيف « و » أنَّا دَمَّرْناهم « بدلٌ مِنْ » عاقبة « أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وفيه تَعَسُّفٌ . التاسع : أنها على حَذْفِ الجارِّ أيضاً ، إلاَّ أنه الباءُ أي : بأنَّا دمَّرْناهم ، ذكره أبو البقاء . وليس بالقويِّ . العاشر : أنها بدل مِنْ » كيف « وهذا وَهْمٌ من قائِله لأنَّ المبدل من اسمِ الاستفهام يَلْزَمُ معه إعادةُ حرفِ الاستفهامِ نحو : » كم مالكُ أعشرون أم ثلاثون «؟ وقال مكي : » ويجوز في الكلام نصبُ « عاقبة » ، ويُجْعَلُ « أنَّا دمَّرْناهم » اسمَ كان « انتهى . بل كان هذا هو الأرجحَ ، كما كان النصبُ في قولِه » فما كان جوابَ قومه إلاَّ أَنْ قالوا « ونحوِه أرجحَ لِما تقدَّم مِنْ شَبَهِهِ بالمضمرِ لتأويلِه بالمصدرِ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا .
وقرأ أُبَيٌّ » أَنْ دَمَّرْناهم « وهي أَنْ المصدريةُ التي يجوزُ أَنْ تَنْصِبَ المضارعَ ، والكلامُ فيها كالكلامِ على » أنَّا دَمَّرْناهم « . وأمَّا قراءةُ الباقين فعلى الاستئنافِ ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ . و » كان « يجوز فيها التمامُ والنقصانُ والزيادةُ . وكيف وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على إسقاطِ الخافض ، لأنه مُعَلِّق للنظرِ .
و » أَجْمعين « تأكيدٌ للمعطوفِ والمعطوفِ معاً .

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)

قوله : { خَاوِيَةً } : العامَّةُ على نصبِها حالاً . والعاملُ فيها معنى اسمِ الإِشارة . وقرأ عيسى « خاويةٌ » بالرفع : إمَّا على خبر « تلك » « بيوتُهم » بدلٌ مِنْ « تلك » ، وإمَّا خبرٌ ثانٍ و « بيوتُهم » خبرٌ أولُ ، وإمَّا على خبرِ مبتدأ محذوف أي : هي خاويةٌ ، وهذا إضمارٌ مستغنى عنه . و { بِمَا ظلموا } متعلقٌ ب « خاوية » / أي : بسببِ ظُلْمهم .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)

قوله : { وَلُوطاً } : إمَّا منصوبٌ عطفاً على « صالحاً » أي : وَأَرْسَلْنا لُوْطاً ، وإمَّا عطفاً على الذين آمنوا أي : وأَنْجَيْنا لوطاً ، وإمَّا ب « اذْكُرْ » مضمرةً .
قوله : { إِذْ قَالَ } : بدلٌ اشتمالٍ مِنْ « لوطاً » . وتقدَّم نظيرُه في مريم وغيرِها .

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

قوله : { شَهْوَةً } : مفعولٌ مِنْ أَجْله ، أو في موضعِ الحالِ ، وقد تقدَّم .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)

قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } : خبرٌ مقدَّمٌ ، و « إلاَّ أْن قالوا » في موضعِ الاسمِ . وقرأ الحسنُ وابنُ أبي إسحاق برفعِه اسماً ، و « إلاَّ أنْ قالوا » خبراً . وهو ضعيفٌ لِما عَرَفْتَ غيرَ مرةٍ . وتقدَّم قرآناً « قَدَّرْنا » تشديداً وتخفيفاً .

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ . أي : فساءَ مَطَرُ المنذَرينَ مَطَرُهم .

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

قوله : { قُلِ الحمد لِلَّهِ } : العامَّةُ على كسرِ لام « قُلِ » لالتقاءِ الساكنين . وأبو السَّمَّال بفتحِها تخفيفاً ، وكذا في قولِه : { وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } [ النمل : 93 ] . و « سلامٌ » مبتدأٌ سَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً .
قوله : « أَمْ ما » « أم » هذه متصلةٌ عاطفةٌ لاستكمالِ شروطِها . والتقديرُ : أيُّهما خيرٌ؟ و « خيرٌ » : إمَّا تفضيلٌ على رغمِ الكفارِ وإلزامِ الخَصْمِ ، أو صفةٌ لا تفضيلَ فيها . و « ما » في « أَمْ ما » بمعنى الذي . وقيل : مصدرٌ . وذلك على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ أي : أتوحيدُ اللهِ خيرٌ أم شِرْكُهم .
وقرأ أبوعمرٍو وعاصم « أَمْ ما يُشْرِكون » بالغَيْبَةِ حَمْلاً على ما قبلَه من قوله . . . .

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

قوله : { أَمْ مَنْ خَلَقَ } : أَمْ هذه منقطعةٌ؛ لعدمِ تقدُّمِ همزةِ استفهامٍ ولا تَسْويةٍ . « ومَنْ خَلَقَ » مبتدأٌ . وخبرُه محذوفٌ ، فَقَدَّره الزمخشري : « خيرٌ أَمْ ما تُشْرِكُون » فَقَدَّرَ ما أَثْبَته في الاستفهامِ الأولِ ، وهو حَسَنٌ ، وقدَّره ابنُ عطيةً : « يُكْفَرُ بنعمتِه ويُشْرك به ، ونحوَ هذا من المعنى » . وقال أبو الفضل الرازي : « لا بُدَّ من إضمارِ جملةٍ معادِلةَ ، وصار ذلك المضمرُ كالمنطوق [ به ] لدلالةِ الفحوى عليه . وتقديرُ تلك الجملة : أَمَنْ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ كمَنْ لم يَخْلُقْ ، وكذلك أخواتُها . وقد أظهرَ في غيرِ هذا الموضعِ ما أَضْمَرَ فيها ، كقولِه تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] . قال الشيخ : » وتَسْمِيَةُ هذا المقدَّرِ جملةً : إنْ أراد بها جملةً من الألفاظِ فصحيحٌ ، وإنْ أراد الجملةَ المصطلحَ عليها في النحوِ فليس بصحيحٍ ، بل هو مضمرٌ من قبيلِ المفردِ « .
وقرأ الأعمش : » أمَنْ « بتخفيفِ الميمِ جَعَلَها » مَنْ « الموصولةَ ، داخلةً عليها همزةُ الاستفهام . وفيه وجهان ، أحدهما : أن تكونَ مبتدأَةً ، والخبرُ محذوفٌ . وتقديرُه ما تقدَّم من الأوجهِ . ولم يذكُرْ الشيخُ غيرَ هذا . والثاني : أنها بدلٌ من » الله « كأنه قيل : أمَنْ خلَقَ السماواتِ والأرضَ خيرٌ أَمْ ما تُشْركون . ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيره . ويكون قد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بالخبرِ وبالمعطوف على المبدل منه . وهو نظيرُ قولك : » أزيدٌ خيرٌ أم عمروٌ أأخوك « على أن يكونَ » أَأخوك « بدلاً من » أزيد « ، وفي جوازِ مثلِ هذا نظرٌ .
قوله : { فَأَنبَتْنَا } هذا التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلمِ لتأكيدِ معنى اختصاصِ الفعلِ بذاتِه ، والإِنذارِ بأنَّ إنباتَ الحدائقِ المختلفةِ الألوانِ والطُّعوم مع سَقْيها بماءٍ واحدٍ لا يَقْدِرُ عليه إلاَّ هو وحدَه؛ ولذلك رشَّحه بقولِه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } .
والحَدائِقُ : جمعُ حديقة ، وهي البستان . وقيل : القطعةُ من الأرضِ ذاتِ الماء . قال الراغب : » سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدَقَةِ العين في الهيئة وحُصولِ الماءِ فيه « وقال غيرُه : سُمِّيَتْ بذلك لإِحداقِ الجُدْران بها . وليس بشيءٍ لأنها يُطْلَقُ عليها ذلك مع عَدَمِ الجُدْران .
ووقف القراء على » ذات « مِنْ » ذاتَ بَهْجَة « بتاءٍ مجبورة . والكسائي بهاءٍ لأنها تاءُ تأنيثٍ .
قوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ } » أن تُنْبِتُوا « اسمُ/ كان ، و » لكم « خبرٌ مقدمٌ » . والجملةُ المنفيةُ يجوزُ أَنْ تكون صفةً ل « حدائق » ، وأن تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفةِ . وقرأ ابنُ أبي عبلة « ذواتَ بَهَجة » بالجمعِ وفتحِ هاءِ « بَهَجة » .

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

قوله : { خِلاَلَهَآ } : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لجَعَلَ بمعنى خَلَقَ المتعديةِ لواحدٍ ، وأَنْ يكونَ في مَحَلِّ المفعولِ الثاني على أنها بمعنى صَيَّر .
قوله : { بَيْنَ البحرين } : يجوزُ فيه ما جازَ في « خلالَها » . والحاجزُ : الفاصِلُ . حَجَزَ بينَهم يَحْجِزُ أي : مَنَعَ وفَصَل .
وقُرِىءَ « أَإِلَهٌ » بتحقيق الهمزتين . وتخفيفِ الثانيةِ وإدخالِ ألفِ بينهما تخفيفاً وتَسْهيلاً . وهذا كلُّه معروفٌ مِنْ أولِ هذا الموضوعِ . وقُرِىء « أإلهاً » بالنصبِ على إضمارِ : أَتَدْعُوْنَ أو أَتُشْرِكون إلهاً .

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

والمُضْطَرُّ : اسمُ مفعولٍ . مأخوذٌ مِنْ اضْطُرَّ ، ولا يُسْتعمل إلاَّ مبنياً للمفعول . وإنما كُرِّر الجَعْلُ هنا ، ولم يُشْرَكْ بين المعمولاتِ في عاملٍ واحد ، لأنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ هذه منه مستقلةٌ فَأَمْرَرَها في جملةٍ مستقلةٍ بنفسِها .

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

قوله : { بُشْرَاً } : قد تقدَّم في الأعراف .

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)

قوله : { إِلاَّ الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاعلُ « يَعْلَمُ » و « مَنْ » مفعولُه . و « الغيبَ » بدلٌ مِنْ « مَنْ السماواتِ » أي : لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي : الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ . وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ . الثاني : أنه مستثنى متصلٌ مِنْ « مَنْ » ، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى : أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ ، فيَنْدَرِجُ في { مَن فِي السماوات والأرض } بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ « مَنْ » وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ .
وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا : بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال : « فإنْ قلتَ : لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ ، واللهُ يتعالى أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت : جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون : » ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ « يريدون : ما فيها إلاَّ حمارٌ ، كأنَّ » أحداً « لم يُذْكَرْ . ومنه قولُه :
3577 عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها ... ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولُهم : » ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه « . فإنت قلت : ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت : دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه :
3578 إلاَّ اليَعافِيرُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بعد قوله :
3579 . . . . . . . . . . . . . . . . . . لَيْسَ بها أنيسُ ... ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك : إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ . يعني : أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم . كما أنَّ معنى ما في البيت : إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ . فإن قلت : هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ ، كما يقول المتكلمون : » إنَّ الله في كلِّ مكان « على معنى : أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها ، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ » قلتُ : يأبى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ . على أنَّ قولَك « مَنْ في السماوات والأرض : وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه . ألا ترى كيف » قال عليه السلام لِمَنْ قال : « ومَنْ يَعْصِهما فقد غوى » « بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت » « قلت : فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر . وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة . وقد قال به الشافعيُّ » .
قوله : { أَيَّانَ } هي هنا ، بمعنى « متى » / وهي منصوبةٌ ب « يُبْعَثون » فتعلُّقُه ب « يَشْعُرون » فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي : ما يَشْعرون بكذا . وقرأ السُّلميٌّ « إيَّان » بكسرِ الهمزةِ ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم .

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)

قوله : { ادارك } : قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو ونافع « أَدْرَكَ » كأَكْرم . والباقون من السبعةِ « ادَّارك » بهمزةِ وَصْلٍ ، وتشديدِ الدالِ المفتوحةِ ، بعدها ألفٌ . والأصلُ : تَدارك وبه قرأ اُبَيٌّ ، فأُريد إدغامُ التاءِ في الدالِ فأُبْدِلَتْ دالاً ، وسُكِّنَتْ فتعذَّر الابتداءُ بها لسكونهِا ، فاجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار ادَّارك كما ترى ، وتحقيقُ هذه قد تقدَّم في رأسِ الحزبِ من البقرة : { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] . وقراءةُ ابنِ كثير قيل : تَحْتمل أن يكونَ أَفْعَلُ فيها بمعنى تَفاعَلَ فتَتََّحِدَ القراءتان . وقيل : أَدْرَكَ بمعنى بَلَغَ وانتهى . وقرأ سليمان وعطاء ابنا يَسار « بلَ ادَّرَكَ » بفتحِ لامِ « بل » وتشديد الدالِ دونَ ألفٍ بعدَها . وتخريجُها : أنَّ الأصلَ ادَّرك على وزن افْتَعَل فأُبْدِلَتْ تاءُ الافتعالِ دالاً لوقوعِها بعد الدال . قال الشيخ : « فصار فيه قَلْبُ الثاني للأولِ كقولِهم : اثَّرَدَ ، وأصلُه اثْتَرَدَ من الثَّرْدِ » . انتهى . قلت : ليس هذا مما قُلِب فيه الثاني للأولِ لأجلِ الإِدغام ك اثَّرَدَ في اثْتَرَدَ؛ لأنَّ تاءَ الافتعال تُبدَلُ دالاً بعد أحرفٍ منها الدالُ نحو : ادَّان في افْتَعَل من الدَّيْن فالإِبدالُ لأجلِ كونِ الدالِ فاءً لا للإِدغام ، فليس مثلَ اثَّرَدَ في شيءٍ فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ . فلمَّا أُدْغِمَت الدالُ في الدال أُدْخِلَتْ همزةُ الاستفهامِ فسقَطَتْ همزةُ الوصلِ فصار اللفظُ « أَدْرَكَ » بهمزةِ قطعٍ مفتوحةٍ ، ثم نُقِلَتْ حركةُ هذه الهمزةِ إلى لامِ « بل » فصار اللفظ : « بَلَ دَّرَكَ » .
وقرأ أبو رجاءٍ وشيبةٌ والأعمشُ والأعرجُ وابنُ عباس ، وتروى عن عاصم كذلك ، إلاَّ أنَّه بكسرِ لام « بل » على أصلِ التقاءِ الساكنين ، فإنهم لم يَأْتوا بهمزةِ استفهامٍ .
وقرأ عبد الله وابن عباس والحسن وابن محيصن « أادْرَكَ » بهمزةٍ ثم ألفٍ بعدَها . وأصلُها همزتان أُبْدِلَتْ ثانيتُهما ألفاً تخفيفاً . وأنكرها أبو عمرٍو . قلت : وقد تقدَّم أولَ البقرةِ أنه قُرىءُ « أَانْذَرْتَهم » بألفٍ صريحةٍ فلهذه بها أسوةٌ . وقال أبو حاتم : « لا يجوزُ الاستفهامُ بعد » بل « لأنَّ » بل « إيجاب ، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ بمعنى : لم يكن ، كقولِه تعالى { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] أي : لَم يَشْهدوا ، فلا يَصِحُّ وقوعُهما معاً للتنافي الذي بين الإِيجاب والإِنكارِ » . قلت : وفي منع هذا نظرٌ؛ لأنَّ « بل » لإِضرابِ الانتقالِ ، فقد أضربَ عن الكلامِ الأولِ ، وأَخَذَ في استفهامِ ثانٍ . وكيف يُنْكَرُ هذا والنَّحْويون يُقَدِّرون « أم » المنقطعةَ ب بل والهمزة؟ وعجِبْتُ من الشيخِ كيف قال هنا : « وقد أجاز بعضُ المتأخرين الاستفهامَ بعد » بل « وشبهه؟ يقول القائل : » أخبزاً أكلْتَ ، بل أماءً شرِبْتَ « على تَرْكِ الكلامِ الأولِ والأَخْذِ في الثاني » .

انتهى فتخصيصُه ببعضِ المتأخرين يُؤْذِنُ أن المتقدِّمينَ وبعضَ المتأخرين يمنعونه ، وليس كذلك لِما حَكَيْتُ عنهم في « أم » المنقطعةِ .
وقرأ ابنُ مسعودٍ « بل أَأَدْرَكَ » بتحقيقِ الهمزتين . وقرأ ورش في رواية « بلَ ادْرَكَ » بالنقل . وقرأ ابنُ عباس أيضاً « بلى ادْرَك » بحرف الإِيجاب أختِ نَعَم . و « بَلى آأَدْرك » بألفٍ بين الهمزتين . وقرأ أُبَيٌّ ومجاهد « أم » بدلَ « بل » وهي مخالفةٌ للسَّواد .
قوله : { فِي الآخرة } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « في » على بابها و « أَدْرَك » وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً؛ لأنه كائنٌ قطعاً كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وعلى هذا ف « في » متعلقٌ ب « ادَّاركَ » . والثاني : أنَّ « في » بمعنى الباء أي بالآخرة . وعلى هذا فيتعلَّق بنفسِ عِلْمِهم كقولِك : « عِلْمي بزيدٍ كذا » . وأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ « بلى » فقال الزمخشري : « لَمَّا جاء ب » بلى « بعد قولِه : { وَمَا يَشْعُرُونَ } كان مَعْناه : » بلى يَشْعْرون « ثم فَسَّر/ الشعورَ بقولِه { أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } على سبيلِ التهكمِ الذي معناه المبالغةُ في نَفْي العلمِ » ثم قال : و « أمَّا قراءةُ » بلى أَأَدْرك « على الاستفهامِ فمعناه : بلى يَشْعُرون متى يُبْعثون . ثم أنكر علمَهم بكونِها ، وإذا أنكر علمَهم بكونِها لم يتحصَّلْ لهم شعورٌ بوقتِ كونِها؛ لأنَّ العلمَ بوقتِ الكائنِ تابعٌ للعلم بكونِ الكائنِ » ثم قال : « فإنْ قلتَ ما معنى هذه الإِضراباتِ الثلاثةِ؟ قتل : ما هي إلاَّ تنزيلٌ لأحوالِهم ، وَصَفَهم أولاً بأنهم لا يَشْعُرون وقتَ البعثِ ثم بأنَّهم لا يعلمون أنَّ القيامةَ كائنةٌ ثم بأنَّهم يَخْبِطُون في شكٍّ ومِرْيَة » . انتهى .
فإنْ قِيل : « عَمِيَ » يتعدى ب « عن » تقول : عَمِيَ فلانٌ عن كذا فلِمَ عُدِّيَ ب « مِنْ » في قولِه : « مِنْها عَمُوْن »؟ فالجوابُ : أنه جَعَلَ الآخرةَ مَبْدأ عَماهم ومَنْشَأَه .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)

قوله : { أَإِذَا } : قد تقدَّم الكلامُ في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورةِ الرعدِ وتحقيقُه . والعاملُ في « إذا » محذوفٌ يَدُلُّ عليه « لَمُخْرَجُون » تقديره : نُبْعَثُ ونَخْرُجُ . ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيها « مُخْرَجُون » لثلاثةِ موانَع : الاستفهامِ ، و « إنَّ » ، ولامِ الابتداءِ . وفي لامِ الابتداء في خبر « إنَّ » خلافٌ . وتكايَسَ الزمخشري هنا فعَبَّر بعبارةٍ حُلْوة فقال : لأنَّ بينَ يَدَيْ عَمَلِ اسمِ الفاعل فيه عِقاباً ، وهي : همزةُ الاستفهام وإنَّ ولامُ الابتداء ، وواحدةٌ منها كافيةٌ فكيف إذا اجتمَعْنَ؟ « . وقال أيضاً : » فإنْ قُلْتَ : قَدَّم في هذه الآيةِ « هذا » على { نَحْنُ وَآبَآؤُنَا } وفي آيةٍ أخرى قَدَّم { نَحْنُ وَآبَآؤُنَا } على « هذا »!! قلتُ : التقديمُ دليلٌ على أنَّ المُقَدَّمَ هو المَعْنِيُّ المعتمدُ بالذِّكْرِ ، وأنَّ الكلامَ إنما سِيْق لأجلِه ، ففي إحدى الآيتين دَلَّ على أنَّ إيجادَ البعثِ هو الذي تُعُمِّد بالكلام ، وفي الأخرى على إيجاد المبعوث بذلك الصدد « .
و » آباؤُها عطفٌ على اسمِ كان . وقام الفَصْلُ بالجرِّ مقامَ الفَصْلِ بالتوكيدِ .

قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)

قوله : { رَدِفَ لَكُم } : فيه أوجهٌ ، أظهرُها : أنَّ « رَدِفَ » ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدَّى باللامِ . أي : دنا وقَرُب وأَزِفَ . وبهذا فسَّره ابنُ عباس و « بعضُ الذي » فاعِلٌ به وقد عُدِّي ب « مِنْ » أيضاً على تَضْمينِه معنى دَنا ، قال :
3580 فلمَّا رَدِفْنا مِنْ عُمَيْرٍ وصَحْبِه ... توَلَّوْا سِراعاً والمنيَّةُ تُعْنِقُ
أي : دَنَوْنَا مِنْ عُمَيْر . والثاني : أنَّ مفعولَه محذوف ، واللامُ للعلةِ أي : رَدِفَ الخَلْقُ لأَجْلكم ولِشُؤْمِكم . والثالث : أنَّ اللامَ مزيدةٌ في المفعولِ تأكيداً لزيادتِها في قولِه :
3581 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَنَخْنا لِلكَلاكِلِ فارْتَمَيْنا
وكزيادةِ الباء في قولِه تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] وعلى هذه الأوجهِ الوقفُ على « تَسْتَعجلون » . والرابع : أنَّ فاعل « رَدِفَ » ضميرُ الوعدِ أي : رَدِفَ الوعدُ أي : قَرُبَ ودَنا مُقْتضاه . و « لكم » خبرٌ مقدمٌ و « بعضُ » مبتدأ مؤخرٌ . والوقفُ على هذا على « رَدِفَ » وهذا فيه تفكيكُ للكلامِ . والخامس : أنَّ الفعلَ محمولٌ على مصدرِه أي : الرَّدافةُ لكم ، و « بعضُ » على تقديرِ : رَدافةِ بعضٍ ، يعني حتى يتطابقَ الخبرُ والمخبرُ عنه . وهذا أضعفُ مِمَّا قبله .
وقرأ الأعرج « رَدَفَ » بفتح الدال وهي لغةٌ ، والكسر أشهرُ .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)

قوله : { لاَ يَشْكُرُونَ } : يجوز أن يكونَ مفعولُه محذوفاً أي : لا يشكرون نِعَمَه . ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ؛ بمعنى : لا يعترفون بنعمهِ ، فعبَّر عن انتفاءِ مَعْرِفتِهم بالنعمةِ بانتفاءِ ما يترتَّبُ على معرفتِها وهو الشكرُ .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)

قوله : { مَا تُكِنُّ } : العامَّةُ على ضمِّ تاءِ المضارعةِ ، مِنْ أَكَنَّ . قال تعالى : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } [ البقرة : 235 ] . وابن محيصن وابن السَّمَيْفع وحُمَيْد بتفحها وضمِّ الكاف . يقال : كَنَنْتُه وأكْنَنْتُه ، بمعنى : أَخْفَيْتُ وسَتَرْتُ .

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)

قوله : { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ } : في هذه التاءِ قولان ، أحدُهما : أنها للمبالغةِ كراوِيَة وعَلاَّمة . والثاني : أنها كالتاءِ الداخلةِ على المصادرِ نحو : العاقِبَة والعافِيَة . قال الزمخشري : « ونظيرُهما : الذَّبيحةُ والنَّطيحةُ والرَّمْيَةُ في أنها أسماءُ غيرُ صفاتٍ » .

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)

قوله : { بِحُكْمِهِ } : العامَّةُ على ضمِّ الحاءِ وسكونِ الكاف . وجناح بن حبيش بكسرِها وفتحِ الكاف جمعَ « حِكْمة » .

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)

قوله : { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء } : تقدَّم تحريره في الأنبياء عليهم السلام .

وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

قوله : { بِهَادِي العمي } : العامَّةُ/ على « هادِيْ » مضافاً للعُمْي . وحمزة « يَهْدِي » فعلاً مضارعاً ، و « العمُيَ » نصبٌ على المفعول به ، وكذلك التي في الروم ويحيى بن الحارث وأبو حيوة « بهاد » منوَّناً « العُمْيَ » منصوب به ، وهو الأصلُ .
واتفق القُرَّاء على أَنْ يقفوا على « هاد » في هذه السورةِ بالياءِ؛ لأنَّها رُسِمَتْ في المصحفِ ثابتةً . واختلفوا في الروم . فوقف الأخوان عليها بالياءِ أيضاً كهذه . أمَّا حمزةُ فلأنه يقرَؤُها « يَهْدي » فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة . قال الكسائيُّ : « مَنْ قرأ » يَهْدِي « لَزِمَه أَنْ يقفَ بالياء ، وإنما لزمه ذلك؛ لأن الفعلَ لا يَدْخُلُه تنوينٌ في الوصلِ تُحذف له الياء فيكونُ في الوقفِ كذلك ، كما يَدْخُلُ تنوينٌ على » هادٍ « ونحوهِ فتَذْهبُ الياءُ في الوصل ، فيجري الوقفُ على ذلك كَمَنْ وقف بغير ياءٍ » . انتهى . ويَلْزَمُ على ذلك أَنْ يُوْقَفَ على { يَقْضِي بالحق } [ غافر : 20 ] { وَيَدْعُ الإنسان } [ الإسراء : 11 ] بإثباتِ الياءِ والواوِ . ولكنْ يَلْزَمُ حمزةَ مخالفَةُ الرسمِ دونَ القياسِ . وأمَّا الكسائيُّ فإنه يَقْرَأُ « بهادي » اسمَ فاعلٍ كالجماعةِ ، فإثباتُه للياءِ بالحَمْلِ على « هادِي » في هذه السورةِ ، وفيه مخالفَةٌ الرسمِ السلفيِّ .
قوله : { عَن ضَلالَتِهِمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب « يَهْدي » . وعُدِّي ب « عن » لتضمُّنِه معنى يَصْرِفهم . والثاني : أنه متعلقٌ بالعُمْي لأنَّك تقول : عَمِيَ عن كذا ، ذكره أبو البقاء .

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

قوله : { وَإِذَا وَقَعَ القول } : أي : مضمونُ القول ، أو أَطْلَقَ المصدرَ على المفعولِ أي : المَقُوْلُ .
قوله : { تُكَلِّمُهُمْ } العامَّةُ على التشديد . وفيه وجهان ، الأظهر : أنه من الكلامِ والحديث ، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيٍّ « تُنَبِّئُهم » وقراءةُ يحيى بن سَلام « تُحَدِّثُهم » وهما تفسيران لها . والثاني : « تَجْرَحُهم » ويَدُلُّ عليه قراءةُ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زُرْعَةَ والجحدري « تَكْلُمُهم » بفتحِ التاءِ وسكونِ الكافِ وضمِّ اللامِ من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ . وقد قُرِىء « تَجْرَحُهم » وفي التفسير أنها تَسِمُ الكافَر .
قوله : { أَنَّ الناس } قرأ الكوفيون بالفتح ، والباقون بالكسرِ ، فأمَّا الفتحُ فعلى تقديرِ الباءِ أي : بأنَّ الناسَ . ويدلُّ عليه التصريحُ بها في قراءةِ عبدِ الله « بأنَّ الناسَ » . ثم هذه الباء تُحتملُ أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً ، وأن تكونَ سببيةً ، وعلى التقديرين : يجوزُ أَنْ يكونَ « تُكَلِّمهم » بمعنَيَيْه من الحديثِ والجَرْح أي : تُحَدِّثهم بأنَّ الناسَ أو بسببِ أنَّ الناسَ ، أو تجرَحهم بأنَّ الناس أي : تَسِمُهم بهذا اللفظِ ، أو تَسِمُهم بسبب انتفاءِ الإِيمانِ .
وأمَّا الكسرُ فعلى الاستئناف . ثم هو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ من كلامِ اللهِ تعالى وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ من كلامِ الدابَّةِ ، فيُعَكِّرَ عليه « بآياتنا » . ويُجاب عنه : إمَّا باختصاصِها ، صَحَّ إضافةُ الآياتِ إليها ، كقولِ أتباعِ الملوكِ : دوابُّنا وخَيْلُنا ، وهي لِمَلِكهم ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : بآيات ربِّنا . وتُكَلِّمهم إنْ كان من الحديثِ فيجوزُ أَنْ يكونَ : إمَّا لإجراءِ « تُكَلِّمُهم » مجرى تقولُ لهم ، وإمَّا على إضمارِ القولِ أي : فتقول كذا . وهذا القولُ تفسيرٌ ل « تُكَلِّمُهم » .

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)

قوله : { مِن كُلِّ أُمَّةٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً بالحشر ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « فَوْجاً »؛ لأن يجوزُ أن يكونَ صفةً له في الأصل . والفَوْجُ : الجماعة كالقوم ، وقيَّدهم الراغبُ فقال : الجماعةُ المارَّةُ المسرعةُ « وكأنَّ هذا هو الأصلُ ثم أُطْلِقَ ، وإنْ لم يكُن مرورٌ ولا إسراعٌ . والجمعُ : أفواجٌ وفُؤُوج . و » مِمَّنْ يُكَذِّبُ « صفةٌ له . و » ِمنْ « في » مِنْ كلِّ « تبعيضيةٌ ، وفي » مِمَّن يُكَّذِّبُ « تَبْيينيَّة .

حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)

والواو في « ولم تُحِيْطُوا » يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ ، وأن تكونَ الحاليَّةَ . و « عِلْماً » تمييزُ .
قوله : « أَمْ ماذا » « أم » هنا منقطعةٌ . وتقدَّم حكمُها و « ماذا » يجوز أَنْ يكونَ برُمَّتِه استفهاماً منصوباً ب « تَعْمَلون » الواقعِ خبراً عن « كنتم » ، وأَنْ تكونَ « ما » استفهاميةً مبتدأً ، و « ذا » موصولٌ خبرُه ، والصلةُ « كنتمُ تعملون » ، وعائدُه محذوفٌ أي : أيَّ شيءٍ الذي كنتم تَعْملونه .
وقرأ أبو حيوةَ « أَمَا » بتخفيفِ الميمِ ، جَعَلَ همزةَ الاستفهامِ داخلةً على اسمِه تأكيداً كقولِه :
3582 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ

وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)

قوله : { بِمَا ظَلَمُواْ } : أي : بسببِ ظُلْمِهم . ويَضْعُفُ جَعْلُ « ما » بمعنى الذي .

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

قوله : { لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } : قيل : قد حُذِفَ من الأولِ ما أُثْبت نظيرُه في الثاني ، ومن الثاني ما أُثبتْ نظيرهُ في الأولِ؛ إذ التقديرُ : جَعَلْنا الليلَ مُظْلماً/ لِيَسْكنوا فيه ، والنهارَ مُبْصِراً ليَتَصَرَّفوا فيه . فحذف « مُظْلِماً » لدلالةِ « مُبْصِراً » ، و « لِيتصَرَّفوا » لدلالة « لَيَسْكُنُوا » . وقولُه « مُبْصِراً » كقولِه : { آيَةَ النهار مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] وتقدَّمَ تحقيقه في الإِسراء . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما للتقابلِ لم يُراعَ في قولِه : » لِيَسْكُنوا « و » مُبْصِراً « حيث كان أحدُهما علةَ والآخرُ حالاً؟ قلت : هو مُراعَى من حيث المعنى ، وهكذا النظمُ المطبوعُ غيرُ المتكلَّفِ » .

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)

قوله : { فَفَزِعَ } : دونَ فَيَفْزعُ؛ لتحقُّقِه كقوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين } [ الحجر : 2 ] و { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] .
قوله : { أَتَوْهُ } قرأ حمزة وحفص « أَتَوْه » فعلاً ماضياً . ومفعولُه الهاءُ . والباقون « آتُوْه » اسمَ فاعلٍ مضافاً للهاءِ . وهذا حَمْلٌ على معنى « كُل » وهي مضافةٌ تقديراً أي : وكلَّهم . وقرأ قتادةُ « أتاه » مُسْنداً لضميرِ « كُل » على اللفظِ ، ثم حُمِلَ على معناها فقرأ « داخِرين » . والحسن والأعرج « دَخِرين » بغير ألفٍ .

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)

قوله : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } : هذه الجملةُ حاليةٌ مِنْ فاعلِ « ترى » ، أو مِنْ مفعولهِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَريةٌ .
قوله : { وَهِيَ تَمُرُّ } الجملةُ حاليةٌ أيضاً . وهكذا الأجرامُ العظيمةٌ تراها واقفةً وهي مارَّة . قال النابغةُ الجعديُّ يصف جيشاً كثيفاً :
3583 بأَرْعَنَ مثلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم ... وُقوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ
و « مرَّ السَّحابِ » مصدرٌ تشبيهيٌّ .
قوله : { صُنْعَ الله } مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ السابقةِ . عاملُه مضمرٌ . أي : صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعاً ، ثم أُضِيف بعد حَذْفِ عامِله . وجعلَه الزمخشريُّ مؤكِّداً للعاملِ في { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } [ النمل : 87 ] وقَدَّره « ويومَ يُنْفَخُ » وكان كيتَ وكيتَ أثابَ اللهُ المحسنين ، وعاقَبَ المسيئين ، في كلامٍ طويلٍ حَوْماً على مذهبه . وقيل : منصوبٌ على الإِغراء أي : انظروا صُنْعَ اللهِ وعليكم به .
والإِتْقانُ : الإِتيانُ بالشيءِ على أكملِ حالاتِه . وهو مِنْ قولِهم « تَقَّن أَرْضَه » إذا ساقَ إليها الماءَ الخاثِرَ بالطينِ لتَصْلُحَ لِلزراعة . وأرضٌ تَقْنَةٌ . والتَّقْنُ : فِعْلُ ذلك بها ، والتَّقْنُ أيضاً : ما رُمِيَ به في الغدير من ذلك أو الأرض .
قوله : { بِمَا تَفْعَلُونَ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وهشام بالغَيْبة جرْياً على قولِه : « وكلٌّ أَتَوْهُ » . والباقون بالخطاب جَرْياً على قولِه : « وتَرى » لأنَّ المرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتُه .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)

قوله : { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } : في « خيرٌ » وجهان ، أحدُهما : أنها للتفضيلِ باعتبارِ زَعْمهم ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : خيرٌ مِنْ قَدْرِها واستحقاقِها ف « مِنْها » في محلِّ نصبٍ ، وأَنْ لا تكونَ للتفضيلِ . فيكونَ « منها » في موضعِ رفعٍ صفةً لها .
قوله : { مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } قد تقدَّم في هود فتحُ « يوم » وجَرُّه ، و « إذ » مضافةٌ لجملةٍ حُذِفَتْ وعُوِّض عنها التنوينُ . والأحسنُ أَنْ تُقَدَّرَ : يومَ إذ جاءَ بالحسنةِ . وقيل : يومَ إذ ترى الجبالَ . وقيل : يومَ إذ يُنْفَخُ في الصُّور . والأولُ أَوْلى لقُرْب ما قُدِّر منه .

وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

قوله : { هَلْ تُجْزَوْنَ } : على إضمار قولٍ ، وهذا القولُ حالٌ مِمَّا قبله أي : كُبَّتْ وجوهُهم مقولاً لهم ذلك القولُ .

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)

قوله : { الذي حَرَّمَهَا } : هذه قراءةُ الجمهورِ صفةً للرَّب . وابن مسعودٍ وابن عباس « التي » صفةً للبَلْدة ، والسياقُ إنما هو للربِّ لا للبلدة ، فلذلك كانتِ العامَّةُ واضحةً .

وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)

قوله : { وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن } : العامَّةُ على إثباتِ الواوِ بعد اللام . وفيها تأويلان ، أحدُهما وهو الظاهر أنَّه من التلاوةِ وهي القراءةُ ، وما بعدَه يُلائمه . والثاني : من التُّلُوِّ وهو الاتِّباعُ كقولِه : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } [ يونس : 109 ] . وقرأ عبد الله « أنْ اتْلُ » أمراً له عليه السلام ، ف « أن » يجوز أَنْ تكونَ المفسِّرة ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ وُصِلَتْ بالأمر . وقد تقدَّم ما فيه .
قوله : { وَمَن ضَلَّ } يجوز أَنْ يكونَ الجوابُ قولَه : { فَقُلْ إِنَّمَآ } . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ عائدٍ على اسمِ الشرط . اي : مِنَ المنذِرين له؛ لِما تَقَدَّم في البقرة . وأَنْ يكونَ الجوابُ محذوفاً ، أي : فوبالُ ضلالهِ عليه .

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

قوله : { عَمَّا تَعْمَلُونَ } : قد تقدَّمَ أنه قُرِىء بالياءِ والتاءِ في آخرِ هود .

نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)

قوله : { نَتْلُواْ } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفاً ، دَلَّتْ عليه صفتُه وهي { مِن نَّبَإِ موسى } ، تقديرُه : نَتْلو عليك شيئاً مِنْ نَبأ موسى . ويجوزُ أَنْ تكونَ « مِنْ » مزيدةً على رَأْيِ الأخفش . أي : نَتْلُو عليك نَبَأ موسى .
قوله : { بالحق } يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « نَتْلو » أو من مفعولِه أي : مُلْتبسين أو مُلْتبساً بالحقِّ ، أو متعلقٌ بنفسِ « نَتْلو » بمعنى : نَتْلوه بسببِ الحقِّ . و « لقوم » / متعلقٌ بفعلِ التلاوةِ أي : لأجلِ هؤلاء .

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ } : هذا هو المتلُوُّ فجيءَ به في جملةٍ مستأنفةٍ مؤكِّدة .
قوله : { يَسْتَضْعِفُ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مستأنِفٌ ، بيانٌ بحالِ الأهل الذين جَعَلهم فِرَقاً وأصنافاً . الثاني : أنه حالٌ مِنْ فاعلِ « جَعَل » أي : جعَلَهم كذا حالَ كونِه مُسْتَضْعِفاً طائفةً منههم . الثالث : أنه صفةٌ ل « شِيَعاً » .
قوله : { يُذَبِّحُ } يجوزُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ : الاستئنافُ تفسيراً ل « يَسْتَضْعِفُ » ، أو الحالُ مِنْ فاعِله ، أو صفةٌ ثانيةٌ لطائفة . والعامَّةُ على التشديدِ في « يُذَبِّح » للتكثير . وأبو حيوة وابن محيصن « يَذْبَحُ » مفتوحَ الياءِ والباءِ مضارعَ « ذَبَحَ » مخففاً .

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)

قوله : { وَنُرِيدُ } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على قولِه : « إنَّ فرعونَ » ، عطفَ فعليةٍ على اسميةٍ ، لأنَّ كلتيهما تفسيرٌ للنبأ . والثاني : أنَّها حالٌ مِنْ فاعلِ « يَسْتَضْعِفُ » . وفيه ضعفٌ من حيث الصناعةُ ، ومن حيث المعنى . أمَّا الصناعةُ فلكونِه مضارعاً مُثْبتاً فحقُّه أن يتجرَّد مِن الواوِ . وإضمارُ مبتدأ قبلَه أي : ونحن نريدُ كقولِه :
3584 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . وأرْهَنُهُمْ مالِكاً
تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه . وأمَّا المعنى فكيف يَجْتمع استضعافُ فرعونَ وإرادةُ المِنَّةِ من اللهِ؟ لأنه متى مَنَّ الله عليهم تَعَذَّرَ استضعافُ فرعونَ إياهم . وقد أُجيب عن ذلك . بأنَّه لمَّا كانت المِنَّةُ بخلاصِهِم مِنْ فرعونَ سريعةَ الوقوعِ ، قريبتَه ، جُعِلَتْ إرادةُ وقوعِها كأنها مقارِنَةٌ لاستضعافِهم .

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

قوله : { وَنُمَكِّنَ } : العامَّةُ على ذلك مِنْ غير لامِ علةٍ . والأعمش « ولِنُمَكِّنَ » بلامِ العلةِ ، ومتعلَّقُها محذوفٌ أي : ولنمكِّنَ فَعَلْنا ذلك .
قوله : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ } قرأ الأخوانَ « يرى » بفتح الياءِ والراءِ مضارعَ « رَأى » مسنداً إلى فرعونَ وما عُطِفَ عليه فلذلك رفعوا . والباقون بضمِّ النون وكسرِ الراءِ مضارعَ « أرى »؛ ولذلك نُصِبَ فرعنن وما عُطِف عليه مفعولاً أولَ . و « ما كانوا » هو الثاني و « منهم » متعلِّقٌ بفعلِ الرؤيةِ أو الإِراءة ، لا ب « يَحْذَرون » لأنَّ ما بعد الموصولِ لا يَعْمَلُ فيما قبلَه . ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نقول : اتُسِعَ فيه .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

قوله : { أَنْ أَرْضِعِيهِ } : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرة والمصدريةَ . وقرأ عمر بن عبد العزيز وعمر بن عبد الواحد بكسرِ النونِ على التقاءِ الساكنين كأنه حَذَف همزةَ القطعِ على غيرِ قياسٍ ، فالتقى ساكنان ، فكُسِرَ أَوَّلُهما .

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)

قوله : { لِيَكُونَ } : في اللامِ الوجهان المشهوران : العِلِّيَّةُ المجازيةُ بمعنى : أنَّ ذلك لَمَّا كان نتيجةَ فِعْلِهم وثمرتَه ، شُبِّه بالداعي الذي يفعلُ الفاعلُ الفعلَ لأجله ، أو الصيرورةُ . وقرأ العامَّةُ بفتحِ الحاءِ والزاي وهي لغةُ قريشٍ والأخوان بضمٍ وسكونٍ . وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالعُدْمِ والعَدَم .
قوله : { خَاطِئِينَ } : العامَّةُ على الهمزِ . مأخوذٌ من الخَطأ ضدَّ الصواب . وقُرِىءَ بياءٍ دونَ همزةٍ ، فاحْتُمِلَ أن يكونَ كالأولِ ولكن خُفِّفَ ، وأَنْ يكونَ مِنْ خطا يَخْطُو ، أي : تجاوزَ الصوابَ .

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

قوله : { قُرَّةُ عَيْنٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو قُرَّةُ عينٍ . والثاني : وهو بعيدٌ جداً أَنْ يكونَ مبتدأ ، والخبرُ « لا تَقْتُلوه » . وكأنَّ هذا القائلَ حقُّه أَنْ يُذَكَّر فيقول : لا تقتلوها إلاَّ أنه لمَّا كان المرادُ مذكراً ساغَ ذلك .
والعامَّة من القرَّاء والمفسرين وأهلِ العلم يقفون على « ولَكَ » . ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وَقَف على « لا » أي : هو قُرَّةُ عينٍ لي فقط ، ولك لا ، أي ليس هو لك قرةَ عين ، ثم يَبْتَدِىء بقوله « تَقْتُلوه » ، وهذا لا ينبغي أن يَصِحَّ عنه ، وكيف يَبْقَى « تَقْتُلوه » من غيرِ نونِ رفعٍ ولا مُقْتَضٍ لحَذْفِها؟ ولذلك قال الفراء : « هو لحنٌ .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملةٌ حاليةٌ . وهل هي من كلامِ الباري تعالى وهو الظاهرُ ، أو من كلامِ امرأةِ فرعون؟ كأنَّها لَمَّا رأَتْ مَلأَه أشاروا بقتلِه قالَتْ له كذا أي : افعلَ أنتَ ما أقولُ لك ، وقومُك لا يَشْعُرون . وجَعَل الزمخشريُّ الجملةَ مِنْ قولِه : { وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ } معطوفةً على » فالتقطه « ، والجملةَ مِنْ قولِه : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } إلى » خاطئين « معترضاً بين المتعاطفين/ ، وجَعَلَ متعلَّقَ الشعور مِنْ جنسِ الجملةِ المعترضةِ أي : لا يَشْعُرون أنهم على خطأ في التقاطِه . قال الشيخ : » ومتى أمكن حَمْلُ الكلامِ على ظاهرِه مِنْ غيرِ فصلٍ كان أحسنَ « .

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)

قوله : { فَارِغاً } : خبرُ « أصبحَ » أي : فارغاً من العقلِ ، أو من الصبرِ ، أو من الحُزْن . وهو أبعدُها . ويَرُدُّه قراءاتٌ تُخالِفهُ : فقرأ فضالةُ والحسنُ « فَزِعاً » بالزاي ، مِنَ الفزعِ . وابن عباس « قَرِعاً » بالقافِ وكسرِ الراء وسكونِها ، مِنْ قَرِِعَ رأسُه : إذا انحسَرَ شعرُه . والمعنى : خلا مِنْ كلِّ شيء ، وانحسَر عنه كلُّ شيءٍ ، إلاَّ ذِكْرَ موسى . وقيل : الساكنُ الراءِ مصدرُ قَرَعَ يَقْرَعُ أي : أصيب . وقُرِىء « فِرْغاً » بكسر الفاءِ وسكونِ الراء . والغينِ معجمةً ، أي : هَدْراً . كقوله :
3585 فإنْ يَكُ قَتْلى قد أُصيبَتْ نفوسُهُمْ ... فلَنْ يَذْهبُوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ
« فَرْغاً » حالٌ مِنْ « بِقَتْلِ » . وقرأ الخليلُ « فُرُغاً » بضم الفاء والراء وإعجامِ الغين ، من هذا المعنى .
قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي } « إنْ » : إمَّا مخففةٌ ، وإمَّا نافيةٌ . واللامُ : إمَّا فارقةٌ ، وإمَّا بمعنى إلاَّ .
قوله : { لولا أَن رَّبَطْنَا } جوابُها محذوفٌ أي : لأَبْدَتْ ، كقولِه : { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] . و { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } متعلقٌ ب « رَبَطْنا » . والباء في « به » مزيدةٌ في المفعولِ أي : لِتُظْهِرَه وقيل : ليسَتْ زائدةً بل سببيةٌ . والمفعولُ محذوفٌ أي : لَتُبْديْ القولَ بسببِ موسى أو بسببِ الوَحْي . فالضميرُ يجوزُ عَوْدُه على موسى أوعلى الوحي .

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)

قوله : { قُصِّيهِ } : أي : قُصِّي أثرَه أي : تَتَبَّعيه .
قوله : { فَبَصُرَتْ بِهِ } أي : أَبْصَرَتْه ، وقرأ قتادةُ « بَصَرَتْ » بفتح الصاد . وعيسى بكسرِها . وتقدَّم معناه في طه .
قوله : { عَن جُنُبٍ } في موضعِ الحال : إمَّا مِنَ الفاعلِ أي : بَصُرَتْ به مُسْتَخْفِيَةً كائنةً عن جُنُبٍ ، وإمَّا مِن المجرورِ ، أي : بعيداً منها . وقرأ العامَّةُ « جُنُبٍ » بضمتين وهو صفةٌ لمحذوفٍ . أي : مِنْ مكان بعيد . وقال أبو عمرو ابن العلاء : « أي : عن شوق » ، وهي لغةُ جُذام يقولون : جَنِبْتُ إليك أي : اشْتَقْتُ . وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيمِ وسكونِ النونِ ، وعن قتادةَ أيضاً بفتحهما . وعن الحسن « جُنْبِ » بالضم والسكونِ . وعن سالم « عن جانبٍ » وكلُّها بمعنى واحد . ومثلُه : الجَنَابُ والجَنابَة .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملةٌ حاليةٌ ، ومتعلَّق الشعورِ محذوفٌ أي : أنها تَقُصُّه ، أو أنه سيكونُ لهم عَدُوَّاً وحَزَناً .

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)

قوله : { المراضع } : قيل : يجوزُ أَنْ تكونَ جمعَ مُرْضِع ، وهي المرأة .
وقيل : جمعُ « مَرْضَعْ » بفتح الميمِ والضاد . ثم جَوَّزوا فيه أَنْ يكونَ مكاناً أي : مكان الإِرضاع وهو الثَّدْيُ ، وأَنْ يكونَ مصدراً أي : الإِرْضاعاتِ أي : أنواعَها .
قوله : { مِن قَبْلُ } أي : مِنْ قبلِ قَصِّها أثرَه .
قوله : { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } الظاهرُ أنه ضميرُ موسى . وقيل : لفرعون . ومن طريف ما يحكى : أنها لَمَّا قالَتْ لهم ذلك استنكروا حالَها وتفرَّسوا أنها قَرابَتُه . فقالَتْ : إنما أردْتُ : وهم للمَلِكِ ناصحون . فتخلَّصَتْ منهم . قاله ابن جريج . قلت : وهذا يُسَمَّى عند أهلِ البيانِ « الكلامَ المُوَجَّه » ومثلُه لَمَّا سُئل بعضُهم وكان بين أقوامٍ ، بعضُهم يُحِبُّ عليَّاً دونَ غيرِه ، وبعضُهم أبا بكر ، وبعضُهم عمرَ ، وبعضُهم عثمانَ ، فقيل له : أيُّهم أحبُّ إلى رسول الله؟ فقال : مَنْ كانت ابنتُه تحته .

فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

قوله : { وَلاَ تَحْزَنَ } : عطفٌ على « تَقَرَّ » . ودمعةُ الفرحِ قارَّةٌ ، ودمعة التَّرَحِ حارَّة . قال أبو تمام :
3586 فأمَّا عيونُ العاشِقين فَأُسْخِنَتْ ... وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في مريم .

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

قوله : { على حِينِ غَفْلَةٍ } : في موضع الحال [ إمَّا ] من الفاعل : كائناً على حين غَفْلَةٍ ِأي : مُسْتَخْفِياً ، وإمَّا من المفعول . وقرأ أبو طالبٍ القارىء « على حينَ » بفتح النون . وتكلَّف الشيخُ تخريجَها على أنه حَمَلَ المصدرَ على الفعل في أنه إذا أضيف الظرفُ إليه جاز بناؤه على الفتح كقوله :
3587 على حينَ عاتَبْتُ المشيب على الصِّبا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « مِنْ أهلِها » صفةٌ ل « غَفْلَة » أي : صادرةٍ من أهلها .
قوله : { يَقْتَتِلاَنِ } صفةٌ ل « رجلين » . وقال ابن عطية : « حال منهما » وسيبويه وإنْ كان جَوَّزَها مِن النكرة/ مُطْلقاً . إلاَّ أنَّ غيرَه وهم الأكثرون يَشْتَرِطون فيها ما يُسَوِّغُ الابتداءَ بها وقرأ نعيم بن ميسرة « يَقَتِّلان » بالإِدغام نَقَلَ فتحَة التاءِ الأولى إلى القافِ وأدغمَ .
قوله : { هذا مِن شِيعَتِهِ } مبتدأٌ وخبرٌ في موضعِ الصفةِ ل « رجلين » أو الحالِ من الضمير في « يَقْتَتِلان » وهو بعيدٌ لعدمِ انتقالها .
وقوله : « هذا ، وهذا » على حكايةِ الحالِ الماضيةِ فكأنهما حاضران . وقال المبردُ : « العربُ تُشير ب هذا إلى الغائب وأنشد الجرير :
3588 هذا ابنُ عَمِّي في دمشقَ خليفةً ... لو شِئْتُ ساقَكُمُ إليَّ قَطِينا
قوله : { فاستغاثه } هذه قراءةُ العامَّةِ ، من الغَوْثِ أي : طَلَبَ غَوْثَه ونَصْرَه . وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة ، والنون ، من الإِعانة . قال ابنُ عطية : » هي تصحيفٌ « . وقال ابن جبارة صاحب » الكامل « : » الاختيارُ قراءةُ ابنِ مقسم؛ لأنَّ الإِعانة أولى في هذا البابِ « . قلت : نسبةُ التصحيفِ إلى هؤلاء غيرُ محمودةٍ ، كما أن تَعالِيَ الهُذَليِّ في اختيارِ الشاذِّ غيرُ محمودٍ .
قوله : { فَوَكَزَهُ } أي : دَفَعَه بجميع كَفَّه . والفرقُ بين الوَكْزِ واللَّكْزِ : أنَّ الأولَ بجميعِ الكفِّ ، والثانيْ بأطرافِ الأصابِع وقيل : بالعكسِ . والنَّكْزُ كاللَّكْزِ . قال :
3589 يا أَيُّها الجاهِلُ ذو التَّنَزِّي ... لا تُوْعِدَنِّي حَيَّةً بالنَّكْزِ
وقرأ ابنُ مسعود » فَلَكَزه « و » فَنَكَزَه « باللام والنونِ .
قوله : { فقضى } أي : موسى ، أو الله تعالى ، أو ضميرُ الفعلِ ِأي : الوَكْزُ
قوله : { مِنْ عَمَلِ } : مِنْ وَسْوَسَتِه وتَسْوِيْلِه والإِشارةُ إلى القَتْلِ الصادرِ منه .

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

قوله : { بِمَآ أَنْعَمْتَ } : يجوزُ في الباءِ أن تكونَ قَسَماً ، والجوابُ : لأَتُوْبَنَّ مقدراً . ويُفَسِّره « فَلَنْ أكونَ » ، وأَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ ، ومعناها السببيَّةُ . أي : اعْصِمْني بسببِ ما أَنْعَمْتَ به عليَّ ، ويترتَّبُ عليه قولُه : « فلن أكونَ ظَهيراً » . و « ما » مصدريةٌ ، أو بمعنى الذي . والعائدُ محذوفٌ . وقوله : « فلن » نفيٌ على حقيقتِه . وزعمَ بعضُهم أنه دعاءٌ ، وأنَّ « لن » واقعةٌ موقعَ « لا » . وأجاز قومٌ ذلك مُسْتَدِلِّينَ بهذه الآية ، وبقولِ الشاعر :
3590 لَنْ تَزالُوا كذلِكُمْ ثُمَّ لا زِلْ ... تَ لهمْ خالِداً خُلُوْدَ الجبالِ
وليس فيهما دلالةٌ لظهورِ النفيِ فيهما مِنْ غيرِ تقديرِ دعاءٍ ، وإنْ كان في البيت أقوى .

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

قوله : { خَآئِفاً } : الظاهرُ أنه خبرُ « أَصْبح » و « في المدينة » [ متعلِّقٌ ] به . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، والخبرُ « في المدينة » . ويَضْعُفُ تمامُ « أصبحَ » أي : دَخَل في الصباح .
قوله : { يَتَرَقَّبُ } يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ حالاً ثانيةً ، وأن يكونَ بدلاً من الحالِ الأولى ، أو الخبر الأول ، أو حالاً من الضميرِ في « خائفاً » فتكونُ متداخلةً . ومفعولُ « يترقَّبُ » محذوفٌ ، أي : يترقَّبُ المكروهَ ، أو الفرَجَ ، أو الخبر : هل وصل لفرعونَ أم لا؟
قوله : { فَإِذَا الذي } « إذا » فجائيةٌ . و « الذي » مبتدأ . وخبره : إمَّا « إذا » ، ف « يَسْتَصْرِخُه » حالٌ ، وإمَّا « يَسْتَصْرِخُه » ف « إذا » فَضْلةٌ على بابها . و « بالأمس » معربٌ؛ لأنه متى دَخَلَتْ عليه أل أو أُضيفَ أُعْرِبَ ، ومتى عَرِيَ منهما فحالُه معروفٌ : الحجازُ تَبْنيه ، والتميميُّون يَمْنعونه الصرفَ كقولِه :
3591 لقد رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسا ... على أنَّه قد يبنى مع أل نُدوراً ، كقوله :
3592 وإنِّي حُبِسْتُ اليومَ والأمسِ قبلَه ... إلى الشمسِ حتى كادَتِ الشمسُ تَغْرُبُ
يروى بكسر السين .
قوله : { قَالَ لَهُ موسى } الضميرُ : قيل : للإِسرائيليِّ؛ لأنه كان سبباً في الفتنةِ الأولى . وقيل : للقبطيِّ .

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

قوله : { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ } : الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن لموسى . وقيل : للإِسرائيليِّ والعدوُّ هو القِبْطي . والضميرُ في « قال يا موسى » للإِسرائيليِّ ، كأنه تَوَهَّم مِنْ موسى مُخاشَنَةً ، فمِنْ ثَمَّ قال كذلك ، وبهذا فشا خبرُه ، وكان مَشْكوكاً في قاتِله .
و « أنْ » تَطَّرِدُ زيادتُها في موضعين ، أحدُهما : بعد « لَمَّا » كهذِه . والثاني قبل « لو » مسبوقةً بقَسَمٍ كقولِه :
3593 أَمَا واللهِ أنْ و كنتُ حُرّاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقولِه ] :
3594 فَأُقْسِمُ أَنْ لو التَقَيْنَا وأنتُمُ ... لكان لنا يومٌ مِنْ الشَّرِّ مُظْلِمُ
والعامَّةُ على « يَبْطِشُ » بالكسرِ . وضَمَّها أبو جعفر .

وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

قوله : { يسعى } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ، وأَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصَتْ بالوصفِ بقولِه : { مِّنْ أَقْصَى المدينة } فإن جَعَلتْ « مِنْ أَقْصَى » متعلقاً ب « جاء » ف « يَسْعَى » صفةٌ ليس إلاَّ . قاله الزمخشريُّ ، بناءً منه على مذهب الجمهورِ وقد تقدَّم/ أنَّ سيبويه يجيز ذلك مِنْ غيرِ شرطٍ . وفي آية يس تقدَّم « مْن أقصى » على « رجل » لأنَّه لم يكنْ مِنْ أقصاها ، وإنما جاء منه ، وهنا وصَفَه بأنه مِنْ أقصاها ، وهما رجلان مختلفان وقِصَّتان متباينتان .
قوله : { يَأْتَمِرُونَ } أي : يَتَآمَرُوْنَ بمعنى يَتشاورون ، كقولِ النَّمِر ابنِ تَوْلب :
3595 أرى الناسَ قد أَحْدَثُوا شِيْمَةً ... وفي كلِّ حادثةٍ يُؤْتَمَرْ
وعن ابن قتيبة : يأمرُ بعضُهم بعضاً . أخذَه مِنْ قولِه تعالى : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } [ الطلاق : 6 ] .
قوله : « لك » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بما يَدُلُّ « الناصحين » عليه أي : ناصحٌ لك من الناصحين ، أو بنفسِ « الناصحين » للاتِّساع في الظرف ، أو على جهةِ البيان أي : أعني لك .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)

قوله : { يَتَرَقَّبُ } : أي : يترقَّبُ هِدايتَه وغَوْثَ الله إياه .

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

قوله : { تَذُودَانِ } : صفةٌ ل « امرَأَتَيْنِ » لا مفعولٌ ثان لأنَّ « وَجَدَ » بمعنى لَقِيَ . والذَّوْدُ : الطَّرْدُ والدَّفْعُ قال :
3596 فَقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : حَبَسَ ، ومفعولُه محذوفٌ أي : تَذُوْدان الناسَ عن غَنَمِهما ، أو غَنَمَهما عن مزاحمةِ الناس . و « مِنْ دونِهم » أي من مكانٍ أسفلَ مِنْ مكانِهم .
قوله : { مَا خَطْبُكُمَا } قد تقدَّم في طه . وقال الزمخشري هنا : « وحقيقتُه ما مَخْطُوْبُكما؟ أي : ما مطلوبُكما من الذِّياد ، سمى المخطوبَ خَطْباً ، كما سُمِّي المَشْؤُوْن شأناً في قولك : ما شَأْنُك؟ يُقال : شَأَنْتُ شَأْنَه أي : قََصَدْتُ قَصْدَه » . وقال ابنُ عطية : « السؤالُ بالخَطْبِ إنما هو في مُصابٍ أو مُضْطَهَدٍ » أو مَنْ يَشْفَقُ عليه ، أو يأتي بمنكرٍ من الأمرِ « .
وقرأ شمر » خِطْبُكما « بالكَسْر أي : ما زوجُكما؟ أي : لِمَ تَسْقِيان ولم يَسْقِ زوجُكما؟ وهي شاذَّةٌ جداً .
قوله : { يُصْدِرَ } قرأ أبو عمرٍو وابنُ عامرٍ بفتح الياءِ وضمِّ الدالِ مِنْ صَدَرَ يَصْدُر وهو قاصرٌ أي : يَصْدُرون بمواشِيهم . والباقون بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ مضارعَ أَصْدَرَ مُعَدَّى بالهمزةِ ، والمفعولُ محذوفٌ أي : يُصْدِرون مواشِيَهم . والعامَّةُ على كسرِ الراءِ من » الرِّعاء « وهو جمعُ تكسيرٍ غيرُ مَقيس؛ لأنَّ فاعِلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ كقاضٍ قياسُه فُعَلَة نحو : قُضَاة ورُمَاة . وقال الزمخشري : » وأما الرِّعاء بالكسرِ فقياسٌ كصِيامٍ وقِيامٍ « وليس كما ذَكَر لما ذَكَرْتُه .
وقرأ أبو عمرٍو في روايةٍ بفتحِ الراءِ . قال أبو الفضل : » هو مصدرٌ أُقيم مُقامَ الصفةِ؛ فلذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ « ، أو على حَذْفِ مضافٍ . وقُرِىء بضمِّها وهو اسمُ جمعٍ ك رُخَال ، وثُناء .
وقرأ ابن مصرف » لا نُسْقي « بضمِّ النونِ مِنْ أسقى ، وقد تقدَّم الفرقُ بين سقى وأسقى في النحل .

فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

قوله : { فسقى لَهُمَا } : مفعولُه محذوفٌ أي : غَنَمَهما لأجلِهما .
قوله : { لِمَآ أَنزَلْتَ } متعلقٌ ب « فقيرٌ » . قال الزمخشري : « عَدَّى » فقيرٌ « باللام لأنه ضُمِّن معنى سائلٌ وطالبٌ . ويُحتمل : إني فقيرٌ من الدنيا لأجلِ ما أَنْزَلْتَ إليَّ من خيرِ الدين ، وهو النجاةُ من الظالمين » .
قلت : يعني أنَّ افْتَقَرَ يتعدَّى ب « مِنْ » ، فإمَّا أن تجعلَه من بابِ التضمين ، وإمَّا أَنْ تُعَلِّقَه بمحذوفٍ . و « أَنْزَلْتَ » قيل : ماضٍ على أصلِه . ويعني بالخيرِ ما تقدَّم مِنْ خيرِ الدين . وقيل : بمعنى المستقبل .

فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

قوله : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا } : قرأ ابن محيصن « فجاءَتْه حْداهما » بحذفِ الهمزةِ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ كقولِهم : يا با فلان ، وقولِه :
3597 يا با المُغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
و « وَيْلُمِّه » أي : ويلٌ لأمِّه . قال :
3598 وَيْلُمِّها خُلَّةً لو أنَّها صَدَقَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « تَمْشي » حالٌ ، و « على استحياء » حالٌ أخرى : إمَّا مِنْ « جاءَتْ » ، وإمَّا مِنْ « تَمْشي » .

قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)

قوله : { أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى } : رُوِيَ عن أبي عمرٍو : « أُنْكِحك حدى » بحَذْفِ همزةِ « إحدى » ، وهذه تُشْبِهُ قراءةَ ابن محيصن « فجاءَتْه حْداهما » . وتقدَّم التشديدُ في نونِ « هاتَيْن » في سورةِ النساء .
قوله : { على أَن تَأْجُرَنِي } في محلِّ نصبٍ على الحالِ : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول أي : مَشْروطاً على ، أو عليك ذلك . « وتَأْجُرَني » مضارعُ أَجَرْتُه : كنتُ له أَجيراً . ومفعولُه الثاني محذوفٌ أي : تَأْجُرني نفسَك . و « ثماني حِجَج » ظرفٌ له . ونقل الشيخ عن الزمخشري أنها هي المفعولُ الثاني : قلتُ : الزمخشريُّ لم يَجْعَلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجهِ ، وإنما جَعَلَها مفعولاً ثانياً على وجهٍ آخرَ . وأمَّا على هذا الوجهِ فلم يَجْعَلْها غيرَ ظرفٍ . وهذا نصُّه ليتبيَّنَ لك . قال : « تَأْجُرُني مِنْ أَجَرْتُه إذا كنتَ له أَجيراً ، كقولك : أَبَوْتُه إذا كنتَ له أباً . وثماني حِججٍ ظرفٌ ، أو مِنْ آجَرْتُه [ كذا ] : إذا أَثْبَتَّه [ إياه ] . ومنه تعزيةٌ/ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم : » آجَرَكم اللهُ ورَحِمَكم « و » ثمانيَ حِجَجٍ « مفعولٌ به . ومعناه رِعْيَةَ ثَمانِي حِججٍ » . فنقل الشيخُ عنه الوجهَ الأولَ من المعنيَيْن المذكورَيْن ل « تَأْجُرَني » فقط ، وحكى عنه أنه أعربَ « ثمانيَ حِجَج » مفعولاً به . وكيف يَسْتقيم ذلك أو يَتَّجه؟ وانظر إلى الزمخشريِّ كيف قَدَّر مضافاً ليَصِحَّ المعنى به أي : رَعْيَ ثماني حِجج؛ لأنَّ العملَ هو الذي تقع الإِثابة عليه لا نفسُ الزمان فكيف تُوَجَّه الإِجازةُ على الزمان؟
قوله : { فَمِنْ عِندِكَ } يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : فهي مِنْ عندِك ، أو نصبٍ أي : فقَد زِدْتها أو تَفَضَّلْتَ بها مِنْ عندِك .
قوله : { أَنْ أَشُقَّ } مفعولُ « أُرِيْدُ » . وحقيقةُ قولِهم « شَقَّ عليه » أي : شَقَّ ظَنَّه نِصْفَيْن ، فتارةً يقول : أُطيق ، وتارة : لا أُطيق . وهو مِنْ أحسنِ مجازٍ .

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

قوله : { ذَلِكَ } : مبتدأٌ . والإِشارةُ به إلى ما تعاقَدَا عليه ، والظرفُ خبرُه . وأُضِيْفَتْ « بين » لمفردٍ لتكررِها عطفاً بالواوِ . ولو قلتَ : « المالُ بين زيدٍ فعمرٍو » لم يَجُزْ . فأمَّا قولُه :
3599 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
فكان الأصمعيُّ يَأْباها ويَرْوي « وحَوْمَلِ » بالواو . والصحيحُ بالفاءِ ، وأوَّلَ البيتَ على : « الدَّخولِ وَحَوْمَلِ » مكانان كلٌّ منهما مشتملٌ على أماكنَ ، نحو قولِك : « داري بين مصرَ » لأنه به المكانُ الجامع . والأصل : ذلك بَيْنَنا ، ففرَّق بالعطف .
قوله : { أَيَّمَا الأجلين } « أيّ » شرطيةٌ . وجوابُها « فلا عُدْوانَ » عليَّ . وفي « ما » هذه قولان ، أشهرُهما : أنها زائدةٌ كزيادتِها في أخواتِها مِنْ أدواتِ الشرط . والثاني : أنها نكرةٌ . والأَجَلَيْن بدلٌ منها . وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية « أَيْما » بتخفيفِ الياءِ ، كقوله :
3600 تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسِّماكَيْنِ أَيْهُما ... عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ
وقرأ عبد الله « أَيَّ الأَجَلَيْنِ ما قَضَيْتُ » بإقحام « ما » بين « الأجلين » و « قَضَيْتُ » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين موقعَيْ زيادةِ » ما « في القراءتين؟ قلت : وقعَتْ في المستفيضة مؤكِّدةً لإِبهامِ » أيّ « زائدةً في شِياعِها ، وفي الشاذَّة تأكيداً للقضاءِ كأنه قال : أيَّ الأجلين صَمَّمْتُ على قضائه ، وجَرَّدْت عَزيمتي له » .
وقرأ أبو حيوةَ وابنُ قطيب « عِدْوان » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : تَصَوُّرُ العُدْوان إنما هو في أحد الأجلَيْن الذي هو أقصرُهما ، وهو المطالبةُ بتتمَّة العَشْر ، فما معنى تعلُّقِ العُدْوانِ بهما جميعاً؟ قلت : معناه كما أنِّي إنْ طُوْلِبْتُ بالزيادةِ على العشر [ كان عدواناً ] لا شك فيه ، فكذلك إنْ طولِبْتُ بالزيادةِ على الثمان . أراد بذلك تقريرَ ِأمرِ الخِيارِ ، وأنه ثابتٌ مستقرٌّ ، وأن الأجلَيْنِ على السَّواء : إمَّا هذا وإمَّا هذا » . ثم قال : « وقيل : معناه : فلا أكونُ متعدياً . وهو في نَفْي العدوان عن نفسه كقولِك : لا إثمَ علي ولا تَبِعَةَ » . قال الشيخ : « وجوابُه الأولُ فيه تكثيرٌ » . قلتُ : كأنه أعجبه الثاني ، والثاني لم يَرْتَضِه الزمخشريُّ؛ لأنه ليس جواباً في الحقيقة؛ فإن السؤالَ باقٍ أيضاً . وكذلك نَقَلَه عن غيره .
وقال المبرد : « وقد عَلِم أنه لا عُدْوانَ عليه في أتَمِّهما ، ولكنْ جَمَعَهما ليجعلَ الأولَ كالأَتَمِّ في الوفاء » .

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

قوله : { أَوْ جَذْوَةٍ } : قرأ حمزة بضم الجيم . وعاصم بالفتح . والباقون بالكسرِ . وهي لغاتٌ في العُود الذي في رأسِه نارٌ ، هذا هو المشهورُ . قال السُّلمي :
3601 حمى حُبِّ هذي النارِ حُبُّ خليلتي ... وحُبُّ الغواني فهو دونَ الحُباحُبِ
وبُدِّلْتُ بعد المِسْكِ والبانِ شِقْوةً ... دخانَ الجُذا في رأسِ أشمطَ شاحبِ
وقيَّده بعضُهم فقال : في رأسِه نارٌ مِنْ غيرِ لَهَبٍ . قال ابن مقبل :
3602 باتَتْ حواطِبُ ليلى يَلْتَمِسْنَ لها ... جَزْلَ الجُذا غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
الخَوَّارُ : الذي يتقصَّفُ . والدَّعِرُ : الذي فيه لَهَبٌ ، وقد وَرَدَ ما يقتضي وجودَ اللهبِ فيه . قال الشاعر :
3603 وأَلْقَى على قَبْسٍ من النارِ جَذْوةً ... شديداً عليها حَمْيُها والتهابُها
وقيل : الجَذْوَة : العُوْدُ الغليظُ سواءً كان في رأسه نارٌ أم لم يكنْ ، وليس المرادُ هنا إلاَّ ما في رأسِه نارٌ .
قوله : { مِّنَ النار } صفةٌ ل جَذْوَةٍ ، ولا يجوزُ تَعَلُّقها ب « آتِيْكُمْ » كما تَعَلَّق به « منها »؛ لأنَّ هذه النارَ ليسَتْ النارَ المذكورةَ ، والعربُ إذا تقدَّمَتْ نكرةٌ وأرادَتْ إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً ، أو معرَّفَةً ب أل العهديةِ ، وقد جُمِع الأمران هنا .

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)

قوله : { مِن شَاطِىءِ } : « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . والأَيْمن صفةٌ للشاطىء أو للوادي . والأَيمن من اليُمْن وهو البركة أو من اليمين المعادِلِ لليسار من العُضْوَيْن . ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي : الذي يَلي يمينَكَ دونَ يسارِك . والشاطىء ضفَّةُ الوادي والنهر أي حافَّتُه وطرفُه ، وكذلك الشَّطُّ والسِّيْفُ والساحلُ كلُّها بمعنى . وجَمْعُ الشاطىء/ أشْطَاء قاله الراغب . وشاطَأْتُ فلاناً : ماشَيْتُه على الشاطىء .
قوله : { فِي البقعة } متعلقٌ ب « نُوْدِيَ » أو بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الشاطىء . وقرأ العامَّةُ بضم الباء وهي اللغةُ العاليةُ . وقرأ مَسْلَمَةُ والأشهبُ العُقيلي بفتحها . وهي لغةٌ حكاها أبو زيدٍ . قال : « سَمِعْتُهم يقولون : هذه بَقْعَةٌ طيِّبةٌ » .
قوله : { مِنَ الشجرة } هذا بدلٌ مِنْ « شاطىء » بإعادةِ العاملِ ، وهو بدلُ اشتمال .
قوله : { أَن ياموسى } « أنْ » هي المفسِّرةُ . وجُوِّز فيها أَنْ تكونَ المخففةَ . واسمُها ضميرُ الشأنِ . وجملةُ النداءِ مفسِّرةٌ له . وفيه بُعدٌ .
قوله : { إني أَنَا الله } العامَّةُ على الكسرِ على إضمار القولِ ، أو على تضمينِ النداءِ معناه . وقُرِىء بالفتح . وفيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِلَتْ « أَنْ » تفسيريةً وَجَبَ كسرُ « إِنِّي » للاستئنافِ المفسِّر للنداء بماذا كان؟ وإنْ جَعلْتَها مخففةً لَزِم تقديرُ « أَنِّي » بمصدرٍ ، والمصدرُ مفردٌ ، وضميرُ الشأن لا يُفَسَّرُ بمفردٍ . والذي ينبغي أَنْ تُخَرَّج عليه هذه القراءةُ أَنْ تكون « أَنْ » تفسيريةً و « أني » معمولةٌ لفعلٍ مضمرٍ ، تقديرُه : أنْ يا موسى اعلَمْ أنِّي أنا الله .

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

قوله : { مِنَ الرهب } : متعلِّقٌ بأحدِ أربعةِ أشياء : إمَّا ب « ولى » ، وإمَّا ب « مُدْبِراً » ، وإمَّا ب « اضْمُمْ » ويظهر هذا الثالث إذا فَسَّرنا الرَّهْبَ بالكُمِّ ، وإمَّا بمحذوفٍ أي : [ تَسْكُن ] من الرَّهْب . وقرأ حفصٌ بفتح الراءِ وإسكانِ الهاء . والأخَوان وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ بالضمِّ والإِسكان . والباقون بفتحتين . والحسن وعيسى والجحدريُّ وقتادة بضمتين . وكلُّها لغاتٌ بمعنى الخَوْفِ . وقيل : هو بفتحتين الكُمُّ بلغةِ حِمْير وحنيفة . قال الزمخشري : « هو مِنْ بِدَع التفاسير » قال : « وليت شعري كيف صِحَّتُه في اللغةِ ، وهل سُمِع من الثقاتِ الأثباتِ الذين تُرْتَضَى عربيتُهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعُه في الآيةِ وكيف تطبيقُه المفصَّلُ كسائرِ كلماتِ التنزيل . على أنَّ موسى صلوات الله عليه ليلةَ المُناجاة ما كان عليه إلاَّ رُزْمانِقَةٌ من صوف لا كُمَّيْ لها » الرُّزْمانِقَةُ : المِدْرَعَة .
قال الشيخ : « هذا مرويٌّ عن الأصمعي ، وهو ثقةٌ سمعهم يقولون : أَعْطِني ما رَهْبِك أي : كُمِّك . وأمَّا قولُه كيف موقعُه؟ فقالوا : معناه أخرِجْ يدَك مِنْ كُمِّك » قلت : كيف يَسْتقيم هذا التفسير؟ يُفَسِّرون اضْمُمْ بمعنى أَخْرِجْ .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : قد جُعِل الجناحُ وهو اليدُ في أحد الموضعين مضموماً ، وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } فما التوفيقُ بينهما؟ قلت : المرادُ بالجناحِ المضمومِ [ هو ] اليدُ اليمنى ، وبالجناح المضمومِ إليه هو اليدُ اليسرى ، وكلُّ واحدةٍ مِنْ يُمْنى اليدين ويُسْراهما جناح » .
قوله : { فَذَانِكَ } قد تقدَّمَ قراءةُ التخفيفِ والتثقيلِ في سورة النساء وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياءٍ بعد نونٍ مكسورةٍ ، وهي لغةُ هُذَيْلٍ . وقيل : تميمٌ . وروى شبل عن ابن كثير بياءٍ بعد نونٍ مفتوحةٍ . وهذا على لغةِ مَنْ يفتح نونَ التثنيةِ ، كقوله :
3604 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقلَّتْ عَشِيَّةً ... فما هي إلاَّ لَمْحَةٌ وتَغيبُ
والياءُ بدلٌ من إحدى النونين ك « تَظَنَّيْت » . وقرأ عبد الله بتشديدِ النون وياءٍ بعدها . ونُسِبَتْ لهُذَيْل . قال المهدوي : بل لغتُهم تخفيفُها . ولا أظنُّ الكسرةَ هنا إلاَّ إشباعاً كقراءةِ هشام { أَفْئِيدَةً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 37 ] .
و « ذانِكَ » إشارةٌ إلى العصا واليد وهما مؤنثتان ، وإنما ذُكِّر ما أُشير به إليهما لتذكيرِ خبرِهما وهو برهانان ، كما أنه قد يُؤَنَّثُ لتأنيثِ خبرِه كقراءةِ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] فيمَنْ أََنَّثَ ، ونَصَبَ « فِتْنَتَهم » ، وكذا قولُ الشاعر :
3605 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فقد خابَ مَنْ كانَتْ سَرِيْرَتَه الغَدْرُ
وتقدَّم إيضاحُ هذا في الأنعام . والبُرْهان تقدَّم اشتقاقُه .
وقال الزمخشري هنا : « فإنْ قلتَ : لِمَ سُمِّيَتِ الحُجَّةُ بُرْهاناً؟ قلت : لبياضِها وإنارتِها ، مِنْ قولِهم للمرأةِ البيضاء » بَرَهْرَهَةُ « بتكريرِ العين واللام . والدليلُ على زيادةِ النون قولهم : أَبْرَهَ الرجلُ إذا جاء بالبُرْهان . ونظيرُه تسميتُهم إياها سُلْطاناً ، من السَّليطِ وهو الزيتُ لإِنارتِها » .
قوله : { إلى فِرْعَوْنَ } متعلقٌ بمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء « مُرْسَلاً إلى فرعونَ » وغيرُه : اذهَبْ إلى فرعون . وهذا المقدَّرُ ينبغي أن يكونَ حالاً مِنْ « برهانان » أي : مُرْسَلاً بهما إلى فرعونَ . والعاملُ في هذه الحالِ ما في اسمِ الإِشارةِ .

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

قوله : { هُوَ أَفْصَحُ } : الفَصاحَةُ لغةً : الخُلوصُ . ومِنْه فَصُحَ اللبنُ وأَفْصَحَ فهو مُفْصِحٌ وفَصيح أي : خَلَصَ من الرَّغْوَة . ورُوِي/ قولُهم :
3606 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وتحتَ الرَّغْوَةِ اللبنُ الفَصيحُ
ومنه فَصُحَ الرجل : جادَتْ لغُته . وأَفْصَحَ : تكلَّم بالعربية . وقيل : بالعكس . وقيل : الفصيح الذي يَنْطِقُ . والأعجمُ : الذي لا ينطقُ . وعن هذا اسْتُعير أَفْصَح الصبحُ أي : بدا ضَوْءُه . وأفصح النصرانيُّ : دنا فِصْحُه بكسرِ الفاءِ وهو عيدٌ لهم . وأمَّا في اصطلاحِ أهل البيانِ فهي خُلُوصُ الكلمة من تنافرِ الحروفِ كقوله : « ترعى الهِعْخِع » . ومن الغرابةِ . كقوله :
3607 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَرْسِناً مُسَرَّجاً ... ومِنْ مخالفةِ القياس اللغوي كقوله :
3608 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . العَليِّ الأَجْلَل ... وخُلوصُ الكلام من ضعفِ التأليف كقوله :
3609 جزى ربُّه عني عَدِيَّ بنَ حاتمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن تنافرِ الكلماتِ كقولهِ :
3610 وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرِ ... وليسَ قربَ قبرِ حَرْبٍ قبرُ
ومن التعقيدِ وهو : إمَّا إخلالُ نظمِ الكلامِ فلا يدرى كيفُ يُتوصَّلُ إلى معناه؟ كقوله :
3611 وما مثلُه في الناسِ إلاَّ مُمَلَّكاً ... أبو أمِّه حيٌّ أبوه يُقارِبُهْ
وإمَّا عَدَمُ انتقالِ الذهنِ من المعنى الأول إلى المعنى الثاني ، الذي هو لازِمه والمرادُ به ، ظاهراً كقوله :
3612 سأطلبُ بُعْدَ الدارِ عنكم لِتَقْرَبُوا ... وَتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لتَجْمُدا
وخُلوصُ المتكلم من النطقِ بجميع ذلك فصارتِ الفصاحةُ يوصف بها ثلاثةُ أشياءَ : الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ بخلاف البلاغةِ فإنه لا يُوْصَفُ بها إلاَّ الأخيران . وهذا له موضوعٌ يُوَضَّحُ فيه ، وإنما ذكَرْتُ لك ما ينبِّهُك على أصلِه .
و [ قوله ] : « لِساناً » تمييز .
قوله : « رِدْءاً » منصوبٌ على الحال . والرِّدْءُ : العَوْنُ وهو فِعْلٌ بمعنى مَفْعول كالدِّفْءِ بمعنى المَدْفوء به . ورَدَأْتُه على عَدُوِّه أَعَنْتُه عليه . ورَدَأْتُ الحائط : دَعَمْتُه بخشَبَة كيلا يَسْقُطَ . وقال النحاس : « يقال : » رَدَأْته وأَرْدَأْته « .
وقال سلامة بن جندل :
3613 ورِدْئي كلُّ أبيضَ مَشْرَفيٍّ ... شَحيذِ الحَدِّ أبيضَ ذي فُلولِ
وقال آخر :
3614 ألم تَرَ أنَّ أَصْرَمَ كان رِدْئي ... وخيرَ الناسِ في قُلٍّ ومالِ
وقرأ نافع » رِدا « بالنقل ، وأبو جعفر كذلك إلاَّ أنه لم يُنَوِّنْه كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ . ونافعٌ ليس من قاعدتِه النقلُ في كلمةٍ إلاَّ هنا . وقيل : ليس فيه نَقْلٌ وإنما هو مِنْ أردى على كذا . أي : زاد . قال الشاعر :
3615 وأسمرَ خَطِّيّاً كأنَّ كُعُوبَه ... نوى القَسْبِ قد أردى ذِراعاً على العَشْرِ
أي : زاد [ وأنشده الجوهريُّ : قد أربى ، وهو بمعناه ] .
قوله : { يُصَدِّقُنِي } قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالرفع على الاستئناف أو الصفةِ ل » رِدْءاً « أو الحالِ من هاء » أَرْسِلْه « ، أو من الضميرِ في » رِدْءاً « . والباقون بالجزمِ جواباً للأمرِ . وزيد بن علي واُبَيٌّ » يُصَدِّقوني « ِأي : فرعونُ ومَلَؤُه . قال ابن خالويه : » وهذا شاهدٌ لِمَنْ جَزَم؛ لأنه لو كان رفعاً لقال « يُصَدِّقونَني » يعني بنونين « .
وهذا سهوٌ من ابن خالويه؛ لأنه متى اجتمعَتْ نونُ الرفعِ من نون الوقايةِ جازَتْ أوجهٌ ، أحدها : الحذفُ ، فهذا يجوزُ أن يكونَ مرفوعاً ، وحَذْفُ نونِه لما ذكرْتُ لك . وقد تقدم تحقيقُ هذا في الأنعام وغيرِها . وحكاه الشيخُ عن ابنِ خالَويه ولم يُعْقِبْه بنَكير .

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

قوله : { عَضُدَكَ } : العامَّةُ على فتحِ العينِ وضمِّ الضادِ . والحسن وزيد بن علي بضمِّهما . وعن الحسن بضمةٍ وسكونٍ وعيسى بفتحِهما ، وبعضُهم بفتحِ العينِ وكسرِ الضادِ . وفيه لغةٌ سادسةٌ : فتح العينِ وسكونُ الضادِ . ولا أعلمُها قراءةً . وهذا كنايةٌ عن التقوِيَةِ له بأخيه .
قوله : { بِآيَاتِنَآ } يجوزُ فيه أوجهٌ : أَنْ يتعلَّقَ ب « نَجْعَلُ » أو ب « يَصِلُوْن » ، أو بمحذوفٍ أي : اذْهبا ، أو على البيان ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً ، أو ب « الغالبون » ، على أنَّ أل ليست موصولةً ، أو موصولةٌ واتُّسِعَ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه ، أو قَسَمٌ وجوابُه متقدِّمٌ وهو « فلا يَصِلُون » ، أو مِنْ لَغْوِ القسمِ . قالهما الزمخشري . ورَدَّ عليه الشيخُ بأنَّ جوابَ القسمِ لا تدخُلُه الفاءُ عند الجمهور . ويريدُ بلَغْوِ القسمِ أنَّ جوابَه محذوفٌ أي : وحَقِّ آياتِنَا لتَغْلُبُنَّ .

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

قوله : { وَقَالَ موسى } : هذه قراءةُ العامَّة بإثباتِ واوِ العطفِ . وابنُ كثيرٍ حَذَفَها ، وكلٌ وافقَ مصحفَه؛ فإنها ثابتةٌ في المصاحفِ غيرَ مصحفِ مكةَ . وإثباتُها وحَذْفُها واضحان ، وهو الذي يسميِّه أهلُ البيان الوصلَ والفصلَ .
قوله : { وَمَن تَكُونُ } قرأ العامَّةُ « تكون » بالتأنيث و « له » خبرُها « وعاقبةُ » اسمُها . ويجوزُ أَنْ يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ ، والتأنيثُ لأجلِ ذلك ، و { لَهُ عَاقِبَةُ الدار } جملةٌ في موضع الخبرِ . وقرىء بالياء مِنْ تحتُ ، على أَنْ تكونَ « عاقبةٌ » اسمَها والتذكيرُ للفصلِ؛ لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ . ويجوزُ أن يكون اسمُها ضميرَ الشأنِ . والجملةُ خبرٌ كما تقدم . ويجوزُ أَنْ تكونَ تامةً ، وفيها ضميرٌ يرجِعُ إلى « مَنْ » ، والجملةُ في موضعِ الحالِ . ويجوز أن تكونَ ناقصةً ، واسمُها ضميرُ « مَنْ » / ، والجملةُ خبرُها .

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)

قوله : { بِغَيْرِ الحق } : حالٌ أي : استكبروا مُلتبسينَ بغيرِ الحقِّ .
قوله : { لاَ يُرْجَعُونَ } قرأ نافعٌ والأخوان مبنياً للفاعل . والباقون للمفعول .

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

قوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ } أي : صَيَّرْناهم . وقال الزمخشري : « دَعَوْناهم » كأنه فرََّ مِنْ نسبةِ ذلك إلى الله تعالى ، أعني التصييرَ؛ لأنه لا يوافِقُ مذهبَه . و « يَدْعُون » صفةٌ ل « أَئمةً » .
قوله : { وَيَوْمَ القِيَامَةِ } فيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يتعلَّقَ ب « المقبوحين » على أنّ أل ليست موصولةً ، أو موصولةٌ واتُّسِع فيه ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يُفَسِّره المقبوحين ، كأنه قيل : وقُبِّحُوا يومَ القيامةِ نحو : { لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء : 168 ] أو يُعْطَفَ على موضع « في الدنيا » أي : وأَتْبَعْناهم لعنةً يوم القيامة ، أو معطوفةٌ على « لعنةً » على حذفِ مضافٍ أي : ولعنةَ يوم القيامة . والوجهُ الثاني أظهرُها .
والمقبوحُ : المطرودُ . قبَّحه الله : طرده . قال :
3616 ألا قَبَّح اللهُ البراجِمَ كلِّها ... وجَدَّعَ يَرْبُوعاً وعَقَّر دارِما
وسُمِّيَ ضِدُّ الحُسْنِ قبيحاً؛ لأنَّ العينَ تَنْبُو عنه ، فكأنها تطردُه يُقال : قَبُح قَباحةً . وقيل : من المقبوحينَ : من المَوْسومين بعلامةً مُنْكَرَةٍ كزُرْقة العيون وسوادِ الوجوهِ . والقبيحُ أيضاً : عَظْمُ الساعدِ ممَّا يلي النصفَ منه إلى المِرْفَقِ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

قوله : { بَصَآئِرَ } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وأن يكونَ حالاً : أمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا بصائرَ أو على المبالغة .

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)

قوله : { بِجَانِبِ الغربي } : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ حَذْفِ الموصوف وإقامةِ صفتهِ مُقامَة أي : بجانبِ المكانِ الغربيِّ ، وأَنْ يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، وهو مذهبُ الكوفيين . ومثلُه : « بَقْلةُ الحمقَاء ، ومَسْجد الجامع » .

وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

قوله : { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا } : وجهُ الاستداركِ : أنَّ المعنى وما كنتَ شاهداً لموسى ما جَرَى عليه ، ولكنَّا أَوْحَيْناه إليك . فذكر سببَ الوَحْيِ الذي هو إطالةُ الفترةِ ، ودَلَّ به على المسَبَّب ، على عادةِ الله تعالى في اختصاراته . فإذن هذا الاستداركُ هو شبيهُ بالاستدراكَيْن بعده . قاله الزمخشري بعد كلامٍ طويل .
قوله : { ثَاوِياً } أي : مُقيماً يقال : ثوى يَثْوِي ثَواءً وَثَوِّياً ، فهو ثاوٍ ومَثْوِيٌّ . قال ذو الرمة :
3617 لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثوَيْتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ ويُسْأَمُ سائِمُ
وقال آخر :
3618 طال الثَّواءُ على رُسومِ المنزلِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال العجاج :
3619 فباتَ حيث يَدْخُلُ الثَّوِيُّ ... يعني : الضيفَ المقيم .
قوله : { تَتْلُواْ } يجوز أن يكونَ حالاً مِن الضميرِ في « ثاويا » ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأنْ يكونَ هو الخبرَ و « ثاوياً » حالٌ . وجعله الفراء منقطعاً مِمَّا قبلَه أي : مستأنفاً كأنه قيل : وها أنت تَتْلُو على أمَّتِك . وفيه بُعدٌ .

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

قوله : { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } : في موضع الصفةِ ل « قوماً » .
[ قوله : ] { ولكن رَّحْمَةً } أي : أَرْسَلْناك رحمةً أو أَعْلمناك بذلك رحمةً . وقرأ عيسى وأبو حيوةَ بالرفع أي : أنت رحمةٌ .

وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : { ولولا أَن تُصِيبَهُم } : هي الامتناعيةُ . وأنْ وما في حَيِّزها في موضعِ رفعٍ بالابتداءِ . أي : ولولا إصابتُهم المصيبةَ . وجوابُها محذوفٌ فقدَّره الزجاج : « ما أرْسَلْنا إليهم رُسُلاً » يعني : أنَّ الحاملَ على إرسالِ الرسلِ إزاحةُ عِلَلِهم بهذا القولِ فهو كقولِه : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] . وقدَّره ابنُ عطية : « لعاجَلْناهم » ولا معنى لهذا .
و « فَيَقولوا » عطفٌ [ على ] « تُصيبَهم » ، و « لولا » الثانيةُ تحضيضٌ و « فنَتَّبِعَ » جوابُه ، فلذلك نُصِبَ بإضمار « أَنْ » . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : كيف استقامَ هذا المعنى ، وقد جُعِلَتْ العقوبةُ هي السببية لا القولُ؛ لدخولِ حرفِ الامتناعِ عليه دونَه؟ قلت : القولُ هو المقصودُ بأَنْ يكونَ سبباً للإِرسال ولكنَّ العقوبةَ لَمَّا كانت هي السببَ للقولِ ، وكان وجودُه بوجودِها جُعِلَتِ العقوبةُ كأنها سببٌ للإِرسالِ بواسطة القولِ فَأُدْخلَتْ عليها » لولا « . وجيْءَ بالقول معطوفاً عليها بالفاءِ المُعْطِيَةِ معنى السببية ، ويَؤُول معناه إلى قولِك : » ولولا قولُهم هذا إذا أصابَتْهم مصيبةٌ لَمَا أَرْسَلْنا « ولكن اخْتِيْرَتْ هذه الطريقةُ لنُكتةٍ : وهي أنهم لو لم يُعاقَبوا مثلاً على كفرِهم وقد عاينوا ما أُلْجِئوا به إلى العلمِ اليقين لم يقولوا : لولا أَرْسَلْتَ إلينا رسولاً ، وإنما السببُ في قولِهم هذا هو العقابُ لا غيرَ ، لا التأسُّفُ على ما فاتهم من الإِيمان بخالِقهم » .

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)

قوله : { مِن قَبْلُ } : إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بيَكْفروا ، أو ب « أُوْتِي » أي : مِنْ قبلِ ظهورِك .
قوله : { سِحْرَانِ } قرأ الكوفيون « سِحْران » أي : هما . أي : القرآن/ والتوراة ، أو موسى وهارون وذلك على المبالغةِ ، جعلوهما نفسَ السِّحْرِ ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : ذَوا سِحْرَيْن . ولو صَحَّ هذا لكانَ يَنبغي أن يُفْرَدَ « سِحْر » ولكنه ثُنِّيَ تنبيهاً على التنويع . وقيل : المرادُ موسى ومحمدٌ عليهما السلام أو التوراةُ والإِنجيلُ . والباقون « ساحران » أي : موسى وهارون أو موسى ومحمدٌ كما تقدَّم .
قوله : { تَظَاهَرَا } العامَّةُ على تخفيفِ الظاءِ فعلاً ماضياً صفةً ل « سِحْران » أو « ساحران » أي : تَعاوَنا . وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذِّماري وأبو حيوة واليزيدي بشديدِها . وقد لحَّنهم الناسُ . قال ابن خالويه : « تشديدُه لَحْنٌ؛ لأنه فعلٌ ماضٍ . وإنما يُشَدَّد في المضارع » . وقال الهُذَلي : « لا معنى له » وقال أبو الفضل : « لا أعرفُ وجهَه » . وهذا عجيبٌ من هؤلاءِ وقد حُذِفَتْ نونُ الرفع في مواضعَ ، حتى في الفصيح ، كقولِه عليه السلام : « لا تَدْخلوا الجنةَ حتى تؤْمِنوا ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا » ولا فرقَ بين كونِها بعد واوٍ وألفٍ أو ياءٍ ، فهذا أصلُه « تَتَظاهران » فَأُدْغِم وحُذِفت نونُه تخفيفاً .
وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبد الله « اظَّاهَرا » بهمزةِ وصلٍ وشدِّ الظاءِ ، وأصلُها « تَظاهرا » كقراءةِ العامةِ ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَّنْتَ الأولَ فاجْتُلبَتْ همزةُ الوصل .

قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)

قوله : { أَتَّبِعْهُ } : جوابُ الأمرِ وهو « فَأْتوا » . « منهما » أي : من التوراةِ والقرآنِ ، وهو مؤيدٌ لقراءة « سِحْران » ، أو مِنْ كتابَيْهُما على حذف مضافٍ ، وهو مؤيد لقراءةِ « ساحِران » . وزيد بن علي « أتَّبِعُه » بالرفع استئنافاً أي : فأنا أتَّبعُه .

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

[ قوله ] : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } : استجاب بمعنى أجاب . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين فعلِ الاستجابة في الآيةِ وبينه في قولِه :
3620 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجِيْبُ
حيثُ عُدِّيَ بغيرِ لامٍ؟ قلت : هذا الفعلُ يتعدى إلى الدعاء بنفسِه وإلى الداعي باللام ، ويُحْذَفُ الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب ، فيقال : » استجاب اللهُ دعاءَه « أو » استجاب له « ، ولايكاد يُقال : استجاب له دعاءَه . وأمَّا البيتُ فمعناه : فلم يَسْتَجبْ دعاءَه على حذفِ المضاف » . قلت : قد تقدَّم تقريرُ هذا في البقرة ، وأنَّ استجابَ بمعنى أجاب . والبيتُ الذي أشار إليه هو :
وداعٍ دَعا يا مَنْ يُجيب إلى الندى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

قوله : { وَصَّلْنَا } : العامَّةُ على التشديد : إمَّا من الوصلِ ضدِّ القطع أي : تابَعْنا بعضَه ببعض . وأصلُه مِنْ وَصْلِ الحَبْل . قال الشاعر :
3621 فَقُلْ لبني مروانَ ما بالُ ذِمَّتي ... بحبلٍ ضعيفِ لا يَزال يُوَصَّل
وإمَّا : جَعَلْناه أَوْصالاً ، أي : أنواعاً من المعاني . قاله مجاهد . والحسن قرأ بتخفيفِ الصاد . وهو قريبٌ ممَّا تقدَّم .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

قوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ } : مبتدأٌ ، و « هم » مبتدأ ثانٍ ، و « يؤْمِنون » خبرُه . والجملةُ خبرُ الأولِ و « به » متعلِّقٌ ب « يُؤْمِنون » . وقد يُعَكِّر على الزمخشريِّ وغيرِه مِنْ أهل البيانِ حيث قالوا : التقديمُ يُفيد الاختصاصَ وهنا لا يتأتَّى ذلك ، لأنهم لو خَصُّوا إيمانَهم بهذا الكتابِ فقط لَزِمَ كفرُهم بما عَداه ، وهو عكسُ المرادِ ، وقد أبدى أهلُ البيانِ هذا في قوله : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] فقالوا : لو قَدَّم « به » لأَوْهَمَ الاختصاصَ بالإِيمان بالله وحدَه دونَ ملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخر ، وهذا بعينِه جارٍ هنا . والجوابُ : أنَّ الإِيمانَ بغيرهِ معلومٌ فانصَبَّ الغرضُ إلى الإِيمانِ بهذا .

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

قوله : { مَّرَّتَيْنِ } : منصوبٌ على المصدرِ . و { بِمَا صَبَرُواْ } « ما » مصدريةٌ . والباءُ تتعلَّق ب « يُؤْتَوْن » أو بنفسِ الأَجْر .

وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

قوله : { نُتَخَطَّفْ } : العامَّةُ على الجزمِ جواباً للشرطِ . والمنقَري بالرفعِ على حَذْفِ الفاءِ كقوله :
3622 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكقراءة « يُدْرِكُكُمْ » [ النساء : 78 ] بالرفع أو على التقديم ، وهو مذهب سيبويه .
قوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً } قال أبو البقاء : « عَدَّاه بنفسه لأنه بمعنى جَعَلَ . وقد صَرَّح به في قولِه { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً } [ العنكبوت : 67 ] ومَكَّن متعدٍّ بنفسِه مِنْ غيرِ أنُ يُضَمِّنَ معنى » جَعَلَ « كقوله : { مَكَّنَّاهم } . وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام .
و » آمِناً « قيل : بمعنى مُؤَمَّن/ أي : يُؤَمَّن مَنْ دخله . وقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ أي : آمناً أهلُه . وقيل : فاعِل بمعنى النَّسبِ أي : ذا أَمنٍ .
قوله : { يجبى } قرأ نافعٌ بتاءِ التأنيثِ مراعاةً للفظِ » ثَمَرات « . والباقون بالياء للفَصْلِ ، ولأنه تأنيثٌ مجازيٌ . والجملةُ صفةٌ ل » حرماً « أيضاً . وقرأ العامَّةُ » ثَمَرات « بفتحَتْين . وأبان بضمتين جمع ثُمُر بضمتَيْن . وبعضُهم بفتحٍ وسكونٍ .
قوله : » رِزْقاً « إنْ جَعَلْتَه مصدراً جاز انتصابُه على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى » يجبى إليه « : يَرْزُقهم ، وأَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له . والعاملُ محذوفٌ أي نَسُوْقه إليه رِزْقاً ، وأَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ » ثَمَرات « لتخصيصِها بالإِضافةِ ، وإنْ جَعَلْتَه اسماً للمرزوقِ انتصبَ على الحال مِنْ » ثَمَرات « .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

قوله : { مَعِيشَتَهَا } : فيه أوجهٌ : مفعولٌ به على تضمينِ بَطِرَتْ خَسِرَت ، أو على الظرف أي : أيام معيشتها قاله الزجاج أو على حذف « في » أي : في معيشتِها ، أو على التمييز ، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريبٌ مِنْ { سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
قوله : { لَمْ تُسْكَن } جملةٌ حاليةٌ ، والعاملُ فيها معنى « تلك » . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } أي : إلاَّ سَكَناً قليلاً كسكونِ المسافر ونحوِه ، أو إلاَّ زمناً قليلاً ، أو إلاَّ مكاناً قليلاً . يعني أن القليلَ منها قد سكن .

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)

قوله : { فَمَتَاعُ } : أي : فهو مَتاعُ . وقُرِىء « فمتاعاً الحياةَ » بنصبِ « متاعاً » على المصدر أي : يتمتَّعون متاعاً ، و « الحياةَ » نصبٌ على الظرف .
قوله : { تَعْقِلُونَ } قرأ أبو عمرو بالياءِ مِنْ تحتُ التفاتاً . والباقون بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم .

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

وقرأ طلحة « أمَنْ وَعَدْناه » بغيرِ فاءٍ .
قوله : { ثُمَّ هُوَ } : الكسائي وقالون بسكونِ الهاءِ إجراءً ل ثم مجرى الواو والفاء . والباقون بالضمِّ على الأصل .

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)

قوله : { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } : مفعولاه محذوفان أي : تزعمونهم شركاءَ .

قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)

قوله : { هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ } فيه وجهان ، أحدهما ، أنه مبتدأ ، و « الذين أَغْوَيْنا » صفةٌ للمبتدأ . والعائدُ محذوفٌ أي : أَغْويناهم ، والخبر « أَغْوَيْناهم » . و { كَمَا غَوَيْنَا } نعتٌ لمصدرٍ محذوف . ذلك المصدرُ مطاوِعٌ لهذا الفعلِ أي : [ أَغْوَيناهم ] فَغَوَوْا غَيَّاً كما غَوَيْنا . قاله الزمخشريُّ . وهذا الوجهُ مَنعه أبو علي قال : « لأنه ليس في الخبر زيادةُ فائدةٍ على ما في صفتِه » . قال : « فإنْ قلتَ : قد وُصِل بقوله { كَمَا غَوَيْنَا } وفيه زيادةٌ . قلت : الزيادةُ في الظرفِ لا تُصَيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظروفَ صِلاتٌ » ثم أعرب هو « هؤلاء » مبتدأً و « الذين أَغْوَيْناهم » خبرَه . و « أَغْوَيْناهم » مستأنف . وأجابَ أبو البقاء وغيرُه عن الأول : بأنَّ الظرفَ قد يَلْزَمُ كقولك : « زيد عمرٌو في دارِه » .
قوله : { مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } « إيَّانا » مفعولُ « يَعْبُدون » قدِّم لأجلِ الفاصلةِ . وفي « ما » وجهان ، أحدهما : هي نافيةٌ ، والثانيةُ مصدريةٌ . ولا بُدَّ مِنْ تقديرِ حرفِ جرٍّ أي : تَبَرَّأْنا مِنْ ما كانوا أي : مِنْ عبادتِهم إيانا . وفيه بُعدٌ .

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)

قوله : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ } : جوابُها محذوفٌ أي : لَمَا رَأَوَا العذابَ أو لَدَفعوه .

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

قوله : { فَعَمِيَتْ } : العامَّةُ على تخفيفها . وقرأ الأعمشُ وجناح بن حبيش بضمِّ العينِ وتشديدِ الميم . وقد تقدَّمت القراءتان للسبعةِ في هود . وقرأ طلحة « لا يَسَّاءَلُوْن » بتشديدِ السينِ على إدغامِ التاءِ في السينِ كقراءةِ { تَسَّآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] .

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

قوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أن « ما » نافيةٌ فالوقفُ على « يَخْتار » . والثاني : « ما » مصدريةٌ أي : يختار اختيارَهم ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي : مُختارهم .
الثالث : أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : ما كان لهم الخيرةُ فيه كقولِه : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي : منه .
وجَوَّزَ ابنُ عطية أَنْ تكونَ « كان » تامةً و « لهم الخِيَرَةُ » جملةٌ مستأنفةٌ . قال : « ويَتَّجه عندي أن تكون » ما « مفعولةً إذا قدَّرْنا كان التامةَ أي : إنَّ اللهَ يختار كلِّ كائنٍ . و » لهم الخيرةُ « مستأنفٌ . معناه تعديدُ النِّعمِ عليهم في اختيار الله لهم لو قَبلوا » . وجعل بعضُهم في « كان » ضميرَ الشأن/ وأنشد :
3633 أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العين تَذْرِيْفُ ... لو كان ذا منك قبل اليوم معروفُ
ولو كان « ذا » اسمَها لقال : « معروفاً » . وابنُ عطيةَ منع ذلك في الآية قال : « لأنَّ تفسيرَ الأمرِ والشأنِ لا يكون بجملةٍ فيها محذوف » . قلت : كأنه يريد أنَّ الجارَّ متعلقٌ بمحذوفٍ . وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مصرَّح بجزْأَيْها . إلاَّ أنَّ في هذا نظراً إنْ أراده؛ لأن هذا الجارَّ قائمٌ مقامَ الخبرِ . ولا أظنُّ أحداً يمنعُ « هو السلطان في البلد » و « هي هندٌ في الدار » .
والخِيَرَةُ مِنَ التخيير ، كالطِّيَرَةِ من التَّطَيُّرِ فيُستعملان استعمالَ المصدر . وقال الزمخشري : « ما كان لهم الخيرةُ بيانٌ لقولِه » ويختار « لأنَّ معناه : ويختار ما يشاءُ ، ولهذا لم يَدْخُلِ العاطفُ . والمعنىؤ : أنَّ الخِيَرَةَ للهِ تعالى في أفعالِه ، وهو أعلمُ بوجوهِ الحكمة فيها ليس لأحدٍ مِنْ خَلْقِه أَنْ يختار عليه » . قتل : لم يَزَلِ الناسُ يقولون : إن الوقفَ على « يختار » ، والابتداءَ ب « ما » على أنها نافيةٌ هو مذهبُ أهلِ السنةِ . ونُقِل ذلك عن جماعةٍ كأبي جعفرٍ وغيرِه ، وأنَّ كونَها موصولةً متصلةً ب « يختار » غيرَ موقوفٍ عليه مذهبُ المعتزلة . وهذا الزمخشريُّ قد قَّررَ كونَها نافيةً ، وحَصَّل غرضَه في كلامِه ، وهو موافقٌ لكلامِ أهلِ السُّنةِ ظاهراً ، وإنْ كان لا يريده . وهذا الطبريُّ مِنْ كبار أهل السنة مَنَعَ أَنْ تكونَ [ ما ] نافيةً قال : لئلا يكون المعنى : أنَّه لم تكنْ لهم الخيرةُ فيما مضى ، وهي لهم فيما يُستقبل ، وأيضاً فلم يتقدَّمْ نفيٌ « . وهذا الذي قاله ابنُ جريرٍ مَرْوِيٌّ عن ابن عباس . وقال بعضُهم : ويختار لهم ما يشاء من الرسلِ ، ف » ما « على هذا واقعةٌ على العقلاء .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)

قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } : « أَرَأَيْتُمْ » و « جَعَلَ » تنازعا في « الليلَ » وأعملَ الثاني . ومفعولُ « أَرَأَيْتُم » هي جملةُ الاستفهامِ بعده . والعائدُ منها على « الليل » محذوفٌ ، وتقديرُه : بضياءٍ بعدَه . وجوابُ الشرطِ محذوفٌ . وتحريرُ هذا قد مَضَى في الأنعام فهو نظيرُه .
و « سَرْمَداً » مفعولٌ ثانٍ ، إنْ كان الجَعْلُ تصييراً ، أو حالٌ إن كان خَلْقاً وإنشاءً . والسَّرْمَدُ : الدائمُ الذي لا ينقطعُ . قال طرفة :
3624 لَعَمْرُكَ ما أَمْريْ عليَّ بغُمَّةٍ ... نهاري ولا لَيْلي عَلَيَّ بسَرْمَدِ
والظاهرُ أنَّ ميمَهُ أصليةٌ ، ووزنُه فَعْلَل كجَعْفَر . وقيل : هي زائدةٌ . واشتقاقُه من السَّرْد ، وهو تتابُعُ الشيءِ على الشيءِ ، إلاَّ أنَّ زيادةِ الميمِ وَسَطاً وأخيراً لا يَنْقاسُ نحو : دُلامِص ، وزُرْقُم ، من الدِّلاص والزُّرْقَة .
قوله : { إلى يَوْمِ } متعلقٌ ب « جَعَل » ، أو ب « سَرْمداً » ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « سَرْمَداً » .

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

قوله : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ } : من باب اللَّفِّ والنشر . ومنه :
3625 كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

قوله : { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ } : « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، صلتُها « إنَّ » وما في حَيِّزها ، ولهذا كُسِرَتْ . ونَقَل الأخفش الصغير عن الكوفيين مَنْعَ الوَصْلِ ب « إنَّ » ، وكان يَسْتَقْبح ذلك عنهم . يعني لوجودِه في القرآن .
قوله : { لَتَنُوءُ بالعصبة } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الباءَ للتعديةِ كالهمزةِ ، ولا قَلْبَ في الكلام . والمعنى : لَتُنِيْءُ المفاتيحُ العُصْبَةَ الأقوياءَ ، كما تقولُ : أَجَأْتُه وجِئْتُ به ، وأَذْهَبْتُه وذَهَبْتُ به . ومعنى ناء بكذا : نَهَضَ بِهِ بثِقَلٍ . قال :
3626 تَنُوْءُ بأُخْراها فَلأْياً قِيامُها ... وَتَمْشِي الهوينى عن قَريبٍ فَتَبْهَرُ
وقال أبو زيد : « نُؤْتُ بالعَمَل أي : نَهَضْتُ » . قال :
3627 إذا وَجَدْنا خَلَفاً بِئْسَ الخَلَفْ ... عبداً إذا ما ناء بالحِمْلِ وَقَفْ
وفَسَّره الزمخشريُّ بالإِثْقال . قال : « يُقال : ناء به الحِمْلُ ، حتى أَثْقله وأماله » وعليه يَنْطبقُ المعنى أي : لَتُثْقِلُ المفاتحُ العُصْبةَ .
والثاني : أنَّ في الكلام قَلْباً ، والأصلُ : لَتَنُوْءُ العُصْبةُ بالمفاتحِ ، أي : لَتَنْهَضُ بها . قاله أبو عبيد ، كقولهم : « عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ » . وقد تقدم الكلامُ في القَلْبِ ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ .
وقرأ بُدَيْل بن مَيْسَرة « لَيَنُوْءُ » بالياء مِنْ تحتُ والتذكير؛ لأنه راعى المضافَ المحذوفَ . إذ التقديرُ : حِمْلُها أو ثِقْلُها . وقيل : الضَمير في « مفاتِحَه » لقارون ، فاكتسب المضافُ من المضاف إليه التذكيرَ كقولِهم : « ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ » قاله الزمخشري . يعني كما اكتسبَ « أهلُ » التأنيثَ اكتسَبَ هذا التذكيرَ .
قوله : { إِذْ قَالَ } فيه أوجهٌ : أَنْ يكونَ معمولاً لتنوءُ . قاله الزمخشري : أو ل « بغى » قاله ابنُ عطية . ورَدَّهما الشيخُ : / بأنَّ المعنى ليس على التقييد بهذا الوقتِ . أو ل « آتيناه » قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ : بأن الإِتياءَ لم يكنْ ذلك الوقتَ ، أو لمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء : بَغَى عليهم . وهذا يَنْبغي أَنْ يُرَدَّ بما رُدَّ به قولُ ابنِ عطية . وقَدَّره الطبري : اذكُرْ ، وقَدَّره الشيخُ : أظهر الفرحَ وهو مناسِبٌ .
وقُرِىء « الفارِحين » حكاها عيسى الحجازي .

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

قوله : { فِيمَآ آتَاكَ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « ابْتَغٍ » ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ أي : مُتقلِّباً فيما آتاكَ . و « ما » مصدريةٌ أو بمعنى الذي .
قوله : { كَمَآ أَحْسَنَ } أي : إحْساناً كإحسانه إليك .
قوله : { فِي الأرض } يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب « تَبْغِ » أو بالفساد ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ وهو بعيدٌ .

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

قوله : { على عِلْمٍ } : حالٌ مِنْ مرفوع « أُوتِيْتُه » .
قوله : { عندي } إمَّا ظرفٌ ل « أُوْتِيْتُه » ، وإمَّا صفةٌ للعلم .
قوله : { مَنْ هُوَ أَشَدُّ } : « مَنْ » موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ . وهو في موضع المفعولِ ب « أَهْلَكَ » . و « مِنْ قبلِه » متعلقٌ به . و « مِنَ القرون » يجوزُ فيه ذلك ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « مَنْ هو أشدُّ » .
قوله : { وَلاَ يُسْأَلُ } هذه قراءةُ العامَّةِ على البناء للمفعول ، وبالياءِ مِنْ تحتُ ورَفْعِ الفعلِ . وقرأ أبو جعفر « ولا تُسْأَلْ » بالتاء مِنْ فوقُ والجزم . وابنُ سيرين وأبو العالية كذلك ، إلاَّ أنه مبنيٌّ للفاعل وهو المخاطَبُ . قال ابن أبي إسحاق : « لا يجوزُ ذلك حتى تنصبَ المجرمين » . قال صاحب اللوامح : « هذا هو الظاهرُ؛ إلاَّ أنه لَمْ يَبْلُغْني فيه شيء . فإنْ تَرَكاه مرفوعاً فيحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ ِ » المجرمون « خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم المجرمون . والثاني : أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ أصلِ الهاءِ والميم في » ذُنوبهم « ، لأنهما مرفوعا المحلِّ » يعني أنَّ ذنوباً مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . قال : « فحمل المجرمون على الأصلِ ، كما تقدَّم لنا في قراءةِ { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةٍ } [ البقرة : 26 ] بجرِّ بعوضة . وكان قد خَرَّجها على أن الأصلَ : بضَرْب مَثَلِ بعوضةٍ » وهذا تعسُّفٌ كثيرٌ . ولا ينبغي أَنْ يَقْرأ ابنُ سيرين وأبو العالية إلاَّ « المجرمين » بالياءِ فقط ، وإنما تُرِك نَقْلُها لظهورِه .

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

قوله : { فِي زِينَتِهِ } : إمَّا متعلِّقٌ ب « خَرَجَ » ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ « خَرَجَ » .

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

قوله : { وَيْلَكُمْ } : منصوبٌ بمحذوفٍ أي : أَلْزمَكم اللهُ وَيْلَكم .
قوله : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ } أي : هذه الخَصْلَةُ ، وهي الزهدُ في الدنيا والرغبةُ فيما عند الله .

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

قوله : { فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِه } : المشهورُ كَسْرُ هاءِ الكنايةِ في « به » و « بداره » لأجلِ كسرِ ما قبلَها . وقُرِىءَ بضمِّها . وقد تقدَّم أنها الأصلُ ، وهي لغةُ الحجازِ .
قوله : { مِن فِئَةٍ } يجوز أن تكونَ اسمَ كان ، إنْ كانَتْ ناقصةً ، و « له » الخبرُ ، أو « يَنْصُرونه » ، وأَنْ تكونَ فاعلةً إنْ كانَتْ تامَّةً ، و « يَنْصُرونه » صفةٌ ل « فِئَة » فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ لفظاً وبالرفعِ معنى؛ لأنَّ « مِنْ » مزيدةٌ فيها .

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

قوله : { وَيْكَأَنَّ الله } : و « ويْكَأنَّه » فيه مذاهبُ منها : أنَّ « وَيْ » كلمةٌ برأسِها وهي اسمُ فعلٍ معناها أَعْجَبُ أي أنا . والكافُ للتعليل ، وأنَّ وما في حَيِّزها مجرورةٌ بها أي : أَعْجب لأنه لا يفلحُ الكافرون ، وسُمِع « كما أنه لا يَعْلَمُ غفر اللهُ له » . وقياسُ هذا القولِ أَنْ يُوْقَفَ على « وَيْ » وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائيُّ . إلاَّ أنه يُنْقل عنه أنه يُعتقدُ في الكلمةِ أنَّ أصلَها : وَيْلَكَ كما سيأتي ، وهذا يُنافي وَقْفَه . وأنشد سيبويه :
3628 وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
الثاني : قال بعضهم : قوله : « كأنَّ » هنا للتشبيه ، إلاَّ أنه ذهب منها معناه ، وصارت للخبرِ واليقين . وأنشد :
3629 كأنني حين أُمْسِي لا تُكَلِّمُني ... مُتَيَّمٌ يَشْتهي ما ليس موجودا
وهذا أيضاً يناسِبُه الوقفُ على « وَيْ » .
الثالث : أنَّ « وَيْكَ » كلمةٌ برأسِها ، والكافَ حرفُ خطابٍ ، و « أنَّ » معمولٌه محذوفٌ أي : أعلمُ أنه لا يُفْلِحُ . قاله الأخفش . وعليه قولُه :
3630 ألا وَيْكَ المَسَرَّةُ لا تَدُوْمُ ... ولا يَبْقى على البؤسِ النعيمُ
وقال عنترةُ :
3631 ولقد شَفَى نفسي وأَبْرَأَ سُقْمَها/ ... قيلُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقْدمِ
وحقُّه أَنْ يقفَ على « وَيْكَ » وقد فعله أبو عمرو بن العلاء .
الرابع : أنَّ أصلَها وَيْلك فحذف . وإليه ذهب الكسائيُّ ويونس وأبو حاتم . وحقُّهم أَنْ يقفوا على الكافِ كما فعل أبو عمرٍو . ومَنْ قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين؛ فإنه يُحتمل أَنْ يكونَ الأصلُ فيهما : وَيْلَكَ ، فحذف . ولم يُرسَمْ في القرآن إلاَّ : وَيْكأنَّ ، ويْكَأنَّه متصلةً في الموضعين ، فعامَّةُ القراءِ اتَّبعوة الرسمَ ، والكسائيُّ وقف على « وَيْ » ، وأبو عمرٍو على وَيْكَ . وهذا كلُّه في وَقْفِ الاختبارِ دونَ الاختيارِ كنظائرَ تقدَّمَتْ .
الخامس : أنَّ « وَيْكأنَّ » كلَّها كلمةٌ متصلةٌ بسيطةٌ ، ومعناها : ألم تَرَ ، ورُبَّما نُقِل ذلك عن ابن عباس . ونَقَلَ الكسائيُّ والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صُنْعِ الله . وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رَحْمَةً لك ، في لغة حِمْير .
قوله : { لولا أَن مَّنَّ } قرأ الأعمشُ « لولا مَنَّ » بحذفِ « أنْ » وهي مُرادةٌ؛ لأنَّ « لولا » هذه لا يَليها إلاَّ المبتدأُ . وعنه « مَنُّ » برفع النونِ وجَرِّ الجلالةِ وهي واضحةٌ .
قوله : { لَخَسَفَ } حفص : « لَخَسَفَ » مبنياً للفاعل أي : الله تعالى . والباقون ببنائِه للمفعولِ . و « بنا » هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ . وعبد الله وطلحةُ « لا نْخُسِفَ بنا » أي : المكان . وقيل : « بنا » هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ ، كقولك « انقُطِع بنا » وهي عبارةٌ . . . وقيل : الفاعلُ ضميرُ المَصدرِ أي : لا نخسَفَ الانخسافَ ، وهي عِيٌّ أيضاً . وعن عبدِ الله « لَتُخُسِّفَ » بتاءٍ من فوقُ وتشديدِ السين مبنياً للمفعولِ ، و « بنا » قائمةٌ مقامَه .

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

قوله : { تِلْكَ الدار } : مبتدأٌ وصفتُه . و « نجعلها » هو الخبرُ . ويجوز أَنْ تكونَ « الدارُ » خبراً ، و « نَجْعَلُها » خبرٌ آخرُ ، أو حالٌ . والأول أحسنُ .
قوله : { وَلاَ فَسَاداً } كَرَّر « لا » ليُفيدَ أنَّ كلاً منهما مستقلٌ في الآية لا مجموعُهما .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

قوله : { فَلاَ يُجْزَى الذين } : مِنْ إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ تَشْنيعاً عليهم .
قوله : { إِلاَّ مَا كَانُواْ } أي : إلاَّ مثلَ ما كانوا .

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)

قوله : { إلى مَعَادٍ } : تنكيرُه للتعظيم أَيْ : مَعادٍ أيِّ مَعادٍ وهو مكةُ أو الجنة .
قوله : { مَن جَآءَ بالهدى } منصوبٌ بمضمرٍ أي : يعلمُ أو ب أَعْلم ، إنْ جَعَلْناها بمعنى عالم وأَعْمَلْناها إعمالَه .

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً } : فيه وجهان ، أحدهما : هو منقطعٌ أي لكنْ رَحِمَكَ رحمةً . والثاني : أنه متصلٌ . قال الزمخشري : « هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى . كأنه قيل : وما ألقى إليك الكتابَ إلاَّ رحمةً » فيكونُ استثناءً من الأحوالِ أو من المفعولِ له .
قوله : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ } قرأ العامَّةُ بفتح الياء وضمِّ الصاد ، مِنْ صَدَّه ، يَصُدَّه . وقٌرِىء بضمِّ الياء وكسرِ الصاد مِنْ أصَدَّه بمعنى صَدَّه ، حكاها أبو زيدٍ عن كلبٍ . قال :
3632 أناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهم ... صُدودَ السَّوافي عن أُنوفِ المَخارِمِ
وأصلُ يَصُدُّونك : يَصُدُّونَنَّك ، فَفُعِل فيه ما فُعِل في { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [ هود : 8 ] .

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله : { إِلاَّ وَجْهَهُ } : مَنْ جَعَل « شيئاً » يُطْلَق على الباري تعالى وهو الصحيح قال : هذا استثناءٌ متصلٌ ، والمرادُ بالوجهِ الذاتُ ، وإنما جرى على عادةِ العربِ في التعبير بالأشرفِ عن الجملة . ومَنْ لم يُطْلِقْ عليه جَعَله متصلاً أيضاً ، وجعل الوجهَ ما عُمِل لأجله أو الجاهَ الذي بين الناس ، أو يجعلُه منقطعاً أي : لكن هو بحاله لم يَهْلَكْ .
قوله : { تُرْجَعُونَ } العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وعيسى على بنائِه للفاعل ، وهي حسنةٌ .

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { أَن يتركوا } : سَدَّ مَسَدَّ مفعولَيْ حَسِب عند الجمهور ، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ .
قوله : « أنْ يقولوا » فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « أَنْ يُتْرَكوا » ، أبدلَ مصدراً مؤولاً مِنْ مثلِه . الثاني : أنها على إسقاط الخافض وهو الباءُ ، أو اللام ، أي : بأَنْ يَقولوا ، أو لأن يقولوا . قال ابن عطية وأبو البقاء : « وإذا قُدِّرَتِ الباءُ كان حالاً » . قال ابن عطية : « والمعنى في الباء واللام مختلفٌ؛ وذلك أنَّه في الباء كما تقول : » تركْتُ زيداً بحالِه « / وهي في اللام بمعنى مِنْ أجل أي : أَحَسِبوا أنَّ إيمانَهم عِلةٌ للترك » انتهى . وهذا تفسيرُ معنى ، ولو فَسَّر الإِعرابَ لقال : أَحُسْبانُهم التركَ لأجل تلفُّظِهم بالإِيمان .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : فأين الكلامُ الدالُّ على المضمونِ الذي يَقْتضيه الحُسبانُ؟ قلت : هو في قولِه : { أَن يتركوا أَن يقولوا : آمَنَّا ، وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } . وذلك أنَّ تقديرَه : أَحَسِبُوا تَرْكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم : آمنَّا ، فالتركُ أولُ مفعولَيْ » حَسِب « و » لقولهم آمنَّا « هو الخبر . وأمَّا غيرَ مفتونين فتتمةُ التركِ؛ لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
3633 - فَتَرَكْتُه جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحُسْبان تَقْدِرُ أَنْ تقولَ : تَرَكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم : آمنَّا على [ تقدير ] : حاصل ومستقر قبل اللام . فإنْ قلت : » أَنْ يَقُولوا « هو علةُ تَرْكِهم غيرَ مَفْتونين ، فكيف يَصِحُّ أن يقعَ خبرَ مبتدأ؟ قلت : كما تقول : خروجُه لمخافةِ الشرِّ وضَرْبُه للتأديب ، وقد كان التأديبُ والمخافةُ في قولِك : خَرَجْتُ مخافةَ الشرِّ وضَرَبْتُه تأديباً تعليلين . وتقول أيضاً : حَسِبْتُ خروجَه لمخافةِ الشَّرِّ ، وظنَنْتُ ضربَه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتَهما مبتدأ وخبراً » .
قال الشيخ بعد هذا كلِّه : « وهو كلامٌ فيه اضطرابٌ؛ ذكر أولاً أنَّ تقديرَه غيرَ مفتونين تتمةٌ ، يعني أنه حالٌ لأنه سَبَكَ ذلك مِنْ قولِهِ { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وهي جملةٌ حالية ، ثم ذكر أَنَّ » يُتْركوا « هنا من الترك الذي هو تَصْييرٌ . ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ مفعولَ » صيَّر « الثاني لا يَسْتقيمُ أَنْ يكونَ » لقولِهم «؛ إذا يصيرُ التقديرُ : أن يُصَيَّروا لقولِهم وهم لا يُفْتنون ، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ . وأمَّا ما مَثَّله به من البيت فإنه يَصِحُّ أن يكون » جَزَرَ السِّباع « مفعولاً ثانياً ل تَرَكَ بمعنى صَيَّر ، بخلاف ما قَدَّر في الآية . وأمَّا تقديرهُ تَرَكهم غيرَ مفتونين لقولهم [ آمَنَّا ] على تقديرِ حاصل ومستقر قبل اللام فلا يَصِحُّ إذا كان تركُهم بمعنى تصييرهم ، وكان غيرَ مفتونين حالاً؛ إذ لا يَنْعَقِد مِنْ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم وَتَقَوُّلِهم مبتدأٌ وخبرٌ ، لاحتياجِ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم إلى مفعولٍ ثانٍ لأنَّ غيرَ مفتونين عنده حالٌ لا مفعولٌ ثانٍ .

وأمَّا قولُه : فإنْ قلت : أَنْ يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فَضْلِ فَهْمٍ : وذلك أنَّ قولَه : « أَنْ يقولوا » هو علةُ تَرْكِهم فليس كذلك؛ لأنه لو كان علةً له لكان به متعلقاً كما يتعلَّقُ بالفعلِ ، ولكنه علةٌ للخبرِ المحذوفِ الذي هو مستقر أو كائن ، والخبرُ غيرُ المبتدأ ، ولو كان « لقولِهم » علةً للترك لكان مِنْ تمامِه فكان يحتاج إلى خبرٍ . وأمَّا قولُه كما تقول : خروجُه لمخافةِ الشرِّ ف « لمخافة » ليس علةً للخروجِ بل للخبر المحذوف الذي هو مستقرٌّ أو كائن « انتهى .
قلت : وهذا الذي ذكره الشيخُ كلُّه جوابُه : أنَّ الزمخشريَّ إنما نظر إلى جانب المعنى ، وكلامُه عليه صحيحٌ . وأمَّا قولُه : ليس علةً للخروج ونحو ذلك يعني في اللفظ . وأمَّا في المعنى فهو علةٌ له قطعاً ، ولولا خَوْفُ الخروج عن المقصود .

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } : العامَّةُ على فتح الياء مضارعَ « عَلِم » المتعديةِ لواحد . كذا قالوا . وفيه إشكالٌ تقدَّمَ غيرَ مرةٍ : وهو أنها إذا تَعَدَّتْ لمفعولٍ كانَتْ بمعنى عَرَفَ . وهذا المعنى لا يجوز إسنادُه إلى الباري تعالى؛ لأنه يَسْتَدعي سَبْقَ جهلٍ؛ ولأنه يتعلَّقُ بالذاتِ فقط دون ما هي عليه من الأحوالِ .
وقرأ عليٌّ وجعفرُ بن محمد بضمِّ الياءِ ، مضارعَ أَعْلم . ويحتمل أَنْ يكونَ مِنْ عَلِم بمعنى عَرَفَ ، فلمَّا جِيْءَ بهمزةِ النقلِ أَكْسَبَتْها مفعولاً آخرَ فَحُذِفَ . ثُم هذا المفعولُ يُحتمل أَنْ يكونَ هو الأولَ أي : لَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الناسَ الصادقين ، وليُعْلِمنَّهم الكاذبين ، أي : بشهرةٍ يُعْرَفُ بها هؤلاءِ مِنْ هؤلاء . وأن يكونَ الثاني أي : ليُعْلِمَنَّ هؤلاء منازِلَهم ، وهؤلاءِ منازلَهم في الآخرةِ . ويُحتمل أَنْ يكونَ من العلامةِ وهي السِّيمِياء ، فلا يتعدَّى إلاَّ لواحدٍ . أي : لنجعلَنَّ لهم علامةً يُعرفون بها . وقرأ الزهريُّ الأولى كالمشهورةِ ، والثانيةَ كالشاذة .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

قوله : { أم حَسِبَ } : « أم » هذه منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ عند الجمهورِ ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطال . وقال ابنُ عطية : « أم » معادِلَةٌ/ للألفِ في قولِه « أَحَسِبَ » ، وكأنَّه عَزَّ وجَلَّ قَرَّر الفريقين : قرر المؤمنين على [ ظَنِّهم أنَّهم ] لا يُفْتَنُون ، وقَرَّر الكافرين أنهم يَسْبِقُون عقابَ اللَّهِ « . قال الشيخ : » ليسَتْ معادِلةً؛ إذ لو كانت كذلك لكانَتْ متصلةً . ولا جائزٌ أَنْ تكونَ متصلةً لفَقْدِ شرطَيْن ، أحدهما : أنَّ ما بعدَها ليس مفرداً ، ولا ما في قوته . والثاني : أنَّه لم يكن هنا ما يُجابُ به مِنْ أحد شيئين أو أشياء .
وجَوَّز الزمخشريُّ في « حَسِبَ » هذه أَنْ تتعدَّى لاثنين ، وجعل « أنَّ » وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّهما كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] ، وأَنْ تتعدَّى لواحدٍ على أنها تَضَمَّنَتْ معنى « قَدَّر » . إلاَّ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ .
قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } : « ساء » يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى بِئْس ، فتكونُ « ما » : إمَّا موصولةً بمعنى الذي ، و « يَحْكمون » صلتُها . وهي فاعلُ « ساء » . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : حُكْمُهم . ويجوز أَنْ تكونَ « ما » تمييزاً ، و « يَحْكُمون » صفتُها ، والفاعلُ مضمرٌ يُفَسِّره « ما » ، والمخصوصُ أيضاً محذوفٌ . ويجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً ، وهو قولُ ابنِ كَيْسان . فعلى هذا يكونُ التمييزُ محذوفاً ، والمصدرُ المؤولُ مخصوصٌ بالذمِّ أي : ساءَ حُكْماً حكمُهم . وقد تقدَّمَ حكمُ « ما » إذا اتصلَتْ ب « بِئْسَ » مُشْبعاً في البقرة . ويجوزُ أَنْ تكونَ « ساء » بمعنى قَبُح ، فيجوز في « ما » أَنْ تكونَ مصدريةً ، وبمعنى الذي ، ونكرةً موصوفَةً . وجيْءَ ب « يَحْكمون » دونَ حُكْمِه : إمَّا للتنبيهِ على أن هذا دَيْدَنُهم ، وإمَّا لوقوعِه مَوْقِعَ الماضي لأجلِ الفاصلة .

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

قوله : { مَن كَانَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، والفاءُ : لشَبَهِها بالشرطيةِ . والظاهرُ أنَّ هذا ليس بجوابٍ؛ لأنَّ أجلَ اللَّهِ آتٍ لا مَحالةَ من غيرِ تقييدٍ بشرطِ ، بل الجوابُ محذوفٌ أي : فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحاً ، ولا يُشْرِكْ بعبادةِ ربِّه أحداً ، كما قد صَرَّح به .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

قوله : { والذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ ، والخبرُ جملةُ القسمِ المحذوفةُ وجوابُها ، أي : واللَّهِ لنُكَفِّرَنَّ . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغال أي : ولَيُخَلِّصَنَّ الذين آمنُوا مِنْ سيئاتهم .
قوله : { أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قيل : على حَذْفِ مضافٍ أي : ثوابَ أحسنِ . والمرادُ ب « أَحْسَن » هنا مجردُ الوصفِ . قيل : لئلا يَلْزَمَ أَنْ يكونَ جزاؤُهم بالحُسْن مسكوتاً عنه . وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه من بابِ الأَوْلى إذا جازاهم بالأحسنِ جازاهم بما دَوْنَه فهو من التنبيهِ على الأَدْنى بالأعلى . قوله : { والذين آمَنُواْ } : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء ، والنصبُ على الاشتغالِ .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

قوله : { حُسْناً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها ، أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي إيصاءً حُسْناً : إمَّا على المبالغةِ ، جُعِل نفسَ الحُسْن ، وإمَّا على حَذْفِ مضاف أي : ذا حُسْن . الثاني : أنه مفعولٌ به . قال ابنُ عطية : « وفي ذلك تَجَوَّزٌ . والأصلُ : ووَصَّيْنا الإِنسانَ بالحُسْن في فِعْله مع والدَيْه . ونظيرُ هذا قولُ الشاعر :
3634- عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذ تَشْكُوْنا ... ومِنْ أبي دَهْماءَ إذ يُوصِيْنا
خيراً بنا كأنَّنا جافُونا ... ومثلُه قولُ الحطيئة :
3635- وَصَّيْتُ مِنْ بَرَّةَ قلباً حُرَّاً ... بالكَلْبِ خيراً والحَماةِ شَرَّاً
وعلى هذا فيكونُ الأصلُ : وصَّيْناه بحُسْنٍ في أَمْرِ والدَيْه ثم جُرَّ الوالدان بالباء فانتصَبَ » حُسْناً « ، وكذلك البيتان . والباءُ في الآية والبيتين في هذه الحالةِ للظرفيةِ .
الثالث : أنَّ » بوالديه « هو المفعولُ الثاني : فينتصبُ » حُسْناً « بإضمار فعلٍ أي : يَحْسُن حُسْناً ، فيكونُ مصدراً مؤكداً . كذا قيل . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ عاملَ المؤكِّد لا يُحْذَفُ . الرابع : أنَّه مفعولٌ به على التضمينِ أي : أَلْزَمْناه حُسْناً . الخامس : أنَّه على إسقاطِ الخافض أي : بحُسْنٍ . وعبَّر صاحب » التحرير « عن ذلك بالقطع . السادس : أنَّ بعضَ الكوفيين قَدَّره : ووصَّيْنا الإِنسانَ أَنْ يَفْعَلَ بوالديه حُسْناً . وفيه حَذْفُ » أنْ « وصلتِها وإبقاءُ معمولِها . ولا يجوزُعند البصريين . السابع : أنَّ التقديرَ : ووصَّيْناه بإيتاءِ والدَيْه حُسناً . وفيه حَذْفُ المصدرِ ، وإبقاءُ معمولِه . ولا يجوزُ . الثامن : أنَّه منصوبٌ انتصابَ » زيداً « في قولِك لمَنْ رأيتَه مُتَهيِّئاً للضَرْب : زيداً أي : اضرِبْ زيداً . والتقديرُ هنا : أَوْلِهما حُسْناً أو افعلْ بهما حُسْناً . قالهما الزمخشري .
وقرأ عيسى والجحدري/ » حَسَناً « بفتحتين ، وهما لغتان كالبُخْلِ والبَخَل ، وقد تقدَّم ذلك أوائل البقرة .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)

قوله : { لَيَقُولُنَّ } : العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ ليُسْنِدَ الفعلَ لضمير جماعةٍ حَمْلاً على معنى « مَنْ » بعد أَنْ حُمِل على لفظِها . ونقل أبو معاذ النحوي أنه قُرِئ « لَيَقُولَنَّ » بالفتح جَرْياً على مراعاةِ لفظِها أيضاً . وقراءةُ العامَّةِ أحسنُ لقولِه « إنَّا كُنَّا » .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

قوله : { وَلْنَحْمِلْ } : أمرٌ في معنى الخبر . وقرأ الحسن وعيسى بكسرِ لامِ الأمرِ . وهو لغةُ الحجاز . وقال الزمخشري : « وهذا قولُ صناديدِ قريشٍ كانوا يقولون لمَنْ آمنَ منهم : لا نُبْعَثُ نحن ولا أنتم ، فإنْ عَسَى كان ذلك فإنَّا نَتَحَمَّلُ » . قال الشيخ : « هو تركيبٌ أعجميٌّ مِنْ جهةِ إدخالِ حرفِ الشرطِ على » عسى « ، وهي جامدةٌ ، واستعمالِها مِنْ غيرِ اسمٍ ولا خبرٍ وإيلائِها كان » .
وقرأ العامَّةُ « خطاياكُمْ » جمعَ تكسيرٍ . وداود بن أبي هند « مِنْ خَطِيْئاتهم » جمعَ سلامةٍ . وعنه أيضاً « خَطيئتِهم » بالتوحيد ، والمرادُ الجنسُ . وهذا شبيهٌ بقراءتَيْ { وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } [ البقرة : 81 ] و « خطيئاته » وعنه أيضاً « خَطَئِهم » . قيل : بفتحِ الطاءِ وكسرِ الياءِ . يعني بكسرِ الهمزةِ القريبةِ من الياء لأجلِ تسهيلِها بينَ بينَ .
و « مِنْ شيء » هو مفعولٌ ب « حامِلين » ، و « مِنْ خطاياهم » حالٌ منه ، لمَّا تقدَّم عليه انتصبَ حالاً .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)

قوله : { أَلْفَ سَنَةٍ } : منصوبٌ على الظرفِ . { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } منصوبٌ على الاستثناءِ ، وفي وقوع الاستثناءِ مِنْ أسماءِ العددِ خلافٌ . وللمانعين منه جوابٌ عن هذه الآيةِ . وقد رُوْعِيَتْ هنا نكتةٌ لطيفةٌ : وهو أَنْ غايرَ بين تمييزَيْ العددَيْن فقال في الأول : « سَنَة » وفي الثاني : « عاماً » لئلا يَثْقُلَ اللفظُ . ثم إنه خَصَّ لفظَ العامِ بالخمسين إيذاناً بأنَّ نبيَّ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا استراح منهم بقيَ في زمنٍ حسنٍ ، والعربُ تُعَبِّرُ عن الخِصْبِ بالعام ، وعن الجَدْبِ بالسَّنَة .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

قوله : { وَجَعَلْنَاهَآ } : أي : العقوبَة أو الطَّوْفَةَ ، ونحو ذَلك .

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)

قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ } : العامَّةُ على نصبِه عَطفاً على « نوحاً » ، أو بإضمار اذْكُرْ ، أو عطفاً على هاء « أَنْجَيْناه » . والنخعي وأبو جعفر وأبو حنيفةَ « وإبراهيمُ رفعاً على الابتداءِ ، والخبرُ مقدَّرٌ أي : ومن المرسلينَ إبراهيمُ .
قوله : » إذ قالَ « بدلٌ مِنْ » إبراهيمَ « بدلُ اشتمالِ .

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

قوله : { وَتَخْلُقُونَ } : العامَّةُ بفتحِ التاءِ وسكونِ الخاءِ وسكونِ اللامِ ، مضارعَ خَلَقَ ، « إفكاً » بكسرِ الهمزةِ وسكون الفاء أي : وَتَخْتَلِقُوْن كذباً أو تَنْحِتُون أصناماً . وعلي بن أبي طالب وزيدُ بن علي والسُّلمي وقتادةُ بفتح الخاءِ واللامِ مشددةً ، وهو مضارعُ « تَخَلَّقَ » والأصلُ : تَتَخَلَّقُوْن بتاءَيْن ، فَحُذِفَت إحداهما ك تَنزَّلُ ونحوِه . ورُوي عن زيد بن علي أيضاً « تُخَلِّقُوْن » بضم التاء وتشديد اللام مضارعَ خَلَّق مضعَّفاً .
وقرأ ابن الزُّبير وفضيل بن زُرْقان « أَفِكاً » بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدرٌ كالكَذِب معنىً ووزناً . وجَوَّز الزمخشري في الإِفْك بالكسرِ والسكون وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ مخففاً من الأَفِك بالفتح والكسر كالكِذْب واللِّعْب ، وأصلُهما الكَذِب واللَّعِب ، وأن يكونَ صفةً على فِعْل أي خَلْقاً إفكاً أي : ذا إفك . قلتُ : وتقديرُه مضافاً قبلَ إفْك مع جَعْلِه له صفةً غيرُ محتاجٍ إليه ، وإنما كان يُحْتاجُ إليه لو جَعَلَه مصدراً .
قوله : « رِزْقاً » يجوزُ أن يكونَ منصوباً على المصدرِ ، وناصبُه « لا يَمْلِكون » لأنَّه في معناه . وعلى أصولِ الكوفيين يجوزُ أَنْ يكونَ الأصلُ : لا يملِكُون أن يَرْزُقوكم رِزْقاً ، ف « أَنْ يَرْزُقوكم » هو مفعولُ « يَمْلكون » . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المَرْزوق ، فينتصبَ مفعولاً به .

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)

قوله : { يَرَوْاْ كَيْفَ } : قرأ الأخَوان وأبو بكر بالخطاب ، على خطابِ إبراهيمِ لقومِه بذلك . والباقون بالغَيْبة ردَّاً على الأممِ المكذِّبةِ .
قوله : « كيف يُبْدِئُ » العامَّةُ على ضَمِّ الياءِ مِنْ أَبْدَأَ . والزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلافٍ عنه « يَبْدَأُ » مضارعَ بدأ . وقد صَرَّح بماضيه هنا حيث قال : { كَيْفَ بَدَأَ الخلق } [ العنكبوت : 20 ] وقرأ الزهري : « كيف بَدا » بألفٍ صريحةٍ ، وهو تخفيفٌ على غيرِ قياسٍ . وقياسُه بين بينَ ، وهو في الشذوذ كقولِه :
3636 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

قوله : { النشأة } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو « النَّشاءةَ » بالمد هنا والنجم والواقعة . والباقون بالقصرِ مع سكونِ الشين ، وهما لغتان كالرَّأْفة والرَّآفة . وانتصابُهما على المصدرِ المحذوفِ الزوائدِ . والأصلُ الإِنشاءة . أو على حَذْف العاملِ أي : يُنْشِئ فَيَنْشَؤون النشأةَ . وهي مرسومةٌ بالألفِ وهو يُقَوِّيَ قراءةَ المدِّ .

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

قوله : { وَلاَ فِي السمآء } : على تقديرِ أَنْ يكونوا فيها كقولِه : { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات } [ الرحمن : 33 ] أي : على تقديرِ أَنْ يكونوا فيها . وقال ابن زيد والفراء : « معناه ولا مَنْ في السماءِ أي : يُعْجِزُ إنْ عَصَى » يعني : أنَّ مَنْ في السماواتِ عطفٌ على « أنتم » بتقدير : إنْ يَعْصِ . قال الفراء : « وهذا من غوامضِ العربيةِ » . قلت : وهذا على أصلِه حيث يُجَوِّز حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ وتَبْقى صلتُه . وأنشد :
3637 أمَن يهْجُو رسولَ الله منكُمْ ... ويَنْصُرُه ويَمْدَحُه سَواءُ
وأبعدُ مِنْ ذلك مَنْ قدَّر موصولين محذوفين أي : وما أنتم بمعجِزِين مَنْ في الأرض مِن الإِنسِ والجنِّ ولا مَنْ في السماء من الملائكة ، فكيف تُعْجِزُون خالقِها؟ وعلى قولِ الجمهورِ يكونُ المفعولُ محذوفاً أي : وما أنتم بمعجِزين أي : فائِتينَ ما يريدُ اللَّهُ بكم .
وقوله : « ثم يُعيدُه » { ثُمَّ الله يُنشِىءُ } مُسْتأنفان ، من إخبارِ الله تعالى ، فليس الأولُ داخلاً في حَيِّزِ الرؤيةِ ، ولا في الثاني في حَيِّزِ النظَر .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } : العامَّةُ على نصبِه . والحسن وسالمٌ الأفطسُ برفعِه . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا .

وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

قوله : { إِنَّمَا اتخذتم } : في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، وهو المفعولُ الأول . و « أَوْثاناً » مفعولٌ ثانٍ . والخبرُ « مَوَدَّةُ » في قراءةِ مَنْ رفع كما سيأتي . والتقدير : إنَّ الذي اتَّخذتموه أوثاناً مودةُ ، أي : ذو مودةٍ ، أو جُعلِ نفسَ المودةِ ، ومحذوفٌ على قراءةِ مَنْ نَصَبَ « مَوَدَّةَ » أي : إنَّ الذي اتخذتموه أوثاناً لأجلِ المودةِ لا يَنْفَعُكم ، أو « يكونُ عليكم » ، لدلالةِ قولِه : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } .
الثاني : أن تُجْعَلَ « ما » كافةً ، و « أوثاناً » مفعولٌ به . والاتِّخاذ هنا متعدٍ لواحدٍ ، أو لاثنين ، والثاني ، هو { مِّن دُونِ الله } فَمَنْ رفع « مودةُ » كانَتْ خبرَ مبتدأ مضمرٍ . أي : هي مودة ، أي : ذاتُ مودة ، أو جُعِلت نفسَ المودةِ مبالغةً . والجملةُ حينئذٍ صفةٌ ل « أَوْثاناً » أو مستأنفةٌ . ومَنْ نصبَ كانَتْ مفعولاً له ، أو بإضمار أَعْني .
الثالث : أَنْ تُجْعَلَ « ما » مصدريةً ، وحينئذٍ يجوز أن يُقَدَّر مضافاً من الأول أي : إنَّ سببَ اتَّخاذِكم أوثاناً مودةُ ، فيمَنْ رفَعَ « مودةُ » . ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ ، بل يُجْعَلُ نفسُ الاتخاذِ هو المودةَ مبالغةً . وفي قراءةِ مَنْ نَصَبَ يكونُ الخبرُ محذوفاً ، على ما مَرَّ في الوجه الأول .
وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ برفع « مودةُ » غيرَ منونة وجَرِّ « بَيْنِكم » . ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب « مودةً » منونةً ونصبِ « بينَكم » . وحمزةُ وحفص بنصب « مودةَ » غيرَ منونةٍ وجرِّ « بَيْنِكم » . فالرفعُ قد تقدَّم . والنصبُ أيضاً تقدَّم فيه وجهان ، ويجوز وجهٌ ثالثٌ ، وهو أن تُجْعَلَ مفعولاً ثانياً على المبالغةِ ، والإِضافةُ للاتِّساعِ في الظرف كقولِهم :
3638 يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدارِ ... ومَنْ نصبَه فعلى أصلِه . ونُقِل عن عاصمٍ أنه رَفَع « مودةُ » غيرَ منونةٍ ونَصَبَ « بينَكم » . وخُرِّجَتْ على إضافة « مودةُ » للظرف ، وإنما بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقراءةِ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] بالفتح إذا جعلنا « بينَكم » فاعلاً .
وأمَّا « في الحياة » ففيه [ أوجهٌ ] أحدها : أنه هو و « بينَكم » متعلقان ب « مودَّة » إذا نُوِّنَتْ . وجازَ تعلُّقُهما بعاملٍ واحدٍ لاختلافِهما . الثاني : أَنْ يتعلَّقا بمحذوفٍ على أنهما صفتان ل « مودَّة » . الثالث : أن يتعلَّق « بَيْنَكم » بموَدَّة . و « في الحياة » صفةٌ ل « مودة » . ولا يجوز العكسُ لئلا يلْزَم إعمالُ المصدرِ الموصوفِ . والفرقُ بينَه وبين الأول أنَّ الأولَ عَمِلَ فيه المصدرُ قبل أَنْ يُوْصَفَ ، وهذا عَمِلَ فيه بعد أَنْ وُصِفَ .

على أنَّ ابنَ عطية جَوَّز ذلك هو وغيرُه وكأنهم اتَّسَعوا في الظرف . فهذا وجهٌ رابعٌ .
الخامس : أَنْ يتعلَّقَ « في الحياة » بنفس « بينَكم » لأنه بمعنى الفعل ، إذ التقديرُ : اجتماعُكم ووَصْلُكم . السادس : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ نفسِ « بينَكم » . السابع : أن يكونَ « بينَكم » صفةً ل « مودة » . و « في الحياة » حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه . الثامن : أَنْ يتعلَّقَ « في الحياة » ب « اتَّخذتُمْ » على أَنْ تكون « ما » كافةً و « مودة » منصوبةً . قال أبو البقاء : « لئلا يؤدِّي إلى الفصلِ/ بين الموصولِ وما في الصلة بالخبر » .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)

قوله : { وَلُوطاً } : كقولِه : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ } [ العنكبوت : 16 ] .
قوله : « ما سَبَقكم » يجوز أَنْ تكونَ استئنافيةً جواباً لمَنْ سأل عن ذلك ، وأَنْ تكونَ حاليةً ، أي : مُبْتَدِعين لها .

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)

قوله : { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ } : تقدَّم نظيرُها . إلاَّ أَنَّ هنا زِيْدَتْ « أَنْ » وهو مطردٌ تأكيداً .
قوله : « إنَّا مُنَجُّوك » في الكافِ وما أشبهها مذهبان : مذهبُ سيبويهِ : أنها في محلِّ جرٍ . فعلى هذا في نَصْبِ « وأهلَكَ » وجهان : إضمارُ فعلٍ ، أو العطفُ على المحلِّ . ومذهبُ الأخفشِ وهشام أنها في محلِّ نصبٍ ، وحُذِفَ التنوينُ والنونُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ .
وقد تقدَّمَتْ قراءتا التخفيفِ والتثقيلِ في « لنُنَجِّيَنَّه » و « مُنَجُّوك » في الحجر .

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)

وقُرئ « مُنْزِلون » مخففاً ومشدداً . وقرأ ابن محيصن « رُجْزاً » بضم الراء . والأعمش وأبو حيوة « يَفْسِقون » بالكسر .

وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

قوله : { تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً } : فيه وجهان : أحدُهما : أنَّ بعضَها باقٍ وهو آيةٌ باقيةٌ إلى اليوم . الثاني : أنَّ « مِنْ » مزيدةٌ . وإليه نحا الفراء أي : تَرَكْناها آيةً ، كقوله :
3639- أمْهَرْت مِنْها جُبَّة وتَيْسا ... أي : أَمْهَرْتُها . وهذا يجيءُ على رَأْيِ الأخفش .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)

قوله : { وإلى مَدْيَنَ } : أي : وأَرْسَلْنَا ، أو بَعَثْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم . و « شُعَيباً » بدلٌ أو بيانٌ أو بإضمار أعني .

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

قوله : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } : نصبٌ بأَهْلَكْنا مقدَّراً ، أو عطفٌ على مفعولِ « فأَخَذْتُهم » ، أو على مفعول { فَتَنَّا } [ العنكبوت : 3 ] أول السورة وهو قولُ الكسائيِّ وفيه بُعْدٌ كبيرٌ . وتقدَّمَ تنوينُ ثمود وعدمه في هود .
وقرأ ابن وثاب « وعادٍ وثمودٍ » بالخفض عَطْفاً على « مَدْيَنَ » عُطِف لمجرَّد الدلالةِ ، وإنْ لا يَلْزمْ أن يكون « شعيباً » مرسَلاً إليهما . وليس كذلك .
قوله : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } أي : ما حلَّ بهم . وقرأ الأعمش « مساكنُهم » بالرفع على الفاعلية بحذف « مِنْ » .

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)

قوله : { وَقَارُونَ } : عطفٌ على « عاداً وثمودَ » أو على مفعول « فَصَدَّهم » أو بإضمار اذكر .

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

قوله : { فَكُلاًّ } : منصوبٌ ب « أَخَذْنا » . و « بذَنْبه » أي : بسبب أو مصاحباً لذنبه .
قوله : « مَنْ أَغْرَقْناه » عائدهُ محذوفٌ لأجلِ شِبْهِ الفاصلةِ .

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

قوله : { العنكبوت } : معروفٌ . ونونُه أصليةٌ ، والواوُ والتاءُ مزيدتان ، بدليل قولِهم في الجمعِ : عناكِب ، وفي التصغير عُنَيْكِب . ويُذَكَّر ويُؤنث فمن التأنيثِ : قولُه : « اتَّخَذَتْ » . ومن التذكير قوله :
3640 على هَطَّالِهم منهمْ بيوتٌ ... كأنَّ العنكبوتَ هو ابْتَناها
وهذا مُطَّرِدٌ في أسماءِ الأجناس ، تُذَكَّر وتؤنَّث .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُه محذوفٌ أي : لَمَا اتَّخذوا مَنْ يُضْرَبُ له بهذه الأمثالِ لحقارتِه . ومتعلَّق « يَعْلمون » لا يجوز أَنْ يكونَ مِنْ جنسِ قولِه : { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت } ؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ ذلك ، وإنما متعلَّقُه مقدرٌ مِنْ جنسِ ما يدلُّ عليه السياقُ . أي : لو كانوا يعلمونَ أنَّ هذا مثلُهم .

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)

قوله : { مَا يَدْعُونَ } : قرأ أبو عمروٍ وعاصم بياء الغيبة ، والباقون بالخطاب . و « ما » يجوز فيها أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً ب « يَعْلَم » أي : يَعْلَم الذين يَدْعُوْنَهم ، ويَعْلَم أحوالهم . و « منْ شيء » مصدرٌ . وأَنْ تكونَ استفهاميةً ، وحينئذٍ يجوز فيها وجهان : أَنْ تكونَ هي وما عَمل فيها معترضاً بين قوله : « يَعْلَمُ » وبين قولِه : { وَهُوَ العزيز الحكيم } كأنه قيل : أيَّ شيءٍ يَدْعون مِنْ دونه . والثاني : أن تكونَ معلِّقَةً ل « يَعْلَم » ، فتكونَ في موضع نصبٍ بها ، وإليه ذهب الفارسي ، وأن تكونَ نافيةً و « مِنْ » في « من شيء » مزيدةٌ في المفعول به . كأنه قيل : ما يَدْعُون مِنْ دونِه ما يَسْتَحِقُّ أن يُطلق عليه شيء . والوجهُ فيها حينئذٍ : أَنْ تكونَ الجملةُ معترضةً كالأولِ مِنْ وجهَيْ الاستفهامية ، وأن تكونَ مصدريةً . قال أبو البقاء : « وشيء مصدرٌ » . وفي هذا نظرٌ؛ إذ يصيرُ التقدير : ويعلمُ دعاءَكم مِنْ/ شيءٍ من الدعاء .

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

قوله : { نَضْرِبُهَا } : يجوز أَنْ يكونَ خبر « تلك » و « الأمثالُ » نعتٌ أو بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ ، وأَنْ [ تكونَ ] « الأمثالُ » خبراً و « نَضْرِبُها » حال ، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً .

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

قوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } : استثناءٌ متصلٌ . وفيه معنيان ، أحدهما : إلاَّ الظَّلَمَةَ فلا تُجادلوهم البتةَ . بل جادِلوهم بالسيف . والثاني : جادِلوهم بغير التي هي أحسنُ أي : أَغْلِظوا لهم كما أَغْلَظوا عليكم . وقرأ ابن عباس « ألا » حرفُ تنبيهٍ أي : فجادِلوهم .

وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

قوله : { مِن كِتَابٍ } : مفعولُ « تَتْلُو » و « مِنْ » زائدةٌ . و « مِنْ قبلِه » حالٌ مِنْ « كتاب » ، أو متعلِّقٌ بنفسِ « تَتْلو » .
قوله « إذاً لارتابَ » جوابٌ وجزاءٌ أي : لو تَلَوْتَ كتاباً قبلَ القرآنِ ، أو كنتَ مِمَّن يكتبُ لارتابَ المُبْطلون .

بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

قوله : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ } : قرأ قتادةُ « آيةٌ » بالتوحيد .

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

قوله : { آيَاتٌ } : قرأ الأخَوان وابن كثير وأبو بكر « آيةٌ » بالإِفراد؛ لأنَّ غالِبَ ما جاء في القرآن كذلك . والباقون « آياتٌ » بالجمعِ؛ لأنَّ بعدَه { قُلْ إِنَّمَا الآيات } بالجمعِ إجماعاً ، والرسمُ محتملٌ له .

أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

قوله : { أَنَّآ أَنزَلْنَا } : فاعل « يَكْفِهم » .

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

قوله : { وَيِقُولُ } : قرأ الكوفيون ونافع بياءِ الغَيْبة أي : الله تعالى أو المَلَك . وباقي السبعة بنونِ العظمة لله تعالى ، أو لجماعة الملائكةِ .
وأبو البرهسم بالتاءِ من فوقُ أي : جهنم كقوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] . وعبد الله وابن أبي عبلة « ويُقال » مبنياً للمفعول .

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

قوله : { فاعبدون } : جعله الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ ، وجعل تقديمَ المفعولِ عوضاً مِنْ حَذْفِه مع إفادتِه للاختصاصِ . وقد تقدَّم منازعةُ الشيخِ له في نظيره .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)

قوله : { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } : قرأه بالغيبة أبو بكر ، وكذا في الروم في قوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ الروم : 11 ] وافقه أبو عمرو في الروم فقط . والباقون بالخطاب فيهما . وقُرِئ « يَرْجِعُون » مبنياً للفاعل .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)

قوله : { والذين آمَنُواْ } : يجوز فيه الوجهان المشهوران : الابتداءُ والاشتغال . والأخَوان قرآ بثاءٍ مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النونِ ، وياءٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من الثَّواء وهو الإِقامةُ . والباقونَ بباءٍ مُوَحَّدة مفتوحةٍ بعد النونِ وهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من المَباءة وهي الإِنزالُ . و « غُرفاً » على القراءةِ الأولى : إمَّا مفعولٌ به على تضمين « أَثْوَى » أنزل ، فيتعدَّى لاثنين ، لأنَّ ثوى قاصرٌ ، وأكسبته الهمزةُ التعدِّيَ لواحدٍ ، وإمَّا على تشبيهِ الظرف المختصِّ بالمبهمِ كقولِه : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] وإمَّا على إسقاطِ الخافضِ اتِّساعاً أي : في غُرَف .
وأمَّا في القراءةِ الثانيةِ فمفعولٌ ثانٍ ، لأنَّ « بَوَّأ » يتعدَّى لاثنين ، قال تعالى : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ } [ آل عمران : 121 ] ويتعدَّى باللامِ قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 26 ] . وقد قُرِئ « لَنُثَوِّيَنَّهم » بالتشديد مع الثاء المثلثة ، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة . و « تَجْرِي » صفةٌ ل « غُرَفاً » .

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

قوله : { الذين صَبَرُواْ } : يجوز فيه الجرُّ والنصبُ والرفعُ كنظائرَ له تقدَّمتْ .

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

قوله : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ } : جوَّز أبو البقاء في « كَأَيِّن » وجهين ، أحدهما : أنها مبتدأٌ ، و « لا تحملُ » صفتها ، و « اللَّهُ يَرْزُقها » خبره ، و « مِنْ دابَّةٍ » تبيينٌ . والثاني : أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ بإضمار فعل يُفَسِّره « يَرْزُقها » ويُقدَّرُ بعد « كَأَيِّنْ » يعني لأنَّ لها صدرَ الكلامِ . وفي الثاني نظرٌ؛ لأنَّ مِنْ شرط المفسِّرِ العملَ ، وهذا المفسِّر لا يعملُ؛ لأنه لو عَمِلَ لحلَّ مَحَلَّ الأولِ ، لكنه لا يَحُلُّ مَحَلَّه؛ لأنَّ الخبرَ متى كان فعلاً رافعاً لضميرٍ مفردٍ امتنع تقديمُه على المبتدأ ، وإذا أرَدْتَ معرفةَ هذه القاعدة فعليك بسورةِ هود عند قولِه : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً } [ هود : 8 ] .

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)

قوله : { الحيوان } : قدَّر أبو البقاء وغيرُه قبل المبتدأ ، مضافاً أي : وإنَّ حياةَ الدارِ الآخرة . وإنما قدَّروا ذلك ليتطابقَ المبتدأ والخبر ، والمبالغةُ أحسنُ .
وواوُ « الحيوان » عن ياءٍ عند سيبويه وأتباعِه . وإنما أُبْدِلَتْ واواً شذوذاً ، وكذا في « حَيْوَة » عَلَماً . وقال أبو البقاء : « لئلا يلتبسَ بالتثنيةِ » يعني لو قيل : حَيَيان . قال : « ولم تُقْلب ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها لئلا تُحْذَفَ إحدى الألفين » . وغيرُ سيبويه حَمَلَ ذلكَ على ظاهرِهِ ، فالحياة عنده لامُها واوٌ . ولا دليلَ لسيبويهِ في « حَيِي » لأنَّ الواو متى انكسرَ ما قبلها قُلِبَتْ ياءً نحو : غُزِي ودُعِي ورَضِيَ .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } / أي : لو كانوا يعلمون أنها الحَيَوانُ لَما آثروا عليها الدنيا .

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

قوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ } قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بم اتصلَ قولُه : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك } ؟ قلت : بمحذوفٍ دلَّ عليه ما وَصفَهم به وشَرَحَ مِنْ أمرِهم . معناه : هم على ما وُصِفوا به من الشِرْكِ والعنادِ فإذا ركبوا » .

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

قوله : { لِيَكْفُرُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ كي ، وهو الظاهرُ ، وأن تكون لامَ أمرٍ .
قوله : « ولِيَتَمَتَّعوا » قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسرها وهي محتملةٌ للأمرين المتقدمين . والباقون بسكونها . وهي ظاهرةٌ في الأمر . فإنْ كان يُعتقد أن اللامَ الأولى للأمر فقد عطفَ أمراً على مثله ، وإن كان يُعتقد أنها للعلةِ ، فيكون قد عطف كلاماً على كلام .
وقرأ عبد الله { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعلَمُونَ } وأبو العالية « فيُمَتَّعوا » بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

قوله : { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } : قرأ العامَّةُ « يُؤْمنون » و « يكفرون » بياء الغيبة . والحسن والسلمي بتاء الخطاب فيهما .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)

قوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ } : استفهامُ تقريرٍ كقوله :
3641- ألَسْتُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأندى العالمين بطونَ راحِ

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

قوله : { والذين جَاهَدُواْ } : يجوز فيه ما جاز في قوله : { والذين آمَنُواْ } [ العنكبوت : 7 ] أول السورة . وفيه رَدٌّ على ثعْلب : حيث زعم أنَّ جملةَ القسم لا تقع خبراً للمبتدأ .
قوله : « لَمع المحسنين » من إقامة الظاهر مُقامَ المضمرِ إظهاراً لشرفِهم .

فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { في أَدْنَى الأرض } : زعم بعضُهم أنَّ أل عِوَضٌ من الضميرِ ، وأنَّ الأصلَ « في أَدْنى أَرْضِهم » وهو قولٌ كوفيٌّ . وهذا على قولِ : إن الهَرَب كان مِنْ جهة بلادِهم . وأمَّا مَنْ يقول : إنه من جهةِ بلادِ العَرَبِ فلا يَتَأَتَّى ذلك . وقرأ العامَّةُ « غُلِبَتْ » مبنياً للمفعول . وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائِه للفاعلِ .
قوله : « غَلَبِهم » على القراءةِ الشهيرةِ يكون المصدرُ مضافاً لمفعولِه . ثم هذا المفعولُ : إمَّا أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ المضافَ إليه مأخوذٌ مِنْ مبنيّ للمفعولِ على خلافٍ في ذلك ، وإمَّا منصوبَ المحلِّ على أنَّ المصدرَ مِنْ مبني للفاعل ، والفاعلُ محذوفٌ تقديره : مِن بعد أَنْ غَلَبَهم عدوُّهم ، وهم فارس . وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فهو مضافٌ لفاعلِه .
قوله : « سَيَغْلِبون » خبرُ المبتدأ . و { مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } متعلقٌ به . والعامَّةُ - بل نقل بعضُهم الإِجماعَ - على « سَيَغْلِبون » مبنياً للفاعل . فعلى الشهيرةِ واضحٌ أي : مِنْ بعدِ أن غَلَبَتْهُمْ فارسُ سيَغْلِبون فارسَ . وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فأخبرَ أنهم سيَغْلبون ثانياً بعد أن غَلَبوا أولاً . ورُوِي عن ابنِ عمرَ أنه قرأ ببنائه للمفعول . وهذا مخالِف لِما وَرَدَ في سبب الآية وما وَرَدَ في الأحاديث . وقد يُلائم هذا بعضَ ملاءَمَةٍ مَنْ قرأ « غَلَبَتْ » مبنياً للفاعلِ . وقد تقدَّم أن ابن عمرَ ممَّن يقرأُ بذلك . وقد خَرَّج النحاسُ قراءةَ عبدِ الله بن عمرَ على تخريجٍ حَسَنٍ ، وهو أن المعنى : وفارسُ مِنْ بعدِ غَلَبِهم للرومِ سيُغْلَبون . إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ ما لم يُذْكَرْ ، ولا جَرى سببُ ذِكْرِه .

فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)

قوله : { فِي بِضْعِ } : متعلِّقٌ بما قبلَه . وتقدَّم تفسيرُ البِضْع واشتقاقُه في يوسف . وقال الفراء : « الأصلُ في » غَلَبِهم « : غَلَبَتِهم بتاءِ التأنيثِ فَحُذِفت للإِضافة ك » وإقامَ الصلاةِ « . وغَلَّطه النحاسُ : بأنَّ إقامَ الصلاةِ قد يُقال فيه ذلك لاعتلالِها ، وأمَّا هنا فلا ضرورةَ تَدْعو إليه .
وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع وأبو حيوة » غَلْبِهم « بسكونِ اللام ، فَتَحْتملُ أَنْ تكونَ تخفيفاً شاذاً ، وأن تكونَ لغةً في المفتوحِ كالظَّعْن والظَّعَن .
قوله : { مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة . وأراد بها أي : مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه . أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده . وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين . وغَلَّطه النحاسُ ، وقال : » إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً « . قلت : وقد قُرِئ بذلك . ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله :
3642 فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً ... أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
[ وقوله : ]
3643 ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا
وحُكي » مِنْ قبلٍ « بالتنوينِ والجرِّ ، » ومِنْ بعدُ « بالبناءِ على الضم .
وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه . وأنشد :
3644 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ
والفرقُ لائحٌ؛ فإنَّ في اللفظ مِثْلَ المحذوفِ ، على خلافٍ في تقديرِ البيت أيضاً .
قوله : » ويومَئذٍ « أي : إذ يغلِبُ الرومُ فارسَ . والناصب ل » يومَ « » يفرحُ « .

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

وقوله : { بِنَصْرِ الله يَنصُرُ } : مِن التجنيس . وتَقَدَّم آخرَ الكهف .
قوله : « بِنَصْرِ الله » الظاهرُ تعلُّقُه ب « يَفْرَح » . وجَوَّز فيه أَنْ يتعلَّقَ ب « يَنْصُرُ » أبو البقاء . وهذا تفكيكٌ للنَّظْمِ .

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)

قوله : { وَعْدَ الله } : مصدرٌ مؤكدٌ ناصبُه مضمرٌ أي : وَعَدَهم اللَّهُ ذلك وَعْداً . وقوله { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } مقرِّرٌ لمعنى هذا المصدرِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من المصدر ، فيكونَ كالمصدرِ الموصوف فهو مبيِّنٌ للنوعِ كأنه قيل : وَعَد اللَّهُ وَعْداً غيرَ مُخْلِفٍ .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)

قوله : { في أَنفُسِهِمْ } : ظرفٌ للتفكُّر . وليس مفعولاً للتفكُّر ، إذ متعلِّقُه [ ما ] خَلَق السماواتِ والأرضَ .
قوله : « ما خَلَقَ » « ما » نافيةٌ . وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ لا تَعَلُّقَ لها بما قبلَها . والثاني : أنها معلِّقَةٌ للتفكُّرِ ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ . ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ استفهاميةً بمعنى النفيِ . وفيها الوجهان المذكوران .
و « بالحقِّ إمَّا سببيَّةٌ ، وإمَّا حاليةٌ .
قوله : » بلقاءِ « متعلقٌ ب » لَكافرون « . واللامُ لا تَمْنَعُ مِنْ ذلك لكونِها في حَيِّزِ » إنَّ « .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

قوله : { أَكْثَرَ مِمَّا } : نعتُ مصدرٍ محذوف أي : عِمارةً أكثرَ مِنْ عِمارتِهم . وقُرِئ « وآثاروا » بألفٍ بعد الهمزة وهي إشباعٌ لفتحة الهمزة .

ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

قوله : { عَاقِبَةَ الذين } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالرفع . والباقون بالنصب . فالرفعُ على أنها اسمُ كان ، وذُكِّر الفعلُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . وفي الخبرِ حينئذٍ وجهان ، أحدهما : « السُّوْءَى » أي : الفَعْلَة السُّوْءَى أو الخَصْلَةَ السُّوْءى . والثاني : « أَنْ كَذَّبوا » أي : كان آخرُ أَمْرِهم التكذيبَ . فعلى الأولِ يكونُ في « أَنْ كَذَّبوا » وجهان : أحدُهما : أنه على إسقاطِ الخافض : إمَّا لامِ العلةِ أي : لأَنْ كَذَّبوا ، وإمَّا باءِ السببيةِ أي : بأَنْ كَذَّبوا . فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جَرَى القولان المشهوران بين الخليلِ وسيبويه في محلِّ « أَنْ » . والثاني : أنه بدلٌ من « السُّوْءَى » أي : ثم كان عاقبتُهم التكذيبَ ، وعلى الثاني يكونُ « السُّوْءَى » مصدراً ل أساْءُوا ، أو يكونُ نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ أي : أساْءُوا الفَعْلَةَ السُّوْءَى ، والسُّوْءَى تأنيثُ الأَسْوَأ .
وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ خبرُ كان محذوفاً للإِبهامِ ، والسُّوْءَى : إمَّا مصدرٌ ، وإمَّا مفعولٌ كما تقدَّم أي : اقْتَرَفوا الخطيئةَ السُّوْءَى أي : كان عاقبتُهم الدَّمارَ .
وأمَّا النصبُ فعلى خبر كان . وفي الاسم وجهان ، أحدهما : السُّوْءى أي : كانت الفَعْلَةُ السُّوْءَى عاقبةَ المُسيئين ، و « أنْ كَذَّبُوا » على ما تقدَّم . والثاني : أن الاسمَ « أنْ كَذَّبُوا » والسُّوْءَى على ما تقدَّم أيضاً .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)

قوله : { يُبْلِسُ } : قرأ العامَّةُ ببنائه للفاعلِ ، وهو المعروفُ يُقال : أَبْلَسَ الرجلُ أي : انقطعَتْ حُجَّتُه فسكتَ ، فهو قاصرٌ لا يتعدَّى . قال العجاج :
3645 يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكَرَّسَاً ... قال نعم أعرِفُه وأَبْلَسا
وقرأ السُّلمي « يُبْلَسُ » مبنياً للمفعول وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ أَبْلَسَ لا يتعدَّى . وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ مصدرُ الفعلِ ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه؛ إذ الأصلُ : يُبْلِس إبلاسَ المجرمين . ويُبْلِس هو الناصبُ ل « يومَ تقومُ » .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)

و { يَوْمَئِذٍ } : مضافٌ لجملةٍ ، تقديرُها : يومئذٍ تقومُ . وهذا كأنه تأكيدٌ لفظيٌّ؛ إذ يصيرُ التقدير : يُبْلِس المجرمون يومَ تقومُ الساعةُ ، يومَ تقومُ الساعة .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

قوله : { يُحْبَرُونَ } : أي : يُسَرُّون . والحَبْرُ والحُبُور : السُّرور . وقيل : هو مِن التحبير وهو التحسين . يُقال : هو حَسَنُ الحِبْر والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما . وفي الحديث : « يَخْرج من النارِ رجلٌ ذَهَبَ حِبْرُه وسِبْرُه » فالمفتوح مصدرٌ والمكسورُ اسمٌ .
والرَّوضةُ : الجنَّةُ . قيل : ولا تكونُ روضةً إلاَّ وفيها نبتٌ . وقيل : إلاَّ وفيها ماءٌ . وقيل : ما كانَتْ منخفضةً ، والمرتفعةُ يقال لها تُرْعَة . وقيل : لا يُقال لها : رَوْضة/ إلاَّ وهي في مكانٍ غليظ مرتفعٍ . قال الأعشى :
3646 ما رَوْضَةٌ مِنْ رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رِياض : رِواض ، فقُلِبت الواوُ ياءً على حَدِّ : حَوْض وحِياض .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)

قوله : { حِينَ تُمْسُونَ } : تُمْسُون وتُصْبحون تامَّان أي : تَدْخلون في المساء والصباح ، كقولهم : « إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ بأنَّه مُصْبِحٌ » أي : مُقيم في الصباح . والعامَّةُ على إضافة الظرف إلى الفعلِ بعده . وقرأ عكرمةُ « حيناً » بالتنوين . والجملةُ بعده صفةٌ له . والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ أي : تُمْسُون فيه كقولِه : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } [ لقمان : 33 ] . والناصب لهذا الظرفِ « سُبْحانَ » لأنه نابَ عن عاملِه .

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

قوله : { وَعَشِيّاً } : عطفٌ على « حينَ » ، وما بينهما اعتراضٌ . و « في السماوات » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الحمد أي : إنَّ الحمدَ يكون في هذين الظرفين .

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

وقد تقدم خلافُ القُراء في تخفيفِ « الميت » وتثقيلِه وكذا قوله : « تُخْرَجون » في سورة الأعراف . و « كذلك » نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : ومثلَ ذلك الإِخراجِ العجيبِ تُخْرَجون .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)

قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ } : مبتدأٌ وخبر أي : ومن جملةِ علامات توحيدِه وأنه يَبْعَثكُم خَلْقُكم واختراعُكم . و « مِنْ » لابتداءِ الغاية .
قوله : { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ } . الترتيبُ والمُهْملة هنا ظاهران؛ فإنهم إنما يصيرون بَشَراً بعد أطوارٍ كثيرةٍ . « وتَنْتشرون » حالٌ . و « إذا » هي الفجائيةُ . إلاَّ أنَّ الفجائيةَ أكثرُ ما تقع بعد الفاء لأنها تَقْتضي التعقيبَ . ووجهُ وقوعِها مع « ثُمَّ » بالنسبة إلى ما يليقُ بالحالةِ الخاصةِ أي : بعد تلك الأطوارِ التي قَصَّها علينا في موضعٍ آخرَ مِنْ كونِنا نُطْفَةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عَظْماً مجرداً ثم عَظْماً مَكْسُوَّاً لحماً فاجأ البشريَّةَ والانتشارَ .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

قوله : { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } : أي : لغاتِكم من عَرَبٍ وعَجَمٍ ، مع تنوُّعِ كلٍ من الجيلين إلى أنواعٍ شتى لا سيما العجمُ ، فإن لغاتِهم مختلفةٌ ، وليس المرادُ بالألسنةِ الجوارحَ .
قوله : « للعالمين » قرأ حفصٌ بكسر اللام جعله جمعَ عالِم ضدَّ الجاهل . ونحوُه { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] والباقون بفتحها؛ لأنها آياتٌ لجميع الناس ، وإن كان بعضُهم يَغْفُلُ عنها . وقد تقدَّم أولَ الفاتحةِ الكلامُ في « العالمين » : هل هو جمعٌ أو اسمُ جمع؟ فعليك باعتبارِه ثَمَّةَ .

وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

قوله : { مَنَامُكُم بالليل والنهار } : قيل : في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ ليكونَ كلُّ واحدٍ مع ما يلائمه . والتقدير : ومِنْ آياتِه منامُكم بالليل وابتغاؤكم مِنْ فضلِه بالنهارِ ، فحُذِف حرفُ الجرِّ لاتصالِه بالليل وعَطْفِه عليه؛ لأنَّ حرفَ العطفِ قد يقومُ مَقامَ الجارِّ . والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ على حالِه ، والنومُ بالنهار ممَّا كانَتِ العربُ تَعُدُّه نعمةً من الله ، ولا سيما في أوقاتِ القَيْلولة في البلاد الحارَّة .

وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

قوله : { يُرِيكُمُ البرق } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : - وهو الظاهرُ الموافقُ لإِخوانِه - أَنْ يكونَ جملةً من مبتدأ أو خبرٍ ، إلاَّ أنه حُذِفَ الحرفُ المصدريُّ ، ولمَّا حُذِفَ بَطَلَ عملُه . والأصل : ومِنْ آياتِه أَنْ يُرِيَكم كقوله :
3647 ألا أيُّهذا الزاجرِيْ أَحْضُرُ الوغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني : أنَّ « مِنْ آياتِه » متعلِّقٌ ب « يُرِيكم » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من البرق . والتقديرُ : ويُرِيْكم البرقَ مِنْ آياته ، فيكون قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسمية . الثالث : أنَّ « يُرِيْكُم » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : ومِنْ آياتِه آيةٌ يُريكم بها ، أو فيها البرقُ فحُذِفَ الموصوف والعائدُ عليه . ومثلُه :
3648 وما الدَّهْرُ إلاَّ تارَتان فمِنْهما ... موتُ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : فمنهما تارةٌ أموتُ فيها . الرابع : أنَّ التقديرَ : ومن آياتِه سحابٌ أو شيءٌ يُريكم . ف « يُريكم » صفةٌ لذلك المقدرِ ، وفاعلُ « يُريكم » ضميرٌ يعود عليه بخلافِ الوجهِ قبله؛ فإنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

قوله : { مِّنَ الأرض } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلِّقٌ ب « دَعاكم » وهذا أظهرُ .
الثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ صفةً ل دَعْوة . الثالث : أنه متعلِّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه « تَخْرُجون » أي : خَرَجْتُمْ من الأرض . ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق ب « تَخْرُجون » لأنَّ ما بعد « إذا » لا يعملُ فيما قبلها . وللزمخشري هنا عبارةٌ/ جيدة .

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } : في « أَهْوَن » قولان ، أحدهما : أنها للتفضيل على بابِها . وعلى هذا يُقال : كيف يُتَصَوَّرُ التفضيلُ ، والإِعادةُ والبُداءة بالنسبةِ إلى اللَّهِ تعالى على حدٍّ سواء؟ في ذلك أجوبة ، أحدها : أنَّ ذلك بالنسبةِ إلى اعتقاد البشرِ باعتبارِ المشاهَدَة : مِنْ أنَّ إعادَة الشيءِ أهونُ من اختراعِه لاحتياجِ الابتداءِ إلى إعمالِ فكر غالباً ، وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانَه وتعالى فخوطبوا بحسَبِ ما أَلِفوه .
الثاني : أنَّ الضميرَ في « عليه » ليس عائداً على الله تعالى ، إنما يعودُ على الخَلْقِ أي : والعَوْدُ أهونُ على الخَلْقِ أي أسرعُ؛ لأن البُداءةَ فيها تدريجٌ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْر ، إلى أنْ صار إنساناً ، وَالإِعادةُ لا تحتاجُ إلى هذه التدريجاتِ فكأنه قيل : وهو أقصرُ عليه وأَيْسَرُ وأقلُّ انتقالاً .
الثالث : أنَّ الضميرَ في « عليه » يعودُ على المخلوق ، بمعنى : والإِعادةُ أهونُ على المخلوقِ أي إعادتُه شيئاً بعدما أَنْشأه ، هذا في عُرْفِ المخلوقين ، فكيف يُنْكِرون ذلك في جانب اللَّهِ تعالى؟
والثاني : أنَّ « أهونُ » ليسَتْ للتفضيل ، بل هي صفةٌ بمعنى هَيِّن ، كقولهم : اللَّهُ أكبرُ [ أي ] : الكبير . والظاهرُ عَوْدُ الضمير في « عليه » على الباري تعالى ليُوافِقَ الضميرَ في قوله : { وَلَهُ المثل الأعلى } . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ أُخِّرَتِ الصلةُ في قوله { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقُدِّمَتْ في قولِه { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } ؟ قلت : هنالك قُصِدَ الاختصاصُ ، وهو مَحَزُّه فقيلِ : هو عليَّ هيِّنٌ وإن كان مُسْتَصعباً عندك أن يُوْلَدَ بين هِمٍّ وعاقِر ، وأمَّا هنا فلا معنى للاختصاص . كيف والأمرُ مبنيٌّ على ما يعقلون من أنَّ الإِعادةَ أسهلُ من الابتداء؟ فلو قُدِّمَت الصلة لَتَغيَّر المعنى » . قال الشيخ : « ومبنى كلامِه على أنَّ التقديمَ يُفيد الاختصاصَ وقد تكلَّمْنا معه ولم نُسَلِّمه » . قلت : الصحيحُ أنه يُفيده ، وقد تقدَّم جميعُ ذلك .
قوله : { وَلَهُ المثل الأعلى } يجوز أَنْ يكونَ مرتبطاً بما قبلَه ، وهو قولُه : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي : قد ضَرَبه لكم مَثَلاً فيما يَسْهُل وفيما يَصْعُبُ . وإليه نحا الزجَّاج أو بما بعدَه مِنْ قولِه : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ الروم : 28 ] وقيل : المَثَلُ : الوصفُ . « وفي السماوات » يجوز أَنْ يتعلَّق بالأَعْلى أي : إنه علا في هاتين الجهتين ، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن الأعلى ، أو مِن المَثَل ، أو مِن الضمير في « الأَعْلى » فإنه يعودُ على المَثَل .
قوله : « مِنْ أَنْفُسكم » « مِنْ » لابتداء الغاية في موضع الصفةِ ل مَثَلاً أي : أَخَذَ مثلاً ، وانتزعه مِنْ أقربِ شيءٍ منكم هو أنفسكُم .

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

قوله : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ } : « مِنْ شركاء » مبتدأٌ ، و « مِنْ » مزيدةٌ فيه لوجودِ شرطَيْ الزيادة . وفي خبره وجهان ، أحدهما : الجارُّ الأولُ وهو « لكم » و { مِّن مَّا مَلَكَتْ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « شركاءَ » لأنه في الأصل نعتُ نكرةٍ ، قُدِّم عليها . والعاملُ فيه العاملُ في هذا الجارِّ الواقع خبراً . والخبرُ مقدرٌ بعد المبتدأ ، و { فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } متعلِّقٌ بشركاء . [ وما في « ممَّا » بمعنى النوع ] تقديرُ ذلك كلِّه : هل شركاءُ فيما رَزَقْناكم كائنون مِن النوع الذي مَلَكَتْه أَيْمانُكم مستقِرُّون لكم . فكائنون هو الوصفُ المتعلِّقُ به « ممَّا مَلَكَتْ » ولَمَّا تقدَّم صار حالاً ، و « مستقرُّون » هو الخبرُ الذي تعلَّق به « لكم » .
والثاني : أنَّ الخبرَ « مِمَّا مَلَكَتْ » و « لكم » متعلِّقٌ بما تَعَلَق به الخبرُ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « شركاء » أو بنفس « شركاء » كقولك : « لك في الدنيا مُحِبٌّ » ف « لك » متعلقٌ ب مُحِبّ . و « في الدنيا » هو الخبرُ .
قوله : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } هذه الجملةُ جوابُ الاستفهامِ الذي بمعنى النفي ، و « فيه » متعلِّقٌ ب « سَواء » .
قوله : « تَخافونهم » فيه وجهان ، أحدهما : أنها خبرٌ ثانٍ ل أنتم . تقديرُه : فأنتم مُسْتَوُوْن معهم فيما رَزَقْناكم ، خائفوهم كخَوْفِ بعضِكم بعضاً أيها السادة . والمرادُ نَفْيُ الأشياء الثلاثة أعني الشِّرْكةَ والاستواءَ مع العبيد وخوفَهم إياهم . وليس المرادُ ثبوتَ الشركة ونَفْيَ الاستواءِ والخوفِ ، كما هو أحدُ الوجهين في قولك : « ما تأتينا فتحدِّثَنا » بمعنى : ما تأتينا مُحدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثنا ، بل المرادُ نفيُ الجميع كما تقدَّم .
وقال أبو البقاء : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } الجملةُ في موضع نصبٍ على جوابِ الاستفهامِ أي : « هل لكم فَتَسْتَوُوا » انتهى . وفيه نظرٌ؛ كيف جَعَل جملةً اسمية حالَّةً محلَّ جملةٍ فعلية ، ويَحْكمُ على موضع الاسمية بالنصب بإضمارِ ناصبٍ؟ هذا ما لا يجوزُ ولو أنه فَسَّر المعنى وقال : إنَّ الفعلَ لو حَلَّ بعدَ الفاءِ لكان منصوباً بإضمار « أن » لكان صحيحاً . ولا بُدَّ أَنْ يُبَيَّنَ أيضاً أنَّ النصبَ على المعنى الذي قَدَّمْتُه مِنْ نَفْيِ الأشياءِ الثلاثة .
والوجه الثاني : أنَّ « تخافونهم » في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير الفاعل/ في « سَواء » أي : فتساوَوْا خائِفاً بعضُكم بعضاً مشاركتَه له في المال . أي : إذا لم تَرْضَوا أن يشارِكَكم عبيدُكم في المال فكيف تُشرِكون بالله مَنْ هو مصنوعٌ له؟ قاله أبو البقاء .
وقال الرازي معنى حسناً ، وهو : « أنَّ بين المَثَلِ والمُمَثَّلِ به مشابهةً ومخالفةً .

فالمشابهةُ معلومةٌ ، والمخالفةُ مِنْ وجوه : قوله : « مِنْ أنفسكم » أي : مِنْ نَسْلِكم مع حقارةِ الأنفس ونَقْصِها وعَجْزِها ، وقاسَ نفسَه عليكم مع جلالتِها وعظمتِها وقُدْرَتِها . قوله : { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : عبيدِكم والمِلْكُ طارئ قابلٌ للنقلِ بالبيع وللزوالِ بالعِتْقِ ، ومملوكُه تعالى لا خروجَ له عن المِلْكِ ، فإذا لم يَجُزْ أَنْ يُشْرِكَكم مملوكُكُم ، وهو مِثْلُكم إذا تحرَّرَ مِنْ جميعِ الوجوهِ ، ومثلُكم في الآدميَّةِ حالةَ الرِّق فكيف يُشْرَكُ باللَّهِ تعالى مملوكُه مِنْ جميع الوجوهِ ، المباينُ له بالكلية؟ وقوله : « فيما رَزَقْنَاكم » يعني أنه ليس لكم في الحقيقة ، إنما هو لله تعالى ومَنْ رَزَقه حقيقةً . فإذا لم يَجُزْ أَنْ يَشْرَكَكم فيما هو لكم ، من حيث الاسمُ ، فكيف يكون له تعالى شريكٌ فيما له من جهة الحقيقة؟ « انتهى وإنما ذكرْتُ هذا المعنى مَبْسوطاً لأنَّه مبيِّنٌ لِما ذكرته مِنْ وجوهِ الإِعراب .
وقوله : » كَخِيْفَتِكم « أي : خِيْفَةً مثلَ خِيْفتكم . والعامَّةُ على نصب » أنفسَكم « لأنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافةِ المصدرِ لمفعولِه . واستقبح بعضُهم هذا إذا وُجِد الفاعلُ . وقال بعضُهم : ليس بقبيحٍ بل يجوزُ إضافتُه إلى كلٍ منهما إذا وُجدا . وأنشد :
3649 أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواريزِ أفواهَ الأباريقِ
بنصب » الأفواه « ورَفْعِها .
قوله : » كذلك نُفَصِّل « أي : مثلَ ذلك التفصيلِ البيِّنِ نُفَصِّل . وقرأ أبو عمرو في رواية » يُفَصِّلُ « بياء الغيبة رَدًّا على قوله : » ضَرَبَ لكم « . والباقون بالتكلم رَدًّا على قوله : » رَزَقْناكم « .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)

قوله : { حَنِيفاً } : حالٌ مِنْ فاعل « أَقِمْ » أو مِنْ مفعولِه أو مِن « الدِّين » .
قوله : « فِطْرَةَ الله » فيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة كقوله : { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] و { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل . قال الزمخشري : « أي : الزموا فطرةَ الله ، وإنما أَضْمَرْتُه عَلَى خطابِ الجماعة لقولِه : » مُنِيبيْن إليه « . وهو حالٌ من الضمير في » الزَموا « . وقولُه : » واتَّقوه ، وأقيموا ، ولا تكونوا « معطوفٌ على هذا المضمر » . ثم قال : « أو عليكم فطرةَ » . ورَدَّه الشيخُ : « بأنَّ كلمةَ الإِغراءِ لا تُضْمَرُ؛ إذ هي عِوَضٌ عن الفعلِ ، فلو حَذَفْتَها لَزِمَ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه . وهو إحجافٌ » . قلت : هذا رأيُ البصريين . وأمَّا الكسائيُّ وأتباعُه فيُجيزون ذلك .

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)

قوله : { مُنِيبِينَ } : حالٌ مِنْ فاعل « الزموا » المضمرِ كما تقدَّم ، أو مِنْ فاعل « أَقِمْ » على المعنى؛ لأنَّه ليس يُرادُ به واحدٌ بعينِه ، إنما المرادُ الجميعُ . وقيل : حالٌ من الناس إذا أُريد بهم المؤمنون . وقال الزجَّاج : « بعد قوله : وَجْهَكَ » معطوفٌ محذوف تقديره : فأقمْ وجهَك وأمتك . فالحالُ من الجميع . وجاز حَذْفُ المعطوفِ لدلالةِ « مُنيبين » عليه كما جاز حَذْفُه في قوله : { ياأيها النبي } [ الطلاق : 1 ] أي : والناسُ لدلالة { إِذَا طَلَّقْتُمُ } عليه . كذا زعم الزجَّاج في { ياأيها النبي } . وقيل : على خبرِ كان أي : كونوا مُنِيبين؛ لدلالة قوله : « ولا تكونوا » .

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

قوله : { فَرِحُونَ } : الظاهر أنَّه خبرُ « كلُّ حِزْب » وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يرتفعَ صفةً ل « كل » قال : « ويجوز أن يكونَ » من الذين « منقطعاً مَمَّا قبله . ومعناه : من المفارقين دينَهم كلُّ حزب فَرِحين بما لديهم ، ولكنه رَفَع فرحين وصفاً ل » كل « كقولِه :
3650 وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نَفْسِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : » قَدَّر أولاً « فرحين » مجروراً صفةً ل حِزْب ثم قال : ولكنه رُفِع على الوصف ل « كل » لأنك إذا قلتَ : « مِنْ قومِك كلُّ رجلٍ صالح » جاز في « صالح » الخفضُ نعتاً لرجل وهو الأكثر ، كقوله :
3651 جادَتْ عليه كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهمِ
وجاز الرفعُ نعتاً ل « كل » كقوله :
3652 وَلِهَتْ عليه كلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجاءُ ليس لِلُبِّها زَبْرُ
برفع « هوجاء » صفةً ل « كل » . انتهى . وهو تقريرٌ حسنٌ .

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)

قوله : { إِذَا فَرِيقٌ } : هذه « إذا » الفجائيةُ وقعَتْ جوابَ الشرطِ لأنها كالفاء في أنها للتعقيبِ ، ولا تقع أولَ/ كلامٍ ، وقد تجامِعُها الفاءُ زائدةً .

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)

قوله : { لِيَكْفُرُواْ } : يجوز أن تكونَ لامَ كي ، وأَنْ تكونَ لامَ الأمرِ ، ومعناه التهديدُ نحو : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] .
قوله : « فَتَمَتَّعُوْا » قرأ العامَّة بالخطاب فيه وفي « تَعْلمون » . وأبو العاليةِ بالياء فيهما ، والأولُ مبنيٌّ للمفعول . وعنه « فَيَتَمَتَّعوا » بياءٍ قبل التاء . وعن عبد الله « فَلْيَتَمَتعوا » بلامِ الأمر .

أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

قوله : { سُلْطَاناً } : أي : بُرْهاناً وحُجَّة . فإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان « يتكلم » مجازاً ، وإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان « يتكلم » مجازاً ، وإنْ جَعَلْناه على حذف مضاف أي : ذا سلطان كان « يتكلَّم » حقيقةً . وقال أبو البقاء هنا : « وقيل : هو جمعُ سَلِيْط ك رَغِيف ورُغْفان » انتهى . وهذا لا يجوزُ لأنه كان ينبغي أَنْ يُقال : فهم يتكلمون . و « فهو يتكلمُّ » جوابُ الاستفهام الذي تضمَّنَتْه « أم » المنقطعةُ .

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

قوله : { لِّيَرْبُوَ } : العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ مفتوحةً ، أسند الفعلَ لضمير الرِّبا أي : ليزدادَ . ونافع بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةً خطاباً للجماعة . فالواوُ على الأولِ لامُ كلمة ، وعلى الثاني كلمةُ ضميرٍ لغائبين . وقد تقدَّمتْ قراءتا « آتيتم » بالمدِّ والقصرِ في البقرة .
قوله : « المُضْعِفُون » أي : أصحابُ الأضعاف . قال الفراء : « نحو مُسْمِن ، ومُعْطِش أي : ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش » . وقرأ أُبَيُّ بفتح العين ، جعله اسمَ مفعولٍ .
وقوله : « فأولئك هم » قال الزمخشري : « التفاتٌ حسن ، كأنه [ قال ] لملائكتِه : فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون . والمعنى : هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما » انتهى . يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه . وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] الآية . ثم قال : ووجهٌ آخرُ : وهو أَنْ يكونَ تقديرُه : فَمُؤْتُوْه فأولئك هم المُضْعَفُون . والحَذْفُ لِما في الكلامِ مِن الدليلِ عليه . وهذا أسهلُ مَأْخَذاً ، والأولُ أمْلأُ بالفائدة « .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

قوله : { الله الذي خَلَقَكُمْ } : يجوز في خبر الجلالة وجهان ، أظهرهما : أنه الموصولُ بعدها . الثاني : أنه الجملةُ مِنْ قولِه { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } والموصولُ صفةٌ للجلالة . وقَدَّر الزمخشري الرابطَ بين المبتدأ والجملةِ الواقعةِ خبراً فقال : « وقوله : » مِنْ ذلكم « هو الذي رَبَط الجملةَ بالمبتدأ؛ لأنَّ معناه مِنْ أفعاله » . قال الشيخ : « والذي ذكره النحويون أنَّ اسمَ الإِشارةِ يكون رابطاً إذا أُشيرَ به إلى المبتدأ ، وأمَّا » ذلك « هنا فليس إشارةً إلى المبتدأ لكنه شبيهٌ بما أجازه الفراءُ مِن الربطِ بالمعنى ، وخالفه الناسُ ، وذلك في قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 234 ] قال : » التقدير : يتربَّصُ أزواجُهم « . فقدر الرَّبْط بمضافٍ إلى ضميرِ الذين فحصل به الربطُ ، كذلك قدَّر الزمخشريُّ » من ذلكم « : » مِنْ أفعالِه « بمضافٍ إلى الضميرِ العائد إلى المبتدأ » .
قوله : « مِنْ شركائِكم » خبرٌ مقدمٌ و « مِنْ » للتبعيض . و « مَنْ يَفْعَلُ » هو المبتدأ و « مِنْ ذلكم » متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ « شيء » بعده؛ فإنَّه في الأصل صفةٌ له . و « مِنْ » الثالثةُ مزيدةٌ في المفعولِ به؛ لأنه في حَيِّزِ النفي المستفادِ من الاستفهام . والتقدير : ما الذي يَفْعَلُ شيئاً مِنْ ذلكم مِنْ شركائكم . وقال الزمخشري : « ومِنْ الأولى والثانية كلُّ واحدةٍ مستقلةٌ بتأكيدٍ لتعجيز شركائِهم وتجهيل عَبَدَتهم » . قال الشيخ : « ولا أَدْري ما أراد بهذا الكلام؟ »
وقرأ الأعمش « تُشْرِكون » خطاباً .

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

قوله : { بِمَا كَسَبَتْ } : أي بسببِ كَسْبهم . والباءُ متعلقةٌ ب « ظَهَر » ، أو بنفس الفساد ، وفيه بُعْدٌ .
قوله : « لِيُذِيقَهم » اللامُ للعلةِ متعلقةٌ ب « ظهر » . وقيل : بمحذوفٍ أي : عاقبهم بذلك لِيُذِيقَهم . وقيل : اللامُ للصيرورةِ . وقرأ قنبل « لنُذِيْقَهم » بنون العظمة . والباقون بياء الغيبة .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

قوله : { لاَّ مَرَدَّ لَهُ } : المَرَدُّ مصدر رَدَّ . و « مِن الله » يجوز أن يتعلَّقَ ب يأتي أو بمحذوفٍ يدلُّ عليه المصدر أي : لا يَرُدُّهُ من الله أحدٌ . ولا يجوز أن يعملَ فيه « مَرَدّ » لأنَّه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ؛ إذ هو من قبيل المطوَّلات .

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

قوله : { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } : و « فلأَنْفُسِهم يَمْهَدون » تقديمُ الجارَّيْنِ يُفيد الاختصاصَ بمعنى : أن ضَرَرَ كفرِ هذا ومنفعةَ عملِ هذا لا يتعدَّاه « .

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

قوله : { لِيَجْزِيَ } : في متعلَّقِه أوجهٌ ، أحدها : « يَمْهدون » . والثاني « يَصَّدَّعون » ، والثالث محذوف . قال ابن عطية : « تقديره ذلك ليجزيَ . وتكون الإِشارةُ إلى ما تقرر مِنْ قوله » مَنْ كفر « و » مَنْ عمل « . وجعل الشيخُ قسيمَ قوله { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } محذوفاً لدلالة قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } عليه . هذا إذا عَلَّقْنا اللام ب » يَصَّدَّعون « أو بذلك المحذوفِ قال : » تقديرُه ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ مِنْ فَضْلِه والكافرين بعَدْلِه « .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

قوله : { الرياح } : قرأ العامَّةُ « الرياحَ » جمعاً/ لأجلِ مبشِّراتٍ . والأعمش بالإِفراد ، وأراد الجنسَ لأجلِ « مبشِّرات » .
قوله : « ولِيُذيْقَكم » إمَّا عطفٌ على معنى « مُبَشِّرات »؛ لأنَّ الحالَ والصفةَ يُفْهِمان العلةَ ، فكأنَّ التقديرَ : ليبشِّرَ وليذيقَكم ، وإمَّا أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أو وليذيقَكم أرسلَها ، وإمَّا أَنْ تكون الواوُ مزيدةً على رأيٍ ، فتتعلَّقَ اللامُ ب « أَنْ يُرْسِلَ » .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : { وَكَانَ حَقّاً } : بعضُ الوَقَفَةِ يقف على « حقاً » ويَبْتدِئ بما بعدَه ، يجعل اسمَ كان مضمراً فيها و « حقاً » خبرُها . أي : وكان الانتقامُ حقاً . قال ابن عطية : « وهذا ضعيفٌ؛ لأنه لم يَدْرِ قَدْرَ ما عَرَضَه في نَظْمِ الآية » يعني الوقفَ على « حَقَّاً » . وجعل بعضُهم « حَقَّاً » منصوباً على المصدر ، واسمُ كان ضميرُ الأمرِ والشأن ، و « علينا » خبرٌ مقدمٌ ، و « نَصْرُ » مبتدأ مؤخرٌ . وبعضُهم جَعَلَ « حقاً » منصوباً على المصدر أيضاً ، و « علينا » خبرٌ مقدم ، و « نَصْرُ » اسمٌ مؤخر . والصحيحُ أنَّ « نَصْر » اسمها ، و « حَقَّاً » خبرُها ، و « علينا » متعلقٌ ب « حَقاً » أو بمحذوفٍ صفةً له .

وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)

قوله : { مِّن قَبْلِهِ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تكريرٌ ل « مِنْ قَبلِ » الأولى على سبيلِ التوكيد . والثاني : أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ . وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في « قَبْله » للسحاب . وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه ، أو للريح ، فتتعلَّقُ « مِنْ » الثانيةُ ب « يُنَزَّل » . وقيل : يجوزُ عَوْدُ الضمير على « كِسَفا » كذا أطلق أبو البقاء . والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين . وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ « كِسَفاً » في « سبحان » . وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه .
وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن : الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور . فقال ابن عطية : « أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ ، أي : من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء » مِنْ قبله « ، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ » .
وقال الزمخشري : « ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم ، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك » . وهو كلامٌ حسنٌ .
إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال : « ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط » . انتهى . ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب : « وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر . وقيل : التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا . ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر . ودلَّ على ذلك قولُه » فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً « يعني الزرعَ؛ قال الشيخ : » وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ } متعلِّقٌ ب « مُبْلِسِيْن » ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه . وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ : إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع ، بمعنى : أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال ، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه . وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : الأولُ مشتملٌ على الثاني « .
وقال المبردُ : » الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ « انتهى . يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب . ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب » مُبْلِسين « . وقال الرمَّاني : » من قبلِ الإِرسال « . والكرماني : » من قَبْلِ الاستبشارِ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس ، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار « . ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم ، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ؛ فإنَّ فيه خلافاً : بعضُهم يَقيسُه ، وبعضُهم لا يقيسه . هذا كلُّهُ في المفردات . أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه .

فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

قوله : { إلى آثَارِ } : قرأ ابن عامر والأخَوان وحفص بالجمع ، والباقون بالإِفراد . وسلام بكسرِ الهمزة وسكون الثاء ، وهي لغةٌ فيه .
وقرأ العامَّةُ « كيف يُحْيي » بياء الغَيْبة أي : أثر الرحمة فيمَنْ قرأ بالإِفراد ، ومَنْ قرأ بالجمع فالفعلُ مسندٌ لله تعالى ، وهو مُحْتَمَلٌ في الإِفراد أيضاً . والجحدري وأبو حيوة وابن السَّمَيْفع « تُحْيي » بتاء التأنيث . وفيها تخريجان ، أظهرهما : أنَّ الفاعلَ عائدٌ على الرحمة . والثاني قاله أبو الفضل : عائدٌ على أثر ، وأنَّثَ « أثر » لاكتسابه بالإِضافةِ التأنيثَ ، كنظائرَ له تقدَّمَتْ . ورُدَّ عليه : بأن شرطَ ذلك كَوْنُ المضافِ بمعنى المضاف إليه ، أو مِنْ سببِه لا أجنبياً ، وهذا أجنبيٌّ . و « كيف يُحْيي » مُعَلِّقٌ ل « انظرْ » فهو في محلِّ نصب على/ إسقاطِ الخافضِ . وقال أبو الفتح : « الجملةُ مِنْ » كيف يُحْيي « في موضعِ نصبٍ على الحال حَمْلاً على المعنى » . انتهى وكيف تقع جملةُ الطلب حالاً؟

وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

قوله : { فَرَأَوْهُ } : أي : فَرَأَوْا النباتَ ، لدلالة السياق عليه ، أو على الأثر؛ لأنَّ الرحمةَ هي الغيث ، وأثرُها هو النبات . وهذا ظاهرٌ على قراءةِ الإِفراد ، وأمَّا على قراءة الجمع فيعودُ على المعنى . وقيل : الضمير للسَّحابِ . وقيل : للريح . وقرأ جناح بن حبيش « مُصْفارَّاً » بألفٍ . و « لَظَلُّوا » جوابُ القسمِ الموطَّأ له ب « لَئِنْ » ، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى كقولِه : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [ البقرة : 145 ] .
وتقدَّم الكلامُ على نحوِ { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ } إلى آخره في الأنبياء وفي النمل ، وكذلك في قراءَتَيْ « ضعف » وما الفرقُ بينهما في الأنفال؟
والضميرُ في « مِنْ بعدِه » يعودُ على الاصفرارِ المدلولِ عليه بالصفة كقولِه :
3653 إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : إلى السَّفَهِ لدلالة « السَّفيه » عليه .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

قوله : { مَا لَبِثُواْ } : جوابُ قولِه « يُقْسِم » وهو على المعنى ، إذ لو حُكي قولُهم بعينِه لقيل : ما لَبِثْنا . و « كذلك » أي : مِثْلَ ذلك الإِفك كانوا يُؤْفَكون .

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)

قوله : { فِي كِتَابِ الله } : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب « لَبِثْتم » بمعنى فيما وَعَدَ به في كتابه من الحشرِ والبعث . وقال قتادة : على التقديم والتأخيِرِ ، والتقدير : « وقال الذين أُوْتُوا العلم في كتابِ الله لقد لَبِثْتُمْ ، و » في « بمعنى الباء أي : العلم بكتاب الله . وصدورُه عن قتادةَ بعيدٌ .
والعامَّةُ على سكون عَيْن » البعث « . والحسنُ بفتحها . وقُرِئ بكسرِها . فالمكسورُ اسمٌ ، والمفتوحُ مصدرٌ .
قوله : » فهذا يومُ « في الفاءِ قولان ، أظهرهما : أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على » لَقَدْ لَبِثْتُمْ « . وقال الزمخشري : » هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ كقوله :
3654 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . فقد جِئْنا خُراسانا
كأنه قيل : إنْ صَحَّ ما قُلتم : إنَّ خراسان أقصى ما يُراد بكم ، وآن لنا أن نَخْلُصَ ، وكذلك إنْ كنتم منكرينَ للبعث فهذا يومُ البعث « ويشير إلى البيت المشهور وهو :
قالوا : خراسانُ أَقْصى ما يُراد بنا ... ثم القُفولُ فقد جِئْنا خُراسانا
قوله : » لا تَعْلَمُوْن « أي البعثَ أي : ما يرادُ بكم ، أو لا ُيُقَدَّرُ له مفعولٌ أي : لم يكونوا مِنْ أولي العلم . وهو أبلَغُ .

فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

قوله : { فَيَوْمَئِذٍ } : أي : إذ يقعُ ذلك ، ويقولُ الذين أوتوا العلمَ تلك المقالة .
قوله : « لا يَنْفَعُ » هو الناصبُ ل « يومئذٍ » قبله . وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياءِ مِنْ تحتُ . وافقهم نافعٌ على ما في غافر ، لأن التأنيثَ مجازيٌّ ولأنه قد فُصِل أيضاً . والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةً لِلَّفْظِ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } قال الزمخشري : « مِنْ قولك : اسْتَعْتَبني فلانٌ فَأَعْتَبْتُه أي : استرضاني فَأَرْضَيْتُه ، وكذلك إذا كنتَ جانياً عليه . وحقيقةُ أَعْتَبْتَه . أَزَلْتَ عَتْبَه ألا ترى إلى قوله :
3655 غَضِبَتْ تميمٌ أَنْ يُقتَّل عامرٌ ... يومَ النسارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غِضاباً؟ ثم قال : » فَأُعْتِبوا « أي : أُزيل غَضَبُهم . والغضب في معنى العَتْبِ . والمعنى : لا يُقال لهم : أرْضُوا ربَّكم بتوبة وطاعةٍ . ومثلُه قولُه تعالى : { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ الجاثية : 35 ] فإنْ قلتَ : كيف جُعِلوا غيرَ مُسْتَعْتِبين في بعضِ الآيات وغيرَ مُعْتَبين في بعضها ، وهو قولُه : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } [ فصلت : 24 ] . قلت : أمَّا كونُهم غيرَ مُسْتَعْتِبين فهذا معناه ، وأمَّا كونُهم غيرَ مُعْتَبين فمعناه : أنهم غيرُ راضين بما هم فيه ، فشُبِّهَتْ حالُهم بحالِ قومٍ جُني عليهم فهم عاتِبون على الجاني ، غيرُ راضين عنه بما هم فيه . فإنْ يَسْتَعتبوا الله أي يَسْألوه إزالة ما هم فيه فما هم مِن المجابين » انتهى .
وقال ابن عطية : « ويَسْتَعْتِبون بمعنى يَعْتِبون كما تقول : يَمْلك ويَسْتملك . والبابُ في استفعل طلبُ الشيءِ ، وليس هذا منه؛ لأنَّ المعنى كان يَفْسُدُ؛ إذ كان المفهومُ منه : ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبى » . قلت : وليس فاسداً لِما تقدَّم مِنْ قولِ أبي القاسم .

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)

قوله : { وَلَئِن جِئْتَهُمْ } : إنما وُحِّد هنا ، وجُمع بعده في قوله : « أنتم » لنكتَةٍ : وهو أنه تعالى أخبر في موضعٍ آخرَ فقال : « ولَئِنْ جئتَهم بكل آية » أي جاءَتْ بها الرسلُ . فقال الكفار : ما أنتم أيها المدَّعون الرسالةَ كلُّكم إلاَّ كذا .

كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)

قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ } : أي : مثلَ ذلك الطبعِ يطبعُ .

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

قوله : { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } : العامَّةُ من الاستخفاف بخاء معجمة وفاء . ويعقوب وابن أبي إسحاق بحاءٍ مهملةٍ وقاف من الاستحقاق . وابن أبي عبلة ويعقوب بتخفيف نونِ التوكيد . والنهي من باب قولهم « لا أُرَيَنَّكَ ههنا » .

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { الكتاب الحكيم } : قيل : فَعيل بمعنى مُفْعَل وهذا قليلٌ قالوا : أَعْقَدْتُ اللبنَ فهو عَقِيْدٌ أي مُعْقَد ، أو بمعنى فاعِل ، أو بمعنى ذي الحِكْمة ، أو أصلُه : الحكيم قائلُه ، ثم حُذِف/ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وهو الضميرُ المجرورُ ، فانقلب مرفوعاً ، فاستتر في الصفةِ . قاله الزمخشري وهو حَسَنُ الصناعةِ .

هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)

قوله : { هُدًى وَرَحْمَةً } : العامَّةُ على النصبِ على الحال مِنْ « آيات » والعاملُ ما في اسمِ الإشارةِ من معنى الفعل ، أو المدح . وحمزة بالرفعِ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ . وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ « هدىً » منصوباً على الحال حالَ رَفْع « رحمة » . قال : « ويكون رَفْعُها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : وهو رحمَةٌ » . وفيه بُعْدٌ .

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

قوله : { الذين يُقِيمُونَ } : صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ لِما قبلَه ، أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على القطعِ . وعلى كل تقديرٍ فهو تفسير للإِحسان . وسُئِل الأصمعيُّ عن الألمعيِّ . فأنشد :
3656 الأَلْمَعِيُّ الذي يَظُنُّ بك الظْ ... ظَنَّ كأنْ قد رَأَى وقد سمعا
يعني أنَّ الألمعيَّ هو الذي إذا ظَنَّ شيئاً كان كمَنْ رآه وسَمِعه .
كذلك المحسنون هم الذين يَفْعلون هذه الطاعاتِ . ومثلُه : وسُئِل بعضُهم عن الهَلُوع فلم يَزِدْ أَنْ تلا { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } [ المعارج : 20 ، 21 ] .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)

قوله : { لَهْوَ الحديث } : من بابِ الإِضافةِ بمعنى « مِنْ » لأنَّ اللهو يكون حديثاً وغيره كبابِ ساجٍ وجُبَّةِ خَزٍّ . وقيل : هو على حذف مضاف أي : يشتري ذواتِ لَهْوِ الحديثِ؛ لأنها نزلتْ في مشتري المغنِّيات . والأولُ أبلغُ .
قوله : « لِيُضِلَّ » قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ « لِيَضِلَّ » بفتح حرفِ المضارعةِ . والباقون بضمِّه ، مِنْ أضَلَّ غيرَه ، فمفعولُه محذوفٌ . وهو مُسْتَلْزِمٌ للضلالِ؛ لأنَّ مَنْ أضَلَّ فقد ضَلَّ مِنْ غيرِ عكسٍ . وقد تقدَّمَ ذلك في سورة إبراهيم . قال الزمخشري هنا : « فإنْ قلت : القراءةُ بالرفعِ بَيِّنَةٌ؛ لأنَّ النَّضِرَ كان غرضُه باشتراءِ اللَّهْوِ أن يَصُدَّ النَاسَ عن الدخولِ في الإِسلام واستماعِ القرآن ويُضِلَّهم عنه فما معنى القراءةِ بالفتح؟ قلت : معنيان ، أحدُهما : ليَثْبُتَ على ضلالِه الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ عنه ، ويَزِيدَ فيه ويَمُدَّه؛ فإن المخذولَ كان شديدَ الشَّكيمةِ في عداوةِ الدين ، وصَدِّ الناسِ عنه . الثاني : أَنْ يُوْضَعَ » لِيَضِلَّ « موضعَ ليُضِلَّ؛ مِنْ قِبَلِ أنَّ مَنْ أَضَلَّ كان ضالاًّ لا محالةَ فدَلَّ بالرَّديفِ على المَرْدُوف » .
قوله : « بغير عِلْمٍ » حالٌ أي : يشتري بغيرِ علمٍ بأحوالِ التجارة حيث اشترى ما يَخْسَرُ فيه الدارَيْنِ .
قوله : وَيَتَّخِذَها « قرأ الأخوانَ وحفصٌ بالنصب عطفاً على » لِيُضِلَّ « فهو علةٌ كالذي قبلَه . والباقون بالرفع عطفاً على » يَشْتري « فهو صلةٌ . وقيل : الرفعُ على الاستئنافِ من غير عطفٍ على الصلةِ . والضميرُ المنصوبُ يعود على الآيات المتقدِّمةِ أو السبيلِ؛ لأنه يُؤَنَّثُ ، أو الأحاديثِ الدال عليها » الحديث « لأنه اسمُ جنسٍ .
قوله : » أولئك لهم « حُمِلَ أولاً على لفظ » مَنْ « فَأُفْرِدَ ، ثم على معناها فجُمِعَ ، ثم على لفظِها فأُفْرِد في قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ } . وله نظائرُ تقدَّمَ التنبيهُ عليها في المائدة ، عند قولهِ تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] . وقال الشيخ : » ولا نعلم جاءَ في القرآن ما حُمِلَ على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غيرَ هاتين الآيتين « . قلت : وُجِدَ غيرُهما كما قَدَّمْتُ التنبيهَ عليه في المائدة .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

قوله : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } : حالٌ مِنْ فاعل « وَلَّى » أو مِنْ ضمير « مُسْتَكْبراً » .
قوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } حالٌ ثالثةٌ أو بدلٌ ممَّا قبلها ، أو حالٌ مِنْ فاعل « يَسْمَعْها » ، أو تبيينٌ لِما قبلها . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ جملتا التشبيهِ استئنافيتين .

خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

قوله : { خَالِدِينَ } : هو حالٌ . وخبرُ « إنَّ » الجملةُ مِنْ قولِه : « لهم جَنَّاتُ » . والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ « لهم » هو الخبرَ وحده ، و « جناتُ » فاعلٌ به . وقرأ زيدُ بن علي « خالدون » بالواو فيجوزُ أَنْ يكون هو الخبرَ ، والجملة - أو الجارُّ وحده - حالٌ . ويجوز أَنْ يكونَ « خالدون » خبراً ثانياً ل إنَّ .
قوله : « وَعْدَ اللَّهِ » مصدرٌ مؤكِّدٌ لنفسِه لأنَّ قوله : « لهم جنات » في معنى : وَعَدَهم اللَّهُ ذلك . و « حَقَّاً » مصدرٌ مؤكِّدٌ لغيره ، أي : لمضمونِ تلك الجملةِ الأولى ، وعاملُهما مختلِفٌ : فتقديرُ الأولِ : وَعَدَ اللَّهُ ذلك وَعْداً ، وتقديرُ الثاني : أحقُّ ذلك حقاً .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)

قوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } : تقدَّم في الرعد .

هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

قوله : { مَاذَا خَلَقَ } : « ما » استفهامٌ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة .

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

ولقمان قيل : أعجميٌّ . وهو الظاهر . فمنعُه للتعريفِ والعُجْمةِ الشخصية . وقيل : عربيٌّ مشتقٌّ مِن اللَّقْمِ وهو حينئذٍ مرتجلٌ؛ لأنه لم يَسْبِقْ له وَضْعٌ في النكرات . ومَنْعُه حينئذٍ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنون .

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)

والعاملُ في « إذ » مضمرٌ . « وهو يَعِظَهُ » جملةٌ حاليةٌ . « يا بُنيَّ » قد تقدَّم خلافُ القرَّاء فيه . وتقدَّم الكلامُ أيضاً على { وَصَّيْنَا الإنسان } في العنكبوت [ الآية : 8 ] .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

قوله : { وَهْناً على وَهْنٍ } : يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الحال مِنْ « أمُّه » أي : ضَعْفاً على ضَعْفٍ ، أو مِنْ مفعولِ « حَمَلَتْه » أي : عَلَقَةً ثم نطفة ثم مُضغة . وكلاهما جاء في التفسير . وقيل : منصوبٌ على إسقاطِ الخافض أي : في وَهْنٍ . قاله أبو البقاء . و « على وَهْن » صفةٌ ل « وَهْناً » .
وقرأ الثقفي وأبو عمروٍ في روايةٍ { وَهَناً على وَهْنٍ } بفتحِ الهاءِ فيهما . فاحتمل أَنْ يكونا لغتين كالشَّعْر والشَّعَر ، واحتمل أنْ يكونَ المفتوحَ مصدرَ وَهِنَ بالكسر يَوْهَنُ وَهَناً . وقرأ الجحدريُّ وقتادةُ وأبو رَجاءٍ/ « وفَصْلُه » دونَ ألفٍ أي : وفِطامُه .
قوله : « أن اشْكُرْ » في « أنْ » وجهان ، أحدهما : أنها مفسرة . والثاني : أنها مصدريةٌ في محلِّ نصبٍ ب « وَصَّيْنا » . وهو قولُ الزجَّاج .

وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

قوله : { مَعْرُوفاً } : صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : صِحاباً معروفاً وقيل : الأصلُ : بمعروفٍ .
قوله : « إليَّ » متعلِّقٌ ب أنابَ . « ثم إليَّ » متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه خبرُ « مَرْجِعُكم » .

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)

قوله : { إِنَّهَآ إِن تَكُ } : ضميرُ القصةِ . والجملةُ الشرطيةُ مفسِّرةٌ للضميرِ . وتقدَّم أنَّ نافعاً يقرأُ « مثْقال » بالرفع على أنَّ « كان » تامةٌ وهو فاعلُها . وعلى هذا فيُقال : لِمَ لَحِقَتْ فعلَه تاءُ التأنيث؟ قيل : لإِضافته إلى مؤنث ، ولأنه بمعنى : زِنَةُ حَبَّة . وجَوَّز الزمخشري في ضمير « إنها » أَنْ تكونَ للهِنَةِ من السَّيِّئاتِ أو الإِحسان في قراءةِ مَنْ نصب « مِثْقال » . وقيل : الضميرُ يعودُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ أي : إنَّ التي سألْتَ عنها إنْ تَكُ . وفي التفسير : أنه سأل أباه : أرأيتَ الحبة تقع في مَغاصِ البحر : أيعلُمها اللَّه؟
وقرأ عبد الكريم الجَزَرِيُّ « فَتَكِنَّ » بكسرِ الكاف وتشديد النونِ مفتوحةً أي : فتستقرَّ . وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي « فَتُكَنَّ » كذلك إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعول . وقتادة « فَتَكِنُ » بكسرِ الكاف وتخفيف النونِ مضارعَ « وَكَنَ » أي : استقرَّ في وَكْنِه ووَكْرِه .

يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

قوله : { مِنْ عَزْمِ } : عَزْم مصدرٌ . يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مفعول أي : مِنْ معزوماتِ الأمورِ أو بمعنى عازِم كقولِه : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } [ محمد : 21 ] وهو مجازٌ بليغٌ . وزعَم المبرد أنَّ العينَ تُبْدَلُ حاءً فقال : حَزْمٌ وعَزْمٌ . والصحيحُ أنهما مادَّتان مختلفتان اتَّفَقتا في المعنى .

وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)

قوله : { وَلاَ تُصَعِّرْ } : قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ والأخَوان « تَصاعَرَ » بألفٍ وتخفيفِ العينِ . والباقون دون ألفٍ وتشديد العين ، والرسمُ يَحْتمِلُهما؛ فإنَّ الرسمَ بغيرِ ألفٍ . وهما لغتان : لغةُ الحجازِ التخفيفُ ، وتميمٌ التثقيلُ . فمِن التثقيلِ قوله :
3657 وكُنَّا إذا الجبارُ صَعَّر خَدَّه ... أقَمْنا له مِنْ مَيْلِه فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً : تَصَعَّر . قال :
3658 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَقَمْنا له مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّرِ
وهو من المَيْل؛ وذلك أنَّ المتكبِّر يَميل بخَدِّه تكبُّراً كقولِه { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] . قال أبو عبيدة : « أصلُه من الصَّعَر ، داءٌ يأخُذُ الإِبِلَ في أعناقِها فتميلُ وتَلْتوي » . وتفسيرُ اليزيديِّ له بأنَه التَّشَدُّقُ في الكلامِ لا يوافِقُ الآية هنا .

وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

قوله : { واقصد } : هذا قاصِرٌ بمعنى اقتصِدْ واسْلُكْ الطريقةَ الوُسْطى بين ذلك قَواما . وقُرِئ « وأَقْصِدْ » بهمزةِ قطعٍ ، مِنْ أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمَه للرَّمْيَةِ .
قوله : « مِنْ صَوْتِك » تبعيضيَّةٌ . وعند الأخفش يجوزُ أَنْ تكونَ مزيدةً . ويؤيِّدُه { يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } [ الحجرات : 3 ] وقيل : « مِنْ صوتِك » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : شيئاً مِنْ صوتِك وكانت الجاهليةُ يتمدَّحون برفعِ الصوتِ قال :
3659 جَهيرُ الكلامِ جَهيرُ العُطاس ... جَهيرُ الرُّواءِ جَهيرُ النِّعَمْ
قوله : « إنَّ أَنْكَرَ » قيل : « أنكَر » مبنيٌّ للمفعولِ نحو : « أَشْغَلُ مِنْ ذاتِ النَّحْيَيْن » . وهو مختلَفٌ فيه . ووُحِّد « صوت » لأنه يُرادُ به الجنسُ ولإِضافتِه لجمع .

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)

قوله : { نِعَمَهُ } : قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفص « نِعَمَه » جمعَ نِعْمة مضافاً لهاءِ الضمير ، ف « ظاهرةً » حالٌ منها . والباقون « نِعْمةً » بسكون العين ، وتنوينِ تاء التأنيث ، اسمَ جنسٍ يُراد به الجمعُ ف « ظاهرة » نعتٌ لها . وقرأ ابنُ عباس ويحيى بن عمارة « وأَصْبَغَ » بإبدال السينِ صاداً . وهي لغةُ كلبٍ يفعلون ذلك مع الغينِ والخاء والقاف . وتقدَّم نظيرُ هذه الجملِ كلِّها في البقرة ، والكلامُ على « أَوَلَوْ » ونحوِه .

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

وقرأه عليٌّ والسلميُّ « يُسَلِّم » بالتشديد .

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

قوله : { والبحر } : قرأ أبو عمرو بالنصب ، والباقون بالرفع . فالنصبُ من وجهين ، أحدُهما : العطفُ على اسمِ « أنَّ » . أي : ولو أنَّ البحرَ ، و « يَمُدُّه » الخبرُ . والثاني : النصبُ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره « يمدُّه » والواوُ حينئذٍ للحال . والجملةُ حاليةٌ ، ولم يُحْتَجْ إلى ضميرٍ رابطٍ بين الحالِ وصاحبِها ، للاستغناءِ عنه بالواوِ . والتقديرُ : ولو أنَّ الذي في الأرضِ حَالَ كونِ البحرِ ممدوداً بكذا .
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهين ، أحدُهما : العطفُ على أنَّ وما في حَيِّزها . وقد تقدَّم لك في « أنَّ » الواقعةِ/ بعد « لو » مذهبان : مذهبُ سيبويهِ الرفعُ على الابتداء ، ومذهبُ المبردِ على الفاعليةِ بفعلٍ مقدر ، وهما عائدان هنا . فعلى مذهبِ سيبويه يكون تقديرُ العطفِ : ولو البحر . إلاَّ أنَّ الشيخَ قال : إنه لا يلي « لو » المبتدأُ اسماً صريحاً إلاَّ في ضرورةٍ ، كقوله :
3660 لو بغير الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا القولُ يُؤَدِّيْ إلى ذلك . ثم أجابَ بأنه يُغْتَفَرُ في المعطوفِ ما لا يُغْتَفَرُ في المعطوفِ عليه كقولهم : « رُبَّ رجلٍ وأخيه يقولان ذلك » . وعلى مذهبِ المبرد يكون تقديرُه : ولو ثَبَت البحرُ ، وعلى التقديرَيْن يكون « يمدُّه » جملةً حالية من البحر .
والثاني : أنَّ « البحر » مبتدأٌ ، و « يَمُدُّه » الخبر ، والجملةُ حالية كما تقدَّم في جملةِ الاشتغال ، والرابط الواو . وقد جَعَله الزمخشريُّ سؤالاً وجواباً . وأنشد :
3661 وقد أَغْتَدِيْ والطيرُ في وُكُناتِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « مِنْ شجَرة » حالٌ : إمَّا من الموصولِ ، أو من الضميرِ المستترِ في الجارِّ الواقعِ صلةً ، و « أقلامٌ » خبرُ « أنَّ » . قال الشيخُ : « وفيه دليلٌ على مَنْ يَقولُ - كالزمخشريِّ ومَنْ يتعصَّب له من العجم - على أنَّ خبر » أنَّ « الواقعة بعد » لو « لا يكونُ اسماً البتة لا جامداً ولا مشتقاً ، بل يتعيَّنُ أَنْ يكونَ فعلاً » قال : « وهو باطِلٌ » وأنشد :
3662 ولو أنها عُصْفورَةٌ لَحَسِبْتُها ... مُسَوَّمَةً تَدْعو عبيداً وأَزْنَما
وقال :
3663 ما أطيبَ العَيْشَ لو أنَّ الفتى حَجَرٌ ... تَنْبُو الحوادِثُ عنه وهْو مَلْمُومُ
وقال :
3664 ولو أنَّ حياً فائتُ الموتِ فاته ... أخو الحربِ فوقَ القارِحِ العَدَوانِ
قال : « وهو كثيرٌ في كلامِهم » . قلت : وقد تقدمَ أولَ هذا الموضوع أنَّ هذه الآيةَ ونحوَها تُبْطِلُ ظاهرَ قولِ المتقدمين في « لو » أنها حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ؛ إذ يَلْزَمُ محذورٌ عظيمٌ : وهو أنَّ ما بعدها إذا كان منفيًّا لفظاً فهو مُثْبَتٌ معنىً ، وبالعكس . وقوله : « ما نَفِدَتْ » منفيٌّ لفظاً ، فلو كان مثبتاً معنىً فَسَدَ المعنى ، فعليك بالالتفاتِ إلى أولِ البقرةِ .

وقرأ عبد الله « وبَحْرٌ » بالتنكير وفيه وجهاه معرَّفاً . وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ وقوعُها بعد واوِ الحال ، وهو معدودٌ من مسوِّغات الابتداء بالنكرةِ . وأنشدوا :
3665 سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بَدا ... مُحَيَّاك أخفى ضَوْءُه كلَّ شارِقِ
وبهذا يظهرُ فسادُ قولِ مَنْ قال : إنَّ في هذه القراءةِ يتعيَّنُ القولُ بالعطفِ على « أنَّ » ، كأنه تَوَهَّم أنه ليس ثَمَّ مُسَوِّغٌ .
وقرأ عبد الله وأُبَيٌّ « تَمُدُّه » بالتأنيثِ لأجل « سبعة » . والحسن وابن هرمز وابن مصرف « يُمِدُّه » بالياء من تحتُ مضمومةً وكسرِ الميم مِنْ أمَدَّه . وقد تقدَّم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرةِ .
قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قيل : » مِنْ شجرة « بالتوحيد؟ قلت : أُريد تفصيلُ الشجرِ وتَقَصِّيها شجرةً شجرةً حتى لا يَبْقَى من جنس الشجرِ واحدةٌ إلاَّ قد بُرِيَتْ أقلاماً » . قال الشيخ : وهو مِنْ وقوع المفردِ موقعَ الجمع والنكرةِ موقعَ المعرفةِ ، كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] قلت : وهذا يَذْهبُ بالمعنى الذي أبداه الزمخشري . وقال أيضاً : « فإنْ قلت : » الكلماتُ « جمع قلةٍ ، والموضعُ موضعُ تكثيرٍ ، فهلا قيل : كَلِم . قلت : معناه أنَّ كلماتِه لا تَفي بكَتْبَتِها البحارُ ، فكيف بكَلمِهِ »؟ قلت : يعني أنه من بابِ التثنية بطريق الأَوْلى . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ جَمْعَ السلامة متى عُرِّف بأل غيرِ العَهْدية أو أُضيف عَمَّ . قلت للناسِ خلافٌ في « أل » هل تعُمُّ أو لا؟ وقد يكونُ الزمخشريُّ ممَّنْ لا يَرَى العمومَ ، ولم يَزَلِ الناسُ يسألونَ في بيت حَسَّان رضي الله عنه :
3666 لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحى ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقولون : كيف أتى بجمع القِلَّة في مقام المدح؟ ولِمَ لم يَقُلْ الجِفان؟ وهو تقريرٌ لِما قاله الزمخشريُّ واعترافٌ بأنَّ أل لا تؤثِّر في جمع القلةِ تكثيراً .

مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

قوله : { إِلاَّ كَنَفْسٍ } : خبرُ « ما خَلْقُكم » والتقدير : إلاَّ كخَلْقِ نَفْسٍ واحدةٍ وبَعْثِها . وهنا « إلى أَجَل » وفي الزمر { لأَجَلٍ } [ الآية : 5 ] لأنَّ المعنيين لائِقان بالحرفَيْن فلا عليك في أيِّهما وقع .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)

وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ : { وَأَنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ } بياءِ الغَيْبة . والباقون بالتاء خطاباً .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)

قوله : { بِنِعْمَةِ الله } : يجوز/ أَنْ يتعلَّقَ ب « تَجْري » أو بمحذوفٍ على أنها حالٌ : ملتبسةً بنعمةِ اللَّهِ . والأعمش والأعرج « بنِعْمات » جمعاً . وابنُ أبي عبلة كذلكَ إلاَّ أنه فتح النونَ وكسر العَيْن . وموسى بن الزبير « الفُلُك » بضمتين .

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

قوله : { خَتَّارٍ } : مثالُ مبالغةٍ مِن الخَتْرِ ، وهو أشَدُّ الغَدْرِ . قال الأعشى :
3667 بأبلقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْماءَ مَنْزِلُه ... حِصْنٌ حَصينٌ وجارٌ غيرُ خَتَّار
وقال عمرو بن معد يكرب :
3668 فإنَّك لو رَأَيْتَ أبا عُمَيْرٍ ... مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وخَتْرِ
وقالوا : « إنْ مَدَدْتَ لنا شِبْراً من غَدْر مَدَدْنا لك باعاً مِنْ خَتْر » .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

قوله : { وَلاَ مَوْلُودٌ } : جوَّزوا فيه وجهين ، أحدهما : أنه مبتدأٌ ، وما بعدَه الخبرُ . والثاني : أنه معطوفٌ على « والدٌ » ، وتكون الجملةُ صفةً له . وفيه إشكالٌ : وهو أنه نَفَى عنه أن يَجْزيَ ، ثم وَصَفَه بأنه جازٍ . وقد يُجاب عنه : بأنه وإن كان جازياً عنه في الدنيا فليس جازياً عنه يوم القيامة فالحالان باعتبار زَمَنين .
وقد منع المهدويُّ أَنْ يكونَ مبتدأً قال : « لأنَّ الجملةَ بعده صفةٌ له فيبقى بلا خبرٍ ، ولا مُسَوِّغَ غيرُ الوصف » . وهو سهوٌ . لأنَّ النكرةَ متى اعتمدَتْ على نفيٍ ساغ الابتداءُ بها . وهذا مِنْ أشهرِ مُسَوِّغاتِه . وقال الزمخشري : « فإن قلت : قوله : { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } وارِدٌ على طريقٍ من التوكيد لم يَرِدْ عليه ما هو معطوفٌ عليه . قلت : الأمر كذلك لأنَّ الجملةَ الاسميَّةَ آكدُ من الفعلية ، وقد انضَمَّ إلى ذلك قولُه : » هو « وقوله : » مولودٌ « . قال : » ومعنى التوكيدِ في لفظِ المولود : أنَّ الواحدَ منهم لو شَفَعَ للوالدِ الأَدْنَى الذي وُلِد منه لم تُقْبَلْ منه فضلاً أَنْ يَشْفَعَ لمَنْ فوقَه مِنْ أجدادِه لأنَّ « الولدَ » يقع على الولدِ وولدِ الولدِ ، بخلاف المولودِ فإنه للذي وُلِد منك « قال : » والسببُ في مجيئِه على هذا السَّنَنِ أنَّ الخطابَ للمؤمنين ، وعِلِّيَّتُهم قُبِضَ آباؤُهم على الكفر ، فأريد حَسْمُ أطماعِهم وأطماعِ الناسِ فيهم « .
والجملةُ مِنْ قولِه : » لا يَجْزِي « صفةٌ ل » يومٍ « ، والعائدُ محذوفٌ أي : فيه ، فحُذِف برُمَّتهِ أو على التدريج .
وقرأ عكرمة » لا يُجْزَى « مبنياً للمفعول . وأبو السَّمَّال وأبو السِّوار » لا يُجْزِئ « بالهمز ، مِنْ أَجْزأ عنه أي : أغنى .
قوله : » شيئاً « منصوبٌ على المصدر وهو من الإِعمال؛ لأنَّ » يَجْزي « و » جازٍ « يَطْلبانِه . والعاملُ جازٍ ، على ما هو المختارُ للحذفِ من الأول .
قوله : » فلا تَغُرَّنَّكُمْ « العامَّةُ على تشديد النون . وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة ويعقوبُ بالخفيفة ، وسماك بن حرب ويعقوب » الغُرور « بالضمِّ وهو مصدرٌ ، والعامَّةُ بالفتح صفةُ مبالغةٍ كشَكُور . وفُسِّر بالشيطان . على أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ المضمومَ مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان .

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

قوله : { مَّاذَا تَكْسِبُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » استفهاميةً فتُعَلِّقَ الدِّراية ، وأن تكونَ موصولةً فتنتصِبَ بها ، وقد عُرِفَ حكمُ « ماذا » أولَ الكتابَ ، وتكرَّر في غُضُونه .
قوله : « بأيِّ أرضٍ » متعلقٌ ب « تموتُ » وهو مُعَلِّقٌ للدِّراية ، فهو في محلِّ نصبٍ . وقرأ موسى الأسواري « بأيةِ أرضٍ » على تأنيثها . وهي لغة ضعيفة ، كتأنيث « كل » حيث قالوا : كلتهن ، فعلَّق ذلك . والباءُ ظرفيةٌ بمعنى : في : أيْ : في أرض نحو : زيد بمكة أي : فيها .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)

بسم الله الرحمن
قوله : { تَنزِيلُ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه خبرُ « ألم » لأنَّ « ألم » يُرادُ به السورةُ وبعضُ القرآنِ . وتنزيلُ بمعنى مُنزِّل . والجملةُ مِنْ قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } حالٌ من « الكتاب » . والعاملُ فيها « تنزيلُ » لأنه مصدرٌ . و « مِنْ رَبِّ » متعلِّقٌ به أيضاً . ويجوزُ أن يكون حالاً من الضمير في « فيه » لوقوعِه خبراً . والعاملُ فيه الظرفُ أو الاستقرارُ .
الثاني : أَنْ يكونَ « تَنْزِل » مبتدأً ، ولا « ريبَ فيه » خبرُه . و { مِن رَّبِّ العالمين } حالٌ من الضمير في « فيه » . ولا يجوزُ حينئذٍ أَنْ يتعلَّقَ ب تنزيل؛ لأنَّ المصدرَ قد أُخْبِر عنه فلا يَعْمَلُ . ومَنْ يَتَّسِعُ في الجارِّ لا يبالي بذلك .
الثالث : أَنْ يكونَ « تنزيلُ » مبتدأ أيضاً . و « مِنْ رَبِّ » خبرُه و « لا/ ريبَ » حالٌ أو معترضٌ . الرابع : أن يكون « لا ريب » و { مِن رَّبِّ العالمين } خبرين ل « تنزيلُ » . الخامس : أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وكذلك « لا ريبَ » ، وكذلك « مِنْ ربّ » ، فتكونُ كلّ جملةٍ مستقلةً برأسِها . ويجوزُ أَنْ يكونا حالَيْن من « تنزيلُ » ، وأن يكونَ « مِنْ رب » هو الحالَ ، و « لا ريبَ » معترضٌ . وأولُ البقرةِ مُرْشِدٌ لهذا ، وإنما أَعَدْتُه تَطْرِيَةً .
وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ { مِن رَّبِّ العالمين } متعلِّقاً ب « تنزيل » قال : « على التقديم والتأخير » . ورَدَّه الشيخ : بأنَّا إذا قُلنا : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراضٌ لم يكنْ تقديماً وتأخيراً ، بل لو تأخَّر لم يكنْ اعتراضاً . وجَوَّز أيضاً أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب « لا ريبَ » أي : لا ريبَ فيه مِنْ جِهةِ ربِّ العالمين ، وإنْ وَقَعَ شَكٌّ للكفرةِ فذلك لا يُراعَى .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

قوله : { أَمْ يَقُولُونَ } : هي المنقطعةُ ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطالٌ .
قوله : { بَلْ هُوَ الحق } إضرابٌ ثانٍ . ولو قيل بأنَّه إضرابُ إبطالٍ لنفسِ « افتراه » وحدَه لكان صواباً ، وعلى هذا يُقال : كلُّ ما في القرآنِ إضرابٌ فهو انتقالٌ إلاَّ هذا ، فإنه يجوزُ أَنْ يكونَ إبطالاً؛ لأنه إبطالٌ لقولِهم أي : ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحقُّ . وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُرْشِدُ إلى هذا فإنه قال : « والضميرُ في » فيه « راجعٌ إلى مضمونِ الجملة . كأنه قيل : لا ريبَ في ذلك ، أي : في كونِه مِنْ رب العالمين . ويَشْهَدُ لِوجاهَتِه قولُه : { أَمْ يَقُولُونَ : افتراه } ؛ لأنَّ قولهم » هذا مفترى « إنكارٌ لأَنْ يكونَ مِنْ ربِّ العالمين ، وكذلك قوله : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ } وما فيه تقريرٌ أنه من عندِ الله . وهذا أسلوبٌ صحيحٌ مُحْكَمٌ » .
قوله : « مِنْ ربِّك » حالٌ من « الحقّ » والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة ، وهو العاملُ في « لِتُنْذِرَ » أيضاً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في « لتنذر » غيرَه أي : أنزله لِتنذِرَ .
قوله : { قَوْماً مَّآ أَتَاهُم } الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ . و « قوماً » هو الأولُ؛ إذ التقديرُ : لتنذِرَ قوماً العقابَ ، و « ما أتاهم » جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً ل « قوماً » يريد : الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام . وجعله الزمخشري كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] فعلى هذا يكونُ « مِنْ نذير » هو فاعلَ « أتاهم » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . و « مِنْ قبلِك » صفةٌ لنذير . ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ « مِنْ قبلك » ب « أَتاهم » .
وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ « ما » موصولةً في الموضعين ، والتقدير : لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك . و « مِنْ نذير » متعلقٌ ب « أَتاهم » أي : أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك ، وكذلك { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] أي : العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم . ف « ما » مفعولةٌ في الموضعين ، و « لِتُنْذرَ » يتعدَّى إلى اثنين . قال تعالى : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن . قال تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] . قلت : وهذا الذي قاله ظاهرٌ .
ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ : وهو أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً تقديرُه : لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق .

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

قوله : { ثُمَّ يَعْرُجُ } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل . وابنُ أبي عبلة على بنائِه للمفعول . والأصلُ : يُعْرَجُ به ، ثم حُذِفَ الجارُّ فارتفع الضميرُ واستتر . وهو شاذٌّ يَصْلُحُ لتوجيهِ مثلِها .
قوله : « مِمَّا تَعُدُّون » العامَّةُ على الخطاب . والحسن والسلميُّ وابنُ وثَّاب والأعمش بالغَيْبة . وهذا الجارُّ صفةٌ ل « أَلْف » أو ل « سَنة » .

ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)

قوله : { ذلك عَالِمُ } : العامَّةُ على رفع « عالمُ » و « العزيز » و « الرحيم » على أَنْ يكونَ « ذلك » مبتدأً ، و « عالمُ » خبرَه . و « العزيز الرحيم » خبران أو نعتان ، أو العزيز الرحيم مبتدأٌ وصفتُه ، و « الذي أَحْسَنَ » خبرُه ، أو « العزيزُ الرحيم » خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وقرأ زيد بن علي بجرِّ الثلاثة . وتخريجُها على إشكالها : أن يكونَ « ذلك » إشارةً إلى الأمر المدبَّر ، ويكونَ فاعلاً ل « يَعْرُجُ » ، والأوصافُ الثلاثة بدلٌ من الضمير في « إليه » . كأنه قيل : ثم يعرُج الأمرُ المدبَّرُ إليه عالمِ الغيب أي : إلى عالم الغيب .
وأبو زيد برفع « عالمُ » وخفض « العزيزِ الرحيمِ » على أن يكونَ « ذلك عالمُ » مبتدأً وخبراً ، والعزيزِ الرحيمِ بدلان من الهاء في « إليه » أيضاً . وتكون الجملةُ بينهما اعتراضاً .

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)

قوله : { الذي أَحْسَنَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً لِما قبله في قراءتَيْ الرفع والخفض ، وأن يكونَ خبراً آخرَ ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وأن يكونَ منصوباً على المدح .
قوله : « خَلَقَه » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام . والباقون بفتحها . فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « خَلْقَه » بدلاً مِنْ « كلَّ شيء » بدلَ اشتمالٍ مِنْ « كلَّ شيءٍ » ، والضميرُ عائدٌ على كل شيء . وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ . الثاني : أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل ، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى . ومعنى « أحسن » : /حَسَّن؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ . الثالث : أن يكونَ « كلَّ شيءٍ » مفعولاً أول ، و « خَلْقَه » مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن « أحسَنَ » معنى أَعْطى وأَلْهَمَ . قال مجاهد : « أعطى كلَّ جنسٍ شكله » . والمعنى : خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به . الرابع : أن يكون « كلَّ شيء » مفعولاً ثانياً قُدِّم ، و « خَلْقَه » مفعولاً أول أُخِّر ، على أَنْ يُضَمَّنَ « أَحْسَنَ » معنى أَلْهَمَ وعَرَّف . قال الفراء : « ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك » . قلت : وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف . وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم ، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى ، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي : عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .
الخامس : أن تعودَ الهاء [ على الله تعالى ] وأَنْ يكون « خَلْقَه » منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، وهو مذهبُ سيبويه أي : خَلَقَه خَلْقاً . ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال : بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله ، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول ، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كان أبلغَ مِنْ « أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء »؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً . وإذا قال : أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه .
وأمَّا القراءةُ الثانية ف « خَلَقَ » فيها فعلٌ ماضٍ ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه .
قوله : « وَبَدَأ » العامَّةُ على الهمزِ . وقرأ الزهريُّ « بدا » بألفٍ خالصةٍ ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها ، إذ قياسُه بينَ بينَ . على أن الأخفش حكى « قَرَيْتُ » وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار . يقولون في بدأ : « بَدِي » يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري :
3669 بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا ... ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا
قال : « وطيِّئٌ تقول في بَقِي : بَقَا » . قال : « فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ ، أصلُه بَدِي ، ثم صار بدا » . قلت : فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن .

ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)

قوله : { وَجَعَلَ لَكُمُ } : هذا التفاتٌ مِنْ ضميرِ غائبٍ مفردٍ في قوله : « نَسْلَه » إلى آخره ، إلى خطاب جماعة .

وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)

قوله : { أَإِذَا ضَلَلْنَا } : تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد . والعاملُ في « إذا » محذوفٌ تقديرُه : نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ ، لدلالةِ « خَلْقٍ جديد » عليه . ولا يَعْمَلُ فيه « خَلْق جديد » لأنَّ ما بعد « إنَّ » والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما . وجوابُ « إذا » محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً .
وقرأ العامَّةُ « ضَلَلْنا » بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى : ذَهَبْنا وضِعْنا ، مِنْ قولِهم : ضَلَّ اللبنُ في الماء . وقيل : غُيِّبْنا . قال النابغة :
3670 فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة ... وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ
والمضارعُ مِنْ هذا : يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ . وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ ، وهي لغةُ العالية . والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح . وقرأ عليٌّ وأبو حيوة « ضُلِّلْنا » بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد .
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد « صَلَلْنا » بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة . وعن الحسن أيضاً « صَلِلْنا » بكسرِ الصادِ . وهما لغتان . يقال : صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها . ومعنى صَلَّ اللحمُ : أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه . ويُقال أيضاً : أَصَلَّ بالألف قال :
3671 تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ ... أَصَلَّتْ ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ
وقال النحاس : « لا نعرفُ في اللغة » صَلِلْنا « ولكن يُقال : صَلَّ اللحمُ ، وأصلَّ ، وخَمَّ وأَخَمَّ » وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر .

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

قوله : { تُرْجَعُونَ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول . وزيد بن علي على بنائِه للفاعل .

وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)

قوله : { وَلَوْ ترى } : في « لو » هذه وجهان ، أحدهما : أنها لِما كان سيقع لوقوع غيره . وعَبَّر عنها الزمخشريُّ بامتناعٍ لامتناعٍ . وناقشه الشيخ في ذلك . وقد تقدَّم في أول البقرة تحقيقُه . وعلى هذا جوابُها محذوفٌ أي : لَرَأَيْتَ أمراً فظيعاً . الثاني : أنَّها للتمني . قال الزمخشري : كأنه قيل : وَلَيْتَكَ ترى . وفيها إذا كانت للتمني خلافٌ : هل تقتضي جواباً أم لا؟ وظاهرُ تقديرِ الزمخشري هنا أنه لا جوابَ لها . قال الشيخ : « والصحيحُ/ أنَّ لها جواباً » . وأنشدَ قولَ الشاعر :
3672 فلو نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْبٍ ... فَيُخبِرَ بالذَّنائبِ أيُّ زِيْرِ
بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لَقَرَّ عيناً ... وكيف لِقاءُ مَنْ تحتَ القُبورِ
قال الزمخشري : « و » لو « تجيءُ في معنى التمني كقولك : لو تأتيني فتحدثَني كما تقول : ليتك تأتيني فتحدثني » . قال ابن مالك : « إن أراد به الحذفَ أي : وَدِدْتُ لو تأتيني فتحدثَني فصحيحٌ ، وإن أراد أنها موضوعةٌ له فليس بصحيح؛ إذ لو كانت موضوعةً له لم يُجْمَعْ بينها وبينه كما لم يُجْمَعْ بين » ليت « وأتمنى ، ولا » لعلَّ « وأترجَّى ، ولا » إلاَّ « وأَسْتَثْني . ويجوز أن يُجْمَعَ بين لو وأتمنى تقول : تمنَّيْتُ لو فعلتُ كذا » . وهل المخاطبُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو غيرُه؟ خلاف . و « إذ » على بابها من المضيِّ لأنَّ « لو » تَصْرِفُ المضارِعَ للمضيِّ . وإنما جيءَ هنا ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه نحو : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وجعله أبو البقاء ممَّا وَقَع فيه « إذ » موقعَ « إذا » ولا حاجةَ إليه .
قوله : « ناكِسُو » العامَّةُ على أنه اسمُ فاعلٍ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً . وزيدُ بن علي « نَكَسُوا » فعلاً ماضياً ، « رؤوسَهم » ، مفعولٌ به .
قوله : « ربَّنا » على إضمارِ القول وهو حالٌ . أي قائلين ذلك . وقدَّره الزمخشريُّ « يَسْتغيثون بقولهم » وإضمارُ القول أكثرُ .
قوله : « أَبْصَرْنا وسَمِعْنا » يجوزُ أَنْ يكونَ المفعولُ مقدراً أي : أَبْصَرْنا ما كُنَّا نُكَذِّبُ ، وسَمِعْنا ما كنا نُنْكِرُ . ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ أي : صِرْنا بُصَراءَ سميعين .
قوله : « صالحاً » يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به ، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ .

فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

قوله : { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ } : يجوزُ في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدها : أنها مِن التنازعِ؛ لأنَّ « ذُوقوا » يطلبُ « لقاءَ يومِكم » و « نَسِيْتُمْ » يطلبه أيضاً . أي : ذوقوا عذابَ لقاءِ يومِكم هذا بما نَسِيْتُمْ عذابَ لقاءِ يَوْمِكم هذا ، ويكونُ من إعمالِ الثاني عند البصريين ، ومن إعمالِ الأول عند الكوفيين ، والأولُ أصَحُّ للحَذْفِ من الأول؛ إذ لو أعمل الأولَ لأَضْمَرَ في الثاني . الثاني : أن مفعولَ « ذُوْقوا » محذوفٌ أي : ذُوْقوا العذابَ بسببِ نسيانِكم لقاءَ يومكم و « هذا » على هذين الإِعرابين صفةٌ ل « يومِكم » . الثالث : أن يكونَ مفعولُ « ذوقوا » « هذا » والإِشارةُ به إلى العذاب ، والباءُ سببيةٌ أيضاً أي : فذوقوا هذا العذابَ بسببِ نِسيانِكم لقاءَ يومكم . وهذا يَنْبُو عنه الظاهرُ .

تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)

قوله : { تتجافى } : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً ، وكذلك « يَدْعُون » وإذا جَعَلَ « يَدْعُون » حالاً احْتَمَل أن يكون حَالاً ثانياً ، وأن يكونَ حالاً مِن الضمير في « جُنوبُهم » لأنَّ المضافَ جزءٌ . والتجافي : الارتفاعُ ، وعَبَّر به عن تَرْكِ النومِ قال ابنُ رَواحة :
3673 نبيٌّ يُجافي جَنْبُه عن فراشِه ... إذا اسْتَثْقَلَتْ بالمشركين المضاجعُ
و « خَوْفاً وطَمَعاً » : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجلِه ، وإمَّا حالان ، وإمَّا مصدران لعاملٍ مقدر .

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)

قوله : « أُخْفِيَ » قرأه حمزةُ « أُخْفِيْ » فعلاً مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم ، فلذلك سَكَنَتْ ياؤُه لأنه مرفوعٌ . وتؤيدها قراءةُ ابنِ مسعود « ما نُخْفي » بنون العظمة . والباقون « أُخْفِيَ » ماضياً مبنياً للمفعول ، فمِنْ ثَمَّ فُتحت ياؤُه . وقرأ محمد بن كعب « أَخْفى » ماضياً مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى ، ويؤيِّده قراءةُ الأعمش « ما أَخْفَيْتُ » مسنداً للمتكلم . وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرةَ « مِّن قُرَّاتِ أَعْيُنٍ » جمعاً بالألف والتاء . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أي : لا نَعْلَمُ الذي أخفاه اللَّهُ . وفي الحديث : « ما لا عينٌ رَأَتْ ، ولا أُذُن سَمِعَت ، ولا خَطَر على قَلْب بشر » وأَنْ تكونَ استفهاميةً معلِّقَةً ل « تَعْلَمُ » . فإن كانَتْ متعديةً لاثنين سَدَّت مَسَدَّهما ، أو لواحدٍ سَدَّتْ مَسَدَّه . و « جزاءً » مفعول له ، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبلَه . وإذا كانَتْ استفهاميةً فعلى قراءةِ مَنْ قرأ ما بعدها فعلاً ماضياً تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والفعلُ بعدها الخبرُ . وعلى قراءةِ مَنْ قرأه مضارعاً تكونُ مفعولاً مقدَّماً ، و « مِنْ قُرَّة » حالٌ مِنْ « ما » .

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)

قوله : { لاَّ يَسْتَوُونَ } : مستأنفٌ ورُوِي عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يعتمد الوقفَ على قوله : « فاسقاً » ثم يَبْتَدئ « لا يَسْتوون » .

أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)

وقرأ طلحة « جَنَّةُ المَأْوى » بالإِفراد . والعامَّةُ بالجمع . وأبو حيوة « نُزْلاً » بضمٍ وسكون ، وتقدَّم تحقيقُه في آخر آل عمران .

وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

قوله : { الذي كُنتُمْ بِهِ } : صفةٌ ل « عذابَ » . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً للنار قال : وذُكِّرَ على معنى الجحيم والحريق .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

قوله : { ثُمَّ أَعْرَضَ } : هذه لبُعْدِ ما بين الرتبتَيْن معنىً . وشبَّهها الزمخشريُّ بقوله :
3674- وما يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها
قال : « استبعدَ أن يزورَ غَمَراتِ الموتِ بعد أَنْ رآها وعَرفها واطَّلع على شدَّتِها » .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)

قوله : { فِي مِرْيَةٍ } : قرأ الحسنُ بالضمِّ وهي لغةٌ .
قوله : « مِنْ لقائِه » في الهاءِ أقوالٌ ، أحدُها : أنها عائدةٌ على موسى . والمصدرُ مضافٌ لمفعولِه أي : مِنْ لقائِك موسى ليلةَ الإِسراء . وامتحن المبردُ الزجَّاج في هذه المسألةِ فأجابه بما ذُكر . الثاني : أنَّ الضميرَ يعودُ على الكتاب . وحينئذٍ يجوزُ أن تكونَ الإِضافةُ للفاعلِ أي : من لقاءِ الكتاب لموسى ، أو المفعولِ أي : مِنْ لقاءِ موسى الكتاب؛ لأنَّ اللقاءَ تَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍ منهما . الثالث : أنه يعودُ على الكتاب ، على حَذْفِ مضاف أي : من لقاءِ مثل كتابِ موسى . الرابع : أنه عائدٌ على مَلَكَ الموتِ لتقدُّم ذِكْره . الخامس : عَوْدُه على الرجوعِ المفهومِ مِن الرجوع في قوله : { إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : لا تَكُ في مِرْيةٍ مِنْ لقاء الرجوع . السادس : أنه يعودُ على ما يُفهَمُ مِنْ سياقِ الكلام ممَّا ابْتُلِي به موسى مِن البلاء والامتحان . قاله الحسن أي : لا بُدَّ أنَ تَلْقَى ما لَقِيَ موسى من قومه . وهذه أقوالٌ بعيدة ذكرْتُها للتنبيه على ضَعْفها . وأظهرُها : أنَّ الضميرَ : إمَّا لموسى ، وإما للكتاب . أي : لا تَرْتَبْ في أنَّ موسى لقي الكتابَ وأُنْزِلَ عليه .

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)

قوله : { لَمَّا [ صَبَرُواْ ] } : قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيفِ الميم على أنها لامُ الجرِّ ، و « ما » مصدريةٌ . والجارُّ متعلِّقٌ بالجَعْلِ أي : جَعَلْناهم كذلك لصَبْرهم ولإِيقانِهِم . والباقون بفتحِها وتشديدِ الميم . وهي « لمَّا » التي تَقْتضي جواباً . وتقدم فيها قولا سيبويه والفارسيِّ .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)

قوله : { يُبْصِرُونَ } : العامَّةُ على الغَيْبة ، وابن مسعود على الخطاب التفاتاً .
وقرئ « الجُرْز » بسكون الراء . وقد تقدَّم أولُ الكهف .

قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)

قوله : { يَوْمَ الفتح } : منصوبٌ ب « لا يَنْفَعُ » و « لا » غيرُ مانعةٍ من ذلك . وقد تقدَّم فيها مذاهبُ .

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

قوله : { مُّنتَظِرُونَ } : العامَّة على كسرِ الظاءِ اسمَ فاعل . والمفعولُ من انتظِرْ ، ومِنْ منتظرون ، محذوفٌ أي : انتظرْ ما يَحُلُّ بهم ، إنهم منتظرون على زَعْمِهم ما يَحُلُّ بك . وقرأ اليمانيُّ « مُنْتَظَرُون » اسمَ مفعول .

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وبعده بقليلٍ : { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ الأحزاب : 9 ] قرأهما أبو عمروٍ بياءِ الغَيْبة . والباقون بتاءِ الخطابِ ، وهما واضحتان : أمَّا الغَيْبَةُ في الأولِ فلقولِه « الكافرين » و « المنافقين » ، وأمَّا الخطابُ فلقولِه : { يا أَيُّهَا النبي } لأنَّ المرادَ هو وأمتُه ، أو خوطب بالجمع تعظيماً ، كقولِه :
3675 فإنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . .
وجَوَّز الشيخُ أَنْ يكونَ التفاتاً ، يعني عن الغائبين الكافرين والمنافقين . وهو بعيدٌ . وأمَّا الغَيْبَةُ في الثاني فلقولِه : { إِذْ جَآءَتْكُمْ } [ الأحزاب : 9 ] . وأمَّا الخطابُ فلقولِه : { ياأيها الذين آمَنُوا } [ الأحزاب : 9 ] .

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

قوله : { اللائي } : قرأ الكوفيون وابن عامر بياءٍ ساكنةٍ بعد همزةٍ مكسورةٍ . وهذا هو الأصلُ في هذه اللفظةِ لأنه جمعُ « التي » معنًى . وأبو عمروٍ والبزيُّ « اللاَّيْ » بياءٍ ساكنةٍ وصلاً بعد ألفٍ مَحْضَةٍ في أحدِ وجهَيْهما . ولهما وجهٌ آخرُ سيأتي .
ووجهُ هذه القراءةِ أنهما حَذَفا الياءَ بعد الهمزةِ تخفيفاً ، ثم أبدلا الهمزةَ ياءً ، وسَكَّناها لصيرورتِها ياءً مكسوراً ما قبلها كياءِ القاضي والغازِي ، إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس ، وإنما القياسُ جَعْلُ الهمزةِ بينَ بينَ . قال أبو علي : « لا يُقْدَمُ على مثلِ هذا البدلِ إلاَّ أَنْ يُسْمَعَ » . قلت : قال أبو عمروٍ ابن العلاء : « إنها لغةُ قريشٍ التي أُمِر الناسُ أَنْ يَقْرَؤوا بها » . وقال بعضهم : لم يُبْدِلوا وإنما كتبوا فعبَّر عنهم القُرَّاء بالإِبدال . وليس بشيء .
وقال أبو علي وغيره : « إظهارُ أبي عمرو » اللايْ يَئِسْنَ « يدلُّ على أنه يُسَهِّلُ ولم يُبْدِلْ » وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ البدلَ عارضٌ . فلذلك لم يُدْغِمْ . وقرآ - هما أيضاً - وورشٌ بهمزةٍ مُسَهَّلة بينَ بينَ . وهذا الذي زعم بعضُهم أنه لم يَصِحَّ عنهم غيرُه وهو تخفيفٌ قياسيٌّ ، وإذا وقفوا سكَّنوا الهمزةَ ، ومتى سَكَّنوها استحالَ تسهيلُها بينَ بينَ لزوالِ حركتِها/ فتُقْلَبُ ياءً لوقوعِها ساكنةً بعد كسرةٍ ، وليس مِنْ مذهبِهم تخفيفُها فتُقَرَّ همزةً .
وقرأ قنبل وورشٌ بهمزةٍ مكسورةٍ دونَ ياءٍ ، حَذَفا الياءَ واجتَزَآ عنها بالكسرةِ . وهذا الخلافُ بعينِه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق .
قوله : « تُظاهِرون » قرأ عاصمٌ « تُظاهِرون » بضم التاء وكسر الهاءِ بعد ألفٍ ، مضارعَ ظاهَرَ . وابنُ عامرٍ « تَظَّاهرون » بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارعَ تَظاهَر . والأصل « تتظاهرون » بتاءَيْن فأدغم . والأخوان كذلك ، إلاَّ أنهما خَفَّفا الظاءَ . والأصل أيضاً بتاءَيْن . إلاَّ أنهما حَذَفا إحداهما ، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو : إمَّا الإِدغامُ ، وإمَّا الحَذْفُ . وقد تقدَّم تحقيقُه في نحو : « يَذَّكَّرْ » و « تَذَكَّرُون » مثقلاً ومخففاً . وتقدَّم نحوُه في البقرة أيضاً .
والباقون « تَظَّهَّرون » بفتح التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاء والهاء دونَ ألفٍ . والأصل : تَتَظَهَّرُوْن بتاءَيْن فأدغَم نحو : « تَذَكَّرون » . وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتِهِم هنا في قوله : { يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ المجادلة : 3 ] إلاَّ الأخَوَيْن ، فإنَّهما خالَفا أصلهما هنا فقرآ في المجادلة بتشديدِ الظاءِ كقراءةِ ابنِ عامر . والظِّهارُ مشتقٌّ من الظَّهْرِ . وأصلُه أن يقولَ الرجلُ لامرأتِه : « أنتِ علي كظهرِ أمي » ، وإنما لم يَقْرأ الأخَوان بالتخفيفِ في المجادلة لعدم المسوِّغِ له وهو الحذفُ؛ لأنَّ الحذفَ إنما كان لاجتماع مِثْلَيْن وهما التاءان ، وفي المجادِلة ياءٌ من تحتُ وتاءٌ من فوقُ ، فلم يجتمعْ مِثْلان فلا حَذْفَ ، فاضْطُرَّ إلى الإِدغام .

هذا ما قُرِئ به متواتراً .
وقرأ ابنُ وثَّاب « تُظْهِرُون » بضم التاء وسكون الظاء وكسرِ الهاء مضارعَ أَظْهَرَ . وعنه أيضاً « تَظَهَّرُون » بفتح التاء والظاءِ مخففةً ، وتشديدِ الهاء ، والأصل : تَتَظَهَّرون ، مضارعَ تَظَهَّر مشدداً فحذف إحدى التاءين . وقرأ الحسن « تُظَهِّرون » بضمِّ التاء وفتح الظاءِ مخففةً وتشديد الهاء مكسورةً مضارعَ ظَهَّر مشدداً . وعن أبي عمروٍ « تَظْهَرُون » بفتحِ التاء والهاء وسكونِ الظاءِ مضارعَ « ظهر » مخففاً . وقرأ أُبَي - وهي في مصحفِه كذلك - تَتَظَهَّرون بتاءَيْن . فهذه تسعُ قراءات : أربعٌ متواترةٌ ، وخمسٌ شاذةٌ . وأَخْذُ هذه الأفعالِ مِنْ لفظِ الظَّهْر كأَخْذِ لَبَّى من التَّلْبية ، وتأَفَّفَ مِنْ أُفٍّ . وإنما عُدِّي ب « مِنْ » لأنه ضُمِّن معنى التباعد . كأنه قيل : يتباعَدُون مِنْ نسائِهم بسببِ الظِّهار كما تقدَّم في تعديةِ الإِيلاء ب « مِنْ » في البقرة .
قوله : « ذلكمْ قولُكم » مبتدأٌ وخبرٌ أي : دعاؤكُم الأدعياءَ أبناءً مجردُ قولِ لسانٍ مِنْ غيرِ حقيقةٍ . والأَدْعياءُ : جمعُ دَعِيّ بمعنى مَدْعُوّ فَعيل بمعنى مَفْعول . وأصلُه دَعِيْوٌ فأُدْغم ولكن جَمْعَه على أَدْعِياء غيرُ مَقيس؛ لأنَّ أَفْعِلاء إنما يكونُ جمعاً لفَعيل المعتلِّ اللامِ إذا كان بمعنى فاعِل نحو : تقِيّ وأَتْقِياء ، وغَنيّ وأغنياء ، وهذا وإنْ كان فَعيلاً معتلَّ اللام إلاَّ أنه بمعنى مَفْعول ، فكان قياسُ جمعِه على فَعْلَى كقتيل وقَتْلَى وجريح وجَرْحى . ونظيرُ هذا في الشذوذِ قولُهم : أَسير وأُسَراء ، والقياس أَسْرَى ، وقد سُمِع فيه الأصل .

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

قوله : { هُوَ أَقْسَطُ } : أي : دعاؤُهم لآبائهم ، فأضمرَ المصدرَ لدلالةِ فعلِه عليه كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] .
قوله : { ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ } يجوزُ في « ما » وجهان ، أحدُهما : أنها مجرورةُ المحلِّ عطفاً على « ما » قبلها المجرورةِ ب « في » ، والتقديرُ : ولكنَّ الجُناحَ فيما تعمَّدت . والثاني : أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ . تقديرُه : تُؤَاخَذُون به ، أو عليكم فيه الجُناحُ . ونحوُه .

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)

قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } : أي : مثلُ أمِّهاتهم في الحكمِ . ويجوزُ أن يُتناسى التشبيهُ ، ويُجْعلون أمَّهاتِهم مبالغةً .
قوله : « بعضُهم » يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ بدلاً من « أُوْلُو » . والثاني : أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « أَوْلَى »؛ لأنَّ أَفْعَلَ التفضيلِ يعملُ في الظرفِ . ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في « أَوْلَى » والعاملُ فيها « أَوْلَى » لأنها شبيهةٌ بالظرفِ . / ولا جائزٌ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « أُوْلُو » للفَصْلِ بالخبرِ ، ولأنَّه لا عامِلَ فيها .
قوله : « من المؤمنين » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنها « مِنْ » الجارَّةُ للمفضولِ كهي في « زيدٌ أفضلُ من عمروٍ » المعنى : وأُولو الأرحامِ أَوْلَى بالإِرثِ من المؤمنين والمهاجرين الأجانب . والثاني : أنَها للبيانِ جيْءَ بها بياناً لأُوْلي الأرحامِ ، فتتعلَّق بمحذوف أي : أعني . والمعنى : وأُولوا الأرحام من المؤمنين أَوْلَى بالإِرث مِن الأجانب .
قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا } هذا استثناءٌ مِنْ غيرِ الجنس ، وهو مستثنىً مِنْ معنى الكلامِ وفحواه ، إذ التقديرُ : أُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلَى ببعض في الإِرث وغيرِه ، لكن إذا فَعَلْتُمْ مع غيرِهم مِنْ أوليائِكم خيراً كان لكم ذلك . وعُدِّي « تَفْعَلوا » ب « إلى » لتضمُّنِه معنى تَدْخُلوا .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)

قوله { وَإِذْ أَخَذْنَا } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكر . أي : واذْكُرْ إذ أَخَذْنا . والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ « في الكتاب » فيعملَ فيه « مَسْطُوراً » أي : كان هذا الحكمُ مَسْطوراً في الكتاب ووقتِ أَخْذِنا .
قوله : « ميثاقاً غليظاً » هو الأولُ ، وإنما كُرِّر لزيادةِ صفتِه وإيذاناً بتوكيده .

لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

قوله : { لِّيَسْأَلَ } : فيها وجهان ، أحدُهما : أنها لامُ كي أي : أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم ، والكافرين عن تكذيبهم ، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه : « وأَعدَّ » . والثاني : أنها للعاقبة أي : أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا . ومفعولُ « صدقِهم » محذوفٌ أي : صِدْقِهم عهدَهم . ويجوز أن يكون « صِدْقِهم » في معنى « تَصْديقهم » ، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي : عن تصديقِهم الأنبياءَ .
قوله : « وأَعَدَّ » يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه « ليَسْألَ الصادقين »؛ إذ التقديرُ : فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين . والثاني : أنه معطوفٌ على « أَخَذْنا » لأنَّ المعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين . وقيل : إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول ، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني . والتقدير : ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم ، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم ، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)

قوله : { إِذْ جَآءَتْكُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب « نعمةَ » أي : النعمة الواقعة في ذلك الوقتِ . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكروا على أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « نعمة » بدلَ اشتمال .

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

قوله : { إِذْ جَآءُوكُمْ } : بدلٌ من « إذ » الأولى . وقرأ الحسنُ « الجَنود » بفتح الجيم . والعامَّةُ بضمِّها . و « جنوداً » عطفٌ على « ريحاً » . و « لم تَرَوْها » صفةٌ لهم . ورُوِي عن أبي عمرو وأبي بكرة « لم يَرَوْها » بياءِ الغَيْبة .
قوله : « الحَناجرَ » جمع حَنْجَرة وهي رأسُ الغَلْصَمَة ، والغَلْصَمَةُ مُنتهى الحُلْقوم ، والحُلْقُوْمُ مَجْرى الطعامِ والشرابِ . وقيل : الحُلْقُوم مَجْرى النَّفَس ، والمَرِي : مَجْرى الطعام والشراب وهو تحت الحُلْقوم . وقال الراغب : « رأسُ الغَلْصَمَة من خارج » .
وقوله : « الظنونا » قرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر بإثبات ألفٍ بعد نون « الظُّنونا » ولامِ « الرسول » في قوله : { وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] ولام « السَّبيل » في قوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وَصْلاً ووَقْفاً موافقةً للرسمِ؛ لأنهنَّ رُسِمْنَ في المصحف كذلك . وأيضاً فإنَّ هذه الألفَ تُشْبه هاءَ السكتِ لبيانِ الحركة ، وهاءُ السكتِ تَثْبُتُ وقفاً ، للحاجة إليها . وقد ثَبَتَتْ وصلاً إجراءً للوصل مُجْرى الوقف كما تقدَّم في البقرة والأنعام . فكذلك هذه الألفُ . وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ بحَذْفِها في الحالَيْن؛ لأنها لا أصلَ لها . وقولُهم : « أُجْرِيَتْ الفواصلُ مُجْرى القوافي » غيرُ مُعْتَدٍّ به؛ لأنَّ القوافي يَلزَمُ الوقفُ عليها غالباً ، والفواصلُ لا يَلْزَمُ ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها . والباقون بإثباتِها وَقْفاً وحَذْفِها وَصْلاً إجراءً للفواصلُ مُجْرى القوافي في ثبوتِ ألفِ الإِطلاق كقولِه :
3676 اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال ... عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا
وقوله :
3677 أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا ... وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا
ولأنها كهاءِ السكت ، وهي تَثْبُتُ وقفاً وتُخَفَّفُ وصلاً . قلت : كذا يقولون تشبيهاً للفواصلِ بالقوافي ، وأنا لا أحب هذه العبارةَ فإنها مُنْكَرَة لفظاً ولا خلافَ في قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] أنه بغيرِ ألفٍ في الحالين .
قوله : « هنالك » منصوبٌ ب « ابْتُلِيَ » وقيل : ب « تَظُنُّون » . واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية . وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي : في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ . الثاني : أنه ظرفُ زمانٍ ، وأنشد بعضُهُم على ذلك :
3678 وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ ... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
قوله : « وزُلْزِلُوا » قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه . ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى . وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً . ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ ، كقولهم : « مِنْتِن » بكسرِ الميم ، والأصل ضمُّها .
قوله : « زِلْزالاً » مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف . والعامَّةُ على كسر الزاي . وعيسى والجحدري فتحاها . وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو : زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال . وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو : صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل ، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل .

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)

قوله : { ياأهل يَثْرِبَ } : يثرب اسمُ المدينةِ . وامتناعُ صَرْفها إمَّا : للعلميةِ والوزنِ ، أو للعلميَّةِ والتأنيثِ ، وأمَّا « يَتْرَب » بالتاء المثناة وفتح الراء فموضعٌ آخرُ قال :
3679 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مواعيدَ عُرْقوبٍ أخاه بيَتْرَبِ
قوله : { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } قرأ حفصٌ بضم الميم ، ونافع وابن عامر بضم ميمِه أيضاً في الدخان في قوله : { إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ } [ الدخان : 51 ] ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه بالفتح وهو { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الدخان : 26 ] والباقون بفتح الميم في الموضعين . والضمُّ والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله : { خَيْرٌ مَّقَاماً } [ مريم : 73 ] قوله : « عَوْرَةٌ » أي : ذاتُ عَوْرة . وقيل : منكشِفةٌ للسارقِ . قال الشاعر :
3680 له الشَّدَّةُ الأُوْلى إذا القِرْنُ أَعْورا ... وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وآخرون « عَوِرة » بكسرِ الواو ، وكذلك { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } وهي اسمُ فاعلٍ يُقال : عَوِر المنزلُ يَعْوَر عَوْراً وعَوْرَة فهو عَوِر وبيوتٌ عَوْرَةٌ . قال ابن جني : « تصحيحُ الواوِ شاذٌ » يعني حيث تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلها ، ولم تُقْلَبْ ألفاً . وفيه نظرٌ لأنَّ شرطَ ذاك في الاسم الجاري على الفعلِ أَنْ يَعْتَلَّ فِعْلُه نحو : مَقام ومَقال . وأمَّا هذا ففعلُه صحيحٌ نحوَ : عَوِر . وإنما صَحَّ الفعلُ وإنْ كان فيه مُقْتضى الإِعلال لِمَدْرَكٍ آخرَ : وهو أنه في معنى ما لا يُعَلُّ وهو أَعْوَر ولذلك لم يُتَعَجَّبْ مِنْ عَوِر وبابه . وأَعْوَرَ المنزلُ : بَدَتْ عَوْرَتُه ، وأَعْوَرَ الفارسُ : بدا منه خَلَلٌ للضربِ . قال الشاعر :
3681 متى تَلْقَهم لم تَلْقَ في البيتِ مُعْوِراً ... ولاَ الضيفَ مَسْجوراً ولا الجارَ مُرْسَلاً

وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)

قوله : { مِّنْ أَقْطَارِهَا } : الأَقْطار جمع قُطْر بضمِّ القاف ، وهي الناحيةُ . وفيه لغةٌ : قُتْر وأَقْتار بالتاء . والقُطْر : الجانب أيضاً . ومنه قَطَرْتُه أي : أَلْقَيْتُه على قُطْرِه فَتَقَطَّر أي : وقع عليه . قال الشاعر :
3682 قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... ما قَطَّر الفارسَ إلاَّ أنا
وفي المَثَل « الانفضاض يقطر الحلب » تفسيرُه : أنَّ القومَ إذا انَفَضُّوا أي : فَني زادُهم احتاجوا إلى حَلْبِ الإِبلِ . وسُمِّي القَطْرا قَطْراً لسقوطِه .
قوله : « ثم سُئِلوا » قرأ مجاهد « سُوْيِلُوا » بواوٍ ساكنة ثم ياءٍ مكسورةٍ كقُوتلوا . حكى أبو زيد هما يَتَساوَلان بالواو . والحسنُ « سُوْلُوا » بواوٍ ساكنةٍ فقط ، فاحتملت وجهين ، [ أحدهما ] : أَنْ يكونَ أصلُها سُئِلوا كالعامَّةِ ثم خُفِّفَتِ الكسرةُ فسَكَنَتْ ، كقولِهم في « ضَرِب » بالكسر : ضَرْب بالسكون فَسَكَنت الهمزةُ بعد ضمة فقُلِبت واواً نحو : بُوْس في بُؤْس . والثاني : أن تكونَ مِنْ لغة الواو . ونُقل عن أبي عمرو أنه قرأ « سِيْلُوا » بياءٍ ساكنةٍ بعد كسرةٍ نحو : مِيْلُوا قوله : « لأَتَوْها » قرأ نافعٌ وابن كثيرِ بالقصر بمعنى لَجأْؤُوْها وغَشِيُوها . والباقون بالمدِّ بمعنى : لأَعْطَوْها . ومفعولُه الثاني محذوفٌ تقديره : لآتَوْها السَّائلين . والمعنى : ولو دَخَلْتَ البيوتَ أو المدينة مِنْ جميع نواحيها ، ثم سُئِل أهلُها الفتنةَ لم يمتنعوا من إعطائِها . وقراءةُ المَدِّ تَسْتَلْزِمُ قراءةَ القصرِ من غيرِ عكسٍ بهذا المعنى الخاص .
قوله : « إلاَّ يَسِيراً » أي : إلاَّ تَلَبُّثاً أو إلاَّ زماناً يسيراً . وكذلك قولُه : { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] أي : إلا تَمَتُّعاً أو إلاَّ زماناً قليلاً .==

ج14. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي

وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)

قوله : { لاَ يُوَلُّونَ } : جوابٌ لقولِه « عاهَدوا » لأنَّه في معنى أَقْسَموا . وجاء على حكايةِ اللفظ فجاء بلفظِ الغَيْبة/ ولو جاء على حكايةِ المعنى لقيل : لا يُوَلِّي . والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي : لا يُوَلُّون العَدُوَّ الأدبارَ . وقال أبو البقاء : « ويُقرأ بتشديد النون وحَذْفِ الواوِ على تأكيدِ جواب القسم » . قلت : ولا أظنُّ هذا إلاَّ غلطاً منه ، وذلك أنه : إمَّا أَنْ يُقْرأ مع ذلك ب « لا » النافية أو بلامِ التأكيد . الأولُ لا يجوزُ؛ لأنَّ المضارع المنفيَّ ب « لا » لا يؤكَّد بالنون إلاَّ ما نَدَر ، مِمَّا لا يُقاس عليه . والثاني فاسدُ المعنى .

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)

قوله : { إِن فَرَرْتُمْ } : جوابُه محذوفٌ لدلالةِ النفيِ قبلَه عليه ، أو متقدِّمٌ عند مَنْ يرى ذلك .
قوله : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ } « إذن » جوابٌ وجزاءٌ . ولمَّا وقعَتْ بعد عاطفٍ جاءَتْ على الأكثر ، وهو عدمُ إعمالِها ، ولم يَشِذَّ هنا ما شَذَّ في الإِسراء فلم يُقْرأ بالنصب . والعامَّةُ على الخطاب في « تُمَتَّعون » . وقُرِئ بالغَيْبة .

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

قوله : { مَن ذَا الذي } : قد تقدَّم في البقرة . قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : كيف جُعِلَتِ الرحمةُ قرينةَ السوءِ في العِصْمة ، ولا عِصْمَةَ إلاَّ من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكم رحمةً ، فاختصر الكلامَ وأجري مُجْرى قولِه :
3683 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً
أو حُمِلَ الثاني على الأول ، لِما في العِصْمة من معنى المَنْع » . قال الشيخ : « أمَّا الوجهُ الأولُ ففيه حَذْفُ جملةٍ لا ضرورةَ تَدْعو إلى حَذْفِها ، والثاني هو الوجهُ ، لا سيما إذا قُدِّر مضافٌ محذوفٌ أي : يَمْنَعُكم مِنْ مراد الله » قلت : وأين الثاني مِن الأول ولو كان معه حَذْفُ جُمَلٍ؟

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)

قوله : { هَلُمَّ } : قد تقدَّم الكلامُ فيه آخرَ الأنعام . وهو هنا لازمٌ وهناك متعدٍّ لنصبِه مفعولَه وهو « شُهداءَكم » بمعنى : أَحْضِروهم وههنا بمعنى احْضَروا وتعالَوْا ، وكلامُ الزمخشريِّ هنا مُؤْذِنٌ بأنه متعدٍّ أيضاً ، وحُذِفَ مفعولُه فإنه قال : وَهلمُّوا إلينا أي : قَرِّبوا أنفسَكم إلينا قال : وهي صوتٌ سُمِّي به فعلٌ متعدٍّ مثل : أحضِرْ وقََرِّب . وفي تسميته إياه صَوْتاً نظرٌ؛ إذ أسماءُ الأصواتِ محصورةٌ ليس هذا منها .

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)

قوله : { أَشِحَّةً } : العامَّةُ على نصبه . وفيه وجهان ، أحدهما ، أنَّه منصوبٌ على الشتم . والثاني : على الحال . وفي العاملِ فيه أوجهٌ ، أحدها : « ولا يأتون » قاله الزجاج . الثاني : « هلمَّ إلينا » . قاله الطبري . الثالث : يُعَوِّقُون مضمراً . قاله الفراء . الرابع : المُعَوِّقين . الخامس : « القائلين » . ورُدَّ هذان الوجهان الأخيران : بأنَّ فيهما الفصلَ بين أبعاضِ الصلة بأجنبي . وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنَّ الفاصلَ بين أبعاضِ الصلةِ مِنْ متعلَّقاتها . وإنما يظهر الردُّ على الوجه الرابعِ لأنه قد عُطِفَ على الموصولِ قبل تمامِ صلتِه فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ . وأمَّا « ولا يأتُون » فمعترِضٌ ، والمعترضُ لا يمنعُ من ذلك .
وقرأ ابن أبي عبلة « أَشِحَّةٌ » بالرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هم أَشِحَّةٌ . وأشحَّة جَمْعُ شَحيح ، وهو جمعٌ لا ينقاس؛ إذ قياسُ فَعِيل الوصفِ الذي عينُه ولامُه مِنْ وادٍ واحدِ أن يُجْمَعَ على أفْعِلاء نحو : خليل وأَخِلاَّء ، وظَنين وأَظِنَّاء وضَنين وأَضِنَّاء . وقد سُمِعَ أشِحَّاء ، وهو القياس . والشُّحُّ : البخل . وقد تقدَّم في آل عمران .
قوله : « يَنْظُرون » في محلِّ حالٍ مِنْ مفعول « رَأَيْتَهم » لأن الرؤيةَ بَصَرية .
قوله : « تَدُورُ » إمَّا حالٌ ثانية ، وإمَّا حالٌ مِنْ « يَنْظُرون » .
قوله : « كالذي يُغْشَى » يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ حالاً مِنْ « أعينُهم » أي : تدورُ أعينُهم حالَ كونِها مُشْبِهَةً عينَ الذي يُغْشى عليه من الموتِ . الثاني : أنه نعتُ مصدرٍ مقدَّرٍ لقوله « يَنْظُرون » تقديرُه : ينظرون إليك نَظَراً مثلَ نَظَرِ الذي يُغْشى عليه من الموت ، ويُؤَيَّدُهُ الآيةُ الأخرى « يَنْظُرون إليك نَظَرَ المَغْشِيِّ عليه من الموت » . الثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ مقدَّرٍ أيضاً ل « تدورُ » أي : دَوَراناً مثلَ دَوَرانِ عَيْنِ الذي . وهو على الوجهين مصدرٌ تشبيهيٌّ .
قوله : « سَلَقوكم » يقال : سَلَقه أي : اجترأ عليه في خِطابه ، وخاطبه مُخاطبةً بليغةً . وأصلُه البَسْط ومنه : سَلَقَ امرأتَه أي : بَسَطَها وجامَعَها . قال مسيلمةُ لسجاح لعنهما الله تعالى : /
3684 ألا هُبِّي إلى المضجَعْ ... فإنْ شِئْتِ سَلَقْنَاك ... وإن شِئْتِ على أربعْ
والسَّليقَةُ : الطبيعةُ المتأتِّيَةُ . والسَّلِيقُ : المَطمئنُّ من الأرض . وخطيبٌ مِسْلاق وسَلاَّق . ويقال بالصاد قال الشاعر :
3685 فَصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقَةً ... وصُداءٍ أَلْحَقَتْهُمْ بالثَّلَلْ
و « أشحةً » نصب على الحال مِنْ فاعلِ « سَلَقُوكم » . وابن أبي عبلة على ما تقدَّم في أختها .

يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

قوله : { يَحْسَبُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً أي : هم من الخوفِ بحيث إنهم لا يُصَدِّقُوْن أن الأحزابَ قد ذهبوا عنهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ أحدِ الضمائر المتقدمةِ إذا صَحَّ المعنى بذلك ، ولو بَعُدَ العاملُ ، كذا قال أبو البقاء .
قوله : « بادُوْن » هذه قراءةُ العامَّةِ جمعُ بادٍ . وهو المُقيم بالباديةِ . وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وابن يعمر « بُدَّى » بضم الباءِ وتشديدِ الدالِ مقصوراً كغازٍ وغُزَّى ، وسارٍ وسُرَّى . وليس بقياسٍ . وإنما قياسُه في التكسير « بُداة » كقُضاة وقاضٍ . ولكنْ حُمِلَ على الصحيح كقولِهم : « ضُرَّب » . ورُوِي عن ابن عباس أيضاً قراءةٌ ثانيةٌ « بَدِيْ » بزنةِ عَدِي ، وثالثةٌ « بَدَوْا » فعلاً ماضياً .
قوله : « يَسْألون » يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعِل « يَحْسَبُون » . والعامَّةُ على سكونِ السين بعدها همزةٌ . ونَقَل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى السينِ كقولِه : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] . وهذه ليسَتْ بالمشهورةِ عنهما ، ولعلها نُقِلَتْ عنهما شاذَّةً ، وإنما هي معروفةٌ بالحَسَنِ والأعمش . وقرأ زيد بن علي والجحدري وقتادة والحسن « يَسَّاءَلُون » بتشديدِ السين والأصلُ : يتساءَلون فأدغم أي : يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً .

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)

قوله : { أُسْوَةٌ } : قرأ عاصم بضمِّ الهمزة حيث وقعَتْ هذه اللفظةُ . والباقون بالكسر . وهما لغتان كالعِدْوَة والعُدْوَة ، والقِدوة والقُدْوَة .
والأُسْوة بمعنى الاقتداء . وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المصدرِ وهو الائْتِساء ، فالأُسْوَةُ من الائتساء كالقُدْوة من الاقتداء . وائْتَسَى فلانٌ بفلانٍ أي اقتدى به . و « أسوةٌ » اسمُ « كان » . وفي الخبرِ وجهان ، أحدهما : هو « لكم » فيجوزُ في الجارِّ الآخرِ وجوهٌ : التعلُّقُ بما يتعلَّقُ به الخبرُ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « أُسْوَة » ، إذ لو تأخَّر لكان صفةً ، أو ب « كان » على مذهبِ مَنْ يراه . والثاني : أنَّ الخبرَ هو { فِي رَسُولِ الله } ، و « لكم » على ما تَقَدَّم في { فِي رَسُولِ الله } ، أو تتعلَّقُ بمحذوفٍ على التبيين أي : أَعْني لكم .
قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ من الكافِ في « لكم » ، قاله الزمخشري . وقد منعه أبو البقاء . وتابعه الشيخُ . قال أبو البقاء : « وقيل : هو بدلٌ مِنْ ضمير المخاطبِ بإعادةِ الجارِّ . ومَنَعَ منه الأكثرون؛ لأنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبْدَلُ مِنْه » . وقال الشيخُ : « قال الزمخشريُّ : بدلٌ من » لكم « كقولِه : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] قال : » ولا يجوزُ على مذهب جمهورِ البصريين أن يُبْدَلَ من ضميرِ المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدلُ شيءٍ مِنْ شيءٍ ، وهما لعينٍ واحدةٍ . وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش . وأنشد :
3686 بكم قُرَيْشٍ كُفِيْنا كلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نَهْجَ الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا
قلت : لا نُسَلِّمُ أنَّ هذا بدلُ شيءٍ مِنْ شيءٍ وهما لعينٍ واحدة ، بل بدلُ بعضٍ مِنْ كل باعتبارِ الواقع؛ لأنَّ الخطابَ في قولِه « لكم » أَعَمُّ مِنْ { مَن كَانَ يَرْجُو الله } وغيرِه ، ثم خَصَّصَ ذلك العمومَ لأنَّ المتأسِّيَ به عليه السلام في الواقعِ إنما هم المؤمنون . ويَدُلُّك على ما قلتُه ظاهرُ تشبيهِ الزمخشريِّ هذه الآيةَ بآيةِ الأعراف ، وآيةُ الأعرافِ البدلُ فيها بدلُ كل مِنْ كل . ويُجاب : بأنَّه إنما قَصَد التشبيهَ في مجردِ إعادةِ العاملِ .
والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « حَسَنةٌ » . الثالث : أَنْ يتعلَّقَ بنفس « حَسَنة » قالهما أبو البقاء . ومَنَعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب « أُسْوَة » قال : « لأنها قد وُصِفَتْ » . و « كثيراً » أي : ذِكْراً كثيراً .

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

قوله : { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } : مِنْ تكريرِ الظاهرِ تعظيماً كقوله :
3687 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولأنه لو أعادَهما مُضْمَرَيْنِ لجَمَعَ بين اسمِ الباري تعالى واسمِ رسولِه في لفظةٍ واحدةٍ ، فكان يُقال : وصدقا ، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد كَرِه ذلك ، / وردَّ على مَنْ قاله حيث قال : « مَنْ يطعِ اللَّهَ ورسولَه فقد رَشَدَ ، ومَنْ يَعْصِهما فقد غَوى » . وقال له : « بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت . قل : ومن يَعْصِ اللَّهَ ورسولَه » قصداً إلى تعظيمِ اللَّهِ . وقيل : إنما رَدَّ عليه لأنه وقف على « يَعْصِهما » . وعلى الأولِ استشكل بعضُهم قولَه [ عليه السلام ] : « حتى يكونَ اللَّهَ ورسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سِواهما » فقد جَمَعَ بينهما في ضميرٍ واحدٍ . وأُجيبَ : بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعرفُ بقَدْرِ اللَّهِ تعالى مِنَّا فليس لنا أَنْ نقولَ كما يقول .
قوله : « وما زادَهُمْ » فاعلُ « زادهم » ضميرُ الوَعْدِ أي : وما زادهم وَعْدُ اللَّهِ أو الصدقُ . وقال مكي : « ضميرُ النظر؛ لأنَّ قولَه : » لَمَّا رأى « بمعنى : لَمَّا نظر » . وقال أيضاً : « وقيل : ضمير الرؤية . وإنما ذُكِّر لأن تأنيثها غيرُ حقيقي » ولم يَذْكُرْ غيرَهما . وهذا عجيبٌ منه؛ حيث حَجَّر واسعاً مع الغُنْيَةِ عنه .
وقرأ ابنُ أبي عبلة « وما زادُوهم » بضمير الجمع . ويعود للأحزابِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبرهم أنَّ الأحزابَ تَأْتيهم بعد عشرٍ أو تسعٍ .

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)

قوله : { صَدَقُواْ } : « صَدَقَ » يتعدَّى لاثنين لثانيهما بحرفِ الجرِّ ، ويجوز حَذْفُه . ومنه المثل : « صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ » أي في سِنِّ . والآيةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مِنْ هذا ، والأولُ محذوفٌ أي : صدقوا الله فيما عاهدوا اللَّهَ عليه . ويجوز أَنْ يتعدَّى لواحدٍ كقولك : صَدَقني زيدٌ وكَذَبني عمرو أي : قال لي الصدقَ ، وقال لي الكذبَ . ويكون المعاهَدُ عليه مصدوقاً مجازاً . كأنهم قالوا للشيءِ المُعاهَد عليه : لنُوفِيَنَّ بك وقد فعلوا . و « ما » بمعنى الذي؛ ولذلك عاد عليها الضميرُ في عليه . وقال مكي : « ما » في موضعِ نصبٍ ب صَدَقوا . وهي والفعلُ مصدرٌ تقديرُه : صَدَقوا العهدَ أي : وَفَوْا به « وهذا يَرُدُّه عَوْدُ الضميرِ . إلاَّ أنَّ الأخفشَ وابنَ السراج يذهبان إلى اسميةِ » ما « المصدريةِ .
قوله : » قضى نَحْبَه « النَّحْبُ : ما التزمه الإِنسانُ ، واعتقد الوفاءُ به .
قال :
3688 عَشِيَّةَ فَرَّ الحارِثيُّون بعدَما ... قضى نَحْبَه في مُلْتَقَى القومِ هَوْبَرُ
وقال آخر :
3689 بطَخْفَةَ جالَدْنا الملوكَ وخَيْلُنا ... عَشيَّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ على نَحْبِ
أي : على أَمْرٍ عظيمٍ؛ ولهذا يُقال : نَحَبَ فلانٌ أي : نَذَرَ نَذْراً التزمه ، ويُعَبَّر به عن الموتِ كقولِهم : » قَضَى أجله « لَمَّا كان الموتُ لا بُدَّ منه جُعِل كالشيءِ الملتَزمِ . والنَّحِيْبُ : البكاءُ معه صَوْتٌ . والنُّحاب : السُّعالُ .

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)

قوله : { لِّيَجْزِيَ الله } : في اللام وجهان ، أحدهما : أنها لامُ العلة . الثاني : أنها لامُ الصيرورةِ . وفي ما تتعلَّقُ به أوجهٌ : إمَّا ب « صَدَقوا » ، وإمَّا ب « زادهم » ، وإما ب « ما بَدَّلُوا » وعلى هذا قال الزمخشري : « جُعِل المنافقون كأنهم قَصَدوا عاقبةَ السوءِ ، وأرادُوها بتبديلهم ، كما قَصَدَ الصادقون عاقبةَ الصدقِ بوفائِهم؛ لأنَّ كلا الفريقَيْنِ مَسُوقٌ إلى عاقبتِه من الثوابِ والعقاب ، فكأنَّهما اسْتَوَيا في طلبهما والسَّعْيِ لتحصيلهما » .
قوله : « إنْ شاءَ » جوابُه مقدَّرٌ . وكذلك مفعول « شاء » . أي : إنْ شاءَ تعذيبَهم عَذَّبهم . فإنْ قيل : عذابُهم مُتَحَتِّمٌ فكيف يَصِحُّ تعليقُه على المشيئةِ وهو قد شاءَ تعذيبَهم إذا ماتوا على النفاق؟ فأجاب ابنُ عطية : بأنَّ تعذيبَ المنافقين ثمرةُ إدامتِهم الإِقامةَ على النفاقِ إلى موتِهم ، والتوبةُ موازِيَةٌ لتلك الإِقامةِ ، وثمرةُ التوبةِ تَرْكُهم دونَ عذاب فهما درجتان : إقامةٌ على نفاقٍ ، أو توبةٌ منه ، وعنهما ثمرتان : تعذيبٌ أو رحمة . فذكر تعالى على جهةِ الإِيجازِ واحدةً من هاتين ، وواحدةً مِنْ هاتين ودَلَّ ما ذكر على ما تَرَكَ ذِكْرَه . ويَدُلُّ على أنَّ معنى قولِه : « لِيُعَذِّب » ليُديمَ على النفاقِ قولُه : « إن شاء » ومعادلتُه بالتوبةِ وحرفِ أو « .
قال الشيخ : » وكأنَّ ما ذَكَر يَؤُوْلُ إلى أنَّ التقديرَ : ليُقيموا على النفاقِ فيموتُوا عليه إنْ شاء فيُعَذِّبَهم ، أو يتوبَ عليهم فيرحمَهم . فحذف سببَ التعذيبِ وأثبت المسبَّب وهو التعذيبُ ، وأثبت سببَ الرحمةِ والغفرانِ وحَذَفَ المُسَبَّبَ وهو الرحمةُ والغُفْران « .

وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)

قوله : { بِغَيْظِهِمْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ سببيةً ، وهو الذي عَبَّر عنه أبو البقاء بالمفعولِ أي : إنها مُعَدِّية . والثاني : أَنْ تكونَ للمصاحبة ، فتكونَ حالاً أي/ مُغيظين .
قوله : { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } حالٌ ثانيةٌ أو حالٌ من الحال الأولى فهي متداخِلَةٌ . ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الضمير المجرور بالإِضافة . وجَوَّز الزمخشري فيها أَنْ تكونَ بياناً للحالِ الأولى أو مستأنفةً . ولا يظهر البيانُ إلاَّ على البدل ، والاستئنافُ بعيد .

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)

قوله : { وَأَنزَلَ الذين } : أي وأنزل اللَّهُ . و { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } بيانٌ للموصولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . ويجوز أن يكونَ حالاً . و « مِنْ صَياصِيْهم » متعلِّقٌ ب « أَنْزل » و « مِنْ » لابتداءِ الغاية . والصَّياصِي جمعُ « صِيْصِيَة » وهي الحصونُ . ويقال لكل ما يُمتنع به ويُتَحَصَّن : صِيْصيَة . ومنه قيل لقَرْنِ الثور ولشوكة الديك : صِيْصِيَة . والصَّياصِي أيضاً : شَوْك الحاكَةِ ويُتَّخَذُ مِنْ حديد قال دُرَيْد بن الصِّمَّة :
3690 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كوَقْعِ الصَّياصِيْ في النسيجِ المُمَدَّدِ
قوله : « فريقاً تَقْتُلون » « فريقاً » منصوبٌ بما بعده . وكذلك « فريقاً » منصوب بما قبله . والجملةُ مبيِّنَةٌ ومقررةٌ لقَذْفِ الله الرعبَ في قلوبهم . والعامَّةُ على الخطابِ في الفعلين . وابن ذكوان في روايةٍ بالغَيْبةِ فيهما . واليمانيُّ بالغَيْبة في الأول فقط . وأبو حيوة « تَأْسرون » بضم السين .
قوله : « لم تَطؤُوْها » الجملةُ صفةٌ ل « أرضاً » . والعامَّةُ على همزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ مضارعَ وَطِئ . وزيد بن علي « تَطُوْها » بواوٍ بعد طاءٍ مفتوحةٍ . ووجهُها : أنها أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً على غيرِ قياسٍ كقولِه :
3691 إنَّ الأُسودَ لَتَهْدا في مَرابِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلمَّا أَسْنده للواو التقى ساكنان فَحُذِف أولهما نحو : لم يَرَوْها . وهذا أحسنُ مِنْ أَنْ تقول : ثم أجرى الألفَ المبدَلةَ مِنْ الهمزةِ مُجْرَى الألفِ المتأصِّلةِ فَحَذَفها جزماً؛ لأنَّ الأحسنَ هناك أَنْ لا تُحْذَفَ اعتداداً بأصلها . واستشهد بعضُهم على الحَذْفِ بقولِ زهير :
3692 جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظلمِه ... سَريعاً وإن لا يُبْدَ بالظُّلمِ يَظْلِمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)

قوله : { أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } : العامَّةُ على جَزْمِهِما . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه مجزومٌ على جواب الشرط . وما بين الشرط وجوابِه معترضٌ ، ولا يَضُرُّ دخولُ الفاءِ على جملة الاعتراضِ . ومثلُه في دخول الفاء قولُه :
3693 واعلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعُه ... أَنْ سَوْفَ يَأْتيْ كلُّ ما قُدِرا
يريد : واعلَمْ أَنْ سوفَ يأتي . والثاني : أنَّ الجوابَ قولُه : « فَتَعالَيْنَ ، وأُمَتِّعْكن » جوابٌ لهذا الأمرِ .
وقرأ زيد بن علي « أُمْتِعْكُنَّ » بتخفيف التاء من أَمْتَعَه . وقرأ حميد الخزاز « أُمَتِّعُكُن وأُسَرِّحْكُن » بالرفع فيهما على الاستئنافِ . و « سَراحاً » قائمٌ مقامَ التَّسْريحِ .

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

قوله : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ } : العامَّةُ على « يَأْتِ » بالياء من تحتُ حَمْلاً على لفظ « مَنْ » . وزيد بن علي والجحدري ويعقوب بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على معناها؛ لأنه تَرَشَّح بقولِه : « منكُنَّ » ، و « منكنَّ » حالٌ من فاعل « يَأْتِ » . وتقدَّم القراءةُ في « مُبَينة » بالنسبة لكسرِ الياء وفتحها في النساء .
قوله : « يُضاعَفْ » قرأ أبو عمرو « يُضَعَّفْ » بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحةً على البناء للمفعول . « العذابُ » بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل . وقرأ ابن كثير وابن عامر « نُضَعِّفْ » بنونِ العظمةِ ، وتشديد العين مكسورةً ، على البناءِ للفاعل . قوله : العذابَ « بالنصب على المفعول به . وقرأ الباقون » يُضاعَفْ « من المفاعلة مبنياً للمفعول . » العذابُ « بالرفعِ لقيامِه مَقامَ الفاعل . وقد تقدَّم توجيهُ التضعيف والمضاعَفة في سورة البقرة فأغنى عن إعادتِه .

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)

قوله : { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ } : قرأ الأخَوان « ويَعْمَلْ ويُؤْتِ » بالياء مِنْ تحتُ فيهما . والباقون « وتَعْمل » بالتاء من فوق . « نُؤْتِها » بالنون . فأمَّا الياءُ في « ويَعْمَلْ » فلأجل الحَمْلِ على لفظ « مَنْ » وهو الأصلُ . والتاءُ مِنْ فوقُ على معناها؛ إذ المرادُ بها مؤنثٌ ، وتَرَشَّح هذا بتقدُّمِ لفظِ المؤنث وهو « مِنْكُنَّ » ومثلُه قولُه :
3694 وإنَّ مِن النِّسْوان مَنْ هي روضةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
/لَمَّا تقدَّم قولُه : « مِن النسوانِ » تَرَجَّح المعنى فَحَمَل عليه . وأمَّا « يُؤْتِها » بالياءِ مِنْ تحتُ فالضمير لله تعالى لتقدُّمِه في « لله ورسوله » . وبالنون فهي نونُ العظمة . وفيه انتقالٌ من الغَيْبة إلى التكلُّم .
وقرأ الجحدريُّ ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر وشيبةُ « تَقْنُتْ » بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على المعنى وكذلك « وتَعْمَل » . وقال أبو البقاء : « إنَّ بعضَهم قرأ » ومَنْ تَقْنُتْ « بالتأنيث حَمْلاً على المعنى و » يَعْمَلْ « بالتذكير حملاً على اللفظ » . قال : « فقال بعض النحويين : هذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التذكيرَ أصلٌ فلا يُجْعَلُ تَبَعاً للتأنيث . وما عَلَّلوه به قد جاء مثلُه في القرآن . قال تعالى : { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } » [ الأنعام : 139 ] .

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)

قوله : { كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } : قال الزمخشري : « أَحَد » في الأصل بمعنى وَحَد . وهو الواحد ، ثم وُضِع في النفي العام مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ وما وراءَه . والمعنى : لَسْتُنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعات النساء أي : إذا تَقَصَّيْتَ جماعةَ النساءِ واحدةً واحدةً لم توجَدْ منهنَّ جماعةٌ واحدة تُساويكُنَّ في الفضل والسابقةِ . ومنه قوله : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدةٍ منهم تسويةً بين جميعِهم في أنهم على الحقِّ المُبين . قال الشيخ : « أمَّا قوله » أحد « في الأصل بمعنى وَحَد وهو الواحد فصحيح . وأمَّا قولُه : » وُضِع « إلى قوله : » وما وراءه « فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الذي يُسْتعمل في النفي العامِّ مدلولُه غيرُ مدلولِ واحد؛ لأنَّ واحداً ينطلقُ على كلِّ شيءٍ اتصفَ بالوحدةِ ، وأحداً المستعمل في النفي العامِّ مختصٌ بمَنْ يَعْقِل . وذكر النحويون أنَّ مادتَه همزة وحاء ودال ، ومادة » أحد « بمعنى واحد : واو وحاء ودال ، فقد اختلفا مادةً ومدلولاً . وأمَّا قولُه : لَسْتُنَّ كجماعة واحدة ، فقد قُلنا : إن معناه ليسَتْ كلُّ واحدةٍ منكنَّ . فهو حَكَمَ على كلِّ واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموعٌ . وأمَّا { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] فاحتمل أَنْ يكونَ الذي يُستعمل في النفي العام؛ ولذلك جاء في سِياقِ النفي فعَمَّ . وصلَحَت البَيْنِيَّة للعموم . ويحتمل أَنْ يكونَ » أحد « بمعنى واحد ، وحُذِفَ معطوف ، أي : بين أحدٍ وأحدٍ . كما قال :
3695 فما كان بينَ الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قَلائِلُ
أي : بين الخير وبيني » . انتهى . قلت : أمَّا قولُه فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فَمُسَلَّمٌ . ولكن الزمخشريَّ لم يجعلْ أحداً الذي أصله واحد بمعنى أَحَد المختصِّ بالنفي ، ولا يمنع أن أحداً الذي أصلُه واحد أن يقعَ في سياقِ النفيِ . وإنما الفارقُ بينهما : أنَّ الذي همزتُه أصلٌ لا يُستعمل إلاَّ في النفي كأخواته من عَرِيْب وكَتِيْع ووابِر وتامِر . والذي أصله واحد يجوز أن يُستعمل إثباتاً ونفياً . والفرقُ أيضاً بينهما : أنَّ المختصَّ بالنفي جامدٌ ، وهذا وصْفٌ . وأيضاً المختصُّ بالنفي مختصٌّ بالعقلاء وهذا لا يختصُّ . وأمَّا معنى النفي فإنه ظاهرٌ على ما قاله الزمخشريُّ من الحكم على المجموعِ ، ولكنَّ المعنى على ما قاله الشيخ أوضحُ وإن كان خلافَ الظاهر .
قوله : « إنِ اتَّقَيْتُنَّ » في جوابه وجهان ، أحدهما : أنه محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي : إنْ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كأحدٍ . فالشرط قيدٌ في نفي أَنْ يُشَبَّهْنَ بأحدٍ من النساء . الثاني : أنَّ جوابَه قولُه : « فلا تَخْضَعْنَ » والتقوى على بابها . وجَوَّزَ الشيخُ على هذا أن يكونَ اتَّقى بمعنى استقبل أي : استَقْبَلْتُنَّ أحداً فلا تَلِنَّ له القولَ .

واتقى بمعنى استقبل معروفٌ في اللغة . وأنشد :
3696 سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا باليَدِ
أي : واستقبَلَتْنا باليد . قال : « ويكون هذا المعنى أبلغَ في مدحِهنَّ إذ لم يُعَلِّقْ فضيلتَهنَّ على التقوى ولا على نَهْيه عن الخضوع بها؛ إذ هنَّ مُتَّقِياتٌ لله تعالى في أنفسهنَّ . والتعليقُ يقتضي ظاهرُه أنهنَّ لَسْنَ متحلِّياتٍ بالتقوى » .
قلت : هذا خروجٌ عن الظاهرِ من غير ضرورةٍ . وأمَّا البيتُ فالاتِّقاءُ أيضاً على بابِه/ أي صانَتْ وجهَها بيدِها عنا .
قوله : « فَيَطْمَعَ » العامَّةُ على نصبه جواباً للنهي . والأعرج بالجزم فيكسِرُ العينَ لالتقاءِ الساكنين . ورُوي عنه وعن أبي السَّمَّال وابن عمر وابن محيصن بفتح الياء وكسر الميم . وهذا شاذٌّ؛ حيث تَوافَقَ الماضي والمضارعُ في حَرَكةٍ . ورُوي عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضمِّ الياء وكسرِ الميم مِنْ أطمع . وهي تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً عائداً على الخضوعُ المريضَ القلبِ . ويحتمل أن يكون « الذي » فاعلاً ، ومفعوله محذوف أي : فيُطْمِع المريضُ نفسَه .
قوله : « وَقَرْنَ » قرأ نافع وعاصم بفتح القاف . والباقون بكسرها . فأمَّا الفتحُ فمِنْ وجهين ، أحدهما : أنه أمرٌ من قَرِرْتُ - بكسرِ الراءِ الأولى - في المكان أَقَرُّ به بالفتح . فاجتمع راءان في اقْرَرْنَ ، فحُذِفت الثانيةُ تخفيفاً ونُقِلَتْ حركةُ الراء الأولى إلى القاف ، فحُذفت همزةُ الوصلِ استغناءً عنها فصار قَرْن . ووزنُه على هذا : فَعْن؛ فإنَّ المحذوفَ هو اللامُ لأنه حَصَلَ به الثقلُ . وقيل : المحذوفُ الراءُ الأولى؛ لأنه لَمّا نُقِلَتْ حركتُها بقيَتْ ساكنةً ، وبعدها أخرى ساكنةٌ فحُذِفَتِ الأولى لالتقاءِ الساكنين ، ووزنُه على هذا : فَلْنَ؛ فإنَّ المحذوفَ هو العين . وقال أبو علي : « أُبْدِلت الراءُ الأولى ياءً ونُقِلَتْ حركتُها إلى القاف ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ لالتقائِهما » . فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في توجيهِ أنها أمرٌ مِنْ قَرِرْت بالمكان .
والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع . ومنه « القارَةُ » لاجتماعِها ، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل : قَرْنَ كخَفْنَ . ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن .
إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين ، أحدهما : قال أبو حاتم : يقال : قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح ، فكيف يُقرأ « وَقَرْنَ » بالفتح؟ والجوابُ عن هذا : أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ ، حكاه أبو عبيد . وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم .
الثاني : سَلَّمْنا أنه يُقال : قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح ، وأنَّ الأمرَ منه اقْرَرْنَ ، إلاَّ أنه لا مُسَوِّغَ للحذفِ؛ لأن الفتحةَ خفيفةٌ ، ولا يجوز قياسُه على قولِهم « ظَلْتُ » وبابِه؛ لأن هناك شيئَيْن ثقيلين : التضعيفَ والكسرةَ فحَسُنَ الحذفُ ، وأمَّا هنا فالتضعيفُ فقط .
والجوابُ : أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ .

ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ ، وإنْ كانت أثقلَ نحو : اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ : غُضْنَ . لكنَّ السماعَ خلافُه . قال تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [ النور : 31 ] . على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال : « إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى » أو تقولُ : إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع . وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه ، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع .
وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما : أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي ، والكسرِ في المضارع ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً : إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى ، أو إبدالُها ياءً ، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ . ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم ، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني ، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار .
والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي : ثبتَ واستقرَّ . ومنه الوَقارُ . وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي « قِرْن » وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء . ووزنُه على هذا عِلْنَ . وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف ، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً .
قوله : « تَبَرُّجَ الجاهليةِ » مصدرٌ تشبيهيٌّ أي : مثلَ تبرُّجِ . والتبرُّجُ : الظهورُ مِن البُرْجِ لظهورِه وقد تقدَّم . وقرأ البزي « ولا تَّبَرَّجْنَ » بإدغامِ التاء في التاء . والباقون بحذفِ إحداهما . وتقدَّم تحقيقُه في البقرة في « ولا تَيَمَّموا » .
قوله : « أهلَ البيتِ » فيه أوجه : النداء والاختصاص ، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم . وسُمِعَ « بك اللَّهَ نرجو الفضلَ » والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها :
3697 نحن بناتِ طارِقْ ... نَمْشِي على النمارِقْ
[ وقوله ] :
3698 نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ ... الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ
« نحن العربَ أَقْرَى الناسِ للضيف » « نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورث » أو على المدح أي : أمدحُ أهلَ البيتِ .

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)

قوله : { مِنْ آيَاتِ الله } : بيانٌ للموصول فيتعلَّقُ ب أعني . ويجوز أن يكون حالاً : إمَّا من الموصول ، وإمَّا من عائده المقدر فيتعلقُ بمحذوفٍ أيضاً .

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)

قوله : { والحافظات } : حُذِفَ مفعولُه لتقدُّم ما يَدُلُّ عليه . والتقديرُ : والحافظاتِها . وكذلك « والذاكراتِ » . وحَسَّن الحذفَ رؤوسُ الفواصِلِ وغَلَّبَ المذكرَ على المؤنثِ في « لهم » ولم يَقُلْ « ولَهُنَّ » .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

قوله : { أَن يَكُونَ } : هو اسمُ كان . والخبرُ الجارُّ متقدمٌ . وقوله : { إِذَا قَضَى الله } يجوزُ أن يكونَ مَحْضَ ظَرْفٍ معمولُه الاستقرار الذي تَعَلَّق به الخبرُ أي : وما كان مستقِرّاً لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ وقتَ قضاءِ اللَّهِ كَوْنُ خِيَرَةٍ ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، ويكونُ جوابُها مقدراً مدلولاً عليه بالنفيِ المتقدمِ .
وقرأ الكوفيون وهشام « يكونَ » بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ « الخِيَرَة » مجازيُّ التأنيثِ ، وللفصلِ أيضاً . والباقون بالتاء من فوقُ مراعاةً للفظِها . وقد تقدَّم أنَّ الخِيَرَةَ مصدرُ تَخَيَّر كالطِّيَرَة مِنْ تَطَيَّر . ونَقَل عيسى بن سليمان أنه قُرِئَ « الخِيْرَة » . بسكون الياء . و « مِنْ أمرِهم » حالٌ من « الخِيَرة » وقيل : « من » بمعنى في . وجَمَعَ الضمير في « أمرِهم » وما بعده؛ لأنَّ المرادَ بالمؤمن والمؤمنة الجنسُ . وغلَّب المذكرَ على المؤنث . وقال الزمخشري : « كان مِنْ حَقِّ الضميرِ أن يُوَحَّد كما تقول : ما جاءني مِنْ رجلٍ ولا امرأة ، إلاَّ كان مِنْ شأنه كذا » . قال الشيخ : « وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العطفَ بالواوِ فلا يجوزُ ذلك إلاَّ بتأويلِ الحَذْفِ » .

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

قوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ } : نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أن « على » في مثلِ هذا التركيبِ اسمٌ . قال : « لئلا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير باب ظنَّ وفي لفظتَيْ : فَقَد وعَدِم . وجعل مِنْ ذلك :
3699 هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها
وكذلك حَكَم على » عَنْ « في قولِه :
3700 دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم لك ذلك مشبعاً في النحل في قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] وفي قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] .
قوله : » وتُخْفي « فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه معطوفٌ على » أَمْسِكْ « أي : وإذ تجمعُ بين قولك كذا وإخفاءِ كذا ، وخشيةِ الناس . قاله الزمخشري . الثاني : أنها واوُ الحالِ أي : تقول كذا في هذه الحالةِ . قاله الزمخشري أيضاً . وفيه نظرٌ من حيث إنه مضارعٌ مثبتٌ فكيف تباشِرُه الواوُ؟ وتخريجُه كتخريجِ » قمتُ وأَصُكُّ عينَه « أعني على إضمارِ مبتدأ . الثالث : أنه مستأنفٌ . قاله الحوفي . وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } قد تقدَّم مثلُه في براءة .
قوله : » وَطَراً « مفعولُ » قَضَى « . والوَطَرُ : الشَّهْوَةُ والمحبةُ ، قاله المبرد . وأنشد :
3701 وكيف ثَوائي بالمدينةِ بعدَما ... قَضَى وَطَراً منها جميلُ بنُ مَعْمَرِ
وقال أبو عبيدة : » الوَطَرُ : الأَرَبُ والحاجةُ « . وأنشد للضُّبَيْعِ الفزاري :
3702 ودَّعَنا قبلَ أَنْ نُوَدِّعَهْ ... لَمَّا قضى مِنْ شبابِنا وَطَراً
وقرأ العامَّةُ » زوَّجْناكها « . وقرأ عليٌّ وابناه الحسنان رضي الله عنهم وأرضاهم » زَوَّجْتُكَها « بتاءِ المتكلم .
و » لِكَيْلا « متعلقٌ ب » زَوَّجْناكها « وهي هنا ناصبةٌ فقط لدخولِ الجارِّ عليها . واتصل الضميران بالفعلِ لاختلافِهما رتبةً .

مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)

قوله : { سُنَّةَ الله } : منصوبٌ على المصدر ك { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] / و { وَعْدَ الله } [ النساء : 122 ] أو اسمٌ وُضِع مَوْضِعَ المصدرِ ، أو منصوبٌ ب جَعَل . أو بالإِغراءِ أي : فعليه سنةَ الله . قاله ابن عطية . ورَدَّه الشيخ بأنَّ عاملَ الإِغراءِ لا يُحْذَفُ ، وبأنَّ فيه إغراءَ الغائبِ . وما وَرَدَ منه مؤولٌ على ندورِه نحو : « عليه رجلاً لَيْسَني » . قلت : وقد وَرَدَ قولُه عليه السلام « وإلاَّ فعليه بالصوم » ، فقيل : هو إغراء . وقيل ليس به ، وإنما هو مبتدأٌ وخبرٌ ، والباءُ زائدةٌ في المبتدأ . وهو تخريجٌ فاسدُ المعنى؛ لأن الصومَ ليس واجباً على ذلك .

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)

قوله : { الذين يُبَلِّغُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للذين خَلَوْا ، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمارِ « هم » أو أعني أو أمدحُ .

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

قوله : { ولكن رَّسُولَ الله } : العامَّةُ على تخفيف « لكن » ونصبِ رسول . ونصبُه : إمَّا على إضمارِ « كان » لدلالة « كان » السابقة عليها أي : ولكن كان ، وإمَّا بالعطفِ على « أبا أَحَدٍ » .
والأولُ أليقُ لأنَّ « لكن » ليست عاطفةً لأجلِ الواو ، فالأليقُ بها أن تدخلَ على الجملِ كمثل التي لَيَستْ بعاطفةٍ .
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بتشديدها؛ على أنَّ « رسولَ الله » اسمُها ، وخبرُها محذوفٌ للدلالةِ أي : ولكن رسولَ الله هو أي : محمدٌ . وحَذْفُ خبرها شائعٌ . وأُنْشِد :
3707 فلو كنتَ ضَبِّيَّاً عَرَفْتَ قَرابتي ... ولكنَّ زَنْجِيَّاً عظيمَ المَشافِرِ
أي : أنت . وهذا البيت يَرْوُوْنه أيضاً : ولكنَّ زَنْجيٌّ بالرفع شاهداً على حَذْفِ اسمِها أي : ولكنك .
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع « رسولُ » على الابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : هو . أو بالعكس أي : ولكن هو رسول كقوله :
3704 ولَسْتُ الشاعرَ السَّفسافَ فيهمْ ... ولكنْ مِدْرَهُ الحربُ العَوانِ
أي : ولكن أنا مِدْرَهُ .
قوله : « وخاتم » قرأ عاصمٌ بفتح التاء ، والباقون بكسرِها . فالفتح اسمٌ للآلةِ التي يُخْتَمُ بها كالطابَع والقالَبِ لما يُطْبَعُ به ويُقْلَبُ فيه ، هذا هو المشهور . وذكر أبو البقاء فيه أوجهاً أُخَرَ منها : أنه في معنى المصدرِ قال : « كذا ذُكِرَ في بعض الأعاريب » . قلت : وهو غَلَطٌ مَحْضٌ كيف وهو يُحْوِجُ إلى تجوُّزٍ وإضمار؟ ولو حُكِي هذا في « خاتِم » بالكسر لكان أقربَ؛ لأنه قد يجيء المصدرُ على فاعِل وفاعِلة . وسيأتي ذلك قريباً . ومنها : أنه اسمٌ بمعنى آخِر . ومنها : أنه فعلٌ ماضٍ مثل قاتَلَ فيكون « النبيين » مفعولاً به قلت : ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله « خَتَم النبيين » .
والكسرُ على أنه اسمُ فاعلٍ ، ويؤيِّده قراءةُ عبد الله المتقدمة . وقال بعضُهم : هو بمعنى المفتوح ، يعني بمعنى آخرهم .

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)

قوله : { وَمَلاَئِكَتُهُ } : إمَّا عطفٌ على فاعل « يُصَلِّي » وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن التأكيد بالضمير . وهذا عند مَنْ يرى الاشتراكَ أو القَدْرَ المشترك أو المجازَ ، لأنَّ صلاةَ الله تعالى غيرُ صلاتِهم ، وإمَّا مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي : وملائكتُه يُصَلُّون . وهذا عند مَنْ يرى شيئاً ممَّا تقدَّم جائزاً إلاَّ أن فيه بحثاً : وهو أنهم نَصُّوا على أنه إذا اختلفَ مَدْلولا الخبرَيْن فلا يجوزُ حَذْفُ أحدِهما لدلالةِ الآخرِ عليه ، وإن كان بلفظٍ واحدٍ فلا تقول : « زيد ضاربٌ وعمروٌ » يعني : وعمروٌ ضاربٌ في الأرض أي : مسافرٌ .

تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

قوله : { تَحِيَّتُهُمْ } : يجوزُ أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعوله ، وأن يكون مضافاً لفاعلِه ، ومفعولِه ، على معنى : أنَّ بعضَهم يُحَيِّي بعضاً . فيَصِحُّ أَنْ يكونَ الضميرُ للفاعلِ والمفعول باعتبارَيْن ، لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً مِنْ وجهٍ واحدٍ كقول مَنْ قال : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] إنه مضافٌ للفاعلِ والمفعولِ .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)

قوله : { شَاهِداً } : حالٌ مقدرةٌ أو مقارِنةٌ لقُرْبِ الزمان .

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)

قوله : { بِإِذْنِهِ } : حالٌ أي : مُلْتَبِساً بتسهيله ولا يريدُ حقيقةَ الإِذنِ لأنه مستفادٌ مِنْ « أَرْسلْناك » .
قوله : « وسِراجاً » يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على ما تقدم : إمَّا على التشبيه وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا سِراج . وجَوَّزَ الفراء أَنْ يكونَ الأصلُ : وتالياً سِراجاً . ويعني بالسِّراج القرآنَ . وعلى هذا فيكونُ مِنْ عطفِ الصفات وهي لذاتٍ واحدة : لأنَّ التاليَ هو المُرْسَل . وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يُعْطَفَ على مفعول « أَرْسَلْنَاك » وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السِّراجَ هو القرآنُ ، ولا يُوْصَفُ بالإِرسال بل الإِنزال ، إلاَّ أنْ يُقالَ : إنه حُمِلَ على المعنى ، كقوله :
3705- عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأيضاً فيُغْتَفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل .

وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

قوله : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « أذاهم » مضافاً لمفعوله أي : اتْرُكْ أذاك لهم أي : عقابَك إياهم ، وأن يكون مضافاً لفاعلِه أي : اتركْ ما آذَوْك به فلا تؤاخِذْهم حتى تؤمرَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

قوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } : إنْ قيل : ما الفائدةُ بالإِتيان ب « ثم » ، وحُكْمُ مَنْ طُلِّقَتْ على الفورِ بعد العَقْد كذلك؟/ فالجوابُ : أنه جَرَى على الغالب . وقال الزمخشري : « نَفْيُ التوهُّم عَمَّن عسى يَتَوَهَّمُ تفاوُتَ الحُكْمِ بين أَنْ يُطَلِّقَها قريبة العهدِ بالنكاح ، وبين أن يَبْعَدَ عهدُها بالنكاح وتتراخى بها المدةُ في حيالةِ الزوجِ ثم يُطَلِّقها » . قال الشيخ « واستعمل عَسَى صلةً ل » مَنْ « وهو لا يجوز » . قلتُ : يُخَرَّجُ قولُه على ما خُرِّجَ عليه قولُ الشاعر :
3706 وإني لَرامٍ نَظْرَةً قِبَلَ التي ... لَعَلِّي وإنْ شَطَّتْ نَواها أَزورها
وهو إضمارُ القول .
قوله : « تَعْتَدُّوْنَها » صفةٌ ل « عِدَّة » و « تَعْتَدُّونها » تَفْتَعِلُونها : إمَّا مِن العَدَدِ ، وإمَّا مِن الاعتدادِ أي : تَحْتَسِبُونها أو تَسْتَوْفون عَدَدَها مِنْ قولِك : عَدَّ الدراهمَ فاعتدَّها . أي : استوفى عَدَدها نحو : كِلْتُه فاكتاله ، ووَزَنْتُه فاتَّزَنَه . وقرأ ابن كثير في روايةٍ وأهلُ مكةَ بتخفيف الدال . وفيها وجهان ، أحدهما : أنها من الاعتدادِ ، وإنما كَرِهوا تضعيفَه فَخَفَّفوه . قاله الرازي قال : « ولو كانَ من الاعتداءِ الذي هو الظلمُ لَضَعُفَ؛ لأنَّ الاعتداءَ يتعدَّى ب على » . قيل : ويجوز أَنْ يكونَ من الاعتداء وحَذَفَ حرفَ الجرِّ أي : تَعتَدُون عليها أي : على العِدَّة مجازاً ثم تَعْتَدُوْنها كقوله :
3707 تَحِنُّ فَتُبْدِيْ ما بها مِنْ صَبابةٍ ... وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضاني
أي : لقضى عليَّ . قال الزمخشري : « وقُرِئ » تَعْتَدُونها « مخففاً أي : تعتدون فيها . كقوله :
3708 ويومٍ شَهِدْناه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . والمرادُ بالاعتداءِ ما في قولِه : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] يعني : أنه حَذَفَ الحرفَ كما حَذَفَ في قولِه :
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامِراً ... قليلٍ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
وقيل : معنى تَعْتَدُونها أي : تَعْتَدُوْن عليهنَّ فيها . وقد أنكر ابنُ عطية القراءةَ عن ابن كثير وقال : » غَلِطَ ابنُ ابي بَزَّة عنه « وليس كما قال . والثاني : أنها من العُدْوان والاعتداء ، وقد تقدَّم شَرْحُه ، واعتراضُ أبي الفضل عليه : بأنه كان ينبغي أَنْ يتعَدَّى ب » على « ، وتقدَّم جوابُه . وقرأ الحسن » تَعْدُّونها « بسكون العين وتشديدِ الدالِ ، وهو جمعٌ بين ساكنَيْن على غيرِ حَدَّيْهما .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)

قوله : { مِمَّآ أَفَآءَ } : بيانٌ لِما مَلَكَتْ وليس هذا قَيْداً ، بل لو ملكَتْ يمينُه بالشراء كان الحكمُ كذا ، وإنما خَرَجَ مَخَرَجَ الغالِب .
قوله : « وامرأةً » العامَّةُ على النصب . وفيه وجهان ، أحدهما : أنها عطفٌ على مفعولِ « أَحْلَلْنا » أي : وأَحْلَلْنا لك امرأةً موصوفةً بهذين الشرطين . قال أبو البقاء : « وقد رَدَّ هذا قومٌ وقالوا : » أَحْلَلْنا « ماضٍ و » إنْ وَهَبَتْ « وهو صفةُ المرأة مستقبلٌ ، فأَحْلَلْنا في موضع جوابِه ، وجوابُ الشرط لا يكونُ ماضياً في المعنى » قال : « وهذا ليس بصحيحٍ لأنَّ معنى الإِحلالِ ههنا الإِعلامُ بالحِلِّ إذا وقع الفعلُ على ذلك كما تقول : أَبَحْتُ لك أَنْ تُكلِّمَ فلاناً إنْ سَلَّم عليك » . الثاني : أنه ينتصِبُ بمقدرٍ تقديرُه : ويُحِلُّ لك امرأةً .
قوله : « إنْ وَهَبَتْ . . . إنْ أرادَ » هذا من اعتراضِ الشرط على الشرطِ ، والثاني هو قيدٌ في الأولِ ، ولذلك نُعْرِبه حالاً ، لأنَّ الحالَ قيدٌ . ولهذا اشترط الفقهاءُ أن يتقدَّمَ الثاني على الأولِ في الوجود . فلو قال : « إنْ أكلْتِ إنْ ركبْتِ فأنتِ طالقٌ » فلا بُدَّ أنْ يتقدَّم الركوبُ على الأكلِ . وهذا لِتَتَحَقَّقَ الحاليةُ والتقييدُ كما ذكرْتُ لك؛ إذ لو لم يتقدَّمْ لخلا جزءٌ من الأكل غيرُ مقيدٍ بركوبٍ ، فلهذا اشترطُوا تقدُّمَ الثاني . وقد مضى تحقيقُ هذا ، وأنَّه بشرطِ أَنْ لا تكونَ ثَمَّ قرينةٌ تمنعُ من تقدُّمِ الثاني على الأولِ . كقولك : « إنْ تَزَوَّجْتُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدي حُرٌّ » لا يُتَصَوَّرُ هنا تقديمُ الطلاق على التزويج .
إلاَّ أني قد عَرَضَ لي إشكالٌ على ما قاله الفقهاء بهذه الآية : وذلك أن الشرطَ الثاني هنا لا يمكُنُ تقدُّمُه في الوجودِ بالنسبةِ إلى الحكمِ الخاص بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، لا أنه لا يمكن عقلاً . وذلك أن المفسِّرين فَسَّروا قولَه تعالى : « إنْ أرادَ » بمعنى قبِلَ الهِبَةَ؛ لأنَّ بالقبول منه عليه السلام يَتِمُّ نكاحُه وهذا لا يُتَصَوَّرُ تقدُّمه على الهِبة؛ إذ القبولُ متأخرٌ . وأيضاً فإنَّ القصةَ كانَتْ على ما ذَكَرْتُه مِنْ تأخُّر إرادتِه عن هِبَتِها ، وهو مذكورٌ في التفسيرِ . والشيخ لَمَّا جاء إلى ههنا جعلَ الشرطَ الثاني متقدِماً على الأول على القاعدة العامةِ ولم يَسْتَشْكِلْ شيئاً مِمَّا ذكرته . وقد عَرَضْتُ هذا الإِشكالَ على جماعةٍ من أعيان زمانِنا فاعترفوا به ، ولم يَظْهر عنه جوابٌ ، إلاَّ ما/ قَدَّمْتُه مِنْ أنه ثَمَّ قرينةٌ مانعةٌ من ذلك كما مثَّلْتُ لك آنفاً .
وأبو حيوةَ « وامرأة » بالرفع على الابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : أَحْلَلْناها لك أيضاً . وفي قوله : { إِنْ أَرَادَ النبي } التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة بلفظِ الظاهر تنبيهاً على أنَّ سببَ ذلك النبوَّةُ ، ثم رَجَعَ إلى الخطاب فقال : خالصةً لك .

وقرأ أُبَيُّ والحسنُ وعيسى « أَنْ » بالفتح وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ مِنْ « امرأة » بدلُ اشتمالٍ ، قاله أبو البقاء . كأنه قيل : وأَحْلَلْنا لك هِبَةَ المرأةِ نفسَها لك . الثاني : أنَّه على حَذْفِ لامِ العلَّة أي : لأَنْ وهبت . وزيدُ بن علي « إذ وَهَبَتْ » وفيه معنى العِلِّيَّة .
قوله : « خالصةً » العامَّةُ على النصبِ . وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ « وَهَبَتْ » . أي : حالَ كونِها خالصةً لك دونَ غيرك . الثاني : أنها حالٌ من « امرأةٌ » لأنها وُصِفَتْ فتخصَّصَتْ وهو بمعنى الأول . وإليه ذهب الزجَّاج . الثالث : أنها نعتُ مصدرٍ مقدرٍ أي : هِبةً خالصةً . فنصبَها بوَهَبَتْ . الرابع : أنها مصدرٌ مؤكدٌ ك { وَعْدَ الله } [ النساء : 122 ] . قال الزمخشري : « والفاعلُ والفاعلةُ في المصادر غيرُ عزيزَيْن كالخارِج والقاعِد والكاذِبة والعافِية » . يريد بالخارج ما في قولِ الفرزدق :
3709 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا خارِجاً مِنْ فِيَّ زُوْرُ كَلامِ
وبالقاعدِ ما في قولهم « أقاعِداً وقد سار الرَّكْبُ » وبالكاذبة ما في قوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } . وقد أنكر الشيخُ عليه قولَه « غير عزيزَيْن » وقال : « بل هما عزيزان ، وما وَرَدَ متأوَّلٌ » . وقُرِئ « خالِصَةٌ » بالرفع . فإنْ كانَتْ « خالصةً » حالاً قُدِّرَ المبتدأُ « هي » أي : المرأةُ الواهبةُ . وإن كانَتْ مصدراً قُدِّر : فتلك الحالةُ خالصة . وَ « لك » على البيان أي : أعني لك نحو : سَقْياً لك .
قوله : « لكيلا » متعلِّقٌ ب « خالصةً » وما بينهما اعتراضٌ و « مِنْ دون » متعلِّقٌ ب « خالصةً » كما تقول : خَلَصَ مِنْ كذا .

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)

قوله : { وَمَنِ ابتغيت } : يجوزُ في « مَنْ » وجهان . أحدهما : أنها شرطيةٌ في محلِّ نصبٍ بما بعدها .
وقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } جوابُها . والمعنى : مَنْ طَلَبْتَها من النسوةِ اللاتي عَزَلْتَهُنَّ فليس عليك في ذلك جُناحٌ . الثاني : أَنْ تكونَ مبتدأةً . والعائدُ محذوفٌ . وعلى هذا فيجوزُ في « مَنْ » أَنْ تكونَ موصولةً ، وأنْ تكونَ شرطيةً و { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } خبرٌ أو جوابٌ أي : والتي ابتَغَيْتَها . ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ ضميرٍ راجعٍ إلى اسم الشرط من الجوابِ أي : في ابتغائِها وطَلَبها . وقيل : في الكلامِ حذفُ معطوفٍ تقديرُه : ومَنِ ابتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ومَنْ لم تَعْزِلْ سواءٌ لا جُناح عليك كما تقول : مَنْ لَقِيَكَ مِمَّن لم يَلْقَك جميعُهم لك شاكرٌ . تريد : مَنْ لَقِيَكَ ومَنْ لم يَلْقَكَ . وهذا فيه إلغازٌ .
قوله : « ذلك » أي : التفويضُ إلى مَشيئتِك أقربُ إلى قرَّة أعينِهنَّ .
والعامَّةُ « تَقَرَّ » مبنياً للفاعل مُسْنداً ل « أَعْيُنُهُنَّ » . وابنُ محيصن « تُقِرَّ » مِنْ أَقَرَّ رباعياً . وفاعلُه ضمير المخاطب . « أعينَهُنَّ » نصبٌ على المفعولِ به . وقُرِئ « تُقَرَّ » مبنياً للمفعول . « أعينهُنَّ » رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعل . وقد تَقَدَّم معنى « قُرَّة العين » في مريم .
قوله : « كلُّهن » العامةُ على رفعِه توكيداً لفاعلِ « يَرْضَيْن » . وأبو أناس بالنصب توكيداً لمفعولِ « آتيتهُنَّ » .

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)

قوله : { لاَّ يَحِلُّ } : قرأ أبو عمرٍو « تَحِلُّ » بالتأنيث اعتباراً باللفظ . والباقون بالياء؛ لأنه جنسٌ وللفصل أيضاً .
قوله : « مِنْ بَعْدُ » أي : مِنْ بعدِ اللاتي نَصَصْنا لك على إحْلالِهِنَّ . وقد تقدَّم . وقيل : مِنْ بعدِ إباحةِ النساءِ المسلماتِ دونَ الكتابيات .
قوله : « مِنْ أزواجٍ » مفعولٌ به . و « مِنْ » مزيدةٌ فيه لاستغراق الجنس .
قوله : « ولو أعجبكَ » كقولِه : « أَعْطُوا السائل ولو على فَرَس » أي : في كل حال ، ولو على هذه الحالِ المنافية .
قوله : « إلاَّ ما مَلَكَتْ » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مستثنى من « النساء » ، فيجوز فيه وجهان : النصبُ على أصل الاستثناء ، والرفعُ على البدل . وهو المختار . الثاني : أنه مستثنى من أزواج . قاله أبو البقاء . فيجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ نصبٍ على أصل الاستثناء ، وأنْ يكونَ/ في موضع جَرّ بدلاً مِنْ « هنَّ » على اللفظِ ، وأن يكونَ في موضع نصبٍ بدلاً مِنْ « هُنَّ » على المحلِّ .
وقال ابن عطية : « إنْ كانَتْ » ما « مصدريةً فهي في موضعِ نصبٍ لأنه مِنْ غير الجنس . وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك : والتقديرُ : إلاَّ مِلْك اليمين . ومِلْك بمعنى مَمْلوك » . انتهى . وإذا كان بمعنى مَمْلوك صار من الجنس ، وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً . على أنه على تقدير انقطاعه لا يَتَحَتَّمُ نصبُه بل يجوزُ عند تميم الرفعُ بدلاً ، والنصبُ على الأصلِ كالمتصل ، بشرط صحةِ توجُّهِ العاملِ إليه كما حَقَّقْتُه غيرَ مرة . وهذا يمكنُ توجُّهُ العاملِ إليهِ ولكنَّ اللغةَ المشهورةَ لغةُ الحجازِ : وهو لزومُ النصبِ في المنقطعِ مطلقاً كما ذكره أبو محمدٍ آنفاً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)

قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ تقديرُه : إلاَّ مَصْحوبين بالإِذن . الثاني : أنها على إسقاطِ باءِ السببِ تقديرُه : إلاَّ بسببِ الإِذنِ لكم كقولِه : فاخْرُجْ به أي بسببه . الثالث : أنه منصوبٌ على الظرف . قال الزمخشري : « إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ : في معنى الظرف تقديره : إلاَّ وقتَ أَنْ يُؤْذَنَ لكم . و » غيرَ ناظرين « حالٌ مِنْ » لا تَدْخُلوا « ، وقع الاستثناء على الحالِ والوقتِ معاً ، كأنه قيل : لا تَدْخُلوا بيوتَ النبيِّ إلاَّ وقتَ الإِذن ، ولا تَدْخُلوا إلاَّ غير ناظرين إناه » .
وردَّ الشيخُ الأولَ : بأنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنَّ « أنْ » المصدريةَ لا تقعُ موقعَ الظرفِ . لا يجوز : « آتيكَ أَنْ يصيحَ الديك » وإن جاز ذلك في المصدرِ الصريح نحو : آتيك صياحَ الديك . ورَدَّ الثاني : بأنه لا يقعُ بعد « إلاَّ » في الاستثناء إلاَّ المستثنى أو المستثنى منه أو صفتُه . ولا يجوز في ما عدا هذا عند الجمهور . وأجاز ذلك الكسائيُّ والأخفش . وأجازا « ما قام القومُ إلاَّ يومَ الجمعة ضاحِكِين » .
و « إلى طعامٍ » متعلقٌ ب « يُؤْذَنَ »؛ لأنه بمعنى : إلاَّ أن تُدْعَوا إلى طعام . وقرأ العامةُ « غيرَ ناظرين » بالنصب على الحال كما تقدم ، فعند الزمخشري ومَنْ تابعه : العاملُ فيه « يُؤْذَنَ » وعند غيرِهم العاملُ فيه مقدرٌ تقديره : ادْخُلوا غيرَ ناظرين . وقرأ ابن أبي عبلة « غيرِ » بالجرِّ صفةً ل طعام . واستضعفها الناسُ مِنْ أجل عدمِ بروزِ الضميرِ لجريانِه على غيرِ مَنْ هُو له ، فكان مِنْ حقِّه أَنْ يُقال : غيرَ ناظرين إناه أنتم . وهذا رأيُ البصريين . والكوفيون يُجيزون ذلك إن لم يُلْبَسْ كهذه الآيةِ . وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ وفروعُها وما قيل فيها . وهل ذلك مختصٌّ بالاسمِ أو يَجْري في الفعل؟ خلافٌ مشهور قَلَّ مَنْ يَضْبِطُه .
وقرأ العامَّةُ « إناه » مفرداً أي : نُضْجَه . يقال : أَنَى الطعام إنىً نحو : قَلاه قِلىً . وقرأ الأعمشُ « آناءه » جمعاً على أفْعال فأُبْدِلَتْ الهمزةُ الثانية ألفاً ، والياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ ، فصار في اللفظ كآناء من قوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل } [ طه : 130 ] وإن كان المعنى مختلفاً .
قوله : « ولاَ مُسْتَأْنِسِين » يجوز أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على « غيرَ » أي : لا تَدْخُلوها غيرَ ناظرين ولا مستأنِسين . وقيل : هذا معطوفٌ على حالٍ مقدرة أي : لا تدخُلوا هاجمين ولا مستأنِسين ، وأنْ يَكونَ مجروراً عطفاً [ على ] « ناظرين » أي : غيرَ ناظرين وغيرَ مُسْتَأْنسين .
قوله : « لحديثٍ » يُحتمل أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي : مستأنسين لأجل أَنْ يُحَدِّثَ بعضُكم بعضاً ، وأن تكونَ المقوِّيةَ للعامل لأنه فرعٌ أي : ولا مُسْتأنسين حديثَ أهلِ البيت أو غيرِهم .

قوله : « إنَّ ذلكم » أي : إنَّ انتظارَكم واستئناسَكم فأُشير إليهما إشارةَ الواحدِ كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . أي : إنَّ المذكور . وقُرئ « لا يَسْتَحِي » بياءٍ واحدةٍ ، والأخرى محذوفةٌ . واخْتُلِفَ فيها : هل هي الأولى أو الثانية؟ وتقدَّم ذلك في البقرة ، وأنها روايةٌ عن ابن كثير . وهي لغةُ تميمٍ . يقولون : اسْتَحى يَسْتَحي ، مثل : اسْتَقَى يَسْتقي . وأنشدْتُ عليه هناك ما سُمِع فيه .
قوله : « أَنْ تُؤْذُوا » هي اسمُ كان . و « لكم » الخبرُ . و { وَلاَ أَن تنكحوا } عطفٌ على اسم كان . و « أبداً » ظرف .

لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

[ قوله ] : { واتقين } : عطف على محذوفٍ أي : امْتَثِلْن ما أُمِرْتُنَّ به واتَّقين .

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)

قوله : { وَمَلاَئِكَتَهُ } : العامَّة على النصبِ نَسَقاً على اسم « إنَّ » . و « يُصَلُّون » هل هو خبرٌ عن الله وملائكتِه ، أو عن الملائكةِ فقط ، وخبرُ الجلالةِ محذوفٌ لتغايُرِ الصَّلاتَيْن؟ خلافٌ تقدَّم قريباً . وقرأ ابنُ عباسٍ ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ « وملائكتُه » رفعاً ، فيُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ اسم « إنَّ » عند بعضهم/ وأَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ محذوفٌ ، وهو مذهبُ البصريين . وقد تقدَّم فيه بحثٌ نحو : « زيدٌ ضاربٌ وعمرٌو » أي ضاربٌ في الأرض .

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)

قوله : { يُؤْذُونَ الله } : فيه أوجهٌ أي : يقولون فيه ما صورتُه أذىً ، وإنْ كان سبحانه وتعالى لا يَلْحَقُه ضررُ ذلك حيث وصفُوْه بما لا يَليقُ بجلالِه : مِنِ اتِّخاذِ الأَنْداد ، ونسبةِ الولد والزوجة إليه؛ وأَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : أولياءَ الله . وقيل : أتى بالجلالةِ تعظيماً ، والمرادُ : يُؤْذُون رسولي كقولِه تعالى : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)

قوله : { فَقَدِ احتملوا } : خبرُ « والذين » . ودخلتِ الفاءُ لشِبْهِ الموصولِ بالشرط .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)

قوله : { يُدْنِينَ } : كقوله : { قُل لِّعِبَادِيَ . . . يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] و « مِنْ » للتبعيض .
قوله : « ذلك أَدْنَى » أي : إدناءُ الجلابيبِ أقربُ إلى عِرْفانهنَّ فعَدَمِ أذاهنَّ .

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } : أي : إلاَّ زماناً قليلاً ، أو إلاَّ جِواراً قليلاً . وقيل : « قليلاً » نصبٌ على الحال مِنْ فاعل « يُجاوِرونك » أي : إلاَّ أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى : قليلين . وقيل : « قليلاً » منصوبٌ على الاستثناء أي : لا يُجاوِرُكَ إلاَّ القليلُ منهم على أذلِّ حالٍ وأقلِّه .

مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)

قوله : { مَّلْعُونِينَ } : حالٌ مِنْ فاعل « يُجاوِرونك » قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء . قال ابن عطية : « لأنه بمعنى يَنْتَفُوْن منها ملعونين » . وقال الزمخشري : « دَخَلَ حرفُ الاستثناء على الحالِ والظرفِ معاً كما مَرَّ في قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ } [ الأحزاب : 53 ] . قلت : وقد تقدَّم بحثُ الشيخِ معه وهو عائدٌ هنا . وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ ينتَصِبَ على الشتمِ . وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ » قليلاً « على أنه حال كما تقدَّم تقريرُه . ويجوزُ أَنْ يكونَ » مَلْعونين « نعتاً ل » قليلاً « على أنه منصوبٌ على الاستثناءِ مِنْ واو » يُجاوِرُوْنَك « كما تقدَّم تقريرُه . أي : لا يُجاورُك منهم أحدٌ إلاَّ قليلاً ملعوناً . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب » أُخِذُوا « الذي هو جوابُ الشرطِ . وهذا عند الكسائيِّ والفراء فإنهما يُجيزان تقديمَ معمولِ الجواب على أداةِ الشرط نحو : » خيراً إْن تَأْتِني تُصِبْ « .
وقد منع الزمخشريُّ ذلك فقال : » ولا يَصِحُّ أنْ ينتصِبَ ب « أُخِذُوا » لأنَّ ما بعد كلمة الشرطِ لا يَعْمل فيما قبلَها « . وهذا منه مَشْيٌ على الجادَّةِ . وقوله : » ما بعد كلمةِ الشرط « يشملُ فعلَ الشرطِ والجوابِ . فأمَّا الجوابُ فتقدَّم حكمُه ، وأمَّا الشرطُ فأجاز الكسائيُّ أيضاً تقديمَ معمولِه على الأداة نحو : » زيداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ « . فتلخَّص في المسألة ثلاثةُ مذاهبَ : المَنعُ مطلقاً ، الجوازُ مطلقاً ، التفصيلُ : يجوز تقديمُه معمولاً للجواب ، ولا يجوزُ تقديمُه معمولاً للشرط ، وهو رأيُ الفرَّاء .
قوله : » وقُتِّلوا « العامَّةُ على التشديد . وقُرِئ بالتخفيف . وهذه يَرُدُّها مجيءُ المصدرِ على التَّفْعيل إلاَّ أَنْ يُقالَ : جاء على غيرِ صَدْرِه . وقوله : » سُنَّةُ اللَّهِ « قد تقدَّم نظيرها .

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)

قوله : { لَعَلَّ الساعة } : الظاهرُ أنَّ « لعلَّ » تُعَلِّق كما يُعَلِّق التمني . و « قريباً » خبرُ كان على حَذْفِ موصوفٍ أي : شيئاً قريباً . وقيل : التقديرُ : قيامَ الساعة ، فرُوْعِيَتِ الساعةُ في تأنيث « تكون » ، ورُوْعي المضافُ المحذوفُ في تذكير « قريباً » . وقيل : قريباً كَثُر استعمالُه استعمالَ الظروفِ فهو هنا ظرفٌ في موضعِ الخبر .

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)

قوله : { فِيهَآ } : أي : في السَّعير لأنها مؤنثة ، أو لأنه في معنى جهنم . و « لا يَجِدُون » حالٌ ثانية أو مِنْ « خالدين » .

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)

قوله : { يَوْمَ } : معمول ل « خالدين » ، أو ل « يَجدون » ، أو ل « نصيراً » أو ل « اذْكُرْ » ، أو ل « يقولون » بعده . وقرأ العامَّةُ « تُقَلَّبُ » مبنياً للمفعول . « وجوهُهم » رفعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي « تَقَلَّبُ » بفتح التاء أي : تتقلَّب . « وجوهُهم » فاعلٌ به . أبو حيوةَ « نُقَلِّبُ » بالنون أي نحن . « وجوهَهم » بالنصب . وعيسى البصرة « تُقَلِّبُ » بضمِّ التاءِ وكسرِ اللام أي : تُقَلِّبُ السَّعيرُ أو الملائكةُ . « وجوهَهم » بالنصب على المفعول به . « يقولون » حالٌ و « يا لَيْتَنا » مَحْكِيٌّ .

وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)

قوله : { سَادَتَنَا } : قرأه ابنُ عامر في آخرين بالجمع بالألف والتاء . والباقون « سادَتنا » على أنه جمعُ تكسير غيرُ مجموعٍ بألفٍ وتاء . ثمَّ « سادة » يجوز أن يكونَ جمعاً لسَيِّد ، ولكنْ لا ينقاسُ؛ لأنَّ فَيْعِلاً لا يُجْمع على فَعَلَة ، وسادَة فَعَلَة؛ إذ الأصلُ سَوَدَة . ويجوزُ أنْ يكونَ جمعاً لسائدِ نحو : فاجِر وفَجَرة ، وكافِر وكَفَرة وهو أقربُ إلى القياس/ ممَّا قبله ، وابنُ عامرٍ جمع هذا ثانياً بالألفِ والتاء ، وهو غيرُ مقيسٍ أيضاً نحو : بيُوتات وجِمالات .

رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

وقرأ « كبيراً » بالباءِ الموحَّدة عاصمٌ . والباقون بالمثلثة ، وتقدَّم معناهما في البقرة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)

قوله : { عِندَ الله } : العامَّةُ على « عند » الظرفية المجازية . وابن مسعود والأعمشُ وأبو حيوةَ « عَبْداً » من العبودية ، « لله » جارٌّ ومجرورٌ وهي حسنةٌ . قال ابن خالويه : « صَلَّيْتُ خلفَ ابن شنبوذ في رمضانَ فسمعتُه يقرأ بقراءةِ ابنِ مسعود هذه » . قلت : وكان - رحمه اللَّهُ - مُولعاً بنَقْلِ الشاذِّ ، وحكايتُه مع ابن مُقْلة الوزيرِ وابن مجاهدٍ في ذلك مشهورةٌ . و « ما » في « ممَّا قالُوا » : إمَّا مصدريةٌ ، وإمَّا بمعنى الذي .

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

وقوله : { إِنَّا عَرَضْنَا } : إمَّا حقيقةٌ ، وإما تمثيلٌ وتخييلٌ .
وقوله : « فَأَبَيْنَ » أتى بضميرِ هذه كضميرِ الإِناث؛ لأنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوز فيه ذلك ، وإنْ كان مذكراً ، وإنما ذكَرْتُه لئلا يُتَوَهَّم أنه قد غَلَّبَ المؤنثَ وهو « السماوات » على المذكر وهو « الجبالُ » .

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

قوله : { لِّيُعَذِّبَ } : متعلِّقٌ بقولِه « وحَمَلها » فقيل : هي لامُ الصيرورةِ لأنه لم يَحْملها لذلك . وقيل : لامُ العلةِ على المجاز؛ لَمَّا كانت نتيجةُ حَمْلِه ذلك جُعِلَتْ كالعلَّة الباعثةِ . ورَفَعَ الأعمشُ « ويتوبُ » استئنافاً .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { الذي لَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً ، وأنْ يكونَ مقطوعاً نصباً أو رفعاً على المدحِ فيهما . و { مَا فِي السماوات } يجوز أن يكونَ فاعلاً به « له » وهو الأحسنُ ، وأَنْ يكونَ مبتدأ .
قوله : « في الآخرةِ » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الحمد ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به خبرُه . « وهو الحكيمُ » يجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً إذا أَعْرَبْنا « يَعْلَمُ » حالاً مؤكدةً مِنْ ضمير الباري تعالى ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « يَعْلَمُ » مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في « الخبير » .

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

قوله : { وَمَا يَنزِلُ } : العامَّةُ على « يَنْزِلُ » مفتوحَ الياءِ ، مخففَ الزاي مُسنَداً إلى ضميرِ « ما » . وعلي رضي الله عنه والسلمي بضمِّها وتشديد الزاي أي الله تعالى .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)

قوله : { بلى } : جوابٌ لقولِهم « لا تَأْتينا » وما بعده قسمٌ على ذلك . وقرأ العامَّةُ « لَتَأْتِيَنَّكم » بالتأنيث . وطلق بالياء فقيل : أي : البعثُ . وقيل : هي على معنى الساعة ، أي : اليوم . قاله الزمخشري . ورَدَّه الشيخ بأنه ضرورةٌ ، كقوله :
3710 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أَرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها
وليس مثلَه . وقيل : أي الله بمعنى أمْرُه . ويجوز على قياسِ هذا الوجهِ أَنْ يكونَ « عالمُ » فاعلاً ل « يَأْتَيَنَّكم » في قراءةِ مَنْ رفعه .
قوله : « عالم » قرأ الأخَوان « عَلاّم » على صيغة المبالغة وخفضِه نعتاً ل رَبِّي « أو بدلاً منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً . ونافع وابن عامر » عالمُ « بالرفع على هو عالم أو على أنه مبتدأٌ ، وخبره » لا يَعْزُب « أو على أنَّ خبرَه مضمرٌ أي هو . ذكره الحوفي . وفيه بُعْد . والباقون » عالم « بالخفض على ما تقدَّم . وإذا جُعِل نعتاً فلا بُدَّ مِنْ تقدير تعريفِه . وقد تقدَّم أنَّ كلَّ صفةٍ يجوزُ أن تتعرَّفَ بالإِضافةِ إلاَّ الصفةَ المشبهةَ . وتقدَّمتْ قراءتا » يَعْزُب « في سورةِ يونس .
قوله : » ولا أَصْغَرُ « العامَّةُ على رفعِ » أصغر « و » أكبر « . وفيه وجهان ، أحدُهما : الابتداء ، والخبرُ { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } . والثاني : النسقُ على » مثقالُ « وعلى هذا فيكونُ { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيداً للنفيِ في » لا يَعْزُبُ « كأنه قال : لكنه في كتاب مُبين .
وقرأ قتادةُ والأعمش ، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ونافع أيضاً ، بفتح الراءَيْن . وفيهما وجهان ، أحدهما : أنها » لا « التبرئةُ بُني اسمُها معها . والخبرُ قولُه : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } . الثاني : النسقُ على » ذَرَّةٍ « . وتقدَّم في يونس أنَّ حمزةَ قرأ بفتح راءِ » أصغر « و » أكبر « وهنا وافقَ على الرفع . وتقدَّم البحثُ هناك مُشْبَعاً . قال الزمخشري : » فإن قلتَ : هَلاَّ جاز عطفُ « ولا أصغرُ » على « مثقال » ، وعطف « ولا أكبرَ » على « ذَرَّة » . قلت : يَأْبَى ذلك حرفُ الاستثناءِ إلاَّ إذا جَعَلْتَ الضميرَ في « عنه » للغيبِ ، وجَعَلْتَ « الغيب » اسماً للخَفِيَّات قبل أنْ تُكتبَ في اللَّوْح؛ لأنَّ إثباتَها في اللوحِ نوعٌ من البروزِ عن الحجاب على معنى : أنه لا يَنْفَصِلُ عن الغيب شيءٌ ولا يَزِلُّ عنه/ إلاَّ مَسْطوراً في اللوح « . قال الشيخ : » ولا يُحتاجُ إلى هذا التأويلِ إذا جَعَلْنا الكتابَ ليس اللوحَ المحفوظ « .
وقرأ زيد بن علي بخفض راءَيْ » أصغر « و » أكبر « وهي مُشْكلةٌ جداً . وخُرِّجَتْ على أنهما في نية الإِضافة؛ إذ الأصلُ : ولا أصغرِه ولا أكبره ، وما لا ينصرف إذا أُضيفَ انْجَرَّ في موضعِ الجرِّ ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه ونُوي معناه فَتُرِك المضَافُ بحالِه ، وله نظائرُ كقولهم :

3711 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأسَدِ
و [ قوله : ]
3712 يا تَيْمَ عَدِيٍّ . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على خلافٍ . وقد يُفَرَّقُ : بأن هناك ما يَدُلُّ على المحذوفِ لفظاً بخلاف هنا . وقد رَدَّ بعضُهم هذا التخريجَ لوجود « مِنْ »؛ لأنَّ أفعلَ متى أُضيف لم يجامِعْ « مِنْ » . وأُجيب عن ذلك بوجهين ، أحدهما : أنَّ « مِنْ » ليسَتْ متعلقةً ب أَفْعَل؛ بل بمحذوفٍ على سبيل البيانِ لأنه لَمَّا حُذِفَ المضافُ إليه انبهم المضافُ فتبَيَّن ب « مِنْ » ومجرورِها أي : أعني من ذلك . والثاني : أنَّه مع تقديرِه للمضافِ إليه نُوي طَرْحُه ، فلذلك أُتي ب « مِنْ » . ويدلُّ على ذلك أنه قد وَرَدَ التصريحُ بالإِضافةِ مع وجود « مِنْ » قال الشاعر :
3713 نحن بغَرْسِ الوَدَي أَعْلَمُنا ... مِنَّا بركضِ الجيادِ في السُّدَفِ
وخُرِّجَ على هذين الوجهين : إمَّا التعلُّقِ بمحذوفٍ ، وإمَّا نيةِ اطِّراحِ المضاف إليه . قلت : وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين أل ومِنْ في أفعلَ كقوله :
3714 ولستُ بالأكثرِ منهم حَصَىً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه توجيهاتُ شذوذٍ ، لا يُطْلَبُ فيها أكثرُ مِنْ ذلك فلْيُقْنَعْ بمثله .

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

قوله : { لِّيَجْزِيَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه متعلِّقٌ ب لا يَعْزُب . وقال أبو البقاء : « يتعلَّقُ بمعنى لا يَعْزُب ، أي يُحْصي ذلك ليَجزيَ » وهو حسنٌ ، أو بقوله : « لتَأْتِيَنَّكم » أو بالعاملِ في قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي : إلاَّ استقرَّ ذلك في كتاب مبينٍ ليجْزِيَ . وتقدم في الحج قراءتا « مُعاجزين » .

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)

قوله : { أَلِيمٌ } : قرأ ابن كثير وحفص هنا ، وفي الجاثية ، « أليمٌ » بالرفع . والباقون بالخفض . فالرفعُ على أنه نعتٌ ل « عذاب » والخفضُ على أنه نعتٌ ل « رِجْز » إلاَّ أن مكيَّاً ضَعَّفَ قراءةَ الرفعِ واستبعدها قال : « لأنَّ الرِّجْزَ هو العذابُ فيصير التقديرُ : عذابٌ أليمٌ مِنْ عذاب ، وهذا معنى غيرُ متَمكِّنٍ » . قال : « والاختيارُ خفضُ » أليم « لأنه أصَحُّ في التقدير والمعنى؛ إذ تقديرُه : لهم عذاب مِنْ عذاب أليم ، أي : هذا الصنفُ مِنْ أصنافِ العذابِ لأنَّ العذابَ بعضُه آلمُ مِنْ بعض » . قلت : وقد أُجيبَ عَمَّا قاله مكيٌّ : بأنَّ الرِّجْزَ مُطلق العذاب ، فكأنه قيل لهم : هذا الصنفُ من العذابِ من جنسِ العذاب . وكأن أبا البقاءِ لَحَظَ هذا حيث قال : « وبالرفعِ صفةً ل عذاب ، والرِّجْزُ مُطْلَقُ العذابِ » .
قوله : « والذين سَعَوْا » يجوز فيه وجهان ، أظهرهما : أنها مبتدأٌ و « أولئك » وما بعده خبرُه . والثاني : أنه عطفٌ على الذين قبلَه أي : ويَجْزي الذين سَعَوْا ، ويكون « أولئك » الذي بعده مستأنفاً ، و « أولئك » الذي قبله وما في حَيِّزه معترضاً بين المتعاطفَيْن .

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

قوله : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على « ليَجْزِيَ » قال الزمخشري : « أي : وليعلمَ الذين أُوتُوا العِلْمَ عند مجيءِ الساعة » . قلت : إنما قَيَّده بقولِه : « عند مجيءِ السَّاعةِ » لأنه عَلَّق « ليجزيَ » بقوله : « لتأتينَّكم »؛ فبنى هذا عليه ، وهو من أحسنِ ترتيب . والثاني : أنه مستأنَفٌ أخبر عنهم بذلك ، و « الذي أُنْزِلَ » هو المفعول الأولُ و « هو » فصلٌ و « الحقَّ » مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الرؤيةَ عِْلمية .
وقرأ ابن أبي عبلة « الحقُ » بالرفع على أنه خبرُ « هو » . والجملةُ في موضعِ المفعول الثاني وهو لغةُ تميمٍ ، يجعلون ما هو فصلٌ مبتدأً ، و « مِنْ رَبِّك » حالٌ على القراءتين .
قوله : « ويَهْدِي » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مستأنفٌ . وفي فاعله احتمالان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الذي أُنْزِل . والثاني : ضميرُ اسمِ الله ويَقْلَقُ هذا لقولِه إلى صراط العزيز؛ إذ لو كان كذلك لقيل : إلى صراطه . ويُجاب : بأنه مِنْ الالتفاتِ ، ومِنْ إبرازِ المضمر ظاهراً تنبيهاً على وَصْفِه بها بين الصفتين .
الثاني من الأوجه المتقدمة : أنه معطوفٌ/ على موضع « الحقَّ » و « أَنْ » معه مضمرةٌ تقديره : هو الحقَّ والهداية .
الثالث : أنه عطفٌ على « الحق » عطفُ فعلٍ على اسم لأنه في تأويلِه كقوله تعالى : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] أي : وقابضاتٍ ، كما عُطِفَ الاسمُ على الفعلِ لأن الفعلَ بمعناه .
كقول الشاعر :
3715 فأَلْفَيْتُه يوماً يُبير عدوَّه ... وبحرَ عطاءٍ يستخِفُّ المعابرا
كأنه قيل : ولِيَروْه الحقَّ وهادياً .
الرابع : أنَّ « ويَهْدي » حالٌ من « الذي أُنْزِل » ، ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ أي : وهو يَهْدي نحو :
3716 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا
وهو قليلٌ جداً .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)

قوله : { إِذَا مُزِّقْتُمْ } : « إذا » منصوبٌ بمقدرٍ أي : تُبْعَثون وتُجْزَوْن وقتَ تمزيقكم لدلالةِ { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } عليه .
ولا يجوز أن يكونَ العاملُ « يُنَبِّئكم » لأن التنبئةَ لم تقعْ ذلك الوقتَ . ولا « خَلْقٍ جديدٍ » لأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يعمل فيما قبلها . ومَنْ تَوَسَّعَ في الظرف أجازه . هذا إذا جَعَلْنا « إذا » ظرفاً مَحْضاً . فإنْ جَعَلْناه شرطاً كان جوابُها مقدراً أي : تُبْعَثون ، وهو العاملُ في « إذا » عند جمهور النحاة .
وجَوَّز الزجَّاج والنحاس أن يكون معمولاً ل « مُزِّقْتُمْ » . وجعله ابنُ عطية خطأً وإفساداً للمعنى . قال الشيخ : « وليس بخطأ ولا إفسادٍ . وقد اخْتُلف في العامل في » إذا « الشرطية ، وبَيَّنَّا في » شرح التسهيل « أنَّ الصحيحَ أنَّ العامَل فيها فعلُ الشرط كأخواتِها من أسماء الشرط » . قلت : لكنَّ الجمهورَ على خلافِه . ثم قال الشيخ : « والجملةُ الشرطيةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معمولة ل » يُنَبِّئُكم « لأنه في معنى : يقول لكم إذا مُزِّقْتُمْ : تُبْعَثُون . ثم أكَّد ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } . ويُحتمل أن يكون { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ } مُعلِّقاً ل » يُنَبِّئكم « سادًّا مَسَدَّ المفعولين ، ولولا اللام لفُتِحَتْ » إنَّ « وعلى هذا فجملةُ الشرطِ اعتراضٌ . وقد منع قومٌ التعليقَ في » أعلم « وبابِها ، والصحيحُ جوازُه . قال :
3717 حَذارِ فقد نُبِّئْتُ إنكَ لَلَّذيْ ... سَتُجْزَى بما تَسْعَى فتسعدَ أو تَشْقَى
وقرأ زيد بن علي بإبدالِ الهمزةِ ياءً . وعنه » يُنْبِئُكم « من أَنْبأ كأكرم .
ومُمَزَّقٌ فيه وجهان ، أحدهما : أنه اسمُ مصدرٍ ، وهو قياسُ كلِّ ما زاد على الثلاثة أي : يجيءُ مصدرُه وزمانُه ومكانُه على زِنَةِ اسم مفعولِه أي : كلَّ تمزيق . والثاني : أنه ظرفُ مكانٍ . قاله الزمخشري ، أي : كلَّ مكانِ تمزيقٍ من القبورِ وبطون الوَحْشِ والطير . ومِنْ مجيءِ مُفَعَّل مجيءَ التفعيلِ قوله :
3718 ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافِيْ ... فلا عِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلابا
أي : تَسْريحي . والتَّمْزِيق : التخريقُ والتقطيع . يُقال : ثوب مُمَزَّق ومَمْزوق . ويُقال : مَزَقه فهو مازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً . قال :
3719 أتاني أنهم مَزِقُون عِرْضِيْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الممزق العبدي - وبه سُمِّي المُمَزَّق :
3720 فإنْ كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ ... وإلاَّ فأدْرِكْني ولَمَّا أُمَزَّقِ
أي : ولما أُبْلَ وأُفْنَ .
و » جديد « عند البصريين بمعنى فاعِل يقال : جَدَّ الشيءُ فهو جادُّ وجديد ، وعند الكوفيين بمعنى مفعول مِنْ جَدَدْتُه أي : قَطَعْتُه .

أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)

قوله : { أفترى } : هذه همزةُ استفهامٍ . وحُذِفَتْ لأجلها همزةُ الوصل ، فلذلك تَثْبُتُ هذه الهمزةُ وصلاً وابتداءً . وبهذه الآيةِ استدلَّ الجاحظُ على أنَّ الكلامَ ثلاثةُ أقسامٍ : صدقٍ ، كذبٍ ، لا صدقٍ ولا كذبٍ . ووَجْهُ الدلالةِ منه على القسمِ الثالث أنَّ قولَه : { أَم بِهِ جِنَّةٌ } لا جائزٌ أن يكون كذباً لأنه قسيمُ الكذبِ ، وقسيمُ الشَيءِ غيرُه ، ولا جائزٌ أن يكون صِدْقاً لأنهم لم يعتقدوه ، فثبت قسمٌ ثالث . وقد أجيب عنه بأن المعنى : أم لم يَفْتَرِ . ولكن عَبَّر عن هذا بقولهم { أَم بِهِ جِنَّةٌ } لأن المجنونَ لا افتراءَ له .
والظاهرُ في « أم » هذه متصلةٌ؛ لأنها تتقدَّرُ بأي الشيئين . ويجابُ بأحدِهما ، كأنه قيل : أيُّ الشيئين واقعٌ : افتراؤه الكذبَ أم كونُه مجنوناً؟ ولا يَضُرُّكونُها بعدها جملةٌ؛ لأنَّ الجملةَ بتأويلِ المفردِ كقوله : /
3721 لا أُبالي أَنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ ... أم جفاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ
ومثلُه قولُ الآخر :
3722 لَعَمْرُك ما أدْري وإنْ كنتُ دارياً ... شُعَيْثُ ابن سَهْمٍ أم شُعَيْثُ ابنُ منقرِ
« ابن منقر » خبرٌ ، لا نعت . كذا أنشده بعضُهم مستشهداً على أنها جملةٌ ، وفيه حَذْفُ التنوين مِمَّا قبل « ابن » وليس بصفةٍ . وقد عَرَفْتَ ما أَشَرْتُ إليه هنا من سورة التوبة .

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

قوله : { أَفَلَمْ } : فيه الرأيان المشهوران : قدَّره الزمخشري : أعَمُوْا فلم يَرَوْا ، وغيرُه يَدَّعِي أن الهمزةَ مقدَّمةٌ على حرفِ العطف .
قوله « من السماء » بيانٌ للموصولِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فتتعلَّقَ به أيضاً . قيل : وثَمَّ حالٌ محذوفةٌ تقديرُه : أفلم يَرَوْا إلى كذا مقهوراً تحت قدرتِنا أو مُحيطاً بهم . ثم قال : إنْ نَشَأْ .
قوله : « إنْ نَشَأْ » قرأ الأخَوان « يَشَأْ » يَخْسِفْ ، يُسْقِطْ ، بالياء في الثلاثة . والباقون بنون العظمة فيها ، وهما واضحتان . وأدغم الكسائيُّ الفاءَ في الباء ، واستضعفها الناسُ من حيث أدغم الأَقْوى في الأضعفِ . قال الفارسي : « وذلك لا يجوز؛ لأنَّ الباءَ أضعفُ في الصوت من الفاءِ فلا تُدْغم فيها ، وإنْ كانت الباءُ تُدْغم فيها نحو : » اضربْ فلاناً « كما تُدْغَمُ الباءُ في الميم كقولك : اضربْ مالِكاً ، وإن كانت الميمُ لا تُدْغَمُ في الباءَ نحو : » اضمُمْ بكراً «؛ لأنَّ الباءَ انحطَّتْ عن الميم بفَقْد الغُنَّة » . وقال الزمخشري : « وليست بالقويةِ » ، وهذا لا ينبغي لأنها تواتَرَتْ .
قوله : « يا جِبالُ » مَحْكِيٌّ بقولٍ مُضْمَرٍ . ثم إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه مصدراً . ويكونُ بدلاً مِنْ « فَضْلاً » على جهةِ تفسيرِه به كأنه قيلَ : آتَيْناه فَضْلاً قولَنا : يا جبالُ ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه فِعْلاً . وحينئذٍ لك وجهان : إنْ شِئْتَ جَعَلْتَه بدلاً مِنْ « آتَيْنا » وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه مستأنفاً .
قوله : « أَوِّبِيْ » العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواوِ ، أمراً من التَّأْوِيْب وهو التَّرجِيْع . وقيل : التسبيحُ بلغةِ الحبشة . والتضعيفُ يحتملُ أَنْ يكونَ للتكثيرِ . واختار الشيخ أَنْ يكونَ للتعدِّي . قال : « لأنهم فَسَّروه ب رَجِّعي معه التسبيحَ » . ولا دليلَ؛ لأنه تفسيرُ معنى . وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وقتادة وابن أبي إسحاق « أُوْبي » بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواو أمراً مِنْ آب يَؤُوْبُ أي : ارْجِعي معه بالتسبيح .
قوله : « والطيرَ » العامَّةُ على نصبِه وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه عطفٌ على محلِّ « جبالُ » لأنَّه منصوبٌ تقديراً . الثاني : أنه مفعولٌ معه . قاله الزجاج . ورُدَّ عليه : بأنَّ قبلَه لفظةَ « معه » ولا يَقْتَضي العاملُ أكثرَ مِنْ مفعولٍ معه واحدٍ ، إلاَّ بالبدلِ أو العطفِ لا يُقال : « جاء زيدٌ مع بكرٍ مع عمروٍ » . قلت : وخلافُهم في تقضية حالَيْنِ يَقْتضي مجيئَه هنا . الثالث : أنه عطفٌ على « فضْلاً » قاله الكسائيُّ . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : آتيناه فضلاً وتسبيحَ الطيرِ . الرابع : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ أي : وسَخَّرْنا له الطيرَ ، قاله أبو عمروٍ .
وقرأ السُّلَمِيُّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم في رواية « والطيرُ » بالرفع . وفيه أوجهٌ : النسقُ على لفظ قوله : « جبالُ » . وأُنْشِد قولُه :
3723 ألا يا زيدُ والضَّحاكُ سِيْرا ... فقد جاوَزْتُما خَمَرَ الطريقِ
بالوجهين . وفي عَطْفِ المعرَّفِ بأل على المنادى المضمومِ ثلاثةُ مذاهبَ . الثاني : عطفُه على الضميرِ المستكنِّ في « أوِّبي » . وجاز ذلك للفَصْل بالظرفِ . والثالث : الرفعُ على الابتداءِ ، والخبرُ مضمرٌ . أي : والجبالُ كذلك أي : مُؤَوَّبَةٌ .
قوله : « وألَنَّا » عطف على « آتَيْنا » ، وهو من جملةِ الفَضْلِ .

أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)

قوله : { أَنِ اعمل } : فيها وجهان ، أظهرهما : أنها مصدريةٌ على حَذْفِ الحرفِ أي : لأن . والثاني قاله الحوفي وغيره أنها مُفَسِّرةٌ . ورُدَّ هذا : بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ ما هو بمعنى القولِ ولم يتقدَّمْ إلاَّ « أَلَنَّا » . واعتذر بعضُهم عن هذا : بأنْ قَدَّر ما هو بمعنى القولِ أي : وأَمَرْناه أَنِ اعْمَلْ ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك .
وقُرِئ « صابغاتٍ » لأجلِ الغينِ . وتقدَّم تقريرُه في لقمان عند « وأَسْبَغَ » .

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)

قوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } : العامَّةُ على النصبِ بإضمارِ فعلٍ أي : وسَخَّرْنا لسليمانَ . / وأبو بكرٍ بالرفعِ على الابتداءِ ، والخبرُ في الجارِّ قبلَه أو محذوفٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ فاعلاً ، يعني بالجارِّ ، وليس بقويِّ لعدمِ اعتمادِه . وكان قد وافقه في الأنبياء غيرُه .
وقرأ العامَّةُ « الريحَ » بالإِفراد . والحسن وأبو حيوةَ وخالد بن إلياس « الرياحَ » جمعاً . وتقدَّم في الأنبياء أنَّ الحسنَ يقرأُ مع ذلك بالنصبِ ، وهنا لم يُنْقَلْ له ذلك .
قوله : « غُدُوُّها شَهْرٌ » مبتدأ وخبر . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : غُدُوُّها مَسيرةَ شهرٍ أو مقدارُ غدوِّها شهرٌ . ولو نُصِب لجازَ ، إلاَّ أنَّه لم يُقْرَأ به فيما علمْتُ .
وقرأ ابنُ أبي عبلةَ « غَدْوَتُها ورَوْحَتُها » على المَرَّةِ . والجملةُ : إمَّا مستأنفةٌ ، وإمَّا في محلِّ الحال .
قوله : « مَنْ يَعْمَلُ » يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً بالابتداء . وخبرُه في الجارِّ قبلَه أي : من الجنِّ مَنْ يعملُ ، وأنْ يكونَ في موضعِ نصبٍ بفعلٍ مقدرٍ أي : وسَخَّرْنا له مَنْ يعملُ . و « من الجنّ » يتعلقُ بهذا المقدرِ أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو بيانٌ . و « بإذن » حالٌ أي : مُيَسَّراً بإذنِ ربِّه . والإِذْنُ : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . وقُرِئ « ومَنْ يُزِغْ » بضمِّ الياءِ مِنْ أزاغَ ، ومفعولُه محذوفٌ أي : ومَنْ يُزغْ نفسَه أي : يُميلُها . و « مِنْ عذاب » : « مِنْ » لابتداء الغاية أو للتبعيض .

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)

و : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ } : مُفَسِّرٌ لقولِه « مَنْ يعمل » . و « مِنْ مَحاريب » بيانٌ لِما يَشاء .
قوله : « كالجوابِ » قرأ ابنُ كثير بإثباتِ ياء « الجوابي » وصلاً ووقفاً . وأبو عمروٍ وورشٌ بإثباتِها وَصْلاً ، وحَذْفِها وقفاً . والباقون بحَذْفِها في الحالَيْن . و « كالجواب » صفةٌ ل « جِفان » . والجِفانُ : جمعُ جَفْنَة . والجوابي : جمع جابِيَة كضارِبة وضوارِب . والجابيةُ : الحَوْضُ العظيم سُمِّيَتْ بذلك لأنه يُجْبى إليها الماءُ . وإسنادُ الفعلِ إليها مَجازٌ؛ لأنه يُجْبَى فيها كما قيل : خابِية لِما يُخَبَّأُ فيها . قال الشاعر :
3724 بجِفانٍ تَعْتَرِي نادِيَنا ... مِنْ سَدِيْفٍ حين هاجَ الصِّنَّبِرْ
كالجوابي لاتِني مُتْرَعَةً ... لِقِرى الأضيافِ أو للمحتضِرْ
وقال الأعشى :
3725 نَفَى الذَّمَّ عن آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ ... كجابِيَةِ السَّيْحِ العِراقيِّ تَفْهَقُ
وقال الأفوه :
3726 وقُدُوْرٍ كالرُّبا راسِيَةٍ ... وجِفانٍ كالجَوابي مُتْرَعَهْ
قوله : « شُكْراً » يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مفعولٌ به أي : اعْمَلوا الطاعةَ . سُمِّيَتِ الصلاةُ ونحوُها شكراً لسَدِّها مَسَدَّه . الثاني : أنه مصدرٌ مِنْ معنى اعْمَلوا ، كأنه قيل : اشكروا شكراً بعملكم ، أو اعملوا عملَ شكرٍ . الثالث : أنه مفعولٌ من أجله . أي : لأجل الشكر . الرابع : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي : شاكرين . الخامس : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِه ، تقديره : واشكروا شكراً . السادس : أنه صفةٌ لمصدرِ « اعْمَلوا » تقديره : اعْمَلوا عَمَلاً شُكْراً أي : ذا شكر .
قوله : « وقليلٌ » خبرٌ مقدمٌ . و « من عبادِيْ » صفةٌ له و « الشَّكورُ » مبتدأ .

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

قوله : { تَأْكُلُ } : إمَّا حالٌ أو مستأنفة . وقرأ « مِنْسَأْتَه » ، بهمزةٍ ساكنةٍ ابنُ ذكوان . وبألفٍ مَحْضةٍ نافعٌ وأبو عمرٍو ، وبهمزة مفتوحةٍ الباقون .
والمِنْسَأَةُ : العَصا اسمُ آلةٍ مِنْ نَسَأه أي : أخَّرَه كالمِكْسَحَةِ والمِكْنَسَة . وفيها الهمزةُ وهو لغةُ تميم وأُنشِد :
3727 أمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لا أَباك ضَرَبْتَه ... بمِنْسَأَةٍ قد جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلا
والألف وهي لغةُ الحجازِ . وأنشد :
3728 إذا دَبَبْتَ على المِنْسَاة مِنْ كِبَرٍ ... فقد تباعَدَ عنك اللهوُ والغَزَلُ
فأمَّا بالهمزةِ المفتوحةِ فهي الأصلُ؛ لأنَّ الاشتقاقَ يدلُّ ويشهد له ، والفتحُ لأَجْلِ بناء مِفْعَلة كمِكْنَسَة . وأمَّا سكونُها ففيه وجهان ، أحدهما : أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً ، كما أبدلها نافعٌ وأبو عمروٍ . وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألفَ همزةً على لغةِ مَنْ يقولُ : العَأْلَم والخَأْتَم . وقوله :
3729- وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ ... ذكره ابن مالك . وهذا لا أدري ما حمله عليه ، كيف يُعْتَقَدُ أنه هَرَبَ مِنْ شيءٍ ثم يعودُ إليه؟ وأيضاً فإنهم نَصُّوا على أنه إذا أبدلَ من الألفِ همزةً : فإن كان لتلك الألفِ أصلٌ حُرِّكَتُ هذه الهمزةُ بحركةِ أصلِ الألفِ . وأنشد أبو الحسن ابن عُصفور على ذلك :
3730 وَلَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال : الأصل زَوْزاة . وأصلُ هذا : زَوْزَوَة ، فلمَّا أُبْدِلَتْ من الألفِ/ همزةً حَرَّكها بحركةِ الواوِ . إذا عَرَفْتَ هذا فكان ينبغي أن تُبْدَلَ هذه الألفُ همزةً مفتوحةً؛ لأنَّها عن أصلٍ متحركٍ ، وهو الهمزةُ المفتوحةُ ، فتعودُ إلى الأول ، وهذا لا يُقالُ . الثاني : أنه سَكَّن الفتحةَ تخفيفاً ، والفتحةُ قد سَكَنَتْ في مواضِعَ تقدَّم التنبيهُ عليها وشواهدُها . ويُحَسِّنُه هنا : أنَّ الهمزةَ تُشْبه حروفَ العلةِ ، وحرفُ العلةِ تُسْتَثْقَلُ عليه الحركةُ مِنْ حيثُ الجملةُ ، وإنْ كان لا تُسْتثقل الفتحةُ لخفَّتِها . وأَنْشدوا على تسكينِ همزتها :
3731 صريعُ خَمْرٍ قام مِنْ وُكَاءَتِهْ ... كقَوْمَةِ الشيخ إلى مِنْسَأْتِهْ
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ ، ونَسَبوا راوِيَها إلى الغلط . قالوا : لأنَّ قياسَ تخفيفِها إنما هو تسهيلُها بينَ بينَ ، وبه قرأ ابنُ عامرٍ وصاحباه ، فظَنَّ الراوي أنهم سَكَّنوا . وضَعَّفها أيضاً بعضُهم : بأنه يَلْزَمُ سكونُ ما قبل تاءِ التأنيثِ ، وما قبلها واجبُ الفتحِ إلاَّ الألفَ .
وأمَّا قراءةُ الإِبدالِ فقيل : هي غيرُ قياسيةٍ ، يَعْنُون أنها ليسَتْ على قياسِ تَخْفيفِها . إلاَّ أنَّ هذا مردودٌ : بأنها لغةُ الحجازِ ، ثابتةً ، فلا يُلْتَفَتُ لمَنْ طَعَن . وقد قال أبو عمرو : - وكَفَى به - « أنا لا أَهْمِزُها ، لأنِّي لا أَعْرِفُ لها اشتقاقاً ، فإنْ كانَتْ مما لا يُهْمَزُ فقد أُخْطِئُ . وإن كانَتْ تُهْمَزُ فقد يجوزُ لي تَرْكُ الهمزِ فيما يُهْمَزُ » . وهذا الذي ذكره أبو عمرٍو أحسنُ ما يقالُ في هذا ونظائرِه .
وَقُرئ « مَنْسَأَتَه » بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ ، وإبدالِها ألفاً ، وحَذْفِها تخفيفاً ، و « مِنْسَاْءَتَه » بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم : مِيْضَأَة ومِيْضاءَة وكلُّها لغاتٌ .

وقرأ ابنُ جُبَيْر « مِنْ سَأَتِه » فَصَل « مِنْ » وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ ، وجَعَل « سأَتِه » مجرورةً بها . والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا . وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال : سَاةُ القوسِ مثلُ شاة ، وسِئَتُها ، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة . والمعنى : تأكلُ مِنْ طَرَفِ عصاه . ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير : أنه اتَّكأ على عصا خضراءَ مِنْ خَرُّوب ، والعصا الخضراءُ متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالباً . وساة فَعَلة ، وسِئَة : فِعلة نحو : قِحَة وَقَحة ، والمحذوفُ لامُهما .
وقال ابن جني : « سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء ، فهي فَلَة ، والعينُ محذوفةٌ » قلت : وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ : أصلُها الهمزُ ، ولكن أُبْدِلَتْ .
وقوله : « دابَّةُ الأرضِ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ . والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ . الثاني : أن الأرضَ مصدرٌ لقولك : أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضاً أي : أكلَتْها . فكأنه قيل : دابَّةٌ الأكل . يُقال : أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضاً بالفتح أيضاً نحو : أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلاً فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلاً بالفتح . ونحوُه أيضاً : جَدَعْتُ أنفَه جَدْعاً فجَدِع هو جَدَعاً بفتح عين المصدر . وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة . وقيل : الأرضَ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أَرَضَة ، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ .
قوله : « فلمَّا خَرَّ » الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام . وقيل : عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع . وقيل : بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ ، وهي الخارَّة . ونُقِل ذلك في التفسير ، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاءِ التأنيث . و :
3732 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَبْقَل إبْقالَها
ضرورةٌ أو نادرٌ . وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه .
قوله : « تَبَيَّنَتْ » العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسنداً للجنِّ . وفيه تأويلاتٌ ، أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي : ظهر وبان . و « تبيَّن » يأتي بمعنى بان لازماً ، كقولِه :
3733 تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ ... وأنَّ أَعِزَّاءَ الرجالِ طِيالُها
فلمَّا حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه ، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ .
وقوله : { أَن لَّوْ كَانُواْ } بتأويلِ المصدرِ مرفوعاً بدلاً من الجنِّ . والمعنى : ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي : ظَهَرَ جَهْلُهُمْ . الثاني : أنَّ « تبيَّن » بمعنى بانَ وظَهَر أيضاً . و « الجنُّ » فاعلٌ . ولا/ حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و { أَن لَّوْ كَانُواْ } بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه . والمعنى : ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك ، كقولك : بان زيدٌ جهلُه .

الثالث : أنَّ « تَبَيَّن » هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم ، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم ، وبالضميرِ في « كانوا » كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم ، و { أَن لَّوْ كَانُواْ } مفعولٌ به ، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساءَ من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءَهم أنهم يَعْلمون الغيبَ . فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتاً ، مكثوا بعده عاماً في العملِ ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساءَ منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ . ومِنْ مجيءِ « تَبَيَّن » متعدِّياً بمعنى أَدْرك قولُه :
3734 أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني ... ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ
أي : تَبَيَّني ذلك .
وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ « الجنَّ » بالنصب ، وهي واضحةٌ أي : تبيَّنت الإِنسُ الجنَ . و { أَن لَّوْ كَانُواْ } بدلٌ أيضاً من « الجن » . وقرأ ابن عباس ويعقوب « تُبُيِّنَتِ الجنّ » على البناءِ للمفعولِ ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ . وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ .
و « أن » في { أَن لَّوْ كَانُواْ } الظاهرُ أنها مصدريةٌ مخففةٌ من الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأنِ . و « لو » فاصلةٌ بينها وبينَ خبرِها الفعليِّ . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك كقوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] .
وقال ابن عطية : « وذهب سيبويه إلى أنَّ » أَنْ « لا موضعَ لها من الإِعرابِ ، إنما هي مُؤْذِنَةٌ بجوابِ ما يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ القسمِ من الفعل الذي معناه التحقيقُ واليقينُ؛ لأنَّ هذه الأفعالَ التي هي : تَحقَّقْتُ وَتَيَقَّنْتُ وعَلِمْتُ ونحوُها تَحُلُّ مَحَلَّ القَسَمِ ، ف » ما لَبِثُوا « جوابُ القسمِ لا جوابُ » لو « ، وعلى الأقوالِ الأُوَلِ يكون جوابَها » . قلت : وظاهرُ هذا أنها زائدةٌ لأنهم نَصُّوا على اطِّرادِ زيادتِها قبل « لو » في حَيِّزِ القسمِ . وللناسِ خلافٌ : هل الجوابُ للواوِ أو للقسمِ؟ والذي يَقْتَضيه القياسُ أَنْ يُجابَ أَسْبَقُهما كما في اجتماعِه مع الشرطِ الصريحِ ما لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ ، كما تقدَّم بيانُه . وتقدَّم الكلامُ والقراءاتُ في سبأ في سورة النمل .

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)

قوله : { مَسْكَنِهِمْ } : قرأ حمزةٌ وحفصٌ « مَسْكَنِهم » بفتح الكاف مفرداً ، والكسائيُّ كذلك ، إلاَّ أنه كسرَ الكافَ ، والباقون « مَساكِنِهم » جمعاً . فأمَّا الإِفرادُ فلِعَدَمِ اللَّبْسِ؛ لأن المرادَ الجمعُ ، كقولِه :
3735 كُلوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والفتحُ هو القياسُ؛ لأنَّ الفعلَ متى ضُمَّتْ عينُ مضارِعه أو فُتِحَتْ جاء المَفْعَلُ منه زماناً ومكاناً ومصدراً بالفتحِ ، والكسرُ مَسْموعٌ على غيرِ قياس . وقال أبو الحسن : « كسرُ الكافِ لغةٌ فاشيةٌ ، وهي لغةُ الناسِ اليومَ ، والكسرُ لغةُ الحجازِ » . وهي قليلةٌ . وقال الفراء : « هي لغةٌ يمانِيَّةٌ فصيحة » . و « مَسْكَنِهِمْ » يُحْتمل أَنْ يرادَ به المكانُ ، وأَنْ يُرادَ به المصدرُ أي : السُّكْنى . ورجَّحَ بعضُهم الثاني قال : لأنَّ المصدرَ يشملُ الكلَّ فليس فيه وَضْعُ مفردٍ مَوْضِعَ جمع بخلافِ الأول؛ فإنَّ فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمعِ كما قَرَّرْتُه ، لكنَّ سيبويه يَأْباه إلاَّ ضرورةً كقولِه :
3736 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد عضَّ أعناقَهم جِلْدُ الجَواميسِ
أي جلود . وأمَّا الجمعُ فهو الظاهرُ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ مَسْكناً . ورُسِمَ في المصاحفِ دونَ ألفٍ بعد الكافِ : فلذلك احتَمَلَ القراءاتِ المذكورةَ .
قوله : « جَنَّتان » فيه ثلاثةُ أوجهٍ : الرفعُ على البدلِ من « آيةٌ » وأبدلَ مثنَّى مِنْ مفرد؛ لأنَّ هذا المفردَ يَصْدُقُ على هذا المثنى . وتقدَّم في قولِه : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وضَعَّفَ ابنُ عطيةَ الأولَ ولم يُبَيِّنْه . ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بل قوتُه ، وكأنه توهَّمَ أنهما مختلفان إفراداً وتثنية؛ فلذلك ضَعُفَ البدلُ عنده . واللَّهُ أعلمُ . الثالث : - وإليه نحا ابن عطية - أَنْ يكونَ « جَنَّتان » مبتدأً ، وخبرُه { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } . ورَدَّه الشيخُ : بأنه ابتداءُ نكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ . واعتذر عنه : بأنَّه قد يُعْتَقَدُ حَذْفُ صفةٍ أي : جنتان لهم ، أو جنتان عظيمتان [ إنْ ] صَحَّ ما ذهبَ إليه .
وقرأ ابنُ أبي عبلة « جَنَّتَيْن » بالياءِ نصباً على خبرِ كان ، واسمُها « آية » . فإنْ قيل : اسمُ « كان » كالمبتدأ ، / ولا مُسَوِّغَ للابتداء به حتى يُجْعَلَ اسم كان . والجوابُ أنه تخصَّصَ بالحالِ المقدَّمَةِ عليه ، وهي صفتُه في الأصل . ألا ترى أنه لو تأخَّر « لسبأ » لكان صفةً ل « آيةٌ » في هذه القراءةِ .
قوله : « عن يمينٍ » إمَّا صفةٌ ل « جَنَّتان » أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هما عن يمين .
قوله : « كُلُوا » على إضمارِ القولِ أي : قال الله أو المَلَكُ .
قوله : « بَلْدَةٌ » أي : بَلْدَتُكُمْ بَلْدَةٌ ، وربُّكم ربٌّ غفورٌ . وقرأ رُوَيْس بنصب « بَلْدَة ورَب » على المدحِ ، أو اسكنوا واعبدوا . وجعله أبو البقاء مفعولاً به ، والعامِلُ فيه « اشكروا » وفيه نظرٌ؛ إذ يَصيرُ التقدير : اشكروا لربِّكم رَبَّا غفوراً .

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)

قوله : { سَيْلَ العرم } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه من باب إضافةِ الموصوفِ لصفتِه في الأصلِ ، إذ الأصلُ : السَّيْلُ العَرِمُ . والعَرِمُ : الشديدُ . وأصله مِنَ العَرامَةِ ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبةُ . وعَرِمَ فلانٌ فهو عارِمٌ وعَرِمٌ . وعُرامُ الجيش منه . الثاني : أنه من بابِ حَذْفِ الموصوفِ وإقامة صفتِه مُقامه . تقديرُه : فأَرْسَلْنا عليهم سَيْلَ المطرِ العَرِم أو الجُرذ العرم أي الشديد الكثير . الثالث : أنَّ العَرِمَ اسمٌ للبناءِ الذي يُجْعَلُ سَدَّاً . وأُنْشد :
3737 مِنْ سبأ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِه العَرِما
أي البناء القويُّ . الرابع : أنَّ العَرِمَ اسمٌ للوادي الذي كان فيه الماءُ نفسُه . الخامس : أنه اسمٌ للجُرَذِ وهو الفَأْر . قيل : هو الخُلْدُ . وإنما أُضيفَ إليه لأنه تَسَبَّبَ عنه إذ يُرْوى في التفسيرِ : أنه قَرَضَ السِّكْرَ إلى أن انفتح عليهم فغرِقوا به . وعلى هذه الأقوال الثلاثةِ تكون الإِضافةُ إضافةً صحيحةً مُعَرِّفة نحو : غلام زيد أي : سيل البناء ، أو سيل الوادي الفلاني ، أو سيلُ الجُرَذِ . وهؤلاء هم الذين ضَرَبَتْ بهم العربُ في المثل للفُرْقةِ فقالوا : « تَفَرَّقوا أَيْدِي سبأ وأيادي سبأ » .
قوله « » بجنَّتَيْهم جَنَّتَيْن « قد تقدَّم في البقرة أن المجرورَ بالباء هو الخارج ، والمنصوبَ هو الداخلُ؛ ولهذا غَلِط مَنْ قال من الفقهاء : » فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بَطَلَتْ صلاتُه « بل الصواب أَنْ يُقال : ظاءً بضادٍ .
قوله : » أُكُلٍ خَمْطٍ « قرأ أبو عمرو على إضافة » أُكل « غير المضاف إلى » خَمْط « . والباقون بتنوينه غيرَ مضافٍ وقد تقدم في البقرةِ أنَّ ابنَ عامرٍ وأبا عمرو والكوفيين يضمون كاف » أكل « غير المضاف لضمير المؤنثةِ ، وأن نافعاً وابن كثير يُسَكِّنونها بتفصيل هناك تقدَّمَ تحريرُه ، فيكونُ القرَّاءُ هنا على ثلاثِ مراتبَ ، الأولى : لأبي عمروٍ » أُكُلِ خَمْط « بضم كاف » أُكُلٍ « مضافاً ل » خَمْطٍ « . الثانية : لنافعٍ وابن كثير تسكينُ كافِه وتنوينِه . الثالثة : للباقين ضَمُّ كافِه وتنوينه . فَمَنْ أضافَ جَعَلَ » الأكل « بمعنى الجنى والثمر . والخَمْطُ قيل : شجرُ الأَراك . وقيل : كلُّ شجرٍ ذي شَوْكٍ . وقيل : كلُّ نَبْتٍ أَخَذَ طعماً مِنْ مرارة . وقيل : شجرةٌ لها ثَمَرٌ تشبه الخَشْخاشَ لا يُنْتَفَعُ به .
قوله : { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ } معطوفان على » أُكُل « لا على » خَمْط « لأنَّ الخَمْطَ لا أُكُلَ له . وقال مكي : » لَمَّا لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الخمطُ نعتاً للأكل؛ لأنَّ الخَمْطَ اسمُ شجرٍ بعينه ، ولا بدلاً لأنه ليس الأولَ ولا بعضَه ، وكان الجنى والثمرُ من الشجر ، أُضيف على تقدير « مِنْ » كقولِك : هذا ثوبُ خَزّ « . ومَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خَمْطاً وما بعدَه : إمَّا صفةً لأُكُل .

قال الزمخشري : « أو وُصِفَ الأُكُلَ بالخَمْط ، كأنه قيل : ذواتَيْ أُكُلٍ بَشِعٍ » . قال الشيخُ : « والوصفُ بالأسماءِ لا يَطَّردُ ، وإنْ كان قد جاء منه شيءٌ نحو قولهم : مررْتُ بقاع عَرْفَجٍ كلِّه » . الثاني : البدلُ مِنْ « أُكُل » قال أبو البقاء : « وجعل خَمْطاً أُكُلاً لمجاوَرَتِه إياه وكونِه سبباً له » . إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ كونَه بدلاً . قال : « لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأُكُلِ نفسِه » . وقد تقدَّمَ جوابُ أبي البقاء . وأجاب بعضُهم عنه - وهو مُنْتَزَعٌ مِنْ كلام الزمخشري - أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذواتَيْ أُكُلٍ أُكُلِ خَمْطٍ . قال : والمحذوفُ هو الأولُ في الحقيقةِ . قلت : وهو حسنٌ في المعنى . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ ، وجعله أبو عليٍ أحسنَ ما في الباب . قال : « كأنَّه بَيَّنَ أنَّ الأُكُلَ هذه الشجرةُ » إلاَّ أنَّ عَطْفَ البيانِ لا يُجيزه البصريُّون في النكرات إنما يَخُصُّونه بالمعارفِ/ .
قوله : « قليلٍ » نعتٌ ل « سِدْر » . وقيل : نعتٌ ل « أُكل » . وقال أبو البقاء : « ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً ل » خَمْطٍ وأَثْلٍ وسِدْرٍ « . وقُرِئ » وأَثْلاً وشَيْئاً « بنصبهما عطفاً على جَنَّتَيْن . والأَثْلُ : شجرُ الطَّرْفاءِ ، أو ما يُشْبِهها . والسِّدرَ سِدْران : سِدْرٌ له ثمرةٌ عَفْصَةٌ لا تُؤْكَلُ ولا يُنْتَفَعُ بورقِه في الاغتسال وهو الضالُّ ، وسِدْرٌ له ثمرٌ يُؤْكَلُ وهو النَّبْقُ ، ويُغْتَسُل بورقِه . ومراد الآيةِ : الأولُ .

ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

قوله : { وَهَلْ نجازي } : قرأ الأخَوان وحفصٌ « نُجازي » بنونِ العظمة وكسرِ الزاي أي : نحن . « إلاَّ الكَفورَ » مفعولٌ به . والباقون بضمِّ الياء وفتح الزاي مبنيًّا للمفعول . « إلاَّ الكفورُ » رَفْعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . ومسلم بن جندب « يُجْزَى » مبنياً للمفعول ، « إلاَّ الكفورُ » رَفْعٌ على ما تقدَّمَ . وقُرِئ « يَجْزِي » مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى ، « الكفورَ » نصباً على المفعولِ به .

فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

قوله : { رَبَّنَا } : العامَّةُ بالنصبِ على النداء . وابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وهشام « بَعِّدْ » بتشديدِ العَيْنِ فعلَ طلبٍ . والباقون « باعِدْ » طلباً أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي . وقرأ ابنُ الحنفية وسفيان بن حسين وابن السَّمَيْفع « بَعُدَ » بضم العين فعلاً ماضياً . والفاعلُ المَسِيْرُ أي : بَعُدَ المَسِيْرُ . و « بَيْنَ » ظرفٌ . وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلاَّ أنَّه ضَمَّ نونَ « بين » جعله فاعلَ « بَعُدَ » ، فأخرجه عن الظرفية كقراءةِ « تَقَطَّع بينكُم » رفعاً . فالمعنى على القراءةِ المتضمِّنةِ للطلبِ يكونُ المعنى : أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ . وعلى القراءة المتضمِّنة للطلبِ يكونُ المعنى : أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ . وعلى القراءة المتضمِّنة للخبرِ الماضي يكونُ شكوى مِنْ بُعْدِ الأسفار التي طلبوها أيضاً .
وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد « ربُّنا » رفعاً على الابتداءِ ، « بَعِّدْ » بتشديد العين فعلاً ماضياً خبرُه . وأبو رجاءٍ والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه « باعَدَ » بالألف . والمعنى على هذه القراءة : شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم .
وقُرِئ « بُوعِدَ » مبنياً للمفعول . وإذا نصَبْتَ « بينَ » بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواءً كان أمراً أم ماضياً فجعله الشيخ منصوباً على المفعول به لا ظرفاً . قال : « ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسماً »؟ قلت : إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى ، ويكون المفعولُ محذوفاً ، تقديره : بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ « بَعُدَ » بضم العين « بينَ » بالنصب ، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا « بينَ » على بابِها ، وتَنْوي السيرَ . وكان هذا أَوْلى؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جداً لا نِزاع فيه ، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ « بينكم » مذكورٌ في الأنعام .
وقرأ العامَّةُ « أَسْفارِنا » جمعاً . وابن يعمر « سَفَرِنا » مفرداً .

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)

قوله : { صَدَّقَ } : قرأ الكوفيون « صَدَّق » بتشديد الدال . والباقون بتخفيفها . فأمَّا الأولى ف « ظنَّه » مفعولٌ به . والمعنى : أنَّ ظنَّ إبليس ذهب إلى شيءٍ فوافق ، فصدَّق هو ظنَّه على المجاز والاتساعِ . ومثلُه : كذَّبْتُ ظني ونفسي وصَدَّقْتُهما ، وصَدَّقاني وكَذَّباني . وهو مجازٌ سائغ . أي : ظَنَّ شيئاً فوقع . وأصلُه : مِنْ قولِه : « ولأُغْوِيَنَّهم » و « لأُضِلَّنَّهم » وغيرِ ذلك .
وأمَّا الثانيةُ فانتصب « ظنَّه » على ما تقدَّم من المفعول به كقولهم : أَصَبْتُ ظني ، وأَخْطَأْت ظني . أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : يظنُّ ظنَّه ، أو على إسقاطِ الخافضِ أي : في ظنه . وزيدُ بن علي والزهريُّ برفعِ « ظَنُّه » ونصب « إبليس » كقول الشاعر :
3738 فإنْ يَكُ ظَنِّي صادِقاً وهو صادِقي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جعل ظنَّه صادقاً فيما ظَنَّه مجازاً واتساعاً . ورُوي عن أبي عمروٍ برفعِهما وهي واضحةٌ . جعل « ظنَّه » بدلَ اشتمال من إبليس .
والظاهر أنَّ الضميرَ في « عليهم » عائدٌ على أهل سبأ ، و « إلاَّ فريقاً » استثناءٌ من فاعل « اتبعوه » و « من المؤمنين » صفةُ « فريقاً » . و « مِنْ » للبيان لا للتبعيضِ لئلا يَفْسُدَ/ المعنى؛ إذ يلزمُ أَنْ يكونَ بعضُ مَنْ آمن اتَّبع إبليسَ .

وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } : استثناءٌ مفرغٌ مِنَ العللِ العامَّةِ ، تقديرُه : ما كان له عليهم استيلاءٌ لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لهذا ، وهو تمييزُ المُحِقِّ من الشاكِّ .
قوله : « منها » متعلقٌ بمحذوفٍ على معنى البيان أي : أعني منها وبسببها . وقيل : « مِنْ » بمعنى في . وقيل : هو حالٌ من « شك » . وقوله : « مَنْ يؤمِنُ » يجوز في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أنَّها استفهاميةٌ فَتَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم . كذا ذكره أبو البقاء وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ المعنى : إلاَّ لنُمَيِّزَ ونُظْهِرَ للناسِ مَنْ يؤمِنُ مِمَّن لا يُؤْمِنُ فعبَّر عن مقابِلِه بقولِه : { مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } ؛ لأنَّه مِنْ نتائجه ولوازِمِه . والثاني : أنها موصولةٌ ، وهذا هو الظاهرُ على ما تقدَّم تفسيرُه .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)

قوله : { الذين زَعَمْتُمْ } : مفعولُه الأولُ محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ ، والثاني أيضاً محذوفٌ ، قامَتْ صفتُه مَقامَه . أي : زَعَمْتموهم شركاءَ مِنْ دونِ الله . ولا جائزٌ أَنْ يكونَ « مِنْ دون » هو المفعولَ الثاني؛ إذ لا يَنْعَقِدُ منه مع ما قبلَه كلامٌ . لو قلتَ : « هم من دونِ الله » أي : مِنْ غيرِ نيةِ موصوفٍ لم يَجُزْ . ولولا قيامُ الوصفِ مَقامَه أيضاً لم يُحْذَفْ؛ لأنَّ حَذْفَه اختصاراً قليلٌ . على أنَّ بعضَهم مَنَعَه .

وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

قوله : { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بنفسِ الشفاعة . قال أبو البقاء : « كما تقول : شَفَعْتُ له » . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ ب « تَنْفَعُ » ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ : وهو أنه يَلْزَمُ أحدُ أمرَيْن : إمَّا زيادةُ اللامِ في المفعولِ في غيرِ مَوْضِعها ، وإمَّا حَذْفُ مفعولِ « تنفع » وكلاهما خلافُ الأصلِ . الثالث : أنه استثناءٌ مفرَّغٌ مِنْ مفعولِ الشفاعة المقدرِ أي : لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لمَنْ أَذِنَ له .
ثم المستثنى منه المقدرُ يجوزُ أن يكون هو المشفوعَ له ، وهو الظاهرُ ، والشافعُ ليس مذكوراً إنما دَلَّ عليه الفَحْوى . والتقدير : لا تنفُع الشفاعةُ لأحدٍ من المشفوع لهم إلاَّ لمَنْ أَذن تعالى للشافعين أَنْ يَشْفعوا فيه . ويجوز أَنْ يكونَ هو الشافِعَ ، والمشفوعُ له ليس مذكوراً تقديرُه : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ لشافعٍ أُذِن له أَنْ يَشْفَعَ . وعلى هذا فاللامُ في « له » لامُ التبليغِ لا لامُ العلةِ . الرابع : أنه استثناءٌ مفرَّغٌ أيضاً ، لكنْ من الأحوال العامة . تقديرُه : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له . وقرَّرَه الزمخشري فقال : « تقول : » الشفاعة لزيدٍ « على معنى : أنه الشافعُ كما تقول : الكَرْمُ لزيدٍ ، وعلى معنى أنه المشفوعُ له كما تقول : القيامُ لزيدٍ فاحتمل قولُه : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أَنْ يكونَ على أحدِ هذين الوجهين أي : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له من الشافعين ومطلقةً له ، أو لا تنفع الشفاعة إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له أي : لشفيعِه ، أو هي اللامُ الثانية في قولك : » أُذِنَ لزيدٍ لعمروٍ « أي : لأجله فكأنه قيل : إلاَّ لمَنْ وقع الإِذنُ للشفيعِ لأجلِه . وهذا وجهٌ لطيفٌ وهو الوجه » . انتهى .
فقولُه : « الكَرْم لزيدٍ » يعني : أنَّها ليسَتْ لامَ العلة بل لامُ الاختصاصِ . وقوله : « القيامُ لزيد » يعني أنها لام العلة كما هي في « القيام لزيد » . وقوله : « أُذن لزيدٍ لعمروٍ » يعني : أنَّ الأولى للتبليغ ، والثانيةَ لامُ العلَّةِ .
وقرأ الأخَوان وأبو عمروٍ « أُذِنَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ . والباقون مبنيّاً للفاعل أي : أَذِنَ اللَّهُ وهو المرادُ في القراءة الأخرى . وقد صَرَّح به في قولِه : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله } [ النجم : 26 ] { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] .
قوله : « حتى إذا » هذه غايةٌ لا بُدَّ لَها مِنْ مُغَيَّا . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه قولُه : { فاتبعوه } [ سبأ : 20 ] على أَنْ يكونَ الضميرُ في عليهم من قولِه : { صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } [ سبأ : 20 ] وفي « قلوبِهم » عائداً على جميع الكفار ، ويكون التفزيعُ حالةَ مفارقةِ الحياةِ ، أو يُجْعَلُ اتِّباعُهم إياه مُسْتصحِباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً .

والجملةُ مِنْ قوله : « قل ادْعُوا » إلى آخرها معترضةٌ بين الغايةِ والمُغَيَّا . ذكره الشيخ . وهو حسنٌ .
والثاني : أنه محذوفٌ . قال ابن عطية : « كأنه قيل : ولا هم شفعاءُ كما تحبون أنتم ، بل هم عَبَدَةٌ أو مُسْلمون أي : منقادون . حتى إذا فُزِّع عن قلوبِهم » انتهى . وجعل الضميرَ في « قلوبهم » عائداً على الملائكة . وقَرَّر ذلك ، وضَعَّفَ قولَ مَنْ جعله عائداً على الكفار ، أو جميعِ العالم وليس هذا مَوْضِعَ تنقيحه .
وقوله : « قالوا : ماذا » هو جوابُ « إذا » ، وقوله : « قالوا الحقَّ » جوابٌ لقولِه : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } . و « الحقَّ » منصوبٌ ب « قال » مضمرةً أي : قالوا قال ربُّنا الحقَّ . أي : القولَ الحقَّ . إلا أنَّ الشيخَ رَدَّ هذا فقال : « فما قَدَّره ابنُ عطية لا يَصِحُّ لأنَّ ما بعدَ الغايةِ/ مخالِفٌ لِما قبلَها ، هم منقادون عَبَدَةٌ دائماً ، لا ينفكُّون عن ذلك لا إذا فُزِّع عن قلوبِهم ، ولا إذا لم يُفَزَّعْ » .
الثالث : أنه قولُه : « زَعَمْتُم » أي : زعمتم الكفر إلى غايةِ التفزيع ثم تركْتُمْ ما زعمتم وقلتم قال الحقَّ . وعلى هذا يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ خطابٍ في قولِه : « زَعَمْتم » إلى الغَيْبة في قوله : « قلوبهم » .
الرابع : أنه ما فُهِم مِنْ سياقِ الكلامِ . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بأيِّ شيءٍ اتَّصل قولُه : { حتى إِذَا فُزِّعَ } ولأيِّ شيء وقعت » حتى « غايةً؟ قلت : بما فُهِم من هذا الكلامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انتظاراً للإِذْنِ وتوقُّفاً وتمهُّلاً وفَزَعاً مِن الراجين للشفاعةِ والشفعاءِ هل يُؤْذَنُ لهم ، أو لا يُؤْذَن؟ وأنه لا يُطْلَقُ الإِذنُ إلاَّ بَعْد مَلِيٍّ من الزمان وطولٍ من التربُّصِ . ودَلَّ على هذه الحالِ قولُه : [ تعالى { رَّبِّ السماوات } إلى قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37-38 ] فكأنه قيل : يَتَرَبَّصون ويتوقَّفون مَلِيَّاً فَزِعينَ وَهِلين ، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهم أي : كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبِ الشافعين والمشفوعِ لهم بكلمةٍ يتكلم بها ربُّ العزةِ في إطلاقِ الإِذن ، تباشروا بذلك ، وسأل بعضُهم بعضاً : ماذا قال ربُّكم قالوا : الحق . أي : القولَ الحقَّ وهو الإِذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ ارْتَضَى » .
وقرأ ابنُ عامر « فَزَّع » مبنياً للفاعل . فإنْ كان الضميرُ في « قلوبهم » للملائكةِ فالفاعلُ في « فَزَّع » ضميرُ اسمِ الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه . وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم . كذا قال الشيخ . والظاهر أنه يعودُ على الله مطلقاً . وقرأ الباقون مبنيَّاً للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعده . وفَعَّل بالتشديد معناها السَّلْبُ هنا نحو : قَرَّدْتُ البعيرَ أي : أَزَلْتُ قُراده ، كذا هنا أي : أزالَ الفَزَعَ عنها .
وقرأ الحسن « فُزِعَ » مبنياً للمفعول مخففاً كقولِك : ذُهِب بزيدٍ .

والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد « فَرَّغَ » مبنياً للفاعل من الفراغ . وعن الحسن أيضاً تخفيفُ الراء . وعنه أيضاً وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراءِ مبنياً للمفعول .
والفَراغُ : الفَناء والمعنى : حتى إذا أَفْنى اللَّهُ الوَجَلَ أو انتفى بنفسِه ، أو نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه . وقرأ ابن مسعود وابن عمر « افْرُنْقِعَ » من الافْرِنْقاع . وهو التفرُّقُ . قال الزمخشري : « والكلمةُ مركبةٌ مِنْ حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما رُكِّب » اقْمَطَرَّ « من حروفِ القَمْطِ مع زيادة الراء » . قال الشيخ : « فإنْ عَنَى أنَّ العينَ من حروفِ الزيادة ، وكذا الراء ، وهو ظاهرُ كلامِه فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العين والراءَ ليسا مِنْ حروف الزيادةِ . وإنْ عنى أنَّ الكلمة فيها حروفُ ما ذُكِر ، وزائداً إلى ذلك العينُ والراءُ ، والمادةُ فَرْقَعَ وقَمْطَر فهو صحيحٌ » انتهى . وهذه قراءةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد ، ومع ذلك هي لفظةٌ غريبةٌ ثقيلةُ اللفظِ ، نَصَّ أهلُ البيانِ عليها وَمثَّلوا بها . وحَكَوْا عن عيسى بنِ عمر أنه غُشِيَ عليه ذاتَ يومٍ فاجتمع عليه النَّظَّارَةُ فلمَّا أفاق قال : « أراكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جِنَّةٍ افرَنْقِعوا عني » أي : اجتمعتُمْ عليَّ اجتماعَكم على المجنونِ تَفَرَّقوا عني ، فعابَها الناسُ عليه ، حيث استعمل مثلَ هذه الألفاظِ الثقيلةِ المستغربةِ .
وقرأ ابن أبي عبلة « الحقُّ » بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : قالوا قولُه الحقُّ .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)

قوله : { أَوْ إِيَّاكُمْ } : عطفٌ على اسم إنَّ . وفي الخبرِ أوجهٌ ، أحدها : أنَّ الملفوظَ به الأولُ وحُذِفَ خبرُ الثاني للدلالة عليه . أي : وإنَّا لعَلى هُدىً أو في ضلال ، أو إنكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ . والثاني : العكسُ أي : حُذِف الأولُ ، والمَلْفوظُ به خبرُ الثاني . وهو خلافٌ مشهورٌ تقدَّم تحقيقُه عند قولِه : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] . وهذان الوجهان لا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلا على ظاهرهِما قطعاً؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَشُكَّ أنه على هدىً ويقينٍ ، وأنَّ الكفارَ على ضلالٍ ، وإنما هذا الكلامُ جارٍ على ما يَتَخاطَبُ به العربُ من استعمالِ الإِنصاف في محاوراتِهم على سبيل الفَرَضِ والتقدير ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ الاستدراجِ وهو : أَنْ يَذْكُرَ لمخاطبهِ أمراً يُسَلِّمه ، وإنْ كان بخلافِ ما يَذْكر حتى يُصْغَي إلى ما يُلْقيه إليه ، /إذ لو بدأه بما يَكْرَهُ لم يُصْغِ . ونظيرُه قولُهم : أَخْزَى اللَّهُ الكاذبَ مني ومنك . ومثلُه قولُ الشاعر :
3739 فَأَيِّي ما وأيُّك كان شَرَّاً ... فَقِيْدَ إلى المَقامةِ لا يَرَاها
وقولُ حسان :
3740 أَتَهْجُوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ ... فَشَرُّكُما لخيرِكما الفِداءُ
مع العلم لكلِّ أحدٍ أنه صلَّى الله عليه وسلَّم خيرُ خَلْقِ اللَّهِ كلِّهم .
الثالث : أنه من بابِ اللفِّ والنَّشْرِ . والتقدير : وإنَّا لعلى هُدَىً وإنكم لفي ضلال مبين . ولكن لَفَّ الكلامين وأخرجَهما كذلك لعدمَ اللَّبْسِ ، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ أَنْ تكونَ « أو » بمعنى الواوِ وهي مسألةُ خلافٍ . ومِنْ مجيءِ « أو » بمعنى الواو قولُه :
3741 قَوْمٌ إذا سَمِعوا الصَّرِيْخَ رَأَيْتَهُمْ ... ما بين مُلْجم مُهْره أو سافِعِ
وتقدَّم تقريرُ هذا وهذا الذي ذكرْتُه منقولٌ عن أبي عبيدة . الرابع : قال الشيخ : « وأو هنا على موضوعِها لكونِها لأحدِ الشيئَيْن وخبرُ { إِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ } هو { لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ولا يُحتاج إلى تقديرِ حذفٍ؛ إذ المعنى : أنَّ أحَدنا لَفي أحدِ هذَيْن كقولِك : زيدٌ أو عمروٌ في القصر أو في المسجدِ لا يُحتاج إلى تقديرِ حَذْفٍ إذ معناه : أحدُ هذَيْن في أحدِ هذين . وقيل : الخبرُ محذوفٌ ، ثم ذَكَرَ ما قَدَّمْتُ إلى آخره . وهذا الذي ذكره هو تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ ، والناسُ نظروا إلى تفسيرِ الإِعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرْتُ .

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)

قوله : { الفتاح العليم } : صِفتا مبالغةٍ . وقرأ عيسى بن عمر « الفاتحُ » اسمَ فاعلٍ .

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله : { أَرُونِيَ } : فيها وجهان ، أحدهما : أنها عِلْميةٌ متعديةٌ قبل النَّقْلِ إلى اثنين فلمَّا جيْءَ بهمزةِ النقلِ تَعَدَّتْ لثلاثةٍ أوَّلُها : ياءُ المتكلم ، ثانيها : الموصولُ ، ثالثها : « شركاءَ » وعائدُ الموصول محذوفٌ أي : أَلْحَقْتموهم به . الثاني : أنها بَصَرِيَّةٌ متعديةٌ قبل النقل لواحدٍ وبعده لاثنين ، أوَّلُهما ياءُ المتكلم ، ثانيهما الموصولُ ، و « شركاءَ » نصبٌ على الحالِ مِنْ عائد الموصول أي : بَصِّرُوْني المُلْحقين به حالَ كونِهم شركائي .
قال ابن عطية في هذا الثاني : « ولا غَناء له » أي لا مَنْفعةَ فيه يعني : أنَّ معناه ضعيفٌ . قال الشيخ : « وقوله : لا غَناء له ليس بجيدٍ ، بل في ذلك تبكيْتٌ لهم وتوبيخٌ ، ولا يريد حقيقةَ الأمرِ بل المعنى : الذين هم شركائي على زَعْمِكم هم مِمَّنْ إنْ أَرَيْتُموهم افْتََضَحْتُمْ؛ لأنهم خشبٌ وحجرٌ وغيرُ ذلك » .
قوله : « بل هو » في هذا الضميرِ قولان ، أحدُهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى أي : ذلك الذي أَلْحَقْتُمْ به شركاءَ هو اللَّهُ . والعزيز الحكيم صفتان . والثاني : أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ . واللَّهُ مبتدأ ، والعزيزُ الحكيمُ خبران . والجملةُ خبر « هو » .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)

قوله : { كَآفَّةً } : فيه أوجه ، أحدها : أنه حالٌ من كاف « أَرْسَلْناك » والمعنى : إلاَّ جامعاً للناس في الإِبلاغ .
والكافَّةُ بمعنى الجامع ، والهاءُ فيه للمبالغة كهي في : عَلاَّمة وراوِية . قاله الزجاج . وهذا بناءً منه على أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ . وقال الشيخ : « أمَّا قولُ الزجَّاج : إن كافَّة بمعنى جامعاً ، والهاءُ فيه للمبالغة؛ فإنَّ اللغَةَ لا تُساعِدُه على ذلك؛ لأنَّ كَفَّ ليس معناه محفوظاً بمعنى جَمَعَ » يعني : أن المحفوظَ في معناه مَنَع . يقال : كَفَّ يَكُفُّ أي : مَنَع . والمعنى : إلاَّ مانعاً لهم من الكفرِ ، وأن يَشُذُّوا مِنْ تَبْليغِك ، ومنه الكفُّ لأنها تمنع خروج ما فيه .
الثاني : أنَّ « كافَّة » مصدرٌ جاء على الفاعِلة كالعافِية والعاقِبَة . وعلى هذا فوقوعُها حالاً : إمَّا على المبالغةِ ، وإمَّا على حذف مضافٍ أي : ذا كافَّةٍ للناس .
الثالث : أنَّ « كافَّة » صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه : إلاَّ إرْسالةً كافَّةً . قال الزمخشري : « إلاَّ إرْسالةً عامةً لهم محيطةً بهم؛ لأنها إذا شَمِلَتْهُم فقد كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ منها أحدٌ منهم » . قال الشيخ : « أمَّا كافَّة بمعنى عامَّة ، فالمنقولُ عن النحويين أنها لا تكونُ إلاَّ حالاً ، ولم يُتَصَرَّفْ فيها بغير ذلك ، فَجَعْلُها صفةً لمصدرٍ محذوفٍ خروجٌ عَمَّا نقلوا ، ولا يُحْفَظُ أيضاً استعمالُها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ » . /
الرابع : أنَّ قوله : « كافَّةً » حالٌ من « للناس » أي : للناس كافَّة . إلاَّ أن هذا قد رَدَّه الزمخشريُّ فقال : « ومَن جَعَلَه حالاً من المجرور متقدِّماً عليه فقد أخطأ؛ لأنَّ تَقَدُّمَ حالِ المجرورِعليه في الإِحالةِ بمنزلةِ تقدُّمِ المجرورِ على الجارِّ . وكم تَرَى مِمَّنْ يَرْتكبُ مثلَ هذا الخطأ ، ثم لا يَقْنَعُ به حتى يَضُمَّ إليه أن يَجْعَلَ اللامَ بمعنى إلى ، لأنه لا يَسْتوي له الخطأُ الأولُ إلاَّ بالخطأ الثاني ، فلا بُدَّ له أَنْ يرتكبَ الخطأَيْن معاً » . قال الشيخ : « أمَّا قوله كذا فهو مختلَفٌ فيه : ذهب الجمهورُ إلى أنه لا يجوزُ ، وذهب أبو عليّ وابن كَيْسانَ وابن بَرْهانَ وابن ملكون إلى جوازه » . قال : « وهو الصحيحُ » . قال : « ومِنْ أمثلةِ أبي عليّ : » زيدٌ خيرَ ما يكونُ خيرٌ منك « . التقدير : زيدٌ خيرٌ منك خيرَ ما يكونُ ، فجعل » خيرَ ما يكون « حالاً من الكاف في » مِنْكَ « وقَدَّمها عليها وأنشد :
3742 إذا المَرْءُ أَعْيَتْه المروءةُ ناشِئاً فمطلبُها كهْلاً عليه شديدُ ... أي : فمطلَبُها عليه كَهْلاً . وأنشد أيضاً :
3743 تَسَلَّيْتُ طُرَّاً عنكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بذِكْراكمُ حتى كأنَّكُمُ عندي
أي : عنكم طُرَّاً . وقد جاء تقديمُ الحالِ على صاحبِها المجرور وعلى ما يتعلق به قال :
3744 مَشْغُوفَةً بكِ قد شُغِفْتُ وإنَّما ... حَتَمَ الفراقُ فما إليك سبيلُ

أي : قد شُغِفَتْ بك مَشْغوفةً . وقال آخر :
3745 غافِلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْ ... ءِ فيُدْعَى ولات حينَ إباءُ
أي : تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْءِ غافِلاً « . قال : » وإذا جازَ تقديمُها على صاحبها وعلى العاملِ فيه ، فتقديمُها على صاحبِها وحدَه أجوزُ « . قال : » ومِمَّنْ حمله على الحال ابنُ عطيةَ فإنه قال : « قُدِّمَتْ للاهتمام » والمنقولُ عن ابن عباس قولُه : إلى العرب والعجم وسائر الأمم ، وتقديره إلى الناس كافة . قال : « وقولُ الزمخشريِّ : لا يَسْتوي له الخطأ الأول إلخ فشَنيعٌ؛ لأنَّ القائلَ بذلك لا يحتاجُ إلى جَعْلِ اللامِ بمعنى إلى لأنَّ أَرْسَلَ يتعدَّى باللام قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } [ النساء : 79 ] و » أرسلَ « ممَّا يتعدَّى باللامِ ، وب » إلى « أيضاً . وقد جاءتِ اللامُ بمعنى » إلى « و » إلى « بمعناها » .
قلت : أمَّا { أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ } فلا دَلالةَ فيه؛ لاحتمالِ أَنْ تكونَ اللامُ لامَ العلةِ المجازيَّةِ . وأمَّا كونُها بمعنى « إلى » والعكسُ فالبصريُّون لا يَتَجوَّزُون في الحروف . و « بشيراً ونذيراً » حالان أيضاً .

قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

قوله : { لَّكُم مِّيعَادُ } : مبتدأٌ وخبرٌ . والميعادُ يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مصدرٌ مضافٌ لظرفِه ، والميعادُ يُطْلق على الوعدِ والوعيدِ . وقد تقدَّم أنَّ الوعدَ في الخيرِ ، والوعيدَ في الشرِّ غالباً . الثاني : اسمٌ أُقيم مُقامَ المصدرِ . والظاهرُ الأولُ . قال أبو عبيدة : « الوَعْدُ والوعيدُ والميعاد بمعنىً » . الثالث : أنه هنا ظرفُ زمانٍ . قال الزمخشري : « الميعادُ ظرفُ الوعدِ ، من مكانٍ أو زمانٍ ، وهو هنا ظرفُ زمانٍ . والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ » ميعادٌ يومٌ « يعني برفعِهما منوَّنَيْنِ ، فأبدل منه اليوم . وأمَّا الإِضافةُ فإضافةُ تبيينٍ ، كقولك : سَحْقُ ثوبٍ وبعيرُ سانِيَةٍ » .
قال الشيخ : « ولا يتعيَّنُ ما قال؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ التقديرُ : لكم ميعادُ ميعادِ يومٍ ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُعْرِب المضافُ إليه بإعرابه » . قلت : الزمخشريُّ لو فَعَلَ مثلَه لسَمَّع به . وجَوَّزَ الزمخشريُّ في الرفع وجهاً آخرَ : وهو الرفعُ على التعظيمِ ، يعني على إضمارِ مبتدَأ ، وهوالذي يُسَمَّى القطعَ . وسيأتي هذا قريباً .
وقرأ ابنُ أبي عبلةَ واليزيديُّ « ميعادٌ يوماً » بتنوين الأولِ ، ونصبِ « يوماً » منوَّناً . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ . والعاملُ فيه مضافٌ مقدرٌ ، تقديرُه : لكم إنجازُ وعدٍ في يومٍ صفتُه كيتَ وكيتَ . الثاني : أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ . قال الزمخشريُّ : « وأمَّا نصبُ اليوم فعلى التعظيم بإضمارِ فعلٍ ، تقديرُه : أعني يوماً . ويجوز أَنْ يكونَ الرفعُ على هذا ، أعني التعظيمَ » .
وقرأ عيسى بتنوين الأول ، ونصبِ « يوم » مضافاً للجملة بعده . / وفيه الوجهانِ المتقدِّمان : النصبُ على التعظيم ، أو الظرفُ .
قوله : { لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ } يجوزُ في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ صفةً ل « مِيْعاد » إنْ عاد الضميرُ في « عنه » عليه ، أو ل « يوم » إنْ عاد الضميرُ في « عنه » عليه ، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالرفع أو الجرِّ . وأمَّا على قراءةِ عيسى فينبغي أَنْ يعودَ الضميرُ في « عنه » على « ميعاد » ليس إلاَّ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ الظرفَ إذا أُضيفَ إلى جملةٍ لم يَعُدْ منها إليه ضميرٌ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله :
3746 مَضَتْ سَنَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه ... وعَشْرٌ بعد ذاكَ وحِجَّتانِ

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)

قوله : { وَلَوْ تَرَى ا } : مفعولُ « ترى » وجوابُ « لو » محذوفان للفهم . أي : لو ترى حالَ الظالمين وقتَ وقوفِهم راجعاً بعضُهم إلى بعض القولَ لرَأَيْتَ حالاً فظيعة وأمراً مُنْكراً . و « يَرْجِعُ » حالٌ مِنْ ضميرِ « مَوْقوفون » ، والقولُ منصوبٌ ب « يَرْجِعُ » لأنه يَتَعَدَّى . قال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } [ التوبة : 83 ] . وقولُه : { يَقُولُ الذين استضعفوا } إلى آخره تفسيرٌ لقولِه : « يَرْجِعُ » فلا مَحَلَّ له . و « أنتم » بعد « لولا » مبتدأٌ على أصَحِّ المذاهبِ . وهذا هو الأفصحُ . أعني وقوعَ ضمائرِ الرفعِ بعد « لولا » خلافاً للمبرد؛ حيث جَعَلَ خلافَ هذا لَحْناً ، وأنه لم يَرِدْ إلاَّ في قولِ يزيدَ :
3747 وكم مَوْطَنٍ لَوْلاي . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا . والأخفشُ جَعَلَ أنه ضميرُ نصبٍ أو جرٍ قامَ مقامَ ضميرِ الرفع . وسيبويهِ جعلَه ضميرَ جَرّ .

وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

قوله : { بَلْ مَكْرُ الليل } : يجوز رفعُه مِنْ ثلاثةِ أوجه ، أحدها : الفاعليةُ تقديره : بل صَدَّنا مَكْرُكُمْ في هذين الوقتين . الثاني : أَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه محذوفٌ ، أي : مَكْرُ الليلِ صَدَّنا . الثالث : العكسُ أي : سببُ كفرِنا مَكْرُكم . وإضافةُ المَكْرِ إلى الليلِ والنهار : إمَّا على الإِسنادِ المجازيِّ كقولهم : ليلٌ ماكرٌ ، فيكونُ مصدراً مضافاً لمرفوعِه ، وإمَّا على الاتساعِ في الظرف فجُعِل كالمفعولِ به ، فيكونُ مضافاً لمنصوبِه . وهذان أحسنُ مِنْ قول مَنْ قال : إنَّ الإِضافةَ بمعنى « في » أي : في الليل؛ لأنَّ ذلك لم يَثْبُتْ في غيرِ مَحَلِّ النِّزاع .
وقرأ العامَّةُ « مَكْرُ » خفيفَ الراءِ ساكنَ الكاف مضافاً لِما بعده . وابن يعمر وقتادةُ بتنوين « مكرٌ » وانتصابِ الليل والنهار ظرفَيْن . وقرأ أيضاً وسعيد بن جبير وأبو رُزَيْن بفتحِ الكافِ وتشديدِ الراء مضافاً لِما بعده . أي : كُرورُ الليل والنهار واختلافُهما ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ ، إذا جاء وذهب . وقرأ ابن جُبير أيضاً وطلحة وراشد القارئ - وهو الذي كان يصحِّحُ المصاحفَ أيامَ الحَجَّاج بأمرِه - كذلك إلاَّ أنه بنصبِ الراء . وفيها أوجهٌ ، أظهرُها : ما قاله الزمخشري ، وهو الانتصابُ على المصدرِ قال : « بل تَكُرُّون الإِغواءَ مَكَرَّاً دائماً لا تَفْتَرُون عنه » . الثاني : النصبُ على الظرفِ بإضمارِ فِعْلٍ أي : بل صَدَدْتُمونا مَكَرَّ الليلِ والنهارِ أي : دائماً . الثالث : أنه منصوبٌ بتَأْمُرُوننا ، قاله أبو الفَضل الرازي ، وهو غلطٌ؛ لأنَّ ما بعد المضافِ لا يَعْمل فيما قبلَه إلاَّ في مسألةٍ واحدةٍ : وهي « غير » إذا كانَتْ بمعنى « لا » كقوله :
3748 إنَّ أمْرَأً خَصَّني عَمْداً مَوَدَّتَه ... على التَّنائي لَعِندي غيرُ مَكْفورِ
وتقريرُ هذا تقدَّمَ أواخرَ الفاتحة .
وجاء قولُه : { قَالَ الذين استكبروا } بغيرِ عاطفٍ؛ لأنَّه جوابٌ لقولِ الضَّعَفَةِ ، فاسْتُؤْنِفَ ، بخلافِ قولِه : { وَقَالَ الذين استضعفوا } فإنه لَمَّا لم يكنْ جواباً عُطِف . والضميرُ في « وأَسَرُّوا الندامةَ » للجميع : للأتباع والمتبوعين .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)

قوله : { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ « قرية » وإن كانَتْ نكرةً؛ لأنَّها في سياقِ النفي .
قوله : « بما أُرْسِلْتُمْ » متعلقٌ بخبر « إنَّ » و « به » متعلِّقٌ ب « أُرْسِلْتُمْ » . والتقدير : إنَّا كافرون بالذي أُرْسِلْتم به ، وإنما قُدِّم للاهتمامِ . وحَسَّنه تواخي الفواصلِ .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)

قوله : { وَيَقْدِرُ } : أي : يُضَيِّق بدليل مقابلتِه ل « يَبْسُط » . وهذا هو الطباقُ البديعيُّ . وقرأ الأعمش « ويُقَدِّر » بالتشديد/ في الموضعين .

وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)

قوله : { بالتي تُقَرِّبُكُمْ } : صفةٌ للأموالِ والأولادِ؛ لأنَّ جمعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدة . وقال الفراء والزجَّاج : إنَّه حذفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه . قالا : والتقدير وما أموالُكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلْفَى ، ولا أولادُكم بالتي تُقَرِّبُكم . وهذا لا حاجةَ إليه أيضاً . ونُقِل عن الفراء ما تقدَّمَ : مِنْ أنَّ « التي » صفةٌ للأموالِ والأولادِ معاً . وهو الصحيح . وجعل الزمخشري « التي » صفةً لموصوفٍ محذوفٍ . قال : « ويجوزُ أَنْ تكون هي التقوى وهي المقرِّبةُ عند الله زُلْفَى وحدها أي : ليسَتْ أموالُكم وأولادُكم بتلك الموصوفةِ عند الله بالتقريبِ » . وقال الشيخ : « ولا حاجةَ إلى هذا الموصوفِ » قلت : والحاجةُ إليه بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعيةٌ .
قوله : « زُلْفَى » مصدرٌ مِنْ معنى الأول ، إذ التقدير : تُقَرِّبكم قُرْبى . وقرأ الضحَّاك « زُلَفاً » بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمعُ زُلْفَى نحو : قُرْبَة وقُرَب . جُمِع المصدرُ لاختلافِ أنواعِه .
قوله : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطعٌ فهو منصوبُ المحلِّ . الثاني : أنه في محلِّ جَرّ بدلاً من الضمير في « أموالكم » . قاله الزجاج . وغَلَّطه النحاس : بأنه بدلٌ من ضمير المخاطب . قال : « ولو جاز هذا لجازَ » رَأَيْتُك زيداً « . وقولُ أبي إسحاقَ هذا هو قولُ الفراءِ » . انتهى .
قال الشيخُ : « ومذهبُ الأخفش والكوفيين أنه يجوزُ البدلُ مِنْ ضميرِ المخاطبةِ والمتكلم؛ إلاَّ أنَّ البدلَ في الآيةِ لا يَصِحُّ؛ ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تفريغُ الفعلِ الواقعِ صلةً لما بعد » إلاَّ « لو قلتَ : » ما زيدٌ بالذي يَضْرِب إلاَّ خالداً « لم يَجُزْ . وَتَخَيَّلَ الزجَّاجُ أنَّ الصلةَ - وإن كانَتْ مِنْ حيث المعنى منفيَّةً - أنه يجوزُ البدلُ ، وليس بجائزٍ ، إلاَّ أَنْ يَصِحَّ التفريغُ له » . قلت : ومَنْعُهُ قولَك : « ما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ خالداً » فيه نظرٌ ، لأنَّ النفيَ إذا كان مُنْسَحباً على الجملة أُعْطي حُكْمَ ما لو باشَرَ ذلك الشيءَ . ألا ترى أنَّ النفيَ في قولك « ما ظننتُ أحداً يَفْعلُ ذلك إلاَّ زيدٌ » سَوَّغَ البدلَ في « زيد » مِنْ ضميرِ « يَفْعَل » وإنْ لم يكنِ النفيُ مُتَسَلِّطاً عليه . قالوا : ولكنه لمَّا كان في حَيِّزِ النفي صَحَّ فيه ذلك ، فهذا مثلُه .
والزمخشريُّ أيضاً تَبع الزجَّاجَ والفراءَ في ذلك من حيث المعنى ، إلاَّ أنَّه لم يَجْعَلْه بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء ، فقال : « إلاَّ مَنْ آمنَ استثناءٌ من » كم « في تُقَرِّبُكم . والمعنى : أنَّ الأموالَ لا تُقَرِّبُ أحداً إلاَّ المؤمنَ الذي يُنْفقها في سبيلِ الله . والأولاد لا تُقَرِّبُ أحداً إلاَّ مَنْ عَلَّمهم الخيرَ ، وفَقَّهَهم في الدين ، ورَشَّحهم للصلاح » .

ورَدَّ عليه الشيخُ بنحوِ ما تقدَّم فقال : « لا يجوزُ : ما زيدٌ بالذي يَخْرُج إلاَّ أخوه ، وما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ عَمْراً » . والجوابُ عنه ما تقدم ، وأيضاً فالزمخشريُّ لم يجعَلْه بدلاً بل استثناءً صريحاً ، ولا يُشْتَرَطُ في الاستثناء التفريغُ اللفظيُّ بل الإِسنادُ المعنويُّ ، ألا ترى أنك تقول : « قام القومُ إلاَّ زيداً » ولو فَرَّغْتَه لفظاً لامتنع؛ لأنه مُثْبَتٌ . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ هو الوجهُ الثالثُ في المسألة .
الرابع : أنَّ « مَنْ آمَنَ » في محلِّ رفع على الابتداء . والخبرُ قولُه : { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } . وقال الفراء : « هو في موضعٍ رفعٍ تقديرُه : ما هو المقرَّب إلاَّ مَنْ آمن » وهذا لا طائلَ تحته . وعَجِبْتُ من الفَرَّاءِ كيف يقوله؟
وقرأ العامَّةُ : « جزاءُ الضِّعْفِ » مضافاً على أنه مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، أي : أَنْ يُجازِيَهم الضِّعْفَ . وقَدَّره الزمخشريُّ مبنيَّاً للمفعول أي : يُجْزَوْن الضِّعْفَ . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ الصحيحَ مَنْعُه . وقرأ قتادة برفعِهما على إبدالِ الضِّعْف مِنْ « جزاء » . وعنه أيضاً وعن يعقوبَ بنصبِ « جزاءً » على الحال . والعاملُ فيها الاستقرار ، وهذه كقولِه : { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } [ الكهف : 88 ] فيمَنْ قرأ بنصبِ « جزاء » في الكهف .
قوله : « في الغُرُفاتِ » قرأ حمزةُ « الغُرْفَة » بالتوحيد على إرادةِ الجنس ولعدمِ اللَّبْسِ؛ لأنه مَعْلومٌ أنَّ لكلِّ أحدٍ غرفةً تَخُصُّه . وقد أُجْمِعَ على التوحيدِ في قوله : { يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] ولأنَّ لفظَ الواحدِ أخفُّ فوُضِعَ مَوْضِعَ الجمعِ مع أَمْنِ اللَّبْسِ . والباقون « الغُرُفات » جمعَ سَلامة . وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] والرسمُ مُحْتَمِلٌ للقراءَتَيْن . وقرأ الحسن بضمِّ راء « غُرُفات » على الإِتباع . وبعضُهم يَفْتحها . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك أول البقرة . وقرأ ابنُ وثَّاب « الغُرُفَة » بضمِّ الراء والتوحيد .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

قوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ/ « ما » موصولةً في محلِّ رَفْعٍ بالابتداء . والخبرُ قولُه : « فهو يُخْلِفُه » ودخلتِ الفاءُ لشَبَهِه بالشرطِ . و « مِنْ شَيْءٍ » بيانٌ ، كذا قيلَ . وفيه نظرٌ لإِبهامِ « شيء » فأيُّ تبيينٍ فيه؟ الثاني : أَنْ تكونَ شرطيةً فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدَّماً ، و « فهو يُخْلِفُه » جوابُ الشرطِ .
قوله : « الرازِقين » إنما جُمِع من حيث الصورةُ؛ لأنَّ الإِنسانَ يرزقُ عيالَه مِنْ رزقِ اللَّهِ ، والرازقُ في الحقيقة للكلِّ إنما هو الله تعالى .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)

قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ } : قد تقدَّم أنه يُقْرأ بالنونِ والياءِ في الأنعام .
قوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } « إيَّاكم » منصوبٌ بخبر كان ، قُدِّمَ لأجلِ الفواصلِ والاهتمامِ . واسْتُدِلَّ به على جوازِ تقديم خبر « كان » عليها إذا كان خبرُها جملةً فإنَّ فيه خلافاً : جَوَّزه ابن السَّراج ، ومنعَه غيرُه . وكذلك اختلفوا في : توسُّطه إذا كان جملةً ، قال ابن السَّراج : « القياسُ جوازُه ، ولكنْ لم يُسْمَعْ » . قلت : قد تقدَّم في قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] ونحوه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ تقديمِ الخبرِ وأَنْ لا يكون . ووجهُ الدلالةِ هنا : أنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديمِ العاملِ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في هود عند قولِه : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً } [ هود : 8 ] ومَنْعُ هذه القاعدةِ .

فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)

قوله : { التي كُنتُم بِهَا } : صفةُ النارِ ، وفي السجدة وَصْفُ العذاب . قيل : لأنَّ ثَمَّ كانوا مُلْتَبسين بالعذابِ متردِّدِين فيه فَوُصِفَ لهم ما لابَسُوه ، وهنا لم يُلابِسُوه بَعْدُ؛ لأنه عَقيبُ حَشْرِهم .

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)

قوله : { يَدْرُسُونَهَا } : العامَّةُ على التخفيفِ مضارعَ درس مخففاً أي : حَفِظَ . وأبو حيوةَ « يَدَّرِسُوْنَها » بفتح الدال مشددةً وكسرِ الراء . والأصلُ يَدْتَرِسُوْنها من الادِّراس على الافتعالِ فأُدْغم . وعنه أيضاً بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ وشَدِّ الراءِ من التدريس .
قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ } أي : إلى هؤلاء المعاصرين لك لم نُرْسِلْ إليهم نذيراً يُشافِهُهم بالنِّذارةِ غيرَك ، فلا تَعارُضَ بينَه وبينَ قولِه : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] إذِ المرادُ هناك آثارُ النَّذيرِ ، ولا شَكَّ أنَّ هذا كان موجوداً ، يَذْهَبُ النبيُّ ، وتَبْقَى شريعتُه .

وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)

قوله : { وَمَا بَلَغُواْ } الظاهرُ أن الضميرُ في « بَلَغُوا » وفي « آتيناهم » للذين مِنْ قبلهم ليناسِقَ قوله : « فكذَّبُوا رُسُلي » بمعنى : أنهم لم يَبْلُغوا في شُكْر النِّعْمَة وجزاءِ المِنَّةِ مِعْشارَ ما آتيناهم من النعمِ والإِحسانِ إليهم . وقيل : بل ضميرُ الرفع لقريشٍ والنصبِ للذين مِنْ قبلهم ، وهو قولُ ابنِ عباس على معنى أنهم كانوا أكثرَ أموالاً . وقيل : بالعكس على معنى : إنَّا أَعْطَيْنا قريشاً من الآياتِ والبراهينِ ما لم نُعْطِ مَنْ قبلَهم .
واخْتُلِفَ في المِعْشار فقيل : هو بمعنى العُشْرِ ، بنى مِفْعال مِنْ لفظِ العُشْر كالمِرْبَاع ، ولا ثالثَ لهما من ألفاظِ العدد لا يقال : مِسْداسَ ولا مِخْماس . وقيل : هو عُشْرُ العُشْرِ . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيَّة أنكره وقال : « ليس بشيء » . وقال الماوردي : « المِعْشارُ هنا : هو عُشْرُ العُشَيْرِ ، والعُشَيْرُ هو عُشْرُ العُشْر ، فيكون جزءاً من ألفٍ » . قال : « وهو الأظهرُ؛ لأنَّ المرادَ به المبالغةَ في التقليل » .
قوله : « فَكَذَّبوا » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوف على { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } . والثاني : أنه معطوف على « وما بَلَغُوا » وأوضحَهما الزمخشريُّ فقال : « فإنْ قُلْتَ : ما معنى » فكذَّبُوا رُسُلي « وهو مستغنى عنه بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } ؟ قلت : لمَّا كان معنى قولِه : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } : وفَعَلَ الذين مِنْ قبلِهم التكذيبَ ، وأَقْدَمُوا عليه جُعِلَ تكذيبُ الرسلِ مُسَبَّباً عنه . ونظيرُه أَنْ يقولَ القائلُ : أقدمَ فلانٌ على الكفر فَكَفَرَ بمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم . ويجوزُ أَنْ يُعْطَفَ على قَولِه : » وما بَلَغوا « كقولك : ما بلغ زيدٌ مِعْشارَ فضل عمروٍ فتَفَضَّلَ عليه » .
و « نَكير » مصدرٌ مضافٌ لفاعِله أي : إنكاري . وتقدَّمَ حَذْفُ يائِه وإثباتُها .

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

قوله : { أَن تَقُومُواْ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً مِنْ « واحدة » على سبيلِ البيان . قاله الفارسيُّ . الثاني : أنها عطفُ بيانٍ ل « واحدة » / قاله الزمخشريُّ . وهو مردودٌ لتخالُفِهِما تعريفاً وتنكيراً . وقد تقدَّم هذا عند قولِه : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] . الثالث : أنها منصوبةٌ بإضمارِ أعني . الرابع : أنها مرفوعةٌ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي أَنْ تقومُوا . ومَثْنى وفُرادى : حال . ومضى تحقيقُ القولِ في « مَثْنى » وبابِه في سورة النساء ، وتقدَّم القولُ في « فُرادى » في سورةِ الأنعام .
قوله : « ثم تتفَكَّروا » عَطْفٌ على « أَنْ تَقُوموا » أي : قيامِكم ثم تَفَكُّرِكم .
والوقفُ عند أبي حاتم على هذه الآية ، ثم يَبْتَدِئُ « ما بصاحبِكم » . وفي « ما » هذه قولان ، أحدُهما : أنها نافيةٌ . والثاني : أنها استفهاميةٌ ، لكن لا يُراد به حقيقةُ الاستفهامِ ، فيعودُ إلى النفي . وإذا كانت نافيةً فهل هي مَعَلِّقَةٌ ، أو مستأنفةٌ ، أو جوابُ القسمِ الذي تضمَّنه معنى « تَتَفَكَّروا » لأنه فعلُ تحقيقٍ كتبيَّن وبابِه؟ ثلاثةُ أوجه . نقل الثالثَ ابنُ عطية ، وربما نَسَبه لسيبويه . وإذا كانَتْ استفهاميةً جاز فيها الوجهان الأوَّلان ، دونَ الثالث . و « مِنْ جِنَّةٍ » يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ لاعتمادِه ، وأَنْ يكونَ مبتدأً . ويجوز في « ما » إذا كانَتْ نافيةً أَنْ تكونَ الحجازيَّةَ ، أو التميميَّةَ .

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)

قوله : { مَا سَأَلْتُكُم } : في « ما » وجهان ، أحدُهما : أنَّها شرطيةٌ فتكونُ مفعولاً مقدماً ، و « فهو لكم » جوابُها . الثاني : أنها موصولَةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ ، والعائدُ محذوفٌ أي : سَأَلْتُكموه . والخبر « فهو لكم » . ودخَلَتِ [ الفاءُ ] لِشَبَهِ الموصولِ بالشرط . والمعنى يحتمل أنَّه لم يَسْأَلْهم أجراً البتةَ ، كقولك : « إنْ أَعْطَيْتَني شيئاً فَخُذْه » مع عِلْمِك أنه لم يُعْطِك شيئاً . ويُؤَيِّدُه { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } ويُحْتمل أنه سألهم شيئاً نَفْعُه عائدٌ عليهم ، وهو المرادُ بقوله : { إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)

قوله : { يَقْذِفُ بالحق } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفاً؛ لأنَّ القَذْفَ في الأصلِ الرَّمْيُ . وعَبَّر به هنا عن الإِلقاءِ أي : يُلْقي الوحيَ إلى أنبيائِه بالحقِّ . أي : بسبب الحق ، أو مُلْتَبِساً بالحقِّ . ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : يَقْذِفُ الباطِلَ بالحقِّ أي : يَدْفَعُه ويَطْرَحُه به ، كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } [ الأنبياء : 18 ] . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ زائدةً ، أي : يُلقي الحقَّ كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، أو يُضَمَّنُ « يقْذِفُ » معنى يَقْضي ويَحْكُمُ .
قوله : « عَلاَّمُ الغيوبِ » العامَّةُ على رفعه . وفيه أوجهٌ ، أظهرُها : أنه خبرٌ ثانٍ ل « إنَّ » ، أو خبرُ مبتدأ مُضْمرٍ ، أو بدلٌ من الضمير في « يَقْذِفُ » ، أو نعتٌ له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيز نعتَ الضميرِ الغائبِ ، وقد صَرَّح به هنا . وقال الزمخشريُّ : « رَفْعٌ على محلِّ » إنَّ « واسمِها ، أو على المستكنِّ في » يَقْذِفُ « . قلتُ : يعني بقولِه : » محمولٌ على مَحَلِّ إنَّ واسمِها « يعني به النعتَ ، إلاَّ أنَّ ذلك ليس مذهبَ البصريين ، لم يَعْتبروا المحلَّ إلاَّ في العطفِ بالحرف بشروطٍ عند بعضِهم . ويريدُ بالحَمْل على الضمير في » يَقْذِفُ « أنَّه بدلٌ منه ، لاَ أنه نعتٌ له؛ لأنَّ ذلك انفرد به الكسائيُّ . وزيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم » إنَّ « أو بدلاً منه على قلةِ الإِبدالِ بالمشتق أو منصوبٌ على المدح .
وقرئ » الغيوبِ « بالحركاتِ الثلاثِ في الغين . فالكسرُ والضمُّ تقدَّما في » بيوت « وبابِه ، وأمَّا الفتحُ فصيغةُ مبالغةٍ كالشَّكور والصَّبور ، وهو الشيءُ الغائبُ الخفيُّ جداً .

قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)

قوله : { وَمَا يُبْدِىءُ } : يجوز في « ما » أَنْ يكونَ نفياً ، وأَنْ يكونَ استفهاماً ، ولكنْ يَؤُول معناه إلى النفي ، ولا مفعولَ ل « يُبْدِئُ » ولا ل « يُعِيْد »؛ إذ المرادُ : لا يُوْقِع هذين الفعلَيْن ، كقوله :
3749 أَقْفَرَ مِنْ أهلِه عبيدُ ... أصبحَ لا يُبْدِيْ ولا يُعيدُ
وقيل : مفعولُه محذوفٌ أي : ما يُبْدِئُ لأهلِه خيراً ولا يُعيدُه ، وهو تقديرُ الحسنِ .

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

قوله : { إِن ضَلَلْتُ } : العامَّةُ على فتحِ لامه في الماضي وكسرِها في المضارع ، ولكنْ يُنْقَلُ إلى الساكنِ قبلها ، والحسن وابنُ وثَّاب بالعكس ، وهي لغةُ تميمٍ ، وتقدَّم ذلك .
قوله : « فبما يُوْحِي » يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : بسببِ إيحاءِ ربي إليَّ ، وأَنْ تكونَ موصولةً أي : بسبب الذي يُوْحِيه ، فعائدُه محذوفٌ .

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)

قوله : { فَلاَ فَوْتَ } : العامَّةُ على بنائِه/ على الفتح ، و « أُخِذُوا » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفاً على « فَزِعُوا » . وقيل : على معنى فلا فَوْتَ أي : فلم يَفُوْتُوا وأُخِذوا .
وقرأ عبد الرحمن مَوْلى بني هاشم وطلحة « فلا فَوْتٌ » و « أَخْذٌ » مرفوعين منوَّنَيْنِ ، وأُبَيٌّ بفتح « فَوْت » ورَفْع « أَخْذ » . فرَفْعُ « فَوْت » على الابتداء أو على اسمِ « لا » اللَّيْسِيَّةِ . ومَنْ رَفَعَ « وأَخْذٌ » رَفَعَه بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ أي : وأَخْذٌ هناك ، أو على خبر ابتداءٍ مضمرٍ أي : وحالُهم أَخْذٌ ، ويكونُ مِنْ عَطْفِ الجملِ ، عَطَفَ مثبتةً على منفيةٍ .

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)

والضميرُ في « آمنَّا به » لله تعالى ، أو للرسول ، أو للقرآن ، أو للعذاب ، أو للبعث .
قوله : « التَّناوُشُ » مبتدأ ، و « أنَّى » خبرُه أي : كيف لهم التناوشُ . و « لهم » حالٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « لهم » رافعاً للتناوش لاعتمادِه على الاستفهامِ ، تقديرُه : كيف استقرَّ لهم التناوش؟ وفيه بُعْدٌ . والتناؤُش مهموزٌ في قراءة الأخوَيْن وأبي عمرو وأبي بكر ، وبالواوِ في قراءةِ غيرِهم ، فيُحتمل أن تكونا مادتين مستقلَّتين مع اتِّحاد معناهما . وقيل : الهمزةُ عن الواو لانضمامِها كوُجوه وأُجُوه ، ووُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ . وإليه ذهب جماعةٌ كثيرةٌ كالزَّجَّاج والزمخشري وابن عطية والحوفي وأبي البقاء . قال الزجَّاج : « كلُّ واوٍ مضمومةٍ ضمةً لازمةً فأنت فيها بالخِيار » وتابعه الباقون قريباً مِنْ عبارِته . ورَدَّ الشيخ هذا الإِطلاقَ وقَيَّده : بأنَّه لا بُدَّ أَنْ تكونَ الواوُ غيرَ مُدْغَمٍ فيها تحرُّزاً من التعَوُّذ ، وأَنْ تكونَ غيرَ مُصَحَّحةٍ في الفعلِ ، فإنها متى صَحَّت في الفعل لم تُبْدَلْ همزةً نحو : تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكاً ، وتعاوَنَ تعاوُناً . وبهذا القيدِ الأخير يَبْطُلُ قولُهم؛ لأنها صَحَّتْ في تَنَاوَشَ يتناوَشُ ، ومتى سُلِّم له هذان القيدان أو الأخِيرُ منهما ثَبَتَ رَدُّه .
والتناوُش : الرُّجوع . وأُنْشِدَ :
3750 تَمَنَّى أَنْ تَؤُوْبَ إليَّ مَيٌّ ... وليس إلى تناوُشِها سبيلُ
أي : إلى رجوعِها . وقيل : هو التناوُل يقال : ناشَ كذا أي : تناولَه . ومنه : تناوَشَ القوم بالسِّلاح كقوله :
3751 ظَلَّتْ سُيوفُ بني أَبيه تَنُوْشُه ... للهِ أرحام هناك تُشَقَّقُ
وقال آخر :
3752 فَهْيَ تَنُوْشُ الحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلا ... نَوْشاً به تَقْطَعُ أجوازَ الفَلا
وفَرَّق بعضُهم بين المهموزِ وغيرِه ، فجعله بالهمزِ بمعنى التأخُّر . قال الفراء : « مِنْ نَأَشْتُ أي : تَأخَّرْتُ » . وأنشد :
3753 تَمَنَّى نَئِيْشاً أَنْ يكونُ مُطاعِناً ... وقد حَدَثَتْ بعد الأمورِ أمورُ
وقال آخر :
3754 قَعَدْتَ زماناً عن طِلابك للعُلا ... وجِئْتَ نَئيشاً بعد ما فاتَكَ الخبرُ
وقال الفراء : « أيضاً هما متقاربان . يعني الهمزَ وتَرْكَه مثل : ذِمْتُ الرجلَ ، وذَأََمْتُه أي : عِبْتُه » وانتاش انتِياشاً كَتَناوَشَ تناوُشاً . قال :
3755 باتَتْ تَنُوْشُ العَنَقَ انْتِياشاً ... وهذا مصدرٌ على غيرِ الصدرِ . و « مِنْ مكانٍ » متعلِّقٌ بالتَّناوش .

وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)

قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ } : جملةٌ حالية ، و « مِنْ قبلُ » أي من قبل زوال العذاب . ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً . والأولُ أظهرُ .
قوله : « ويَقْذِفُون » يجوز فيها الاستئناف ، والحال . وفيه بُعْدٌ عكسَ الأولِ لدخول الواو على مضارعٍ مثبتٍ . والضمير في « به » كما تقدَّم فيه بعد « آمنَّا » . وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو و « يُقْذَفون » مبنياً للمفعول أي : يُرْجمون بما يَسُوْءُهم مِنْ جَرَّاءِ أعمالِهم من حيث لا يَحْتسبون .

وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

قوله : { وَحِيلَ } : قد تقدَّمَ فيه الإِشمامُ والكسر أولَ البقرة والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ أي : وحِيْلَ هو أي الحَوْلُ . ولا تُقَدِّره مصدراً مؤكَّداً بل مختصاً حتى يَصِحَّ قيامُه . وجَعَلَ الحوفيُّ القائمَ مقامَ الفاعلِ « بينهم » واعْتُرِض عليه : بأنه كان ينبغي أن يُرْفَعَ . وأُجيب عنه بأنَّه إنما بُني على الفتح لإِضافتِه إلى غير متمكنٍ . ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يُبْنى المضافُ إلى غيرِ متمكنٍ مطلقاً ، فلا يجوز : « قام غلامَك » ولا « مررتُ بغلامَك » بالفتح . قلت وقد تقدَّم في قولِه : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ما يُغْنِيْنا عن إعادتِه هنا/ . ثم قال الشيخ : « وما يقولُ قائلُ ذلك في قولِ الشاعر :
3756 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد حِيْلَ بين العَيْرِ والنَّزَوانِ
فإنه نصب » بين « مضافةً إلى مُعْربٍ . وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قولُ الآخر :
3757 وقالَتْ متى يُبْخَلُ عليك ويُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ وإن يُكشَفْ غرامُك تَدْرَبِ
أي : يُعْتَلَلْ هو أي الاعتلال » .
قوله : « مِنْ قبلُ » متعلِّقٌ ب « فُعِل » أو « بأشياعهم » أي : الذين شايَعوهم قبلَ ذلك الحينِ .
قوله : « مُريب » قد تقدَّم أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ أراب أي : أتى بالرَّيْب ، أو دخل فيه ، وأَرَبْتُه أي : أوقعتَه في الرِّيْبَة . ونسبةُ الإِرابةِ إلى الشكِّ مجازٌ . وقال الزمخشري هنا : « إلاَّ أنَّ ههنا فُرَيْقاً : وهو أنَّ المُريبَ من المتعدِّي منقولٌ مِمَّن يَصِحُّ أَنْ يكونَ مُريباً ، من الأعيان ، إلى المعنى ، ومن اللازمِ منقولٌ من صاحبِ الشكِّ إلى الشَّكِّ ، كما تقول : شعرٌ شاعرٌ » وهي عبارةٌ حسنةٌ مفيدةٌ . وأين هذا مِنْ قولِ بعضِهم : « ويجوز أَنْ يكونَ أَرْدَفَه على الشَّكِّ ، ليتناسَقَ آخرُ الآية بالتي قبلَها مِنْ مكانٍ قريبٍ » . وقولُ ابنِ عطية : « المُريبُ أَقْوى ما يكون من الشكِّ وأشدِّه » . وقد تقدَّم تحقيقُ الرَّيْب أولَ البقرةِ وتشنيعُ الراغب على مَنْ يُفَسِّره بالشَّك .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { فَاطِرِ السماوات } : إنْ جَعَلْتَ إضافتَه مَحْضَةً كان نعتاً لله ، وإنْ جَعَلْتَها غيرَ محضةٍ كان بدلاً . وهو قليلٌ من حيث إنه مشتقٌّ . وهذه قراءةُ العامَّةِ : « فاطر » اسمَ فاعلٍ . والزهريُّ والضحَّاك « فَطَر » فعلاً ماضياً . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ أي : الذي فَطَر ، كذا قَدَّره أبو الفضل . ولا يَليق بمذهب البصريين؛ لأنَّ حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ لا يجوزُ . وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ مُسْتَوْفَى في البقرة . الثاني : أنه حال على إضمار « قد » قاله أبو الفضل أيضاً . الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو فَطَر . وقد حكى الزمخشري قراءةً تؤيِّد ما ذَهَبَ إليه الرازيُّ فقال : « وقُرِئَ الذي فَطَر وجعل » فصَرَّح بالموصولِ .
قوله : « جاعل » العامَّةُ أيضاً على جَرِّه نعتاً أو بدلاً . والحسن بالرفعِ والإِضافةِ ، وروي عن أبي عمروٍ كذلك ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّنْ ، ونَصَبَ « الملائكة » ، وذلك على حَذْفِ التنوينِ لالتقاء الساكنين ، كقولِه :
3758 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وابن يعمر وخليد بن مشيط « جَعَلَ » فعلاً ماضياً بعد قراءة « فاطر » بالجر ، وهذه كقراءةِ { فَالِقُ الإصباح ، وَجَعَلَ الليل } [ الأنعام : 96 ] . والحسن وحميد « رُسْلاً » بسكونِ السين ، وهي لغةُ تميم . وجاعل يجوز أَنْ يكونَ بمعنى مُصَيِّر أو بمعنى خالق . فعلى الأول يجري الخلاف : هل نَصْبُ الثاني باسم الفاعل ، أو بإضمار فعلٍ ، هذا إن اعْتُقِد أنَّ جاعلاً غيرُ ماضٍ ، أمَّا إذا كان ماضياً تَعَيَّن أن يَنتصبَ بإضمار فعلٍ . وقد حُقِّق ذلك في الأنعام . وعلى الثاني ينتصِبُ على الحالِ . و { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } صفةٌ ل « أجنحة » . و « أُوْلي » صفة ل « رُسُلاً » . وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في « مَثْنى » وأختيها في سورة النساء مستوفى . قال الشيخ : « وقيل : » أُوْلي أجنحة « معترضٌ و » مَثْنَى « حالٌ ، والعاملُ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه » رسلاً « أي : يُرْسَلون مَثْنى وثلاثَ ورباع » وهذا لا يُسَمَّى اعتراضاً لوجهين ، أحدهما : أنَّ « أُولي » صفةٌ ل « رُسُلاً » ، والصفةُ لا يُقال فيها معترضةٌ . والثاني : أنها لَيسَتْ حالاً من « رُسُلاً » بل من محذوفٍ فكيف يكون ما قبلَه معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في « رسلاً » لأنه مشتقٌّ لَسَهُلَ ذلك بعضَ شيءٍ ، ويكون الاعتراضُ بالصفةِ مَجازاً ، مِنْ حيث إنه فاضلٌ في السورة .
قوله : « يزيدُ » مستأنَفٌ . وما « يَشاء » هو المفعولُ الثاني للزيادة ، والأولُ لم يُقْصَدْ ، فهو محذوفٌ اقتصاراً ، لأنَّ ذِكْرَ قولِه : « في الخَلْق » يُغْني عنه .

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

قوله : { مِن رَّحْمَةٍ } : تبيينٌ أو حالٌ مِنْ اسمِ الشرطِ ، ولا يكون صفةً ل « ما »؛ لأنَّ اسمَ الشرط لا يُوْصَفُ . قال الزمخشري : « وتنكيرُ الرحمة للإِشاعةِ والإِبهامِ ، كأنه قيل : أيَّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضيَّةً » . قالَ الشيخ : « والعمومُ مفهومُ من اسمِ الشرطِ و » مِنْ رحمة « بيانٌ لذلك العامِّ من أي صنف هو ، وهو مِمَّا اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمعِ المعرَّفِ المطابِقِ في العمومِ لاسمِ الشرطِ ، وتقديرُه : مِنَ الرَّحَمات . و » من « في موضع الحال » . انتهى .
قوله : « وما يُمْسِكْ » يجوز أَنْ يكونَ على عمومه ، أي : أيَّ شيءٍ أَمْسَكه ، مِنْ رحمةٍ أو غيرِها . فعلى هذا التذكيرُ في قوله : / « له » ظاهرٌ؛ لأنه عائدٌ على ما يُمْسِك . ويجوزُ أَنْ يكونَ قد حُذِفَ المبيَّن من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه تقديرُه : وما يُمْسِكْ مِنْ رحمةٍ . فعلى هذا التذكيرُ في قولِه : « له » على لفظِ « ما » وفي قولِه أولاً { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } التأنيثُ فيه حُمِل على معنى « ما » ، لأنَّ المرادَ به الرحمةُ فحُمِل أولاً على المعنى ، وفي الثاني على اللفظِ . والفتحُ والإِمساكُ استعارةٌ حسنةٌ .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

قوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } : قرأ الأخَوان « غيرِ » بالجر نعتاً ل « خالقٍ » على اللفظِ . و « مِنْ خالق » مبتدأٌ مُزادٌ فيه « مِنْ » . وفي خبرِه قولان ، أحدُهما : هو الجملةُ مِنْ قوله : « يَرْزُقُكم » . والثاني : أنه محذوفٌ تقديرُه : لكم ونحوُه ، وفي « يَرْزُقكم » على هذا وجهان ، أحدهما : أنَّه صفةٌ أيضاً ل « خالق » فيجوزُ أن يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ اعتباراً باللفظ ، وبالرفعِ اعتباراً بالموضع . والثاني : أنه مستأنفٌ .
وقرأ الباقون بالرفع . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرُ المبتدأ . والثاني : أنه صفةٌ ل « خالق » على الموضعِ . والخبرُ : إمَّا محذوفٌ ، وإمَّا « يَرْزُقُكم » . والثالث : أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام . إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ « مِنْ » قال : « فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ » ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ . وعلى هذا الوجهِ ف « يَرْزُقُكم » : إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ . وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال : « لانتفاءِ صِدْقِ » خالق « على » غير الله « بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد ، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق » .
وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ « غيرَ » بالنصبِ على الاستثناء . والخبر « يَرزُقكم » أو محذوفٌ و « يَرْزُقكم » مستأنفٌ ، أو صفةٌ . وقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مستأنفٌ .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)

قوله : { الغرور } : العامَّةُ بالفتح ، وهو صفةُ مبالغةٍ كالصَّبورِ والشَّكورِ . وأبو السَّمَّال وأبو حيوةَ بضمِّها : إمَّا جمع غارّ كقاعِد وقُعود ، وإمَّا مصدرٌ كالجُلوس .

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

قوله : { الذين كَفَرُواْ } : يجوزُ رَفْعُه ونصبُه وجَرُّه . فرفعُه مِنْ وجهين ، أقواهما : أَنْ يكونَ مبتدأً . والجملةُ بعده خبرُه . والأحسنُ أَنْ يكونَ « لهم » هو الخبرَ ، و « عذابٌ » فاعلَه . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ واوِ « ليكونوا » . ونصبُه مِنْ أوجهٍ : البدلِ مِنْ « حزبَه » ، أو النعتِ له ، وإضمارِ فعلِ « أَذُمُّ » ونحوِه .
وجرُّه مِنْ وجهَين : النعتِ أو البدليةِ من « أصحابِ » . وأحسنُ الوجوهِ : الأولُ لمطابقةِ التقسيم . واللامُ في « ليكونوا » : إمَّا للعلَّةِ على المجازِ ، مِنْ إقامةِ المُسَبَّبِ مُقام السببِ ، وإمَّا للصيروة .

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

قوله : { أَفَمَن } : موصولٌ مبتدأٌ . وما بعدَه صلتُه ، والخبرُ محذوفٌ . فقدَّره الكسائيُّ { تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } لدلالةِ « فلا تَذْهَبْ » عليه . وقَدَّره الزجَّاجُ وأضلَّه اللَّهُ كمَنْ هداه . وقَدَّره غيرُهما : كمن لم يُزَيَّن له ، وهو أحسنُ لموافقتِه لفظاً ومعنىً . ونظيرُه : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ هود : 17 ] ، { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] .
والعامَّةُ على « زُيِّن » مبنياً للمفعولِ « سوءُ » رُفِعَ به . وعبيد بن عمير « زَيَّنَ » مبنياً للفاعلِ وهو اللَّهُ تعالى ، « سُوْءَ » نُصِبَ به . وعنه « أَسْوَأُ » بصيغةِ التفضيلِ منصوباً . وطلحة « أمَنْ » بغيرِ فاءٍ .
قال أبو الفضل : « الهمزةُ للاستخبارِ بمعنى العامَّةِ ، للتقرير . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى حرفِ النداء ، فَحَذَفَ التمامَ كما حَذَفَ مِن المشهورِ الجوابَ . يعني أنه يجوزُ في هذه القراءةِ أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداء ، وحُذِف التمامُ ، أي : ما نُوْدي لأَجْلِه ، كأنه قيل : يا مَنْ زُيِّن له سوءُ عملِه ارْجِعْ إلى الله وتُبْ إليه . وقوله : » كما حُذِفَ الجوابُ « يعني به خبرَ المبتدأ الذي تقدَّم تقريرُه .
قوله : » فلا تَذْهَبْ « العامَّة على فتح التاءِ والهاءِ مُسْنداً ل » نفسُك « مِنْ بابِ » لا أُبَيْنَّك ههنا « أي : لا تَتَعاطَ أسبابَ ذلك . وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهبُ بضمِّ التاء وكسرِ الهاء مُسْتداً لضميرِ المخاطب » نَفْسَك « مفعولٌ به .
قوله : » حَسَراتٍ « / فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه أي : لأجلِ الحَسَرات . والثاني : أنه في موضعِ الحالِ على المبالغةِ ، كأنَّ كلَّها صارَتْ حَسَراتٍ لفَرْطِ التحسُّرِ ، كما قال :
3759 مَشَقَ الهَواجِرُ لَحْمَهُنَّ مع السُّرى ... حتى ذَهَبْنَ كَلاكِلاً وصُدورا
يريد : رَجَعْنَ كَلاكِلاً وصدوراً ، أي : لم تَبْقَ إلاَّ كلاكلُها وصدورها كقولِه :
3760 فعلى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسي ... حَسَراتٍ وذكْرُهُمْ لي سَقامُ
وكَوْنُ كلاكِل وصدور حالاً قولُ سيبويه ، وجَعَلهما المبردُ تمييزَيْنِ منقولَيْنِ من الفاعلية .

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)

قوله : { فَتُثِيرُ } : عَطْفٌ على « أَرْسَلَ »؛ لأنَّ أَرْسَلَ بمعنى المستقبل ، فلذلك عَطَفَ عليه ، وأتى بأَرْسَلَ لتحقُّقِ وقوعِه و « تُثير » لتصوُّرِ الحالِ واستحضارِ الصورة البديعةِ كقوله : { أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] كقول تأَبَّط شرَّاً :
3761 ألا مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ فَهْمٍ ... بما لاقَيْتُ عند رَحا بِطانِ
بأنِّي قد لَقِيْتُ الغُوْلَ تَهْوِيْ ... بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ
فقلت لها : كِلانا نَضْوُ أرضٍ ... أخو سَفَرٍ فَخَلِّي لي مكانِي
فشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوي فأهْوَتْ ... لها كَفِّي بمَصْقولٍ يَمانِ
فأَضْرِبُها بلا دَهْشٍ فَخَرَّتْ ... صَريعاً لليدَيْن وللجِرانِ
حيث قال : فَأَضْرِبُها ليصَوِّرَ لقومِه حالَه وشجاعتَه وجرأتَه .
وقوله : « فَسُقْناه » و « أَحْيَيْنا » مَعْدولاً بهما عن لفظِ الغيبة إلى ما هو أَدْخَلُ في الاختصاصِ وأَدَلُّ عليه .
قوله : « كذلك النُّشورُ » مبتدأٌ ، وخبرُه مقدَّمٌ عليه ، والإِشارةُ إلى إحياءِ الأرضِ بالمطرِ ، والتشبيهُ واضحٌ بليغٌ .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ } : شرطٌ جوابُه مقدرٌ ، ويختلف تقديرُه باختلافِ التفسير في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } فقال مجاهد : « معناه مَنْ كان يريد العزَّةَ بعبادةِ الأوثان ، فيكونُ تقديرُه : فَلْيَطْلبها » . وقال قتادة : « مَنْ كان يريد العزَّة وطريقه القويم ويحب نيْلَها على وجهِها ، فيكون تقديره على هذا : فليطلبها » . وقال الفراء : « من كان يريد عِلمَ العزة ، فيكون التقدير : فليَنْسُبْ ذلك إلى الله تعالى » . وقيل : مَنْ كان يريد العزة التي لا تَعْقُبها ذِلَّةٌ ، فيكونُ التقديرُ : فهو لا يَنالُها . ودَلَّ على هذه الأجوبةِ قولُه : « فَلِلَّهِ العِزَّةُ » وإنما قيل : إن الجوابَ محذوفٌ ، وليس هو هذه الجملةَ لوجهين ، أحدهما : أنَّ العزَّةَ لله مطلقاً ، مِنْ غيرِ ترتُّبِها على شرطِ إرادةِ أحدٍ . الثاني : أنَّه لا بُدَّ في الجواب مِنْ ضميرٍ يعودُ على اسم الشرط ، إذا كان غيرَ ظرف ، ولم يُوْجَدْ هنا ضميرٌ . و « جميعاً » حالٌ ، والعاملُ فيها الاستقرارُ .
قوله : « إليه يَصْعَدُ » العامَّةُ على بنائِه للفاعل مِنْ « صَعِد » ثلاثياً ، « الكَلِمُ الطيِّبُ » برفعِهما فاعِلاً ونعتاً . وعلي وابن مسعود « يُصْعِدُ » مِنْ أَصْعَدَ ، « الكلمَ الطيبَ » منصوبان على المفعولِ والنعت . وقُرئ « يُصْعَدُ » مبنيَّاً للمفعول . وقال ابنُ عطية : « قرأ الضحَّاك » يُصْعد « بضم الياء » لكنه لم يُبَيِّن كونَه مبنيَّاً للفاعلِ أو للمفعول .
قوله : « والعملُ الصالحُ » العامَّةُ على الرفعِ . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه معطوفٌ على « الكلمُ الطيبُ » فيكون صاعداً أيضاً . و « يَرْفَعُه » على هذا استئنافُ إخبارٍ من اللَّهِ تعالى بأنه يرفعُهما ، وإنِّما وُحِّد الضميرُ ، وإنْ كان المرادُ الكَلِمَ والعملَ ذهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسمِ الإِشارة ، كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وقيل : لاشتراكِهما في صفةٍ واحدةٍ ، وهي الصعودُ . والثاني : أنه مبتدأٌ ، و « يرفَعُه » الخبرُ ، ولكن اختلفوا في فاعل « يَرْفَعُه » على ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ اللَّهِ تعالى أي : والعملُ الصالحُ يرفعه اللَّهُ إليه . والثاني : أنه ضميرُ العملِ الصالحِ . وضميرُ النصبِ على هذا فيه وجهان ، أحدُهما : أنه يعودُ على صاحب العمل ، أي يَرْفَعُ صاحبَه . والثاني : أنه ضميرُ الكلمِ الطيبِ أي : العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ . ونُقِلَ عن ابن عباس . إلاَّ أنَّ ابنَ عطية منع هذا عن ابن عباس ، وقال : « لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مَذْهَبَ أهلِ السنَّة أنَّ الكلمَ الطيبَ مقبولٌ ، وإنْ كان صاحبُه عاصياً » . والثالث : أنَّ ضميرَ الرفعِ للكَلِمِ ، والنصبِ للعملِ ، أي : الكَلِمُ يَرْفَعُ العملَ .
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بنصبِ « العمل الصالح » على الاشتغالِ ، والضميرُ المرفوعُ للكلم أو للَّهِ تعالى ، والمنصوبُ للعملِ .

قوله : « يَمْكُرون السَّيِّئات » يمكرون أصلُه قاصِرٌ فعلى هذا ينتصِبُ « السيِّئاتِ » على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي : المَكَراتِ/ السيئاتِ ، أو نعتٍ لمضافٍ إلى المصدر أي : أصناف المَكَراتِ السيئاتِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « يَمْكُرون » مضمَّناً معنى يَكْسِبُون « فينتصِبُ » السيئاتِ « مفعولاً به .
قوله : » هو يَبُوْرُ « » هو « مبتدأٌ و » يبورُ « خبرُه . والجملةُ خبرُ قولِه : » ومَكْرُ أولئك « . وجَوَّزَ الحوفيُّ وأبو البقاء أَنْ يكونَ » هو « فَصْلاً بين المبتدأ وخبرِه . وهذا مردودٌ : بأنَّ الفَصْلَ لا يقعُ قبل الخبرِ إذا كان فعلاً ، إلاَّ أن الجرجاني جَوَّز ذلك . وجَوَّز أبو البقاء أيضاً أَنْ يكونَ » هو « تأكيداً . وهذا مَرْدودٌ بأنَّ المضمرَ لا يُؤَكِّدُ الظاهرَ .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

قوله : { مِنْ أنثى } : « مِنْ » مزيدةٌ في « أُنْثى » وكذلك في « مِنْ مُعَمَّر » إلاَّ أنَّ الأولَ فاعلٌ ، وهذا مفعولٌ قام مَقامَه و « إلاَّ بعِلْمِه » حالٌ . أي : إلاَّ ملتبسةً بعلمه .
قوله : « مِنْ عُمُرِه » في هذا الضميرِ قولان ، أحدهما : أنه يعودُ على مُعَمَّرٍ آخرَ؛ لأنَّ المرادَ بقوله : « مِنْ مُعَمَّر » الجنسُ فهو يعودُ عليه لفظاً ، لا معنى ، لأنه بعدَ أَنْ فَرَضَ كونَه معمَّراً ، استحال أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عمرِه نفسِه ، كقول الشاعر :
3762 وكلُّ أناسٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهم ... ونحن خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ
ومنه « عندي درهمٌ ونصفُه » أي : ونصفُ درهمٍ آخرَ . الثاني : أنه يعودُ على « مُعَمَّر » لفظاً . ومعنى ذلك : أنه إذا مضى مِنْ عُمُره حَوْلٌ أُحْصِيَ وكُتِبَ ، ثم حَوْلٌ آخرُ كذلك ، فهذا هو النَّقْصُ . وإليه ذهب ابنُ عباس وابن جبير وأبو مالك . ومنه قولُ الشاعرِ :
3763 حياتُك أَنْفاسٌ تُعَدُّ فكلَّما ... مضى نَفَسٌ منكَ انْتَقَصْتَ به جُزْءا
وقرأ يعقوبُ وسلام - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - « ولا يَنْقُصُ » مبنياً للفاعلِ . وقرأ الحسن « مِنْ عُمْره » بسكون الميم .

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

قوله : { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأً وخبراً . والجملةُ خبرٌ ثانٍ ، وأَنْ يكونَ « سائغٌ » خبراً ، وشرابُه فاعلاً به ، لأنه اعتمد . وقرأ عيسى - وتُرْوى عن أبي عمروٍ وعاصمٍ - « سَيِّغٌ » مثلُ سَيِّد ومَيِّت . وعن عيسى بتخفيف يائِه ، كما يُخَفَّف هَيْن ومَيْت .
وقرأ طلحةُ وأبو نهيك « مَلِحٌ » بفتح الميمِ وكسرِ اللام . فقيل : هو مقصورٌ مِنْ مالِح ، ومالِحٌ لُغَيَّةٌ شاذةٌ . وقيل : « مَلِحٌ » بالفتحِ والكسرِ لغةٌ في « مِلْحٌ » بالكسرِ والسكون .

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)

قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } : « ذلكمْ » مبتدأٌ و « اللَّهُ » خبرُه ، و « ربُّكم » خبرٌ ثانٍ أو نعتٌ لله . وقال الزمخشري : « ويجوز في حكم الإِعرابِ إيقاعُ اسمِ الله صفةً لاسمِ الإِشارةِ ، أو عطفَ بيانٍ ، و » رَبُّكم « خبرٌ ، لولا أنَّ المعنَى يَأْباه » . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ لا جنس فلا يُوْصَفُ به . ورَدَّ قولَه : « إن المعنى يَأْباه » قال : « لأنه يكونُ قد أَخْبر عن المشارِ إليه بتلك الصفاتِ والأفعالِ أنَّه مالِكُكُمْ ومُصْلِحُكم » .
قوله : « والذين تَدْعُوْن » العامَّةُ على الخطاب في « تَدْعُون » لقوله : « ربُّكم » . وعيسى وسلام ويعقوب - وتُرْوى عن أبي عمرٍو - بياءِ الغَيْبة : إمَّا على الالتفاتِ ، وإمَّا على الانتقال إلى الإِخبارِ . والفرقُ بينهما : أنه في الالتفاتِ يكون المرادُ بالضميرَيْن واحداً بخلافِ الثاني؛ فإنهما غَيْران . و « ما يَمْلِكون » هو خبرُ الموصولِ . و « مِنْ قِطْمير » مفعولٌ به ، و « مِنْ » فيه مزيدةٌ .
والقِطْميرُ : المشهورُ فيه أنَّه لُفافَةُ النَّواةِ . وهو مَثَلٌ في القِلَّة ، كقوله :
3764 وأبوكَ يَخْصِفُ نَعْلَه مُتَوَرِّكاً ... ما يَمْلك المِسْكينُ مِنْ قِطْميرِ
وقيل : هو القُمْعُ . وقيل : ما بين القُمْعِ والنَّواةِ . وقد تقدَّم أنَّ في النَّواةِ أربعةَ أشياءَ يُضْرَبُ بها المَثَلُ في القِلَّة : الفَتِيلُ ، وهو ما في شِقِّ النَّواةِ ، والقِطْميرُ : وهو اللُّفافَةُ ، والنَّقِيْرُ ، وهو ما في ظهرها ، والثُّفْروقُ ، وهو ما بين القُمْع والنَّواة .

إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

قوله : { بِشِرْكِكُمْ } : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

قوله : { وَازِرَةٌ } : أي : نفسٌ وازِرَةٌ ، فحذف الموصوفَ للعِلْم [ به ] . ومعنى تَزِرُ : تَحْمِلُ أي : لا تحملُ نَفْسٌ حامِلَةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى .
قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفسٌ مُثْقَلَةٌ بالذنوب نفساً إلى حِمْلِها . فحذف المفعولَ به للعِلْم به . والعامَّةُ « لا يُحْمَلُ » مبنياً للمفعولِ و « شيءٌ » قائمٌ مَقامَ فاعلِه . وأبو السَّمَّال وطلحة - وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الميم . أَسْنَدَ الفعلَ إلى ضميرِ النفسِ المحذوفةِ التي جعلها مفعولةً ل « تَدْعُ » أي : لا تَحْمِل تلكَ النفسُ المدعوَّةُ . « شيئاً » مفعولٌ ب « لا تَحْمِل » .
قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } [ أي : ] ولو كان المَدْعُوُّ ذا قُرْبى . وقيل : التقديرُ : ولو كان الداعِي ذا قُرْبى . والمعنيان حسنان . وقُرِئ « ذو » بالرفعِ ، على أنها التامَّةُ أي : ولو حَضَرَ/ ذو قُرْبى نحو : « قد كان مِنْ مطْر » ، { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] . قال الزمخشري : « ونَظْمُ الكلامِ أحسن ملاءَمةً للناقصةِ؛ لأنَّ المعنى : على أنَّ المُثْقَلَةَ إذا دَعَتْ أحداً إلى حِمْلِها لا يُحْمَلُ منه شيءٌ ، ولو كان مَدْعُوُّها ذا قُرْبى ، وهو مُلْتَئِمٌ . ولو قلت : ولو وُجِد ذو قُرْبى لخَرَج عن التئامِه » . قال الشيخ : « وهو ملْتَئِمٌ على المعنى الذي ذكَرْناه » . قلت : والذي قاله هو « أي : ولو حَضَرَ إذ ذاك ذُو قربى » ثم قال : « وتفسيرُ الزمخشريِّ » كان « - وهو مبنيٌّ للفاعل » يُوْجَدُ « وهو مبنيٌّ للمفعول - تفسيرُ معنى ، والذي يفسِّر النحويُّ به » كان « التامَّةَ هو حَدَث وحَضَر ووقَعَ » .
قوله : بالغَيْب « حالٌ من الفاعل أي : يَخْشَوْنه غائبين عنه ، أو من المفعول أي : غائباً عنهم .
قوله : » ومَنْ تَزَكَّى « قرأ العامَّةُ » تَزَكَّى « تَفَعَّل ، » فإنما يَتَزَكَّى « يتفعَّل . وعن أبي عمروٍ » ومَنْ يَزَّكِّى « » فإنما يَزَّكَّى « والأصلُ فيهما : يَتَزَكَّى فأُدْغِمَتْ التاءُ في الزايِ كما أُدْغِمت في الذال نحو : » يَذَّكَّرون « في » يتذكَّرون « وابنُ مَسْعود وطلحة » ومَنْ ازَّكَّى « والأصلُ : تَزَكَّى فَأُدْغِمَ باجتلابِ همزةِ الوصلِ ، » فإنما يَزَّكَّى « أصلُه يَتَزَكَّى فأُدْغِمَ ، كأبي عمروٍ في غيرِ المشهورِ عنه .

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } : استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت : « استوى زيدٌ » لم يَصِحَّ ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه .
و « لا » في قوله : « ولا الظلماتُ » إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ . وقال ابنُ عطية : « دخولُ » لا « إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ ، كأنه قال : ولا الظلماتُ والنورُ ، ولا النورُ والظلماتُ ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني ، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه » . قال الشيخ : « وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً » وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال : « فدخولُ » لا « في النفيِ لتأكيدِ معناه ، كقوله : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } [ فصلت : 34 ] . قلت : وللناسِ في هذه الآيةِ قولان ، أحدهما : ما ذُكِر . الثاني : أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ ، وكذلك » السيئة « فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ ، وكذلك السَّيئاتُ ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى . فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا : وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر ، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه . ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } حيث لم يُكرِّرْها . وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة .
والحَرُوْرُ : شدةُ حَرِّ الشمس . وقال الزمخشري : » الحَرورُ السَّمُوم ، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ ، والحَرورَ فيه وفي الليل « . قلت : وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه . وقيل : السَّمومُ بالنهار ، والحَرورُ بالليل خاصةً ، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ . وقال : » ليس بصحيحٍ ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ « . وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه » وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء « بالتأنيث على معنى الجماعة .
وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ ، فالأعمى والبصيرُ ، الكافرُ والمؤمنُ ، والظلماتُ والنورُ ، الكفرُ والإِيمان ، والظلُّ والحَرورُ ، الحقُّ والباطلُ ، والأحياء والأمواتُ ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه ، فالكافرُ في ظلمةٍ ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به ، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره ، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه ، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور ، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم .

وقولي « لأجلِ الفاصلةِ » هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك . وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء } مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ « لا » تأكيداً في قولِه : « الأَعمى والبصير » وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى ، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ ، والظلماتِ والنور ، فإنها متنافيةٌ أبداً ، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ .
فإنْ قيل : الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت . فالجواب : أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت ، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً ، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد .
وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة ، وبين هذا الفردِ الواحد . والمعنى : الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل . وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال : إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى ، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً ، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ ، أم الفردَ بالفرد .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)

قوله : { بالحق } : يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه حالٌ من الفاعلِ أي : أَرْسلناك مُحِقِّين ، أو من المفعولِ أي : مُحِقًّا ، أو نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : إرسالاً مُلْتَبِساً بالحق ، أو متعلقٌ ب بشير ونذير . قال الزمخشري : « على : بشيراً بالوعدِ الحقِّ ، ونذيراً بالوعيد الحق » قال الشيخ : « ولا يمكن أَنْ يتعلَّقَ » بالحق « هذا ب » بشير ونذير « معاً ، بل ينبغي أَنْ يُتَأوَّل كلامُه على أنه أراد أنَّ ثَمَّ محذوفاً . والتقدير : بشيراً بالوعد الحق ، ونذيراً بالوعيد الحق » . قلت : وقد صرَّحَ الرجلُ بهذا .
قوله : { إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } خبر « مِنْ أمةٍ » وحَذَفَ مِنْ هذا ما أثبته في الأول؛ إذ التقديرُ : إلاَّ خَلا فيها نذيرٌ وبشير .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)

قوله : { فَأَخْرَجْنَا } : هذا التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلم . وإنما كان ذلك لأنَّ المِنَّةَ بالإِخراج أبلغُ من إنزال الماءِ . و « مختلفاً » نعتٌ ل « ثمرات » ، و « ألوانُها » فاعلٌ به ، ولولا ذلك لأنَّث « مختلفاً » ، ولكنه لمَّا أُسْند إلى جمعِ تكسيرٍ غيرِ عاقلٍ جاز تذكيرُه ، ولو أنَّثَ فقيل : مختلفة ، كما تقول : اختلفَتْ ألوانُها لجازَ ، وبه قرأ زيد بن علي .
قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ ، جمعَ « جُدَّة » وهي الطريقةُ . قال ابن بحر : « قِطَعٌ ، مِنْ قولك : جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه » . وقال أبو الفضل : « هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها ، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه . وقرأ الزهري » جُدُد « بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة ، يقال : جديدة وجُدُد وجَدائد . قال أبو ذُؤيب :
3765 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ
نحو : سفينة وسُفُن وسفائِن . وقال أبو الفضل : » جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان « . وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما . وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى ، وقد صَحَّحهما غيرُه . وقال : الجَدَدُ : الطريق الواضح البيِّن ، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ .
قوله : » مختلِفٌ ألوانُها « » مختلف « صفةٌ ل » جُدَد « أيضاً . و » ألوانُها « فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره . ولا جائزٌ أَنْ يكونَ » مختلفٌ « خبراً مقدماً ، و » ألوانُها « مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال : مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ . وقوله : / » ألوانُها « يحتمل معنيين ، أحدهما : أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ ، وكذلك الحمرةُ ، فلذلك جَمَع » ألوانها « فيكونُ من باب المُشَكَّل . الثاني : أن الجُدَدَ كلَّها على لونين : بياضٍ وحُمْرَةٍ ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما .
وقوله : » وغَرابيبُ سُوْدٌ « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على » حمرٌ « عَطْفَ ذي لون على ذي لون . الثاني : أنه معطوفٌ على » بِيضٌ « . الثالث : أنه معطوفٌ على » جُدَدٌ « . قال الزمخشري : » معطوف على « بيض » أو على « جُدَد » ، كأنه قيل : ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد ، ومنها ما هو على لونٍ واحد « ثم قال : » ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } بمعنى : ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ ، حتى يَؤُول إلى قولِك : ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها ، كما قال : { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } .

ولم يذكُرْ بعد « غرابيب سود » « مختلفٌ ألوانُها » كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم « .
وغرابيب : جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق ، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير ، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها ، وأنشدوا :
3766 والمُؤْمِن العائذاتِ الطير . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : والمؤمنِ الطيرَ العائذات ، وقولَ الآخر :
3767 وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً ... يريد : وبالعمر الطويل . والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها . وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه ، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ . قال الزمخشري : » الغِرْبيبُ : تأكيدٌ للأَسْوَدِ ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك : أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ . ووجهه : أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه ، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله :
والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ . . . . . . . . . . . . . . . ... وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار « يعني فيكونُ الأصلُ : وسودٌ غرابيبُ سودٌ ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ . قال الشيخ : » وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد . ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك « . قلت : ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف . ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً ، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا : وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو : نعجةٌ واحدةٌ ، وإلهين اثنين ، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده ، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي ، ومذهب سيبويه جوازُه ، أجاز » مررت بأخويك أنفسُهما ( أنفسَهما ) « بالنصب أو الرفع ، على تقدير : أَعْنيهما أنفسَهما ، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد » غَرابيب « ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ ، لا في المفرداتِ ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ : سود غرابيب سود .

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

قوله : { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } : مختلفٌ نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو مبتدأ ، والجارُّ قبلَه خبرُه ، أي : من الناس صِنْفٌ أو نوعٌ مختلفٌ؛ وكذلك عملُ اسمِ الفاعلِ كقولِ الشاعر :
3768- كناطِحٍ صَخْرَةً يوماً لِيَفْلِقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ ابن السَّميفع « ألوانُها » وهو ظاهرٌ . وقرأ الزهري « والدوابُ » خفيفةَ الباءِ فِراراً مِنْ التقاء الساكنين ، كما حُرِّك أولُهما في « الضألِّين » و « جأنّ » .
قوله : « كذلك » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلِّقٌ بما قبله أي : مختلفٌ اختلافاً مثلَ الاختلافِ في الثمرات والجُدَدِ . والوقفُ على « كذلك » . والثاني : أنه متعلِّقٌ بما بعده ، والمعنى : مثلَ ذلك/ المطرِ والاعتبارِ في مخلوقات الله تعالى واختلافِ ألوانِها يَخْشَى اللَّهَ العلماءُ . وإلى هذا نحا ابن عطية وهو فاسدٌ من حيث إنَّ ما بعد « إنَّما » مانِعٌ من العمل فيما قبلها ، وقد نَصَّ أبو عُمر الداني على أنَّ الوقفَ على « كذلك » تامٌّ ، ولم يَحْكِ فيه خِلافاً .
قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله } العامَّةُ على نصب الجلالة ورفع « العلماءُ » وهي واضحةٌ . وقرأ عمرُ بن عبد العزيز وأبو حنيفةَ فيما نقل الزمخشريُّ وأبو حيوةَ - فيما نَقَلَ الهذليُّ في كامله - بالعكس ، وتُؤُوِّلت على معنى التعظيم ، أي : إنما يُعَظِّمُ اللَّهُ مِنْ عبادِه العلماءَ . وهذه القراءة شبيهةٌ بقراءة { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } [ البقرة : 124 ] برفع « إبراهيم » ونصب « رَبَّه » وقد تقدَّمَتْ .

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)

قوله : { إِنَّ الذين يَتْلُونَ } : في خبر « إنَّ » وجهان ، أحدهما : الجملةُ مِنْ قولِه « يَرْجُون » أي : إنَّ التالِين يَرْجُون و « لن تبورَ » صفةُ « تجارةً » و « لِيُوَفِّيَهُمْ » متعلقٌ ب « يَرْجُون » أو ب « تَبُور » أو بمحذوفٍ أي : فعلوا ذلك ليوفِّيهم ، وعلى الوجهين الأوَّلَيْن يجوزُ أَنْ تكونَ لام العاقبة . الثاني : أن الخبرَ { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } جَوَّزه الزمخشري على حَذْفِ العائدِ أي : غفورٌ لهم . وعلى هذا ف « يَرْجُون » حالٌ مِنْ « أنْفَقُوا » أي : أَنْفَقوا ذلك راجين .

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)

قوله : { مِنَ الكتاب } : يجوزُ أَنْ تكونَ « مِنْ » للبيان ، وأن تكونَ للجنسِ ، وأَنْ تكونَ للتبعيضِ ، و « هو » فصلٌ أو مبتدأٌ و « مُصَدِّقاً » حالٌ مؤكدة .

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

قوله : { الكتاب الذين اصطفينا } : مفعولا « أَوْرَثْنا » . و « الكتابَ » هو الثاني قُدِّمَ لشَرفِه ، إذ لا لَبْسَ .
قوله : « من عبادِنا » يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ على معنى : أنَّ المصطفَيْن هم عبادُنا ، وأن تكونَ للتبعيضِ ، أي : إن المصطفَيْن بعضُ عبادِنا لا كلُّهم . وقرأ أبو عمران الجوني ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ « سَبَّاق » مثالَ مبالغةٍ .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)

قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً ، والجملةُ بعدها الخبرُ ، وأن يكونَ بدلاً مِن « الفضلُ » قاله الزمخشري وابنُ عطية . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ اعترض وأجاب فقال : « فإن قلتَ : كيف جَعَلْتَ قوله : » جنات عدنٍ « بدلاً من » الفضل « الذي هو السَّبْقُ بالخيرات المشارُ إليه ب » ذلك «؟ قلت : لَمَّا كان السببَ في نيل الثواب نُزِّل منزلةَ المُسَبَّب ، كأنه هو الثواب ، فَأَبْدَل عنه » جناتُ عدن « .
وقرأ رزين والزهري » جَنَّةُ « مفرداً . والجحدري » جناتِ « بالنصب على الاشتغال ، وهي تؤيِّدُ رَفْعَها بالابتداء . وجوَّز أبو البقاء أن يكونَ » جناتُ « بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإِشارة ، وأن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ . وتقدَّمت قراءةُ » يَدْخُلونها « مبنياً للفاعل أو المفعول وباقي الآية في الحج .

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)

قوله : { الحزن } : العامَّةُ بفتحتَيْن . وجناح ابن حبيش بضم وسكون . وتقدَّم معنى ذلك أولَ القصص .

الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

قوله : { دَارَ المقامة } : مفعولٌ ثانٍ ل « أَحَلَّنا » ولا يكونُ ظرفاً لأنه مختصٌّ فلو كان ظرفاً لتعدَّى إليه الفعلُ ب في . والمُقامةُ : الإِقامة . « من فضلِه » متعلقٌ ب « أحَلَّنا » و « مِنْ » : إمَّا للعلةِ ، وإمَّا لابتداءِ الغاية .
قوله : « لا يَمَسُّنا » حالٌ مِنْ مفعولِ « أَحَلَّنا » الأول أو الثاني؛ لأن الجملةَ مشتملةٌ على ضميرِ كل منهما ، وإن كان الحالُ من الأول أظهرَ . والنَّصَبُ : التعبُ والمشقةُ . واللُّغوبُ : الفتورُ الناشئُ عنه ، وعلى هذا فيقال : إذا انتفى السببُ نُفِي المُسَبَّب يقال : « لم آكُلْ » فيُعلمُ انتفاءُ الشِّبع ، فلا حاجةَ إلى قولِه ثانياً : « فلم أشبَعْ » بخلاف العكسِ ، ألا ترى أنه يجوز : لم أشبع ولم آكل ، والآية الكريمة على ما قررتُ مِن نفي السبب ثم نفي المسبب فأي فائدة في ذلك؟ وقد أجيب بأنه بيَّن مخالفةَ الجنة لدار الدنيا؛ فإنَّ أماكنَها على قسمين : موضعٍ تَمَسُّ فيه المشاق كالبراري ، وموضعٍ يَمَسُّ فيه الإِعياءُ كالبيوتِ والمنازل التي فيها الأسفارُ . فَقيل : لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ لأنها ليست مَظانَّ المتاعبِ كدارِ الدنيا ، ولا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ أي : ولا نَخْرُج منها إلى مواضعَ نَتْعَبُ ونَرْجِعُ إليها فيمسُّنا فيها الإِعياء . وهذا الجوابُ ليس بذلك ، والذي يقال : إن النَّصَب هو تعبُ البدنِ واللُّغوبُ تعبُ النفسِ . وقيل : اللغوبُ الوَجَعُ وعلى هذين فلا يَرِدُ السؤالُ المتقدِّمُ .
وقرأ عليٌّ والسُّلميُّ بفتح لام « لَغُوْب » وفيه أوجه ، أحدها : أنَّه مصدرٌ على فَعُوْل كالقَبول . / والثاني : أنه اسمٌ لِما يُلْغَبُ به كالفَطور والسَّحور . قاله الفراء . الثالث : أنه صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ أي : لا يَمَسُّنا لُغوبٌ لَغوبٌ نحو : شعرٌ شاعرٌ ومَوْتٌ مائتٌ . وقيل : صفةٌ لشيءٍ غيرِ مصدرٍ أي : أمرٌ لَغوبٌ .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)

قوله : { فَيَمُوتُواْ } : العامَّةُ على نصبِه بحذفِ النونِ جواباً للنفي . وهو على أحدِ معنَييْ نَصْبِ « ما تأتينا فتحدِّثَنا » ، أي : ما يكون منك إتيانٌ فلا حديثٌ ، انتفى السببُ وهو الإِتيانُ ، فانتفى مُسَبَّبُه وهو الحديثُ . والمعنى الثاني : إثباتُ الإِتيانِ ونفيُ الحديثِ أي : ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ مُحَدِّثٍ . وهذا لا يجوزُ في الآيةِ البتةَ .
وقرأ عيسى والحسن « فيموتون » بإثباتِ النونِ . قال ابنُ عطية : « هي ضعيفةٌ » . قلت : وقد وَجَّهها المازنيُّ على العطفِ على { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ } فلا يموتون . وهو أحدُ الوجهين في معنى الرفعِ في قولك : « ما تأتينا فتحدِّثنا » أي : انتفاءُ الأمرَيْن معاً ، كقولِه : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، أي : فلا يعتذرون . و « عليهم » قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، وكذلك « عنهم » بعد « يُخَفَّفُ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ « من عذابها » و « عنهم » منصوبُ المحلِّ . ويجوز أَنْ تكونَ « مِنْ » مزيدةً عند الأخفش ، فَتَعيَّن لقيامِه مَقامَ الفاعلِ لأنه هو المفعولُ به .
وقرأ أبو عمرٍو في رواية « ولا يُخَفَّفْ » بسكون الفاء ، شبَّه المنفصل بِ « عَضْد » كقوله :
3769 فاليومَ أشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : « كذلك » إمَّا مرفوعُ المحل أي : الأمرُ كذلك ، وإمَّا منصوبُه أي : مثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي . وقرأ أبو عمرٍو « يُجْزَى » مبنيَّاً للمفعول ، « كلُّ » رفعٌ به . والباقون « نَجْزي » بنونِ العظمة مبنيَّاً للفاعل ، « كلَّ » مفعول به .

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

قوله : { رَبَّنَآ } : على إضمارِ القولِ ، وذلك القولُ إنْ شئْتَ قَدَّرْتَه فعلاً مُفَسِّراً ل « يَصْطَرِخون » أي : يقولون في صُراخِهم : ربَّنا أَخْرِجْنا ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه حالاً مِنْ فاعل « يَصْطَرخون » أي : قائلين ربَّنا . ويَصْطَرخون : يَفْتَعِلون مِن الصُّراخ وهو شدَّةُ رَفْعِ الصوتِ فأُبْدِلت التاءُ صاداً لوقوعِها قبلَ الطاء .
قوله : { صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } يجوزُ أَنْ يكونا بمعنى مصدرٍ محذوفٍ أي : عملاً صالحاً غيرَ الذي كنا نعملُ ، وأَنْ يكونا بمعنى مفعولٍ به محذوفٍ أي : نعمل شيئاً صالحاً غيرَ الذي كنَّا نعملُ ، وأَنْ يكونَ « صالحاً » نعتاً لمصدرٍ ، و { غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } هو المفعولُ به . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : فهَلاَّ اكْتُفي ب » صالحاً « كما اكْتُفِي به في قولِه : { فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً } [ السجدة : 12 ] ، وما فائدةُ زيادةِ { غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } على أنه يُوْهِمُ أنهم يعملون صالحاً آخرَ غيرَ الصالحِ الذي عملوه؟ قلت : فائدتُه زيادةُ التحسُّر على ما عَمِلوه من غيرِ الصالح مع الاعترافِ به . وأمَّا الوهمُ فزائلٌ بظهورِ حالهم في الكفرِ وظهورِ المعاصي ، ولأنَّهم كانوا يَحْسَبُون أنهم على سيرةٍ صالحةٍ ، كما قال تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] فقالوا : أَخْرِجْنا نعمَلْ صالحاً غيرَ الذي كُنَّا نَحْسَبُه صالحاً فنعملُه » .
قوله : « ما يَتَذكَّر » جوَّزوا في « ما » هذه ، وجهين ، أحدهما : - ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه - أنها مصدريةٌ ظرفية قال : أي مدةَ تَذَكُّرِ . وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ الضميرَ في « فيه » يمنعُ مِنْ ذلك لعَوْدِهِ على « ما » ، ولم يَقُلْ باسميَّةِ « ما » المصدريةِ إلاَّ الأخفشُ وابنُ السَّراج . الثاني : أنها نكرةٌ موصوفةٌ أي تعمُّراً يتذكر فيه ، أو زماناً يتذكَّر فيه . وقرأ الأعمشُ « ما يَذَّكَّرُ » بالإِدغام « مَنِ اذَّكَّر » . قال الشيخُ : « بالإِدغام واجتلابِ همزةِ الوصلِ ملفوظاً بها في الدَّرْج » . وهذا غريبٌ حيث أُثْبِتَتْ همزةُ الوصلِ مع الاستغناءِ عنها ، إلاَّ أَنْ يكونَ حافَظَ على سكون « مَنْ » وبيانِ ما بعدها .
قوله : « وجاءكم » عطفٌ على « أولم نُعَمِّرْكم » لأنَّه في معنى : قد عَمَّرْناكم ، كقولِه : { أَلَمْ نُرَبِّكَ } [ الشعراء : 18 ] ثم قال : { وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] ، { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [ الانشراح : 1 ] ثم قال { وَوَضَعْنَا } [ الانشراح : 2 ] إذ هما في معنى : رَبَّيْناك ، وشَرَحْنا .
قوله : « مِنْ نصير » يجوزُ أَنْ يكون فاعِلاً بالجارِّ لاعتمادِه ، وأنْ يكونَ مبتدأً مُخْبَراً عنه بالجارِّ قبلَه . وقُرِئ « النُّذُرُ » جمعاً .

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)

قوله : { عَالِمُ غَيْبِ } : العامَّةُ على الإِضافةِ تخفيفاً . وجناح بن حبيش بتنوين « عالمٌ » ونصب « غَيْبَ » .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)

قوله : { أَرَأَيْتُمْ } : فيها/ وجهان ، أحدهما : أنها ألفُ استفهامٍ على بابِها ، ولم تتضمَّنْ هذه الكلمةُ معنى أَخْبِروني ، بل هو استفهامٌ حقيقيٌّ . وقوله : « أَرُوْني » أمرُ تَعْجيزٍ . والثاني : أنَّ الاستفهامَ غيرُ مُرادٍ ، وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبروني . فعلى هذا تتعدَّى لاثنين ، أحدُهما : « شركاءَكم » ، والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه : « ماذا خَلَقوا » . و « أَرُوْني » يُحتمل أَنْ تكونَ جملةً اعتراضيةً . الثاني : أَنْ تكونَ المسألةُ مِنْ بابِ الإِعمالِ ، فإنَّ « أَرَأَيْتُمْ » يطلبُ « ماذا خَلَقُوا » مفعولاً ثانياً ، و « أَرُوْني » أيضاً يطلبُه مُعَلِّقاً له ، وتكونُ المسألةُ مِنْ بابِ إعمال الثاني على مختار البصريين ، و « أَروني » هنا بَصَرِيَّةٌ تعدَّتْ للثاني بهمزةِ النقلِ ، والبصَريةُ قبل النقلِ تُعَلَّقُ بالاستفهامِ كقولِهم : « أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا »؟ وقد تقدَّم الكلامُ على « أَرَأَيْتُمْ » هذه في الأنعامِ مشبعاً . وقال ابنُ عطية هنا : « إنَّ أرأيتُمْ يَتَنَزَّلُ عند سيبويهِ مَنْزِلةَ أَخْبروني؛ ولذلك لا يَحْتاج إلى مَفْعولين » . وهو غَلَطٌ بل يَحْتاجُ كما تقدَّم تقريرُه . وجَعَلَ الزمخشريُّ الجملةَ مِنْ قولِه : « أَرُوْني » بدلاً مِنْ قولِه « أَرَأَيْتُمْ » قال : « لأنَّ معنى أَرَأَيْتُمْ أَخْبروني » . وردَّه الشيخ : بأنَّ البدلَ مِمَّا دَخَلَتْ عليه أداةُ الاستفهامِ يَلْزَم إعادتُها في البدلِ ولم تُعَدْ هنا . وأيضاً فإبدالُ جملةٍ مِنْ جملةٍ لم يُعْهَدْ في لسانِهم .
قلت : والجوابُ عن الأولِ : أنَّ الاستفهامَ فيه غيرُ مرادٍ قطعاً فلم تَعُدْ أداتُه لعدمِ إرادتِه . وأمَّا قولُه : « لم يُوْجَد في لسانِهم » فقد وُجِدَ . ومنه :
3770 متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . [ وقولُه : ]
إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايِعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد نَصَّ النَّحْوِيون : على أنَّه متى كانت الجملةُ في معنى الأولِ ومُبَيِّنةً لها أُبْدِلَتْ منها .
قوله : { فَهُمْ على بَيِّنَةٍ } الضميرُ في « آتَيْناهم » و « فهم » الأحسنُ أَنْ يعودَ على الشركاء لتتناسَقَ الضمائرُ . وقيل : يعودُ على المشركين ، فيكونُ التفاتاً مِنْ خطابٍ إلى غَيْبة .
وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وابن كثير وحفصٌ « بَيِّنَةٍ » بالإِفراد . والباقون « بَيِّناتٍ » بالجمع . و « إنْ » في « إنْ يَعِدُ » نافيةٌ .

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)

قوله : { أَن تَزُولاَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله . أي : كراهةَ أَنْ تَزُولا . وقيل : لئلا تَزُولا . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً على إسقاطِ الخافِضِ أي : يمنَعُهما مِنْ أَنْ تَزُوْلا . كذا قَدَّره أبو إسحاق . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ أي : يمنعُ زوالَهما .
قوله : « إنْ أَمْسَكَهما » جوابُ القسمِ الموطَّأ له بلام القسمِ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدلُّ عليه جوابُ القسمِ ، ولذلك كانَ فعل الشرط ماضياً . وقولُ الزمخشري : إنه يَسُدُّ مَسَدَّ الجوابَيْن ، يعني أنه دالٌّ على جوابِ الشرطِ . قال الشيخ : « وإنْ أُخِذ كلامُه على ظاهرِه لم يَصِحَّ؛ لأنه لو سَدَّ مَسَدَّهما لكان له موضعٌ من الإِعرابِ ، من حيث إنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ الشرط ، ولا موضعَ له من حيث إنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم ، والشيءُ الواحدُ لا يكونُ معمولاً غيرَ معمولٍ » .
و « مِنْ أحدٍ » « مِنْ » مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراق . و « مِنْ بعدِه » : « مِنْ » لابتداءِ الغاية .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)

قوله : { لَّيَكُونُنَّ } : جوابٌ للقسمِ المقدَّرِ . والكلامُ فيه كما تقدَّم وقوله : « لَئِنْ جاءَهم » حكايةٌ لمعنى كلامِهم لا للفظِه ، إذ لو كان كذلك لكان التركيبُ : لَئِنْ جاءَنا لنَكونُنَّ .
قوله : { مِنْ إِحْدَى الأمم } أي : من الأمَّةِ التي يُقال فيها : هي إحدى الأمم ، تفضيلاً لها . كقولِهم : هو أحدُ الأَحَدَيْن . قال :
3772 حتى استثارُوا بيَ إحدى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدِيْ
قوله : « ما زادَهم » جوابُ « لَمَّا » . وفيه دليلٌ على أنها حرفٌ لا ظرفٌ؛ إذ لا يعملُ ما بعد « ما » النافيةِ فيما قبلها . وتقدَّمَتْ له نظائرُ . وإسنادُ الزيادةِ للنذير مجازٌ؛ لأنه سببٌ في ذلك ، كقولِه : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] .

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)

قوله : { استكبارا } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي : لأجل الاستكبارِ ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « نُفوراً » ، وأنْ يكونَ حالاً أي : حالَ كونِهم مُسْتكبرين . قاله الأخفش .
قوله : « ومَكْرَ السَّيِّئِ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على « استكباراً » . والثاني : أنه عطفٌ على « نُفوراً » وهذا مِنْ إضافة الموصوفِ إلى صفتِه في الأصلِ؛ إذ الأصلُ : والمكرَ السَّيِّئ . والبصريون يُؤَوِّلونه على حَذْفِ موصوفٍ/ أي : العمل السِّيِّئ .
وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ « السَّيِّئ » ، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً . وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها . قالوا : وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً ، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه . وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون : بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ . وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ . وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ « إلى بارِئْكم » بسكونِ الهمزةِ . فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا . وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها . ورُوِيَ عن ابنِ كثير « ومَكْرَ السَّأْيِ » بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ . وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي :
3773 ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ ... ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ
وقد كَثُر في قراءتِه القلبُ نحو « ضِئاء » و « تَاْيَسوا » و « لا يَاْيَسُ » كما تقدم تحقيقُه .
وقرأ عبد الله : « ومَكْراً سَيِّئاً » بالتنكيرِ ، وهو موافِقٌ لما قبلَه . وقُرِئ « ولا يُحيق » بضمِّ الياء ، « المكْرَ السَّيِّئَ » بالنصب على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الله تعالى أي : لا يُحيط اللَّهُ المكرَ السيِّئَ إلاَّ بأهله .
قوله : « سُنَّةَ الأوَّلِيْن » مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، و « سنةِ الله » مضافٌ لفاعلِه؛ لأنَّه تعالى سَنَّها بهم ، فصَحَّتْ إضافتُها إلى الفاعلِ والمفعولِ .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)

قوله : { وكانوا أَشَدَّ } : جملةٌ في موضع نصبٍ على الحال . ونظيرتُها في الروم « كانوا » بلا واوٍ على أنها مستأنفةٌ فالمَقْصَدان مختلفان .

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

قوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } : تقدَّم نظيرُها في النحل إلاَّ أنَّ هناك لم يَجْرِ للأرض ذِكْرٌ ، بل عاد الضميرُ على ما فُهِم من السِّياق وهنا قد صَرَّح بها في قوله : { فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } . وهنا « على ظهرها » استعارةً مِنْ ظَهْرِ الدابَّةِ دَلالةً على التمكُّنِ والتقلُّب عليها . والمَقامُ هنا يناسِبُ ذلك لأنَّه حَثٌّ على السَّيْرِ للنظر والاعتبار .

يس (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قرأ العامَّةُ « يَسِيْنْ » بسكونِ النونِ . وأظهر النونَ عند الواوِ بعدَها ابنُ كثير وأبو عمرٍو وحمزةُ وحفصٌ وقالونُ وورشٌ بخلافٍ عنه ، وكذلك النونُ مِنْ { ن والقلم } [ القلم : 1 ] وأدغمهما الباقون . فَمَنْ أَدْغَمَ فللخِفَّةِ ، ولأنَّه لَمَّا وَصَل والتقى متقاربان مِنْ كلمتين أوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ . ومَنْ أظهرَ فللمبالغةِ في تفكيكِ هذه الحروفِ بعضِها من بعض لأنه بنيَّةِ الوَقْفِ ، وهذا أَجْرى على القياسِ في الحروفِ المقَطَّعَةِ ولذلك التقى فيها الساكنان وَصْلاً ، ونَقَل إليها حركةَ همزةِ الوصلِ على رَأْيٍ نحو : { ألف لام ميم الله } كما تقدَّم تقريرُه .
وأمال الياءَ مِنْ « يس » الأخَوان وأبو بكر لأنها اسمٌ من الأسماءِ كما تقدَّم تقريرُه أولَ البقرةِ . قال الفارسيُّ : « وإذا أمالوا » يا « وهي حرفُ نداءٍ فلأَنْ يُميلوا » يا « مِنْ يس أجدرُ » .
وقرأ عيسى وابنُ أبي إسحاق بفتح النون : إمَّا على البناءِ على الفتح تخفيفاً كأَيْن وكيفَ ، وإمَّا على أنَّه مفعولٌ ب « اتْلُ » ، وإمَّا على أنَّه مجرورٌ بحرفِ القسمِ . وهو على الوجهَيْن غيرُ منصرفٍ للعلَميَّةِ والتأنيث . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً على إسقاطِ حرفِ القسمِ ، كقولِه :
3774 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الكلبي بضم النون . فقيل : على أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذه يس ، ومُنِعَتْ من الصرفِ لِما تقدَّم . وقيل : بل هي حركةُ بناءٍ ك حيث فيجوز أَنْ يكونَ خبراً كما تقدَّم ، وأَنْ يكونَ مُقْسَماً بها نحو : « عَهْدُ اللَّهِ لأفعلَنَّ » . وقيل : لأنها منادى فبُنِيَتْ على الضم؛ ولهذا فَسَّرها الكلبيُّ القارئُ لها ب « يا إنسانُ » قال : « وهي لغةُ طيِّئ » . قال الزمخشري : « إنْ صَحَّ معناه فوجهُه أن يكونَ أصلُه يا أُنَيْسِيْنُ فَكَثُر النداءُ به على ألسنتِهم ، حتى اقتصروا على شَطْرِه ، كما قالوا في القسم : مُ الله في » ايْمُنُ اللَّهِ « . قال الشيخ : » والذي نُقِل عن العرب في تصغير إنْسان : أُنَيْسِيان بياءٍ بعدها ألفٌ فدَلَّ على/ أنَّ أصلَه إنْسِيان؛ لأنَّ التصغيرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ، ولا نعلمُ أنَّهم قالوا في تصغيره : أُنَيْسِين . وعلى تقدير أنه يُصَغَّر كذلك فلا يجوزُ ذلك ، إلاَّ أَنْ يُبنى على الضمِّ؛ لأنه منادى مُقْبَلٌ عليه ومع ذلك فلا يجوزُ لأنه تحقيرٌ ، ويمتنعُ ذلك في حَقِّ النبوة « . قلت : أمَّا الاعتراضُ الأخيرُ فصحيحٌ نصُّوا على أنَّ التصغيرَ لا يَدْخُلُ في الأسماءِ المعظمةِ شَرْعاً . ولذلك يُحْكى أنَّ ابنَ قتيبةَ لمَّا قال في المُهَيْمن : إنَّه مصغرٌ مِنْ مُؤْمِن ، والأصل مُؤَيْمِن ، فأبْدِلَتِ الهمزةُ هاءً . قيل له : هذا يقرُبُ من الكفرِ فليتَّقِ اللَّهَ قائلُه . وقد تقدَّمَتْ هذه الحكايةُ في المائدةِ مطوَّلةً وما قيل فيها . وقد تقدَّم للزمخشريِّ في طه ما يَقْرُبُ من هذا البحثِ ، وتقدَّم للشيخِ معه كلامٌ .
واقرأ ابنُ أبي إسحاق أيضاً وأبو السَّمَّال » يَسنِ « بكسرِ النونِ ، وذلك على أصلِ التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ حركةَ إعرابٍ .

وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)

قوله : { والقرآن } : إمَّا قسمٌ مستأنفٌ ، إنْ لم يُجْعَلْ ما تقدَّم قَسَماً ، وإمَّا عَطْفٌ على ما قبلَه إنْ كانَ مُقْسَماً به . وقد تقدَّم كلامٌ عن الخليل في ذلك أولَ آياتِ البقرةِ فعليكَ باعتبارِه هنا ، فإنَّه حَسَنٌ جداً . وتقدَّم الكلامُ على « الحكيم » .

إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)

قوله : { إِنَّكَ } : جوابُ القسمِ و « على صِراط » يجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بالمرسَلين . تقول : أَرْسَلْتُ عليه كذا . قال تعالى : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] ، وأنْ يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في « لَمِنَ المُرْسَلين » لوقوعِه خبراً ، وأنْ يكونَ حالاً من المرسلين ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ل « إنَّك » .

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)

قوله : { تَنزِيلَ } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو تنزيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ إذا جَعَلْتَ يس اسماً للسورة أي : هذه السورة المسمَّاة ب يس تنزيلُ ، أو هذه الأحرفُ المقطعةُ تنزيلُ . والجملةُ القسميةُ على هذا اعتراضٌ . والباقون بالنصبِ على المصدرِ ، أو على المدح . وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداءٍ مضمر . وتنزيل مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . وقيل : هو بمعنى مُنْزَل . وقرأ أبو حيوة واليزيديُّ وأبو جعفر وشيبة « تنزيلِ » بالجرِّ على النعتِ للقرآنِ أو البدلِ منه .

لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)

قوله : { لِتُنذِرَ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِ تنزيل أو بمعنى المرسلين ، يعني بإضمارِ فِعْل يَدُلُّ عليه هذا اللفظُ أي : أَرْسَلْناك لتنذِرَ .
قوله : { مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » هذه بمعنى الذي ، وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً . والعائدُ على الوجهين مقدَّرٌ أي : ما أُنْذِرَه آباؤهم فتكونُ « ما » وصلتُها أو وَصْفُها في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لقولِه : « لتُنْذِرَ » كقولِه : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً } [ النبأ : 40 ] والتقدير : لتنذرَ قوماً الذي أُنْذِرَه آباؤهم مِن العذابِ ، أو لتنذرَ قوماً عذاباً أُنْذِرَه آباؤهم . ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أي : إنذارَ آبائهم أي : مثلَه . ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً ، وتكونُ الجملةُ المنفيةُ صفةً ل « قوماً » أي : قوماً غيرَ مُنْذَرٍ آباؤهم . ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً أي : قوماً أُنْذِر آباؤهم ، والجملةُ المثبتةُ أيضاً صفةٌ ل « قوماً » قاله أبو البقاء وهو مُنافٍ للوجهِ الذي قبلَه .

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)

قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } : في هذا الضميرِ وجهان ، أحدهما : - وهو المشهورُ - أنه عائدٌ على الأَغْلال ، لأنها هي المُحَدَّثُ عنها ، ومعنى هذا الترتيبِ بالفاءِ : أن الغِلَّ لغِلَظِه وعَرْضِه يَصِلُ إلى الذَّقَنِ لأنه يَلْبَسُ العُنُقَ جميعَه . الثاني : أن الضميرَ يعودُ على الأَيدي؛ لأنَّ الغِلَّ لا يكونُ إلاَّ في العُنُقِ واليدين ، ولذلك سُمِّي جامِعَةً . ودَلَّ على الأيدي هذه الملازَمَةُ المفهومةُ من هذه الآلةِ أعني الغِلَّ . وإليه ذهب الطبري . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : « جعل الإِقْماحَ نتيجةَ قولِه : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التَّسَبُّبِ في الإِقماحِ ظاهراً . على أنَّ هذا الإِضمارَ فيه ضَرْبٌ من التعسُّفِ وتَرْكِ الظاهر » . /
وللناس في هذا الكلامِ قولان ، أحدهما : أنَّ جَعْلَ الأغلالِ حقيقةٌ . والثاني : أنه استعارةٌ . وعلى كلٍّ من القولين جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين . وقال الزمخشري : « مَثَّل تصميمَهم على الكفر ، وأنه لا سبيلَ إلى ارْعوائِهم بأنْ جَعَلَهم كالمَغْلُوْلِين المُقْمَحِيْن في أنهم لا يَلْتَفِتون إلى الحق ولا يَعْطِفُون أعناقَهم نحوَه ، ولا يُطَأْطِئُون رؤوسَهم له وكالحاصلين بين سَدَّيْن لا يُبْصِرون ما قُدَّامَهم وما خَلْفَهم في أَنْ لا تأمُّلَ لهم ولا تَبَصُّرَ ، وأنهم مُتَعامُوْن عن آياتِ الله » . وقال غيره : « هذه استعارةٌ لمَنْعِ اللَّهِ إياهم مِن الإِيمانِ وحَوْلِه بينَهم وبينه » . قال ابن عطية : « وهذا أَرْجَحُ الأقوالِ؛ لأنه تعالى لَمَّا ذَكَرَ أنهم لا يُؤْمِنون لِما سَبَقَ لهم في الأَزَلِ عَقَّبَ ذلك بأنْ جَعَلَ لهم من المَنْعِ وإحاطةِ الشقاوةِ ما حالُهم معه حالُ المَغْلُوْلين » انتهى . وتقدَّم تفسيرُ الأذقان .
قوله : « فهم مُقْمَحُوْن » هذه الفاءُ لأحسنِ ترتيبٍ؛ لأنه لَمَّا وَصَلَتِ الأغلالُ إلى الأَذْقان لِعَرْضِها لَزِم عن ذلك ارتفاعُ روؤسِهم إلى فوقُ ، أو لَمَّا جُمِعَتْ الأيدي إلى الأَذْقان وصارت تحتَها لَزِم مِنْ ذلك رَفْعُها إلى فوقُ ، فترتفعُ رؤوسُهم . والإِقْماح : رَفْعُ الرأسِ إلى فوقُ كالإِقناع ، وهو مِنْ قَمَحَ البعيرُ رَأْسَه إذا رفَعها بعد الشُّرْبِ : إمَّا لبرودةِ الماءِ وإمَّا لكراهةِ طَعْمِه قُموحاً وقِماحاً بكسرِ القافِ وضمِّها . وأَقْمَحْتُه أنا إقماحاً والجمع قِماح وأنشد :
3775 ونحن على جوانبِها قُعودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِماحِ
يصفُ نفسَه وجماعةً كانوا في سفينة فأصابهم المَيْدُ . قالَ الزجاج : « قيل للكانونَيْنِ شَهْرا قُمِاح؛ لأنَّ الإِبِلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رؤوسَها لشدَّةِ البردِ » . وأنشد أبو زيد للهذلي :
3776 فَتَىً ما ابنُ الأَغَرِّ إذا شَتَوْنا ... وحُبَّ الزادُ في شَهْرَيْ قُماحِ
كذا رَواه بضمِّ القافِ ، وابن السكيت بكسرِها . وهما لغتان في المصدرِ كما تقدَّمَ . وقال الليث : القُموح : رَفْعُ البعيرِ رَأْسَه إذا شَرِبَ الماءَ الكريهَ ثم يعودُ . وقال أبو عبيدة : « إذا رَفَعَ رأسَه عن الحوض ، ولم يشرَبْ » والمشهورُ أنه رَفْعُ الرأسِ إلى السماء كما تقدَّمَ تحريرُه . وقال الحسن : « القامِحُ : الطامِحُ ببصرِه إلى مَوْضِعِ قَدَمِه » وهذا يَنْبُو عنه اللفظُ والمعنى . وزاد بعضُهم مَع رَفْعِ الرأس غَضَّ البصرِ مُسْتَدِلاًّ بالبيتِ المتقدم :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِل القِماحِ
وزاد مجاهدٌ مع ذلك وَضْعَ اليدِ على الفم . وسأل الناسُ أميرَ المؤمنين علياً كرَّم اللَّهُ وجهه عن هذه الآيةِ فجعل يديه تحت لِحْيَيْه ورَفَعَ رأسَه ولعَمْري إنَّ هذه الكيفيةَ تُرَجِّح قولَ الطبريِّ في عَوْدِ « فهي » على الأيدي .

وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)

قوله : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } : تقدَّم خلافُ القُرَّاء في فتح السين وضمِّها والفرقُ بينهما ، مستوفى في آخر الكهف .
قوله : « فأَغْشَيْناهم » العامَّةُ على الغين المعجمة أي : غَطَّيْنا أبصارَهم فهو على حَذْفِ مضافٍ . وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن يعمر وأبو رجاء في آخرين بالعين المهملة ، وهو ضَعْفُ البصَرِ . يُقال : عَشِي بَصَرُه وأَعْشَيْتُه أنا ، وقوله تعالى هذا يحتمل الحقيقةَ والاستعارةَ كما تقدَّم .

وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)

قوله : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ } : تقدَّم تحريرُه أولَ البقرةِ .

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

قوله : { وَنَكْتُبُ } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل ، فيكونُ « ما قَدَّموا » مفعولاً به ، و « آثارهم » عطفٌ عليه . وزر ومسروق مبنياً للمفعول ، و « آثارُهم » بالرفعِ ، عطف على « ما قَدَّموا » لقيامِه مَقامَ الفاعل .
قوله : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامَّةُ على نصبِه على الاشتغالِ . وأبو السَّمَّال قرأه مرفوعاً بالابتداءِ . والأرجحُ قراءةُ العامَّةِ لعطفِ جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعلية . وقد تقدَّم الكلامُ على نحو { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } في البقرة ، والنحل .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)

و : { إِذْ جَآءَهَا } : بدلُ اشتمالٍ تقدَّم نظيرُه . و « إذْ أَرْسَلْنا » بدلٌ من « إذ » الأولى .

إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)

قوله : { فَعَزَّزْنَا } : قرأ/ أبو بكر بتخفيفِ الزاي بمعنى غَلَّبْنا ، ومنه قولُه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] . ومنه قولُهم : « مَنْ عَزَّ بَزَّ » أي صار له بَزٌّ . والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنا . يقال : عزَّز المطرُ الأرضَ أي : قَوَّاها ولبَّدها . ويُقال لتلك الأرضِ : العَزازُ ، وكذا كلُّ أرضٍ صُلْبةٍ . وتَعَزَّزَ لحمُ الناقةِ أي : صَلُبَ وقَوِيَ . وعلى كلتا القراءتَيْن المفعولُ محذوفٌ أي : فَقَوَّيناهما بثالثٍ أو فَغَلَّبْناهما بثالث .
وقرأ عبد الله « بالثالث » بألف ولام .
قوله : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } جَرَّد خبرَ « إنَّ » هذه من لام التوكيد ، وأَدْخَلها في خبر الثانيةِ ، لأنَّهم في الأولى استعملوا مجرَّدَ الإِنكارِ فقابَلَتْهم الرسُلُ بتوكيدٍ واحدٍ وهو الإِتيانُ ب « إنَّ » ، وفي الثانيةِ بالمبالغة في الإِنكار فقابَلَتْهم بزيادة التوكيدِ فأتَوْا ب إنَّ وباللام .
قال أهل البيان : الأخبارُ ثلاثةُ أقسامٍ : ابتدائيٌّ وطلبيٌّ وإنكاريٌّ ، فالأولُ يُقال لمن لم يتردَّدْ في نسبةِ أحدِ الطرفين إلى الآخر نحو : زيد عارفٌ ، والثاني لِمَنْ هو متردِّدٌ في ذلك ، طالِبٌ له منكِرٌ له بعضَ إنكارٍ ، فيقال له : إنَّ زيداً عارِفٌ ، والثالثُ لِمَنْ يبالِغُ في إنكارِه ، فيُقال له : إنَّ زيداً لعارِفٌ . ومِنْ أحسن ما يُحْكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْدِيِّ فقال : إني أجد في كلامِ العربِ حَشْواً قال : وما ذاك؟ قال : يقولون : زيدٌ قائمٌ ، وإنَّ زيداً قائمٌ ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ . فقال : « كلا بل المعاني مختلفةٌ ، فزيد قائمٌ إخبارٌ بقيامِه ، وإنَّ زيداً قائمٌ جوابٌ لسؤالِ سائلٍ ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ » . قلت : هذا هو الكنديٌّ الذي سُئل أن يعارِضَ القرآنَ ففتح المصحفَ فرأى سورةَ المائدةِ فكعَّ عن ذلك . والحكايةُ ذكرتُها أولَ المائدة .
وقال الشيخ : « وجاء أولاً » مُرْسَلون « بغير لام؛ لأنه ابتداءُ إخبارٍ فلا يَحْتاجُ إلى توكيدٍ ، وبعد المحاورة » لَمُرْسَلون « بلامِ التوكيد؛ لأنه جوابٌ عن إنكار » وهذا قصورٌ عن فَهْم ما قاله أهلُ البيان ، فإنه جَعَلَ المقام الثاني وهو الطلبيُّ مكانَ المقامِ الأولِ ، وهو الابتدائيُّ .

قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

قوله : { طَائِرُكُم } : العامَّةُ على « طائر » اسمَ فاعل أي : ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب . وقرأ الحسن - فيما رَوَى عنه الزمخشري - « اطَّيُّرُكم » مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً ، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرَاً . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه ، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في « شرح التسهيل » في باب المصادر قال : « إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال : اطَّيَّر تَطَيُّراً ، وادَّارأ تدارُؤاً ، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ . وقد رَوَى غيرُه عنه » طَيْرُكم « بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه ، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدراً ، وظنَّ أنَّ ألف » قالوا « همزةُ وَصْلٍ .
قوله : » أإنْ ذُكِّرْتُمْ « قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها » إنْ « الشرطيةُ ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم : من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة . واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام ، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ ، فالتقديرُ عند سيبويهِ : » أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون « وعند يونسَ » تطيَّرُوا « مجزوماً ، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ . وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء .
وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرَّاً لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله :
3777 أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلاً ... فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما
ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضاً كذلك ، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين . وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة . وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي : ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه ، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخباراً بذلك .
وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ ، وجوابُه محذوفٌ أيضاً .
وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ » أَيْنَ « بصيغةِ الظرفِ . وهي » أين « / الشرطيةُ ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي : أين ذُكرتم فطائرُكم معكم ، أو صَحِبَكم طائرُكم ، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه » طائرُكُمْ معكم « ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ .
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع » ذُكِرْتُمْ « بتخفيفِ الكاف .

اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)

قوله : { مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } : بدلٌ من « المرسلين » بإعادة العامل ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال : « النحاةُ لا يقولون ذلك إلاَّ إذا كان العاملُ حرف جر ، وإلاَّ فلا يُسَمُّونه بدلاً بل تابعاً » وكأنه يريد التوكيدَ اللفظيَّ بالنسبة إلى العامل .

وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)

قوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ } : أصلُ الكلامِ : « ومالكم لا تعبدون » ولكنه صَرَفَ الكلامَ عنهم ، ليكون الكلامُ أسرعَ قبولاً ولذلك جاء قولُه « وإليه تُرْجَعون » دون « وإليه أرجعُ » .

أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)

قوله : { أَأَتَّخِذُ } : مبنيٌّ على كلامِه الأول ، وهذه الطريقةُ أحسنُ من ادِّعاءِ الالتفاتِ .
قوله : « مِنْ دونِه » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « أتخذُ » على أنها متعديةٌ لواحدٍ وهو « آلهةً » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ « آلهةً » ، وأنْ يكونَ مفعولاً ثانياً قُدِّمَ على أنها المتعديةُ لاثنين .
قوله : « إنْ يُرِدْنِيْ » شَرْطٌ ، جوابُه { لاَّ تُغْنِ عَنِّي } ، والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل آلهةً . وفتح طلحة السلماني - وقيل : طلحةُ ابنُ مصرِّفٍ - ياءَ المتكلم . قال الزمخشري : « وقُرِئ » { إِن يُرِدْنِي الرحمن بِضُرٍّ } بمعنى : إنْ يُوْردني ضَرَّاء ، أي يجعله مَوْرِداً للضُرِّ « . قال الشيخُ : » وهذا - واللَّهُ أعلم - رأى في كتب القراءات بفتح الياءِ فتوهمَّ أنها ياءُ المضارعة فجعل الفعلَ متعدِّياً بالياء المعدِّية كالهمزةِ ، فلذلك أَدْخَلَ همزةَ التعديةِ فنصَبَ به اثنين ، والذي في كتبِ القراءات الشواذ أنها ياءُ الإِضافةِ المحذوفةُ خَطَّاً ونطقاً لالتقاء الساكنين « . قلت : وهذا رجلٌ ثقةٌ قد نَقَل هذه القراءةَ فتُقْبل منه .

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

قوله : { فاسمعون } : العامَّةُ على كسر النون ، وهي نونُ الوقايةِ حُذِفَتْ بعدها ياءُ الإِضافةِ مُجْتَزَأً عنها بكسرةِ النونِ ، وهي اللغةُ العاليةُ .
وقرأ عصمة عن عاصمٍ بفتحِها ، وليسَتْ هذه إلاَّ غَلَطاً على عاصم ، إذ لا وجهَ . وقد وقع لابنِ عطيةَ وهمٌ فاحشٌ في ذلك فقال : « وقرأ الجمهورُ » فاسمعونَ « بفتح النون ، قال أبو حاتم : هذا خطأٌ ، فلا يجوزُ لأنه أمْرٌ : فإمَّا حَذْفُ النون ، وإمَّا كَسْرُها على جهةِ الياءِ » يعني ياءَ المتكلم ، وقد يكونُ قولُه « الجمهور » سَبْقَ قَلَمٍ منه أو من النُّسَّاخِ وكأنَّ الأصلَ : « وقرأ غيرُ الجمهور » فسقط لفظةُ « غير » . وقال ابن عطية : « حُذِفَ من الكلام ما تواتَرَتِ الأخبارُ والرواياتُ به وهو أنهم قَتَلوه فقيل له عند مَوْتِه : ادْخُلِ الجنةَ » .

بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

قوله : { بِمَا غَفَرَ لِي } : يجوز في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : المصدريةُ أي : يعلمون بغُفْرانِ ربي . والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : بالذي غَفَرَه لي ربي . واسْتُضعِفَ هذا : من حيثُ إنه يَبْقى معناه أنه تمنى أَنْ يعلمَ قومُه بذنوبِه المغفورةِ . وليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على تَمَنِّي عِلْمِهم بغفرانِ رَبِّه ذنوبَه . والثالث : أنها استفهاميةٌ ، وإليه ذهب الفراء . ورَدَّه الكسائيُّ : بأنه كان ينبغي حَذْفُ ألفِها لكونِها مجرورةً وهو رَدٌّ صحيحٌ . وقال الزمخشري : « الأجودُ طَرْحُ الألفِ » والمشهورُ مِنْ مذهبِ البصريين وجوبُ حَذْفِ ألفِها كقوله :
3778 عَلامَ تقولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتقي ... إذا أنا لم أَطْعَنْ إذا الخيلُ كَرَّتِ
إلاَّ في ضرورةٍ ، كقولِ الآخر :
3779 على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
وقُرِئ « من المُكَرَّمين » بتشديدِ الراء .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)

قوله : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } : في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها نافيةٌ كالتي قبلَها فتكون الجملةُ الثانيةُ جاريةً مَجْرى التأكيد للأولى . والثاني : أنها مزيدةٌ . قال أبو البقاء : « أي : وقد كنَّا مُنْزِلين » . وهذا لا يجوزُ البتةَ لفسادِه لفظاً ومعنًى . الثالث : أنها اسمٌ معطوفٌ على « جند » . قال ابن عطية : « أي : مِنْ جندٍ ومن الذي كنَّا مُنْزِلين » . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ « مِنْ » مزيدةٌ . وهذا التقديرُ يُؤدِّي إلى زيادتِها في الموجَبِ جارَّةً لمعرفةً ، ومذهبُ البصريين - غيرَ الأخفشِ - أن يكونَ الكلامُ غيرَ موجَبٍ ، وأَنْ يكونَ المجرورُ نكرةً . قلت : فالذي يَنْبغي عند مَنْ يقولُ بذلك أَنْ يُقَدِّرَها/ بنكرةٍ أي : ومِنْ عذابٍ كنا مُنْزِليه . والجملةُ بعدها صفةٌ لها . وأمَّا قولُه : إنَّ هذا التقديرَ يؤدِّي إلى زيادتها في الموجَبِ فليس بصحيحٍ البتةَ . وتَعَجَّبْتُ كيف يُلْزِمُ ذلك؟

إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)

قوله : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً } : العامَّةُ على النصبِ على أنَّ « كان » ناقصةٌ . واسمُها ضميرُ الأَخْذَةِ ، لدلالةِ السياقِ عليها . و « صيحةً » خبرُها . وقرأ أبو جعفر وشيبةُ ومعاذٌ القارئُ برفعِها ، على أنها التامةُ أي : وقع وحَدَثَ وكان ينبغي أَنْ لا تلْحق تاءُ التأنيث للفصلِ ب « إلاَّ » بل الواجبُ في غير نُدورٍ واضطرارٍ حَذْفُ التاءِ نحو : « ما قام إلاَّ هند » وقد شَذَّ الحسنُ وجماعةٌ فقرؤوا { لاَ ترى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } كما سأبيِّنه في موضعه إن شاء الله وقال الشاعر :
3780 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلوعُ الجراشِعُ
وقال آخرِ :
4781 ما بَرِئَتْ مِنْ رِيْبَةٍ وذَمِّ ... في حَرْبِنا إلاَّ بناتُ العَمِّ

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)

قوله : { ياحسرة } : العامَّةُ على نصبِها . وفيه وجهان ، أحدهما : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والمنادى محذوفٌ تقديره : يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً . والثاني : أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله :
3782 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ... نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا
ومعنى النداءِ هنا على المجازِ ، كأنه قيل : هذا أوانُكِ فاحْضُرِي . وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه « يا حَسْرَةٌ » بالضم ، جعلها مُقْبِلاً عليها ، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين { ياحسرة العباد } بالإِضافة . فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي : يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم ، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي : يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم . وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز . وابن جندب « يا حَسْرَهْ » بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً ، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ . وقال صاحب « اللوامح » : « وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر ، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه ، ثم وصلوا على تلك الحال » . وقرأ ابن عباس أيضاً « يا حَسْرَةَ » بفتح التاء من غير تنوين . ووجْهُها أنَّ الأصل : يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء . ومنه :
3783 ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني
أي : بلهفا بمعنى لَهْفي .
وقُرئ « يا حَسْرتا » بالألف كالتي في الزمر ، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس ، وتكون التاءُ لله تعالى ، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ . وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك .
قوله : « ما يَأْتِيْهم » هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم .
قوله : « إلاَّ كانوا » جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ « يَأْتيهم » .

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)

قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : « كم » هنا خبرِيةٌ فهي مفعولٌ ب « أَهْلكنا » تقديرُه : كثيراً من القرونِ أهلَكْنا . وهي معلِّقَةٌ ل « يَرَوْا » ذهاباً بالخبريَّة مذهبَ الاستفهاميةِ . وقيل : بل « يَرَوْا » عِلْمية ، و « كم » استفهاميةٌ كما سيأتي بيانُه .
و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « كم » قال ابن عطية : « وكم هنا خبريةٌ ، و » أنهم « بدلٌ منها ، والرؤيةُ بَصَرية » . قال الشيخ : « وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب » أهلَكْنا « . ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك . وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون » أنَّهم « بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ . ولو سُلِّطت أَهْلكنا على » أنهم « لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ : أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم ، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون ، لم يكن كلاماً . لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ » يَرَوْا « مفعولُه » كم « فتوَهَّم أنَّ قوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول : ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون . وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية » . قلت : وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول : « كم » قد جعلها خبريةً ، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ ، فيقولون : « ملكتُ كم عبدٍ » فلم يَلْزَمْ الصدرَ ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل « كم » منصوبةً ب « يَرَوْا » و « أنهم » بدلٌ منها ، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ .
الثاني : أنَّ « أنَّهم » بدلٌ من الجملةِ قبلَه . قال الزجاج : « هو بدلٌ من الجملة ، والمعنى : ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى » . قال الشيخ : « وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً ، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو » . قلت : بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ « يَرَوْا » فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم .
الثالث : قال الزمخشري : « ألم يَرَوْا » ألم يعلموا ، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في « كم » لأنَّ « كم » لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك : « ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ » وإنْ لم يعملْ في لفظِه ، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون : بدلٌ مِنْ « كم أهلَكْنا » على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه : ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم « .

قال الشيخ : « قولُه لأنَّ » كم « لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ » ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو : « على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ » . وقوله : « أو للخبر » والخبرية فيها لغتان : الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون : « ملكتُ كم غلامٍ » أي : ملكتُ كثيراً من الغِلْمان . فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على « كم » لأنها بمعناها . وقوله : « لأنها أصلها الاستفهامُ ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ » بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها ، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر . وقوله : « لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة » يعني معنى « يَرَوا » نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ « يَرَوْا » ب يعلموا .
وقوله : « كما نفذ في قولك : ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ » يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ « إنَّ » فإنَّ « إنَّ » التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ . وقوله : « إنهم إليهم » إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى . أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ « يَرَوْا » معلَّقَةٌ فتكون « كم » استفهاميةً فهي معمولةٌ ل « أهلكنا » ، و « أهلكنا » لا يَتَسَلَّط على { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } . وقد تقدَّم لنا ذلك . وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال : تقديره : أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم ، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل ، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه ، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل . وهذا لا يَصِحُّ هنا . لا تقول : ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم ، وفي بدلِ الاشتمال نحو : « أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها ، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه » يصحُّ : « أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ ، وسُرِق ثوبُ زيد » .
الرابع : أَنْ يكونَ « أنهم » بدلاً مِنْ موضع « كم أهلَكْنا » ، والتقدير : ألم يَرَوْا أنهم إليهم . قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ « كم أهلَكْنا » ، ليس بمعمولٍ ل « يَرَوْا » .

قلت : قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها .
الخامس : - وهو قولُ الفراء - أن يكون « يَرَوْا » عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ . وقوله « الجملتين » تجوُّزٌ؛ لأنَّ « أنهم » ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه .
السادس : أنَّ « أنهم » معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى ، تقديره : قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون . ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن « إنهم » بكسر الهمزةِ على الاستئناف ، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها . والضميرُ في « أنهم » عائدٌ على معنى « كم » وفي « إليهم » عائدٌ على ما عاد عليه واو « يَرَوْا » . وقيل : بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو « يَرَوْا » . والثاني عائدٌ على المُهْلَكين .

وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)

قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } : قد تقدم في هود تشديدُ « لَمَّا » وتخفيفُها وما قيل في ذلك . وقال الفخر الرازي في مناسبة وقوعِ « لَمَّا » المشدَّدةِ موقعَ إلاَّ : « إنَّ » لَمَّا « كأنها حرفا نفي ، وهما لم وما ، فتأكَّد النفيُ ، و » إلاَّ « كأنَّها حرفا نفي : إنْ ولا فاستعمل أحدُهما مكانَ الآخر » . انتهى . وهذا يجوزُ أَنْ يكونَ أَخَذه من قول الفراءِ في « إلاَّ » في الاستثناء : إنها مركبةٌ من إنْ ولا . إلاَّ أنَّ الفراءَ جَعَلَ « إنْ » مخففةً من الثقيلة ، وجعلها نافيةٌ ، وهو قولٌ ركيكٌ رَدَّه عليه النحويون . وقال الفراء أيضاً : إن « لَمَّا » هذه أصلُها : لَمِمَّا فخُفِّفَ بالحذفِ . وهذا كلُّه قد تقدَّم موضَّحاً . وقوله : « كلٌّ » مبتدأ و « جميعٌ » خبرُه . و « مُحْضَرون » خبرٌ ثانٍ لا يختلف ذلك سواءً شَدَّدْتَ « لَمَّا » أم خفَّفْتها . لا يُقال : إنَّ جميعاً تأكيد لا خبرٌ ، لأنَّ جميعاً هنا فَعيل بمعنى/ مَفعول أي : مجموعون ف « كل » تدلُّ على الإِحاطةِ والشمول ، و « جميع » تَدُلُّ على الاجتماع فمعناها حُمِل على لفظها في قوله : { جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] وقَدَّمَ « جميع » في الموضعين لأجلِ الفواصلِ ، و « لَدَيْنا » متعلِّقٌ ب « مُحْضَرون » فَمَنْ شَدَّدَ ف « لَمَّا » بمعنَى « إلاَّ » وَ « إنْ » نافيةٌ كما تقدَّمَ ، ومَنْ خَفَّفَ فإنْ مخففةٌ ، واللامُ فارقةٌ و « ما » مزيدةٌ . هذا قولُ البصريين ، والكوفيون يقولون : « إنْ » نافيةٌ ، واللامُ بعنى « إلاَّ » كما تقدَّم غيرَ مرةٍ .

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)

قوله : { وَآيَةٌ } : خبرٌ مقدمٌ و « لهم » صفتُها أو متعلِّقَةٌ ب « آية » لأنها بمعنى علامة . و « الأرضُ » مبتدأ . وتقدَّم تخفيف الميتة وتشديدُها في أول آل عمران . ومنع الشيخُ أَنْ تكونَ « لهم » صفةً ل « آية » ولم يُبَيِّن وجهَه ولا وَجَّهَ له . وأعرب أبو البقاء « آية » مبتدأً و « لهم » الخبرُ و « الأرضُ الميتةُ » مبتدأٌ وصفتُه ، و « أَحْييناها » خبرُه . والجملةُ مفسِّرَةٌ ل « آية » وبهذا بدأ ثم قال : وقيل : فذكر الوجهَ الذي بدأْتُ به . وكذلك حكى مكي أعني أَنْ يكونَ « آية » ابتداءً ، و « لهم » الخبر . وجَوَّز مكي أيضاً أن تكونَ « آية » مبتدأً و « الأرضُ » خبرُه . وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا تُعْزَلُ المعرفةُ من الابتداءِ بها ، ويُبْتَدأ بالنكرة إلاَّ في مواضعَ للضرورةِ .
قوله : « أَحْيَيْناها » قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ « الأرض » ، ويجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً من « الأرض » إذا جَعَلْناها مبتدأً ، و « آية » خبرٌ مقدمٌ . وجَوَّزَ الزمخشريُّ في « أَحْيَيْناها » وفي « نَسْلَخُ » أَنْ يكونا صفتين للأرض والليل ، وإن كانا مُعَرَّفين بأل لأنه تعريفٌ بأل الجنسيةِ ، فهما في قوةِ النكرة قال : كقوله :
3784 ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنه لم يَقْصِدْ لئيماً بعينه .
وردَّه الشيخُ : بأنَّ فيه هَدْماً للقواعد : مِنْ أنه لا تُنْعَتُ المعرفةُ بنكرةٍ . قال : وقد تبعه على ذلك ابنُ مالك . ثم خَرَّج الشيخُ الجملَ على الحال أي : الأرضُ مُحْياةً والليلُ مُنْسَلِخاً منه النهارُ ، واللئيمُ شاتماً لي . قلت : وقد اعتبر النحاةُ ذلك في مواضع ، فاعتبروا معنى المعرَّفِ بأل الجنسيةِ دونَ لفظِه فوصفوه بالنكرة الصريحةِ نحو : « بالرجلِ خيرٍ منك » على أحد الأوجه ، وقوله : { إِلاَّ الذين } [ العصر : 3 ] بعد { إِنَّ الإنسان } [ العصر : 2 ] وقوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] و « أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدرهمُ البيض » . كلُ هذا رُوعي فيه المعنى دونَ اللفظ ، وإن اختلف نوعُ المراعاةِ . ويجوز أن يكون « أحييناها » استئنافاً بَيَّن به كونَها آية .

وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)

قوله : { وَفَجَّرْنَا } : العامَّةُ على التشديد تكثيراً لأنَّ [ فَجَّر ] مخففةً متعدٍّ . وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف . والمفعولُ محذوفٌ على كلتا القراءتين أي : ينبوعاً كما في آية سبحان .

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)

قوله : { مِن ثَمَرِهِ } : قيل : الضميرُ عائدٌ على النخيل؛ لأنه أقربُ مذكورٍ ، وكان مِنْ حَقِّ الضميرِ أَنْ يُثَنَّى على هذا لتقدُّم شيئين : وهما الأعنابُ والنخيلُ ، إلاَّ أنه اكتفى بذِكْرِ أحدِهما . وقيل : يعود على جنات ، وعاد بلفظ المفرد ذَهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسم الإِشارةَ وهو كقولُ رُؤْبة :
3785 فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ
فقيل له . فقال : أَرَدْتُ : كأنَّ ذاك وَيْلَكَ . وقيل : عائد على الماءِ المدلول عليه ب عيون . وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدَّرٌ أي : من العيون . ويجوزُ أَنْ يعودَ على العيون . ويُعتذر عن إفراده بما تَقَدَّم في عَوْده على جنات . ويجوزُ أَنْ يعودَ على الأعناب والنخيل معاً ، ويُعتذر عنه بما تقدَّم أيضاً . وقال الزمخشري : « وأصلُه : مِنْ ثمرنا ، لقوله : » وفَجَّرْنا « و » جَعَلْنا « فنقل الكلامَ من التكلُّم إلى الغَيْبة على طريقة الالتفات ، والمعنى : ليأكلوا مِمَّا خلقَه الَّلهُ مِن الثمر » . قلت : فعلى هذا يكون الضميرُ عائداً على الله تعالى ، ولذلك فَسَّر معناه بما ذكر . وقد تقدَّم قراءاتٌ في هذه اللفظةِ في سورةِ الأنعام وما قيل فيها بحمد الله تعالى .
قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } في « ما » هذه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها موصولةٌ أي : ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة . وفيه تَجَوُّزٌ على هذا . والثاني : أنها نافيةٌ أي : لم يعملوه هم ، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى .
وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون « وما عَمِلَتْه » بإثباتِها . فإنْ كانَتْ « ما » موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] بالإِجماع . وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل . وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي : ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك ، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على « ثَمَرِه » وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ ، وبحذفِها فيما عداها . / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم ، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً ، وجعفر خالَفَ مصحفَه ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال ، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها .
الثالث : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة . والرابع : أنها مصدريةٌ أي : ومِنْ عَمَلِ أيديهم . والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة .

وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)

قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل } : كقولِه و { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض } [ يس : 33 ] . و « نَسْلَخُ » استعارةٌ بديعةٌ شبَّه انكشافَ ظلمةِ الليلِ بكَشْط الجِلْد عن الشاة . وقوله : « مُظْلِمون » أي : داخلون في الظلام كقوله : { مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] .

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)

قوله : { لِمُسْتَقَرٍّ } : قيل : في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديره : تجري لجَرْي مستقرٍ لها . وعلى هذا فاللامُ للعلةِ أي : لأجل جَرْيِ مستقرٍ لها . والصحيحُ أنَّه لا حَذْفَ ، وأنَّ اللامَ بمعنى إلى . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ بعضهم « إلى مُسْتقر » . وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر « لا مُستقرَّ » ب لا النافيةِ للجنسِ وبناءِ « مستقرَّ » على الفتح ، و « لها » الخبر . وابن أبي عبلة « لا مُسْتقرٌ » ب لا العاملةِ عملَ ليس ، ف مُسْتَقرٌ اسمها ، و « لها » في محلِّ نصبٍ خبرُها كقولِه :
3786 تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا ... ولا وَزَرٌ مِمَّا قضى اللَّهُ واقيا
والمرادُ بذلك أنها لا تستقرُّ في الدنيا بل هي دائمةُ الجريانِ ، وذلك إشارةً إلى جَرْيها المذكور .

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)

قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه ، والباقون بنصبِه . فالرفعُ على الابتداء ، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين ، وهي قوله : « والشمسُ تجري » فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها ، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها . وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ : إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين . قال : لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ : « زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره » ، ولو لم يَقُلْ « في داره » لم يَجُز . ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا ، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس . وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] بعد قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 5 ] .
قوله : « منازلَ » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ « قَدَّرنا » بمعنى صَيَّرْنا . الثاني : أنه حالٌ ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل « منازل » تقديرُه : ذا منازلَ . الثالث : أنه ظرفٌ أي : قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس .
قوله : « كالعُرْجُون » العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم . وفي وزنِه وجهان ، أحدهما : أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ ، وهذا هو المرجَّحُ . والثاني : وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ ، ووزنُه فُعْلُوْن ، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم ، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون . والعُرْجُوْن : عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ . وهو تشبيهٌ بديعٌ ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء : دقتِه واستقواسِه واصفرارِه .

لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

قوله : { سَابِقُ النهار } : قرأ عمارة بنصب « النهارَ » حَذَفَ التنوين لالتقاءِ الساكنين . قال المبرد : « سمعته يقرؤُها فقلت : ما هذا؟ فقال : أَرَدْتُ » سابقٌ « بالتنوين فخفَّفْتُ » .

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)

قوله : { أَنَّا حَمَلْنَا } : مبتدأ ، و « آيةٌ » خبرٌ مقدمٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ « أنَّا حَمَلْنا » خبرَ مبتدأ محذوفٍ بناءٍ منه على أنَّ « آية لهم » مبتدأٌ وخبرٌ ، كلامٌ مستقلٌ بنفسِه ، كما تقدَّم في نظيرِه . والظاهرُ أنَّ الضميرين في « لهم » و « ذريتهم » لشيءٍ واحدٍ . ويُراد بالذريَّة آباؤهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام أو يكون الضميران مختلفَيْن أي : ذرية القرون الماضية . ووجهُ الامتنانِ عليهم : أنَّهم في ذلك مثلُ الذرِّية من حيث إنهم يَنْتفعون بها كانتفاعِ أولئك .

وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)

قوله : { مَا يَرْكَبُونَ } : هذا يَحْتمل أَنْ يكونَ من جنسِ الفلك إنْ أريد بالفَلَكِ سفينةُ نوحٍ عليه السلام خاصةً ، وأن يكونَ مِنْ جنسٍ آخرَ كالإِبِلِ ونحوِها ، ولهذا سَمَّتْها سُفُنَ البرِّ . وقد تقدَّم اشتقاقُ الذرِّيَّة في البقرة واختلافُ القُرَّاءِ فيها في الأعراف .
قوله : « مِنْ مِثْله » أي : من مثلِ الفلك . وقيل : من مثل ما ذكرِ من خَلْقِ الأزواجِ .

وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)

وقرأ الحسن « نُغَرِّقْهُمْ » بتشديد الراء .
قوله : « فلا صَرِيْخَ » / فَعيل بمعنى فاعِل أي : فلا مستغيثَ . وقيل : بمعنى مُفْعِل أي : فلا مغيثَ . وهذا هو الأليقُ بالآية . وقال الزمخشري : « فلا إغاثةَ » جعله مصدراً مِنْ أَصْرخ . قال الشيخ : « ويَحْتاج إلى نَقْلِ أنَّ صَريخاً يكون مصدراً بمعنى إصْراخ » . والعامَّةُ على فتح « صريخ » . وحكى أبو البقاء أنه قُرئ بالرفع والتنوين . قال : « ووجهُه على ما في قوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 38 ] .

إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً } : منصوبٌ على المفعولِ له وهو استثناءٌ مفرغٌ . وقيل : استثناءٌ منقطعٌ . وقيل : على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ وعلى إسقاط الخافضِ . أي : إلاَّ برحمةٍ . والفاءُ في قوله : « فلا صريخَ » رابطةٌ لهذه الجملةِ بما قبلها . فالضميرُ في « لهم » عائدٌ على « المُغرَقين » . وجوَّز ابن عطية هذا ووجهاً آخرَ ، وجعله أحسنَ منه : وهو أَنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مُغْرَقين ، هم بهذه الحالةِ لا نجاةَ لهم إلاَّ برحمةِ اللَّهِ ، وليس قولُه : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } مربوطاً بالمغرقين . انتهى . وليس جَعْلُه هذا الأحسنَ بالحسنِ لئلا تخرجَ الفاءُ عن موضوعِها والكلامُ عن التئامِه .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)

قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } : جوابُها محذوفٌ . أي : أعرضوا .

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)

قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } : في محلِّ حالٍ . وقد تقدَّم نظيرُه .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)

قوله : { مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } : مفعولُ « أنطعمُ » و « أطعمه » جوابُ « لو » . وجاء على أحد الجائزين ، وهو تجرُّدُه من اللامِ . والأفصحُ أنْ يكونَ بلامٍ نحو { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] .

مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)

قوله : { يَخِصِّمُونَ } : قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ . والمعنى : يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً ، فالمفعولُ محذوفٌ . وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد . ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ . والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ . والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ : يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد ، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً ، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ ، والباقون حَذَفُوا حركتَها ، فالتقى ساكنان لذلك ، فكسروا أوَّلَهما ، فهذه أربعُ قراءاتٍ ، قُرِئ بها في المشهور .
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ . والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما . وقرأ جماعةٌ « يِخِصِّمُون » بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا . وقرأ أُبَيٌّ « يَخْتَصِمُون » على الأصل . قال الشيخُ : « ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم » .
قلت : هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه : { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } في البقرةِ [ الآية : 20 ] ، و { لاَّ يهدي } في يونس [ الآية : 35 ] .

فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

وقرأ ابن محيصن « يُرْجَعُون » مبنياً للمفعول .

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)

والأعرج « في الصُّوَر » بفتح الواو .
وقُرِئ « من الأَجْدافِ » وهي لغةٌ في « الأَجْداث » يُقال : جَدَث وجَدَف ك ثُمَّ وفُمَّ ، وثُوم وفُوم . وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرٍو في روايةٍ « يَنْسُلون » بضم السين . يُقال : نَسَل الثعلبُ يَنْسِل وينسُل أي : أَسْرع في عَدْوِه .

قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)

قوله : { ياويلنا } : العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ . وهو « وَيْل » مضافٌ لِما بعده . ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ « وَيْ » كلمةٌ برأسِها . و « لنا » جارٌّ ومجرور « . انتهى . ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ : هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا . وابن أبي ليلى : » يا وَيْلتنا « بتاء التأنيث ، وعنه أيضاً » يا ويْلتا « بإبدال الياءِ ألفاً . وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول : يا ويلتي .
والعامَّةُ على فتح ميم » مَنْ و « بَعَثَنا » فعلاً ماضياً خبراً ل « مَنْ » الاستفهامية قبلَه . وابن عباس والضحاك ، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر . و « بَعْثِنا » مصدرٌ مجرور ب مِنْ . ف « مِنْ » الأولى تتعلَّق بالوَيْل ، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث .
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي : مِنْ رُقادِنا ، وأن يكونَ مكاناً ، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ . والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً .
قوله : { هَذَا مَا وَعَدَ } في « هذا » وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه . ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله « مِنْ مَرْقَدِنا » . وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة : إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى ، أو مِنْ قولِ الملائكةِ . والثاني : أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول . والثاني من الوجهين الأولين : « هذا » صفةٌ ل « مَرْقَدِنا » و « ما وَعَد » منقطعٌ عَمَّا قبله .
ثم في « ما » وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم . وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا وَعْدُ الرحمن . وقد تقدَّم لك أولَ الكهف : أنَّ حَفْصاً يقف على « مَرْقَدنا » وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل « مَرْقَدِنا » . وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه . و « ما » يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه . ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي : وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون . والأصل : صَدَقَنا فيه . ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو « صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ » أي في سِنِّه . وتقدَّم قراءتا « صيحة واحدة » نصباً ورفعاً .

فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

قوله : { فاليوم } : منصوبٌ ب « لا تُظْلَمُ » . و « شيئاً » : إمَّا مفعولٌ ثانٍ ، وإمَّا مصدرٌ .

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)

قوله : { فِي شُغُلٍ } : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل « إنَّ » و « فاكهون » خبرٌ ثانٍ ، وأنْ يكون « فاكهون » هو الخبر ، و « في شُغُلٍ » متعلِّقٌ به وأَنْ يكونَ حالاً . وقرأ الكوفيون وابنُ عامر بضمتين . والباقون بضمةٍ وسكونٍ ، وهما لغتان للحجازيين ، قاله الفراء . ومجاهد وأبو السَّمَّال بفتحتين . ويزيد النحوي وابن هُبَيْرَة بفتحةٍ وسكونٍ وهما لغتان أيضاً .
والعامَّةُ على رفع « فاكِهون » على ما تقدَّم . والأعمش وطلحة « فاكهين » نصباً على الحالِ ، والجارُّ الخبرُ . والعامَّةُ أيضاً على « فاكهين » بالألف بمعنى : أصحاب فاكهة ، ك لابنِ وتامرِ ولاحمِ ، والحسَنُ وأبو جعفر وأبو حيوةَ وأبو رجاءٍ وشيبةُ وقتادةُ ومجاهدٌ « فَكِهون » بغيرِ ألفٍ بمعنى : طَرِبُوْن فَرِحون ، من الفُكاهةِ بالضمِ . وقيل : الفاكهُ والفَكِهُ بمعنى المتلذِّذُ المتنعِّمُ؛ لأنَّ كلاً من الفاكهةِ والفُكاهةِ مِمَّا يُتَلَذَّذُ به ويُتَنَعَّمُ . وقُرئ « فَكِهيْن » بالقَصْرِ والياء على ما تَقَدَّمَ . و « فَكُهُوْن » بالقصرِ وضمِّ الكافِ . يُقال : رجلٌ فَكِهٌ وفَكُهٌ كَرَجُلٍ نَدِس ونَدُسٍ ، وحَذِر وحَذُر .

هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)

قوله : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } : يجوزُ في « هم » أَنْ يكونَ مؤكِّداً للضميرِ المستكِنِّ في « فاكهون » ، و « أزواجُهم » عَطْفٌ على المستكنِّ . ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للضميرِ المستكنِّ في « شُغُل » إذا جَعَلْناه خبراً . و « أزواجُهم » عَطْفٌ عليه أيضاً . كذا ذكره الشيخ . وفيه نظرٌ من حيث الفَصْلُ بين المُؤَكِّد والمؤكَّد بخبر « إنَّ » . ونظيرُه أن تقولَ : « إن زيداً في الدار قائمٌ هو وعمروٌ » على أَنْ يُجْعَلَ « هو » تأكيداً للضمير في قولك « في الدار » . وعلى هذين الوجهين يكون قولُه « متكِئون » خبراً آخر ل « إنَّ » ، و « في [ ظلال ] » متعلِّقٌ به أو حالٌ . و « على الأرائِك » متعلقٌ به . ويجوزُ أَنْ يكون « هم » مبتدأً و « متكئون » خبرَه ، والجارَّانِ على ما تقدَّمَ . وجَوَّزَ أبو البقاءِ أَنْ يكونَ « في ظلالٍ » هو الخبرَ . قال : « وعلى الأرائِكِ مستأنفٌ » وهي عبارةٌ مُوْهِمَةٌ غيرَ الصوابِ . ويريد بذلك : أنَّ « متكئون » خبرُ مبتدأ مضمرٍ و « متكئون » مبتدأٌ مؤخرٌ إذ لا معنى له . وقرأ عبد الله « متكئين » نصباً على الحال .
وقرأ الأخَوان « في ظُلَلٍ » بضم الظاءِ والقصرِ ، وهو جمع ظُلَّة نحو : غُرْفَة وغُرَف ، وحُلَّة وحُلَل . وهي عبارةٌ عن الفُرُشِ والسُّتُور . والباقون بكسرِ الظاءِ والألفِ ، جمعَ ظُلَّة أيضاً ، كحُلَّة وحِلال ، وبُرْمة وبِرام ، أو جمعَ فِعْلة بالكسر ، إذ يُقال : ظُلَّة وظِلَّة بالضمِّ والكسرِ فهو كلِقْحة ولِقاح ، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا ينقاس فيها ، أو جمعَ فِعْل نحو : ذِئْب وذِئاب ، وريْح ورِياح .

لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)

قوله : { مَّا يَدَّعُونَ } : في « ما » هذه ثلاثةُ أوجه : موصولةٌ اسميةٌ ، نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائد على هذين محذوفٌ ، مصدريةٌ . / ويَدَّعُون مضارعُ ادَّعَى افْتَعَلَ مِنْ دعا يَدْعو . وأُشْرِبَ معنى التمني . قال أبو عبيدة : « العربُ تقول : ادَّعِ عَلَيَّ ما شِئْتَ أي تَمَنَّ » ، وفلانٌ في خيرِ ما يَدَّعي ، أي : ما يتمنى . وقال الزجاج : « هو من الدعاء أي : ما يَدَّعُوْنه ، أهلُ الجنة يأتيهم ، مِنْ دَعَوْتُ غلامي » . وقيل : افْتَعَل بمعنى تفاعَلَ . أي : ما يتداعَوْنه كقولهم : ارتَمَوْا وترامَوْا بمعنىً . و « ما » مبتدأةٌ . وفي خبرها وجهان ، أحدهما : - وهو الظاهر - أنَّه الجارُّ قبلَها . والثاني : أنه « سلامٌ » . أي : مُسَلَّمٌ خالِصٌ أو ذو سلامةٍ .

سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)

قوله : { سَلاَمٌ } : العامَّةُ على رفعِه . وفيه أوجهٌ ، أحدها : ما تقدَّم مِنْ كونِه خبرَ « ما يَدَّعون » . الثاني : أنه بدلٌ منها ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : « وإذا كان بدلاً كان » ما يَدَّعُون « خصوصاً ، والظاهر أنَّه عمومٌ في كلِّ ما يَدَّعُونه . وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه » . الثالث : أنه صفةٌ ل « ما » ، وهذا إذا جَعَلْتَها نكرةً موصوفةً . أمَّا إذا جَعَلْتَها بمعنى الذي أو مصدريةً تَعَذَّر ذلك لتخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو سلامٌ . الخامس : أنه مبتدأٌ خبرُه الناصبُ ل « قَوْلاً » أي : سلامٌ يُقال لهم قولاً . وقيل : تقديرُه : سلامٌ عليكم . السادس : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه « مِنْ رَبٍ » . و « قولاً » مصدرٌ مؤكدٌ لمضمونِ الجملةِ ، وهو مع عاملِه معترضٌ بين المبتدأ والخبر .
وأُبَيٌّ وعبد الله وعيسى « سَلاماً » بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه حالٌ . قال الزمخشري : « أي : لهمْ مُرادُهُمْ خالصاً » . والثاني : أنه مصدرُ يُسَلِّمون سلاماً : إمَّا من التحيةِ ، وإمَّا من السَّلامة . و « قَوْلاً » إمَّا : مصدرٌ مؤكِّدٌ ، وإمَّا منصوبٌ على الاختصاصِ . قال الزمخشري : « وهو الأَوْجَهُ » . و « مِنْ رَبٍّ » إمَّا صفةٌ ل « قَوْلاً » ، وإمَّا خبرُ « سَلامٌ » كما تقدَّم . وقرأ القَرَظِيُّ « سِلْمٌ » بالكسرِ والسكونِ . وتقدَّم الفرق بينهما في البقرة .

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)

قوله : { وامتازوا } : على إضمارِ قولٍ مقابلٍ لِما قيلَ للمؤمنين أي : ويُقال للمجرمين : امتازُوْا أي : انعَزِلوا ، مِنْ مازه يَمِيزه .

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)

قوله : { أَعْهَدْ } : العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة . وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها . وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ . وقرأ ابنُ وثَّاب « أَحَّدْ » بحاءٍ مشددةَ . قال الزمخشري : « وهي لغةُ تميمٍ ، ومنه » دَحَّا مَحَّا « أي : دَعْها معها ، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً ، حين أُريد الإِدغامُ . والأحسنُ أَنْ يُقال : إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً . وهي لغةُ هُذَيلٍ . فلمَّا أُدْغِم قُلب الثاني للأول ، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ . وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران . وقال ابن خالويه : » وابن وثاب والهذيل « أَلَمْ إعْهَدْ » بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء ، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ . ورُوي عن ابنِ وثَّاب « اعْهِد » بكسرِ الهاءِ . يُقال : عَهِد وعَهَد « انتهى . يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً ، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب . وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي » عَهَدَ « بفتحها . وقولُه : » سوى الياء « وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ . وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون : يِعْلَمُ .
وقال الزمخشري فيه : » وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب : نَعِمَ يَنْعِمُ ، وضَرَب يَضْرِب « يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين : إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما ، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة ، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه . وحكى الزمخشري أنه قُرِئ » أَحْهَدْ « بإبدالِ العينِ حاءً ، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ » أَحَّد « : أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم .

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

قوله : { جِبِلاًّ } : قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام . وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ . والباقون بضمتين ، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما . وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام . والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام . والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون . وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ . وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء . وقُرِئ « جِبَلاً » بكسر الجيم وفتح الباء ، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة . وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ « جِيْلاً » بالياء ، مِنْ أسفلَ ثنتان ، وهي واضحةٌ .
وقرأ العامة : « أفلَمْ تكونوا » خطاباً لبني آدم . وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة . والضمير للجِبِلِّ . ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ { التي كانوا يُوعَدُونَ } لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ .

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)

قوله : { اليوم نَخْتِمُ } : « اليومَ » ظرفٌ لِما بعدَه . وقُرِئ « يُخْتَمُ » مبنياً للمفعول ، والجارُّ بعدَه قائمٌ مقام فاعلِهِ .
وقُرئ « تَتَكلَّمُ » بتاءَيْن مِنْ فوقُ . وقُرِئ « ولْتَتَكَلَّمْ ولْتَشْهَدْ » بلامِ الأمرِ . وقرأ طلحةُ « ولِتُكَلِّمَنا ولِتَشهدَ » بلامِ كي ناصبةً للفعل ، ومتعلَّقُها محذوفٌ أي : للتكلُّمِ وللشهادةِ خَتَمْنا . و « بما كانوا » أي : بالذي كانوا أو بكونِهِم كاسِبين .

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)

قوله : { فاستبقوا } : عطفٌ على « لَطَمَسْنا » وهذا على سبيل الفَرَضِ والتقديرِ . وقرأ عيسى « فاسْتَبِقوا » أمراً ، وهو على إضمارِ القول أي : فيُقال لهم : اسْتَبِقَوا . و « الصِّراطَ » ظرفُ مكانٍ مختصٍ عند الجمهور؛ فلذلك تَأوَّلوا وصولَ الفعل إليه : إمَّا بأنَّه مفعولٌ به مجازاً ، جعله مسبوقاً لا مسبوقاً إليه ، وتَضَمَّنَ « اسْتَبَقُوا » معنى بادَرُوا ، وإمَّا على حَذفِ الجارِّ أي : إلى الصِّراط . وقال الزمخشري : « منصوب على الظرف ، وهو ماشٍ على قولِ ابن الطَّراوة؛ فإن الصراط والطريق ونحوَهما ليسَتْ عنده مختصَّةً . إلاَّ أنَّ سيبويهِ : على أن قوله :
3787 لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
ضرورةٌ لنصبه الطريقَ » .

وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)

وقرأ أبو بكر « مَكاناتِهم » جمعاً . وتَقَدَّم في الأنعام . والعامَّةُ على « مُضِيَّاً » بضم الميم ، وهو مصدرٌ على فُعُوْل . أصلُه مُضُوْي فأُدْغِمَ وكُسِرَ ما قبل الياءِ لتصِحَّ نحو : لُقِيّا .
وقرأ أبو حيوةَ - ورُوِيَتْ عن الكسائيِّ - بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو « عِتِيًّا » و « صِلِيَّاً » وقُرئ بفتحها . وهو من المصادر التي وَرَدَتْ على فَعيل كالرَّسِيم والذَّمِيْل .

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)

قوله : { نُنَكِّسْهُ } : قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً . والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً ، مِنْ نَكَسَه ، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها . وقد تقدَّمَ في الأنعام أنَّ نافعاً وابنَ ذكوان قرآ « تَعْقِلون » بالخطابِ والباقون بالغيبة .

وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)

قوله : { إِنْ هُوَ } : أي : إنِ القرآن . دَلَّ عليه السِّياقُ أو إنِ العِلْمُ إلاَّ ذكرٌ ، يَدُلُّ عليه : « وما عَلَّمْناه » والضمير في « له » للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : للقرآن .

لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

قوله : { لِّيُنذِرَ } : قرأ نافع وابن عامر هنا ، في الأحقاف « لتنذرَ » خطاباً . والباقون بالغيبة بخلاف عن البزي في الأحقاف : والغيبة تحتمل أن يكون الضمير فيها للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . وأن تكونَ للقرآن . وقرأ الجحدري واليماني « لِيُنْذِرَ » مبنياً للمفعول . وأبو السَّمَّال واليمانيُّ أيضاً « لِيَنْذَرَ » بفتحِ الياءِ والذال ، مِنْ نَذِر بكسر الدال أي : عَلِمَ ، فتكون « مَنْ » فاعلاً .

وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)

قوله : { رَكُوبُهُمْ } : أي : مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ . وقرأ أُبيٌّ وعائشة « رَكوبَتُهم » بالتاء . وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا ، وجعلهما الزمخشري : في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع ، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة . وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع ، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة . والحسن وأبو البرهسم والأعمش « رُكوبُهم » بضم الراء ، ولا بدَّ من حذف مضاف : إمَّا من الأولِ ، أي : فمِنْ منافعها رُكوبُهم ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذو ركوبِهم . قال ابن خالويه : « العربُ تقول : ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ ، وحَلُوب وحَلُوْبَة ، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت ، ورَكَبى حَلَبى ، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة ] » وأنشد :
3788 رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ ... تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ
والمَشارِبُ : جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً . والضمير في « لا يَسْتَطيعون » إمَّا للآلهةِ ، وإمَّا لعابديها . وكذلك/ الضمائرُ بعده . وتقدَّم قرءاةُ « يَحْزُن » و « يُحزن » . وقرأ زيد بن علي « ونسي خالقَه » بزنةِ اسمِ الفاعل .

وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)

قوله : { وَهِيَ رَمِيمٌ } : قيل : بمعنى فاعِل . وقيل : بمعنى مَفْعول ، فعلى الأولِ عَدَمُ التاءِ غيرُ مَقيسٍ . وقال الزمخشري : « الرَّميمُ اسمٌ لما بَلِيَ من العِظام غيرُ صفةٍ كالرِّمَّةِ والرُّفاتِ فلا يُقال : لِمَ لَمْ يُؤَنَّثْ وقد وقع خبراً لمؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعِل أو مفعول » .

الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

قوله : { الأخضر } : هذه قراءةُ العامَّةُ . وقُرِئ « الخضراء » اعتباراً بالمعنى . وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسمِ الجنسِ وتأنيثه . قال تعالى : { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] و { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وقد تقدَّم أنَّ بني تميمٍ ونجداً يُذَكِّرونه ، والحجازَ يؤنِّثونه إلاَّ ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ .

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)

قوله : { بِقَادِرٍ } : هذه قراءةُ العامَّةِ ، دخلتِ الباءُ زائدةً على اسم الفاعلِ . والجحدريُّ وابن أبي إسحاق والأعرج « يَقْدِرُ » فعلاً مضارعاً . والضميرُ في « مِثْلهم » قيل : عائدٌ على الناسِ؛ لأنهم هم المخاطبونَ . وقيل : على السماواتِ والأرض لتضمُّنِهم مَنْ يَعْقِلُ . و « بَلَى » جوابٌ ل « ليس » وإنْ دَخل عليها الاستفهامُ المصيِّرُ لها إيجاباً . والعامَّة على « الخَلاَّق » صيغةَ مبالغةٍ . والجحدري والحسن ومالك بن دينار « الخالق » اسمَ فاعِل . وتقدَّم الخلافُ في « فيكون » نصباً ورفعاً وتوجيهُ ذلك في البقرة .

فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

وقرأ طلحة والأعمش « مَلَكَة » بزنةِ شجرَة . وقُرِئ « مَمْلَكَةُ » بزنة مَفْعَلة وقُرِئ « ملك » . والمَلَكُوْتُ أبلغُ الجميع . والعامَّةُ على « تُرْجَعون » مبنياً للمفعول وزيدُ بن علي مبنيُّ للفاعلِ .

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { والصافات صَفَّا } : قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ ، والزَّاجراتِ والتاليات ، في صاد « صَفَّاً » وزاي « زَجْراً » وذال « ذِكْراً » ، وكذلك فَعَلا في { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] وفي { فالملقيات ذِكْراً } [ المرسلات : 5 ] وفي { العاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين . وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه . وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه ، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ ، وحمزةَ لا يُجيزه . وهذا كما اتفقا في إدغام { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } في سورة النساء [ الآية : 81 ] ، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه . وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك .
ومفعولُ « الصَّافَّات » و « الزَّاجراتِ » غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى : الفاعلات لذلك . وأعرب أبو البقاء « صَفَّاً » مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ . قلت : وهذا ضعيفٌ . وقيل : هو مرادٌ . والمعنى : والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون ، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ ، كقوله : { والطير صَآفَّاتٍ } [ النور : 41 ] ، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ . والزَّجْرُ : الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ . وأنشد :
3789 زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا ... أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ : إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك . وأمَّا « والتاليات » فَيجوز أَنْ يكونَ « ذِكْراً » مفعولَه . والمرادُ بالذِّكْر : القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ . ويجوز أَنْ يكونَ « ذِكْراً » مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات . وهذا أوفقُ لِما قبلَه . قال الزمخشري : « الفاءُ في » فالزَّاجراتِ « » فالتالياتِ « : إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه :
3790أ يا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا ... بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
كأنه قال : الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه ، كقوله : خُذِ الأفضلَ فالأكملَ ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك : » رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين « فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ . فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ ، وإمَّا على العكس . وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل ، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ ، والزاجراتُ أفضلَ ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً ، أو على العكس » يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل .
والواوُ في هذه للقسمِ ، والجوابُ/ قولُه : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } . وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ : هل هي للقسمِ أو للعطف؟

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)

قوله : { رَّبُّ السماوات } : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكون بدلاً مِنْ « لَواحدٌ » ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر . وجَمْعُ المشارقِ والمغارِبِ باعتبارِ جميع السنة ، فإنَّ للشمسِ ثلاثَمئةٍ وستين مشرقاً ، وثلاثَمئة وستين مَغْرباً . وأمَّا قولُه : « المَشْرِقَيْن والمغربين » فباعتبار الصيف والشتاء .

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)

قوله : { بِزِينَةٍ الكواكب } : قرأ أبو بكر بتنوين « زينة » ونصب « الكواكب » وفيه وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً ، وفاعلُه محذوفٌ ، تقديره : بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها . والثاني : أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ : اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ ، فتكون « الكواكبُ » على هذا منصوبةً بإضمارِ « أَعْني » ، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي : كواكبها ، أو من محل « بزينة » .
وحمزةُ وحفصٌ كذلك ، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة : ما يُزان به ، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة .
والباقون بإضافةِ « زينة » إلى « الكواكب » . وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو : ثوبُ خَزّ . الثاني : أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي : بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها . والثالث : أنه مضافٌ لمفعولِه أي : بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها .
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها ، ورفعِ الكواكب . فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع « الكواكب » به ، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع « الكواكبُ » بإضمار مبتدأ أي : هي الكواكبُ ، وهي في قوة البدلِ . ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن . وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ . وهو غلَطٌ لقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ } [ البلد : 14 ] كما سيأتي إن شاء الله .

وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)

قوله : { وَحِفْظاً } : منصوبٌ على المصدر بإضمارِ فعلٍ أي : حَفِظْناها حِفْظاً ، وإمَّا على المفعولِ مِنْ أجله على زيادة الواوِ . والعاملُ فيه « زيَّنَّا » ، أو على أَنْ يكونَ العاملُ مقدراً أي : لِحفْظِها زَيَّنَّاها ، أو على الحَمْلِ على المعنى المتقدم أي : إنَّا خَلَقْنا السماءَ الدنيا زينةً وحِفظاً . و « من كلِّ » متعلقٌ ب « حِفْظاً » إنْ لم يكنْ مصدراً مؤكِّداً ، وبالمحذوفِ إنْ جُعِل مصدراً مؤكداً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل « حِفْظاً » .

لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)

قوله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } : قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم . والأصل : يَتَسَمَّعون فأدغم . والباقون بالتخفيف فيهما . واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال : « لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب » إلى « . وأُجيب عنه : بأنَّ معنى الكلامِ : لا يُصْغُون إلى الملأ . وقال مكي : » لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون ، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب « إلى » تَعَدَّى سَمِع ب « إلى » وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه « .
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها ، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير : مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ . وهو فاسدٌ . ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ : لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك . وقال بعضهم : أصلُ الكلامِ : لئلا يَسْمَعوا ، فَحُذِفت اللامُ ، وأَنْ ، فارتفع الفعلُ . وفيه تَعَسُّفٌ . وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً ، وأنْ تكونَ حالاً ، وأنْ تكونَ مستأنفةً ، فالأولان ظاهرا الفسادِ ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً ، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ .

دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)

قوله : { دُحُوراً } : العامَّةُ على ضم الدال . وفيه أوجهٌ ، المفعولُ له ، أي : لأجلِ الطَّرْد . الثاني : أنه مصدرٌ ل « يُقْذَفُون » أي : يُدْحَرون دُحوراً أو يُقْذَفُون قَذْفاً . فالتجوُّزُ : إمَّا في الأول ، وإمَّا في الثاني . الثالث : أنه مصدرٌ لمقدرٍ أي : يُدْحَرون دُحوراً . الرابع : أنه في موضع الحال أي ذَوي دُحورٍ أو مَدْحورين . وقيل : هو جمعُ داحِر نحو : قاعِد وقُعود . فيكون حالاً بنفسه من غيرِ تأويلٍ . ورُوِي عن أبي عمرٍو أنه قرأ « ويَقْذِفُون » مبنياً لفاعل .
وقرأ علي والسلمي وابن أبي عبلة « دَحورا » بفتح الدال ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ ، أي : قذفاً دَحُورا ، وهو كالصَّبور والشَّكور . والثاني : أنه مصدرٌ كالقَبول والوَلوع . وقد تقدَّم أنه محصورٌ في أُلَيْفاظ .

إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ « لا يَسَّمَّعون » وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب . والثاني : أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء . والمعنى : أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف . قلت : ويجوز أَنْ تكون « مَنْ » شرطيةً ، وجوابُها « فَأَتْبَعَه » ، أو موصولةً وخبرُها « فَأَتْبَعَه » وهو استثناءٌ منقطعٌ . وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } [ الغاشية : 22 - 23 ] . والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية .
وقرأ العامَّةُ « خَطِفَ » بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً . وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء ، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل . وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً . وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة . وأصل القراءَتَيْن : اخْتَطَفَ ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً ، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين ، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء . وهذه واضحةٌ . وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ . وقد وُجِّه على التوهُّم . وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه ، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة . وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى . وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ .
وقرأ ابن عباس « خَطِفَ » بكسر الخاء والطاء خفيفةً ، وهو إتْباعٌ كقولِهم : نِعِمَ بكسر النون والعين . وقُرئ « فاتَّبَعَه » بالتشديد .

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)

قوله : { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } : العامَّةُ على تشديدِ الميم ، الأصلُ : أم مَنْ وهي أم المتصلةُ ، عُطِفَتُ « مَنْ » على « هم » . وقرأ الأعمش بتخفيفها ، وهو استفهامٌ ثانٍ . فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و « مَنْ » مبتدأ ، وخبره محذوفٌ أي : ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب « مَنْ » . ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً . وقد قُرئ « لازم » .

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)

قوله : { بَلْ عَجِبْتَ } : قرأ الأخَوان بضمِّ التاء ، والباقون بفتحها . فالفتحُ ظاهرٌ . وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك . وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي : قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا ، أو على إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة ، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة . وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها ، وقال : « إنَّ الله لا يَعْجَبُ » فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال : « إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه ، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه » يعني عبد الله بن مسعود .
قوله : « ويَسْخَرون » يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ ، وأن يكونَ حالاً . وقرأ جناح بن حبيش « ذُكِروا » مخففاً .

أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)

قوله : { أَوَ آبَآؤُنَا } : قرأ ابن عامر وقالون بسكونِ الواوِ على أنَّها « أو » العاطفةُ المقتضيةُ للشكِّ . والباقون بفتحِها على أنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على واوِ العطفِ . وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في الواقعة . وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأعراف في قولِه : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] فمَنْ فتح الواوَ جاز « في آباؤنا » وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ « إنَّ » واسمِها . والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على الضمير المستترِ في « لَمَبْعوثون » واستغنى بالفصلِ بهمزةِ الاستفهامِ . ومَنْ سَكَّنها تعيَّن فيه الأولُ دون الثاني على قولِ الجمهور لعَدَمِ الفاصل .
وقد أوضح هذا الزمخشريُّ حيث قال : « آباؤنا » معطوفٌ على محل « إنَّ » واسمِها ، أو على الضميرِ في « مَبْعوثون » . والذي جَوَّز العطفَ عليه الفصلُ بهمزةِ الاستفهام « . قال الشيخُ : أمَّا قولُه : » معطوفٌ على محلِّ إنَّ واسمها « فمذهبُ سيبويه خلافُه؛ فإنَّ قولَك » إن زيداً قائمٌ وعمروٌ « » عمرٌو « فيه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ . وأمَّا قولُه : » أو علىلضميرِ في « مبعوثون » إلى آخره فلا يجوزُ أيضاً لأنَّ همزةَ الاستفهامِ لا تدخلُ إلاَّ على الجملِ لا على المفرد؛ لأنه إذا عُطِف/ على المفردِ كان الفعلُ عاملاً في المفرد بوساطة حرفِ العطفِ ، وهمزةُ الاستفهام لا يَعْمَلُ ما قبلها فيما بعدها . فقوله : « أو آباؤنا » مبتدأٌ محذوفُ الخَبرِ ، تقديرُه : أو آباؤنا مبعوثون ، يَدُلُّ عليه ما قبله . فإذا قلتَ : « أقام زيدٌ أو عمرٌو » فعمرٌو مبتدأ محذوفُ الخبرِ لِما ذكرنا « .
قلت : أمَّا الردُّ الأولُ فلا يَلْزَمُ؛ لأنه لا يلتزمُ مذهبَ سيبويه . وأمَّا الثاني فإنَّ الهمزةَ مؤكِّدة للأولى فهي داخلةٌ في الحقيقةِ على الجملةِ ، إلاَّ أنه فَصَلَ بين الهمزتين ب » إنَّ « واسمها وخبرها . يَدُلُّ على هذا ما قاله هو في سورةِ الواقعة ، فإنه قال : » دَخَلَتْ همزَةُ الاستفهامِ على حَرْفِ العطفِ . فإنْ قلت : كيف حَسُنَ العطفُ على المضمر « لَمبعوثون » من غيرِ تأكيدٍ ب « نحن »؟ قلتُ : حَسُنَ للفاصلِ الذي هو الهمزةُ كما حَسُنَ في قولِه : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] لفَصْلِ المؤكِّدة للنفي « . انتهى . فلم يَذْكُرْ هنا غيرَ هذا الوجهِ ، وتشبيهَه بقوله : لفَصْلِ المؤكِّدةِ للنفي ، لأنَّ » لا « مؤكدةٌ للنفي المتقدِّم ب » ما « . إلاَّ أنَّ هذا مُشْكِلٌ : بأنَّ الحرفَ إذا كُرِّر للتوكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلاَّ بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميرِه . وقد مضى القولُ فيه . وتحصَّل في رفع » آباؤنا « ثلاثةُ أوجهٍ : العطفُ على محلِّ » إن « واسمِها ، العطفُ على الضمير المستكنِّ في » لَمبعوثون « ، الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ مضمرٌ . والعامل في » إذا « محذوفٌ أي : أنُبْعَثُ إذا مِتْنا . هذا إذا جَعَلْتَها ظرفاً غيرَ متضمنٍ لمعنى الشرطِ . فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً كان جوابُها عاملاً فيها أي : أإذا مِتْنا بُعِثْنا أو حُشِرْنا .
وقُرِئ » إذا « دونَ استفهامٍ . وقد مضى القولُ فيه في الرعد .

قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)

قوله : { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } : جملةٌ حاليةٌ . العاملُ فيها الجملةُ القائمةُ مَقامَها « نعم » أي : تُبْعَثون وأنتم صاغرون أذلاَّءُ . قال الشيخ : « وقرأ ابنُ وثاب » نَعِمْ « بكسر العين . قلت : وقد تقدم في الأعراف أنَّ الكسائيَّ قرأها كذلك حيث وقعَتْ ، وكلامُه هنا مُوْهِمٌ أنَّ ابنَ وثَّاب منفردٌ بها .

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)

قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ } : قال الزمخشري : « فإنما هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : إذا كان ذلك فما هي إلاَّ زَجْرَةٌ واحدةٌ » . قال الشيخ : « وكثيراً ما تُضْمَرُ جملةُ الشرطِ قبل فاءٍ إذا ساغ تقديرُه ، ولا ضرورةَ تَدْعُوْ إلى ذلك ، ولا يُحْذَف الشرطُ ويبقى جوابُه ، إلاَّ إذا انجزم الفعلُ في الذي يُطْلَقُ عليه أنه جوابٌ للأمرِ والنهي وما ذُكِر معهما . أمَّا ابتداءً فلا يجوزُ حَذْفُه » .
قوله : « هي » ضميرُ البعثةِ المدلولِ عليها بالسِّياق لَمَّا كانَتْ بعثتُهم ناشئةً عن الزَّجْرَةِ جُعِلَتْ إياها مجازاً . وقال الزمخشري : « هي مبهمةٌ يُوَضِّحها خبرُها » . قال الشيخ : « وكثيراً ما يقول هو وابنُ مالك : إن الضميرَ يُفَسِّره خبرُه » .

وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)

ووقف أبو حاتمٍ على « وَيْلَنا » وجعل ما بعده من قول الباري تعالى . وبعضُهم جَعَلَ { هذا يَوْمُ الدين } مِنْ كلامِ الكفرة فيقف عليه . وقوله : { هذا يَوْمُ الفصل } مِنْ قولِ الباري تعالى . وقيل : الجميعُ مِنْ كلامهم ، وعلى هذا فيكونُ قولُه « تُكَذِّبون » : إمَّا التفاتاً من التكلم إلى الخطاب ، وإمَّا مخاطبةُ بعضِهم لبعض .

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)

قوله : { وَأَزْوَاجَهُمْ } : العامَّةُ على نصبِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : العطفُ على الموصول . والثاني : أنه مفعولٌ معه . قال أبو البقاء : « وهو في المعنى أقوى » . قلت : إنما قال في المعنى لأنَّه في الصناعةِ ضعيفٌ؛ لأنه أمكن العطفُ فلا يُعْدَلُ عنه . وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بالرفعِ عَطْفاً على ضمير « ظَلموا » وهو ضعيفٌ لعدمِ العاملِ . وقوله : { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } لا يجوزُ فيه هذا لأنه لا يُنْسَبُ إليهم ظلمٌ ، إنْ لم يُرَدْ بهم الشياطينُ : وإن أُريد بهم ذلك جاز فيه الرفعُ أيضاً على ما تقدَّم .

وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)

قوله : { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } : العامَّةُ على الكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلة . وقُرِئ بفتحها على حَذْفِ لامِ العلةِ أي : قِفُوهم لأجل سؤال اللَّهِ إياهم .

مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)

قوله : { مَا لَكُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً عَمَّا قبله والمسؤولُ عنه غيرُ مذكورٍ ، ولذلك قَدَّره بعضُهم : عن أعمالهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المسؤولَ عنه في المعنى ، فيكونَ معلِّقاً للسؤال . و « لا تَناصَرون » جملةٌ حاليةٌ . العاملُ فيها الاستقرارُ في « لكم » . وقيل : بل هي على حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، و « أنْ » الناصبةِ ، فلمَّا حُذِفَتُ « أن » ارتفع الفعلُ . والأصل : في أنْ لا ، وتقدَّمَتْ قراءةُ البزي « لا تَّناصرون » بتشديد التاء . وقُرِئ « تَتَناصرون » على الأصلِ .

قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)

قوله : { عَنِ اليمين } : حالٌ من فاعل « تَأْتُوننا » . واليمينُ : إمَّا الجارحَةُ عَبَّر بها عن القوةِ ، وإمَّا الحَلْفُ؛ لأنَّ المتعاقِدَيْن بالحَلْفِ يَمْسَح كلٌّ منهما يمينَ الآخرِ ، فالتقديرُ على الأول : تأتوننا أقوياءَ ، وعلى الثاني مُقْسِمينَ حالفين . /

فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)

قوله : { إِنَّا لَذَآئِقُونَ } : الظاهر أنه مِنْ إخبارِ الكَفَرةِ المتبوعين أو الجنِّ بأنَّهم ذائِقون العذابَ . ولا عدُولَ في هذا الكلامِ . وقال الزمخشري : « فَلَزِمَنا قولُ ربِّنا إنَّا لَذائقون . يعني وعيدَ اللَّهِ بأنَّا لذائقون لِعذابِه لا مَحالةَ . ولو حكى الوعيدَ كما هو لقال : إنَّكم لذائقونَ ، ولكنه عَدَلَ به إلى لفظِ المتكلم؛ لأنهم متكلِّمون بذلك عن أنفسِهم . ونحوُه قولُ القائلِ :
3790ب لقد عَلِمَتْ هوازِنُ قَلَّ مالي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو حكى قولَها لقال : قَلَّ مالُك . ومنه قولُ المُحَلِّفِ للحالِف : احْلِفْ » لأَخْرُجَنَّ « و » لَتَخْرُجَنَّ « الهمزةُ لحكايةِ الحالفِ ، والتاءُ لإِقبالِ المحلِّف على المحلَّف » .

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } : أي : يومَ إذ يَسْألوا ويُراجِعوا الكلامَ فيما بينهم .

بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

قوله : { وَصَدَّقَ المرسلين } : أي : صَدَّقهم محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقرأ عبد الله « صَدَقَ » خفيفةَ الدالِ . « المُرْسلون » فاعلاً به أي : صَدَقوا فيما جاؤوا به مِنْ بشارتهم به عليه السلام .

إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)

قوله : { لَذَآئِقُو العذاب } : العامة على حذْفِ النونِ والجرِّ . وقرأ بعضُهم بإثباتِها ، والنصبِ ، وهو الأصلُ . وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم وأبو السَّمَّال في روايةٍ بحذف النون والنصبِ ، أَجْرى النون مُجْرى التنوين في حَذْفِها لالتقاء الساكنين كقولِه : { أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] [ وقولِه ] :
3791 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
وقال أبو البقاء : « وقُرِئ شاذَّاً بالنصب ، وهو سهوٌ من قارئه لأنَّ اسمَ الفاعلِ تُحْذَفُ منه النونُ ويُنْصَبُ إذا كان فيه الألفُ واللامُ » . قلت : وليس بسَهْوٍ لِما ذكَرْتُه لك . وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً « لَذائِقٌ » بالإِفراد والتنوين ، « العذابَ » نصباً . تخريجُه على حَذْفِ اسمِ جمعٍ هذه صفتُه ، أي : إنكم لَفريقٌ أو لجمعٌ ذائِقٌ؛ ليتطابقَ الاسمُ والخبرُ في الجمعيَّةِ .

وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

وقوله : { إِلاَّ مَا كُنْتُمْ } : أي : إلاَّ جزاءَ ما كنتم .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)

قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : استثناءٌ منقطعٌ .

أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)

وقوله : { أُوْلَئِكَ } : إلى آخره بيانٌ لحالِهم .

فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)

قوله : { فَوَاكِهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « رزق » ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : ذلك الرزقُ فواكهُ .

عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)

وقوله : { على سُرُرٍ } : العامَّةُ على ضمِّ الراءِ . وأبو السَّمَّال بفتحها ، وهي لغةُ بعضِ كلبٍ وتميمٍ : يفتحون عينَ فُعُل إذا كان اسماً مضاعَفاً . وأمَّا الصفةُ نحو « ذُلُل » ففيها خلافٌ : الصحيحُ أنه لا يجوزُ؛ لأنَّ السَّماعَ وَرَدَ في الجوامد دونَ الصفات .
قوله : « في جنات » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « مُكْرَمون » ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأنْ يكونَ حالاً ، وكذلك « على سُرُرٍ » . و « متقابلين » حالٌ . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق « على سرر » بمتقابلين ، و « يُطافُ » صفةٌ ل « مُكْرَمُون » ، أو حالٌ من الضمير في « متقابلين » ، أو من الضميرِ في أحدِ الجارَّيْن إذا جعلناه حالاً .
والكأسُ من الزُّجاج ما دام فيها خمرٌ أو نبيذٌ وإلاَّ فهي قَدَحٌ . وقد تُطْلق الكأسُ على الخمرِ نفسِها ، وهو مجازٌ سائغٌ . وأُنْشِدَ :
3792 وكأسٍ شَرِبْتُ على لَذَّةٍ ... وأخرى تَداوَيْتُ منها بها
و « من مَعين » صفةٌ ل « كأس » وتقدَّم الكلامُ على « معين » .

بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)

قوله : { بَيْضَآءَ } : صفةٌ ل « كَأْس » . وقال الشيخ : « صفةٌ ل كأس أو للخمرِ » . قلت : لم تُذْكَرِ الخمرُ ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يَعْنيَ بالمَعين الخمرَ وهو بعيدٌ جداً .
وقرأ عبد الله « صفراءَ » وهي مخالِفَةٌ للسَّواد ، إلاَّ أنه قد جاء وَصْفُها بهذا اللونِ . وأنشد لبعض المُوَلَّدين :
3793 صَفْراءُ لا تَنْزِلُ الأحزانُ ساحتَها ... لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْه سَرَّاءُ
و « لَذَّةٍ » صفةٌ أيضاً . وُصِفَتْ بالمصدرِ مبالغةً أو على حَذْفِ المضاف أي : ذات لذةٍ ، أو على تأنيثِ لَذّ بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على فَعْل كصَعْبٍ . يُقال : لَذَّ الشيءُ يَلَذُّ لَذَّاً فهو لَذيذ ولَذٌّ . وأنشد :
3794 بحديثِها اللَّذِّ الذي لو كَلَّمَتْ ... أُسْدَ الفَلاةِ به أَتَيْنَ سِراعا
وقال آخر :
3795 ولَذٍّ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُه ... بأَرضِ العِدا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثانِ
واللذيذُ : كلُّ شيءٍ مُسْتَطابٍ . وأُنْشِد :
3796 تَلَذُّ لِطَعْمِه وتَخالُ فيه ... إذا نَبَّهْتَها بعدَ المَنامِ
و « للشاربين » صفةٌ ل « لَذَّةٍ » .

لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)

و : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } : صفةٌ أيضاً . وبَطَل عَمَلُ « لا » وتكرَّرت لتقدُّمِ خبرِها . وقد تقدَّم أولَ البقرةِ فائدةُ تقديمَ مثلِ هذا الخبرِ ورَدُّ الشيخِ له والبحثُ معه ، فعليك بالالتفات إليه .
قوله : « يُنْزَفُون » قرأ الأخَوان « يُنْزِفون » هنا وفي الواقعة بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي . وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط . والباقون بضم الياءِ وفتحِ الزاي . وابنُ أبي إسحاق بالفتح والكسر . وطلحةُ بالفتح والضمِّ . فالقراءةُ الأولى مِنْ أَنْزَفَ الرجلُ إذا ذهب عقلُه من السُّكْرِ فهو نَزِيْفٌ ومَنْزُوْف . وكان قياسُه مُنْزَف ك مُكْرَم . ونَزَفَ الرجلُ الخمرةَ فأَنْزَف هو ، ثلاثيُّه متعدٍ ، ورباعيُّه بالهمزةِ قاصرٌ ، وهو نحو : كَبَيْتُه فأَكَبَّ وقَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع/ أي : دخلا في الكَبِّ والقَشْع . وقال الأسودُ :
3797 لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا
ويقال : أَنْزَفَ أيضاً أي : نَفِدَ شرابُه . وأمَّا الثانيةُ فمِنْ نُزِف الرجلُ ثلاثياً مبنياً للمفعول بمعنى : سَكِر وذَهَبَ عَقْلُه أيضاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مِنْ أُنْزِف أيضاً بالمعنى المتقدِّم . وقيل : هو مِنْ قولِهم : نَزَفْتُ الرَّكِيَّةَ أي : نَزَحْتُ ماءَها . والمعنى : أنهم لا تَذْهَبُ خمورُهم بل هي باقيةٌ أبداً . وضَمَّنَ « يُنْزَفُوْن » معنى يَصُدُّون عنها بسبب النزيف . وأمّا القراءتان الأخيرتان فيقال : نَزِف الرجلُ ونَزُف بالكسر والضم بمعنى : ذَهَبَ عَقْلُه بالسُّكْر .
والغَوْلُ : كلُّ ما اغتالك أي : أَهْلَكك . ومنه الغُوْلُ بالضم : شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ . ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال : غالني كذا . ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال :
3798 مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ ... جميعاً وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ
وقال آخر :
وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا ... وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ
فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى .

وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)

و : { قَاصِرَاتُ الطرف } : يجوز أَنْ يكونَ من باب الصفةِ المشبهةِ أي : قاصراتٌ أطرافُهنَّ كمُنْطَلِق اللسانِ ، وأَنْ يكونَ من باب اسم الفاعل على أصلِه . فعلى الأولِ المضافُ إليه مرفوعُ المحلِّ ، وعلى الثاني منصوبُه أي : قَصُرَتْ أطرافُهُنّ على أزواجِهِنَّ وهو مدحٌ عظيمٌ . قال امرؤ القيس :
3800 من القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
والعِيْنُ : جمع عَيْناء وهي الواسعةُ العينِ . والذَّكَرُ أَعْيَنُ ، والبَيْضُ جمعُ بَيْضَة وهو معروفٌ . والمرادُ به هنا بَيْضُ النَّعام . والمَكْنون المصُون مِنْ كَنَنْتُه أي : جَعَلْتُه في كِنّ . والعربُ تُشَبِّه المرأةَ بها في لَوْنِها ، وهو بياضٌ مُشْرِبٌ بعضَ صُفْرَةٍ . والعربُ تُحبُّه . قال امرؤ القيس :
3801 وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلٍ
كبِكْرِ مُقاناةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ ... غَذاها نَمِيْرُ الماءِ غيرَ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة :
3802 بيضاءُ في بَرَحٍ صَفْراءُ في غَنَجٍ ... كأنها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضُهم : إنما شُبِّهَتِ المرأةُ بها في أجزائِها ، فإنَّ البيضةَ من أيِّ جهةٍ أتيتَها كانَتْ في رأي العينِ مُشْبهةً للأخرى وهو في غاية المدح . وقد لَحَظ هذا بعضُ الشعراءِ حيث قال :
3803 تناسَبَتِ الأعضاءُ فيها فلا تَرَى ... بهنَّ اختلافاً بل أَتَيْنَ على قَدْرِ
ويُجْمع البَيْضُ على بُيُوْض قال :
3804 بتَيْهاءَ قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بُيوضُها

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)

قوله : { يَتَسَآءَلُونَ } : حالٌ من فاعل « أَقْبَلَ » و « أقبل » معطوفٌ على « يُطاف » أي : يَشْربون فيتحدثون . وكذا حالُ الشَّرْبِ حيث يَجْلسون كما قال :
3805 وما بَقِيَتْ من اللَّذَّاتِ إلاَّ ... محادثة الكِرامِ على المُدامِ
وأتى بقوله : « فأقْبَلَ » ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه كقولِه : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] .

يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)

قوله : { لَمِنَ المصدقين } : العامَّةُ على تخفيفِ الصادِ من التصديق أي : لَمِنَ المُصَدِّقين بلقاءِ الله . وقُرِئ بتشديدِها من الصَّدَقة .

قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)

وقرأ العامَّةُ « مُطَّلِعُوْنَ » بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ . « فاطَّلَع » ماضياً مبنياً للفاعل ، افْتَعَلَ من الطُّلوع .
وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون « فأُطْلِعَ » بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول . و « مُطْلِعُوْنَ » على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي : مُقْبِلون مِنْ قولِك : أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي : أَقْبَلَ ، وأَنْ يكونَ متعدياً ، ومفعولُه محذوفٌ أي : أصحابَكم .
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار « مُطْلِعُوْنِ » خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ ، « فَأُطْلِعَ » مبنياً للمفعول . وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ ، والأصل : مُطْلِعُوْي ، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو : جاء مُسْلِميَّ العاقلون ، وقوله عليه السلام « أوَ مُخْرِجِيَّ هم » وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع ، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ . وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك :
3806 وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ ... أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح
/وإليه نحا الزمخشريُّ قال : « أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال : » يُطْلِعُونِ « . وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ . وذكر فيه توجيهاً آخر فقال : » أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ ، كقوله :
3807 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورَدَّه الشيخ : بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه . لا يجوز : « هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها ، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي » قلت : إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ . وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ ، وقولِ الآخر :
3808 فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني ... وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ
وقول الآخر :
3809 وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ ... صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ
قولان ، أحدُهما : أنَّه تنوينٌ ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ ، وإنْ قلنا : إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ . والثاني : أنه ليس تنويناً ، وإنما هو نونُ وقايةٍ . واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه :
وليس بمُعْيِيْني . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبقوله أيضاً :
3810 وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً ... فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا
ووَجْهُ الدلالةِ من الأول : أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن .

ووجهُها من الثاني : أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله : « والآمِرُوْنَه » وفي قولِه :
3811 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه ... جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ
فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها . وقال أبو البقاء : « ويُقْرأ بكسرِ النونِ ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ » . قلت : وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه ، وخروجٍ عن القواعد ، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة .
وقُرِئ « مُطَّلِعُوْن » بالتشديد كالعامَّة ، « فأَطَّلِعَ » مضارعاً منصوباً بإضمار « أَنْ » على جوابِ الاستفهامِ . وقُرِئ « مُطْلِعون » بالتخفيف « فَأَطْلَعَ » مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم . يُقال : طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع ، كأكْرم ، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد .
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مصدرُ الفعلِ أي : أُطْلِعَ الإِطلاعُ . الثاني : الجارُّ المقدرُ . الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال : طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه ، فالهمزَةُ فيه للتعدية . وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في « لوامحه » فقال : « طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر ، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ . ومعنى ذلك : هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل . وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير : فأُطْلِعَ الإِطلاعُ ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي : أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك » .
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال : « قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ . وأمَّا قولُه : » أو حرف الجرِّ المحذوف أي : أُطْلِع به « فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه ، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا . لو قلت : » زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ « تريد : به أو عليه لم يَجُزْ » . قلت : أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ ، وإنما قال : بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ . ومعنى ذلك : أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج .

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)

قوله : { فَرَآهُ } : عطفٌ على « فاطَّلَعَ » . وسواءُ الجحيمِ وَسَطُها . وأحسنُ ما قيل فيه ما قاله ابنُ عباس : سُمِّي بذلك لاستواءِ المسافةِ منه إلى الجوانبِ . وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدةَ : « كنت أكْتُبُ حتى ينقطعَ سَوائي » .

قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)

قوله : { تالله } : قَسَمٌ فيه [ معنى ] تعجُّبٍ ، و « إنْ » مخففةٌ أو نافية ، واللام فارقةٌ أو بمعنى « إلاَّ » ، وعلى التقديرين فهي جوابُ القسمِ أعني إنْ وما في حَيِّزها .

أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)

قوله : { بِمَيِّتِينَ } : قرأ زيد بن علي « بمائِتين » وهما مثلُ : ضيِّق وضائق . وقد تقدَّم .
وقوله : « أفما » فيه الخلافُ المشهورُ : فقدَّره الزمخشري : أنحن مُخَلَّدون مُنَعَّمون فما نحن بميِّتين . وغيرُه يجعلُ الهمزةَ متقدمةً على الفاءِ .

إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)

قوله : { إِلاَّ مَوْتَتَنَا } : منصوبٌ على المصدر . والعاملُ فيه الوصفُ قبلَه ، ويكون استثناءً مفرَّغاً . وقيل : هو استثناءٌ منقطعٌ ، أي : لكنْ الموتةُ الأولى كانت لنا في الدنيا . وهذا قريبٌ في المعنى مِنْ قولِه تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] وفيها بَحْثٌ حَسَنٌ وهناك إنْ شاء اللَّهُ يأتي تحقيقُه .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

وقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ } : إلى قوله : « العامِلون » يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ كلامِ القائلِ ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الباري تعالى .

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)

قوله : { نُّزُلاً } : تمييزٌ ل « خَيْرٌ » ، والخيريَّةُ بالنسبة إلى ما اختاره الكفارُ على غيرِه . والزَّقُّوم : شجرةٌ مَسْمومة يَخْرج لها لبنٌ ، متى مَسَّ جسمَ أحدٍ تَوَرَّم فماتَ . والتَزَقُّمُ البَلْعُ بشِدة وجُهْدٍ للأشياءِ الكريهة . وقولُ أبي جهلٍ - وهو من العرب العَرْباء - « لا نعرفُ الزَّقُّومَ إلاَّ التمرَ بالزُّبْدِ » من العِناد والكذب البَحْتِ .

طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)

قوله : { رُءُوسُ الشياطين } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه حقيقةٌ ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى « الأسْتَن » وقد ذكره النابغةُ :
3812 تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها ... مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به . وقيل : الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ ، ولهنَّ أعْراف . قال :
3813 عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ ... كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ
وقيل : وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة :
3814 مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها ... من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه ، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ .
والثاني : أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل . وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ ، وإن لم يَرَه . والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب ، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية ، كقوله :
3815 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ
ولم يَرَ أنيابَها ، بل ليسَتْ موجودة البتةَ .

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)

قوله : { لَشَوْباً } : العامَّةُ على فتح الشين ، وهو مصدرٌ على أصلِه . وقيل : يُرادُ به اسمُ المفعولِ ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ « لَشُوباً » بالضمِّ . قال الزجاج : « المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب » كالنَّقض بمعنى المنقوض . وعَطَفَ ب « ثمَّ » لأحدِ معنيين : إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم ، فلذلك أتى ب « ثم » المقتضيةِ للتراخي ، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ . وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و « مِنْ حميمٍ » صفةٌ ل « شَوْباً » . والشَّوْبُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه : شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي : خَلَطه ومَزَجَه .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : /استثناءٌ مِن المُنْذَرين استثناءً منقطعاً لأنه وعيدٌ ، وهم لم يَدْخُلوا في هذا الوعيدِ .

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)

قوله : { فَلَنِعْمَ } : جوابٌ لقسَمٍ مقدَّرٍ أي : فواللَّهِ . ومثلُه قوله :
3816 لَعَمْري لَنِعْمَ السَّيِّدانِ وُجِدْتُما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ أي : نحن .

سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)

قوله : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه مُفَسِّرٌ ل « تَرَكْنا » . والثاني : أنه مُفَسِّرٌ لمفعولِه أي : تَرَكْنا عليه ثناءً وهو هذا الكلامُ . وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدَّرٌ أي : فقُلْنا سلامٌ . وقيل : ضَمَّن معنى ترَكْنا معنى قلنا . وقيل : سَلَّط « تَرَكْنا » على ما بعده . قال الزمخشري : « وتركنا عليه في الآخِرين هذه الكلمةَ وهي : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } ، بمعنى : يُسَلِّمون عليه تسليماً ، ويَدْعُوْن له ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك : قرأْتُ سورةَ أَنْزَلْناها » وهذا الذي قالهُ قولُ الكوفيين : جعلوا الجملةَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب « تَرَكْنا » ، لا أنه ضُمِّنَ معنى القول بل هو على معناه بخلافِ الوجهِ قبلَه ، وهو أيضاً مِنْ أقوالِهم . وقرأ عبد الله « سَلاماً » وهو مفعولٌ به ب « تَرَكْنا » و « كذلك » نعتُ مصدرٍ ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرَّة .

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)

قوله : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ } : الضميرُ فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّه يعودُ على نوح أي : مِمَّن كان يُشايِعُه أي : يتابِعُه على دينِه والتصلُّبِ في أمر الله . والثاني : أنه يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم . والشِّيْعَةُ قد تُطْلَق على المتقدمِ كقوله :
3817 وما ليَ إلاَّ آلَ أحمدَ شِيْعَةٌ ... وما لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحقِّ مَشْعَبُ
فجعلَ آلَ أحمدَ - وهم متقدِّمون عليه وهو تابعٌ لهم - شِيعةً له قاله الفراء . والمعروفُ أن الشِّيْعَةَ تكون في المتأخِّر .

إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)

قوله : { إِذْ جَآءَ } : في العاملِ فيه وجهان ، أحدهما : اذكُرْ مقدَّراً ، وهو المتعارَفُ . والثاني : قال الزمخشري : « ما في الشِّيْعَةِ مِنْ معنى المشايَعَة يعني : وإنَّ مِمَّنْ شايَعَه على دينِه وتقواه حين جاء رَبَّه » . قال الشيخ : « لا يجوز؛ لأنَّ فيه الفَصْلَ بين العاملِ والمعمولِ بأجنبي وهو » لإِبْراهيمَ « لأنه أجنبيٌّ مِنْ شِيْعته ، ومِنْ » إذ « . وزاد المنعَ أَنْ قَدَّره » مِمَّنْ شايَعَه حين جاء لإِبراهيم « [ لأنه قَدَّرَ مِمَّنْ شايَعَه ، فجعل العاملَ قبلَه صلةً لموصول وفَصَلَ بينه وبين » إذ « بأجنبي وهو لإِبراهيم ] وأيضاً فلامُ الابتداءِ تمنعُ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدها . لو قلت : » إن ضارباً لقادمٌ علينا زيداً « تقديره : إنَّ ضارباً زيداً لقادِمٌ علينا لم يَجُزْ » .

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)

قوله : { إِذْ قَالَ } : بدلٌ مِنْ « إذ » الأولى أو ظرفٌ ل « سليم » أي : سَلِمَ عليه في وقتِ قولِه كَيْتَ وكَيْتَ ، أو ظرفٌ ل « جاء » ذكره أبو البقاء ، وليس بواضحٍ . وتقدَّم نظيرُ ما بعده .

أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)

قوله : { أَإِفْكاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ من أجله أي : أتُريدون آلهةً دونَ اللَّهِ إفكاً ، ف « آلهةً » مفعولٌ به و « دونَ » ظرفٌ ل « تُرِيْدون » ، وقُدِّمَتْ معمولاتُ الفعلِ اهتماماً بها ، وحَسَّنه كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ ، وقَدَّمَ المفعولَ مِنْ أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مُكافِحٌ لهم بأنَّهم على إفْكٍ وباطِلٍ . وبهذا الوجهِ بدأ الزمخشري . الثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً به ب « تُريدون » ، ويكون « آلهةً » بدلاً منه جعلها نفسَ الإِفكِ مبالغةً فأبْدَلها منه وفَسَّره بها ، ولم يَذْكر ابنُ عَطية غيرَه . الثالث : أنَّه حالٌ مِنْ فاعل « تُريدون » أي : أتُريدون آلهةً آفِكين أو ذوي إفْك . وإليه نحا الزمخشري . قال الشيخ : « وجَعْلُ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ إلاَّ مع » أمَّا « نحو : أمَّا عِلْماً فعالِمٌ » .

فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)

قوله : { فَرَاغَ } : أي : مال في خُفْيَةٍ . وأصلُه مِنْ رَوَغان الثعلبِ ، وهو تَرَدُّدُه وعَدَمُ ثبوتِه بمكانٍ .

فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)

و « ضَرْباً » مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي : فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه : فراغَ يَضْرِب ضَرْباً ، أو ضَمَّن « راغَ » معنى يَضْرِبُ ، وهو بعيدٌ . و « باليمينِ » متعلِّقٌ ب « ضَرْباً » إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه . واليمينُ : يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ ، فالباءُ على هذا للحالِ أي : مُلْتبساً بالقوةِ ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه : { وتالله لأَكِيدَنَّ } [ الأنبياء : 57 ] . والباءُ على هذا للسببِ . وعَدَّى « راغ » الثاني ب « على » لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم ، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه « عليهم » جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ .

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

قوله : { يَزِفُّونَ } : حالٌ مِنْ فاعلِ « أَقْبَلوا » ، و « إليه » يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده . وقرأ حمزةُ « يُزِفُّون » بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان ، أحدهما : أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي : دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم ، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى : أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين ، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ . والثاني : أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي : حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ ، وقد تقدَّم ما فيه . وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي : عَدا بسُرْعة . وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام .
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة « يَزِفُون » مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي : أَسْرَعَ . إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا : لا نعرفُها بمعنى زَفَّ ، وقد عَرَفَها غيرُهما . قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها - : « الوزيف : النَّسَلان » .
وقُرِئ « يُزَفُّون » مبنيَّاً للمفعول و « يَزْفُوْن » ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه ، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه . وبين قولِه : « فأَقْبَلُوا » وقولِه : « فراغ عليهم » جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي : فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم ، ونحو هذا .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)

قوله : { وَمَا تَعْمَلُونَ } : في « ما » هذه أربعةُ أوجه ، أجودُها : أنها بمعنى الذي أي : وخَلَق الذي تَصْنَعونه ، فالعملُ هنا التصويرُ والنحتُ نحو : عَمِل الصائغُ السِّوارَ أي : صاغه . ويُرَجِّح كونَها بمعنى الذي تَقَدُّمُ ما قبلَها فإنَّها بمعنى الذي أي : أتعبُدُوْنَ الذي تَنْحِتُون ، واللَّهُ خلقكم وخَلَقَ ذلك الذي تَعْملونه بالنَّحْتِ .
والثاني : أنها مصدريةٌ أي : خَلَقَكم وأعمالَكم . وجعلها الأشعريَّةُ دليلاً على خَلْقِ أفعال العباد لله تعالى ، وهو الحقُّ . إلاَّ أَنَّ دليلَ ذلك مِنْ هنا غيرُ قويّ لِما تقدَّم مِنْ ظهورِ كَوْنِها بمعنى الذي . وقال مكي : « يجبُ أَنْ تكونَ » ما « والفعلُ مصدراً جيْءَ به لِيُفيدَ أنَّ اللَّهَ خالقُ الأشياءِ كلِّها » . وقال أيضاً : « وهذا أَلْيَقُ لقولِه تعالى : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } [ الفلق : 2 ] أجمع القراءُ على الإِضافةِ ، فدَلَّ على أنه خالقُ الشَّرِّ . وقد فارق عمرو بن عبيد الناسَ فقرأ » مِنْ شرٍّ « بالتنوين ليُثْبِتَ مع الله تعالى خالقاً » . وقد استفرضَ الزمخشري هذه المقالةَ هنا بكونِها مصدريةً ، وشَنَّع على قائلِها .
والثالث : أنها استفهاميةٌ ، وهو استفهامُ توبيخٍ وتحقيرٍ لشأنِها أي : وأيَّ شيءٍ تَعْملونَ؟ والرابع : أنَّها نافيةٌ أي : إنَّ العملَ في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاً . والجملةُ مِنْ قولِه : « والله خَلَقكم » حالٌ ومعناها حينئذٍ : أتعبدون الأصنام على حالةٍ تُنافي ذلك ، وهي أنَّ اللَّهَ خالِقُكم وخالِقُهم جميعاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً .

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

قوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ } : « معه » متعلِّقٌ بمحذوفٍ على سبيل البيان كأنَّ قائلاً قال : مع مَنْ بلغ السَّعْيَ؟ فقيل : مع أبيه . ولا يجوزُ تعلُّقُه ب « بَلَغَ » لأنَّه يَقْتضي بلوغَهما معاً حَدَّ السَّعْيِ . ولا يجوز تعلُّقُه بالسَّعْيِ؛ لأنَّ صلةَ المصدرِ لا تتقدَّمُ عليه فتعيَّن ما تقدَّم . قال معناه الزمخشريُّ . ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرفِ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَه بالسَّعْي .
قوله : « ماذا ترى » يجوزُ أَنْ تكونَ « ماذا » مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب « تَرَى » ، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب « انْظُر » لأنها مُعَلِّقةٌ له ، وأنْ تكونَ « ما » استفهاميةً ، و « ذا » موصولةً ، فتكون مبتدأً وخبراً ، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً ، وأَنْ تكونَ « ماذا » بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل « انْظُرْ » . وقرأ الأخَوان « تُري » بالضم والكسر . والمفعولان محذوفان ، أي : تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك .
وباقي السبعة/ « تَرَى » بفتحتين مِن الرأي . وقرأ الأعمش والضحَّاك « تُرَى » بالضمِّ والفتح بمعنى : ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك .
وقوله : « ما تُؤْمَرُ » يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » بمعنى الذي ، والعائدُ مقدرٌ أي : تُؤْمَرُه ، والأصلُ : تُؤْمَرُ به ، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك : « جاء الذي مَرَرْتُ » . وأَنْ تكونَ مصدريةً . قال الزمخشري : « أو أَمْرَك ، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً » يعني بقولِه المفعول أي : الذي لم يُسَمَّ فاعلُه ، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً .

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)

قوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا } : في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها - وهو الظاهرُ - أنَّه محذوفٌ ، أي : نادَتْه الملائكةُ ، أو ظهرَ صَبْرُهما أو أَجْزَلْنا لهما أَجْرَهما . وقدَّره بعضُهم : بعد الرؤيا أي : كان ما كان مِمَّا يَنْطِقُ به الحالُ والوصفُ ممَّا لا يُدْرَكُ كُنْهُه . ونقل ابن عطية أنَّ التقديرَ : فلمَّا أَسْلَما أَسْلَما وَتلَّه ، قال : كقوله :
3818 فلمَّا أَجَزْنا ساحةً الحَيِّ . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : فلمَّا أَجَزْنا أَجَزْنا وانتحى ، ويُعْزَى هذا لسبيويه وشيخِه الخليلِ . وفيه نظرٌ : من حيثُ اتِّحادُ الفعلَيْنِ الجارِيَيْنِ مَجْرى الشرط والجواب . إلاَّ أَنْ يُقال : جَعَلَ التغايرُ في الآية بالعطفِ على الفعل ، وفي البيت يعمل الثاني في « ساحة » وبالعطف عليه أيضاً . والظاهر أنَّ مثلَ هذا لا يكفي في التغاير .
الثاني : أنه « وتَلَّه للجبين » والواوُ زائدةٌ وهو قولُ الكوفيين والأخفشِ . والثالث : أنه « وناديناه » والواوُ زائدةٌ أيضاً .
وقرأ علي وعبد الله وابن عباس « سَلَّما » . وقُرئ « اسْتَسْلَما » .
و « تَلَّه » أي : صَرَعَه وأسقطه على شِقِّه . وقيل : هو الرميُ بقوةٍ ، وأصله : مِنْ رَمَى به على التلِّ وهو المكانُ المرتفع ، أو من التليل وهو العنُقُ أي : رماه على عُنُقِه ، ثم قيل لكل إسقاطٍ ، وإن لم يكنْ على تَلّ ولا على عُنُق . والمِتَلُّ : الرُّمْحُ الذي يُتَلُّ به . والجبينُ : ما اكْتَنَفَ الجبهةَ مِنْ هنا ، ومِنْ هنا وشَذَّ جمعُه على أَجْبُن . وقياسُه في القلَّةِ أَجْبِنَة كأَرْغِفَة ، وفي الكثرة : جُبُن وجُبْنان كرَغيف ورُغْفان ورُغُفُ .

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)

قوله : { نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } : نصبٌ على الحالِ ، وهي حال مقدرة . قال الشيخ : « إن كان الذَّبيحُ إسحاقَ فيظهر كونُها حالاً مقدرةً ، وإنْ كان إسماعيلُ هو الذبيحَ ، وكانت هذه البشارةُ بِشارةً بولادة إسحاقَ ، فقد جَعَلَ الزمخشريُّ ذلك مَحَلَّ سؤالٍ قال : » فإنْ قلتَ : فرقٌ بين هذا وبين قولِه : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] : وذلك أنَّ المَدْخولَ موجودٌ مع وجودِ الدخول ، والخلودُ غيرُ موجودٍ معهما فقدَّرْت : مُقَدِّرين الخلودَ فكان مستقيماً ، وليس كذلك المبشَّرُ به ، فإنه معدومٌ وقتَ وجودِ البشارةِ ، وعَدَمُ المبشَّرُ به أوجَبَ عدمَ حالِه؛ لأن الحالَ حِلْيَةٌ لا تقومُ إلاَّ بالمُحَلَّى ، وهذا المبشَّرُ به الذي هو إسحاقُ حين وُجد لم تُوْجَدْ النبوَّةُ أيضاً بوجودِه بل تراخَتْ عنه مدةً طويلةً ، فكيف يُجْعل « نبيَّاً » حالاً مقدرةً ، والحالُ صفةٌ للفاعلِ والمفعولِ عند وجودِ الفعل منه أو به؟ فالخلودُ وإنْ لم يكنْ صفتَهم عند دخولِ الجنة فتَقدِّرُها صفتَهم؛ لأنَّ المعنى : مقدِّرين الخلودَ وليس كذلك النبوةُ ، فإنَّه لا سبيلَ إلى أَنْ تكونَ موجودةً أو مقدرةً وقتَ وجودِ البِشارة بإسحاقَ لعدم إسحاق؟ قلت : هذا سؤالٌ دقيقٌ المَسْلَكِ . والذي يَحِلُّ الإِشكالَ : أنه لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مُضافٍ محذوف وذلك قولُه : وبَشَّرْناه بوجودِ إسحاقَ نبياً أي : بأَنْ يُوْجِد مَقْدرةَ نبوَّتِه ، فالعاملُ في الحال الوجودُ/ لا فعلُ البشارة وبذلك يَرْجِعُ نظيرَ قولِه تعالى : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . انتهى . وهو كلامٌ حَسَنٌ .
قوله : « من الصالحين » يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل « نَبِيَّاً » ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في « نبيَّاً » فتكونَ حالاً متداخلةً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانية . قال الزمخشري : « وُرُوْدُها على سبيلِ الثناءِ والتقريظ؛ لأنَّ كلّ نبيّ لا بُدَّ أَنْ يكونَ من الصالحين » .

وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)

قوله : { وَنَصَرْنَاهُمْ } : الضميرُ عائدٌ على موسى وهارونَ وقومِهما . وقيل : عائدٌ على الاثنين بلفظِ الجمع تعظيماً كقولِه :
3819 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ } [ الطلاق : 1 ] .
قوله : « فكانوا هم » يجوز في « هم » أَنْ يكون تأكيداً ، وأن يكونَ بدلاً ، وأَنْ يكونَ فَصْلاً . وهو الأظهرُ .

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)

قوله : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ } : العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ ، همزةِ قطع . وابنُ ذكوان بوَصْلِها ، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه . ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً ، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه : إلْياسين كجِبْرائين . وقيل : تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم . وإلياس هذا قيل : هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى . وقيل : بل إلياس إدريسُ . ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب « وإنَّ إدْريس » . وقُرِئ « إدْراس » كإبْرَاهيمَ . وإبراهام . وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه : قوله : « وإن إيْليسَ » بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً ، ثم سينٍ مفتوحةٍ .

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)

قوله : { إِذْ قَالَ } : ظرفٌ لقولِه « لمن المرسلين » .

أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)

قوله : { بَعْلاً } : القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً ، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن . سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر : أنا بَعْلُها فقال : اللَّهُ أكبرُ ، وتلا الآيةَ . وقيل : هو عَلَمٌ لصنم بعينه ، وله قصةٌ في التفسير . وقيل : هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها ، كذا جاء في التفسير . وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ « بَعْلاءَ » بزنة حَمْراء .
قوله : « وتَذَرُوْنَ » يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ ، وأَنْ يكونَ عطفاً على « تَدْعُون » فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار .

اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)

قوله : { الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ } : قرأ الأخَوان وحفص بنصْبِ الثلاثةِ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ : النصبِ على المدحِ أو البدلِ أو البيانِ إنْ قلنا : إنَّ إضافةَ أَفْعَلَ إضافةٌ مَحْضَةٌ . والباقون بالرفع : إمَّا على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هو اللَّهُ ، أو على أنَّ الجلالةَ مبتدأٌ وما بعدَه الخبرُ . رُوِيَ عن حمزةَ أنَّه كان إذا وَصَلَ نَصَبَ ، وإذا وَقَفَ رَفَع . وهو حسنٌ جداً ، وفيه جَمْعٌ بين الرِّوايَتيْن .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)

قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : استثناءٌ متصلٌ مِنْ فاعلِ « فكذَّبوه » وفيه دلالةٌ على أنَّ في قومِه مَنْ لم يُكَذِّبْه ، فلذلك اسْتُثْنُوا . ولا يجوزُ أَنْ يكونوا مُسْتَثْنَيْن مِنْ ضمير « لَمُحْضَرون » لأنه يَلْزَمُ أَنْ يكونوا مَنْدَرجين فيمَنْ كَذَّبَ ، لكنهم لم يُحْضَروا لكونِهم عبادَ اللَّهِ المُخْلِصين . وهو بَيِّنُ الفسادِ . لا يُقال : هو مستثنى منه استثناءً منقطعاً؛ لأنه يَصيرُ المعنى : لكنَّ عبادَ اللَّهِ المخلصين من غير هؤلاء لم يُحْضَروا . ولا حاجةَ إلى هذا بوجهٍ ، إذ به يَفْسُدُ نَظْمُ الكلامِ .

سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)

قوله : { على إِلْ يَاسِينَ } : قرأ نافعٌ وابن عامر { على آلِ يَاسِينَ } بإضافةِ « آل » بمعنى أهل إلى « ياسينَ » . والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب « ياسين » كأنه جَمَعَ « إلياس » جَمْعَ سلامةٍ . فأمَّا الأُوْلى : فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه . وقيل : المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ ، فيكونُ له اسمان . وآلُه : رَهْطُه وقومُه المؤمنون . وقيل : المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل : هي جمعُ إلياس المتقدمِ . وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه ، والأَشعثِ وقومِه ، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس ، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ . ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان : إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين ، فصار إلياسين كما ترى . ومثلُه : الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون . قال :
3820 قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ ... وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند « الأَعْجَمِيْن » . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا : بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال : على الإِلياسين . قلت : لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال : الزيدان ، الزيدون ، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم : جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما .
وقرأ الحسن وأبو رجاء « على إلياسينَ » بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة . وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن . وقرأ عبد الله « على إدْراسين » لأنَّه قرأ في الأول « وإنَّ إدْريَس » . وقرأ أُبَيٌّ « على إيليسِيْنَ » لأنه قرأ في الأول « وإنَّ إيليسَ » كما حَرَّرْتُه عنه . وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس .

وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)

قوله : { مُّصْبِحِينَ } : حالٌ . وهو مِنْ أَصْبح التامَّة بمعنى داخلين في الصباح . ومنه « إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِح » أي : مُقيم في الصباح . وقد تقدَّم ذلك في سورة الروم .

وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

قوله : { وباليل } : عطفٌ على الحالِ قبلها أي : ومُلْتبسِيْنَ بالليل .

إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)

قوله : { إِذْ أَبَقَ } : ظرفٌ للمرسَلين ، أي : هو من المرسلين حتى في هذه الحالة . وأَبَقَ أي : هَرَبَ . يُقال : أَبَقَ العبدُ يَأْبِقُ إباقا فهو آبِقٌ ، والجمع أُبَّاق كضُرَّابِ . وفيه لغةٌ ثانية : أَبِقَ بالكسر يَأْبَق بالفتح . ويَأْبِقُ الرجل يُشَبَّه به في الاستتار . وقولُ الشاعر :
3821 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد أُحْكِمَتْ حَكَماتِ القِدِّ والأَبَقا
قيل : هو القِنَّبُ .

فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)

قوله : { فَسَاهَمَ } : أي : فغالَبَهم في المساهمة ، وهي الاقتراعُ . وأصلُه أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ على مَنْ غلب .

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)

قوله : { وَهُوَ مُلِيمٌ } : حالٌ . والمليمُ : الذي أتى بما يُلامُ عليه . قال :
3822 وكم مِنْ مُليْمٍ لم يُصَبْ بمَلامَةٍ ... ومُتَّبَعٍ بالذَّنْبِ ليس له ذَنْبٌ
يقال : ألام فلانٌ أي : فَعَلَ ما يُلامُ عليه . وقُرِئ « مَليم » بفتح الميم مِنْ لامَ يَلُوْمُ ، وهي شاذَّةٌ جداً إذ كان قياسها « مَلُوْم » لأنَّها مِنْ ذوات الواوِ كمَقُول ومَصُون . قيل : ولكنْ أُخِذَتْ من لِيْم على كذا مبنياً للمفعول . ومثلُه في ذلك : شُبْتُ الشيءَ فهو مَشِيْب ، ودُعِيَ فهو مَدْعِيّ ، والقياسُ : مَشُوْب ومَدْعُوّ ، لأنَّهما مِنْ يَشُوْبُ ويَدْعُو .

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)

قوله : { فِي بَطْنِهِ } : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب « لَبِثَ » وقيل : حالٌ أي : مستقراً .

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)

قوله : { بالعرآء } : أي : في العَراء نحو : زيد بمكة . والعَراءُ : الأرضُ الواسعةُ التي لا نباتَ بها ولا مَعْلَمَ ، اشتقاقاً من العُري وهو عَدَمُ السُّتْرَةِ ، سُمِّيَتِ الأرضُ الجَرْداء لعدم اسْتِتارها بشيء . والعُرا بالقصر : الناحيةُ . ومنه اعتراه أي : قَصَدَ عُراه . وأما الممدودُ فهو - كما تقدَّم - الأرضُ الفَيْحاء . قال :
3823 ورَفَعْتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثارَها ... ونَبَذْتُ بالمَتْن العَراء ثيابي

وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)

قوله : { مِّن يَقْطِينٍ } : هو يَفْعيل مِنْ قَطَنَ بالمكانِ إذا أقام فيه لا يَبْرَح . قيل : واليَقْطِيْنُ : كلُّ ما لم يكُنْ له ساقٌ مِنْ عُوْدٍ كالقِثَّاء والقَرْعِ والبِطِّيخ . وفي قوله : « شجرةً » ما يَرُدُّ قولَ بعضِهم إن الشجرةَ في كلامهم ما كان لها ساقٌ مِنْ عَوْدٍ ، بل الصحيحُ أنها أَعَمُّ . ولذلك بُيِّنَتْ بقولِه : « مِنْ يَقْطِين » . وأمَّا قولُه : { والنجم والشجر } [ الرحمن : 6 ] فلا دليلَ فيه لأنه استعمالُ اللفظِ العامِّ في أحدِ مَدْلولاته . وقيل : بل أَنْبَتَ اللَّهُ اليَقْطِيْنَ الخاصَّ على ساقٍ معجزةً له فجاء على أصلِه/ ولو بَنَيْتَ من الوَعْد مثلَ : يَقْطين لقلت : يَوْعِيْد لا يُقال : تُحذف الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرٍ ك « يَعِدُ » مضارعَ وَعَد؛ لأنَّ شَرْطَ تلك الياءِ أَنْ تكونَ للمضارعةِ . وهذه مِمَّا يَمْتَحِنُ بها أهلُ التصريفِ بعضَهم بعضاً .

وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

قوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } : في « أو » هذه سبعةُ أوجهٍ قد تقدَّمَتْ بتحقيقِها ودلائلها في أولِ البقرةِ عند قولِه { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ الآية : 19 ] فعليكَ بالالتفاتِ إليهما ثَمَّةَ : فالشَّكُّ بالنسبةِ إلى المخاطبين ، أي : إن الرائي يَشُكُّ عند رؤيتِهم ، والإِبهامُ بالنسبةِ إلى أن الله تعالى أَبْهَمَ أمْرَهم ، والإِباحةُ أي : إن الناظرَ إليهم يُباح له أن يَحْزِرَهم بهذا القَدْر ، أو بهذا القَدْرِ ، وكذلك التخييرُ أي : هو مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَحْزِرَهم كذا أو كذا ، والإِضرابُ ومعنى الواوِ واضحان .

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)

قوله : { فاستفتهم } : قال الزمخشريُّ : « معطوفٌ على مثلِه في أولِ السورة ، وإنْ تباعَدَتْ » . قال الشيخ : « وإذا كانوا قد عَدُّوا الفصلَ بجملةٍ نحو : » كُلْ لحماً واضْرِب زيداً وخبزاً « من أقبح التركيبِ ، فكيف بجملٍ كثيرةٍ وقِصَصٍ متباينةٍ؟ » قلت : ولقائلٍ أن يقول : إنَّ الفَصْلَ - وإنْ كَثُرَ بين الجملِ المتعاطفةِ - مغتفرٌ . وأمَّا المثالُ الذي ذكره فمِنْ قبيلِ المفرداتِ . ألا ترى كيف عطف « خبزاً » على لَحْماً؟

أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)

قوله : { وَهُمْ شَاهِدُونَ } : جملةٌ حاليةٌ من الملائكة . والرابطُ : الواوُ ، وهي هنا واجبةٌ لَعدم رابِطٍ غيرِها .

وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)

والعامَّةُ على « وَلَدَ اللَّهُ » فعلاً ماضياً مسنداً للجلالةِ أي : أتى بالولد ، تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عَلُوَّاً كبيراً . وقُرِئ « وَلَدُ اللَّهِ » بإضافة الولد إليه أي : يقولون : الملائكةُ وَلَدُه . فحُذِف المبتدأُ للعِلْمِ به ، وأُبْقِيَ خبرُه . والوَلَدُ : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض؛ فلذلك يقع خبراً عن المفردِ والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً . تقول : هذي وَلَدي ، وهم وَلَدي .

أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

قوله : { أَصْطَفَى } : العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها .
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه على نيةِ الاستفهامِ ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به . ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة :
3824 ثم قالُوا : تُحِبُّها قلتُ بَهْراً ... عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ
أي : أتُحبها . والثاني : أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول ، وهي « وَلَدَ اللَّهُ » أي : يقولون كذا ، ويقولون : اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس . قال الزمخشري : « وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ . وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ . والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها ، وذلك قولُه : » وإنهم لَكاذبون « ، { مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ » . قال الشيخ : « وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم : » وَلَدَ اللَّهُ « . وأمَّا قولُه : » وإنهم لَكاذبون « فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم » .
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ « آصْطفى » بالمدِّ . قال : « وهو بعيدٌ جداً » .

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)

قوله : { مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } : جملتان استفهاميتان ليس لإِحداهما تَعَلُّقٌ بالأُخْرى من حيث الإِعرابُ ، استفهم أولاً عَمَّا استقرَّ لهم وثَبَتَ ، استفهامَ إنكار ، وثانياً استفهامَ تعجيب مِنْ حُكْمِهِم بهذا الحكم الجائرِ ، وهو أنهم نَسَبوا أَخَسَّ الجنسَيْن وما يَتَطَّيرون منه ، ويَتَوارى أحدُهم مِنْ قومِه عند بِشارَتِه به ، إلى ربِّهم ، وأحسنَ الجنسيْنِ إليهم .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : مُسْتثنى منقطعٌ . والمستثنى منه : إمَّا فاعلُ « جَعَلُوا » أي : جعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً إلاَّ عبادَ الله . الثاني : أنه فاعلُ « يَصِفُوْن » أي : لكن عباد/ الله يَصْفُونه بما يَليق به تعالى . الثالث : أنه ضمير « مُحْضَرون » أي : لكنَّ عبادَ الله ناجُوْن . وعلى هذا فتكون جملةُ التسبيحِ معترضةً . وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنه يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً لأنه قال : « مستثنى مِنْ » جَعَلُوا « أو » مُحْضَرون « . ويجوزُ أَنْ يكونَ منفصلاً » فظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ الوجهين الأوَّلين هو فيهما متصلٌ لا منفصِلٌ . وليس ببعيدٍ كأنه قيل : وجَعَل الناسَ . ثم استثنى منهم هؤلاء وكلَّ مَنْ لم يجعل بين الله تعالى وبينَ الجِنَّةِ نَسَباً فهو عند الله مُخْلصٌ من الشِّرْك .

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)

قوله : { وَمَا تَعْبُدُونَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على اسم « إنَّ » . و « ما » نافيةٌ ، و « أنتم » اسمُها أو مبتدأٌ ، و « أنتم » فيه تغليبُ المخاطبِ على الغائبِ؛ إذ الأصلُ : فإنكمُ ومعبودَكم ما أنتم وهو ، فغُلِّب الخطابُ . و « عليه » متعلقٌ بقوله : « بفاتِنين » . والضميرُ عائدٌ على « ما تعبدون » بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ وضُمِّنَ فاتنين معنى حاملين بالفتنة والتقدير : فإنكم وآلهتكم ، ما أنتم وهم حامِلين على عبادته إلاَّ الذين سَبَقَ في عِلْمه أنَّه من أهل صَلْيِ الجحيم . فَمَنْ مفعولٌ ب « فاتِنين » والاستثناءُ مفرغٌ . والثاني : أنه مفعولٌ معه ، وعلى هذا فيَحْسُنُ السكوتُ على « تعبدون » كما يَحْسُن في قولك : « إنَّ كلَّ رجلٍ وضَيْعَتَه » ، وحكى الكسائيُّ أن كلَّ ثوبٍ وثمنَه والمعنى : أنكم مع معبودِيْكم مُقْتَرنون . كما يُقَدَّر ذلك في « كلُ رجلٍ وضَيْعَتُه مقترنان » . وقولُه : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } مستأنفٌ أي : ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين ، أو بحاملين على الفتنة ، إلاَّ مَنْ هو صالٍ منكم . قالها الزمخشريُّ . إلاَّ أنَّ أبا البقاء ضَعَّفَ الثاني : وكذا الشيخُ تابعاً له في تضعيفِه بعَدَم تَبَادُرِهِ إلى الفهم .
قلت : الظاهرُ أنه معطوفٌ ، واستئنافُ { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } غيرُ واضحٍ ، والحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ . وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يعودَ الضمير في « عليه » على اللَّهِ تعالى قال : « فإنْ قلتَ : كيف يَفْتِنُونهم على الله؟ قلت : يُفْسِدونهم عليه بإغوائهم ، مِنْ قولِك : فتن فلانٌ على فلانٍ امرأتَه ، كما تقول : أَفْسَدها عليه وخَيَّبها عليه » .

إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)

و « مَنْ هو » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أو موصوفةً .
وقرأ العامَّةُ « صالِ الجحيم » بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين ، وحُمِلَ على لفظ « مَنْ » فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو . وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها ، فيما نقله الهذلي عنهما ، وابن عطية عن الحسن . وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط ، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل . فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون ، ويكون قد حُمِلَ على لفظ « مَنْ » أولاً فأفردَ في قوله « هو » ، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله : « صالُو » وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة . وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى : { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] فأفرد في « كان » وجُمِعَ في هوداً . ومثله قولُه :
3825 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً ، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً . وكثيراً ما يَفْعلون هذا : يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ . ومنه « يَقُضُّ الحق » في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة ، ورُسِمَ بغير ياءٍ ، وكذلك { واخشون ، اليوم } [ المائدة : 3 ] . ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً ، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو : هذا قاضِ البلد .
وقد ذكروا فيه توجيهَيْن ، أحدهما : أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ : صالي ثم صايل : قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ ، فوقعَ الإِعرابُ على العين ، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى ، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا : جاء صالٌ ، ورأيتُ صالاً ، ومررت بصالٍ ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررتُ ببابٍ . ونظيرُه في مجردِ القلبِ : شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث ، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان ، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ « صال » فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً . والثاني : أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ . وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ ، ويجعلون الإِعرابَ على العين . وقد قُرِئَ « وله الجوارُ » برفع الراءِ ، { وَجَنَى الجنتين دَانٌ } برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ . وقالوا : ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة . وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ } فيمَنْ قرأه برفع الشين .

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)

قوله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « منَّا » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه : { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } تقديرُه : ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ ، وحَذْفُ المبتدأ مع « مِنْ » جيدٌ فصيحٌ . والثاني : أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضاً ، و { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } صفتُه حُذِفَ موصوفُها ، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم . والتقدير : وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ . قال الزمخشري : حَذَفَ الموصوفَ ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه :
3826 أنا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنايا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
3827 تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمى البَشَرْ ... ورَدَّه الشيخُ فقال : « ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ ، و { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } خَبَرُه؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه : » وما منَّا أحد « ، وقوله : { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } مَحَطُّ الفائدةِ ، وإنْ تُخُيِّل أن { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ » إلاَّ « لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها ، وأنها فارقتْ » غير « إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ » غير « في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ » إلاَّ « فيه ، وجَعَل ذلك كقولِه : » أنا ابنُ جَلا « أي : أنا ابنُ رجلٍ جَلا ، و » بكفَّيْ كان « أي : رجل كان ، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر [ حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها » مِنْ « بخلافِ قولِه » مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام « يريدون : مِنَّا فريقٌ ظَعَن ، ومنَّا فريقٌ أقام ] وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } [ النساء : 159 ] . وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ . وقيل : مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم . ومفعول » الصافُّون « و » المُسَبِّحون « يجوزُ أن يكونَ مُراداً أي : الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا ، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي : نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ .

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)

قوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } : تفسيرٌ للكلمة فيجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب ، ويجوزُ أَنْ تكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أو منصوبةً بإضمارِ فعل أي : هي أنَّهم لهم المنصورون ، أو أعني بالكلمة هذا اللفظَ ، ويكون ذلك على سبيلِ الحكايةِ؛ لأنَّك لو صَرَّحْتَ بالفعل قبلَها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً ، كأنَّك قلت : عَنَيْتُ هذا اللفظ كما تقول : « كتبتُ زيدٌ قائمٌ » و « إنَّ زيداً لَقائمٌ » . وقرأ الضحَّاك « كلماتنا » جمعاً .

فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)

قوله : { نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } : العامَّةُ على « نَزَلَ » مبنياً للفاعلِ ، وعبد الله ببنائه للمفعولِ ، والجارُّ قائمٌ مقامَ فاعِله . والسَّاحةُ : الفِناءُ الخالي مِن الأبنية ، وجَمْعُها سُوْحٌ فألفُها عن واوٍ ، فتُصَغَّرُ على سُوَيْحَة . قال الشاعر :
3828 فكان سِيَّانِ أَنْ لا يَسْرَحُوا نَعَماً ... أو يَسْرَحُوه بها واغْبَرَّت السُّوحُ
وبهذا يتبيَّنُ/ ضَعْفُ قولِ الراغب : إنها مِنْ ذواتِ الياءِ؛ حيث عَدَّها في مادة « سيح » ثم قال : « السَّاحة : المكانُ الواسعُ . ومنه ساحةُ الدار . والسَّائحُ : الماءُ الجاري في الساحة . وساحَ فلانٌ في الأرضِ : مَرَّ مَرَّ السَّائح ، ورجلٌ سائحٌ وسَيَّاح » انتهى . ويُحتمل أَنْ يكونَ لها مادتان ، لكنْ كان ينبغي أن يذكرَ : ما هي الأشهرُ ، أو يذكرَهما معاً . وحُذِفَ مفعولُ « أبْصر » الثاني : إمَّا اختصاراً لدلالةِ الأولِ عليه ، وإمَّا اقتصاراً . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : صباحُهم .

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)

قوله : { رَبِّ العزة } : أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزَّة كما تقول : صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به . وقيل : المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه . ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين . فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني ، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ .

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ « صادْ » كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور . وقد مرَّ ما فيه . وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين ، وهذا أقربُ . والثاني : أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى : عارِضِ القرآنَ بعملك ، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه . قاله الحسن . وعنه أيضاً : أنه مِنْ صادَيْتُ أي : حادَثْتُ . والمعنى : حادِثِ الناسَ بالقرآن .
وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم : « اللَّهِ لأفعلَنَّ » بالجرِّ . إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة ، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل . وعن الحسنِ أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ ، على أنه اسمٌ للسورةِ ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذه صاد . ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث ، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون : قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ .
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب « صادَ » بالفتح مِنْ غير تنوينٍ . وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ . البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف ، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم ، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه :
3829 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ
وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم ، وكذلك قرآ : « قاف » و « نون » بالفتح فيهما ، وهما كما تقدَّم ، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم .
قوله : « والقرآنِ » قد تقدَّم مثلُه في { يس والقرآن } [ يس : 1-2 ] ، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنه قولُه : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } [ ص : 64 ] ، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ . قال الفراء : « لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه : » والقرآن « . الثاني : أنه قولُه : » كم أهلَكْنا « والأصلُ : لكم أهلَكْنا ، فحذف اللامَ كما حَذَفها في قولِه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] بعد قولِه : { والشمس } لَمَّا طال الكلام . قاله ثعلبٌ والفراء . الثالث : أنه قولُه : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } [ ص : 14 ] قاله الأخفش . الرابع : أنه قولُه : » صاد «؛ لأنَّ المعنى : والقرآنِ لقد صدق محمد . قاله الفراء وثعلب أيضاً . وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم ، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها . وكلاهما ضعيفٌ . الخامس : أنه محذوفٌ . واختلفوا في تقديره ، فقال الحوفي : / تقديرُه : لقد جاءَكم الحقُّ ، ونحوُه . وقَدَّره ابن عطية : ما الأمرُ كما يَزْعمون . والزمخشري : إنه لَمُعْجِزٌ .

والشيخ : إنَّك لمن المُرْسَلين . قال : « لأنه نظيرُ { يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 1-3 ] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً . وهي : » فإنْ قلتَ : قولُه : ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ . فما وجهُ انتظامِه؟ قلت : فيه وجهان ، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب ، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب لدلالةِ التحدِّي عليه ، كأنه قال : والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ . والثاني : أَنْ يكونَ « صاد » خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال : هذه صاد . يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر ، كما تقول : « هذا حاتِمٌ واللَّهِ » تريد : هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال : أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ . ثم قال : بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ ، وشِقاقٍ لله ورسوله ، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها ، وعَطَفْتَ عليها { والقرآن ذِي الذكر } جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه ، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها . ومعناه : أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة : والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ : مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة ، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ « .

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)

قوله : { بَلِ الذين كَفَرُواْ } : إضْرابُ انتقالٍ من قصةٍ إلى أخرى . وقرأ الكسائيُّ في روايةِ سَوْرة وحماد بن الزبرقان وأبو جعفر والجحدري « في غِرَّةٍ » بالغَيْن معجمةً والراءِ . وقد رُوي أن حماداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً ، فلمَّا رُدَّتْ عليه قال : « ما ظنَنْتُ أنَّ الكافرين في عِزَّة » وهو وهمٌ منه؛ لأن العِزَّةَ المُشارَ إليها حَمِيَّةُ الجاهلية . والتنكيرُ في « عزَّة وشِقاق » دلالةً على شِدَّتِهما وتَفاقُمهما .

كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : « كم » مفعولُ « أهلَكْنا » ، و « مِنْ قَرْنٍ » تمييزٌ ، و « مِنْ قبلِهم » لابتداء الغاية .
قوله : « ولات حين » هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « نادَوْا » أي : استغاثوا ، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى .
وقرأ العامَّةُ « لاتَ » بفتح التاء و « حينَ » بالنصبِ ، وفيها أوجهٌ ، أحدها : - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ « لا » نافيةٌ بمعنى ليس ، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو : لاتَ حينَ ، ولات أوان ، كقوله :
3830 طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ ... فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ
وقول الآخر :
3831 نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ ... والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ
والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه : ولات الحينُ حينَ مناصٍ . وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ . وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله :
3832 مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
أي : لا براحٌ لي . ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور ، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه :
3833 حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ
فإنَّ « هَنَّا » مِنْ ظروفِ الأمكنةِ . وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدها : عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ . الثاني : كونُه لا يَتَصَرَّفُ . الثالث : كونُه غيرَ زمانٍ . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ « هَنَّا » قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان ، كقولِه تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] وقولِ الشاعر :
3834 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان . وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ : وهو أَنَّ « لاتَ » هنا مهملةٌ لا عملَ لها و « هَنَّا » ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و « حَنَّتِ » مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ « أنْ » المصدرية تقديرُه : أنْ حَنَّتْ نحو « تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه » . وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ . إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن .
وفي الوقفِ عليها مذهبان : المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ . والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء . والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان ، والثاني مذهبُ المبرد . وأغرب أبو عبيد فقال : الوقفُ على « لا » والتاءُ متصلةٌ ب « حين » فيقولون : قُمْتُ تحينَ قمتَ ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا . وقال : « رأيتها في الإِمام كذا : » ولا تحين « متصلة . وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر :
3835 العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ

والمصاحفُ إنما هي « ولاتَ حين » . وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك .
وأمَّا البيتُ فقيل : إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه . وقيل : إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها « لات » جاز أَنْ تُحْذَفَ « لا » وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء . والأصل : العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ ، فحذف « حين » الأول و « لا » وحدَها ، كما أنه قد صَرَّح بإضافة « حين » إليها في قول الآخر :
3836 وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك ، وهو متعسِّفٌ جداً . وقد تُقَدَّرُ إضافةُ « حين » إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه :
3837 تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : حين لاتَ حين . وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله :
3838 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ
[ وقوله ] :
3839 . . . . . . . . . . . . . . لات أوانَ . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنه قد وُجِدت التاءُ مع « لا » دون « حين »؟
الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملةٌ عملَ « إنَّ » يعني أنها نافيةٌ للجنسِ فيكون « حينَ مناص » اسمَها ، وخبرُها مقدر تقديرُه : ولات حينَ مناصٍ لهم ، كقولك : لا غلامَ سفرٍ لك ، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً .
الثالث : أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل « حين مَناص » بعدها أي : لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى : لستُ أرى ذلك ومثلُه : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } ولا أهلاً ولا سهلاً أي : لا أَتَوْا مَرْحباً ، ولا لَقُوا أهلاً ، ولا وَطِئوا سهلاً . وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان . وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله :
3840 ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح ، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج ، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة ، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب ، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا .
الرابع : أن « لات » هذه ليسَتْ هي « لا » مُزاداً فيها تاءُ التأنيث ، وإنما هي : « ليس » فأُبْدلت السينُ تاءً ، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا : النات يريدون : الناس . ومنه « سِتٌّ » وأصله سِدْس . قال :
3841 يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ ... عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ
لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ ... وقُرِئ شاذاً « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات » إلى آخره . يريد : شرارَ الناسِ ولا أكياسِ ، فأبْدل . ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ « لات » وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها : أن يتحرَّكَ ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله ، فيكون « حينَ مناص » خبرَها ، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم ، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ .

وقرأ عيسى بن عمر { وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ } بكسر التاء وجرِّ « حين » وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً . زعم الفراء أنَّ « لات » يُجَرُّ بها ، وأنشد :
3842 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ
وأنشد غيرُه :
3843 طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقال الزمخشري : « ومثلُه قول أبي زبيد الطائي : طلبوا صلحنا . البيت . قال : فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في » أوان «؟ قلت : شُبِّه ب » إذ « في قوله :
3844 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ : ولات أوان صلح . فإن قلتَ : فما تقولُ في » حينَ مناصٍ « والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت : نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ » مناص « - لأنَّ أصلَه : حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ » حين « لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن » . انتهى .
وخرَّجه الشيخُ على إضمار « مِنْ » والأصل : ولات مِنْ حين مناص ، فحُذِفت « مِنْ » وبقي عملُها نحو قولِهم : على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي : مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن . وفيه قولٌ آخر : أنَّ الجرَّ بالإِضافة ، ومثله قوله :
3845 ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أنشدوه بجرِّ « رَجُل » أي : ألا مِنْ رجل .
قلت : وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله :
3846 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقالَ : ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
قال : « ويكونُ موضعُ » مِنْ حين مناصٍ « رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقولُ : ليس من رجلٍ قائماً ، والخبرُ محذوفٌ ، وعلى هذا قولُ سيبويه . وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ . وخَرَّج الأخفشُ » ولاتَ أَوانٍ « على حَذْفِ مضافٍ ، يعني : أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان . والأصلُ : ولات حينُ أوانٍ .
وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ : بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ . قلت : قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه . وهو قسمان : قليلٌ وكثيرٌ . فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو :
3847 أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
أي : وكلَّ نارٍ . والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ { والله يُرِيدُ الآخرة } بجر » الآخرةِ « فليكنْ هذا منه . على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ .
وقال الزجَّاج : » الأصل : ولات أواننا ، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين « . قال الشيخ : » هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ « قلت : يعني الوجهَ الأولَ ، وهو قولُه : ولاتَ أوان صلحٍ .

هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ « حين » .
وأمَّا كسرُ تاءِ « لات » فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً .
وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط ، ونصبِ « حين » كالعامَّةِ . وقرأ أيضاً « ولات حينُ » بالرفعِ ، « مناصَ » بالفتح . وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ . وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في « لوامحه » على التقديمِ والتأخيرِ ، وأنَّ « حين » أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الزمانيةِ . و « مَناصَ » اسمُها مبنيٌّ على الفتح فُصِل بينَه وبينها ب « حين » المقطوعِ عن الإِضافة . / والأصلُ : ولاتَ مناص حين كذا ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه « حين » ، وبُني على الضم وقَدَّم فاصلاً بين « لات » واسمِها . قال : « وقد يجوزُ أَنْ يكونَ لذلك معنًى لا أَعْرِفُه » . وقد رُوِي في تاءِ « لاتَ » الفتحُ والكسرُ والضمُّ .
وقوله : « فنادَوْا » لا مفعولَ له؛ لأنَّ القصدَ : فَعَلوا النداءَ ، مِنْ غيرِ قصدِ منادى . وقال الكلبيُّ : « كانوا إذا قاتلوا فاضْطُرُّوا نادى بعضُهم لبعضٍ : مناص أي : عليكم بالفرارِ ، فلَمَّا أتاهم العذابُ قالوا : مناص » . فقال اللَّهُ تعالى لهم : ولات حينَ مناصٍ « . قال القشيريُّ : » فعلى هذا يكونُ التقديرُ : فنادَوْا مناص ، فحُذِف لدلالةِ ما بعده عليه « . قلت : فيكون قد حَذَفَ المنادى وهو بعضاً وما ينادُوْن به ، وهو مناص ، أي : نادَوْا بعضَهم بهذا اللفظِ . وقال الجرجانيُّ : » أي : فنادَوْا حين لا مناص أي : ساعةَ لا مَنْجَى ولا فَوْتَ ، فلمَّا قَدَّم « لا » وأَخَّر « حين » اقتضى ذلك الواوَ كما تقتضي الحالُ إذا جُعِل ابتداءً وخبراً مثلَ ما تقول : « جاء زيدٌ راكباً » ثم تقول : جاء وهو راكبٌ . ف « حين » ظرفٌ لقولِه « فنادَوْا » . قال الشيخ : « وكونُ أصلِ هذه الجملةِ فنادَوْا : حين لا مناص ، وأنَّ » حين « ظرفٌ لقولِه : » فنادَوْا « دعوى أعجميةٌ في نَظْمِ القرآن ، والمعنى على نظمِه في غايةِ الوضوح » . قلت : الجرجانيُّ لا يَعْني أنَّ حين ظرفٌ ل « نادَوْا » في التركيبِ الذي عليه القرآن الآن ، إنما يعني بذلك في أصلِ المعنى والتركيب ، كما شَبَّه ذلك بقولِك « جاء زيدٌ راكباً » ثم ب « جاء زيدٌ وهو راكبٌ » ف « راكباً » في التركيبِ الأولِ حالٌ ، وفي الثاني خبرُ مبتدأ ، كذلك « حين » كان في الأصل ظرفاً للنداء ، ثم صار خبرَ « لات » أو اسمَها على حسبِ الخلافِ المتقدِّم .

والمناصُ : مَفْعَل مِنْ ناص يَنُوص أي : هَرَبَ فهو مصدرٌ يقال : نَاصه يَنُوصه إذا فاته فهذا متعدٍّ ، وناصَ يَنُوص أي : تأخَّر . ومنه ناص عن قِرْنِه أي : تأخَّر عنه جُبْناً . قاله الفراء ، وأنشد قولَ امرئ القيس :
3848 أمِنْ ذِكْرِ سَلْمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوْصُ ... فتَقْصُرُ عنها حِقْبةً وتَبُوْصُ
قال أبو جعفر النحاس : « ناصَ يَنُوص أي : تقدَّم فيكون من الأضداد » . واستناص طلب المَناص . قال حارثة بن زيد :
3849 غَمْرُ الجِراءِ إذا قَصَرْتُ عِنانَه ... بيديْ اسْتَناصَ ورام جَرْيَ المِسْحَلِ
ويقال : ناص إلى كذا ينوص نَوْصاً أي : التجأ إليه .

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)

قوله : { أن جاءكم } : أي : مِنْ أَنْ ، وفيها الخلافُ المشهورُ .
وقوله : « وقال الكافرون » من بابِ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضعَ المضمر شهادةً عليهم بهذا الوَصْفِ القبيح .

أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)

قوله : { عُجَابٌ } : مبالغةً في « عجيب » كقولهم : رجل طُوال وأَمْرٌ سُراع هما أبلغُ مِنْ : طويل وسريع . وعلي والسلمي وعيسى وابن مقسم « عُجَّاب » بتشديد الجيم ، وهي أبلغُ مِمَّا قبلَها فهي مثلُ رجل كريم وكُرام بالتخفيف ، وكُرَّام بالتشديد . قال مقاتل : « وعُجاب - يعني بالتخفيفِ - لغةُ أزد شنوءة » . وهذه القراءةُ أعني بالتشديدِ كقوله : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] هو أبلغُ مِنْ كُبار ، وكُبار أبلغُ مِنْ كبير .
وقوله : « أجَعَلَ » أي : أصيَّرها إلهاً واحداً في قولِه وزَعْمه .

وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)

قوله : { أَنِ امشوا } : يجوزُ أَنْ تكونَ « أنْ » مصدريةً أي : انطلقوا بقولِهم : أن امْشُوا وأَنْ تكونَ مفسِّرةً : إمَّا ل انطلق لأنه ضُمِّنَ معنى القول . قال الزمخشريُّ : « لأنَّ المنطلقين عن مجلس التقاوُلِ/ لا بُدَّ لهم أَنْ يتكلموا ويتفاوضوا فيما جَرَى لهم » . انتهى . وقيل : بل هي مفسِّرةٌ لجملةٍ محذوفةٍ في محلِّ حالٍ تقديرُه : وانطلقوا يتحاورون أن امْشُوا . ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً معمولةً لهذا المقدرِ . وقيل : الانطلاقُ هنا الاندفاعُ في القولِ والكلامِ نحو : انطلق لسانُه ، فأَنْ مفسرةٌ له من غير تضمينٍ ولا حَذْفٍ . والمَشْيُ : الظاهر أنه هو المتعارَفُ . وقيل : بل هو دعاءٌ بكثرة الماشيةِ ، وهذا فاسِدٌ لفظاً ومعنى . أمَّا اللفظُ فلأنَّه إنما يقال من هذا المعنى « أَمْشَى الرجلُ » إذا كَثُرَتْ ماشيَتُه بالألفِ أي : صار ذا ماشيةٍ ، فكان ينبغي على هذا أَنْ يقرأَ « أَمْشُوا » بقطع الهمزةِ مفتوحةً . وأمَّا المعنى فليس مراداً البتةَ ، وأيُّ معنى على ذلك!!
إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعةُ وأقربُ معنًى ممَّا تقدَّم ، فقال : « ويجوزُ أنَّهم قالوا : امشُوا أي : اكثروا واجتمعوا ، مِنْ مَشَتِ المرأةُ : إذا كَثُرَتْ وِلادتها ، ومنه الماشيةُ للتفاؤل » . انتهى . وإذا وُقِفَ على « أنْ » وابْتُدِئ بما بعدَها فليُبْتَدَأْ بكسرِ الهمزةِ لا بضمِّها لأنَّ الثالثَ مكسورٌ تقديراً إذ الأصل : امْشِيُوا ثم أُعِلَّ بالحَذْفِ . وهذا كما يُبْتدأ بضم الهمزةِ في قولك « اغْزِي يا امرأةُ » . وإنْ كانت الزايُ مكسورةً لأنَّها مضمومةٌ في الأصل إذ الأصل : اغْزُوِي كاخْرُجي فأُعِلَّ بالحذفِ .

مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)

قوله : { فِى الملة } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب « سَمِعْنا » أي : لم نسمَعْ في المِلَّةِ الآخرة بهذا الذي جئتَ به . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ هذا أي : ما سمعنا بهذا كائناً في المِلَّةِ الآخرةِ . أي : لم نسمَعْ من الكُهَّانِ ولا مِنْ أهلِ الكتبِ أنه يَحْدُثُ توحيدُ اللَّهِ في الملَّةِ الآخرة ، وهذا مِنْ فَرْط كَذِبِهم .

أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)

قوله : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر } : قد تقدَّم حكمُ هاتَيْن الهمزتين في أوائل آل عمران ، وأنَّ الواردَ منه في القرآن ثلاثةُ أماكنَ . والإِضراباتُ في هذه الآيةِ واضحةٌ و « أم » منقطعةٌ .

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)

قوله : { فَلْيَرْتَقُواْ } : قال أبو البقاء : « هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى أي : إنْ زعموا ذلك فَلْيَرْتَقُوا » ، فجعلها جواباً لشرطٍ مقدرٍ ، وكثيراً ما يَفْعَلُ الزمخشريُّ ذلك .

جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

قوله : { جُندٌ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هم جُنْدٌ . و « ما » فيها وجهان ، أحدهما : أنها مزيدةٌ . والثاني : أنَّها صفةٌ ل « جُنْدٌ » على سبيلِ التعظيم للهُزْءِ بهم أن للتحقير ، فإنَّ « ما » الصفة تُستعمل لهذين المعنيين . ومثلُه قولُ امرىءِ القيس :
3850 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحَديثٌ ما على قِصَرِهْ
وقد تقدَّم هذا في أوائلِ البقرة . و « هنالك » يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ خبر الجند و « ما » مزيدةٌ و « مَهْزُوم » نعتٌ ل « جُنْد » ذكره مكيٌّ . الثاني : أَنْ يكون صفةً ل « جند » . والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بمهزوم . ومَهْزوم يجوزُ فيه أيضاً وجهان ، أحدهما : أنه خبرٌ ثانٍ لذلك المبتدأ المقدرِ . والثاني : أنه صفةٌ ل « جُنْد » إلاَّ أنَّ الأحسنَ على هذا الوجهِ أَنْ لا يُجْعَلَ « هنالك » صفةً بل متعلقاً به ، لئلا يَلْزَمَ تقدُّم الوصفِ غيرِ الصريح على الصَّريح . و « هنالك » مشارٌ به إلى موضعِ التقاوُلِ والمجاوزةِ بالكلمات السابقة وهو مكةُ أي : سيُهزمون بمكةَ وهو إخبارٌ بالمغيَّبِ . وقيل : مُشارٌ به إلى نُصرةِ الأصنامِ . وقيل : إلى حَفْرِ الخندقِ يعني : إلى مكانِ ذلك . الثاني من الوجهين الأولين : أَنْ يكونَ « جندٌ » مبتدأ و « ما » مزيدةٌ . و « هنالك » نعتٌ و « مهزوم » خبرُه قاله أبو البقاء . قال الشيخ : « وفيه بُعْدٌ لتفلُّتِه عن الكلامِ الذي قبلَه » . قلت : وهذا الوجهُ المنقولُ عن أبي البقاءِ سبقه إليه مكي .
قوله : « من الأحزاب » يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل « جُند » ، وأنْ يكونَ صفةً ل « مهزومٌ » . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ متعلقاً به . وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ المرادَ بالأحزاب هم المهزومون .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)

قوله : { ذُو الأوتاد } : هذه استعارةٌ بليغةٌ : حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر ، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب ، كما قال الأفوه :
3851 والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ ... ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر ، كقول الأسود :
3852 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد
/ والأَوْتادُ : جمعُ وَتِد . وفيه لغاتٌ : وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى ، ووَتَد بفتحتين ، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال :
3853 تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ ... وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ
و « وَتَّ » بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها . وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ . وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } [ آل عمران : 185 ] . ويُقال : وَتِدٌ واتِدٌ أي : قويٌّ ثابت ، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم : شُغْل شاغِلٌ . وأنشد الأصمعي :
3854أ لاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً ... ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا
وقيل : الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ . ففي التفسير : أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك . وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء .

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)

قوله : { أولئك الأحزاب } : يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً لا محلَّ لها ، وأنْ تكونَ خبراً . والمبتدأ قال أبو البقاء : « من قوله : و » عادٌ « وأَنْ يكونَ من » ثمود « ، وأَنْ يكونَ مِنْ قولِه : » وقومُ لوط « . قلت : الظاهرُ عطفُ » عادٌ « وما بعدَه على » قومُ نوحٍ « واستئنافُ الجملةِ بعدَه . وكان يَسُوْغُ على ما قالَه أبو البقاءِ أَنْ يكونَ المبتدأُ وحدَه » وأصحابُ الأَيْكَة « .

إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)

قوله : { إِن كُلٌّ } : « إنْ » نافيةٌ ولا عملَ لها هنا البتةَ ولو على لغةِ مَنْ قال :
3854ب إن هو مُسْتَوْلِياً على أحدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعلى قراءة { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَاداً } لانتقاض النفي ب « إلاَّ » فإنَّ انتقاضَه مع الأصلِ ، وهي « ما » مُبْطِلٌ فكيف بفَرْعِها؟ وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للقَسم .

وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)

قوله : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « لها » رافعاً ل « مِنْ فَواق » بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي ، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل « صَيْحةً » و « مِنْ » مزيدةٌ . وقرأ الأخَوان « فُواق » بضمِّ الفاءِ ، والباقون بفتحها . فقيل : [ هما ] لغتان بمعنًى واحدٍ ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع ، والمعنى : ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ . وفي الحديث : « العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة » وهذا في المعنى كقوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } [ الأعراف : 34 ] . وقال ابن عباس : ما لها مِنْ رجوعٍ . مِنْ أفاق المريضُ : إذا رَجَعَ إلى صحته . وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها . يقال : أفاقَتِ الناقةُ تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها . والفِيْقَةُ : اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق . وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع . ويُقال : ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ . وقيل : فَواق بالفتح : الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب . قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء . ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي . وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ . والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [ الشَّعْر ] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه .

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

قوله : { قِطَّنَا } : أي : نصيبَنا وحَظَّنا . وأصلُه مِنْ قَطَّ الشيءَ أي : قطعَه . ومنه قَطَّ القلمَ . والمعنى : قَطْعه مِنْ ما وَعَدْتَنا به ولهذا يُطْلق على الصحيفةِ والصَّكِّ قِطٌّ لأنهما قطعتان تَقْطعان . ويقال للجائزة : أيضاً قِطٌّ لأنَّها قطعة من العَطِيَّةِ . قال الأعشى :
3855 ولا المَلِكُ النعمانُ يومَ لَقِيْتَه ... بغِبْطَتِه يُعْطي القُطوطَ ويَأْفِقُ
وأكثرُ استعمالِه في الكتابِ . قال أمية :
3856 قومٌ لهمْ ساحَةٌ أرضُ العراقِ وما ... يُجْبَى إليهمْ بها والقِطُّ والقَلَمُ
ويُجمع على قُطوط كما تقدَّم ، وعلى قِطَطَة نحو : قِرْد وقِرَدَة وقُرود . وفي القِلَّة على أَقِطَّة وأَقْطاط/ كقَدَح وأَقْدِحة وأَقْداح ، إلاَّ أن أَفْعِلة في فِعْل شاذ .

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)

قوله : { دَاوُودَ } : بدل أو عطف بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمارِ أعني . و « ذا الأيْدِ » نعتٌ له . والأيْدُ : القوةُ . يقال : رجلٌ أَيْدٌ وأَيادٌ .

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)

قوله : { يُسَبِّحْنَ } : جملةٌ حاليةٌ من « الجبال » . وأتى بها فِعْلاً مضارعاً دونَ اسمِ فاعلٍ فلم يَقُلْ مُسَبِّحات ، دلالةً على التجدُّدِ والحدوثِ شيئاً بعد شيء ، كقولِ الأعشى :
3857 لعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ
أي : تُحَرَّقُ شيئاً فشيئاً . ولو قال : مُحَرَّقة لم يَدُلَّ على هذا المعنى .

وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)

قوله : { والطير مَحْشُورَةً } : العامَّةُ على نَصْبِهما ، عَطَفَ مفعولاً على مفعول وحالاً على حال ، كقولِك : ضربْتُ زُيداً مكتوفاً وعمراً مُطْلَقاً . وأتى بالحالِ اسماً لأنه لم يَقْصِدْ أن الفعلَ وقع شيئاً فشيئاً لأنَّ حَشْرَها دُفْعَةً واحدةً أَدَلُّ على القدرة ، والحاشرُ اللَّه تعالى . وقرأ ابن أبي عبلة والجحدريُّ برفعِهما جعلاهما جملةً مستقلة مِنْ مبتدأ وخبر .
قوله : « كُلٌّ له » أي : كلٌّ من الجبالِ والطيرِ لداودَ . أي : لأجلِ تسبيحِه مُسَبِّح ، فوضَع « أوَّاب » موضعَ مُسَبِّح . وقيل : الضمير للباري تعالى ، والمرادُ كلٌّ مِنْ داودَ والجبالِ والطيرِ مُسَبِّح ورَجَّاع لله تعالى .

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

قوله : { وَشَدَدْنَا } : العامَّةُ على تخفيفِ « شَدَدْنا » أي : قَوَّيْنا كقوله : « سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك » . وابنُ أبي عبلة والحسن « شَدَدْنا » بالتشديد وهي مبالَغَةٌ لقراءةِ العامَّةِ .

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)

قوله : { نَبَأُ الخصم } : قد تقدَّم أنَّ الخَصْمَ في الأصل مصدرٌ فلذلك يَصْلُحُ للمفردِ والمذكرِ وضِدَّيْهِما ، وقد يطابِقُ . ومنه : { لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ } [ ص : 22 ] و { هذان خَصْمَانِ } [ الحج : 19 ] . والمرادُ بالخَصْمِ هنا جمعٌ بدليلِ قولِه : « إذ تَسَوَّرُوا » وقوله : « إذ دَخَلُوا » . قال الزَمخشريُّ : « وهو يقعُ للواحدِ والجمعِ كالضَّيْفِ . قال تعالى : { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } [ الذاريات : 24 ] لأنه مصدرٌ في أصله يُقال : خَصَمه يَخْصِمُه خَصْماً كما تقول : ضافه ضَيْفاً . فإنْ قلتَ : هذا جمعٌ وقولُه : » خصمان « تثنيةٌ فكيف استقَامَ ذلك؟ قلت : معنى خصمان : فريقان خَصْمان ، والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ » [ خَصْمَانِ ] بغى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ « ونحوُه قوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } . فإنْ قلتَ : فما تصنعُ بقولِه : { إِنَّ هَذَآ أَخِي } وهو دليلٌ على الاثنين؟ قلت : هذا قولُ البعضِ المراد به : { بَعْضُنَا على بَعْضٍ } . فإنْ قلت : فقد جاء في الرواية : أنه بُعِثَ إليه مَلَكان . قلت : معناه أن التحاكمَ بين مَلَكَيْن ، ولا يمنعُ ذلك أَنْ يَصْحَبَهما آخرون . فإن قلت : كيف سَمَّاهم جميعاً خَصْماً في قوله : » نَبَأ الخَصْمِ « و » خَصْمان «؟ قلتُ : لَمَّا كان صَحِبَ كلَّ واحدٍ من المتحاكميْن في صورةِ الخَصْمِ صَحَّت التسميةُ به » .
قوله : « إذ تَسَوَّروا » في العامل في « إذ » أوجهٌ ، أحدها : أنه معمولٌ للنبأ إذا لم يُرِدْ به القصة . وإليه ذهبَ ابنُ عطيةَ وأبو البقاء ومكي . أي : هل أتاك الخبرُ الواقعُ في وقتِ تَسَوُّرِهم المحرابَ؟ وقد رَدَّ بعضُهم هذا : بأنَّ النبأ الواقعَ في ذلك الوقتِ لا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وإنْ أريد بالنبأ القصةُ لم يكن ناصباً . قاله الشيخ . الثاني : أنَّ العاملَ فيه « أتاك » ورُدَّ بما رُدَّ به الأولُ . وقد صَرَّحَ الزمخشريُّ بالردِّ على هذين الوجهين ، فقال : « فإنْ قلتَ بم انتصبَ » إذ «؟ قلت : لا يَخْلوا إمَّا أَنْ ينتصِبَ ب » أتاك « أو بالنبأ أو بمحذوفٍ . فلا يَسُوغ انتصابُه ب » أتاك « لأنَّ إتْيانَ النبأ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقعُ إلاَّ في عهدِه لا في عهدِ دوادَ ، ولا بالنبأ؛ لأنَّ النبأ واقِعٌ في عهدِ داودَ فلا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم . وإن أَرَدْتَ بالنبأ القصةَ في نفسِها لم يكنْ ناصباً ، فبقي أَنْ يكونَ منصوباً بمحذوف ، وتقديره : وهل أتاك نبأُ تحاكُمِ الخَصْمِ إذ ، فاختار أن يكونَ معمولاً لمحذوفٍ . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بالخصْم لِما فيه من معنى الفعلِ .

إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)

قوله : { إِذْ دَخَلُواْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه بدل مِنْ « إذ » الأولى . الثاني : أنَّه منصوبٌ ب « تَسَوَّرُوا » ومعنى تَسَوَّروا : عَلَوْا/ أعلى السُّورِ ، وهو الحائطُ ، غيرُ مهموزٍ كقولك : تَسَنَّم البعيرَ أَي : بَلَغَ سَنامَه . والضميرُ في « تَسَوَّروا » و « دخلوا » راجعٌ على الخصم لأنه جمعٌ في المعنى على ما تقدَّم ، أو على أنَّه مثنى ، والمثنى جمعٌ في المعنى ، وقد مضى الخلافُ في هذا محققاً .
قوله : « خَصْمان » خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : نحن خَصْمان؛ ولذلك جاء بقولِه : « بَعْضُنا » . ومَنْ قرأ « بعضهم » بالغَيْبة يُجَوِّز أن يُقَدِّرَه كذلك ، ويكون قد راعى لفظَ « خَصْمان » ، ويُجَوِّزُ أنْ يُقَدِّرَ هم خصمان ليتطابَقَ . ورُوِي عن الكسائي « خِصْمان » بكسر الخاء . وقد تقدَّم أنه قرأها كذلك في الحج .
قوله : « بَغَى بَعْضُنا » جملةٌ يجوزُ أَنْ تكون مُفَسِّرَةً لحالِهم ، وأن تكونَ خبراً ثانياً .
قوله : « ولا تُشْطِطْ » العامَّةُ على ضَمِّ التاء وسكونِ الشينِ وكسرِ الطاءِ الأولى مِنْ أشْطَطَ يُشْطِطُ إشْطاطاً إذا تجاوز الحقَّ . قال أبو عبيدة : « شَطَطْتُ في الحُكْمِ؛ وأَشْطَطْتُ فيه ، إذا جُرْتُ » فهو ممَّا اتفق فيه فَعَل وأَفْعَل ، وإنما فَكَّه على أحدِ الجائزَيْن كقولِه : « مَنْ يَرْتَدِدْ » وقد تقدَّم تحقيقُه . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابنُ أبي عبلة « تَشْطُط » بفتح التاءِ وضَمِّ الطاءِ مِنْ شَطَّ بمعنى أشَطَّ كما تقدَّم . وقرأ قتادة « تُشِطَّ » مِنْ أشطَّ رباعياً ، إلاَّ أنه أدغم وهو أحد الجائزَيْن كقراءة مَنْ قرأ { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } ، وعنه أيضاً « تُشَطِّطْ » بفتح الشين وكسرِ الطاءِ مُشَدَّدةً شَطَّطَ يُشَطِّطُ . والتثقيلُ فيه للتكثيرِ . وقرأ زر بن حبيش « تُشاطِطْ » من المفاعلة .

إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

قوله : { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ } : العامَّةُ على كسر التاءِ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما ، وهي لُغَيَّةٌ . وقرأ العامَّةُ « نَعْجة » بفتح النون ، والحسن وابن هرمز بكسرها . قيل : وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ . وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ :
3858 أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ ... رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ ... ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ ... وقال آخر :
3859 هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ ... لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ
وقوله : « وعَزَّني » أي : غَلَبني . قال الشاعر :
3860 قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ ... تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
يقال : عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس . وقرأ طلحة وأبو حيوة « وَعَزَني » بالتخفيف . قال ابن جني : « حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً . كما قال :
3861 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
يريد : أَحْسَسْنَ » ، فحذف . وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم . وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك « وعازَّني » بألفٍ مع تشديد الزاي ، أي : غالبني .

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)

قوله : { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، والفاعلُ محذوفٌ أي : بأَنْ سَأَلك نعجَتك ، وضُمِّنَ السؤالُ معنى الإِضافةِ والانضمامِ أي : بإضافةِ نعجتِك على سبيل السؤال ، ولذلك عُدِّي ب إلى .
قوله : « لَيَبْغي » العامَّةُ على سكونِ الياءِ وهو مضارعٌ مرفوعٌ في محلِّ الخبرِ ل « إنَّ » وقُرِئ « لَيَبْغيَ » بفتح ياءَيْه . ووُجِّهَتْ : بأن الأصلَ : لَيَبْغِيَنْ بنونِ التوكيد الخفيفة والفعل جواب قسم مقدر ، والقسم المقدر وجوابه خبر إنَّ تقديره : وإن كثيراً من الخلطاء والله ليبغين ، فحُذِفَت كما حُذِفَ في قوله :
3862 اضْرِبَ عَنْك الهمومَ طارِقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقُرِئ « ألم نَشْرَحَ » بالفتح وقوله :
3863 مِنْ يومِ لم يُقْدَرَ أو يومَ قُدِرْ ... بفتح الراء . وقُرِئَ « لَيَبْغِ » بحَذْف الياء . قال الزمخشري : « اكتفى منها بالكسرة » وقال الشيخ : « كقوله :
3864 محمدُ تَفِدْ نفسَك كلُّ نَفْسٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد » تَفْدِي « على أحدِ القولين » يعني : أنه حذفَ الياءَ اكتفاءً عنها بالكسرةِ . والقول الثاني : أنه مجزومٌ بلامِ الأمرِ المقدرةِ . وقد تقدَّم هذا في سورة إبراهيم عليه السلام ، إلاَّ أنَّه لا يتأتَّى هنا لأنَّ اللامَ مفتوحةٌ .
قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه : « بعضهم » وقوله : « وقليلٌ » خبرٌ مقدمٌ و « ما » مزيدةٌ للتعظيم . و « هم » مبتدأ .
قوله : « فَتَنَّاه » بالتخفيفِ . وإسنادُه إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه قراءةُ العامَّةِ . وعمرُ بن الخطاب والحسن وأبو رجاء « فَتَّنَّاه » بتشديد/ التاء وهي مبالغةٌ . وقرأ الضحاك « أفتنَّاه » يُقال : فَتَنَه وأَفْتَنَه أي : حَمَله على الفتنةِ . ومنه قولُه :
3865 لَئِنْ فَتَنَتْنِيْ لَهْيَ بالأَمْسِ أَفْتَنَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ قتادةُ وأبو عمروٍ في روايةٍ « فَتَناه » بالتخفيف . و « فتنَّاه » بالتشديد والألفُ ضميرُ الخصمين . و « راكِعاً » حالٌ مقدرةٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ لظهورِ المقارنة .

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)

قوله : { ذَلِكَ } : الظاهرُ أنَّه مفعولُ « غَفَرْنا » . وجَوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ ذلك وأيُّ حاجةٍ إلى هكذا؟

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

قوله : { فَيُضِلَّكَ } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ في جوابِ النهي . والثاني : أنه عطفٌ على « لا تَتَّبِعْ » فهو مجزومٌ ، وإنما فُتِحَتْ اللامُ لالتقاء الساكنين ، وهو نهيٌ عن كل واحدٍ على حِدَتِه ، والأولُ فيه النهيُ عن الجمع بينهما . وقد يَتَرَجَّح الثاني لهذا المعنى . وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في البقرة في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] . وفاعل « فَيُضِلَّك » يجوزُ أَنْ يكونَ « الهوى » ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ المصدرِ المفهوم من الفعل أي : فيُضِلَّك اتِّباعُ الهوى . والعامَّةُ على فتحِ « يَضِلُّون » ، وقرأ ابنُ عباس والحسن وأبو حيوة « يُضِلُّون » بالضمِّ أي : يُضِلُّون الناسَ ، وهي مُسْتَلْزِمَةٌ للقراءةِ الأولى ، فإنه لا يُضِلُّ غيرَه إلاَّ ضالٌّ بخلافِ العكسِ .
قوله : « بما نَسُوا » « ما » مصدريَّةٌ . والجارُّ يتعلَّقُ بالاستقرار الذي تضمنَّه « لهم » . و « لهم عذابٌ » يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً خبراً ل « إنَّ » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ وحدَه الجارَّ . و « عذابٌ » فاعلٌ به وهوالأحسنُ لقُرْبِه من المفرد .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)

قوله : { بَاطِلاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي : خَلْقاً باطلاً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل « خَلَقْنا » أي : مُبْطِلين أو ذوي باطلٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً مِنْ أجلِه . أي : للباطل وهو العَبَثُ . و « أم » في الموضعَيْن منقطعةٌ وقد عَرَفْتَ ما فيها .

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)

قوله : { كِتَابٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا كتابٌ و « أَنْزَلْناه » صفةٌ و « مبارَكٌ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ أو خبرٌ ثانٍ ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ، لأنَّه لا يتقدَّمُ عند الجمهورِ غيرُ الصريحِ على الصريحِ . ومَنْ يرى ذلك استدلَّ بظاهِرها ، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في المائدة .
و « لِيَدَّبَّروا » متعلقٌ ب « أَنْزَلْناه » . وقُرِئ « مبارَكاً » على الحالِ اللازمةِ؛ لأنَّ البركةَ لا تفارِقُه . وقرأ علي رضي الله عنه « لِيَتَدَبَّروا » وهي أصلُ قراءةِ العامَّةِ فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدالِ . وأبو جعفر - ورُوِيَتْ عن عاصم والكسائي - « لِتَدَبَّروا » بتاءِ الخطاب وتخفيفِ الدالِ . وأصلُها لِتَتدَبَّروا بتاءَيْن فحُذِفَتْ إحداهما . وفيها الخلافُ المشهورُ : هل هي الأُوْلى أو الثانية؟

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)

قوله : { نِعْمَ العبد } : مخصوصُها محذوفٌ أي : نِعْمَ العبدُ سليمانُ . وقيل : داودُ . والأولُ أظهرُ لأنه هو المَسُوْقُ للحديثِ عنه . وقُرِئ بكسرِ العين ، وهي الأصلُ كقولِه :
3866 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَعِمَ السَّاعونَ في القومِ الشُّطُرْ

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)

قوله : { إِذْ عُرِضَ } : في ناصبه أوجهٌ ، أحدها : نِعْم ، وهو أضعَفُها لأنه لا يَتَقَيَّدُ مَدْحُه بوقتٍ ، ولعدمِ تَصَرُّفِ نِعْمَ . والثاني : « أوَّاب » وفيه تقييدُ وَصْفِه بذلك بهذا الوقت . والثالث : اذكرْ مقدراً وهو أَسْلَمُها و « الصَّافِناتُ » جمعُ صافنٍ . وفيه خلافٌ بين أهلِ اللغةِ . فقال الزجَّاجُ : هو الذي يقفُ على إحدى يدَيْه ويَقِفُ على طَرَفِ سُنْبُكه ، وقد يفعل ذلك بإحدى رجلَيْه . قال : « وهي علامةُ الفَراهةِ فيه ، وأنشد :
3867 أَلِفَ الصُّفُوْنَ فما يَزال كأنَّه ... مِمَّا يقومُ على الثلاثِ كَسِيْرا
وقيل : هو الذي يَجْمَعُ يديه ويُسَوِّيهما . وأمَّا الذي يقفُ على سُنْبُكِه فاسمُه المُخِيْم قاله أبو عبيد . وقيل : هو القائمُ مطلقاً ، أي : سواءً كان من الخيل أم مِنْ غيرها قاله القُتبيُّ ، واستدلَّ بالحديث وهو قوله عليه السلام : » مَنْ سَرَّه أَنْ يقومَ الناسُ له صُفُوناً فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار « أي : يُديمون له القيام . وحكاه قطرب أيضاً . وقيل : هو القيامُ مطلقاً سواءً وقفتَ على طَرَف سُنْبك أم لا . قال الفراء : » على هذا رأيْتُ أشعارَ العرب « . انتهى وقال النابغة : /
3868 لنا قُبَّةٌ مَضْروبة بفِنائها ... عِتاقُ المَهارى والجياد الصَّوافِنُ
والجِيادُ : إمَّا من الجَوْدَةِ يقال : جاد الفَرَسُ يجودُ جَوْدة وجُوْدة بالفتح والضم فهو جَوادٌ للذكر والأنثى ، والجمع : جِيادٌ وأَجْواد وأجاويد وقيل : جمع ل جَوْد بالفتح كثَوْب وثِياب . وقيل : جمع جَيِّد . وإما من الجِيْد وهو العُنُق والمعنى : طويلة الأجياد ، وهو دالٌّ على فَراهتِها .

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)

قوله : { حُبَّ الخير } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : هو مفعولُ « أَحْبَبْت » لأنه بمعنى آثَرْتُ ، و « عَنْ » على هذا بمعنى على ، أي : على ذِكْر ربي؛ لأنه يُرْوَى في التفسيرِ - واللَّهُ أعلم - أنه عَرَضَ الخيلَ حتى شَغَلَتْه عن صلاة العصرِ أولَ الوقتِ حتى غَرَبَتِ الشمسُ . وقال الشيخ : « وكأنه منقولٌ عن الفراء أنه ضَمَّن أَحْبَبْتُ معنى آثَرْتُ حتى نصبَ » حُبَّ الخير « مفعولاً به . وفيه نظرٌ؛ لأنه متعدٍّ بنفسه ، وإنما يَحتاج إلى التضمين إنْ لو لم يكنْ متعدِّياً . الثاني : أنَّ » حُبَّ « مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد . والناصبُ له » أَحببتُ « . الثالث : أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي : حُباً مثلَ حُبِّ الخير . الرابع : أنه قيل : ضُمِّن معنى أَنَبْتُ ، فلذلك تَعَدَّى ب » عن « . الخامس : أنَّ » أَحْبَبْتُ « بمعنى لَزِمْتُ . السادس : أنَّ » أَحْبَبْتُ « مِنْ أحَبَّ البعيرُ إذا سَقَطَ وبَرَك من الإِعْياء . والمعنى : قَعَدْتُ عن ذِكْر ربي ، فيكون » حُبَّ الخيرِ « على هذا مفعولاً مِنْ أجله .
قوله : » حتى تَوارَتْ « في الفاعل وجهان ، أحدهما : هو » الصافنات « والمعنى : حتى دخلَتْ اصْطَبْلاتِها فتوارَتْ وغابَتْ . والثاني : أنه للشمس أُضْمِرَتْ لدلالة السِّياق عليها . وقيل : لدلالةِ العَشِيِّ عليها فإنها تشعر بها . وقيل : يدل عليها الإِشراق في قصة داود . وما أبعده .
وقوله : » ذِكْرِ ربي « يجوز أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي : عن أَنْ أذكر ربي ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل أي : عَنْ أَنْ ذَكرني ربي . وضميرُ المفعولِ في » رُدُّوها « للصافناتِ . وقيل : للشمس ، وهو غريبٌ جداً .

رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)

قوله : { مَسْحاً } : منصوبٌ بفعلٍ مقدر ، وهو خبر « طَفِق » أي : فَطَفِق يَمْسَح مَسْحاً؛ لأنَّ خبرَ هذه الأفعالِ لا يكونُ إلاَّ مضارعاً في الأمر العام . وقال أبو البقاء وبه بَدأ : « مصدرٌ في موضعِ الحالِ » . وهذا ليس بشيء لأنَّ « طَفِقَ » لا بُدَّ لها مِنْ خبر .
وقرأ زيد بن علي : « مِساحاً » بزنةِ قِتال . والباءُ في « بالسُّوْق » مزيدةٌ ، مِثْلُها في قولِه : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] . وحكى سيبويه « مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه » بمعنًى واحدٍ . ويجوز أن تكونَ للإِلصاق كما تقدَّم تقريرُه . وتقدَّم هَمْزُ السُّؤْق وعدمُه في النمل . وجعل الفارسي الهمزَ ضعيفاً . وليس كما قال؛ لِما تقدَم من الأدلة . وقرأ زيد بن عليّ « بالساق » مفرداً اكتفاءً بالواحدِ لعَدمِ اللَّبْسِ كقولِه :
3869 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ
وقولِه :
3870 كلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِه :
3871 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجيْنا
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بمَ اتَّصَلَ قولُه : » رُدُّوها عليَّ «؟ قلت : بمحذوفٍ تقديرُه قال : » رُدُّوها « فأضمر ، وأضمر ما هو جوابٌ له . كأنَّ قائلاً قال : فماذا قال سليمان؟ لأنه موضعٌ مُقتَضٍ للسؤالِ اقتضاءً ظاهراً » . قال الشيخ : « وهذا لا يُحتاجُ إليه؛ لأنَّ هذه الجملةَ مُنْدَرِجَةٌ تحت حكايةِ القولِ وهو : { فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ } .

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)

قوله : { جَسَداً } : فيه وجهان : أظهرُهما : أنه مفعولٌ به لأَلْقَيْنا . وفي التفسيرِ : أنه شِقُّ وَلَدٍ . والثاني : أنه حالٌ وصاحبُها : إمَّا سليمانُ؛ لأنه يُرْوى أنه مَرِضَ حتى صار كالجسد الذي لا رُوْحَ فيه ، وإمَّا وَلَدُه . قالهما أبو البقاء : ولكنْ جسدٌ جامدٌ ، فلا بُدَّ مِنْ تأويلِه بمشتقٍّ ، أي : ضعيفاً أو فارغاً .

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)

قوله : { تَجْرِي } : يجوزُ أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً لقولِه : « سَخَّرْنا » ، وأَنْ تكونَ حالاً من الريح . والعامَّةُ على توحيد الريح ، والمعنى على الجمعِ . وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة « الرياح » و « رُخاءً » حالٌ مِنْ فاعل « تَجْري » . والرُّخاءُ : الليِّنَةُ مشتقةً من الرَّخاوة . ومعنى ذلك الطواعيةُ لأمْرِه .
قوله : « حيث » ظرفٌ ل « تَجْري » أو ل « سَخَّرْنا » . و « أصاب » : أراد بلغةِ حِمْير . وقيل : بلغة هَجَر . وعن [ رجلين مِنْ أهل اللغة ] أنهما خرجا يَقْصِدان رؤبة ليسألاه عن هذا الحرف . فقال لهما : أين تُصيبان؟ فعَرفاها وقالا : هذه بُغْيَتُنا . وأنشد الثعلبي على ذلك :
3872 أصابَ الجوابَ فلمْ يَسْتَطِعْ ... فأخْطا الجوابَ لدى المِفْصَلِ
/ أي : أراد الجوابَ . ويُقال : « أَصاب اللَّهُ بك خيراً » أي : أرده بك . وقيل : الهمزةُ في « أصاب » للتعديةِ مِنْ صابَ يَصُوْبُ أي : نَزَلَ ، والمفعولُ محذوفٌ أي : أصاب جنودَه أي : حيث وجَّههم وجعلهم يصُوْبون صَوْبَ المطرِ .

وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)

قوله : { والشياطين } : نَسَقٌ على « الريحَ » . و « كلَّ بنَّاءٍ » بدلٌ من « الشياطين » ، وأتى بصيغةِ المبالغةِ لأنَّه في مَعْرِضِ الامتنانِ . و « آخرين » عطفٌ على « كلَّ » فهو داخِلٌ في حكمِ البدلِ . وتقدَّم شَرْحُ { مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } [ إبراهيم : 49 ] في آخرِ سورة إبراهيم .

هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)

قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلقٌ ب « عَطاؤُنا » أي : أَعْطيناك بغَير حِسابٍ ولا تقديرٍ ، وهو دلالةٌ على كثرةِ الإِعطاء . الثاني : أنه حالٌ مِنْ « عَطاؤنا » أي : في حال كونِه غيرَ محاسَبٍ عليه لأنه جَمٌّ كثيرٌ يَعْسُر على الحُسَّاب ضَبْطُه . الثالث : أنه متعلقٌ ب « امْنُنْ » أو « أمسِكْ » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلهما أي غيرَ محاسَب عليه .

وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

قوله : { وَحُسْنَ مَآبٍ } : العامَّةُ على نصبِه نسقاً على اسم « إنَّ » وهو « لَزُلْفَى » . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة برَفعِه على الابتداءِ ، وخبرُه مُضْمَرٌ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه ويَقِفان على « لَزلْفَى » ويَبتَدِئان ب « حُسْنُ مآب » أي : وحُسْنُ مآب له أيضاً .

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)

قوله : { أَيُّوبَ } : كقولِه : { عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] ففيه ثلاثةُ الأوجهِ . و « إذْ نادَى » بَدَلٌ منه بدلُ اشتمال . وقوله : « أني » جاء به على حكايةِ كلامِه الذي ناداه بسببه ولو لم يَحْكِه لقال : إنَّه مَسَّه لأنه غائبٌ . وقرأ العامَّةُ بفتح الهمزة على أنه هو المنادَى بهذا اللفظِ . وعيسى بن عمر بكسرِها على إضمار القولِ أو على إجراءِ النداءِ مُجْراه .
قوله : « بِنُصْبٍ » قرأ العامَّةُ بالضم والسكون . فقيل : هو جمعُ « نَصَبٍ » بفتحتين نحو : وَثَن ووُثْن ، وأَسَدِ وأُسْدٍ . وقيل : هي لغةٌ في النَّصَبَ نحوُ : رُشْد ورَشَد ، وحُزْن وحَزَن ، وعُدْم وعَدَم . وأبو جعفر وشيبة وحفص ونافع في روايةٍ بضمتين وهو تثقيلُ نُصْب بضمة وسكون ، قاله الزمخشري . وفيه بُعْدٌ لِماعَرَفْتَ أنَّ مقتضى اللغةِ تخفيفُ فُعُل كعُنُق لا تثقيل فُعْل كقُفْل ، وفيه خلافٌ . وقد تقدَّم في العُسْر واليُسْر في البقرة . وقرأ أبو حيوة ويعقوبُ وحفصٌ في روايةٍ بفتحٍ وسكونٍ ، وكلُّها بمعنًى واحدٍ : وهو التعبُ والمَشقةُ .

وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)

قوله : { رَحْمَةً } : و « ذكرى » مفعولٌ من أجله أي : وهَبْناهم له لأَجْلِ رحمتِنا إيَّاه وليتذكَّرَ بحالهِ أولو الألباب .

وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

قوله : { ضِغْثاً } : الضِّغْثُ : الحُزْمَةُ الصغيرةُ من الحشيشِ والقُضْبان . وقيل : الحُزْمَةُ الكبيرةُ من القُضْبان . وفي المثل : « ضِغْثٌ على إبَّالَة » والإِبَّالةُ : الحُزْمَةُ من الحطبِ . قال الشاعر :
3873 وأثقلَ مني نَهْدَةً قد رَبَطْتُها ... وأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِن خَلَىً مُتَطيَّبِ
وأصلُ المادة يَدُلُّ [ على ] جَمْعِ المختلطاتِ . وقد تقدَّم هذا في سورة يوسف في { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } [ يوسف : 44 ] .
قوله : « ولا تَحْنَثْ » الحِنْثُ : الإِثْمُ . ويُطْلَقُ على فِعْلِ ما حُلِفَ على تَرْكِه أو تَرْكِ ما حُلِفَ على فِعْله لأنَّهما سِيَّان فيه غالباً .

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)

قوله : { عِبَادَنَآ } : قرأ ابنُ كثير « عَبْدَنا » بالتوحيد . والباقون « عبادَنا » بالجمعِ والرسمُ يحتملهما . فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف « إبراهيمَ » بدلٌ أو بيانٌ ، أو بإضمار أَعْني ، وما بعدَه عطفٌ على نفس « عبدَنا » لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ . ولقائلٍ أنْ يقولَ : لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه . وهذا كقراءةِ ابنِ عباس { وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ } في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم . وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع .
قوله : « الأَيْدي » العامَّة على ثبوتِ الياءِ ، وهو جَمْعُ يدٍ : إمَّا الجارِحَةِ ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ . وقيل : المرادُ بالأيدي جمعُ « يَدٍ » المراد بها النعمةُ . وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش « الأَيْد » بغيرِ ياء فقيل : هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين ، فأُجْرِيَتْ مع أل إجراءَها معه . وهذا ضعيفٌ جداً . وقيل : الأَيْد : القوةُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : « وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن » انتهى . وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه ، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد . وقد يقال : إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك ، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ . وكأنه قيل : أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ . وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك .

إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)

قوله : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى } : قرأ نافعٌ وهشام « بخالصةِ ذكرَى » بالإِضافة . وفيها أوجه ، أحدُها : أَنْ يكونَ أضافَ « خالصة » إلى « ذكرَى » للبيانِ؛ لأنَّ الخالصةَ تكونُ ذكرى وغيرَ ذكرْى كما في قولِه : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] لأنَّ الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه . الثاني : أنَّ « خالصةً » مصدرٌ بمعنى إخلاص ، فيكون مصدراً مضافاً لمفعولِه ، والفاعلُ محذوفٌ أي : بأَنْ أَخْلَصوا ذكرى الدار وتناسَوْا عندها ذِكْرَ الدنيا . وقد جاء المصدرُ على فاعِلة كالعافِية ، أو يكونُ المعنى : بأَنْ أَخْلَصْنا نحن لهم ذكرى الدار . الثالث : أنها مصدرٌ أيضاً بمعنى الخلوص ، فتكونُ مضافةً لفاعِلها أي : بأنْ خَلَصَتْ لهم ذِكْرَى الدار .
وقرأ الباقون بالتنوينِ وعَدَمِ الإِضافة . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أنها مصدرٌ بمعنى الإِخْلاص فيكون « ذكرى » منصوباً به ، وأنْ يكونَ بمعنى الخُلوص فيكون « ذكرى » مرفوعاً به كما تقدَّم ذلك ، والمصدرُ يعملُ منوَّناً كما يَعْمَلُ مضافاً ، أو يكونُ « خالصة » اسمَ فاعلٍ على بابِه ، و « ذكرى » بَدَلٌ أو بيانٌ لها ، أو منصوبٌ بإضمارِ أَعْني ، أو مرفوع على إضمار مبتدأ . و « الدار » يجوز أن يكونَ مفعولاً به بذكرى ، وأن يكونَ ظرفاً : إمَّا على الاتِّساعِ ، وإمَّا على إسقاط الخافض ، ذكرهما أبو البقاء . وخالصة إذا كانَتْ صفةً فهي صفةٌ لمحذوفٍ أي : بسببِ خَصْلَةٍ خَالصةٍ .

وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)

والأَخْيار جمعُ خَيِّر ، أو خَيْر بالتثقيلِ والتخفيف كأموات جمع مَيِّت أو مَيْت .

هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)

قوله : { هذا ذِكْرٌ } : جملةٌ جيْءَ بها إيذاناً بأنَّ القصةَ قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى ، وهذا كما فَعَل الجاحظ في كتبِه يقول : « فهذا بابٌ » ثم يَشْرَعُ في آخرَ . ويَدُلُّ على ذلك : أنه لمَّا أرد أَنْ يُعَقِّبَ بذِكْر أهل النارِ ذَكَرَ أهلَ الجنة . قال تعالى : { هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } [ ص : 55 ] .

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)

قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } : العامةُ على نصب « جنات » بدلاً من « حُسْنَ مَآب » سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس . ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً . وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان ، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ « جناتِ عَدْنٍ » بإضمارِ فِعْلٍ . و « مُفَتَّحةً » حالٌ مِنْ « جنات عدن » أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً . وقال الزمخشري : « حالٌ . والعاملُ فيها ما في » للمتقين « مِنْ معنى الفعلِ » انتهى . وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/ : « مُتَّكئين » تقتضي مَنْعَ « مُفَتَّحة » أَنْ تكونَ حالاً ، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ . وقال : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ » متكئين « حالاً مِنْ » للمتقين « لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال » وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل « مُفَتَّحةً » حالاً من « للمتقين » كما ذكره الزمخشري . إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك : « إن لهندٍ مالاً قائمةً » . وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ : فإنَّ « للمتقين » لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى ، وإلاَّ فقد أخبر عن « حُسْن مآب » بأنَّه لهم . وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي : يَدْخلونها مفتحةً .
قوله : « الأبواب » في ارتفاعِها وجهان ، أحدهما : - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] . واعْتُرِضَ على هذا بأن « مُفتَحةً » : إمَّا حالٌ ، وإمَّا نعتٌ ل « جنات » ، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين ، أحدهما : قولُ البصريين : وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه : الأبوابُ منها . والثاني : أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ : أبوابُها . وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا . والوجهان جاريان في قولِه : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] . الثاني : أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في « مُفَتَّحَةً » العائدِ على « جنات » وهو قولُ الفارسيِّ ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك . واعْتُرض على هذا : بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم . ورَجَّح بعضُهم الأولَ : بأنَّ فيه إضماراً واحداً ، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال : « والأبواب بدلٌ مِن الضمير في » مُفَتَّحَةً « أي : مفتحةً هي الأبواب كقولك : ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال » فقوله : « بدلُ الاشتمال » إنما يعني به الأبواب ، لأنَّ الأبواب قد يُقال : إنها ليسَتْ بعضَ الجنات ، و « أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ » فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ .
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ { جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ } برفعهما : إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي جناتٌ ، هي مفتحةٌ .

مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)

قوله : { مُتَّكِئِينَ } : حالٌ مِنْ « لهم » العاملُ فيها « مفتحةً » . وقيل : العاملُ « تُوْعَدون » تأخَّر عنها ، وقد تقدَّمَ مَنْعُ أبي البقاء أنها حال مِنْ « للمتقين » وما فيه . و « يَدْعُون » يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً : إمَّا مِنْ ضمير « مُتَّكئين » وإمَّا حالاً ثانية .

هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)

قوله : { تُوعَدُونَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا « يُوْعَدون » بالغَيْبة . وفي ق ابنُ كثيرٍ وحدَه . والباقون بالخطاب فيهما ووجهُ الغَيْبةِ هنا وفي ق تَقَدُّمُ ذِكْرِ المتقين . ووجْهُ الخطابِ الالتفاتُ إليهم والإِقبالُ عليهم .

إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

قوله : { مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } : « مِنْ نَفادٍ » : إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ ، و « مِنْ » مزيدةٌ . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « رزقنا » أي : غيرَ فانٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً .

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)

قوله : { هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « هذا » مبتدأ والخبرُ مقدَّرٌ ، فقدَّره الزمخشري : « هذا كما ذُكِر » . وقَدَّره أبو علي : « هذا للمؤمنين » . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ هذا .

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)

قوله : { جَهَنَّمَ } : يجوزُ أن تكون بدلاً مِنْ « شرَّ مآبٍ » أو منصوبةً بإضمار فعلٍ . وقياسُ قولِ الزمخشري في « جناتِ عدن » أن تكون عطفَ بيانٍ ، وأن تكونَ منصوبةً بفعل مقدرٍ على الاشتغالِ أي : يَصْلَوْن جهنَّمَ يَصْلَوْنَها . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : هي .

هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)

قوله : { هذا فَلْيَذُوقُوهُ } : في « هذا » أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً ، وخبرُه « حميمٌ وغَسَّاقٌ » . وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ، أو يكون المعنى : هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن ، ويكون قولُه : « فَلْيَذُوْقوه » جملةً اعتراضيةً . الثاني : أَنْ يكونَ « هذا » منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي : لِيَذُوقوا هذا .
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] ، يعني على الاشتغال . والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم . و « حميمٌ » على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي : منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله :
3874 حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ ... وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ
أي : منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود . الثالث : أَنْ يكونَ « هذا » مبتدأ ، والخبرُ محذوفٌ أي : هذا كما ذُكِر ، أو هذا للطاغين . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ هذا ، ثم استأنف أمراً فقال : فَلْيذوقوه . الخامس : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه « فَلْيذوقوه » وهو رأيُ الأخفشِ . ومنه :
3875 وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] / وقرأ الأخَوان وحفصٌ « غَسَّاقٌ » بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون ، وخَفَّفه الباقون فيهما . فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء . ومِنْ ورودِه في الأسماء : الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم ، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي : ذي غَسَقٍ . وقال أبو البقاء : « أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل » . قلت : وهذا غيرُ مَعْروفٍ . والغَسَقُ : السَّيَلانُ . يقال : غَسَقَتْ عينُه أي : سالَتْ . وفي التفسير : أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم . وقيل : غَسَق أي امتلأ . ومنه : غَسَقَتْ عينُه أي : امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه . وقيل : الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه . ومنه قيل لليلِ : غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار . وقيل : الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة ، ومنه قيل لليل : « غاسِق » . ويقال للقمر : غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده ، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [ الفلق : 3 ] .

وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)

قوله : { وَآخَرُ } : قرأ أبو عمروٍ بضمِّ الهمزةِ على أنه جمع . وارتفاعُه من أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، و « من شَكْلِه » خبرُه ، و « أزواجٌ » فاعلٌ به . الثاني : أنْ يكونَ مبتدأ أيضاً ، و « مِنْ شكلِه » خبرٌ مقدَّمٌ ، و « أزواج » مبتدأٌ والجملةُ خبرُه ، وعلى هذين فيقال : كيف يَصِحُّ مِنْ غير ضميرٍ يعودُ على أُخَر ، فإن الضميرَ في « شكله » يعودُ على ما تقدَّم أي : مِنْ شكل المَذُوق؟ والجوابُ : أن الضميرَ عائدٌ على المبتدأ ، وإنما أُفْرد وذُكِّر لأنَّ المعنى : مِنْ شكلِ ما ذَكَرْنا . ذكر هذا التأويلَ أبو البقاءِ . وقد منع مكي ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير ، وجوابُه ما ذكرته لك . الثالث : أن يكون « مِنْ شكله » نعتاً ل أُخَر ، وأزواج خبر المبتدأ أي : وأُخر من شكل المذوق أزواج . الرابع : أن يكون « من شكله نعتاً أيضاً ، وأزواجٌ فاعل به ، والضميرُ عائدٌ على أُخَر بالتأويل المتقدم ، وعلى هذا فيرتفعُ » أُخَرُ « على الابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : ولهم أنواعٌ أُخَرُ ، استقرَّ مِنْ شكلها أزواجٌ . الخامس : أنْ يكونَ الخبر مقدراً كما تقدَّم أي : ولهم أُخَرُ ، ومِنْ شكلِه وأزواج صفتان ل أُخَر .
وقرأ العامَّة » مِنْ شَكْلِه « بفتح الشين ، وقرأ مجاهد بكسرِها ، وهما لغتان بمعنى المِثْل والضرب . تقولُ : هذا على شَكْلِه أي : مِثْله وضَرْبه . وأما الشِّكْلُ بمعنى الغُنْج فالبكسر لا غير ، قاله الزمخشري .
وقرأ الباقون » وآخَرُ « بفتح الهمزة وبعدها ألفٌ بصيغةِ أَفْعَل التفضيل ، والإِعرابُ فيه كما تقدَّم . والضمير في أحدِ الأوجه يعودُ عليه مِنْ غيرِ تأويل لأنه مفردٌ . إلاَّ أنَّ في أحد الأوجه يَلْزَمُ الإِخبارُ عن المفردِ بالجمع أو وَصْفُ المفردِ بالجمع؛ لأنَّ مِنْ جملة الأوجهِ المتقدمةِ أنْ يكونَ » أزواج « خبراً عن » آخر « أو نعتاً له كما تقدَّم . وعنه جوابان ، أحدُهما : أن التقديرَ : وعذابٌ آخرُ أو مَذُوقٌ ، وهو ضُروب ودرجاتٌ فكان في قوةِ الجمع . أو يُجْعَلُ كلُّ جزءٍ من ذلك الآخرِ مثلَ الكلِّ ، وسمَّاه باسمِه وهو شائعٌ كثيرٌ نحو : غليظ الحواجب ، وشابَتْ مفارِقُه . على أنَّ لقائلٍ أنْ يقولَ : إنَّ أزواجاً صفةٌ لثلاثةِ الأشياءِ المتقدِّمة ، أعني الحميم والغَسَّاق وآخرُ مِنْ شكلِه فيُلْغى السؤالُ .

هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)

قوله : { مُّقْتَحِمٌ } : مفعولُه محذوفٌ أي : مقتحِمٌ النارَ . والاقتحام : الدخولُ في الشيء بشدَّة ، والقُحْمَةُ : الشدةُ . وقال الراغب : الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ . ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي : توغَّل به ما يُخافُ منه/ . والمقاحيم : الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب « .
قوله : » معكم « يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج ، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في » مُقْتَحِم « . قال أبو البقاء : » ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى « ، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله : » هذا فَوْجٌ « إلى قوله : » النار « يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ ، ويجوز أَنْ يكونَ » هذا فَوْجٌ « مِنْ كلامِ الملائكة ، والباقي من كلام الرؤساء ، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال : بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك ، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم .
قوله : { لاَ مَرْحَباً } في » مَرْحباً « وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي : لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً . والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ . قاله أبو البقاء أي : لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً . ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم ، وقوله : » بهم « بيانٌ للمدعُوِّ عليه . والثاني : أنها حاليةٌ . وقد يُعْتَرَضُ عليه : بأنه دعاءٌ ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً . والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي : مَقُولاً لهم لا مَرْحباً .

قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)

قوله : { مَن قَدَّمَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « مَنْ » شرطيةً ، و « فَزِدْه » جوابَها ، وأنْ تكونَ استفهاميَّة ، و « قَدَّم » خبرُها . أي : أيُّ شخصٍ قَدَّم لنا هذا ، ثم استأنفوا دُعاءً بقولِهم « فَزِدْه » ، وأنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، وحينئذٍ يجوزُ فيها وجهان : الرفعُ بالابتداء ، والخبر « فَزِدْه » والفاءُ زائدةٌ تَشْبيهاً له بالشرطِ . والثاني : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغالِ ، والكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ قد تقدَّم ، وهذا الوجهُ يجوزُ عند بعضِهم حالَ كونِها شرطيةً أو استفهاميةً أعني الاشتغالَ ، إلاَّ أنَّه لا يُقَدَّرُ الفعلُ إلاَّ بعدها؛ لأنَّ لها صدرَ الكلامِ و « ضِعْفاً » نعتٌ لعذاب أي : مضاعَفاً .
قوله : « في النارِ » يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل « زِدْه » ، أو نعتاً ل « عذاب » ، أو حالاً منه لتخصيصِه ، أو حالاً من المفعول « زِدْه » .

أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)

قوله : { أَتَّخَذْنَاهُمْ } : قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ ، وهي تحتملُ وجهين ، أحدهما ، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل « رِجالاً » كما وقع « كنا نَعُدُّهم » صفةً ، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله :
3876 تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ
ف أم متصلةٌ على هذا ، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ . والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ . والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ . وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي : رجالاً مَقُولاً فيهم : أتخذناهم كقوله :
3877 جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ ... إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ . وقد تقدَّم الخلافُ في « سِخْرِيَّاً » في { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } . والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر :
3778 إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها ... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ
وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك . وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم ، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً ، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك : « أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ » ، ويجوزُ أنْ يكونَ « أم زاغَتْ » متصلاً بقوله : « ما لنا » لأنه استفهامٌ ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ « أتَّخَذْناهم » بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ .

إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

قوله : { تَخَاصُمُ } : العامَّةُ على رَفْعِ « تَخاصُمُ » مضافاً لأهل . وفيه أوجه ، أحدها : أنَّه بدلٌ مِنْ « لَحَقٌّ » . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ . الثالث : أنه بدلٌ مِنْ « ذلك » على الموضعِ ، حكاه مكي ، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين . الرابع : أنه خبرُ ثانٍ ل « إنَّ » . الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو تخاصُمُ . السادس : أنه مرفوعٌ بقولِه « لَحَقٌّ » . إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال : « ولو قيل : هو مرفوعٌ ب » حَقٌّ « لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم » إن « . وهذا ردٌّ صحيحٌ . وقد يُجابُ عنه : بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي : لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي : منه . وقرأ ابن محيصن بتنوين » تخاصم « ورفع » أهلُ « فَرَفْعُ » تخاصُمٌ « على ما تقدَّم . وأمَّا رَفْعُ » أهلُ « فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك : » يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون « أي : أنْ تخاصَموا . وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة » تخاصُمَ « بالنصب مضافاً لأهل . وفيه أوجه ، أحدها : أنه صفةٌ ل » ذلك « على اللفظِ . قال الزمخشري : » لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس « . وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو : » يا هذا الرجلُ « ، ولا يجوز » يا هذا غلامَ الرجل « فهذا أبعدُ ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً ، وإلاَّ كان بدَلاً و » تخاصُم « ليس مشتقاً . الثاني : أنه بدلٌ من ذلك . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ . الرابع : على إضمارِ » أعني « . وقال أبو الفضل : » ولو نُصِبَ « تخاصم » على أنَّه بدلٌ من « ذلك » لجاز « انتهى . وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً . وقرأ ابن السَّمَيْفع » تخاصَمَ « فعلاً ماضياً » أهل « فاعلٌ به . وهي جملةٌ استئنافيةٌ .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)

قوله : { الواحد القهار } : إلى آخرها صفاتٌ للَّهِ تعالى . ويجوزُ أَنْ يكونَ « ربُّ السماواتِ » خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وفيه معنى المدح .

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)

قوله : { هُوَ نَبَأٌ } : « هو » يعودُ على القرآن وما فيه من القَصصِ والأخبارِ . وقيل : على { تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } . وقيل : على ما تقدَّمَ مِنْ أخبارِه عليه السلام : بأنَّه نذيرٌ مبينٌ ، وبأنَّ اللَّهَ إلهٌ واحدٌ متصفٌ بتلك الصفاتِ الحسنى .

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)

قوله : { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } : صفةٌ ل « نَبَأ » أو مستأنفةٌ .

مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)

قوله : { بالملإ } : متعلِّقٌ بقوله : « مِنْ عِلْم » وضُمِّن معنى الإِحاطة ، فلذلك تَعَدَّى بالباء ، وتقدَّم تحقيقُه .
وقوله : « إذ يَخْتَصِمُون » فيه وجهان ، أحدهما : هو منصوبٌ بالمصدرِ أيضا . والثاني : بمضافٍ مقدر أي : بكلامِ الملأ الأَعْلى إذ ، قاله الزمخشري . والضمير في « يَخْتَصِمُون » للمَلأ الأعلى . هذا هو الظاهرُ . وقيل : لقريش أي : يختصمون في الملأ الأعلى . فبعضُهم يقول : بناتُ الله وبعضهم يقولُ غيرَ ذلك . فالتقدير : إذ يختصمون فيهم .

إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

قوله : { إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ } : العامَّةُ على فتح الهمزة « أنما » . وفيها وجهان ، أحدهما : أنها مع ما في حَيِّزها في محلِّ رفع لقيامِها مقامَ الفاعلِ أي : ما يُوْحَى إليَّ إلاَّ الإِنذارُ ، أو إلاَّ كَوْني نذيراً مبيناً . والثاني : أنها في محلِّ نصب أو جرٍ بعد إسقاطِ لامِ العلةِ . والقائم مقامَ الفاعلِ على هذا الجارُّ والمجرورُ أي : ما يُوْحى إليَّ إلاَّ للإِنذارِ أو لكَوْني نذيراً . ويجوز أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ على هذا ضميرِ ما يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي : ما يُوْحى إليَّ ذلك الشيءُ إلاَّ للإِنذار .
وقرأ أبو جعفر بالكسر ، وهي القائمةُ مقامَ الفاعلِ على سبيلِ الحكايةِ ، كأنه قيل : ما يُوْحى إليَّ إلاَّ هذه الجملةُ المتضمنةُ لهذا الإِخبارِ . وقال الزمخشري : « على الحكاية أي : إلاَّ هذا القولُ وهو أنْ أقولَ لكم : إنما أنا نذيرٌ مبين ولا أدَّعي شيئاً آخرَ » . قال الشيخ : « وفي تخريجه تعارُضٌ لأنه قال : إلاَّ هذا القولُ ، فظاهرُه الجملةُ التي هي : { أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . ثم قال : وهو أَن أقولَ لكم إني نذيرٌ فالمقامُ مقامُ الفاعلِ هو أَنْ أقولَ لكم ، وإنِّي وما بعده في موضعِ نصبٍ ، وعلى قولِه : » إلاَّ هذا القولُ « يكون في موضع رفع فتعارضا » . قلت : ولا تعارُضَ البتةَ؛ لأنَّه تفسيرُ معنًى في التقدير الثاني ، وفي الأول تفسير إعرابٍ ، فلا تعارُضَ .

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)

قوله : { إِذْ قَالَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « إذ » الأولى وأَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً ، قال الأولَ الزمخشري وأطلق ، وذكر أبو البقاءِ الثاني وأطلقَ . وأمَّا الشيخُ ففَصَّل فقال : « بدلٌ مِنْ » إذ يَخْتصمون « هذا إذا كانَتِ الخصومَةُ في شَأْنِ مَنْ يَسْتَخْلِفُ في الأرض ، وعلى غيرِه من الأقوال يكون منصوباً ب اذكرْ » . انتهى قلت : وتلك الأقوالُ : أنَّ التخاصُمَ : إمَّا بين الملأ الأعلى أو بين قُرَيْشٍ وفي ماذا كان المخاصمة ، خلافٌ يطول/ الكتابُ بذِكْرِه .
قوله : « مِنْ طينٍ » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل « بَشَراً » ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ « خالِقٌ » .

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)

قوله : { كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } : تأكيدان . وقال الزمخشري : « كل » للإِحاطةِ و « أجمعون » للاجتماع ، فأفادا معاً أنهم سَجَدوا عن آخِرهم ، ما بقي منهم مَلَكٌ إلاَّ سَجَدَ ، وأنهم سجدوا جميعاً في وقتٍ واحدٍ غيرَ متفرقين « . قلت : قد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك في سورة الحجر .

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)

قوله : { أَن تَسْجُدَ } : قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ « لا » في { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ . وقوله : « لما خَلَقْتُ » قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع « ما » على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ . وقيل : لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال . وقيل : « ما » مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي : لمخلوقي .
وقرأ الجحدري « لَمَّا » بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ ، وهي « لَمَّا » الظرفيةُ عند الفارِسيِّ ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه . والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي : ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي : حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له . وقُرِئ « بيَدَيِّ » بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ « بِمُصْرِخِيِّ » وقد تقدَّم ما فيها . وقُرِئ « بيدي » بالإِفرادِ .
قوله : « أسْتَكْبَرْت » قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ . و « أم » متصلةٌ هنا . هذا قولُ جمهورِ النحويين . ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن ، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك : أقامَ زيدٌ أم عمروٌ ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً . وهذا الذي حكاه عن بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه : « وتقول : » أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ « فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت : أيُّ ذلك كان » انتهى . فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين .
وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير ، وليسَتْ مشهورةً عنه - « استكبَرْتَ » بألف الوصلِ ، فاحتملَتْ وجهين ، أحدهما : أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه « أم » كقولِه :
3879 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
وقول الآخر :
3880 ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتتفق القراءتان في المعنى ، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها .

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)

قوله : { مِنْهَا } : أي : من الجنةِ أو من الخِلْقة؛ لأنه كان حسناً فَرَجَعَ قبيحاً ونُوْرانياً فعاد مظلماً . وقيل : من السماوات . وقال هنا : « لَعْنتي » وفي غيرها « اللعنةَ » ، وهما وإنْ كانا في اللفظ عاماً وخاصاً ، إلاَّ أنهما من حيث المعنى عامَّان بطريق اللازم؛ لأنَّ مَنْ كانت عليه لعنة الله كانَتْ عليه [ لعنة ] كلِّ أحدٍ لا محالةَ . وقال تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] . وباقي الجمل تقدَّم نظيرُه .

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)

قوله : { فالحق والحق } : قرأهما العامَّةُ منصوبَيْن . وفي نصب الأول أوجهٌ ، أحدُها : أنه مُقْسَمٌ به حُذِفَ منه حرفُ القسمِ فانتصَبَ كقولِه :
3881 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثَّرِيْدُ

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

وقوله : { لأَمْلأَنَّ } : جوابُ القسم . قال أبو البقاء : « إلاَّ أنَّ سيبويهِ يَدْفَعُه لأنه لا يُجَوِّزُ حَذْف حرفِ القسمِ إلاَّ مع اسم الله ، ويكون قولُه : » والحقَّ أقولُ « معترضاً بين القسم وجوابِه » . قال الزمخشري : « كأنه قيل : ولا أقولُ إلاَّ الحقَّ » يعني أن تقديمَه المفعولَ أفاد الحصرَ . والمرادُ بالحق : إمَّا الباري تعالى كقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] وإمَّا نقيضُ الباطل . والثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراءِ أي : الزموا الحقَّ . والثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ قولِه : « لأَمْلأَنَّ » . قال الفراء : / « هو على معنى قولك : حقاً لا شكَّ ، ووجودُ الألفِ واللام وطَرْحُهما سواءٌ أي : لأملأن جهنَّم حقاً » انتهى . وهذا لا يَتَمَشَّى على قولِ البصريين؛ فإنَّ شَرْطَ نَصْبِ المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة أَنْ يكونَ بعد جملةٍ ابتدائية خبراها معرفتان جامدان جموداً مَحْضاً .
وجَوَّز ابنُ العِلْج أَنْ يكونَ الخبرُ نكرةً . وأيضاً فإنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لا يجوزُ تقديمُه على الجملةِ المؤكِّدِ هو لمضمونِها . وهذا قد تقدَّم . وأمَّا الثاني فمنصوبٌ ب « أقولُ » بعدَه . والجملةُ معترضةٌ كما تقدَّم . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ منصوباً على التكرير ، بمعنى أنَّ الأول والثاني كليهما منصوبان ب أقولُ . وسيأتي إيضاحُ ذلك في عبارتِه .
وقرأ عاصم وحمزةُ برفعِ الأولِ ونصبِ الثاني . فَرَفْعُ الأولِ من أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه : فالحقُّ مني ، أو فالحقُّ أنا . الثاني : أنه مبتدأ ، خبرُه « لأملأنَّ » قاله ابن عطية . قال : « لأنَّ المعنى : أنْ أَمْلأَ » . قال الشيخ : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ لأملأنَّ جوابُ قسمٍ . ويجب أَنْ يكونَ جملةً فلا تتقدَّرُ بمفردٍ . وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرفٍ مصدري والفعل حتى يَنْحَلَّ إليهما ، ولكنه لَمَّا صَحَّ له إسنادُ ما قَدَّرَ إلى المبتدأ حَكَمَ أنه خبرٌ عنه » قلت : وتأويلُ ابنِ عطيةَ صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ .
الثالث : أنه مبتدأٌ ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه : فالحقُّ قَسَمي ، و « لأملأنَّ » جوابُ القسم كقوله : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ولكنَّ حَذْفَ الخبرِ هنا ليسَ بواجبٍ ، لأنه ليس نصاً في اليمين بخلافِ لَعَمْرك . ومثلُه قولُ امرئ القيس :
3882 فقلت يمينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
وأمَّا نصبُ الثاني فبالفعل بعدَه . وقرأ ابنُ عباس ومجاهد والأعمش برفعهما . فرفْعُ الأولِ على ما تقدَّم ، ورفعُ الثاني بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ بعده ، والعائد محذوفٌ كقولهِ تعالى في قراءةِ ابنِ عامر : { وَكُلٌ وَعَدَ الله الحسنى } وقول أبي النجم :
3883 قد أصبَحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
ويجوز أَنْ يرتفعَ على التكريرِ عند الزمخشري وسيأتي . وقرأ الحسنُ وعيسى بجرِّهما .

وتخريجُها : على أنَّ الأولَ مجرورٌ بواوِ القسم مقدرةً أي : فوالحقِ والحقِ عطفٌ عليه كقولِك : واللَّهِ واللَّهِ لأقومَنَّ ، و « أقول » اعتراضٌ بين القسم وجوابِه . ويجوز أَنْ يكونَ مجروراً على الحكايةِ . وهو منصوبُ المحل ب « أقولُ » بعده . قال الزمخشري : « ومجرورَيْن - أي وقُرئا مجرورَيْن - على أنَّ الأولَ مُقْسَمٌ به قد أُضْمِرَ حرفُ قَسَمِه كقولك : » اللَّهِ لأفعَلَنَّ « والحقَّ أقول أي : ولا أقول إلاَّ الحقَّ على حكايةِ لفظ المقسمِ به ، ومعناه التوكيدُ والتشديدُ . وهذا الوجهُ جائزٌ في المرفوعِ والمنصوبِ أيضاً ، وهو وجهٌ حسنٌ دقيق » انتهى . يعني أنه أعملَ القولَ في قوله : « والحق » على سبيلِ الحكايةِ فيكونُ منصوباً ب « أقول » سواءً نُصِب أو رُفِعَ أو جُرَّ ، كأنه قيل : وأقولُ هذا اللفظَ المتقدمَ مُقَيَّداً بما لُفِظ به أولاً .
قوله : « أجمعين » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه توكيدٌ للضمير في « منك » و « لمَنْ » عطفٌ في قوله : « ومِمَّنْ تَبِعك » وجيْء بأجمعين دونَ « كل » ، وقد تقدَّم أن الأكثرَ خلافُهُ . وجَوزَّ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ تأكيداً للضمير في « منهم » خاصةٌ فقدَّر « لأَمْلأَنَّ جهنم من الشياطين وممَّنْ تبعهم مِنْ جميع الناس لا تفاوتَ في ذلك بين ناسٍ وناسٍ » .

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)

قوله : { عَلَيْهِ } : متعلقٌ ب « أسْألكم » لا بالأَجْر؛ لأنه مصدرٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً منه . والضمير : إمَّا للقرآن ، وإمَّا للوحي ، وإمَّا للدعاء إلى الله . و « لتعلمُنَّ » جواب قَسمٍ مقدرٍ معناه : ولَتَعْرِفُنَّ .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { تَنزِيلُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هذا تنزيلُ . وقال الشيخ : « وأقولُ إنه خبرٌ ، والمبتدأ » هو « ليعودَ على قولِه : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ ص : 87 ] كأنه قيل : وهذا الذِّكْرُ ما هو؟ فقيل : هو تنزيلُ الكتابِ » . الثاني : أنه مبتدأٌ ، والجارُّ بعده خبرُه أي : تنزيلُ الكتابِ كائنٌ من اللَّهِ . وإليه ذهب الزجاج والفراء .
قوله : « مِنَ اللَّهِ » يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مرفوعُ المحلِّ خبراً لتنزيل ، كما تقدَّم تقريرُه . الثاني : أنه خبرٌ بعد خبرٍ إذا جَعَلْنا « تنزيلُ » خبرَ مبتدأ مضمرٍ كقولك : « هذا زيدٌ من أهل العراق » . الثالث : أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا تنزيلٌ ، هذا من الله . الرابع : أنَّه متعلِّقٌ بنفسِ « تَنْزيل » إذا جَعَلْناه خبرَ مبتدأ مضمرٍ . الخامس : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « تنزيل » عَمِل فيه اسمُ الإِشارةِ المقدرُ ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً عَمِلَ فيها معنى الإِشارةِ؛ لأنَّ معانيَ الأفعالِ لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً؛ ولذلك رَدُّوا على أبي العباس قولَه في بيت الفرزدق :
3884 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإذ ما مثلَهمْ بَشَرُ
إن » مثلهم « منصوبٌ بالخبرِ المحذوف وهو مقدرٌ : وإذ ما في الوجود في حالِ مماثلتِهم بَشَرٌ . السادس : أنه حالٌ من » الكتاب « قاله أبو البقاء . وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف إليه لكونِه مفعولاً للمضافِ؛ فإنَّ المضافَ مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه . والعامَّةُ على رَفْع » تَنْزيلُ « على ما تقدَّم . وقرأ زيد ابن علي وعيسى وابن أبي عبلة بنصبِه بإضمارِ فِعْلٍ تقديرُه : الزَمْ أو اقْرَأ ونحوهما .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)

قوله : { بالحق } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالإِنزال أي : بسبب الحق ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب ، أي : مُلْتبسين بالحق أو ملتبساً بالحقِّ . وفي قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } تكريرُ تعظيمٍ بسبب إبرازِه في جملةٍ أخرى مضافاً إنزالُه إلى المعظِّم نفسَه .
قوله : « مُخْلِصاً » حالٌ مِنْ فاعل « اعبد » ، و « الدين » منصوبٌ باسمِ الفاعلِ . والفاءُ في « فاعبُدِ » للربطِ ، كقولك : « أَحْسَنَ إليك فلانٌ فاشْكُرْه » . والعامَّةُ على نصبِ « الدينَ » كما تقدَّم . ورَفَعَه ابنُ أبي عبلة . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه مرفوعٌ بالفاعليةِ رافعُه « مُخْلِصاً » ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ تجوُّزٍ وإضمارٍ . أمَّا التجوزُ فإسنادُ الإِخلاصِ للدين وهو لصاحبِه في الحقيقة . ونظيرُه قولُهم : شعرٌ شاعرٌ . وأمَّا الإِضمارُ فهو إضمارٌ عائدٌ على ذي الحالِ أي : مُخْلِصاً له الدينَ منك ، هذا رَأْيُ البصريين في مثل هذا . وأمَّا الكوفيون فيجوزُ أَنْ يكونَ عندهم أل عوضاً مِن الضميرِ أي : مُخْلِصاً ديْنَك . قال الزمخشري : « وحَقٌّ لمَنْ رَفَعه أَنْ يَقرأ » مُخْلَصاً « بفتحِ اللامِ لقولِه تعالى : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } [ النساء : 146 ] حتى يطابقَ قولَه : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } ، والخالِصُ والمُخْلَص واحدٌ إلاَّ أَنْ يصفَ الدينَ بصفةِ صاحبِه على الإِسنادِ المجازيِّ كقولِهم : شعرٌ شاعرٌ » . والثاني : أَنْ يَتِمَّ الكلامُ على « مُخْلِصاً » وهو حالٌ مِنْ فاعلِ « فاعبدْ » و « له الدينُ » مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذا قولُ الفراء . وقد رَدَّه الزمخشري ، وقال : « فقد جاء بإعرابٍ رَجَع به الكلامُ إلى قولِك : » لله الدينُ « { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } قلت : وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ لا يظهرُ فيه رَدٌّ على هذا الإِعرابِ .

أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)

قوله : { والذين اتخذوا } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ « الدينُ » مبتدأً ، وخبرُه قولٌ مضمرٌ حُذِف وبقي معمولُه وهو قولُه « ما نَعْبُدهم » . والتقديرُ : يقولون ما نعبدهم . الثاني : أن يكونَ الخبرُ قولَه : { إِنَّ الله يَحْكُمُ } / ويكونُ ذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي : والذين اتَّخذوا قائلين كذا ، إنَّ اللَّهَ يحكمُ بينهم . الثالث : أَنْ يكونَ القولُ المضمرُ بدلاً من الصلةِ التي هي « اتَّخذوا » . والتقديرُ : والذين اتخذوا قالوا ما نعبدُهم ، والخبرُ أيضاً : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } و « الذين » في هذه الأقوالِ عبارةٌ عن المشركين المتَّخِذين غيرَهم أولياءَ . الرابع : أن يكونَ « الذين » عبارةً عن الملائكةِ وما عُبِد من دونِ اللَّهِ كعُزَيْرٍ واللاتِ والعُزَّى ، ويكونُ فاعلُ « اتَّخَذَ » عائداً على المشركين . ومفعولُ الاتخاذِ الأولُ محذوفٌ ، وهو عائدُ الموصولِ ، والمفعولُ الثاني هو « أولياءَ » . والتقديرُ : والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ . ثم لك في خبرِ هذا المبتدأ وجهان ، أحدهما : القولُ المضمرُ ، التقدير : والذين اتَّخذهم المشركون أَوْلِياءَ يقول فيهم المشركون : ما نعبدهم إلاَّ . والثاني : أنَّ الخبرَ هي الجملةُ مِنْ قولِه : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } .
وقُرِئ « ما نُعْبُدُهم » بضمِّ النونِ إتباعاً للباءِ ، ولا يُعْتَدُّ بالساكن .
قوله : « زُلْفَى » مصدرٌ مؤكِّدٌ على غيرِ الصدرِ ، ولكنه مُلاقٍ لعاملِه في المعنى ، والتقدير : لَيُزْلِفُونا زُلْفى ، أو لِيُقَرِّبونا قُربى . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مؤكدة .
قوله : « كاذِبٌ كفَّارٌ » قرأ الحسنُ والأعرجُ - ويُرْوى عن أنسٍ - « كذَّابٌ كَفَّارٌ » ، وزيد بن علي « كَذُوبٌ كفورٌ » .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

قوله : { يُكَوِّرُ اليل } : في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرُهما : أنَّها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك . الثاني : أنها حالٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه ضعفٌ؛ من حيث إن تكويرَ أحدِهما على الآخر ، إنما كان بَعْدَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ، إلاَّ أَنْ يُقال : هي حالٌ مقدرةٌ ، وهو خلافُ الأصلِ .
والتكويرُ : اللفُّ واللَّيُّ . يقال : كارَ العِمامةَ على رأسه وكَوَّرها . ومعنى تكويرِ الليلِ على النهارِ وتكويرِ النهارِ على الليل على هذا المعنى : أنَّ الليلَ والنهارَ خِلْفَةٌ يذهب هذا ويَغْشى مكانه هذا ، وإذا غَشِيَ مكانه فكأنما لَفَّ عليه وأَلْبَسَه كما يُلَفُّ اللباسُ على اللابِسِ ، أو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُغَيِّب الآخر إذا طرأ عليه ، فشُبِّه في تَغْييبه إياه بشيءٍ ظاهرٍ لَفَّ عليه ما غَيَّبه عن مطامحِ الأبصار ، أو أنَّ هذا يَكُرُّ على هذا كُروراً متتابِعاً ، فَشُبِّه ذلك بتتابع أكوارِ العِمامة بعضِها على بعضٍ . قاله الزمخشريُّ ، وهو أوفقُ للاشتقاقِ من أشياءَ قد ذُكِرَتْ . وقال الراغب : « كَوْرُ الشيءِ إدارتُه وضَمُّ بعضِه إلى بعضٍ كَكَوْر العِمامةِ . وقوله : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } إشارةٌ إلى جَرَيانِ الشمسِ في مطالعها وانتقاصِ الليل والنهار وازديادِهما ، وكَوَّره إذا أَلْقاه مجتمعاً . واكتار الفرسُ : إذا رَدَّ ذَنبَه في عَدْوِه . وكُوَّارَةُ النَّحْلِ معروفةٌ . والكُوْر : الرَّحْلُ . وقيل : لكل مِصْرٍ » كُوْرَة « ، وهي البُقْعَةُ التي يَجْتمع فيها قُرىً ومحالُّ » .

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا } : في « ثم » هذه أوجهٌ ، أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمُهْلة ، وذلك أنه يُرْوى أنه تعالى أخرجَنا من ظهرِ آدمَ كالذَّرِّ ثم خَلَق حواءَ بعد ذلك بزمانٍ . الثاني : أنها على بابها أيضاً ولكنْ لمَدْركٍ آخرَ : وهو أن يُعْطَفَ بها ما بعدها على ما فُهِم من الصفة في قولِه : « واحدة » إذ التقدير : من نفسٍ وَحَدَتْ أي انفَرَدَتْ ثم جَعَلَ منها زَوْجَها . الثالث : أنَّها للترتيب في الأخبار لا في الزمان الوجوديِّ كأنه قيل : كان مِنْ أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجَها . الرابع : أنها للترتيبِ في الأحوالِ والرُّتَبِ . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : وما وجهُ قولِه : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وما يُعطيه من التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملةِ الآياتِ التي عَدَّدها دالاًّ على وحدانيَّتِه وقُدْرَتِه بتشعيب هذا الخلقِ الفائتِ للحَصْرِ من نفسِ آدمَ عليه السلام وخَلْقِ حواء من قُصَيْراه ، إلاَّ أَن إحداهما جعلها اللَّهُ عادةً مستمرةً ، والأخرى لم تَجْرِ بها العادةُ ولم تُخْلَقْ أنثى غيرُ حواءَ من قُصيرى رجلٍ ، فكانَتْ أَدخلَ في كَوْنها آيةً وأَجْلَبَ لعَجَبِ السامعِ ، فعطفَها ب » ثم « على الآية الأولى للدلالةِ على مباينَتِها فضلاً ومزيةً ، وتراخيها عنها فيما يرجِعُ إلى زيادةِ كونِها آيةً فهي من التراخي في الحالِ والمنزلةِ لا من التراخي في الوجودِ .
قوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام } عطف على » خَلَقَكم « ، والإِنزالُ يَحتمل الحقيقةَ . يُرْوى أنه خَلَقها في الجنةِ ثم أَنْزَلَها ، ويُحتملُ المجازُ ، وله وجهان ، أحدهما : أنها لم تَعِشْ إلاَّ بالنبات والماء ، والنباتُ إنما يعيش بالماء ، والماءُ يَنْزِلُ من السحاب أطلق الإِنزالَ/ عليها وهو في الحقيقةِ يُطْلَقُ على سببِ السببِ كقولِه :
3885 أَسْنِمَةُ الآبالِ في رَبابَهْ ... وقوله :
3886 صار الثريدُ في رُؤوسِ العِيْدانْ ... وقوله :
3887 إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قَوْمٍ ... رَعَيْناه وإنْ كانوا غِضابا
والثاني : أنَّ قضاياه وأحكامَه مُنَزَّلَةٌ من السماءِ من حيث كَتْبُها في اللوحِ المحفوظِ ، وهو أيضاً سبَبٌ في إيجادِها .
قوله : » يَخْلُقكم « هذه الجملةُ استئنافيةٌ ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، بل اسُتُؤْنفت للإِخبار بجملةٍ فعلية . وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في كسرِ الهمزةِ وفتحِها وكذا الميمُ .
قوله : » خَلْقاً « مصدرٌ ل » يَخْلُق « و { مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } صفةٌ له ، فهو لبيانِ النوعِ من حيث إنه لَمَّا وُصِفَ زاد معناه على معنى عاملِه . ويجوز أن يتعلَّقَ { مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } بالفعل قبلَه ، فيكون » خَلْقاً « لمجرد التوكيد .
قوله : » ظُلُمات « متعلقٌ بخَلْق الذي قبله ، ولا يجوز تعلُّقُه ب » خَلْقاً « المنصوبِ؛ لأنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ، وإن كان أبو البقاء جَوَّزه ، ثم مَنَعَه بما ذكرْتُ فإنه قال : » و « في » متعلِّقٌ به أي ب « خَلْقاً » أو بخلق الثاني؛ لأنَّ الأولَ مؤكِّدٌ فلا يعملُ « ولا يجوزُ تعلُّقُه بالفعلِ قبله؛ لأنه قد تعلَّقَ به حرفٌ مثلُه ، ولا يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنًى إلاَّ بالبدليةِ أو العطفِ .

فإنْ جَعَلْتَ « في ظلمات » بدلاً مِنْ { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } بدلَ اشتمالٍ؛ لأن البطونَ مشتملةٌ عليها ، وتكونُ بدلاً بإعادة العاملِ ، جاز ذلك ، أعني تعلُّقَ الجارَّيْن ب « يَخْلُقكم » . ولا يَضُرُّ الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه بالمصدرِ لأنه مِنْ تتمةِ العاملِ فليس بأجنبي .
قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ « الله » خبراً ل « ذلكم » و « ربُّكم » نعتٌ للَّهِ أو بدلٌ منه . ويجوز أَنْ يكونَ « الله » بدلاً مِنْ « ذلكم » و « ربُّكم » خبرُه .
قوله : « له المُلْكُ » يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر ، وأَنْ يكونَ « الله » بدلاً مِنْ « ذلكم » و « ربُّكم » نعتٌ لله أو بدلٌ منه ، والخبرُ الجملةُ مِنْ « له الملكُ » . ويجوزُ أَنْ يكون الخبرُ نفسَ الجارِّ والمجرور وحدَه و « المُلْكُ » فاعلٌ به ، فهو من بابِ الإِخبارِ بالمفرد .
قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ خبراً بعد خبرٍ .

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

قوله : { يَرْضَهُ لَكُمْ } : قرأ « يَرْضَهُوْ » بالصلة - وهي الأصلُ مِنْ غيرِ خلافٍ - ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وابنُ ذكوان . وهي قراءةٌ واضحةٌ . وقرأ « يَرْضَهُ » بضم الهاءِ مِنْ غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ . وقرأ « يَرْضَهْ » بإسكانها وَصْلاً مِنْ غيرِ خلافٍ السوسيُّ عن أبي عمروٍ . وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والصلةَ - الدُّوْريُّ عن أبي عمروٍ ، وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والتحريكَ مِنْ غيرِ صلة - هشامٌ عن ابنِ عامرٍ ، فهذه خمسُ مراتبَ للقُرَّاءِ ، وقد عَرَفْتَ توجيهَ الإِسكانِ والقصرِ والإِشباع ممَّا تقدَّم في أوائلِ هذا الموضوع ، وما أَنْشَدْتُه عليه وأسْنَدْتُه لغةً إلى قائله . ولا يُلْتَفَتُ إلى أبي حاتمٍ في تَغْليطِه راويَ السكونِ ، فإنها لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب .

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)

قوله : { مُنِيباً } : حالٌ مِن فاعل « دَعَا » و « إليه » متعلق ب « مُنيباً » أي راجِعاً إليه .
قوله : « خَوَّله » يُقال : خَوَّلَه نِعْمَةً أي : أعطاها إياه ابتداءً مِنْ غيرِ مُقْتَضٍ . ولا يُسْتَعْمَلُ في الجزاءِ بل في ابتداءِ العَطِيَّةِ . قال زهير :
3888 هنالِك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالُ يُخْوِلُوْا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُرْوَى « يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا » . وقال أبو النجم :
3889 أَعْطَى فلم يُبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ ... كُوْمُ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ
وحقيقةُ « خَوَّل » مِنْ أحدِ معنيين : إمَّا مِنْ قولِهم : « هو خائلُ مالٍ » إذا كان متعهِّداً له حَسَنَ القيام عليه ، وإمَّا مِنْ خال يَخُول إذا اختال وافتخر ، ومنه قولُه : « إنَّ الغنيَّ طويلُ الذيلِ مَيَّاسُ » ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ مُسْتوفىً في الأنعام .
قوله : « منه » يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب « خَوَّل » ، وأنْ يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « نِعْمة » .
قوله : { مَا كَانَ يدعوا } يجوزُ في « ما » هذه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، مُراداً بها الضُّرُّ أي : نسي الضرَّ الذي يَدْعو إلى كَشْفِه . الثاني : أنها بمعنى الذي/ مُراداً بها الباري تعالى أي : نَسِي اللَّهَ الذي كان يَتَضرَّعُ إليه . وهذا عند مَنْ يُجيزُ « ما » على أُوْلي العلمِ . الثالث : أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً أي : نَسِي كونَه داعياً . الرابع : أن تكونَ « ما » نافيةً ، وعلى هذا فالكلامُ تامٌّ على قولِه : « نَسِيَ » ثم استأنَفَ إخباراً بجملةٍ منفيةٍ ، والتقدير : نَسِيَ ما كان فيه . لم يكنْ دعاءُ هذا الكافرِ خالصاً لله تعالى . و « من قبلُ » أي : من قبلِ الضررِ ، على القول الأخير ، وأمَّا على الأقوالِ قبلَه فالتقديرُ : مِنْ قبل تخويلِ النِّعمة .
قوله : « لِيُضِلَّ » قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ « لِيَضِلَّ » بفتح الياء أي : ليفعلَ الضلالَ بنفسه . والباقون بضمِّها أي : لم يقنع بضلالِه في نفسِه حتى يَحْمِلَ غيرَه عليه ، فمفعولُه محذوفٌ وله نظائرُ تقدَّمَتْ . واللامُ يجوزُ أن تكونَ للعلةِ ، وأن تكونَ للعاقبة .

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } : قرأ الحَرميَّان : نافعٌ وابنُ كثير بتخفيف الميم ، والباقون بتشديدها . فأمَّا الأُولى ففيها وجهان ، أحدهما : أنها همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على « مَنْ » بمعنى الذي ، والاستفهامُ للتقريرِ ، ومقابلُه محذوفٌ ، تقديرُه : أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعل للَّهِ تعالى أنداداً ، أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه ، أو التقدير : أهذا القانِتُ خيرٌ أم الكافرُ المخاطبُ بقوله : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } ويَدُلُّ عليه قولُه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } فحذفَ خبرَ المبتدأ أو ما يعادِلُ المُسْتَفْهَم عنه . والتقديران الأوَّلان أَوْلى لقلةِ الحَذْفِ . ومن حَذْفِ المعادِلِ للدلالةِ قولُ الشاعر :
3890 دَعاني إليها القلبُ إنِّي لأَمْرِها ... سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
يريد : أم غَيٌّ . والثاني : أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداءِ ، و « مَنْ » منادى ، ويكون المنادى هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهو المأمورُ بقولِه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ } كأنه قال : يا مَنْ هو قانِتٌ قل كَيْتَ وكَيْتَ ، كقولِ الآخرِ :
3891 أزيدُ أخا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفيه بُعْدٌ ، ولم يَقَعْ في القرآن نداءٌ بغير يا حتى يُحْمَلَ هذا عليه . وقد ضَعَّفَ الشيخُ هذا الوجهَ بأنه أيضاً أجنبيٌّ مِمَّا قبله وممَّا بعده . قلت : قد تقدَّمَ أنه ليس أجنبياً ممَّا بعدَه؛ إذ المنادَى هو المأمورُ بالقولِ . وقد ضَعَّفَه الفارسي أيضاً بقريبٍ مِنْ هذا . وقد تَجَرَّأ على قارئِ هذه القراءةِ أبو حاتم والأخفش .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فهي « أم » داخلةً على « مَنْ » الموصولةِ أيضاً فأُدْغِمَتْ الميمُ . وفي « أم » حينئذٍ قولان ، أحدهما : أنها متصلةٌ ، ومعادِلُها محذوفٌ تقديرُه : آلكافرُ خيرٌ أم الذي هو قانِتٌ . وهذا معنى قولِ الأخفشِ . قال الشيخ : ويحتاج حَذْفُ المعادِلِ إذا كان أولَ إلى سَماعٍ « . وقيل : تقديرُه : أمَّنْ يَعْصي أمَّن هو مطيعٌ فيستويان . وحُذِفَ الخبرُ لدلالةِ قولِه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ } . والثاني : أنَّها منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ أي : بل أمَّن هو قانِتٌ كغيرِه أو كالكافر المقولِ له : تمتَّعْ بكفرِك . وقال أبو جعفر : » هي بمعنى بل ، و « مَنْ » بمعنى الذي تقديرُه : بل الذي هو قانتٌ أفضلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قبله « . وانتُقِدَ عليه هذا التقديرُ : من حيث إنَّ مَنْ تَقَدَّم ليس له فضيلةٌ البتةَ حتى يكونَ هذا أفضلَ منه . والذي ينبغي أَنْ يُقَدَّرَ : » بل الذي هو قانِتٌ مِنْ أصحاب الجنة «؛ لدلالة ما لقسيمِه عليه مِنْ قولِه : { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار } . و » آناءَ « منصوبٌ على الظرفِ . وقد تقدَّم اشتقاقُه والكلامُ في مفردِه .
قوله : » ساجِداً وقائماً « حالان . وفي صاحبهما وجهان ، الظاهر منهما : أنه الضميرُ المستتر في » قانِتٌ « . والثاني : أنه الضميرُ المرفوعُ ب » يَحْذَرُ « قُدِّما على عامِلهما . والعامَّةُ على نصبِهما . وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين : إمَّا النعتِ ل » قَانِتٌ « ، وإمَّا أنهما خبرٌ بعد خبر .
قوله : » يَحْذَر « يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في » قانتٌ « وأن يكونَ/ حالاً من الضمير في » ساجداً وقائماً « ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل : ما شأنُه يَقْنُتُ آناءَ الليل ويُتْعِبُ نفسَه ويُكُدُّها؟ فقيل : يَحْذَرُ الآخرَة ويَرْجُو رحمةَ ربِّه ، أي : عذابَ الآخرةِ . وقُرِئ { إِنَّمَا يَذَّكَّرُ أُوْلُو } بإدغامِ التاءِ في الذَّال .

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)

قوله : { فِي هذه الدنيا } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالفعل قبله؛ وحُذِفَت صفةُ « حسنةٌ » ، إذ المعنى : حسنة عظيمة؛ لأنه لا يُوْعَدُ مَنْ عمل حسنةً في الدنيا ، حسنةً مطلقاً بل مقيَّدةً بالعِظَم ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ حسنة كانَتْ صفةً لها ، فلمَّا تَقَدَّمَتْ بقيَتْ حالاً . و « بغيرِ حسابٍ » حالٌ : إمَّا مِنْ « أَجْرَهم » ، وإمَّا من « الصابرون » أي : غيرَ محاسَبٍ عليه ، أو غيرَ محاسَبين .

وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)

قوله : { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ } : في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أنها للتعليلِ تقديره : وأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به لأَنْ أكونَ . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : كيف عَطَفَ » أُمِرْت « على » أُمِرت « وهما واحدٌ؟ قلت : ليسا بواحدٍ لاختلافِ جهتيهما : وذلك أنَّ الأمرَ بالإِخلاصِ وتكليفَه شيءٌ ، والأمرَ به ليُحْرِز به قَصَبَ السَّبْقِ في الدين شيءٌ آخرُ . وإذا اختلفَ وجها الشيء وصفتاه يُنَزَّل بذلك مَنْزِلَةَ شيئين مختلفين » . والثاني أن تكونَ اللامُ مزيدةً في « أَنْ » . قال الزمخشري : « ولك أن تَجْعَلَ اللامَ مزِيدَةً ، مَثَلُها في قولك : » أَرَدْتُ لأَنْ أفعلَ « ولا تُزاد إلاَّ مع » أَنْ « خاصةً دونَ الاسمِ الصريح ، كأنها زِيْدَتْ عوضاً من تَرْكِ الأصل إلى ما يقومُ مَقامَه ، كما عُوِّض السينُ في » اسطاع « عوضاً من تَرْكِ الأصل الذي هو أَطْوَعَ . والدليلُ على هذا الوجهِ مجيئُه بغيرِ لامٍ في قولِه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ يونس : 104 ] { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] انتهى .
قوله : » ولا تُزاد إلا مع أنْ « فيه نظرٌ ، من حيث إنها تُزاد باطِّرادٍ إذا كان المعمولُ متقدماً ، أو كان العامل فرعاً . وبغير اطِّرادٍ في غيرِ الموضعين ، ولم يَذْكُرْ أحدٌ من النحويين هذا التفصيلَ . وقوله : » كما عُوِّض السينُ في اسْطاع « هذا على أحد القولين . والقول الآخر أنَّه استطاع فحُذِفَتْ تاءُ الاستفعالِ . وقوله : » والدليلُ عليه مجيئُه بغير لامٍ « قد يُقال : إنَّ أصلَه باللامِ ، وإنما حُذِفَتْ لأنَّ حَرْفَ الجرِّ يَطَّرِدُ حَذْفُه مع » أنْ « و » أنَّ « ، ويكون المأمورُ به محذوفاً تقديرُه : وأُمِرْت أن أعبدَ لأَنْ أكونَ .

قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)

قوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ } : قُدِّمَتِ الجلالةُ عند قومٍ لإِفادةِ الاختصاصِ . قال الزمخشريُّ : « ولدلالتِه على ذلك قَدَّمَ المعبودَ على فِعْلِ العبادةِ هنا ، وأَخَّره في الأول ، فالكلامُ أولاً واقعٌ في الفعل نفسِه وإيجادِه ، وثانياً فيمن يفعلُ الفعلَ مِنْ أجلِه ، فلذلك رَتَّبَ عَليه قولَه : { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } » .

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

قوله : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ أحدَ الجارَّيْنِ المتقدِّمَيْنِ ، وإن كان الظاهرُ جَعْلَ الأولِ هو الخبرَ ، ويكون « مِنْ فوقِهم » إمَّا حالاً مِنْ « ظُلَل » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وإمَّا متعلقاً بما تعلَّق به الخبرُ ، و « مِن النار » صفةٌ ل « ظُلَل » . وقوله : { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } كما تقدَّم ، وسَمَّاها ظلالاً بالنسبة لمَنْ تَحْتهم .

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)

قوله : { أَن يَعْبُدُوهَا } : الضميرُ عائدٌ على الطاغوتِ لأنها تُؤَنَّثُ ، وقد تقدَّم القولُ عليها مستوفىً في البقرة . و « أَنْ يعبدوها » في محلِّ نصبٍ على البدل من الطاغوت بدلِ اشتمالٍ ، كأنه قيل : اجْتَنِبُوا عبادةَ الطاغوتِ . والموصولُ مبتدأٌ . والجملةُ مِنْ « لهم البشرى » الخبرُ . وقيل : « لهم » هو الخبرُ بنفسِه . « والبُشْرى » فاعلٌ به وهذا أَوْلَى لأنه مِنْ بابِ الإِخبار بالمفرداتِ . وقوله : « فبَشِّرْ عبادي » من إيقاع الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي : فبَشِّرْهُمْ أي : أولئك المجتَنبين ، وإنما فُعِلَ ذلك تصريحاً بالوصفِ المذكور .

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)

قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ } : الظاهرُ أنه نعتٌ لعبادي ، أو بدلٌ منه ، أو بيانٌ له . وقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً . وقوله : { أولئك الذين } إلخ خبرُه . وعلى هذا فالوقفُ على قولِه : « عبادي » والابتداءُ بما بعدَه .

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)

قوله : { أَفَمَنْ حَقَّ } : في « مَنْ » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء . وخبرُه محذوفٌ ، فقدَّره أبو البقاء « كمَنْ نجا » . وقَدَّره الزمخشري : « فأنت تُخَلِّصُه » قال : « حُذِفَ لدلالةِ » أفأنت تُنْقِذُ « عليه . وقَدَّره غيرُه » تتأسَّفُ عليه « . وقدَّره آخرون » يَتَخَلَّص منه « أي : من العذاب/ وقدَّر الزمخشريُّ على عادته جملةً بين الهمزة والفاء . تقديرُه : أأنت مالِكُ أَمْرِهم ، فمَنْ حَقَّ عليه كلمةُ العذاب . وأمَّا غيرُه فيدَّعي أن الأصلَ تقديمُ الفاءِ وإنما أُخِّرَتْ لِما تستحقُّه الهمزةُ من التصديرِ . وقد تقدَّمَ تحقيق هذين القولين غيرَ مرةٍ . والثاني : أَنْ تكون » مَنْ « شرطيةً ، وجوابُها : أفأنت . فالفاء فاءُ الجوابِ دَخَلَتْ على جملةِ الجزاءِ ، وأُعيدتِ الهمزةُ لتوكيد معنى الإِنكار ، وأوقع الظاهرَ وهو { مَن فِي النار } موقعَ المضمرِ ، إذ كان الأصلُ : أفأنت تُنْقِذُه . وإنما وَقَعَ موقعَه شهادة عليه بذلك . وإلى هذا نحا الحوفيُّ والزمخشري . قال الحوفي : » وجيْءَ بألف الاستفهام لَمَّا طَال الكلامُ توكيداً ، ولولا طولُه لم يَجُزْ الإِتيانُ بها؛ لأنه لا يَصْلُحُ في العربيةِ أَنْ يأتيَ بألف الاستفهام في الاسمِ وألفٍ أخرى في الجزاء . ومعنى الكلام : أفأنت تُنْقِذُه . وعلى القول بكونِها شرطيةً يترتَّبُ على قولِ الزمخشري وقولِ الجمهور مسألةٌ : وهو أنَّه على قولِ الجمهورِ يكونُ قد اجتمع شرطٌ واستفهامٌ . وفيه حينئذٍ خلافٌ بين سيبويه ويونسَ : هل الجملة الأخيرةُ جواب الاستفهام وهو قولُ يونسَ ، أو جوابٌ للشرط ، وهو قولُ سيبويه؟ وأمَّا على قَوْلِ الزمخشريِّ فلم يَجْتمع شرطٌ واستفهامٌ؛ إذ أداةُ الاستفهامِ عندَه داخلةٌ على جملةٍ محذوفةٍ عُطِفَتْ عليها جملةُ الشرط ، ولم يَدْخُلْ على جملةِ الشرطِ . وقوله : « أفأنت تُنْقِذُ » استفهامُ توقيفٍ وقُدِّم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لست قادراً على إنقاذِه إنَّما القادرُ عليه اللَّهُ وحدَه .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)

قوله : { لكن الذين اتقوا } : استدراكٌ بين شيئين نقيضَيْن أو ضِدَّيْن ، وهما المؤمنون والكافرون .
وقوله : « وَعْدَ اللَّهِ » مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ ، فهو منصوبٌ بواجبِ الإِضمار .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)

قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ } : العامَّةُ على رَفْعِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه . وقرأ أبو بشر « ثم يَجْعَلَه » منصوباً . قال الشيخ : « قال صاحب الكامل : » وهو ضعيفٌ « انتهى . يعني بصاحب الكامل » الهذليَّ « ولم يُبَيِّنْ هو ولا صاحبُ الكامل وَجْهَ ضَعْفِه ولا تخريجَه . فأمَّا ضعفُه فواضحٌ حيث لم يتقدَّم ما يَقْتَضي نصبَه في الظاهر . وأمَّا تخريجُه فقد ذكر أبو البقاء فيه وجهين ، أحدُهما : أَنْ ينتصِبَ بإضمار » أن « ويكونَ معطوفاً على قولِه : { أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } في أولِ الآيةِ ، والتقدير : ألم تَرَ إنزالَ اللَّهِ ثم جَعْلَه . والثاني : أَنْ يكونَ منصوباً بتقدير تَرَى أي : ثم تَرَى جَعْلَه حُطاماً ، يعني أنه يُنْصَبُ ب » أنْ « مضمرةً ، وتكونُ » أنْ « وما في حَيِّزِها مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ وهو » تَرَى « لدلالة » ألم تَرَ « عليه .

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)

قوله : { أَفَمَن شَرَحَ الله } : { أَفَمَن يَتَّقِي } [ الزمر : 24 ] كما تقدَّم في { أَفَمَنْ حَقَّ } [ الزمر : 19 ] . والتقديرُ : أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صدرَه للإِسلامِ كمَنْ قسا قلبُه ، أو كالقاسي المُعْرِضِ ، لدلالةِ { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } عليه . وكذا التقديرُ في : أفَمَنْ يَتَّقِي أي : كمن أَمِنَ العذابَ ، وهو تقديرُ الزمخشريِّ ، أو كالمُنْعَمِيْنَ في الجنةِ ، وهو تقديرُ ابنِ عطية .

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

قوله : { كِتَاباً } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه بدلٌ مِنْ « أحسنَ الحديث » . والثاني : أنه حالٌ منه . قال الشيخ - لَمَّا نقله عن الزمخشري - : « وكأنَّه بناءً على أنَّ » أَحْسَن الحديث « معرفةٌ لإِضافتِه إلى معرفةٍ ، وأفعلُ التفضيلِ إذا أُضيف إلى معرفةٍ فيه خلافٌ . فقيل : إضافتُه مَحْضَةٌ . وقيل : غيرُ محضة » . قلت : وعلى تقديرِ كونِه نكرةً يَحْسُنُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ متى أُضيفَتْ ساغ مجيءُ الحالِ منها بلا خلافٍ . والصحيحُ أنَّ إضافةَ أَفْعَلَ محضةٌ . و « مُتَشابِهاً » نعتٌ ل « كتاب » وهو المُسَوِّغُ لمجيءِ الجامدِ حالاً ، أو لأنَّه في قوةِ مكتوب .
وقرأ العامَّةُ « مثانيَ » بفتح الياء صفةً ثانية أو حالاً أخرى أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مثانيه وإلى هذا ذهب الزمخشري . وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بِشْرٍ بسكونها ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه مِنْ تسكِينِ حرفِ العلةِ استثقالاً للحركةِ عليه كقراءة « تُطْعِمُوْن أهاليْكم » . [ وقوله ] :
3892 كأنَّ أَيْدِيْهِنَّ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونحوِهما . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو مثاني ، كذا ذكره الشيخ . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ وتُحْذَفَ ياؤُه لالتقاءِ الساكنين فيقال : مثانٍ ، كما تقول : هؤلاء جوارٍ . وقد يُقال : إنه وُقِفَ عليه . ثم أُجْرِيَ الوصلُ مُجْرى/ الوقفِ لكنْ يُعْتَرَضُ عليه : بأنَّ الوَقْفَ على المنقوصِ المنونِ بحَذْفِ الياءِ نحو : هذا قاضٍ ، وإثباتُها لغةٌ قليلةٌ . ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّه قد قُرِئ بذلك في المتواترِ نحو : { مِنْ والي } و { باقي } و { هادي } في قراءة ابن كثير .
قوله : « تَقْشَعِرُّ » هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل « كتاب » ، وأَنْ تكونَ حالاً منه لاختصاصِه بالصفةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً . واقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف ، وقَفَّ شعرُه . والمصدرُ الاقشعرارُ والقُشَعْرِيرة أيضاً . ووزن اقْشَعَرَّ افْعَلَلَّ . ووزنُ القُشَعْرِيرة : فَعَلِّيْلَة .
و « مَثاني » جمعُ مَثْنى؛ لأنَّ فيه تثنيةَ القصصِ والمواعظِ ، أو جمعُ مَثْنى مَفْعَل مِنْ التثنية بمعنى التكرير . وإنما وُصِفَ « كتاب » وهو مفردٌ بمثاني ، وهو جمعٌ؛ لأنَّ الكتابَ مشتملٌ على سورٍ وآياتٍ ، أو هو من باب : بُرْمَةٌ أعشارٌ وثَوْبٌ أخلاقٌ . كذا قال الزمخشري : وقيل : ثَمَّ موصوفٌ محذوفٌ أي : فصولاً مثانيَ حُذِفَ للدلالةِ عليه .

قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

قوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ منصوباً على المدح؛ لأنه لَمَّا كان نكرةً امتنع إتباعُه للقرآن . الثاني : أَنْ ينتصِبَ ب « يتذكَّرون » أي : يتذكَّرون قرآناً . الثالث : أن ينتصبَ على الحال مِن القرآن على أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ ، وتُسَمَّى حالاً موطئة لأنَّ الحالَ في الحقيقةِ « عربياً » و « قرآناً » توطئةٌ له نحو : « جاء زيدٌ رجلاً صالحاً » . رضي الله عنR> قوله : { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } نعتٌ ل « قرآناً » أو حالٌ أخرى . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : فهلاَّ قيل : مستقيماً أو غيرَ مُعْوَج . قلت : فيه فائدتان ، إحداهما : نفيُ أَنْ يكونَ فيه عِوَجٌ قط كما قال : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] . والثاني : أنَّ العِوَجَ يختصُّ بالمعاني دونَ الأعيان . وقيل : المرادُ بالعِوَجِ الشكُّ واللَّبْسُ » . وأنشد :
3893 وقد أتاكَ يقينٌ غيرُ ذي عِوَجٍ ... من الإِلهِ وقولٌ غيرُ مَكْذوبِ

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)

قوله : { فِيهِ شُرَكَآءُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب صفةً لرجل ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ الجارَّ وحدَه ، و « شركاءُ » فاعلٌ به ، وهو أَوْلَى لقُرْبه من المفردِ و « مُتَشاكِسُوْن » صفةٌ لشركاء . والتشاكُسُ : التخالُفُ . وأصلُه سوءُ الخُلُقِ وعُسْرُه ، وهو سببُ التخالُفِ والتشاجُر . ويقال : التَّشاكس والتشاخُسُ بالخاء موضع الكاف . وقد تقدَّم الكلامُ على نصب المثل وما بعده الواقعين بعد « ضَرَب » . وقال الكسائي : انتصَبَ « رجلاً » على إسقاط الجارِّ أي : لرجل أو في رجل .
وقوله : « فيه » أي : في رِقِّه . وقال أبو البقاء كلاماً لا يُشْبه أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مثله ، بل ولا أَقَلَّ منه . قال : « وفيه شركاءُ الجملةُ صفةُ ل » رجل « و » في « متعلقٌ بمتشاكسون . وفيه دلالةٌ على جوازِ تقديمِ خبرِ المبتدأ عليه » انتهى . أمَّا هذا فلا أشُكُّ أنه سهوٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَه جملةً كيف يقول بعد ذلك : إن « فيه » متعلقٌ ب « متشاكسون »؟ وقد يقال : أراد مِنْ حيث المعنى ، وهو بعيدٌ جداً . ثم قوله : « وفيه دلالةٌ » إلى آخره يناقضه أيضاً . وليست المسألةُ غريبةً حتى يقولَ : « وفيه دلالة » . وكأنه أراد : فيه دلالةٌ على تقديم معمولِ الخبر على المبتدأ ، بناءً منه على أنَّ « فيه » يتعلق ب « مُتشاكسون » ولكنه فاسدٌ ، والفاسدُ لا يُرام صَلاحُه .
قوله : « سَلَماً لرَجُلٍ » قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ « سالماً » بالألفِ وكسرِ اللام . والباقون « سَلَماً » بفتح السين واللام . وابن جبير بكسرِ السينِ وسكونِ اللام . فالقراءةُ الأولى اسمُ فاعلٍ مِنْ سَلِمَ له كذا فهو سالمٌ . والقراءاتان الأُخْرَيان سَلَماً وسِلْماً فهما مَصدران وُصِف بهما على سبيل المبالغةِ ، أو على حَذْفِ مضافٍ ما ، أو على وقوعِهما موقعَ اسمِ الفاعل فتعودُ كالقراءةِ الأولى . وقُرِئ « ورجلٌ سالِمٌ » برفعِهما . وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : وهناك رجلٌ سالمٌ لرجلٍ ، كذا قَدَّره الزمخشري . الثاني : أنه مبتدأٌ و « سالمٌ » خبرُه . وجاز الابتداءُ بالنكرةِ؛ لأنه موضعُ تفصيلٍ ، كقولِ امرئِ القيس :
3894 إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
وقولهم : الناسُ رجلان رجلٌ أكرمْتُ ، ورجلٌ أَهَنْتُ .
قوله : « مَثَلاً » منصوبٌ على التمييزِ المنقولِ من الفاعليةِ إذ الأصلُ : هل يَسْتَوي مَثَلُهما . وأُفْرد التمييزُ لأنه مقتصرٌ عليه أولاً في قولِه : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } . وقرِئَ « مِثْلَيْن » فطابَقَ حالَيْ الرجلين . وقال الزمخشري - فيمَنْ قرأ مِثْلين - : « إنَّ الضميرَ في » يَسْتَويان « للمِثْلين؛ لأنَّ التقديرَ : مِثْلَ رجلٍ ، ومثلَ رجلٍ .

والمعنى : هل يَسْتويان فيما يَرْجِعُ إلى الوصفيَّة كما تقول : كفى بهما رجلين « .
قال الشيخ : » والظاهرُ أنه يعود الضميرُ في « يَسْتَويان » على « رَجُلَيْن » . وأمَّا إذا جَعَلْتَه/ عائداً إلى المِثْلَيْنِ اللذيْن ذَكَرَ أنَّ التقديرَ : مِثْلَ رجلٍ ومِثْلَ رجلٍ؛ فإنَّ التمييزَ يكون إذ ذاك قد فُهِمَ من المميَّز الذي هو الضميرُ؛ إذ يصيرُ التقدير : هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلين « . قلت : هذا لا يَضُرُّ؛ إذ التقديرُ : هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلَيْن في الوصفيةِ فالمِثْلان الأوَّلان مَعْهودان ، والثانيان جنسان مُبْهمان كما تقول : كَفَى بهما رجلَيْن؛ فإنَّ الضميرَ في » بهما « عائدٌ على ما يُراد بالرجلين فلا فَرْقَ بين المسألتين . فما كان جواباً عن » كفَى بهما رجلين « يكونُ جواباً له .

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)

قوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } : العامَّةُ على « مَيِّت ومَيِّتون » . وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي عبلة واليماني « مائِتٌ ومائتون » ، وهي صفةٌ مُشْعِرَةٌ بحدوثِها دون « مَيِّت » . وقد تقدَّمَ أنَّه لا خلافَ بين القرَّاءِ في تثقيلِ مثلِ هذا . « ثم إنكم » تغليباً للمخاطبِ ، وإنْ كان واحداً في قوله : « إنَّك » على الغائبين في « وإنَّهم » .

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)

قوله : { والذي جَآءَ } : بالصدق لَفْظُه مفردٌ ، ومعناه جمعٌ لأنه أُريد به الجنسُ . وقيل : لأنه قُصِدَ به الجزاءُ ، وما كان كذلك كَثُرَ فيه وقوعُ « الذي » موقع « الذين » ، ولذلك رُوْعي معناه فجُمِع في قولِه : { أولئك هُمُ المتقون } كما رُوْعِيَ معنى « مَنْ » في قولِه : « للكافرين »؛ فإنَّ الكافرين ظاهرٌ واقعٌ موقعَ المُضْمرِ؛ إذ الأصلُ : مثوىً لهم . وقيل : بل الأصلُ : والذين جاء بالصدق ، فحُذِفَتِ النونُ تخفيفاً ، كقولِه : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] . وهذا وهمٌ؛ إذ لو قُصِد ذلك لجاء بعده ضميرُ الجمع ، فكان يُقال : والذي جاؤوا ، كقوله : « كالذي خاضُوا » . ويَدُلُّ عليه أنَّ نونَ التثنيةِ إذا حُذِفَتْ عاد الضميرُ مَثْنى ، كقولِه :
3895 أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ... قَتَلا الملوكَ وفَكَّكا الأَغْلالا
ولجاءَ كقوله :
3896 وإنَّ الذيْ حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ... همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
وقرأ عبدُ الله { والذي جَآؤوا بالصدق وَصَدَّقَوا بِهِ } وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذه الآيةِ في أوائلِ البقرة وغيرها . وقيل : « الذي » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ بمعنى الجمعِ ، تقديرُه : والفريق أو الفوج ولذلك قال : { أولئك هُمُ المتقون } . وقيل : المرادُ بالذي واحدٌ بعينِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولكن لَمَّا كان المرادُ هو وأتباعُه اعْتُبر ذلك فجُمِعَ ، فقال : « أولئك هم » كقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ المؤمنون : 49 ] . قاله الزمخشري وعبارتُه : « هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أراد به إياه ومَنْ تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومَه » . وناقشه الشيخ في إيقاعِ الضميرِ المنفصلِ موقعَ المتصلِ قال : « وإصلاحُه أَنْ يقولَ : أراده به كما أراده بموسى وقومِه » . قلت : ولا مناقَشَةَ؛ لأنَّه مع تقديم « به » و « بموسى » لغرضٍ من الأغراض استحالَ اتصالُ الضميرِ ، وهذا كما تقدَّم لك بحثٌ في قولِه تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] ، وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] : وهو أنَّ بعضَ الناسِ زَعَمَ أنه يجوزُ الانفصالُ مع القدرةِ على الاتصال ، وتقدَّم الجوابُ بقريبٍ مِمَّا ذكَرْتُه هنا ، وبَيَّنْتُ حكمةَ التقديمِ ثمةَ . وقولُ الزمخشريِّ : « إن الضميرَ في » لعلهم يَهْتدون « لموسى وقومِه » فيه نظرٌ ، بل الظاهرُ خصوصُ الضميرِ بقومِه دونَه؛ لأنَّهم هم المطلوبُ منهم الهدايةُ . وأمَّا موسى عليه السلام فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية . وقال الزمخشري أيضاً : « ويجوز أن يريدَ : والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدقِ وصَدَّق به ، وهم : الرسولُ الذي جاء بالصدقِ وصحابتُه الذين صَدَّقوا به » . قال الشيخ : « وفيه توزيعُ الصلةِ ، والفوجُ هو الموصولُ ، فهو كقولِك : جاء الفريقُ الذي شَرُفَ وشَرُفَ ، والأظهرُ عَدَمُ التوزيعِ بل المعطوفُ على الصلةِ صلةٌ لمَنْ له الصلة الأولى » .
وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان/ ومحمد بن جُحادة مخففاً بمعنى صَدَقَ فيه ، ولم يُغَيِّرْه . وقُرِئ « وصُدِّق به » مشدَّداً مبنياً للمفعول .

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

قوله : { لِيُكَفِّرَ } : في تعلُّقها وَجْهان ، أحدهما : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي : يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفِّرَ . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المحسنين ، كأنه قيل : الذين احسنوا ليُكَفِّرَ أي : لأجلِ التكفير .
قوله : « أسْوَأَ الذي » الظاهرُ أنَّه أَفْعَلُ تفضيل ، وبه قرأ العامَّةُ . وقيل : ليسَتْ للتفضيل بل بمعنى سَيِّئَ الذي عمِلوا كقولِهم : « الأَشَجُّ والناقص أعدلُ بني مروان » أي : عادلاهم . ويَدُلُّ على هذا قراءةُ ابنِ كثير في رواية « أَسْواءَ » بألفٍ بين الواوِ والهمزةِ بزنَةِ أَحْمال جمعَ سُوء ، وكذا قرأ في حم السجدة .

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)

قوله : { بِكَافٍ عَبْدَهُ } : العامَّةُ على توحيدِ « عبدَه » . والأخَوان « عبادَه » جمعاً وهم الأنبياءُ وأتباعُهم . وقُرِئ « بكافي عبادِه » بالإِضافة . و « يُكافى » مضارعُ كافى ، « عبادَه » نُصِب على المفعولِ به . ثم المفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى فَعَل نحو : نُجازي بمعنى نَجْزي ، وبُنِيَ على لفظةِ المُفاعلةِ لِما تقدَّم مِنْ أنَّ بناءَ المفاعلةِ يُشْعِ بالمبالغةِ؛ لأنه للمغالبة . ويُحتمل أَنْ يكونَ أصلُه يُكافِئ بالهمزِ ، من المكافأة بمعنى يَجْزِيْهم ، فخفَّف الهمزةِ .
قوله : « ويُخَوِّفُونَك » يجوزُ أَنْ يكون حالاً؛ إذ المعنى : أليس كافيَك حالَ تَخْويفِهم إياك بكذا ، ويَعْلَمُه . كأنَّ المعنى : أنَّه كافيه في كلِّ حالٍ حتى في هذه الحال . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)

قوله : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ } : هي المتعديةُ لاثنين ، أوَّلُهما « ما تَدْعوْن » وثانيهما الجملةُ الاستفهاميةُ . والعائدُ على المفعول منها قولُه : « هُنَّ » وإنما أنَّثَه تحقيراً لِما يَدْعُون مِنْ دونِه ، ولأنهم كانوا يُسَمُّونها بأسماءِ الإِناث : اللات ومَناة والعُزَّى . وقد تقدَّم تحقيقُ هذه مستوفىً في مواضعَ .
قوله : { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } قرأ أبو عمرو « كاشفاتٌ مُمْسِكاتٌ » بالتنوين ونصبِ « ضُرَّه » و « رحمتَه » ، وهو الأصلُ في اسم الفاعل . والباقون بالإِضافةِ وهو تخفيفٌ .

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

قوله : { والتي لَمْ تَمُتْ } : عطفٌ على الأنفس أي : يَتَوفَّى الأنفسَ حين تموتُ ، ويَتَوَفَّى أيضاً الأنفسَ التي لم تَمُتْ في مَنامِها . ففي منامِها ظرفٌ ل « يَتَوَّفَى » . وقرأ الأخَوان « قُضِيَ » مبنياً للمفعول ، « الموتُ » رفعاً لقيامَه مَقامَ الفاعلِ .

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)

وقوله : { أَمِ اتخذوا } : « أم » منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ . وتقدَّم الكلامُ على نحوِ « أَوَلَوْ » وكيف هذا التركيبُ .

وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين } : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما العاملُ في » إذا ذُكِرَ «؟ قلت : العاملُ في » إذا « الفجائية ، تقديرُه : وقتَ ذِكْرِ الذين مِنْ دونِه فاجَؤوا وقتَ الاستبشار » . قال الشيخُ : « أمَّا قولُ الزمخشريِّ فلا أَعْلَمُه مِنْ قولِ مَنْ ينتمي للنحوِ ، وهو أنَّ الظَّرْفَيْنِ معمولان لفاجؤوا ثم » إذا « الأولى تَنْتَصِبُ على الظرفيةِ ، والثانيةُ على المفعول به » . وقال الحوفي : « إذا هم يَسْتَبشرون » إذا « مضافةٌ إلى الابتداءِ والخبر ، و » إذا « مكررةٌ للتوكيد ، وحُذف ما تُضاف إليه . والتقدير : إذا كانَ ذلك هم يَسْتبشِرون فيكون هم يستبشرون هو العاملَ في » إذا « ، المعنى : إذا كان كذلك استبشروا » . قال الشيخ : « وهذا يَبْعُدُ جداً عن الصواب ، إذا جعل » إذا « مضافةً إلى الابتداء والخبر » ، ثم قال : « وإذا مكررةٌ للتوكيد وحُذِف ما تضاف إليه » إلى آخرِ كلامه فإذا كانَتْ « إذا » حُذِف ما تُضاف إليه ، فكيف تكون مضافةً إلى الابتداء والخبرِ الذي هو هم يَسْتَبْشِرون؟ وهذا كلُّه أَوْجبه عَدَمُ الإِتقانِ لعلمِ النحوِ والتحذُّقِ فيه « انتهى . وفي هذه العبارةِ تحامُلٌ على أهلِ العلمِ المرجوعِ إليهم فيه .
واختار الشيخُ أَنْ يكونَ العاملُ في » إذا « الشرطيةِ الفعلَ بعدها لا جوابَها ، وأنها ليسَتْ مضافةً لِما بعدها ، وإنْ كان قولَ الأكثرين ، وجَعَل » إذا « الفجائيةَ معمولةً لِما بعدها سواءً كانت زماناً أم مكاناً . أمَّا إذا قيل : إنها حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ وهي رابِطةٌ لجملةِ الجزاءِ بالشرطِ كالفاء .
والاشمِئْزازُ : النُّفورُ والتقبُّضُ . وقال أبو زيد : هو الذُّعْرُ . اشْمَأَزَّ فلانٌ : إذا ذُعِرَ ، ووزن افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ . قال الشاعر :
3897 إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ ... ووَلَّتْه عَشَوْزَنَةً زَبُوْنا

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

قوله : { سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً أي : سَيِّئاتُ كَسْبِهم أو بمعنى الذي : سَيِّئات أعمالهم التي كَسَبوها .

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)

قوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مهيِّئةً زائدةً على « إنَّ » نحو : إنما قام زيد ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، والضميرُ عائدٌ عليها مِنْ « أُوْتِيْتُه » أي : إنَّ الذي أُوْتِيْتُه على عِلْمٍ مني أو على عِلْمٍ من الله فيَّ ، أي : أستحقُّ/ ذلك .
قوله : « بل هي » الضميرُ للنعمةِ . ذكَّرها أولاً في قوله : « إنما أوتيتُه لأنها بمعنى الإِنعامِ ، وأنَّث هنا اعتباراً بلفظِها . وقيل : بل الحالةُ أو الإِتيانةُ .

قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)

قوله : { قَدْ قَالَهَا } : أي : قال القولةَ المَذْكورةَ . وقُرِئَ « قد قاله » أي : هذا القولَ أو الكلامَ . وإنما عُطِفَتْ هذه الجملةُ ، وهي قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان } بالفاء والتي في أول السورة بالواو؛ لأن هذه مُسَبَّبَةٌ عن قوله : « وإذا ذُكِر » أي : يَشْمَئِزُّون مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ويَسْتَبْشِرون بذِكْرِ آلهتِهم ، فإذا مَسَّ أحدَهم بخلاف الأولى حيث لا تَسَبُّبَ فيها ، فجيء بالواوِ التي لمطلقِ العطفِ ، وعلى هذا فما [ بين ] السببِ والمُسَبَّبِ جملٌ اعتراضيةٌ ، قال معناه الزمخشريُّ . واستبعده الشيخُ من حيث إنَّ أبا عليٍّ يمنع الاعتراضَ بجملتينِ فكيف بهذه الجملِ الكثيرةِ؟ ثم قال : « والذي يَظْهر في الرَّبْطِ أنه لَمَّا قال : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الزمر : 47 ] الآية كان ذلك إشعاراً بما يَنالُ الظالمين . مِنْ شِدَّةِ العذاب ، وأنه يَظْهر لهم يومَ القيامة من العذاب ، أَتْبع ذلك بما يَدُلُّ على ظُلمِه وبَغْيه ، إذ كان إذا مَسَّه ضُرٌّ دعا اللَّهَ ، فإذا أَحْسَن إليه لم يَنْسُبْ ذلك إليه » .
قوله : « فما أَغْنى » يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » نافيةً أو استفهاميةً مؤولةً بالنفيِ ، وإذا احْتَجْنا إلى تأويلها بالنفيِ فَلْنَجْعَلْها نافيةً استراحةً من المجاز .

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

قوله : { قُلْ ياعبادي } : قيل في هذه الآيةِ من أنواع المعاني والبيانِ أشياءُ حسنةٌ ، منها : إقبالُه عليهم ونداؤهم ، ومنها : إضافتُهم إليه إضافةَ تشريفٍ ، ومنها : الالتفاتُ من التكلم إلى الغَيْبةِ في قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافةُ الرحمةِ لأجلِ أسمائِه الحُسْنى ، ومنها : إعادةُ الظاهرِ بلفظِه في قولِه : « إنَّ اللَّهَ » ، ومنها : إبرازُ الجملةِ مِنْ قولِه : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكَّدةً ب « إنَّ » ، وبالفصلِ ، وبإعادة الصفتين اللتين تضَّمَنَتْهما الآيةُ السابقةُ .

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

قوله : { أَن تَقُولَ } : مفعولٌ مِنْ أجلِه ، فقدَّره الزمخشري كراهةَ أنْ تقول ، وابنُ عطية : أَنِيْبوا مِنْ أَجْلِ أَنْ تقولَ . وأبو البقاء والحوفي : أَنْذَرْناكم مخافةَ أَنْ تقولَ . ولا حاجةَ إلى إضمارِ هذا العاملِ مع وجودِ « أَنيبوا » وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثيرَ ، كقولِ الأعشى :
3898 ورُبَّ بَقيعٍ لو هَتَفْتُ بجَوِّه ... أتاني كريمٌ يَنْفُضُ الرأسَ مُغْضَبا
يريد : أتاني كرام كثيرون لا كريمٌ فَذٌّ؛ لمنافاتِه المعنى المقصودَ . ويجوزُ أَنْ يريد : نفساً متميِّزةً من بينِ الأنفسِ باللَّجاجِ الشديدِ في الكفرِ أو بالعذابِ العظيمِ .
قوله : « يا حَسْرتا » العامَّةُ على الألفِ بدلاً مِنْ ياءِ الإِضافةِ . وعن ابن كثير « يا حَسْرَتاهْ » بهاءِ السكت وَقْفاً ، وأبو جعفر « يا حَسْرَتي » على الأصل . وعنه أيضاً « يا حَسْرتاي » بالألفِ والياء . وفيها وجهان ، أحدُهما : الجمعُ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه . والثاني : أنه تثنيةُ « حَسْرَة » مضافةً لياءِ المتكلمِ . واعْتُرِضَ على هذا : بأنه كان ينبغي أَنْ يُقالَ : يا حَسْرتيَّ بإدغامِ ياءِ النَّصْبِ في ياءِ الإِضافةِ . وأُجيب : بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ راعى لغة الحارِث ابن كعبٍ وغيرهم نحو : « رأيتُ الزيدان » . وقيل : الألفُ بدلٌ من الياءِ والياءُ بعدها مزيدةٌ . وقيل : الألفُ مزيدةٌ بين المتضايفَيْنِ ، وكلاهما ضعيفٌ .
قوله : { على مَا فَرَّطَتُ } « ما » مصدريةٌ أي : على تَفْرِيطي . وثَمَّ مضافٌ أي : في جَنْبِ طاعةِ الله . وقيل : { فِي جَنبِ الله } المرادُ به الأمرُ والجهةُ . يقال : هو في جَنْبِ فلانٍ وجانبِه ، أي : جهته وناحيته . قال الراجز :
3899 الناسُ جَنْبٌ والأميرُ جَنْبُ ... وقال آخر :
3900 أفي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْني مَلامةً ... لَعَمْري لقد طالَتْ ملامَتُها بيا
ثم اتُّسِع فيه فقيل : فَرَّط في جَنْبِه أي في حَقِّه . قال :
3901 أَمَا تَتَّقِيْنَ اللَّهَ في جَنْبِ عاشِقٍ ... له كَبِدٌ حَرَّى عليكِ تَقَطَّعُ

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)

قوله : { فَأَكُونَ } : في نصبِه وجهان ، أحدهما : عَطْفُه على « كرَّة » فإنها مصدرٌ ، فعُطِفَ مصدرٌ مؤولٌ على مصدرٍ مُصَرَّح به كقولها :
3902 لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عَيْني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ
وقول الآخر :
3903 فما لَكَ منها غيرُ ذكرى وحَسْرةٍ ... وتَسْأَلَ عن رُكْبانِها أينَ يَمَّموا
والثاني : أنه منصوبٌ/ على جوابِ التمني المفهومِ مِنْ قولِه : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } . والفرقُ بين الوجهين : أن الأولَ يكونُ فيه الكونُ مُتَمَنَّى ، ويجوزُ أَنْ تُضْمَرَ « أَنْ » وأَنْ تظهرَ ، والثاني يكون فيه الكونُ مترتباً على حصولِ المُتَمَنَّى لا مُتمنى ويجب أَنْ تُضْمَرَ « أَنْ » .

بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)

قوله : { بلى } : حرفُ جوابٍ وفيما وقعَتْ جواباً له وجهان ، أحدُهما : هو نَفْيٌ مقدرٌ . قال ابنُ عطية : « وحَقُّ بلى أَنْ تجيْءَ بعد نفيٍ عليه تقريرٌ ، كأنَّ النفسَ قالَتْ : لم يَتَّسِعْ لي النظرُ ولم يَتَبَيَّنْ لي الأمرُ » . قال الشيخ : « ليس حَقُّها النفيَ المقررَ ، بل حَقُّها النفيُ ، ثم حُمِل التقريرُ عليه ، ولذلك أجاب بعضُ العربِ النفيَ المقررَ ب نعم دونَ بَلى ، وكذا وقع في عبارةِ سيبويه نفسه » . والثاني : أنَّ التمنيَ المذكورَ وجوابَه متضمنان لنَفْيِ الهدايةِ ، كأنه قال : لم أهتدِ ، فَرَدَّ الله عليه ذلك . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : هَلاَّ قُرِنَ الجوابُ بما هو جوابٌ له ، وهو قولُه : { لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي } ولم يَفْصِلْ بينهما . قلت : لأنه لا يَخْلو : إمَّا أَنْ يُقَدَّم على إحدى القرائنِ الثلاثِ فيُفَرَّقَ بينهنَّ ، وإمَّا أن تُؤَخَّرَ القرينةُ الوسطى . فلم يَحْسُنِ الأولُ لِما فيه من تَبْتير النَّظْم بالجمع بين القرائنِ ، وأمَّا الثاني فلِما فيه من نَقْضِ الترتيبِ وهو التحسُّر على التفريط في الطاعةِ ثم التعلُّلُ بفَقْدِ الهدايةِ ثم تمنِّي الرَّجْعَة ، فكان الصواب ما جاءَ عليه : وهو أنَّه حكى أقوالَ النفسِ على ترتيبها ونَظْمِها ، ثم أجاب مِنْ بينِها عَمَّا اقتضى الجوابَ » .
وقرأ العَامَّةُ « جاءَتْكَ » بفتح الكاف فكذّبْتَ واستكبرتَ ، وكنتَ ، بفتح التاءِ خطاباً للكافر دونَ النفس . وقرأ الجحدريُّ وأبو حيوةَ وابن يعمر والشافعيُّ عن ابن كثير ، ورَوَتْها أمُّ سَلَمَةَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وبها قرأ أبو بكر وابنتُه عائشةُ رضي الله عنهما ، بكسرِ الكاف والتاءِ خطاباً للنفسِ . والحسن والأعرج والأعمش « جَأَتْكَ » بوزنِ « جَفَتْك » بهمزةٍ دون ألفٍ . فتحتمل أَنْ تَكونَ قَصْراً كقراءةِ قُنْبل { أَن رَّأهُ استغنى } وأَنْ يكونَ في الكلمةِ قَلْبٌ : بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ على العين ، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ لالتقائِهما ، نحو : رَمَتْ وغَزَتْ .

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

قوله : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } : العامَّةُ على رفعِهما ، وهي جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ . وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : النصبُ على الحالِ من الموصولاتِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ ، وكذا أَعْرَبَها الزمخشريُّ . ومِنْ مذهبِه أنه لا يجوزُ إسقاطُ الواوِ مِنْ مثلِها إلاَّ شاذَّاً ، تابعاً في ذلك الفراءَ فهذا رجوعٌ منه عن ذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ الرؤيةَ قلبيةٌ . وهو بعيدٌ لأن تَعَلُّقَ الرؤيةِ البصريةِ بالأجسام وألوانِها أظهرُ مِنْ تعلُّقِ القلبيةِ بهما . وقُرِئ « وجوهَهم مُسْودَّة » بنصبِهما ، على أنَّ « وجوهَهم » بدلُ بعضٍ مِنْ كل ، و « مُسْوَدَّةً » على ما تقدَّم من النصبِ على الحال أو على المفعولِ الثاني . وقال أبو البقاء : « ولو قُرِئ » وجوهَهم « بالنصب لكانَ على بدلِ الاشتمالِ » . قلت : قد قُرِئ به والحمدُ لله ، ولكنْ ليس كما قال على بدلِ الاشتمال ، بل على بدلِ البعضِ ، وكأنه سَبْقُ لسانٍ أو طغيانُ قَلَم . وقرأ أُبَيٌّ « أُجوهُهم » بقلبِ الواوِ همزةً ، وهو فصيحٌ نحو : { أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] وبابِه .

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

قوله : { بِمَفَازَتِهِمْ } : قرأ الأخَوان وأبو بكرٍ « بمفازاتِهم » جمعاً لَمَّا اختلفَتْ أنواعُ المصدرِ جُمِعَ . والباقون بالإِفرادِ على الأصلِ . وقيل : ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : بدواعي مَفازتِهم أو بأسبابِها . والمَفازَةُ : المَنْجاة . وقيل : لا حاجةَ لذلك؛ إذ المرادُ بالمَفازةِ الفلاحُ .
قوله : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مفسِّرةً لمفازَتهم كأنَّه قيل : وما مفازَتُهم؟ فقيل : لا يَمَسُّهم السوءُ فلا مَحَلَّ لها . ويجوزُ أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الذين اتَّقَوا .

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)

قوله : { لَّهُ مَقَالِيدُ } : جملةٌ مستأنفةٌ . والمَقاليد : جمعُ مِقْلاد أو مِقْليد ، أو لا واحدَ له مِنْ لفظِه كأَساطير وأخواتِه ويُقال أيضاً : إِقْليد وأَقاليد ، وهي المفاتيح والكلمةُ فارسيةٌ مُعَرَّبَةٌ . وفي هذا الكلامِ استعارةٌ بديعة نحو قولك : بيدِ فلانٍ مِفْتاحُ هذا الأمرِ ، وليس ثَمَّ مِفْتاح وإنما هو عبارةٌ عن شِدَّةِ تمكُّنِهِ من ذلك الشيءِ . /
قوله : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها معطوفةٌ على قوله : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا } [ الزمر : 61 ] أي : يُنَجِّي المتقين بمَفازَتِهم ، والكافرون هم الخاسرون . واعتُرِضَ بينهما بأنَّه خالِقُ الأشياءِ كلِّها ومُهَيْمِنٌ عليها ، قاله الزمخشري . واعترض عليه فخر الدين الرازي : بأنَّه عَطْفُ اسميةٍ على فعليةٍ ، وهو لا يجوزُ ، وهذا الاعتراضُ مُعْتَرَضٌ [ عليه ] إذ لا مانعَ من ذلك . الثاني : أنها معطوفةٌ على قولِه : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات } ؛ وذلك أنه تعالى لَمَّا وَصَفَ نفسَه بأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ في السماوات والأرضِ ، ومفاتيحُه بيده ، قال : والذين كفروا أَنْ يكونَ الأمرُ كذلك أولئك هم الخاسرون .

قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)

قوله : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو الظاهرُ - أنَّ « غير » منصوبٌ ب « أَعْبُدُ » . و « أعبدُ » معمولٌ ل « تَأْمرونِّي » على إضمارِ « أنْ » المصدريةِ ، فلَمَّا حُذِفَت بَطَل عملُها وهو أحد الوجهين . والأصل : أفتأمرونِّي بأَنْ أعبدَ غيرَ اللَّه ، ثم قُدِّم مفعولُ « أعبدُ » على « تَأْمُرونِّي » العاملِ في عامِله . وقد ضَعَّف بعضُهم هذا : بأنه يَلْزَمُ منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ وذلك أنَّ « غيرَ » منصوبٌ ب « أعبدُ » ، و « أعبدُ » صلةٌ ل « أنْ » وهو لا يجوزُ . وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الموصولَ لمَّا حُذِفَ لم يُراعَ حُكْمُه فيما ذُكِرَ ، بل إنما يراعَى معناه لتصحيح الكلامِ . قال أبو البقاء : « لو حَكَمْنا بذلك لأَفْضَى إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ . وهذا الذي ذكره فيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ ب » أنْ « دونَ سائرِ الموصولات ، وهو أنها تُحْذَفُ وتَبْقى صلتُها ، وهو منقاسٌ عند البصريين في مواضعَ تُحْذَفُ ويَبْقى عملُها ، وفي غيرِها إذا حُذِفَتْ لا يبقى عملُها إلاَّ في ضرورةٍ ، أو قليلٍ ، ويُنْشَدُ بالوجهين :
3904 ألا أيُّهذا الزاجريْ أحضرُ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدي
ويَدُلُّ على إرادة » أنْ « في الأصل قراءةُ بعضِهم » أعبدَ « بنصب الفعل اعتداداً بأَنْ . الثاني : أنَّ » غيرَ « منصوبٌ ب » تأمرونِّي « و » أعبد « بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ ، و » أنْ « مضمرةٌ معه أيضاً . والتقديرُ : أفغيرَ اللَّهِ تأمرونِّي عبادتَه . والمعنى : أفتأمرونِّي بعبادة غيرِ الله . وقدَّره الزمخشري : تُعَبِّدُوني وتقولون لي : اعْبُدْه . والأصل : تَأْمُرونني أن أعبدَ ، فَحَذَفَ » أنْ « ورَفَع الفعلَ . ألا ترى أنك تقول : أفغيرَ اللَّهِ تقولون لي اعبده ، وأفغيرَ اللَّهِ تقولون لي : اعبد ، فكذلك أفغيرَ الله تقولون لي أَن أعبده ، وأفغيرَ الله تأمروني أَنْ أعبدَ . والدليلُ على صحةِ هذا الوجهِ قراءةُ مَنْ قرأ » أعبدَ « بالنصبِ .
وأمَّا » أعبد « ففيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مع » أَنْ « المضمرةِ في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ » غير « وقد تقدَّم . الثاني : أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال . الثالث : أنه لا محلَّ له البتَةَ .
قوله : » تَأْمُرُوْنِّي « بإدغامِ نونِ الرفعِ في نونِ الوقايةِ وفتح الياءِ ابنُ كثير ، وأَرْسلها الباقون . وقرأ نافع » تَأْمرونيَ « بنون خفيفة وفتح الياء . وابنُ عامر » تأْمرونني « بالفَكِّ وسكونِ الياء . وقد تقدَّم في سورة الأنعام والحجر وغيرِهما : أنه متى اجتمع نونُ الرفعِ مع نونِ الوقاية جاز ثلاثةُ أوجهٍ ، وتقدَّم تحقيقُ الخلافِ في أيتِهما المحذوفةِ؟

وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)

قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } : الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ لأنها هي المُوْحاةُ . وأصولُ البصريين تأبى ذلك ، ويُقَدِّرون أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلاً عندهم ، والقائمُ هنا مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ وهو « إليك » . وقرئ « لَيُحْبِطَنَّ » أي اللَّهُ . و « لَنُحْبِطَنَّ » بنونِ العظمةِ . و « عَمَلَكَ » مفعولٌ به على القراءتين .

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

قوله : { بَلِ الله فاعبد } : الجلالةُ منصوبةٌ ب « اعبُدْ » . وتقدَّم الكلامُ في مثل هذه الفاء/ في البقرة . وجعَلَه الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ أي : إنْ كنتَ عاقلاً فاعبدِ اللَّهَ فَحَذَفَ الشرطَ وجَعَلَ تقديمَ المفعولِ عِوَضاً منه . ورَدَّ الشيخُ عليه : بأنه يجوزُ أَنْ يجيءَ : « زيدٌ فعَمْراً اضرِبْ » فلو كان التقديمُ عِوَضاً لجمع بين العِوَضِ والمُعَوَّض منه . وقرأ عيسى « بل اللَّهُ » رفعاً على الابتداءِ ، والعائدُ محذوفٌ أي : فاعْبُدْه .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى « قَدَّروا » بتشديد الدالِ ، « حَقَّ قَدَره » بفتح الدال . وافقهم الأعمشُ على فتح الدالِ مِنْ « قَدَره » .
قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال أي : ما عَظَّموه حَقّ تعظيمِه والحالُ أنه موصوفٌ بهذه القدرةِ الباهرةِ ، كقولِه : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] ؟ و « جميعاً » حالٌ وهي دالَّةٌ على أن المرادَ بالأرض الأَرَضُون ، ولأنَّ الموضِعَ موضِعُ تَفْخيمٍ ، ولِعَطْفِ الجمعِ عليها . والعاملُ في هذه الحالِ ما دَلَّ عليه قَبْضَتُه . ولا يجوز أَنْ يعملَ فيها « قبضَتُه » سواءً جَعَلْته مصدراً - لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمُوله - أم مراداً به المقدارُ . قال الزمخشري : « ومع القصدِ إلى الجمع - يعني في الأرض - وأنَّه أُريد به الجمعُ وتأكيده بالجميعِ أتبعَ الجمعَ مؤكِّدَه قبل مجيْءِ الخبرِ ليُعْلَمَ أولَ الأمرِ أنَّ الخبرَ الذي يَرِدُ لا يقعُ عن أرضٍ واحدة ولكن عن الأراضي كلِّها » . وقال أبو البقاء : « وجميعاً حالٌ من الأرض ، والتقدير : إذا كانَتْ مجتمعةً قبضَتُه أي : مقبوضه ، فالعامل في » إذا « المصدرُ ، لأنه بمعنى المفعولِ . وقال أبو علي في » الحجة « : التقدير : ذاتُ قبضَتِه . وقد رُدَّ عليه : بأنَّ المضافَ إليه لا يَعْمَلُ فيما قبلَه ، وهذا لا يَصِحُّ لأنه الآن غيرُ مضافٍ إليه ، وبعد حَذْفِ المضافِ لا يَبْقى حكمُه » انتهى . وهو كلامٌ فيه إشكالٌ؛ إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ العامل في « إذا » التي لم يُلْفَظْ بها .
وقوله : « قَبْضَتُه » إنْ قَدَّرْنا مُضافاً كما قال الفارسي أي : ذاتُ قبضَتِه لم يكن فيه وقوعُ المصدرِ مَوْقِعَ مفعولٍ ، وإنْ لم يُقَدَّرْ ذلك احتمل أَنْ يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَه ، وحينئذٍ يُقال : كيف أنَّثَ المصدرَ الواقعَ موقعَ مفعولٍ وهو غيرُ جائزٍ؟ لا يُقال : « حُلَّة نَسْجة اليمن » بل نَسْجُ اليمن أي : منسوجته . والجواب : أن الممتنعَ دخولُ التاءِ الدالةِ على التحديد ، وهذه لمجرد التأنيثِ . كذا أُجيب ، وليس بذاك ، فإن المعنى على التحديدِ لأنه أَبْلَغُ في القدرةِ . واحتمل أَنْ يكونَ أُريد بالمصدر مِقْدارُ ذلك .
والقَبْضَةُ بالفتحِ : المرَّةُ ، وبالضم اسمٌ للمقبوضِ كالغَرْفة والغُرْفَة . والعامَّةُ على رفعِ « قَبْضَتُه » ، والحسنُ بنصبها . وخَرَّجها ابنُ خالويه وجماعةٌ على النصبِ على الظرفيةِ ، أي : في قبضته . وقد رُدَّ هذا : بأنها ظرفٌ مختصُّ فلا بُدَّ مِنْ وجود « في » وهذا هو رأيُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فهو جائزٌ عندهم؛ إذ يُجيزون : « زيد دارَك » بالنصب أي : في دارك . وقال الزمخشري : « جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم » فوافق الكوفيين . والعامَّةُ على رَفْعِ « مَطْوياتٌ » خبراً ، و « بيمينِه » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب « مَطْوِيَّات » .

الثاني : أنه حالٌ من الضمير في « مَطْوِيَّات » . الثالث : أنه خبرٌ ثانٍ ، وعيسى والجحدري نصباها حالاً . واستدلَّ بها الأخفشُ على جوازِ تقدُّم الحالِ إذا كان العاملُ فيها حرفَ جَرّ نحو : « زيدٌ قائماً في الدار » . وهذه لا حُجَّةَ فيها لإِمكان تَخْريجِها على وجهين ، أحدهما - وهو الأظهرُ - أَنْ تكونَ « السماوات » نَسَقاً على « الأرض » ، ويكون قد أَخْبر عن الأَرَضين والسماواتِ بأنَّ الجميعَ قبضَتُه ، وتكون « مَطْوِيَّاتٍ » حالاً من « السماوات » كما كان « جميعاً » حالاً من « الأرض » ، و « بيمينه » متعلقٌ بمطويَّات . والثاني : أن يكون « مطويَّات » منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، و « بيمينه » الخبرُ ، و « مَطْويَّات » وعاملُه جملةٌ معترضةٌ ، وهو ضعيفٌ .

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)

قوله : { فِي الصور } : العامَّةُ على سكونِ الواوِ ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمعَ « صُوْرة » . وهذه تَرُدُّ/ قولَ ابنِ عطية أنَّ الصُّوْرَ هنا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ القَرْنَ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ صُورَة . وقرِئَ « فَصُعِقَ » مبنياً للمفعولِ ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولهم : صَعَقَتْهم الصاعقةُ . يُقال : صَعَقَه اللَّهُ فصَعِقَ .
{ إِلاَّ مَن شَآءَ الله } متصلٌ والمستثنى : إمَّا جبريلُ وميكائيل وإسْرافيلُ ، وإمَّا رِضوانُ والحُوْرُ والزَّبانية ، وإمَّا الباري تعالى قاله الحسن . وفيه نظرٌ من حيث قولُه : { مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } فإنه تعالى لا يَتَحَيَّزُ . فعلى هذا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ منقطعاً .
قوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } يجوزُ أَنْ تكونَ « أخْرى » هي القائمةَ مقامَ الفاعلِ ، وهي في الأصلِ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : نُفِخَ فيه نَفْخَةٌ أخرى ، ويؤيِّدُه التصريحُ بذلك في قولِه { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] فصرَّحَ بإقامة المصدرِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَه الجارَّ ، و « أخرى » منصوبةٌ على ما تقدَّم .
قوله : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } العامَّة على رفع « قيام » خبراً . وزيد بن علي نصبَه حالاً وفيه حينئذٍ أوجهٌ ، أحدهما : أنَّ الخبرَ « يَنْظرون » وهو العاملُ في هذه الحالِ أي : فإذا هم يَنْظُرون قياماً . والثاني : أنَّ العاملَ في الحالِ ما عَمِلَ في « إذا » الفجائيةِ إذا كانت ظرفاً . فإن كانت مكانيةً - كما قال سيبويه - فالتقدير : فبالحَضْرة هم قياماً . وإنْ كانت زمانيةً كقول الرُّمَّانيِّ ففي ذلك الزمانِ هم قياماً ، أي : وجودهم . وإنما احتيج إلى تقديرِ مضافٍ في هذا الوجهِ لأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ . الثالث : أن الخبرَ محذوفٌ هو العاملُ في الحال أي : فإذا هم مبعوثون ، أو مجموعون قياماً . وإذا جَعَلْنا الفجائيةَ حَرْفاً - كقولِ بعضِهم - فالعاملُ في الحالِ : إمَّا « يَنْظُرون » ، وإمَّا الخبرُ المقدرُ كما تقدَّم تحقيقُهما .

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)

قوله : { وَأَشْرَقَتِ } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل . وابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على بنائه للمفعول ، وهو منقولٌ بالهمزة ، مِنْ شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ ، وليس مِنْ أشرقَتْ بمعنى أضاءَتْ لأنَّ ذاك لازمٌ . وجعله ابنُ عطية مثل : رَجَعَ ورَجَعْتُه ، ووَقَفَ ووقَفْته ، يعني فيكون أَشْرَق لازماً ومتعدياً .

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)

قوله : { زُمَراً } : حالٌ . وزُمَر جمع زُمْرَة ، وهي الجماعاتُ في تفرقةٍ بعضُها في إثْر بعضٍ وتَزَمَّروا : تجمَّعُوا قال :
3905 حتى احْزَألَّتْ زُمَرٌ بعد زُمَرْ ... هذا قولُ أبي عبيدة والأخفشِ . وقال الراغب : « الزُّمْرَة الجماعةُ القليلةُ ، ومنه شاةٌ زَمِرة أي : قليلة الشَّعْر ، ورجلٌ زَمِرٌ أي : قليلُ المروءةِ . وزَمَرَتِ النَّعامةُ تَزْمِرُ زَماراً ، ومنه اشتقَّ الزَّمْرُ والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة » .
قوله : « حتى إذا » تقدَّمَ الكلامُ في حتى الداخلةِ على « إذا » غيرَ مرةٍ . وجوابُ « إذا » قوله : « فُتِحت » وتقدَّم خلافُ القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام . وقرأ ابن هرمز « ألم تَأْتِكم » بتاء التأنيث الجمعِ . و « منكم » صفةٌ ل « رسل » أو متعلِّق بالإِتيان ، و « يَتْلون » صفةٌ أخرى ، و « خالدين » في الموضعَيْن حالٌ مقدرةٌ .

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)

قوله : { وَفُتِحَتْ } : في جواب « إذا » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : قوله : « وفُتحت » والواو زائدةٌ ، وهو رأيُ الكوفيين والأخفش ، وإنما جيْءَ هنا بالواوِ دونَ التي قبلها؛ لأنَّ أبوابَ السجون مغلقةٌ إلى أَنْ يَجيْئَها صاحب الجريمة فتُفتَحَ له ثم تُغْلَقَ عليه فناسَبَ ذلك عَدَم الواوِ فيها ، بخلافِ أبوابِ السرورِ والفرحِ فإنَّها تُفْتَحُ انتظاراً لمَنْ يَدْخُلُها . والثاني : أن الجوابَ قولُه : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } على زيادةِ الواوِ أيضاً أي : حتى إذا جاؤُوها قال لهم خَزَنَتُها . الثالث : أنَّ الجوابَ محذوفٌ ، قال الزمخشري : وحَقُّه أَنْ يُقَدَّرَ بعد « خالدين » . انتهى يعني لأنه يجيْء بعد متعلَّقاتِ الشرطِ وما عُطِف عليه ، والتقدير : اطمأنُّوا . وقدَّره المبرد : « سُعِدُوا » . وعلى هذين الوجهين فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه : و « فُتِحَتْ » في محلِّ نصب على الحال . وسَمَّى بعضُهم هذه الواوَ واوَ الثمانية . قال : لأنَّ أبوابَ الجنة/ ثمانيةٌ ، وكذا قالوا في قوله : { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقيل : تقديرُه حتى إذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابُها ، يعني أنَّ الجوابَ بلفظِ الشرطِ ولكنه بزيادةِ تقييده بالحالِ فلذلك صَحَّ .

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)

قوله : { نَتَبَوَّأُ } : جملةٌ حاليةٌ ، و « حيثُ » مفعولٌ به . ويجوز أن تكونَ ظرفاً على بابِها ، وهو الظاهرُ .

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

قوله : { حَآفِّينَ } : جمعُ حافّ ، وهو المُحْدِقُ بالشيءِ ، مِنْ حَفَفْتُ بالشيءِ إذا أَحَطْتُ به قال :
3906 يَحُفُّه جانبا نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ ... مثلَ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ
وهو مأخوذٌ من الحِفاف وهو الجانبُ . قال الشاعر :
3907 له لَحَظاتٌ عن حِفافي سَرِيْرِه ... إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائل
وقال الفراء وتبعه الزمخشري : « لا واحدَ ل حافِّين » وكأنهما رَأَيا أنَّ الواحدَ لا يكون حافًّا؛ إذِ الحُفُوْفُ هو الإِحداقُ بالشيء والإِحاطةُ به ، وهذا لا يتحقَّق إلاَّ في جمعٍ .
قوله : « مِنْ حَوْلِ » في « مِنْ » وجهان أحدُهما - وهو قولُ الأخفش - أنها مزيدةٌ . والثاني : أنها للابتداءِ ، والضميرُ في « بينهم » إمَّا للملائكةِ ، وإمَّا للعبادِ ، و « يُسَبِّحون » حالٌ من الضمير في « حافِّين » .

حم (1)

بسم الله الرحمن الرحيم قوله : { حم} : كقوله : { الم } وبابه . وقرأ الأخَوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة حاء في السورِ السبعِ إمالةً محضةً وورش وأبو عمرو بالإِمالة بينَ بينَ ، والباقون بالفتح . والعامَّةُ على سكونِ الميم كسائرِ الحروفِ المقطعة . وقرأ الزهري برفعِ الميم على أنَّها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو مبتدأٌ والخبرُ ما بعدها . وابن أبي إسحاق وعيسى بفتحِها ، وهي تحتملُ وجهين ، أحدهما : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : اقرأ حم ، وإنما مُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ ، أو للعلميَّة وشبهِ العُجمة . وذلك أنه ليس في الأوزان العربيةِ وزنُ فاعيل بخلافِ الأعجمية ، نحو : قابيل وهابيل . والثاني : أنها حركةُ بناءٍ تخفيفاً ك أينَ وكيف . وفي احتمال هذين الوجهين قولُ الكميت :
3908 وَجَدْنا لكم في آلِ حَمَ آيةً ... تَأَوَّلَها منا تقيٌّ ومُعْرِبُ
وقول شريح بن أوفى :
3909 يُذَكِّرُني حمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ... فهلا تلا حمَ قبلَ التقدُّمِ
وقرأ أبو السَّمَّال بكسرِها ، وهل يجوزُ أَنْ تُجْمَعَ « حم » على حواميم ، نَقَل ابنُ الجوزي عن شيخِه الجواليقي أنه خطأٌ ، بل الصوابُ أَنْ يقولَ : قَرَأْتُ آلَ حم . وفي الحديث عن ابن مسعود عنه عليه السلام : « إذا وَقَعْتَ في آلِ حم وَقَعْتَ في رَوْضَاتٍ » وقال الكميت :
3910 وَجَدْنا لكم في آلِ حم . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . ومنهم مَنْ جَوَّزَه . ورُويَ في ذلك أحاديثُ منها : « الحواميم ديباجُ القرآن » ومنها : « مَنْ أرادَ أَنْ يرتعَ في رياضٍ مُوْنَقَةٍ من الجنة فليقرأْ الحواميم » ومنها : « مَثَلُ الحواميم في القرآن مَثَلُ الحَبِرات في الثياب » فإنْ صَحَّتْ هذه الأحاديثُ فهي الفَيْصَلُ في ذلك .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)

قوله : { تَنزِيلُ } : إمَّا خبرٌ ل « حَم » إنْ كانت مبتدأً ، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، وإمَّا مبتدأٌ . وخبرُه الجارُّ بعدَه .

غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

قوله : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } في هذه الأوصافِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها كلَّها صفاتٌ للجلالة كالعزيز العليم . وإنما جازَ وَصْفُ المعرفةِ بهذه وإنْ كانَتْ إضافتُها لفظيةً؛ لأنه يجوزُ أَنْ تُجْعَلَ إضافتُها معنويةً فتتعرَّفَ بالإِضافةِ . نَصَّ سيبويه على أنَّ كلَّ ما إضافتُه غيرُ مَحْضةٍ جاز أن يُجْعَلَ مَحْضةً ، وتُوصفَ به المعارفُ ، إلاَّ الصفةَ المشبهةَ ، ولم يَسْتَثْنِ غيرُه شيئاً وهم الكوفيون . يقولون في نحو : « حَسَنُ الوجهِ » إنه يجوزُ أن تصيرَ إضافتُه محضةً . وعلى هذا فقولُه « شديد العقابِ » من بابِ الصفةِ المشبهةِ فكيف أجزْتَ جَعْلَه صفةً للمعرفة وهو لا يَتَعَرَّفُ بالإِضافة؟
والجواب : إمَّا بالتزامِ مَذْهَبِ الكوفيين : وهو أنَّ الصفةَ المشبهةَ يجوزُ أَنْ تَتَمَحَّضَ إضافتُها أيضاً ، فتكونَ معرفةً ، وإمَّا بأنَّ شديداً بمعنى/ مُشَدِّد ك أَذِيْن بمعنى مُؤَذِّن فتتمحَّضُ إضافتُه .
الثاني : أَنْ يكونَ الكلُّ أبدالاً لأنَّ إضافتَها غيرُ محضةٍ ، قاله الزمخشري . إلاَّ أنَّ الإِبدال بالمشتقِّ قليلٌ جداً ، إلاَّ أن يُهْجَرَ فيها جانبُ الوصفية .
الثالث : أَنْ يكونَ « غافر » و « قابل » نعتَيْن و « شديد » بدلاً ، لِما تقدَّم : مِنْ أنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تتعرَّفُ بالإِضافة ، قاله الزجَّاج . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : « جَعْلُ الزجَّاجِ » شديد العقاب « وحدَه بدلاً من الصفاتِ ، فيه نُبُوٌّ ظاهرٌ ، والوجهُ أن يُقال : لَمَّا صُودِفَ بين هذه المعارفِ هذه النكرةُ الواحدةُ فقد آذنَتْ بأنَّ كلَّها أبدالٌ غيرُ أوصافٍ . ومثالُ ذلك قصيدةٌ جاءت تفاعيلُها كلُها على مستفعلن فهي محكومٌ عليها أنها من الرَجَز ، وإنْ وقع فيها جزءٌ واحدٌ على مَتَفاعلن كانت من الكامِل » . وقد ناقشه الشيخ فقال : « ولا نُبُوَّ في ذلك لأنَّ الجَرْيَ على القواعِدِ التي قد استقرَّتْ وصَحَّتْ هو الأصلُ وقوله : » فقد آذنَتْ بأنَّ كلّها أبدالٌ « تركيبٌ غيرُ عربيٍ؛ لأنه جَعَل » فقد آذنَتْ « جوابَ لَمَّا ، وليس من كلامهم » لَمَّا قام زيدٌ فقد قام عمروٌ « . وقولُه : بأنَّ كلَّها أبدْالٌ فيه تكريرٌ للأبدالِ . أمَّا بَدَلُ البَداءِ عند مَنْ أثبتَه فقد تكرَّرَتْ فيه الأبدالُ . وأمَّا بدلُ كلٍ مِنْ كل وبعضٍ مِنْ كل وبدلُ اشتمالٍ فلا نصَّ عن أحد من النحويين أَعْرِفُه في جوازِ التكرارِ فيها أو مَنْعِه . إلاَّ أنَّ في كلامِ بعضِ أصحابِنا ما يَدُلُّ على أنَّ البدلَ لا يُكَرَّرُ ، وذلك في قول الشاعر :
3911 فإلى ابنِ أُمِّ أُناسٍ أَرْحَلُ ناقتي ... عمْروٍ فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِه ... عَرَفُوا موارِدَ مُزْبِدٍ لا يُنْزَفُ
قال : » فَ « مَلكٍ » بدلٌ مِنْ « عمرو » بدلُ نكرةٍ مِنْ معرفة قال : « فإنْ قلتَ : لِمَ لا يكونُ بدلاً من » ابن أمِّ أناسٍ؟ « قلت : لأنَّه أبدلَ منه عَمْراً ، فلا يجوزُ أَنْ يُبْدَلَ منه مرة أخرى لأنَّه قد طُرِحَ » انتهى .

قال الشيخ : « فَدَلَّ هذا على أنَّ البدلَ لا يتكَرَّرُ ويَتَّحد المبدلُ منه ، ودَلَّ على أنَّ البدلَ من البدلِ جائزٌ » . قلت : وقد تقدَّم له هذا البحثُ آخرَ الفاتحةِ عند قوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] فعليك بمراجعته قال : « وقولُه تفاعيلُها هو جمعُ تِفْعال أو تَفْعُول أو تُفْعُول أو تَفْعيل وليس شيءٌ منها معدوداً من أجزاء العَروض فإنَّ أجزاءَه منحصرةٌ ليس فيها شيءٌ من هذه الأوزانِ ، فصوابُه أَنْ يقولَ : جاءت أجزاؤُها كلُّها على مُستفعلن » .
وقال الزمخشري أيضاً : « ولقائل أَنْ يقولَ : هي صفاتٌ وإنما حُذِفت الألفُ واللامُ مِنْ » شديد « ليزاوجَ ما قبلَه وما بعدَه لفظاً فقد غَيَّروا كثيراً مِنْ كلامِهم عن قوانينِه لأجلِ الازدواجِ ، فقالوا : » ما يعرف سحادليه مِنْ عبادليه « فَثَنُّوا ما هو وِتْرٌ لأجلِ ما هو شَفْعٌ . على أن الخليلَ قال في قولهم : » ما يَحْسُنُ بالرجلِ مثلِك أَنْ يَفْعل ذلك « و » ما يَحْسُن بالرجلِ خيرٍ منك « إنه على نيةِ الألفِ واللامِ ، كما كان » الجَمَّاء الغفير « على نيةِ طرحِ الألفِ واللامِ . ومما سهَّل ذلك الأمنُ من اللَّبْسِ وجَهالَةُ الموصوفِ » . قال الشيخُ : « ولا ضرورةَ إلى حَذْفِ أل مِنْ » شديد العقاب « وتشبيهُه بنادرٍ مُغَيَّرٍ وهو تثنيةُ الوِتْر لأجلِ الشَّفْعِ ، فيُنَزَّه كتابُ اللَّهِ عن ذلك » . قلت : أمَّا الازدواجُ - وهو المشاكلة - من حيث هو فإنه واقعٌ في القرآن ، مضى لك منه مواضعُ .
وقال الزمخشري أيضاً : « ويجوزُ أَنْ يقالَ : قد تُعُمِّد تنكيرُه وإبهامُه للدلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ وعلى ما لا شيءَ أَدْهَى منه وأَمَرُّ لزيادةِ الإِنذار . ويجوز أَنْ يُقالَ : هذه النكتةُ هي الداعيةُ إلى اختيار البدلِ على الوصفِ ، إذا سُلِكَتْ طريقةُ الإِبدالِ » انتهى . وقال مكي : « يجوزُ في » غافر « و » قابل « البدلُ على أنهما نكرتان لاستقبالِهما ، والوصفُ على أنهما معرفتان لمُضِيِّهما » .
وقال فخر الدين الرازي : « لا نِزاعَ في جَعْل غافر وقابِل صفةً ، وإنما كانا كذلك لأنهما يُفيدان معنى الدَّوامِ والاستمرارِ ، فكذلك » شديدُ العقابِ « يُفيدُ ذلك؛ لأنَّ صفاتِه مُنَزَّهةٌ عن الحدوث والتجدُّدِ فمعناه كونُه بحيث شديدٌ عقابُه . وهذا المعنى حاصلٌ أبداً لا يُوْصَف/ بأنَّه حَصَلَ بعد أَنْ لم يكنْ » .
قال الشيخ : « وهذا كلامُ مَنْ لم يَقِفْ على علمِ النحوِ ولا نظرَ فيه ويَلْزَمُه أَنْ يكونَ { حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] و { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] معارفَ لتنزيهِ صفاتِه عن الحُدوثِ والتجدُّدِ ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْصُلْ بعد أَنْ لم تكنْ ، ويكونُ تعريفُ صفاتِه بأل وتنكيرُها سواءً ، وهذا لا يقولُه مُبْتدئ في علم النحو ، بَلْهَ أَنْ يُصَنِّفَ فيه ويُقْدِمَ على تفسيرِ كتابِ اللَّهِ تعالى » انتهى .

وقد سُرِدَتْ هذه الصفاتُ كلُّها مِنْ غير عاطفٍ إلاَّ « قابِل التوب » قال بعضهم : « وإنما عُطِفَ لاجتماعِهما وتلازُمِهما وعَدَمِ انفكاكِ أحدِهما عن الآخر ، وقَطَعَ » شديدِ « عنهما فلم يُعْطَفْ لانفرادِه » . قال الشيخ : « وفيه نَزْعَةٌ اعتزاليَّةٌ . ومَذْهَبُ أهلِ السنة جوازُ الغفران للعاصي وإن لم يَتُبْ إلاَّ الشركَ » . قلت : وما أبعده عن نزعةِ الاعتزال . ثم أقول : التلازمُ لازمٌ مِنْ جهةِ أنه تعالى متى قَبِل التوبة فقد غَفَرَ الذنب وهو كافٍ في التلازم .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما بالُ الواوِ في قولِه : » وقابلِ التَّوْبِ؟ « قلت : فيها نُكْتةٌ جليلةٌ : وهي إفادةُ الجمعِ للمذنب التائبِ بين رحمتين : بين أَنْ يَقْبَلَ توبتَه فيكتبَها طاعةً من الطاعات وأنْ يجعلَها مَحَّاءةً للذنوب كمَنْ لم يُذْنِبْ كأنه قال : جامع المغفرةِ والقَبول » انتهى .
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبرازِ هذه المعاني الحسنةِ . قال الشيخ : « وما أكثرَ تبجُّجَ هذا الرجلِ وشَقْشَقَتَه والذي أفاد أن الواوَ للجمعِ ، وهذا معروفٌ من ظاهرِ عَلِمِ النحوِ » . قلت : وقد أنشدني بَعضُهم :
3912 وكم مِنْ عائبٍ قَوْلاً صحيحاً ... وآفَتُه من الفَهْمِ السَّقيمِ
وقال آخر :
3913 قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ... ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
والتَّوْبُ : يُحتمل أَنْ يكونَ اسماً مفرداً مُراداً به الجنسُ كالذَّنْب ، وأَنْ يكونَ جمعاً لتَوْبة كتَمْرٍ وتَمْرَة . و « ذي الطَّوْلِ » نعتٌ أو بدلٌ كما تقدَّمَ . والطَّوْلُ : سَعَةُ الفَضْلِ .
و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يجوزُ أَنْ يكون مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وقال أبو البقاء : « يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً » ، وعلى هذا ظاهرُه فاسدٌ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ صفةً للمعارفِ . ويمكنُ أَنْ يريدَ أنه صفةٌ ل « شديد العقاب » لأنَّه لم يتعرَّفْ عنده بالإِضافةِ . والقولُ في « إليه المصيرُ » كالقولِ في الجملةِ قبله ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الجملةِ قبلَه .

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)

وقرأ العامَّةُ « فلا يَغْرُرْكَ » بالفكِّ ، وهي لغةُ الحجازِ . وزيد ابن علي وعبيد بن عُمَيْر « فلا يَغُرَّكَ » بالإِدغامِ مفتوحَ الراءِ ، وهي لغةُ تميمٍ .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)

وقرأ عبد الله « برَسولها » أعاد الضميرَ على لفظ « أُمَّة » . والجمهورُ على معناها ، وفي قوله : « ليَأْخُذوه » عبارةٌ عن المُسَبَّبِ بالسبب؛ وذلك أنَّ القَتْلَ مُسَبَّبٌ عن الأَخْذِ ، ومنه قيل للأسير : « أَخِيْذ » . وقال :
3914 فإمَّا تَأْخُذُوني تَقْتُلوني ... فكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلودي
وقوله : « عِقابِ » فيه اجتزاءٌ بالكسرةِ عن ياء المتكلم وصلاً ، ووقفاً ، لأنَّها رأسُ فاصلةٍ .

وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

قوله : { وَكَذَلِكَ } : تحتمل الكافُ أَنْ تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ أي : والأمرُ كذلك ، ثم أخبر بأنه حَقَّتْ كلمةُ اللَّهِ عليهم بالعذاب ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثلَ ذلك الوجوبِ مِنْ عقابِهم وَجَبَ على الكفرةِ .
وقوله : « أنهم أصحابُ » يجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي : لأنَّهم ، فَحَذَفَ ، فيجري في محلِّها القولان . ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ « كلمةُ » . وقد تقدَّم خلافُهم في إفراد « كلمة » وجَمْعِها .

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)

قوله : { الذين يَحْمِلُونَ } : مبتدأٌ « ويُسَبِّحون » خبرُه .
والعامَّةُ على فتح عين « العَرْش » . وابن عباس في آخرين بضمها فقيل : يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً ل « عَرْش » ك سُقْف في سَقْف .
وقوله : « ومَنْ حَوْلَه » يَحْتمل أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ عطفاً على « الذين يَحْملون » أَخْبر عن الفريقين بأنهم يُسَبِّحون ، وهذا هو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ منصوبَ المحلِّ عَطْفاً على العرش ، يعني أنَّهم يَحْملون أيضاً الملائكةَ الحافِّين بالعرشِ . وليس بظاهرٍ .
قوله : « رَبَّنا » / معمولٌ لقولٍ مضمرٍ تقديرُه : يقولون ربَّنا . والقولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « يَسْتَغْفرون » أو خبرٌ بعد خبرٍ ، و « رحمةً وعِلْماً » تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ، أي : وسِع كلَّ شيءٍ رحمتُك وعِلْمُك .

رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)

قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } : قد تقدَّمَ نظيرُها في مريم . والعامَّةُ على « جناتِ » جمعاً ، والأعمش وزيد بن علي « جنة » بالإِفراد .
قوله : « ومَنْ صَلَحَ » في محلِّ نصبٍ : إمَّا عطفاً على مفعولِ « أدْخِلْهُمْ » ، وإمَّا على مفعولِ « وَعَدْتَهم » . وقال الفراء والزجاج : « نصبُه مِنْ مكانَيْنِ : إنْ شئتَ على الضميرِ في » أَدْخِلْهم « ، وإنْ شِئْتَ على الضميرِ في وَعَدْتَهم » .
والعامَّةُ على فتحِ لامِ « صَلَح » يقال : صَلُح فهو صالحٌ . وابنُ أبي عبلة بضمِّها يُقال : صَلَح فهو صَليح . والعامَّةُ على « ذُرِّيَّاتهم » جمعاً . وعيسى « وذُرِّيَّتهم » إفراداً .

وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } : التنوينُ عِوَضٌ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ ، ولكنْ ليس في الكلامِ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها ، عُوِّض منها هذا التنوينُ ، بخلافِ قولِه : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] أي : حينَ إذْ بَلَغَتِ الحلقومَ ، لتقدُّمِها في اللفظِ ، فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ جملةٍ ، يكون هذا عوضاً منها تقديرُه : يوم إذْ يُؤَاخَذُ بها .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)

قوله : { إِذْ تُدْعَوْنَ } : منصوبٌ بمقدرٍ ، يَدُلُّ عليه هذا الظاهرُ ، تقديرُه : مَقْتِكم إذ تُدْعَوْن . وقَدَّره بعضُهم : اذكُروا إذْ تُدْعَوْن . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ يكونَ منصوباً بالمَقْتِ الأول . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ . وقال : « هذا مِنْ ظواهرِ علمِ النحوِ التي لا تكاد تَخْفَى على المبتَدِئ فَضْلاً عَمَّنْ يُدْعَى من العجم أنه شيخُ العربِ والعَجَم » . قلت : مثلُ هذا لا يَخْفى على أبي القاسم ، وإنما أراد أنه دالٌّ على ناصبِه ، وعلى تقديرِ ذلك فهو مذهبٌ كوفيٌّ قال به ، أو لأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره . وأيُّ غُموضٍ في هذا حتى يُنْحِي عليه هذا الإِنْحاءَ؟ ولله القائلُ :
3915 حَسَدُوا الفتى إذ لم يَنالُوا سَعْيَه ... فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ
كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لِوَجْهها ... كَذِباً وزُوْراً إنه لدَمِيمُ
وهذا الردُّ سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : « ولا يجوزُ أن يَعْمَلَ فيه » مَقْتُ الله « لأنه مصدرٌ أُخْبِرَ عنه ، وهو قولُه : » أكبرُ « . فمِنْ ثَمَّ أَخَذه الشيخُ . ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ بالمَقْتِ الثاني؛ لأنهم لم يَمْقُتوا أنفسَهم وَقْتَ دعائِهم إلى الإِيمان ، إنما مَقَتُوها يومَ القيامةِ . والظاهرُ أنَّ مَقْتَ اللَّهِ واقعٌ في الدنيا . وجَوَّزَ الحسنُ أَنْ يكون في الآخرة . وضَعَّفه الشيخُ : بأنه » يَبْقى « إذْ تُدْعَوْن » مُفْلَتاً من الكلامِ؛ لكونِه ليس له عاملٌ مقدمٌ ولا ما يُفَسِّر عاملاً . فإذا كان المَقْتُ في الدنيا أَمْكَنَ أَنْ يُضْمَرَ له عاملٌ تقديرُه : مَقْتِكم « . قلت : وهذا التجرُّؤُ على مثلِ الحسنِ يُهَوِّنُ عليك تَجَرُّؤَه على الزمخشريِّ ونحوهِ .
واللامُ في » لَمَقْتُ « لامُ ابتداءٍ أو قسمٍ . ومفعولُه محذوفٌ أي : لمقتُ اللَّهِ إياكم أو أنفسَكم ، فهو مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه كالثاني . ولا يجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع في » أنفسَكم « بين المقتَيْن لئلا يَلزمَ الفصلُ بالخبرِ بين المَقْتِ الأول ومعمولِه على تقديرِ إعمالِه ، لكنْ قد اختلف النحاةُ في مسألةٍ : وهي التنازعُ في فِعْلَيْ التعجب ، فَمَنْ مَنَعَ اعتَلَّ بما ذكرْتُه؛ لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه . ومَنْ جَوَّزَ قال : يُلتزم إعمالُ الثاني؛ حتى لا يَلْزَمَ الفَصْلُ . فليكُنْ هذا منه . والحقُّ عدمُ الجوازِ فإنَّه على خلافِ قاعدةِ التنازع .

ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

قوله : { وَحْدَهُ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، وجاز كونُه معرفة لفظاً لكونِه في قوةِ النكرةِ كأنه قيل : منفرداً . والثاني : - وهو قولُ يونس - أنه منصوبٌ على الظرفِ ، والتقدير : دُعِي على حِيالِه ، وهو مصدرٌ محذوفُ الزوائدِ والأصلُ : أَوْحَدْتُه إيحاداً .

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)

قوله : { رَفِيعُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ مبتدأً والخبرُ « ذو العرشِ » ، و « يُلْقي الروحَ » / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكونَ حالاً ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لمبتدأ محذوفٍ . ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لقولِه : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } . قال الزمخشري : « ثلاثةُ أخبارٍ يجوزُ أَنْ تكونَ مترتبةً على قولِه : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ، أو أخبارَ مبتدأ محذوفٍ وهي مختلفةٌ تعريفاً وتنكيراً » . قلت : أمَّا الأولُ ففيه طولُ الفَصْلِ وتعدُّدُ الأخبارِ ، وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ . وأمَّا الثاني ففيه تَعدُّدُ الأخبارِ وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ ، وهي مسألةُ خلافٍ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « ذو العرش » صفةً ل « رفيعُ الدرجاتِ » إنْ جَعَلْناه صفةً مشبهةً ، أمَّا إذا جَعَلْناه مثالَ مبالغةٍ ، أي : يرفع درجاتِ المؤمنين ، فيجوزُ ذلك على أَنْ تُجْعَلَ إضافتُه مَحْضَةً ، وكذلك عند مَنْ يُجَوِّزُ تمحُّضَ إضافةِ الصفةِ المشبهة أيضاً ، وقد تقدَّمَ .
وقُرِئ « رفيعَ » بالنصبِ على المدح ، و « مِنْ أَمْرِه » متعلِّقٌ ب « يُلْقِي » و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . ويجوزُ أَن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « الروح » .
قوله : « لِيُنْذِرَ » العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ ، ونصبِ اليوم . والفاعلُ هو اللَّهُ تعالى أو الروح أو مَنْ يشاء أو الرسول . ونَصْبُ اليوم : إمَّا على الظرفيَّةِ . والمُنْذَرُ به محذوفٌ تقديرُه : ليُنْذِرَ بالعذابِ يومَ التَّلاق ، وإمَّا على المفعول به اتِّساعاً في الظرفِ .
وقرأ أُبَيٌّ وجماعةٌ كذلك ، إلاَّ أنه رَفَع اليوم على الفاعليَّةِ مجازاً أي : ليُنْذِر الناسَ العذابَ يومُ التلاق . وقرأ الحسن واليمانيُّ « لِتُنْذِرَ » بالتاءِ من فوقُ . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الفاعلَ ضميرُ المخاطبِ ، وهو الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم . والثاني : أنَّ الفاعلَ ضميرُ الروحِ فإنَّها مؤنثةٌ على رَأْيٍ . وقرأ اليمانيُّ أيضاً « لِيُنْذَرَ » مبنياً للمفعول ، « يومُ » بالرفعِ ، وهي تُؤَيِّدُ نصبَه في قراءةِ الجمهورِ على المفعولِ به اتِّساعاً .
وأثبت ياءَ « التلاقي » وَصْلاً ووَقْفاً ابن كثير وأَثْبَتها في الوقف دونَ الوصل - مِنْ غير خِلافٍ - ورشٌ ، وحَذَفها الباقون وَصْلاً ووقفاً ، إلاَّ قالونَ فإنه رُوِيَ عنه وجهان : وجهٌ كورش ، ووجهٌ كالباقين ، وكذلك هذا الخلافُ بعينِه جارٍ في { يَوْمَ التناد } [ غافر : 32 ] . وقد تقدَّم توجيهُ هذَيْن الوجهَيْن في الرعد في قولِه : { الكبير المتعال } [ الرعد : 9 ] .

يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)

قوله : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } : في « يوم » أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه بدلٌ مِنْ « يوم التلاق » بدلُ كل مِنْ كل . الثاني : أَنْ ينتصِبَ بالتلاق أي : يقع التلاقي في يومِ بُروزِهم . الثالث : أنْ ينتصِبَ بقولِه : { لاَ يخفى عَلَى الله } ، ذكره ابنُ عطيةَ ، وهذا على أحدِ الأقوالِ الثلاثةِ في « لا » : هل يعملُ ما بعدَها فيما قبلها؟ ثالثها : التفصيلُ بين أَنْ تقعَ جوابَ قسمٍ فيمتنعَ ، أو لا فيجوزَ . فيجوزُ هذا على قولين من هذه الأقوالِ . الرابع : أن ينتصِبَ بإضمار « اذكُرْ » . و « يومَ » ظرفٌ مستقبلٌ ك « إذا » . وسيبويه لا يرى إضافةَ الظرفِ المستقبلِ إلى الجمل الاسمية ، والأخفشُ يراه ، ولذلك قدَّر سيبويه في قولِه : { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] ونحوهِ فعلاً قبل الاسم ، والأخفشُ لم يُقَدِّرْه ، وعلى هذا فظاهرُ الآيةِ مع الأخفش . ويُجاب عن سيبويه : بأنَّ « هم » ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره اسمُ الفاعل أي : يومَ برزوا ، ويكون « بارِزون » خبرَ مبتدأ مضمر فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل الضميرُ فبقي كما ترى ، وهذا كما قالوا في قوله :
3916 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
في أنَّ « حَلْقي » مرفوعُ فعلٍ يُفَسِّره « شَرِقٌ » لأنَّ « لو » لا يَليها إلاَّ الأفعالُ ، وكذا قولُه :
3917 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهَلاَّ نَفْسُ لَيْلى شَفيعُها
لأنَّ « هَلاَّ » لا يَليها إلاَّ الأفعالُ ، فالمُفَسَّرُ في هذه المواضعِ أسماءٌ مُسْبَقَةٌ ، وهو نظيرُ « أنا زيداً ضاربُه » من حيث التفسيرُ . وحركة « يومَ هم » حركةُ إعرابٍ على المشهورِ . ومنهم مَنْ جَوَّزَ بناءَ الظرفِ ، وإنْ أضيف إلى فعلٍ مضارعٍ أو جملة اسميةٍ ، وهم الكوفيون . وقد وَهِم/ بعضُهم فحتَّم بناءَ الظرفِ المضافِ للجملِ الاسمية . وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّمَ أنه لا يُبْنَى عند البصريين إلاَّ ما أُضيف إلى فعلٍ ماض ، كقولِه :
3918 على حينَ عاتَبْتَ المشيبَ على الصِّبا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم هذا مستوفىً في آخره المائدة . وكتبوا « يومَ هم » هنا وفي الذاريات منفصلاً ، وهو الأصلُ .
قوله : « لا يَخْفَى » يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ حالاً من ضميرِ « بارِزون » وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً .

الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

قوله : { اليوم } : ظرفٌ لقولِه « لِمَن المُلْكُ » ، و [ يجوز ] أَنْ يكونَ ظرفاً للجارِّ بعده؛ لأنَّ التقدير : المُلْكُ لله ، فهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، واليومَ معمولٌ ل « تُجْزَى » ، و « اليومَ » الأخير خبرُ « لا ظلمَ » .

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)

قوله : { يَوْمَ الأزفة } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به اتِّساعاً ، وأَنْ يكونَ ظرفاً ، والمفعولُ محذوفٌ . والآزِفَةُ : القريبةُ ، مِنْ أَزِفَ الشيءُ ، أي : قَرُبَ . قال النابغةُ :
3919 أَزِف التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لَمَّا تَزَلْ برِحالِنا وكأنْ قَدِ
وقال كعبُ بن زهير :
3920 بان الشبابُ وهذا الشيبُ قد أَزِفا ... ولا أرَى لشبابٍ بائنٍ خلفا
وقال الراغب : « أَزِفَ وأَفِدَ يتقارَبان ، لكنَّ » أَزِفَ « يقال اعتباراً بضيقِ وقتِها . ويقال : أزِفَ الشُّخوصُ . والأَزَفُ : ضيقُ الوقت » ، قلت : فجَعَلَ بينهما فَرْقاً ، ويُرْوَى بيتُ النابغة : أَفِدَ الترحُّلُ . والآزِفَةُ : صفةٌ لمحذوفٍ ، فيجوز أَنْ يكونَ التقديرُ : الساعة الآزِفَةُ أو الطامَّةُ الآزِفة .
قوله : « إذ القلوبُ » بدْلٌ من يومِ الآزِفةِ ، أو مِنْ « هم » في « أَنْذِرْهُمْ » بدلُ اشتمالٍ .
قوله : « كاظِمين » نصبٌ على الحالِ . واختلفوا في صاحبها والعاملِ فيها . وقال الحوفي : « القلوبُ » مبتدأ . و « لدى الحناجِر » خبرُه ، و « كاظمين » حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه « . قلت : ولا بُدَّ مِنْ جوابٍ عن جمعِ القلوبِ جمعَ مَنْ يَعْقِل : وهو أنْ يكونَ لَمَّا أَسْند إليهم ما يُسْنَدُ للعقلاءِ جُمِعَتْ جَمْعَه ، كقولِه : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] ، { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] . الثاني : أنها حالٌ من » القلوب « . وفيه السؤالُ والجوابُ المتقدِّمان . الثالث : أنه حالٌ من أصحاب القلوب . قال الزمخشري : » هو حالٌ مِنْ أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى : إذْ قلوبُهم لدى الحناجر كاظمين عليها « . قلت : فكأنَّه في قوةِ أنْ جَعَلَ أل عِوَضاً من الضمير في حناجرهم : الرابع : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ » هم « في » أَنْذِرْهم « ، وتكونُ حالاً مقدرةً؛ لأنهم وقتَ الإِنذارِ غيرُ كاظمين .
وقال ابن عطية : » كاظِمين حالٌ ممَّا أُبْدِلَ منه « إذ القلوب » أو ممَّا تُضاف القلوبُ إليه؛ إذ المرادُ : إذ قلوبُ الناس لدى حناجرِهم ، وهذا كقولِه : { تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] أراد : تَشْخَصُ فيه أبصارُهم « . قلت : ظاهرُ قولِه أنه حالٌ ممَّا أُبْدِل منه .
قوله : » إذ القلوبُ « مُشْكِلٌ؛ لأنه أُبْدِل مِنْ قوله : » يومَ الآزِفَة « وهذا لا يَصِحُّ البتةَ ، وإنما يريد بذلك على الوجه الثاني : وهو أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ » هم « في » أَنْذِرْهُمْ « بدلَ اشتمالٍ ، وحينئذ يَصِحُّ . وقد تقدَّم الكلامُ على الكَظْمِ ، والحناجر ، في آل عمران والأحزاب .
قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } » يُطاعُ « يجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ نعتاً على اللفظِ ، وبالرفعِ نعتاً على المحلِّ؛ لأنه معطوفٌ على المجرور بمِنْ المزيدةِ .
وقوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } مِنْ باب :
3921 على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : لا شفيعَ فلا طاعةَ ، أو ثَمَّ شفيعٌ ولكن لا يُطاعُ .

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)

قوله : { يَعْلَمُ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو الظاهر - أنه خبرٌ آخرُ عن « هو » في قوله : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بِمَ اتَّصلَ قولُه : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } ؟ قلت : هو خبرٌ من أخبارِ » هو « في قولِه : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ } مثل : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ } [ غافر : 15 ] ولكنْ » يُلْقي الروحَ « قد عُلِّلَ بقولِه : » لِيُنْذِرَ « ثم استطرد لذِكْرِ أحوالِ يومِ التَّلاقِ إلى قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } فبَعُدَ لذلك عن أخواته » .
الثاني : أنه مُتَّصلٌ بقولِه : « وأَنْذِرْهم » لَمَّا أُمِرَ بإنذاره يوم الآزفة وما يَعْرِضُ فيه مِنْ شدَّة الغمِّ والكَرْبِ ، وأنَّ الظالمَ لا يجدُ مَنْ يَحْميه ، ولا شفيعَ له ، ذَكَر اطِّلاعَه على جميع ما يَصْدُر مِنَ الخلقِ سِرّاً وجَهْراً . وعلى هذا فهذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها في قوة التعليلِ للأمرِ بالإِنذار .
الثالث : أنها متصلةٌ بقولِه { سَرِيعُ الحساب } [ غافر : 17 ] .
الرابع : أنها متصلة بقولِه : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] . وعلى هذين الوجهين فيُحْتمل أَنْ تكونَ جاريةً مَجْرَى العلةِ ، وأنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال .
وخائنةُ الأَعْيُن فيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ كالعافيةِ ، أي : يَعْلَمُ خيانةَ الأعين . / والثاني : أنها صفةٌ على بابِها ، وهو مِنْ بابِ إضافةِ الصفةِ للموصوفِ ، والأصلُ : الأعين الخائنة ، كقوله :
3922 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإن سَقَيْتِ كِرامَ الناسِ فاسْقِينا
وقد رَدَّه الزمخشريُّ وقال : « لا يَحْسُنُ أَنْ يُراد : الخائنة من الأعين؛ لأنَّ قولَه : { وَمَا تُخْفِي الصدور } لا يُساعِدُ عليه » يعني أنه لا يناسِبُ أن يقابلَ المعنى إلاَّ بالمعنى . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلِ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّمُ أنَّ « ما » في { وَمَا تُخْفِي الصدور } مصدريةٌ حتى يَلْزَمَ ما ذكره ، بل يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، وهو عبارةٌ عن نفس ذلك الشيءِ المَخْفِيِّ ، فيكونُ قد قابَلَ الاسمَ غيرَ المصدرِ بمثلهِ .

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

قوله : { والذين يَدْعُونَ } : قرأ نافع وهشام « تَدْعُون » بالخطاب للمشركين ، والباقون بالغَيْبة إخباراً عنهم بذلك .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)

قوله : { فَيَنظُرُواْ } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً في جواب الاستفهام ، وأَنْ يكونَ مجزوماً نَسَقاً على ما قبله كقولِه :
3923 ألم تَسْأَلْ فتُخْبِرْكَ الرُّسومُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رواه بعضُهم بالجزمِ والنصب .
قوله : « منهم قوةً » قرأ ابنُ عامرٍ « منكم » على سبيلِ الالتفاتِ ، والباقون بضميرِ الغَيْبة جَرْياً على ما سَبَقَ من الضمائرِ الغائبةِ .
قوله : « وآثاراً » عطفٌ على « قوةً » ، وهو في قوة قولِه : { يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ } [ الحجر : 82 ] ، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بمقدر قال : « أو أراد : وأكثرَ آثاراً كقولِه :
3924 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قد غدا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحا
يعني : ومُعْتَقِلاً رمحاً » . ولا حاجةَ إلى هذا مع الاستغناء عنه .

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)

قوله : { أَوْ أَن } : قرأ الكوفيون « أو أَنْ » بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً . وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ « يُظْهِرَ » بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر ، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام ، « الفسادَ » نصباً على المفعول به . والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر ، « الفسادُ » رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي « يُظْهَرَ » مبنياً للمفعول ، « الفسادُ » مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل . ومجاهد « يَظَّهَّرَ » بتشديد الظاء والهاء ، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء . و « الفسادُ » رفعٌ على الفاعلية . وفتح ابن كثير ياءَ { ذروني أَقْتُلْ موسى } وسَكَّنها الباقون .

وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

قوله : { عُذْتُ } : أدغم أبو عمروٍ والأخَوان ، وأظهروا الذال مع التاء ، والباقون بالإِظهار فقط . و « لا يُؤْمِنُ » صفةٌ لمتكبِّر .

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)

قوله : { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } : يُحتمل أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب « يَكْتُمُ » بعده أي : يكتمه مِنْ آلِ فرعون . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنَّه متعلق بمحذوفٍ صفةً لرجل . وجاء هنا على أحسنِ ترتيبٍ : حيث قَدَّمَ المفردَ ثم ما يَقْرُبُ منه وهو حرفُ الجرِّ ، ثم الجملةَ . وقد تقدم إيضاحُ هذه المسألةِ في المائدةِ وغيرِها . ويترتَّبُ على الوجهين : هل كان هذا الرجلُ مِنْ قَرابَةِ فرعونَ؟ فعلى الأولِ لا دليلَ فيه ، وعلى الثاني فيه دليلٌ . وقد رَدَّ بعضُهم الأولَ : بأنه لا يُقال : كَتَمْتُ مِنْ فلانٍ كذا ، إنما يقال : كَتَمْتُ فلاناً كذا ، فيتعدَّى لاثنين بنفسِه . قال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] . وقال الشاعر :
3925 كَتَمْتُكَ هَمَّاً بالجَمومَيْنِ ساهِراً ... وهَمَّيْن هَمَّاً مُسْتَكِنَّاً وظاهراً
أحاديثَ نَفْسٍ تشتكي ما برَبِّها ... ووِرْدَ هُمومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا
أي : كتمتُك أحاديثَ نفسٍ وهَمَّيْن ، فقدَّم المعطوفَ على المعطوفِ عليه ، ومحلُّه الشعرُ .
قوله : { أَن يَقُولَ رَبِّيَ } أي : كراهةَ أَنْ يقولَ أو لأَنْ يقولَ . والعامَّةُ على ضَمِّ عين « رَجُل » وهي الفصحى . والأعمش وعبد الوارث على تسكينها ، وهي لغةُ تميمٍ ونجد . وقال الزمخشري : « ولك أَنْ تُقَدِّرَ مضافاً محذوفاً أي : وقت أَنْ يقولَ . والمعنى : أتقتلونه ساعةَ سَمِعْتم منه هذا القولَ من غير رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ » . وهذا الذي أجازه رَدَّه الشيخ : بأنَّ تقديرَ هذا الوقتِ لا يجوزُ إلاَّ مع المصدرِ المُصَرَّحِ به تقول : جِئْتُكَ صياحَ الدِّيْكِ أي : وقتَ صِياحِه ، ولو قلت : أجيْئُك أنْ صاحَ الديكُ ، أو أَنْ يصيحَ ، لم يَصِحَّ . نصَّ عليه النحويون .
قوله : « وقد جاءَكم » جملةٌ حالية يجوز أَنْ تكونَ من المفعول . فإنْ قيلَ : هو نكرةٌ . / فالجوابُ : أنه في حيِّزِ الاستفهام وكلُّ ما سَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ سَوَّغ انتصابَ الحال عنها . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل .
قوله : { بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } « بعض » على بابِها ، وإنما قال ذلك ليهضِمَ موسى عليه السلام بعضَ حقه في ظاهرِ الكلام ، فيُرِيَهم أنه ليس بكلامِ مَنْ أعطاه حقه وافياً فَضْلاً أَنْ يتعصَّبَ له ، قاله الزمخشري . وهذا أَحسنُ مِنْ قولِ غيرِه : إنَّها بمعنى كل ، وأنشدوا قولَ لبيد :
3926 تَرَّاكُ أَمْكنةٍ إذا لم يَرْضَها ... أو يَرْتَبِطْ بعضُ النفوسِ حِمامُها
وأنشدوا قولَ عمرو بن شُيَيْم :
3927 قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكونُ مع المستعجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر :
3928 إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها ... دون الشيوخِ ترى في بعضِها خَلَلا
ولا أدري كيف فَهِموا الكلَّ من البيتين الأخيرين؟ وأَمَّا الأولُ ففيه بعضُ دليلٍ؛ لأنَّ الموتَ يأتي على الكلِّ . ولَمَّا حكى هذا الزمخشريُّ عن أبي عبيدة ، وأنشد عنه بيتَ لبيدٍ قال : « إن صَحَّتِ الروايةُ عنه فقد حَقَّ فيه قولُ المازني في مسألة العَلْقى : » كان أَجْفَى مِنْ أن يفقهَ ما أقولُ له « .

قلتُ : ومسألةُ المازني معه أنَّ أبا عبيدةَ قال للمازني : « ما أكذبَ النحويين!! يقولون : هاءُ التأنيثِ لا تدخل على ألفِ التأنيثِ وأن الألفَ في » عَلْقَى « مُلْحقة . قال : فقلت له : وما أنكرْتَ من ذلك؟ فقال : سَمِعْتُ رؤبةَ يُنْشِد :
3929 يَنْحَطُّ في عَلْقَى وفي مُكُوْرِ ... فلم يُنَوِّنْها . فقلتُ : ما واحدُ عَلْقى؟ قال : عَلْقاةٌ . قال المازني : فامتنعْتُ ولم أُفَسِّرْ له لأنه كان أَغْلظَ مِنْ أَنْ يفهمَ مثلَ هذا » قلت : وإنما استغلظَه المازنيُّ؛ لأنَّ الألفَ التي للإِلحاق تَدْخُل عليها تاءُ التأنيثِ دالةً على الوَحْدة فيقال : أَرْطى وأَرْطاة ، وإنما الممتنعُ دخولُها على ألفِ التأنيثِ نحو : دَعْوى وصَرْعى . وأمَّا عدمُ تنوين « عَلْقَى » فلأنَّه سَمَّى بها شيئاً بعينِه [ وألفُ الإِلحاقِ المقصورةُ حالَ العلميَّة تَجْري مَجْرى تاءِ التأنيث فيمتنعُ الاسمُ الذي هي فيه ، كما تمتنعُ فاطمة . وتَنْصَرِفُ قائمة ] .

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)

قوله : { ظَاهِرِينَ } : حالٌ من الضميرِ في « لكم » ، والعاملُ فيها وفي « اليومَ » ما تَعَلَّقَ به « لكم » .
قوله : « ما أُرِيْكُمْ » هي مِنْ رؤيةِ الاعتقادِ ، فتتعدَّى لمفعولَيْن ، ثانيهما { إِلاَّ مَآ أرى } .
قوله : « الرَّشادِ » العامَّةُ على تخفيفِ الشينِ مصدرَ رشَدَ يَرْشُدُ . وقرأ معاذ بن جبل بتشديدِها ، وخَرَّجها أبو الفتح وغيرُه على أنه صفةُ مبالغةٍ نحو : ضَرَب فهو ضرَّاب ، وقد قال النحاس : « هو لحنٌ ، وتَوَهَّمه من الرباعي » يعني أَرْشد . ورُدَّ على النحاس قولُه : بأنه يُحْتمل أَنْ يكونَ مِنْ رَشَدَ الثلاثي ، وهو الظاهرُ . وقد جاء فَعَّال أيضاً مِنْ أَفْعَل وإنْ كان لا يَنْقاسُ . قالوا : أَدْرَك فهو دَرَّاك وأَجْبَرَ فهو جَبَّار ، وأَقْصَر فهو قَصَّار ، وأَسْأَر فهو سَآَّر ، ويَدُلُّ على أنه صفةُ مبالغةٍ أنَّ معاذاً كان يُفَسِّرها بسبيل الله .
قال ابنُ عطية : « ويَبْعُدُ عندي على معاذ - رضي الله عنه - وهل كان فرعونُ يَدَّعي إلاَّ الإِلهيَّة؟ ويَقْلَقُ بناءُ اللفظِ على هذا التركيبِ » . قلت : يعني ابنُ عطية أنه كيف يقول فرعونُ ذلك ، فيُقِرُّ بأنَّ ثَمَّ مَنْ يهدي إلى الرشادِ غيرُه ، مع أنه يَدَّعي أنه إلهٌ؟ وهذا الذي عَزاه ابنُ عطية والزمخشري وابن جُبارة صاحب « الكامل » إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس في « الرشاد » الذي هو في كلامِ فرعونَ كما توهَّموا ، وإنما هو في « الرشاد » الثاني الذي مِنْ قول المؤمنِ بعد ذلك . ويَدُلُّ على ذلك ما قاله أبو الفضل الرازي في كتابه « اللوامح » : « معاذ بن جبل » سبيل الرشاد « ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسنُ ، وهو سبيلُ اللَّهِ تعالى الذي أوضحه لعبادِه ، كذلك فسَّره معاذ ، وهو منقولٌ مِنْ مُرْشِد كدَرَّاك مِنْ مُدْرِك وجَبَّار مِنْ مُجْبر ، وقَصَّار مِنْ مُقْصِر عن الأمر ، ولها نظائرُ معدودةٌ . فأمَّا » قَصَّار الثوب « مِنْ قَصَر الثوبَ قِصارةً » فعلى هذا يزولُ إشكالُ ابنِ عطية المتقدمُ ، وتتضح القراءةُ والتفسيرُ .
وقال أبو البقاء : « وهو الذي يَكْثُر منه الإِرشادُ أو الرُّشْدُ » يعني يُحْتمل أنه مِنْ أرشدَ الرباعيِّ أو رَشَد الثلاثي . والأَوْلَى أَنْ يكونَ من الثلاثيِّ لِما عَرَفْتَ أنه يَنْقاسُ دونَ الأول .

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)

قوله : { مِثْلَ دَأْبِ } : « مثل » يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً ، وأَنْ يكون عطفَ بيانٍ .

وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)

قوله : { يَوْمَ التناد } : قد تقدَّم الخلافُ/ في يائِه : كيف تُحذف وتُثْبَت؟ وهو مصدرُ « تَنادَى » نحو : تقاتَلَ تقاتُلاً . والأصلُ : تَنادُياً بضم الدالِ ولكنهم كسروها لتصِحَّ الياءُ . وقرأت طائفةٌ بسكون الدالِ إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ . وتنادَى القومُ أي : نادى بعضُهم بعضاً . قال :
3930 تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً ... فقُلْنا : عُبَيْدُ الله ذلكمُ الرَّدِي
وقال آخر :
3931 تنادَوْا بالرحيلِ غَداً ... وفي تَرْحالِهم نَفْسي
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدِها ، مصدرُ « تَنادَّ » مِنْ نَدَّ البعيرُ إذا هَرَبَ ونَفَرَ ، وهو في معنى قولِه تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] الآية . وفي الحديث : « إن للناسِ جَوْلةً يندُّون ، يظنُّون أنهم يَجِدُون مهرباً » وقال أمية بن أبي الصلت :
3932 وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ... فهُمْ سُكَّانُها حتى التنادي

يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

قوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من « يوم التَّناد » ، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني . ولا يجوزُ أَنْ يُعْطَفَ عطفَ بيان لأنه نكرةٌ ، وما قبله معرفةٌ . وقد تقدَّم لك في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] أنَّ الزمخشريَّ جعله بياناً مع تخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً ، وهو عكسُ ما نحن فيه ، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرةٌ ، والأولُ معرفةٌ .
قوله : { مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يجوزُ في « مِنْ عاصِمٍ » أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ لاعتمادِه على النفي ، وأَنْ يكون مبتدأ ، و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن . و « من الله » متعلقٌ ب « عاصِم » .

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)

قوله : { حتى إِذَا } : غايةٌ لقولِه : « فما زِلْتُمْ » . وقُرئ { ألَن يَبْعَثَ الله } بإدخالِ همزةِ التقرير ، يُقرِّر بعضُهم بعضاً .
قوله : « كذلك » أي : الأمر كذلك . « ويُضِلُّ الله » مستأنفٌ أو نعتُ مصدرٍ أي : مثلَ إضلالِ اللَّهِ إياكم - حين لم يَقْبَلوا مِنْ يوسفَ عليه السلام - يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ .

الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

قوله : { الذين يُجَادِلُونَ } يجوز فيه عشرةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ قولِه : { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } وإنما جُمِع اعتباراً بمعنى « مَنْ » . الثاني : أَنْ يكونَ بياناً له . الثالث : أَنْ يكونَ صفةً له . وجُمِع على معنى « مَنْ » أيضاً . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بإضمار أعني . الخامس : أَنْ يرتفعَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هم الذين . السادس : أَنْ يرتفعَ مبتدأً ، خبرُه « يَطْبَعُ اللَّهُ » . و « كذلك » خبرُ مبتدأ مضمرٍ أيضاً ، أي : الأمرُ كذلك . والعائدُ من الجملةِ وهي « يَطْبَعُ » على المبتدأ محذوفٌ ، أي : على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ منهم . السابع : أنْ يكونَ مبتدأً ، والخبر « كَبُرَ مَقْتاً » ، ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضاف ليعودَ الضميرُ مِنْ « كَبُرَ » عليه . والتقديرُ : حالُ الذين يُجادلون كَبُرَ مَقتاً ويكون « مَقْتاً » تمييزاً ، وهو مَنْقولٌ مِنَ الفاعليةِ إذ التقديرُ : كَبُرَ مَقْتُ حالِهم أي : حالِ المجادلين . الثامن : أَنْ يكونَ « الذين » مبتدأً أيضاً ، ولكن لا يُقَدَّرُ حَذْفُ مضافٍ ، ويكونُ فاعلُ « كَبُرَ » ضميراً عائداً على جدالِهم المفهومِ من قوله : « ما يُجادِلُ » . والتقدير : كَبُرَ جِدالُهم مَقْتاً . و « مَقْتاً » على ما تقدَّمَ أي : كَبُرَ مَقْتُ جدالِهم . التاسع : أَنْ يكونَ « الذين » مبتدأً أيضاً ، والخبرُ { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } . قاله الزمخشري : ورَدَّه الشيخ : بأنَّ فيه تفكيكَ الكلامِ بعضِه من بعضٍ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ « بغير سُلْطان » ب « يُجادلون » ، ولا يُتَعَقَّلُ جَعْلُه خبراً ل الذين لأنه جارٌّ ومجرورٌ ، فيصيرُ التقديرُ : الذين يُجادلون كائنون أو مستقرون بغيرِ سلطان ، أي : في غير سلطان؛ لأنَّ الباءَ إذ ذاك ظرفيةٌ خبرٌ عن الجُثَث . العاشر : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي : مُعانِدون ونحوه ، قاله أبو البقاء .
قوله : « كَبُرَ مَقْتاً » يُحْتمل أَنْ يُرادَ به التعجبُ والاستعظامُ ، وأَنْ يُرادَ به الذمُّ كبِئْس؛ وذلك أنه يجوزُ أَنْ يُبْنَى فَعُل بضمِّ العَيْن مِمَّا يجوزُ التعجُّبُ منه ، ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكامِ . وفي فاعلِه ستةُ أوجهٍ ، الأول : أنه ضميرٌ عائدٌ على حالِ المضافِ إلى الذين ، كما تقدَّم تقريرُه . / الثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهوم مِنْ « يُجادلون » كما تقدَّم أيضاً . الثالث : أنه الكافُ في « كذلك » . قال الزمخشري : « وفاعلُ » كَبُرَ « قولُه : » كذلك « أي : كَبُرَ مَقْتاً مثلُ ذلك الجدالِ ، ويَطْبع اللَّهُ كلامٌ مستأنفٌ » ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ فيه تَفْكيكاً للكلامِ وارتكابَ مذهبٍ ليس بصحيحٍ . أمَّا التفكيكُ فلأنَّ ما جاء في القرآن مِنْ « كذلك نَطْبَعُ » أو « يَطْبع » إنما جاء مربوطاً بعضُه ببعض فكذلك هذا ، وأمَّا ارتكابُ مذهبٍ غيرِ صحيح فإنه جَعَل الكافَ اسماً ولا تكونُ اسماً إلاَّ في ضرورةٍ ، خلافاً للأخفش .

الرابع : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، نقله الزمخشري . قال : « ومَنْ قال : كَبُرَ مَقْتاً عند الله جِدالُهم ، فقد حَذَفَ الفاعلَ ، والفاعلُ لا يصِحُّ حَذْفُه » . قلت : القائلُ بذلك الحوفيُّ ، لكنه لا يريدُ بذلك تفسيرَ الإِعراب ، إنما يريدُ به تفسيرَ المعنى ، وهو معنى ما قَدَّمْتُه مِنْ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهومِ مِنْ فعلِه ، فصَرَّح الحوفيُّ بالأصلِ ، وهو الاسمُ الظاهرُ ، ومرادُه ضميرٌ يعودُ عليه .
الخامس : أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على ما بعدَه ، وهو التمييزُ نحو : « نِعْمَ رَجُلاً زيدٌ » ، و « بئس غلاماً عمروٌ » . السادس : أنه ضميرٌ يعودُ على « مَنْ » مِنْ قولِه : { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } . وأعاد الضميرَ مِنْ « كَبُرَ » مفرداً اعتباراً بلفظِها ، وحينئذٍ يكونُ قد راعَى لفظَ « مَنْ » أولاً في { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } ، ثم معناها ثانياً في قوله : { الذين يُجَادِلُونَ } إلى آخره ، ثم لفظَها ثالثاً في قوله : « كَبُر » . وهذا كلُّه إذا أَعْرَبْتَ « الذين » تابعاً لمَنْ هو مُسْرِفٌ نعتاً أو بياناً أو بدلاً .
وقد عَرَفْتَ أن الجملةَ مِنْ قولِه : « كَبُرَ مَقْتاً » فيها وجهان ، أحدهما : الرفعُ إذا جَعلْناها خبراً لمبتدأ . والثاني : أنها لا محلَّ لها إذا لم تجْعَلْها خبراً . بل هي جملةٌ استِئْنافية . وقوله : « عندَ الله » متعلقٌ ب « كَبُرَ » ، وكذلك قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، وأنْ يكونَ فاعلاً وهما ضعيفان . والثالث - وهو الصحيحُ - أنه معمولٌ ل « يَطْبَعُ » أي : مثلَ ذلك الطَّبْعِ يطبعُ اللَّهُ . و « يطبعُ اللَّهُ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مستأنفٌ . والثاني : أنه خبرٌ للموصولِ ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك كلِّه .
قوله : « قَلْبِ متكبِّرٍ » قرأ أبو عمروٍ وابن ذكوان بتنوين « قلب » ، وَصَفا القلبَ بالتكبُّر والجَبَروتِ؛ لأنهما ناشئان منه ، وإنْ كان المرادُ الجملةَ ، كما وُصِف بالإِثمِ في قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] . والباقون بإضافة « قلب » إلى ما بعدَه أي : على كلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبِّرٍ . وقد قَدَّرَ الزمخشريُّ مضافاً في القراءةِ الأولى أي : على كلِّ ذي قلب متكبر ، تجعلُ الصفةَ لصاحبِ القلب . قال الشيخ : « ولا ضرورةَ تَدْعو إلى اعتقادِ الحذفِ » . قلت : بل ثَمَّ ضرورةٌ إلى ذلك وهو توافُقُ القراءَتَيْن ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في القراءتَيْن واحداً ، وهو صاحبُ القلب ، بخلافِ عَدَم التقديرِ ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في إحداهما القلبَ وفي الأخرى صاحبَه .

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

قوله : { أَسْبَابَ السماوات } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تابعٌ للأسبابِ قبله بدلاً أو عطفَ بيان . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار أَعْني ، والأولُ أَوْلَى؛ إذ الأصلُ عدمُ الإِضمارِ .
قوله : « فَأَطَّلِعَ » العامَّةُ على رفعِه عَطْفاً على « أَبْلُغُ » فهو داخِلٌ في حَيِّزِ الترجِّي . وقرأ حفصٌ في آخرين بنصبِه . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه جوابُ الأمرِ في قولِه : « ابْنِ لي » فنُصِبَ بأَنْ مضمرةً بعد الفاءِ في جوابِه على قاعدة البصريين كقولِه :
3933 يا ناقُ سِيْري عَنَقاً فَسِيحا ... إلى سليمانَ فَنَسْتريحا/
وهذا أَوْفَقُ لمذهب البصريين . الثاني : أنه منصوبٌ . قال الشيخ : « عَطْفاً على التوهُّمِ لأنَّ خبر » لعلَّ « كثيراً جاء مَقْروناً ب » أن « ، كثيراً في النظمِ وقليلاً في النثر . فمَنْ نَصَبَ تَوَهَّم أنَّ الفعلَ المرفوعَ الواقعَ خبراً منصوبٌ ب » أنْ « ، والعطفُ على التوهُّمِ كثيرٌ ، وإنْ كان لا ينقاسُ » انتهى . الثالث : أن يَنْتَصِبَ على جوابِ الترجِّي في « لعلَّ » ، وهو مذهبٌ كوفي استشهد أصحابُه بهذه القراءةِ وبقراءة عاصم { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ } [ عبس : 3-4 ] بنصب « فتنفَعَه » جواباً لِقوله : « لعلَّه » . وإلى هذا نحا الزمخشري قال : « تشبيهاً للترجِّي بالتمني » والبصريُّون يأبَوْن ذلك ، ويُخَرِّجُون القراءتَيْنِ على ما تقدَّم . وفي سورة عبس يجوز أن [ يكون ] جواباً للاستفهام في قولِه : « وما يُدْريك » فإنه مترتبٌ عليه معنىً . وقال ابن عطية وابن جُبارة الهُذلي : « على جواب التمني » وفيه نظرٌ؛ إذ ليس في اللفظِ تَمَنٍّ ، إنَّما فيه تَرَجٍّ . وقد فَرَّقَ الناسُ بين التمني والترجِّي : بأنَّ الترجِّيَ لا يكونُ إلاَّ في الممكنِ عكسَ التمني ، فإنه يكونُ فيه وفي المستحيلِ كقولِه :
3934 لَيْتَ الشبابَ هو الرَّجيعُ على الفتى ... والشيبُ كان هو البَدِئُ الأولُ
وقُرِئ « زَيَّنَ لفرعونَ » مبنياً للفاعلِ وهو الشيطانُ . وتقدَّم الخلافُ في { وَصُدَّ عَنِ السبيل } في الرعد فمَنْ بناه للفاعلِ حَذَفَ المفعولَ أي : صَدَّ قومَه عن السبيلِ . وابنُ وثَّاب « وصِدَّ » بكسرِ الصادِ ، كأنه نَقَل حركةَ الدالِ الأولى إلى فاءِ الكلمة بعد توهُّمِ سَلْبِ حركتِها . وقد تقدَّم ذلك في نحو « رِدَّ » وأنه يجوزُ فيه ثلاثُ اللغاتِ الجائزةِ في قيل وبِيع . وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة « وصَدٌّ » بفتح الصادِ ورفع الدالِ منونةً جعله مصدراً منسوقاً على « سوءُ عملِه » أي : زَيَّن له الشيطانُ سوءَ العملِ والصدَّ . والتَّباب : الخَسارُ . وقد تقدَّم ذلك في قوله : { غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ هود : 101 ] . وتقدَّم الخِلافُ أيضاً في قوله : { يَدْخُلُونَ الجنة } في سورة النساء [ الآية : 40 ] .

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)

قوله : { وياقوم } : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ولِمَ جاء بالواوِ في النداء الثالثِ دونَ الثاني؟ قلت : لأنَّ الثاني داخلٌ في كلامٍ هو بيانٌ للمُجْمَلِ وتفسيرٌ له ، فأُعْطِي الداخلُ عليه حكمَه في امتناعِ دخولِ الواو . وأما الثالثُ فداخِلٌ على كلامٍ ليس بتلك المَثابةِ » .
قوله : { وتدعونني إِلَى النار } هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر عنهم بذلك بعد استفهامِه عن دعاءِ نفسِه . ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وما لكم تَدْعُونني إلى النارِ ، وهو الظاهرُ . ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً أي : ما لكم أدعوكم إلى النجاةِ حالَ دعائِكم إياي إلى النار؟

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)

قوله : { تَدْعُونَنِي } : هذه الجملةٌ بدلٌ مِنْ « تَدْعونني » الأولى على جهةِ البيان لها ، وأتى في قولِه « تَدْعُونني » بجملةٍ فعليةٍ ليدُلَّ على أنَّ دعوتَهم باطلةٌ لا ثبوتَ لها ، وفي قوله : « وأنا أَدْعوكم » بجملة اسميةٍ ليدُلَّ على ثبوتِ دعوتِه وتقويتِها .
وقد تقدَّم الخلافُ في { لاَ جَرَمَ } [ غافر : 43 ] . وقال الزمخشري هنا : ورُوي عن العرب « لا جُرْمَ أنه يفعل كذا » بضم الجيم وسكونِ الراء بمعنى لا بُدَّ ، وفُعْل وفَعَل أخَوان كرُشْد ورَشَد وعُدْم وعَدَم « .

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)

قوله : { وَأُفَوِّضُ } : هذه مستأنفةٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل « أَقول » .

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

قوله : { النار } : الجمهورُ على رفعِها . وفيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « سوءُ العذاب » . الثاني : أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أي سوءُ العذابِ النارُ؛ لأنه جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ و « يُعْرَضُون » على هذين الوجهين : يجوز أَنْ يكون حالاً من « النار » ويجوز أن يكونَ حالاً من « آل فرعون » . الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه « يُعْرَضون » . وقُرئ « النارَ » منصوباً . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره « يُعْرَضون » من حيث المعنى أي : يَصْلَوْن النارَ يُعْرَضون عليها ، كقوله : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 31 ] . والثاني : أَنْ ينتصبَ على الاختصاص . قاله الزمخشري ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ ل « يُعْرَضُون » لكونِه مفسِّراً ، وعلى الثاني هو حالٌ كما تقدَّمَ .
قوله : « ويومَ تقومُ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، وذلك القولُ المضمرُ محكيٌّ به الجملةُ الأمريَّةُ من قوله « أدخِلوا » والتقدير : ويُقال له/ يومَ تقومُ الساعةُ : أدْخِلوا . الثاني : أنه منصوبٌ بأَدخِلوا أي : أدْخِلوا يومَ تقومُ . وعلى هذين الوجهين فالوقفُ تامٌّ على قوله « وعَشِيَّاً » . والثالث : أنه معطوفٌ على الظرفَيْن قبلَه ، فيكونُ معمولاً ل « يُعْرَضُون » . فالوقفُ على هذا على قولِه « الساعة » و « أَدْخِلوا » معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي : يُقال لهم كذا وكذا . وقرأ الكسائي وحمزة ونافع وحفص « أدْخِلُوا » بقطع الهمزةِ أمراً مِنْ أَدْخَلَ ، فآلَ فرعون مفعولٌ أولُ ، و « أشدَّ العذاب » مفعولٌ ثانٍ . والباقون « ادْخُلوا » بهمزةِ وصلٍ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ . فآلَ فرعونَ منادى حُذِف حرفُ النداءِ منه ، و « أشدَّ » منصوبٌ به : إمَّا ظرفاً ، وإمّا مفعولاً به ، أي : ادخلوا يا آل فرعونَ في أشدِّ العذاب .

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)

قوله : { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ } : في العاملِ في « إذ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على « غُدُوَّاً » فيكونُ معمولاً ل « يُعْرَضون » أي : يُعْرَضُونَ على النار في هذه الأوقاتِ كلِّها ، قاله أبو البقاء . والثاني : أنه معطوفٌ على قولِه { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } [ غافر : 18 ] قاله الطبري . وفيه نظرٌ لبُعْدِ ما بينهما ، ولأنَّ الظاهرَ عَوْدُ الضميرِ مِنْ « يَتَحاجُّون » على آل فرعون . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمارِ « اذْكُرْ » وهو واضحٌ .
قوله : « تَبَعاً » فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه اسمُ جمعٍ لتابعٍ ، ونحوه : خادِم وخَدَم ، وغائِب ، وغَيَبَ ، وأَديم وأَدَم . والثاني : أنه مصدرٌ واقع موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : تابِعين . والثالث : أنه مصدرٌ أيضاً ، ولكنْ على حَذْفِ مضاف أي : ذوي تَبَع .
قوله : « نصيباً » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ ينتصبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه قولُه « مُغْنُون » تقديرُه : « هل أنتم دافِعون عنا نصيباً . الثاني : أَنْ يُضمَّنَ » مُغْنون « معنى حامِلين . الثالث : أَنْ ينتصبَ على المصدرِ . قال أبو البقاء : » كما كان « شيءٌ » كذلك ، ألا ترى إلى قولِه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } [ آل عمران : 116 ] ف « شيْئاً » في موضعِ غَناء ، فكذلك « نصيباً » . و « من النار » صفةٌ ل « نَصيباً » .

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)

قوله : { إِنَّا كُلٌّ } : العامَّةُ على رفع « كلٌ » ، ورفعُه على الابتداء و « فيها » خبرُه ، والجملةُ خبرُ « إنَّ » ، وهذا كقولِه في آل عمران : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلُّهُ للَّهِ } في قراءة أبي عمروٍ . وقرأ ابن السَّمَيْفع وعيسى بن عمر بالنصب وفيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ تأكيداً لاسم « إنَّ » . قال الزمخشري : « توكيدٌ لاسم إنَّ ، وهو معرفةٌ . والتنوينٌ عوضٌ من المضافِ إليه ، يريد : إنَّا كلَّنا فيها » انتهى . يعني فيكون « فيها » هو الخبر . وإلى كونِه تأكيداً ذهب ابنُ عطية أيضاً . وقد رَدَّ ابن مالكٍ هذا المذهبَ فقال في « تسهيله » : « ولا يُستغنى بنية إضافتِه خلافاً للزمخشري » : قلت : وليس هذا مذهباً للزمخشري وحدَه بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً . الثاني : أَنْ تكونَ منصوبةً على الحال ، قال ابن مالك : « والقولُ المَرْضِيُّ عندي أنَّ » كلاً « في القراءة المذكورة منصوبةٌ على الحال من الضمير المرفوع في » فيها « ، و » فيها « هو العاملُ وقد قُدِّمَتْ عليه مع عَدَمِ تصرُّفه ، كما قُدِّمَتْ في قراءةِ مَنْ قرأ : { والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ } . وكقولِ النابغة :
3935 رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهم ... فيهمْ ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار
وقول بعض الطائيين :
3936 دعا فَأَجَبْنَا وَهْو بادِيَ ذلَّةٍ ... لديكمْ وكان النصرُ غيرَ بعيدِ
يعني بنصب » باديَ « وهذا هو مذهبُ الأخفش ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ مِنْ ذلك قال : » فإنْ قلتَ : هل يجوزُ أَنْ يكونَ « كلاًّ » حالاً قد عَمِل فيه « فيها »؟ قلت : لا؛ لأنَّ الظرفَ لا يعملُ في الحال متقدمةً كما يعملُ في الظرفِ متقدِّماً . تقول : كلَّ يوم لك ثوبٌ . ولا تقول : قائماً في الدار زيد « . قال الشيخ : » وهذا الذي منعه أجازه الأخفشُ إذا توسَّطَتِ الحالُ نحو : « زيدٌ قائماً في الدار » و « زيدٌ قائماً عندك » ، والمثالُ الذي ذكره ليس مطابقاً لِما في الآية؛ لأنَّ الآيةَ تَقَدَّمَ فيها المسندُ إليه الحكمُ وهو اسمُ إنَّ ، وتوسَّطَتِ الحالُ إذا قلنا إنها حالٌ ، وتأخَّر العاملُ فيها . وأمَّا تمثيلُه بقولِه : ولا تقولُ : « قائماً في الدار زيد » ، فقد تأخَّر فيه المسندُ والمسندُ إليه . وقد ذكر بعضُهم أنَّ المنعَ في ذلك إجْماعٌ من النحاة « .
قلت : الزمخشريُّ مَنْعُه صحيحٌ لأنه ماشٍ على مذهبِ الجمهور ، وأمَّا تمثيلُه بما ذَكَر فلا يَضُرُّه لأنه في محلِّ المَنْعِ ، فعدمُ تجويزِه صحيحٌ .
الثالث أنَّ » كلاً « بدلٌ مِنْ » ن « في » إنَّا « ، لأَنَّ » كلاً « قد وَلِيَتْ العوامِل/ فكأنه قيل : إنَّ كلاً فيها .

وإذا كانوا قد تأوَّلوا قولَه :
2937 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حَوْلاً أَكْتعاً ... [ وقوله : ] .
2938 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحَوْلاً أَجْمعا ... على البدلِ مع عدم تصرُّفِ أكتع وأَجْمع فلأَنْ يجوزَ ذلك في « كل » أَوْلَى وأَحْرى . وأيضاً فإنَّ المشهورَ تعريفُ « كل » حالَ قَطْعها . حُكي في الكثير الفاشي : « مررتُ بكلٍ قائماً وببعض جالساً » ، وعزاه بعضُهم لسيبويه . وتنكيرُ « كل » ونصبها حالاً في غايةِ الشذوذ نحو : « مررت بهم كلاً » أي : جميعاً . فإن قيل : فيه بدلُ الكل من الكل في ضمير الحاضر ، وهو لا يجوز . أجيب بوجهين ، أحدهما : أن الكوفيين والأخفشَ يَرَوْن ذلك ، وأنشدوا قولَه :
3939 أنا سيفُ العشيرةِ فاعْرِفوني ... حُمَيْداً قد تَذَّرَّيْتُ السَّناما
فحُميداً بدل من ياء « اعرِفوني » ، وقد تأوَّلَه البصريون على نصبه على الاختصاص . والثاني : أن هذا الذي نحن فيه ليس محلَّ الخلافِ لأنه دالٌّ على الإِحاطة والشمول . وقد قالوا : إنه متى كان البدل دالاًّ على ذلك جاز ، وأنشدوا :
3940 فما بَرِحَتْ أقدامنا في مكانِنا ... ثلاثتِنا حتى أُزِيْرُوا المنَائيا
ومثلُه قولُه تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] ، قالوا « ثلاثتنا » بدلٌ من « ن » في « مكاننا » لدلالتِها على الإِحاطة ، وكذلك « لأوَّلنا وآخِرنا » بدلٌ من « ن » في « لنا » ، فلأَنْ يجوزَ ذلك في « كل » التي هي أصلٌ في الشمولِ والإِحاطة بطريق الأَوْلَى . هذا كلامُ الشيخِ في الوجه الثالث وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المبردَ ومكيَّاً نَصَّاً على أن البدلَ في هذه الآيةِ لا يجوزُ ، فكيف يُدَّعَى أنه لا خِلافَ في البدلِ والحالةُ هذه؟ لا يُقال : إنَّ في الآية قولاً رابعاً : وهو أنَّ « كلاً » نعتٌ لاسم « إنَّ » وقد صَرَّح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا : هو نعتٌ لاسمِ « إنَّ » لأنَّ الكوفيين يُطْلقون اسمَ النعتِ على التأكيدِ ، ولا يريدون حقيقةَ النعتِ . وممن نَصَّ على ما قلتُه من التأويلِ المذكورِ مكيٌّ رحمه الله تعالى ، ولأنَّ الكسائيَّ إنما جَوَّز نعتَ ضميرِ الغائبِ فقط دونَ المتكلمِ والمخاطبِ .

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)

قوله : { يَوْماً مِّنَ العذاب } : في « يوماً » وجهان ، أحدهما : أنه ظرفٌ ل « يُخَفِّفْ » . ومفعولُ « يُخَفِّفْ » محذوفٌ أي : يُخَفِّف عنا شيئاً من العذاب في يوم . ويجوز على رأي الأخفش أن تكون « مِنْ » مزيدةً ، فيكون « العذاب » هو المفعولَ ، أي : يُخَفف عنا في يوم العذاب . الثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً به ، واليوم لا يُخَفَّف ، وإنما يُخَفَّفُ مظروفُه فالتقديرُ : يُخَفِّف عذابَ يومٍ . وهو قَلِقٌ لقولِه « من العذاب » ، والقولُ بأنَّه صفةٌ مؤكِّدةٌ كالحالِ أقلقُ منه . والظاهرُ أنَّ « مِن العذاب » هو المفعولُ ل « يُخَفِّف » ، و « مِنْ » تبعيضيَّةٌ ، و « يوماً » ظرفٌ . سألوا أَنْ يخففَ عنهم بعضَ العذابِ لا كلَّه في يومٍ ما ، لا في كلِّ يومٍ ولا في يومٍ معين .

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)

قوله : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } : قرأ الجمهور « يقوم » بالياء مِنْ أسفلَ . وأبو عَمْروٍ في روايةِ المنقريِّ عنه وابنُ هرمز وإسماعيل بالتاء مِنْ فوقُ لتأنيثِ الجماعةِ ، والأشهادُ يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ شهيد ك شَريف وأَشْراف ، وهو مطابِقٌ لقولِه : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وأَنْ يكونَ جمعَ شاهِد ك صاحِب وأصحاب ، وهو مطابِقٌ لقولِه : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] .

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)

قوله : { يَوْمَ } : بدلٌ مِنْ « يوم » قبلَه أو بيانٌ له ، أو نُصِب بإضمار أَعْني . وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه « يَنْفَع الظالمين » بالتاء والياء آخر الروم .

هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)

قوله : { هُدًى وذكرى } : فيهما وجهان ، أحدهما : أنهما مفعولٌ مِنْ أجلهما أي : لأجلِ الهدى والذَّكْر . والثاني : أنهما مصدران في موضعِ الحالِ .

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)

قوله : { لِذَنبِكَ } : قيل : المصدرُ مضافٌ للمفعولِ أي : لذنب أمَّتِك في حَقِّك . والظاهرُ أنَّ اللَّهَ يقولُ ما أرادَ ، وإنْ لم يَجُزْ لنا نحن أَنْ نُضيفَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم ذنباً .

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)

قوله : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } : المصدران مُضافان لمَفْعولِهما . والفاعلُ محذوفٌ وهو اللَّهُ تعالى . ويجوزُ أَنْ يكونَ الثاني مضافاً للفاعلِ أي : أكبرُ ممَّا يَخْلُقُه الناسُ أي : يَصْنَعونه . ويجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْن واقعَيْن موقعَ المخلوقِ أي : مَخلوقُهما أكبرُ مِنْ مَخْلوقهم أي : جُرْمُها أكبرُ مِنْ جُرْمِهم .

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)

قوله : { وَلاَ المسياء } : « لا » زائدةٌ للتوكيدِ لأنه لَمَّا طالَ الكلامُ بالصلة بَعُدَ قَسِيْمُ المؤمنين ، فأعاد معه « لا » توكيداً . وإنما قَدَّم المؤمنين لمجاوَرَتهم/ قولَه : « والبصير » ، واعلَمْ أنَّ التقابلَ يجيْءُ على ثلاثِ طرقٍ ، أحدُها : أَنْ يجاوِرَ المناسبُ ما يناسِبُه كهذه الآيةِ . والثانية : أَنْ يتأخَّرَ المتقابِلان كقولِه تعالى : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } [ هود : 24 ] . والثالثة : أن يُقَدِّمَ مقابلَ الأولِ ، ويُؤَخِّرَ مقابلَ الآخر ، كقولِه تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } [ فاطر : 19 ] وكلُّ ذلك تَفَنُّنٌ في البلاغة . وقَدَّم الأعمى في نَفْيِ التساوي لمجيئِه بعد صفةِ الذم في قولِه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله : « تَتَذَكَّرون » قرأ الكوفيون بتاء الخطاب ، والباقون بياءِ الغَيْبة . فالخطابُ على الالتفاتِ للمذكورَيْن بعد الإِخبار عنهم ، والغيبةُ نظراً لقولِه : { إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ } وهم الذين التفتَ إليهم في قراءةِ الخطاب .

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)

قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } : العامَّةُ على الرفعِ ، وزيد بن علي نصبَه ، قال الزمخشري : « على الاختصاص » . وقرأ طلحة بيَاءِ الغيبة .

كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)

قوله : { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ } : أي : مثلَ ذلك الإِفك .

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)

قوله : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } : قرأ أبو رزين والأعمش : « صِوَرَكم » بكسر الصاد فِراراً من الضمة قبل الواوِ ، وقرأَتْ فرقةٌ بضم الصادِ وسكونِ الواو وجَعَلْته اسمَ جنسٍ لصورةٍ كبُسْرٍ وبُسْرَة .

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)

قوله : { الذين كَذَّبُواْ } : يجوز فيه أوجه : أَنْ يكونَ بدلاً من الموصول قبلَه ، أو بياناً له ، أو نعتاً ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أو منصوباً على الذمِّ . وعلى هذه الأوجهِ فقولُه « فسوف يعلمونَ » جملةٌ مستأنفةٌ سِيقَتْ للتهديدِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه « فسوف يَعْلَمون » ودخولُ الفاءِ فيه واضحٌ .

إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)

قوله : { إِذِ الأغلال } : جَوَّزوا في « إذ » هذه أَنْ تكونَ بمعنى « إذا » لأنَّ العاملَ فيها محقَّقُ الاستقبالِ ، وهو « فسوف يَعْلمون » ، قالوا : وكما تقع « إذا » موقعَ « إذ » في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] كذلك تقع « إذ » مَوْقِعَها ، وقد مضى نحوٌ من هذا في البقرة عند قوله { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب } [ البقرة : 165 ] . قالوا : والذي حَسَّن هذا تَيَقَّنَ وقوعَ الفعلِ فأُخْرِجَ في صورةِ الماضي . قلت : ولا حاجةَ إلى إخراجِ « إذ » عن موضوعِها ، بل هي باقيةٌ على دلالتِها على المضيِّ ، وهي منصوبةٌ بقولِه « فسوفَ يَعْلَمون » نَصْبَ المفعولِ به أي : فسوف يعلمونَ يومَ القيامة وَقْتَ الأغلالِ في أعناقِهم أي : وقتَ سببِ الأغلالِ ، وهي المعاصي التي كانوا يَفْعَلونها في الدنيا كأنَّه قيل : سيعرفون وقتَ معاصيهم التي تجعل الأَغلالَ في أعناقِهم . وهو وجهٌ واضحٌ ، غايةُ ما فيه التصرُّف في « إذ » بجَعْلِها مفعولاً بها ، ولا يَضُرُّ ذلك؛ فإنَّ المُعْرِبين غالِبُ أوقاتِهم يقولون : منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ولا يكون حينئذٍ إلاَّ مفعولاً به لاستحالةِ عملِ المستقبل في الزمنِ الماضي . وجَوَّزوا أَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً أي : اذكُرْ لهم وقتَ الأغلالِ ليخافوا ويَنْزَجِروا . فهذه ثلاثةُ أوجهٍ ، خيرُها أوسطُها .
قوله : « والسَّلاسِلُ » العامَّةُ على رَفْعِها . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه معطوفٌ على الأغلال ، وأخبر عن النوعَيْن بالجارِ ، فالجارُّ في نية التأخير . والتقديرُ : إذ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم . الثاني : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأولِ عليه . الثالث : أنه مبتدأٌ أيضاً ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه « يُسْحَبُون » . ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يعودُ عليه منها . والتقديرُ : والسَّلاسل يُسْحَبُون بها حُذِفَ لقوةِ الدلالةِ عليه . فَيُسْحَبُون مرفوع المحلِّ على هذا الوجهِ . وأمَّا في الوجهَيْن المتقدِّمين فيجوز فيه النصبُ على الحالِ من الضمير المَنْوِيِّ في الجارِّ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً .
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختيارِه « والسلاسلَ » نَصْباً « يَسْحَبون » بفتح الياءِ مبنياً للفاعلِ ، فيكون « السلاسلَ » مفعولاً مقدماً ، ويكونُ قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ . قال ابن عباس في معنى/ هذه القراءة : « إذ كانوا يَجُرُّوْنها ، فهو أشدُّ عليهم يُكَلَّفون ذلك ، ولا يُطيقونه » . وقرأ ابنُ عباس وجماعةٌ « والسلاسلِ » بالجرِّ ، « يُسْحَبون » مبنياً للمفعولِ . وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ ، أحدُها : الحَمْلُ على المعنى تقديرُه : إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسلِ ، فلمَّا كان معنى الكلام ذلك حُمِل عليه في العطف . قال الزمخشري : « ووجهُه أنه لو قيل : إذ أعناقُهم في الأغلال ، مكانَ قوله : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } لكان صحيحاً مستقيماً ، فلمَّا كانتا عبارتين مُعْتَقِبتين حَمَلَ قولَه : » والسلاسل « على العبارةِ الأخرى .

ونظيرُه :
3941 مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً ... ولا ناعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرابُها
كأنه قيل : بمُصْلحين « وقُرِئ » بالسلاسِل « . وقال ابن عطية : » تقديرُه : إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسِل ، فعُطِفَ على المرادِ من الكلام لا على ترتيبِ اللفظِ ، إذ ترتيبُه فيه قَلْبٌ وهو على حَدِّ قولِ العرب « أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي » . وفي مصحف أُبَيّ { وفي السلاسل يُسْحَبُونَ } . قال الشيخ بعد قولِ ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ المتقدِّم : « ويُسمَّى هذا العطفَ على التوهُّم ، إلاَّ أنَّ تَوَهُّمَ إدخالِ حرفِ الجرِّ على » مُصْلِحين « أقربُ مِنْ تغييرِ تركيب الجملةِ بأَسْرها ، والقراءةُ مِنْ تغييرِ تركيبِ الجملةِ السابقة بأَسْرِها . ونظيرُ ذلك قولُه :
3942 أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ... ولا بَيْداءَ ناجيةً ذَمُوْلا
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ... ببعضِ نواشِغِ الوادي حُمُوْلا
التقدير : لستَ براءٍ ولا متداركٍ . وهذا الذي قالاه سَبَقهما إليه الفراء فإنه قال : » مَنْ جَرَّ السلاسل حَمَله على المعنى ، إذ المعنى : أعناقُهم في الأغلال والسلاسل « .
الوجه الثاني : أنه عطفٌ على » الحميم « ، فقدَّم على المعطوف عليه ، وسيأتي تقريرُ هذا . الثالث : أن الجرَّ على تقدير إضمار الخافِضِ ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبيّ » وفي السلاسل « وقرأه غيرُه » وبالسلاسل « وإلى هذا نحا الزجَّاج . إلاَّ أنَّ ابنَ الأنباري رَدَّه وقال : » لو قلتَ : « زيد في الدارِ » لم يَحْسُنْ أَنْ تُضْمَر « في » فتقول : « زيدٌ الدارِ » ثم ذكر تأويلَ الفراء . وخَرَّج القراءةَ عليه ثم قال : كما تقول : « خاصَمَ عبدُ الله زيداً العاقلَيْن » بنصب « العاقلين » ورفعِه؛ لأنَّ أحدَهما إذا خاصمه صاحبه ، فقد خاصمه الآخرُ . وهذه المسألةُ ليسَتْ جاريةً على أصول البصريين ، ونَصُّوا على مَنْعها ، وإنما قال بها من الكوفيين ابنُ سعدان . وقال مكيٌّ : « وقد قُرِئَ والسلاسلِ ، بالخفضِ على العطف على » الأَعْناق « وهو غَلَط؛ لأنه يَصير : الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ، ولا معنى للأغلال في السلاسل » . قلت : وقوله على العطفِ على « الأعناقِ » ممنوعٌ بل خَفْضُه على ما تقدَّم . وقال أيضاً : « وقيل : هو معطوفٌ على » الحميم « وهو أيضاً لا يجوزُ؛ لأنَّ المعطوفَ المخفوضَ لا يتقدَّم على المعطوفِ عليه ، لو قلت : » مررتُ وزيدٍ بعمروٍ « لم يَجُزْ ، وفي المرفوع يجوزُ نحو : » قام وزيدٌ عمرو « ويَبْعُد في المنصوب ، لا يَحْسُنُ : » رأيتُ وزيداً عمراً « ولم يُجِزْه في المخفوض أحدٌ » .
قلت : وظاهرُ كلامِه أنه يجوزُ في المرفوع بعيدٌ ، وقد نصُّوا أنه لا يجوزُ إلاَّ ضرورةً بثلاثة شروطٍ : أن لا يقعَ حرفُ العطفِ صدراً ، وأَنْ يكونَ العاملُ متصرفاً ، وأَنْ لا يكونَ المعطوفُ عليه مجروراً ، وأنشدوا :

3943 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عليكِ ورحمةُ اللَّهِ السَّلامُ
إلى غيرِ ذلك من الشواهدِ ، مع تَنْصيصِهم على أنه مختصُّ بالضرورة .
والسِّلْسِلَةُ معروفةٌ . قال الراغب « وتَسَلْسَلَ الشيءُ : اضطرَبَ كأنه تُصُوِّرَ منه تَسَلُّلٌ مترددٌ ، فتَرَدُّدُ لفظِه تنبيهٌ على تردُّد معناه . وماءٌ سَلسَلٌ متردد في مقرِّه » . والسَّحْبُ : الجرّ بعنفٍ ، والسَّحابُ من ذلك؛ لأنَّ الريحَ تجرُّه ، أو لأنه يجرُّ الماءَ . وسَجَرْتُ التنُّورَ أي : ملأتُه ناراً وهَيَّجْتُها . ومنه البحر المَسْجُور أي : المملوء . وقيل : المضطرِمُ ناراً . قال الشاعر :
3944 إذا شاءَ طالعَ مَسْجُوْرَةً ... تَرَى حَوْلَها النَّبْعَ والشَّوْحَطا
فمعنى قولِه تعالى هنا : { ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } أي : يُوْقَدُ لهم ، كقوله : { وَقُودُهَا الناس } [ البقرة : 24 ] والسَّجِيْرُ : الخليلُ الذي يُسْجَرُ في مودَّةِ خليلِه ، كقولهم : فلان يحترق في مودةِ فلان .

ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)

قوله : { تَفْرَحُونَ } : « تَمْرَحون » مِنْ باب التجنيس المحرَّفِ ، وهو أن يقعَ الفرقُ بين اللفظَيْنِ بحرفٍ .

ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

قوله : { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } : المخصوصُ محذوفٌ أي : جهنم ، أو مثواكم ، ولم يَقُلْ فبِئْسَ مَدْخَلُ؛ لأنَّ الدخولَ لا يَدوم وإنما يَدُوْمُ الثَّواءُ؛ فلذلك خَصَّه بالذمِّ ، وإنْ كان الدخولُ أيضاً مَذْموماً .

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)

قوله : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } : قال الزمخشري : « أصلُه : فإنْ نَرَكَ و » ما « مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرطِ ، ولذلك أُلْحِقَتِ النونُ بالفعل . ألا تراك لا تقول : إنْ تُكْرِمَنّي أُكْرِمْك ، ولكنْ إمَّا تُكْرِمَنِّي أكرمْك » . قال الشيخ : « وما ذكره مِنْ تلازُمِ النونِ ، و » ما « الزائدة ليس مذهبَ سيبويه ، إنما هو مذهبُ المبردِ والزجَّاجِ ، ونصَّ سيبويه على التخيير » . / قلت : وهذه القواعدُ وإنُ تقدَّمَتْ مُسْتَوفاةً ، إلاَّ أنِّي أذكُرها لذِكْرِهم إياها ، وفي ذلك تنبيهٌ أيضاً وتذكيرٌ بما تقدَّم .
قوله : « فإلينا يُرْجَعُون » ليس جواباً للشرطِ الأولِ ، بل جواباً لِما عُطِفَ عليه ، وجوابُ الأولِ محذوفٌ . قال الزمخشري : « فإلينا يُرْجَعُون » متعلِّق بقولِه : « نَتَوَفَّيَنَّك » وجوابُ « نُرِيَنَّك » محذوفٌ تقديرُه : فإنْ نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم مِنَ العذابِ وهو القَتْلُ يومَ بدرٍ فذاك ، وإنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبلَ يومِ بَدْرٍ فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم أشدَّ الانتقامَ « . قلت : قد تقدَّمَ مثلُ هذا في سورةِ يونس وبحثُ الشيخِ معه فَلْيُلْتَفَتْ إليه . وقال الشيخ : » وقال بعضُهم : جوابُ « فإمَّا نُرِيَنَّك » محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي : فَتَقَرُّ عَيْنك . ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ « فإلينا يُرْجَعُون » جواباً للمعطوفِ عليه والمعطوفِ ، لأنَّ تركيبَ « فإمَّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذين نَعِدُهم في حياتك فإلينا يُرْجَعون » ليس بظاهرٍ ، وهو يَصِحُّ أَنْ يكونَ جوابَ « أو نَتَوَفَّيَنَّك » أي : فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم ونُعَذِّبُهم لكونِهم لم يَتَّبِعوك . نظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } [ الزخرف : 42 ] إلاَّ أنه هنا صَرَّح بجوابِ الشرطَيْن « . قلت : وهذا بعينِه هو قولُ الزمخشريِّ .
وقرأ السُّلميُّ ويعقوبُ » يَرْجَعون « بفتح ياءِ الغَيْبَةِ مبنياً للفاعلِ . وابنُ مصرف ويعقوب أيضاً بفتح تاءِ الخطابِ .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

قوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ « منهم » صفةً ل « رُسُلاً » ، فيكون « مَنْ قَصَصْنا » فاعِلاً به لاعتمادِه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً مقدماً ، و « مَنْ » مبتدأٌ مؤخر . ثم في الجملة وجهان : الوصفُ ل « رُسُلاً » وهو الظاهرُ والاستئنافُ .

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)

قوله : { مِنْهَا ، وَمِنْهَا } : « مِنْ » الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيضِ ، إذ ليس كلُّها تُرْكَبُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ إذ المرادُ بالأنعامِ شيءٌ خاصٌّ ، وهي الإِبل . قال الزجَّاج : « لأنه لم يُعْهَدْ للركوبِ غيرُها » . وأمَّا الثانيةُ فكالأولى . وقال ابنُ عطية : « هي لبيانِ الجنسِ » قال : « لأنَّ الخيلَ منها ولا تُؤْكَلُ » .

وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

قوله : { وَعَلَى الفلك } : اخْتِير لفظُ « على » هنا على لفظِ « في » كقولِه : { قُلْنَا احمل فِيهَا } [ هود : 40 ] لمناسبةِ قولِه : « وعليها » ، كذا أجابُوا . ويظهر أنَّ « في » هناك أليقُ؛ لأنَّ سفينةَ نوحٍ عليه السلام على ما يقالُ كانَتْ مُطْبِقَةً عليهم ، وهي محيطةٌ بهم كالوعاءِ . وأمَّا غيرُها فالاستعلاءُ فيه واضحٌ؛ لأنَّ الناسَ على ظهرِها .

وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

قوله : { فَأَيَّ آيَاتِ الله } : منصوبٌ ب « تُنْكِرون » وقُدِّمَ وجوباً؛ لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ . قال مكي : « ولو كان مع الفعلِ هاءٌ لكان الاختيارُ الرفعَ في » أي « بخلافِ ألفِ الاستفهامِ تَدْخُلُ على الاسمِ ، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضميرِ الاسمِ ، فالاختيارُ النصبُ نحو قولِك : أزيداً ضَرَبْتُه ، هذا مذهبُ سيبويهِ فرَّقَ بين الألفِ وبين أيّ » قلت : يعني أنَّك إذا قلتَ : « أيُّهم ضربْتَه » كان الاختيارُ الرفعَ لأنه لا يُحْوِج إلى إضمارٍ ، مع أنَّ الاستفهامَ موجودٌ في « أزيداً ضربْتُه » يُختار النصبُ لأجلِ الاستفهامِ فكان مُقْتضاه اختيارَ النصبِ أيضاً ، فيما إذا كان الاستفهامُ بنفس الاسمِ . والفرقُ عَسِرٌ . وقال الزمخشري : « فأيَّ آياتِ جاءتْ على اللغةِ المستفيضةِ . وقولك : » فأيةَ آياتِ اللَّهِ « قليلٌ؛ لأنَّ التفرقةَ بين المذكرِ والمؤنثِ في الأسماءِ غير الصفاتِ نحو : حِمار وحِمارة غريبٌ ، وهو في » أَيّ « أغربُ لإِبهامِه » . قال الشيخ : « ومِنْ قِلَّةِ تأنيثِ » أيّ « قولُه :
3945 بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحْسَبُ
قوله : » وهو في أيّ أغربُ « إنْ عنى » أيًّا « على الإِطلاق فليس بصحيحٍ ، لأنَّ المستفيضَ في النداء أَنْ يُؤَنَّثَ في نداء المؤنث كقولِه تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] ولا نعلَمُ أحداً ذكر تَذْكيرها فيه ، فيقولُ : يا أيُّها المرأة ، إلاَّ صاحبَ » البديع في النحو « ، وإنْ عنى غيرَ المناداةِ فكلامُه صحيحٌ يَقِلُّ تأنيثها في الاستفهامِ وموصولةً وشرطيةً » . قلت : وأمَّا إذا وقعَتْ صفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ ، فالذي ينبغي أَنْ يجوزَ الوجهان كالموصولةِ ، ويكون التأنيثُ أقلَّ نحو : « مررتُ بامرأةٍ أيةِ امرأة » و « جاءَتْ هندٌ أيةَ امرأةٍ » ، وكان ينبغي للشيخِ أن ينبِّهَ على هذين الفرعَيْنِ .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)

قوله : { فَمَآ أغنى عَنْهُم } : يجوزُ في ما أَنْ تكونَ نافيةً ، واستفهاميةً بمعنى النفي ، ولا حاجةَ إليه .
قوله : « ما كانوا » يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، فلا عائدَ على الأولِ ، وعلى الثاني هو محذوفٌ أي : يَكْسِبونه ، وهي فاعلٌ ب « أَغْنَى » على التقديرَيْن .

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)

قوله : { بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه تهكُّمٌ بهم . والمعنى : ليس عندهم علمٌ . الثاني : أنَّ ذلك جاء على زَعْمِهم أنَّ عندهم عِلْماً يَنْتَفعون به . الثالث : أنَّ « مِنْ » بمعنى بَدَل أي : بما عندهم من الدنيا بدلَ العلمِ . وعلى هذه الأوجه فالضميران للكفارِ . الرابع : / أَنْ يكونَ الضَميران للرسل أي : فَرِحَ الرسُل بما عندهم من العلم . الخامس : أنَّ الأولَ للكفارِ ، والثاني للرسل ، ومعناه : فَرِحَ الكفارُ فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسُلِ مِن العلمِ ، إذ لم يَأْخُذوه بقَبولٍ ويمتثِلوا أوامرَ الوحيِ ونواهيه . وقال الزمخشري : « ومنها - أي من الوجوه - أَنْ يُوْضَعَ قولُه : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } مبالغةً في نَفْيِ فَرَحِهم بالوحيِ الموجِبِ لأَقْصى الفرحِ والمَسَرَّةِ مع تهكُّمٍ بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجَهْلِهم » . قال الشيخ : « ولا يُعَبَّرُ بالجملةِ الظاهرِ كونُها مُثْبتةً عن الجملةِ المنفيةِ ، إلاَّ في قليلٍ من الكلام نحو : » شَرٌّ أهرَّ ذا نابٍ « ، على خلافٍ فيه ، ولما آلَ أمرُه إلى الإِثباتِ المحصورِ جازَ . وأمَّا في الآيةِ فينبغي أَنْ لا يُحْمَلَ على القليلِ؛ لأن في ذلك تَخْليطاً لمعاني الجملِ المتباينةِ .

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

قوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } : يجوزُ رفعُ « إيمانُهم » اسماً ل « كان » ، و « يَنْفَعُهم » جملةٌ خبراً مقدماً ، ويجوزُ أَنْ يرتفعَ بأنه فاعلُ « يَنْفَعُهم » ، وفي « كان » ضمير الشأن . وقد تقدَّم لك هذا مُحَقَّقاً عند قولِه : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] وأنه لا يكونُ من بابِ التنازع فعليك بالالتفاتِ إليه ، ودَخل حرفُ النفي على الكونِ لا على النفيِ؛ لأنه بمعنًى لا يَصِحُّ ولا ينبغي ، كقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .
قوله : « سُنَّةَ اللَّهِ » يجوزُ انتصابُها على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ ، يعني : أنَّ الذي فَعَلَ اللَّهُ بهم سُنَّةٌ سابقةٌ من الله . ويجوزُ انتصابُها على التحذيرِ أي : احذروا سنةَ اللَّهِ في المكذِّبين التي قد خَلَتْ في عبادِه . و « هنالك » في الأصل مكان . قيل : واسْتُعير هنا للزمانِ ، ولا حاجةَ له ، فالمكانيَّةُ فيه ظاهرةٌ .

تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { تَنزِيلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ « حم » على القولِ بأنها اسمٌ للسورةِ ، أو خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هذا تنزيلٌ أو مبتدأٌ ، وخبرُه « كتابٌ فُصِّلَتْ » .

كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)

قوله : { كِتَابٌ } : قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل « تَنْزيل » ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « تَنْزيل » ، وأَنْ يكونَ فاعلاً بالمصدرِ ، وهو « تنزيلٌ » أي : نَزَلَ كتابٌ ، قاله أبو البقاء ، و « فُصِّلَتْ آياتُه » صفةٌ لكتاب .
قوله : « قُرْآناً » في نصبِه ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : هو حالٌ بنفسِه و « عربيَّاً » صفتُه ، أو حالٌ موطِّئَةٌ ، والحالُ في الحقيقةِ « عربيَّاً » ، وهي حالٌ غيرُ منتقلةٍ . وصاحبُ الحال : إمَّا « كتابٌ » لوَصْفِه ب « فُصِّلَتْ » ، وإمَّا « آياته » ، أو منصوبٌ على المصدرِ أي : تقرؤه قرآناً ، أو على الاختصاصِ والمدحِ ، أو مفعولٌ ثانٍ ل فُصِّلَتْ ، أو منصوبٌ بتقديرِ فعلٍ أي : فَصَّلْناه قرآناً .
قوله : « لقومٍ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يتعلَّقَ ب فُصِّلَتْ أي : فُصِّلَتْ لهؤلاءِ وبُيِّنَتْ لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها ، وإنْ كانَتْ مُفَصَّلةً في نفسِها لجميعِ الناسِ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل « قُرآناً » أي : كائناً لهؤلاءِ خاصةً لِما تقدَّم في المعنى . الثالث : أَنْ يتعلَّقَ ب « تَنْزِيلٌ » وهذا إذا لم يُجْعَلْ « من الرحمنِ » صفةً له؛ لأنَّك إنْ جَعَلْتَ « من الرحمن » صفةً له فقد أَعْمَلْتَ المصدرَ الموصوفَ ، وإذا لم يكن « كتابٌ » خبراً عنه ولا بَدَلاً منه؛ لئلا يَلْزَمَ الإِخبارُ عن الموصولِ أو البدلِ منه قبلَ تمامِ صلتِه . ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرف وعديلِه لم يُبالِ بشيءٍ من ذلك . وأمَّا إذا جَعَلْتَ « من الرحمن » متعلِّقاً به و « كتاب » فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه مِنْ تتمَّاته وليس بأجنبيّ ، وهذا الموضعُ ممَّا يُظْهِرُ حُسْنَ علمِ الإِعرابِ ، ويُدَرِّبُكَ في كثيرٍ من أبوابِه .

بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)

قوله : { بَشِيراً وَنَذِيراً } : يجوزُ أَنْ يكونا نعتَيْن ل « قُرْآناً » ، وأَنْ يكونا حالَيْنِ : إمَّا مِنْ « كتاب » ، وإمَّا مِنْ « آياته » ، وإمَّا من الضميرِ المَنْوِيِّ في « قُرْآناً » . وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعتِ ل « كتاب » أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هو بشيرٌ ونذيرٌ .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)

قوله : { في أَكِنَّةٍ } : قال الزمخشري : « فإنْ قُلْتَ : هَلاَّ قيل : على قلوبِنا أكنَّةٌ كما قيل : وفي آذاننا وَقْرٌ ، ليكونَ الكلامُ على نَمَطٍ واحد . قلت : هو على نَمَطٍ واحدٍ؛ لأنَّه لا فَرْقَ في المعنى بين قولِك : قلوبُنا في أكنَّةٍ ، وعلى قلوبِنا أكنَّةٌ ، والدليلُ عليه قولُه تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [ الأنعام : 25 ] ، ولو قيل : جَعَلْنا قلوبَهم في أكنَّةٍ لم يختلفِ المعنى ، وترى المطابيعَ منهم لا يَرَوْن الطباقَ والملاحظةَ إلاَّ في المعاني » . قال الشيخ : « و » في « هنا أَبْلَغُ مِنْ » على « لأنَّهم قَصَدوا الإِفراطَ في عَدَمِ القبول بحُصول قلوبِهِم في أكنَّةٍ احتوَتْ عليها احتواءَ الظرفِ على المظروفِ ، فلا يمكنُ أَنْ يَصِلَ إليها شيءٌ ، كما تقول : » المالُ في الكيس « بخلافِ قولِك : » على المالِ كيسٌ « ، فإنَّه لا يَدُلُّ على الحصر وعدمِ الوصولِ دلالةَ الوعاءِ ، وأمَّا » وجعلنا « فهو من إخبار اللَّهِ تعالى فلا يَحْتاجُ إلى مبالغةٍ » . وتقدَّمَ تفسيرُ الأَكنَّة والوقر . /
وقرأ طلحة بكسر الواوِ وتقدَّم الفرقُ بينهما .
قوله : « ممَّا تَدْعُوْنا » مِنْ في « ممَّا » وفي « ومِنْ بَيْنِنا » لابتداءِ الغايةِ فالمعنى : أنَّ الحجابَ ابتدأ مِنَّا وابتدأ منك ، فالمسافةُ المتوسطةُ لجهتِنا وجهتِك مُسْتوعبةٌ لا فراغَ فيها ، فلو لم تَأْت « مِنْ » لكان المعنى : أنَّ حجاباً حاصلٌ وسطَ الجهتين ، والمقصودُ المبالغَةُ بالتبايُنِ المُفْرِط ، فلذلك جيْءَ ب « مِنْ » قاله الزمخشري . وقال أبو البقاءِ : « هو محمولٌ على المعنى؛ لأنَّ المعنى : في أكنَّةٍ محجوبةٍ عن سماعِ ما تَدْعُونا إليه ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل » أكنَّة «؛ لأنَّ الأكنَّةَ الأغشيةُ ، وليسَتِ الأغشيةُ ممَّا يُدْعَوْنَ إليه » .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)

قوله : { قُلْ } : قرأ ابنُ وثَّاب والأعمش « قال » فعلاً ماضياً خبراً عن الرسولِ . والرسمُ يَحْتَملهما ، وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأنبياءِ وآخرِ المؤمنين . وقرأ الأعمشُ والنخعيُّ « يُوْحِي » بكسر الحاء أي : اللَّهُ تعالى .
قوله : « فاسْتَقِيموا إليه » عُدِّيَ ب « إلى » لتضمُّنِه معنى تَوَجَّهوا ، والمعنى : وَجِّهوا استقامتَكم إليه .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

قوله : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } : قيل : غيرُ منقوص ، وأنشدوا لذي الإِصبع العدواني :
3946 إني لَعَمْرُكَ ما بابي بذي غَلقٍ ... على الصديقِ ولا خَيْري بمَمْنُوْنِ
وقيل : مقطوعٌ ، مِنْ مَنَنْتُ الحَبْلَ أي : قطعْتُه ، وأنشدوا :
3947 فَضْلَ الجوادِ على الخيلِ البِطاءِ فلا ... يُعْطِي بذلك مَمْنُوْناً ولا نَزِقا
وقيل : غيرُ ممنونٍ ، مِن المَنِّ؛ لأنَّ عطاءَ اللَّهِ تعالى لا يَمُنُّ به ، إنما يَمُنُّ المخلوقُ .

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)

قوله : { وَتَجْعَلُونَ } : عطفٌ على « لَتَكْفُرون » فهو داخلٌ في حَيِّزِ الاستفهام .

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)

قوله : { وَجَعَلَ } : مستأنف . ولا يجوز عَطْفُه على صلةِ الموصولِ للفصلِ بينهما بأجنبيّ ، وهو قولُه : « وتَجْعلون » فإنه معطوفٌ على « لَتَكْفرون » كما تقدَّم .
قوله : { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } تقديرُه : في تمامِ أربعةِ أيام باليومَيْن المتقدِّمين . وقال الزجاج : « في تتمةِ أربعةِ أيام » يريدُ بالتتمَّةِ اليومينِ . وقال الزمخشري : « في أربعة أيام فَذْلَكَةٌ لمدةِ خَلْقِ اللَّهِ الأرضَ وما فيها ، كأنه قال : كلُّ ذلك في أربعةِ أيامٍ كاملةٍ مستويةٍ بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ » . قلت : وهذا كقولِك : بَنَيْتُ بيتي في يومٍ ، وأكْمَلْتُه في يومَيْن . أي : بالأول . وقال أبو البقاء : « أي : في تمامِ أربعةِ أيامٍ ، ولولا هذا التقديرُ لكانَتِ الأيامُ ثمانيةً ، يومان في الأول ، وهو قوله : { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } ، ويومان في الآخِر ، وهو قوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ وأربعة في الوسط ، وهو قولُه { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } ] .
قوله : » سواءً « العامَّةُ على النصبِ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : استَوتْ استواءً ، قاله مكي وأبو البقاء . والثاني : أنه حالٌ مِنْ » ها « في » أقواتها « أو مِنْ » ها « في » فيها « العائدةِ على الأرض أو من الأرض ، قاله أبو البقاء .
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى : إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ ، لا وصفُ الأرضِ بذلك ، وعلى هذا جاء التفسيرُ . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ » سَواءٍ « بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه . وقال السدي وقتادة : سواءً معناه : سواءً لمن سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه ، وأرادَ العِبْرَةَ فيه ، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى ، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء ، فإنهم قالوا : معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين .
وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد » سَواءٍ « بالخفضِ على ما تقدَّمَ ، وأبو جعفرٍ بالرفع ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ . وقال مكي : » هو مرفوعٌ بالابتداء « ، وخبرُه » للسائلين « . وفيه نظرٌ : من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ ، ثم قال : » بمعنى مُسْتوياتٍ ، لمن سأل فقال : في كم خُلِقَتْ؟ وقيل : للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى « .
قوله : » للسَّائلين « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب » سواء « بمعنى : مُسْتويات للسائلين . الثاني : أنه متعلِّقٌ ب » قَدَّر « أي : قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين . الثالث : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل : هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل : في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها؟

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)

والدُّخان : ما ارتفع مِنْ لَهَبِ النار ، ويُسْتعار لِما يُرى مِنْ بخارِ الأرضِ عند جَدْبِها . وقياسُ جَمْعِه في القلةِ : أَدْخِنة ، وفي الكثرة : دِخْنان نحو غُراب وأَغْرِبة وغِربان ، وشذُّوا في جَمْعِه على دواخِن . قيل : هو جمعُ داخِنة تقديراً على سبيلِ الإِسناد المجازيِّ . ومثله : عُثان وعَواثِن .
قوله : « وهي دُخانٌ » من باب التشبيهِ الصُّوري؛ لأن صورتِها صورةُ الدخان في رأي العَيْنِ .
قوله : « أَتَيْنا » قرأ العامَّةُ « ائْتِيا » أمراً من الإِتْيان ، « قالتا أَتَيْنا » منه أيضاً . وقرأ ابنُ عباس وابنُ جبير ومجاهدٌ : « آتِيا قالتا آتَيْنا » بالمدِّ فيهما . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من المُؤَاتاة ، وهي الموافَقَةُ أي : ليوافِقْ كلٌّ منكما الأخرى لِما يليقُ بها ، وإليه ذهب الرازي والزمخشري . فوزنُ « آتِيا » فاعِلا كقاتِلا ، و « آتَيْنا » وزنُه فاعَلْنا كقاتَلْنا . / والثاني : أنَّه من الإِيْتاء بمعنى الإِعطاء ، فوزنُ آتِيا أَفْعِلا كأَكْرِما ، ووزن آتَيْنا أَفْعَلْنا كأَكْرَمْنا . فعلى الأول يكونُ قد حَذَفَ مفعولاً ، وعلى الثاني يكونُ قد حَذَفَ مفعولَيْن إذ التقدير : أَعْطِيا الطاعةَ مِنْ أنفسكما مَنْ أَمَرَكما . قالتا : أَعْطَيْناه الطاعة .
وقد مَنَع أبو الفضل الرازيُّ الوجهَ الثاني . فقال : « آتَيْنا » بالمَدِّ على فاعَلْنا من المُؤاتاة ، بمعنى سارَعْنا ، على حَذْفِ المفعولِ به ، ولا تكونُ من الإِيتاء الذي هو الإِعطاءُ لبُعْدِ حَذْفِ مفعولَيْه « . قلت : وهذا هو الذي مَنَعَ الزمخشريِّ أَنْ يَجْعَلَه من الإِيتاء .
قوله » طَوْعاً أو كَرْهاً « مصدران في موضعِ الحال أي : طائِعتين أو مُكْرَهَتَيْن . وقرأ الأعمشُ » كُرْهاً « بالضم . وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في النساء .
قوله : » قالتا « أي : قالَتِ السماء والأرض . وقال ابنُ عطية : » أراد الفرقتَيْن المذكورتَيْن . جَعَلَ السماواتِ سماءً ، والأرضين أرضاً ، وهو نحوُ قولِ الشاعر :
3948 ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قومي ... وقومِك قد تبايَنَتا انْقِطاعا
عَبَّر عنهما ب « تَباينتا » . قال الشيخ : « وليس كما ذَكَر؛ لأنه لم يتقدَّمْ إلاَّ ذِكْرُ الأرضِ مفردةً والسماءِ مفردةً ، فلذلك حَسُن التعبيرُ بالتثنيةِ . وأمَّا البيتُ فكأنه قال : حَبْلَيْ قومي وقومِك ، وأنَّثَ في » تبايَنَتا « على المعنى لأنه عنى بالحبالِ المودَّة » .
قوله : « طائِعِين » في مجيئِه مجيءَ جَمْعِ المذكرِين العقلاءِ وجهان ، أحدهما : أنَّ المرادَ : أَتيا بمَنْ فيهما من العقلاء وغيرِهم ، فلذلك غَلَّب العقلاءَ على غيرِهم ، وهو رَأْيُ الكسائيِّ . والثاني : أنه لمَّا عامَلهما معاملةَ العقلاء في الإِخبارِ عنهما والأمرِ لهما جُمِعا كجَمْعِهم ، كقولِه : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وهل هذه المحاوَرَةُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ خلافٌ .

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

قوله : { سَبْعَ } : في نصبه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ ل « قَضاهُنَّ »؛ لأنه ضُمِّن معنى صَيَّرهُنَّ بقضائِه سبعَ سماواتٍ .
والثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ مفعولِ « قَضاهُنَّ » أي : قضاهُنَّ معدودةً ، و « قضى » بمعنى صَنَع ، كقولِ أبي ذؤيب :
3949 وعليهما مَسْرُوْدتان قَضاهما ... داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبَّعُ
أي : صَنَعهما . الثالث : أنه تمييزٌ . قال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميراً مبهماً مُفَسَّراً بسبعِ سماوات [ على التمييز » ] يعني بقولِه « مبهماً » أنَّه لا يعودُ على السماء لا من حيث اللفظُ ولا مِنْ حيث المعنى ، بخلاف كونِه حالاً أو مفعولاً ثانياً . الرابع : أنه بدلٌ مِنْ « هُنَّ » في « فقَضاهُنَّ » قاله مكي . وقال أيضاً : « السَّماء تذكَّرُ وتؤنَّثُ . وعلى التأنيثِ جاء القرآن ، ولو جاء على التذكير لقيل : سبعة سماوات » . وقد تقدَّم تحقيقُ تذكيرِه وتأنيثِه في أوائل البقرة .
قوله : « وحِفْظاً » في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ ، أي : وحَفِظْناها بالثواقب من الكواكِبِ حِفْظاً . والثاني : أنه مَفْعولٌ مِنْ أجله على المعنى ، فإنَّ التقديرَ : خلقنا الكواكبَ زينةً وحِفْظاً . قال الشيخ : « وهو تكلُّفٌ وعُدولٌ عن السَّهْلِ البيِّنِ » .===

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...