ج13. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
قوله
: { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } : في رفع « أنفسهم »
وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ « شهداء » ، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه
غيرَه . والثاني : أنه نعتٌ له ، على أنَّ « إلاَّ » بمعنى « غير » . قال أبو
البقاء : « ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان ، أو منصوباً على
الاستثناء . وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ » إلاَّ « هنا صفةٌ للنكرةِ كما
ذَكْرنا في سورة الأنبياء » . قلت : وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ « كان »
ناقصةً ، وخبرُها الجارُّ ، وأَنْ تكونَ تامةً أي : ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ .
وقرأ العامَّةُ « يكن » بالياءِ من تحتُ ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ
لِما بعدَ « إلاَّ » على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو :
« ما قام إلاَّ هندٌ » ولا يجوز : ما قامَتْ ، إلاَّ في ضرورة كقوله :
3433 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ
الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ : « لا ترى إلاَّ مَساكنُهم » وقرىء « ولم تَكُنْ »
بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه .
قوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ
مبتدأ ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي : فعليهم شهادة ، أو مُؤَخَّرهُ أي : فشهادة
أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ . الثاني : أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالجوابُ
شهادةُ أحدِهم . الثالث : أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : فيكفي . والمصدرُ هنا
مضافٌ للفاعلِ .
وقرأ العامَّةُ « أربعَ شهاداتٍ » بالنصبِ على المصدر . والعاملُ فيه « شهادة »
فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه ، كما تقدَّم في قولِه { فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «
أربع » على أنها خبرُ المبتدأ ، وهو قوله : « فشهادة » .
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله : « بالله » ، فعلى قراءةِ
النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه
. والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : « فشهادةُ » أي : فشهادةُ أحدِهم بالله . ولا
يَضُرُّ الفصلُ ب « أربع » لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً . والثالث : أن
المسألةَ من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى
، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول ، وهو مختار البصريين . وعلى
قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ
بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ . ولم يُختلفْ في « أربع »
الثانية وهي قولُه « أَنْ تَشْهد أ ربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ
فيها . وهو الفعلُ .
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
قوله
: { والخامسة } : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى ، واختلفوا في الثانية :
فنصبها حفصٌ ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش . فالرفعُ على
الابتداءِ ، وما بعده مِنْ « أنَّ » وما في حَيِّزها الخبرُ . وأمَّا نصبُ الأولى
فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ « أربعَ شهادات » يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها .
وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي : ويَشْهَدُ الخامسةَ .
وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو « أربع شهادات » .
والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه :
ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه . وأمَّا « أنَّ » وما في حَيِّزها : فعلى قراءةِ الرفعِ
تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم ، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على
إسقاطِ الخافضِ ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي : ويشهد الخامسةَ
بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من
الخامسة .
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } قرأ العامَّةُ بتشديد « أنَّ » في
الموضعين . وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين ، إلاَّ أنه يقرأ « غَضِبَ اللهُ »
بجَعْلِ « غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعلَه . كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ
في الأولى أيضاً ، ولم ينقُلْه غيره . فعلى قراءتِه يكون اسمُ « أنْ » ضميرَ
الشأنِ في الموضعين ، و « لعنةُ الله » مبتدأ و « عليه » خبرُها . والجملةُ خبرُ «
أنْ » . وفي الثانية يكون « غضِبَ الله » جملةً فعليةً في محل خبر « أنْ » أيضاً ،
ولكنه يقال : يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن ، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ
والفعلِ الواقعِ خبراً ، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ .
تقريرُ ذلك : أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب « قد »
وَجَبَ الفصلُ بينهما . بما تقدَّم في سورة المائدة . فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ
اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً
ل « إنَّ » . حتى تأوَّلوا قولَه :
3434 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إنَّ الرِّياضةَ لا
تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله :
3435 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم
ناما
على إضمارِ القول . ومثلُه { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] . وقرأ
الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف « أنْ و » غَضَبُ الله « بالرفع
على الابتداء ، والجارُّ بعدَه خبرُه . والجملةُ خبرُ » أنْ « .
وقال ابنُ عطية : » وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله : « أَنْ غَضِبَ » وقد
وليها الفعلُ . قال أبو علي : « وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ
إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل
: 20 ] { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] فأمَّا قولُه : { وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ } [ النجم : 39 ] فذلك لقلةِ تمكُّنِ » ليس « في الأفعال .
وأمَّا قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } ف » بُوْرِكَ « في معنى الدعاء فلم
يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى » . قلت : فظاهرُ هذا أنَّ « غَضِبَ »
ليس دعاءً ، بل هو خبرٌ عن « غَضَِبَ الله عليها » والظاهرُ أنه دعاءٌ ، كما أنَّ
« بُورك » كذلك . وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي
محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } : جوابُ « لولا » محذوفٌ أي : لَهَلَكْتُمْ .
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
قوله
: { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك } : في خبر « إنَّ » وجهان ، أحدهما : أنه «
عُصْبةٌ » و « منكم » صفتُه . قال أبو البقاء : « وبه أفادَ الخبر » . والثاني :
أنَّ الخبرَ الجملةُ مِنْ قولِه { لاَ تَحْسَبُوهُ } ويكونُ « عُصْبَةٌ » بدلاً من
فاعلِ « جاؤوا » . قال ابن عطية : « التقديرُ : إنَّ فِعْلَ الذين . وهذا أنْسَقُ
في المعنى وأكثرُ فائدةً من أَنْ يكونَ » عُصبةٌ « خبرَ إنَّ . كذا أورده عنه
الشيخ غيرَ معترِضٍ عليه . والاعتراضُ عليه واضحٌ : من حيث إنه أوقع خبرَ » إنَّ «
جملةً طلبيةً ، وقد تقدم أنه لا يجوزُ . وإن وَرَدَ منه شيءٌ في الشعر أُوِّل
كالبيتين المتقدمين ، وتقديرُ ابنِ عطيةَ ذلك المضافَ قبل الموصولِ ليَصِحَّ به
التركيبُ الكلاميُّ؛ إذ لو لم يُقَدِّرْ لكان التركيبُ : لا تَحْسَبوهم . ولا
يعودُ الضمير في » لا تَحْسَبوه « على قولِ ابنِ عطيةَ على الإِفكِ لئلا تَخْلُوَ
الجملةُ من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ . وفي قولِ غيرِه يجوزُ أَنْ يعودَ على
الإِفك أو على القَذِف ، أو على المصدرِ المفهومِ من » جاؤوا « أو على ما نال
المسلمين من الغَمِّ .
قوله : { كِبْرَهُ } العامَّةُ على كسرِ الكافِ ، وضَمَّها في قراءته الحسنُ والزهريُّ
وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن ، ورُوِيَتْ
أيضاً عن أبي عمروٍ والكسائيّ فقيل : هما لغتان في مصدرِ كَبُرَ الشيءُ أي : عَظُم
، لكن غَلَبَ في الاستعمالِ أنَّ المضمومَ في السِّنِّ والمكانةِ يُقال : هو
كُبْرُ القومِ بالضمِّ أي : أكبرُهم سِنَّاً أو مكانةً . وفي الحديث في قصة
مُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة » الكُبْرَ الكُبْرَ « وقيل : الضم معظمُ الإِفْكِ ،
وبالكسرِ البُداءَةُ به . وقيل : بالكسر الإِثمُ .
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
قوله : { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون } : هذه تحضيضيةٌ ، و « إذ » منصوبٌ ب ظَنَّ . والتقدير : لولا ظَنَّ المؤمنين بأنفسِهم إذ سَمِعْتُموه . وفي هذا الكلامِ التفاتٌ . قال الزمخشري : « فإنْ قُلْتَ : هلاَّ قيل : لولا إذ سَمِعْتُموه ظَنَنْتُمْ بأنفسِكم خيراً وقُلْتم . ولِمَ عَدَلَ عن الخطابِ إلى الغَيْبة ، وعن الضميرِ إلى الظاهرِ؟ قلت : ليُبالِغَ في التوبيخِ بطريقةِ الالتفاتِ ، وليُصَرِّحَ بلفظِ الإِيمانِ دلالةً على أنَّ الاشتراكَ فيه مُقْتَضٍ أَنْ لا يُصَدِّقَ أحدٌ قالةً في أخيه » . وقوله « لِمَ عَدَلَ الخطابِ »؟ يعني في قولِه « وقالوا » فإنَّه كان الأصلُ : وقلتم فعدل عن هذا الخطاب إلى الغَيْبة في : « وقالوا » . وقوله : « وعن الضميرِ » يعني أنَّ الأصلَ كان : ظَنَنْتُمْ فَعَدَلَ عن ضميرِ الخطابِ إلى لفظِ المؤمنين .
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
قوله : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ } : « إذْ » منصوبٌ ب « الكاذبون » في قوله : { فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } . وهذا الكلامُ في قوةِ شرطٍ وجزاء .
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
قوله
: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } : « إذْ » منصوبٌ ب « مَسَّكُمْ » أو ب « أَفَضْتُمْ » .
وقرأ العامَّةُ « تَلَقَّوْنه » . والأصلُ : تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى
التاءَيْن ك { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] ونحوه . ومعناه : يتلقَّاه بعضُكم من بعض
. والبزيُّ على أصله : في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً . وقد تقدَّم تحقيقُه في
البقرة نحو { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } [ البقرة : 267 ] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما
قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا . وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ
الذالِ في التاء . وقرأ أُبَيّ « تَتَلَقَّوْنَه » بتاءين ، وتقدَّم أنها الأصلُ .
وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه « تُلْقُوْنَه » بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ
القافِ مضارِعَ « ألقى » إلقاءً . وقرأ هو في روايةٍ أخرى « تَلْقَوْنه » بفتح
التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ .
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ
وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ . قال ابن سيده : « جاؤوا بالمتعدي
شاهداً على غير المتعدي . وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ
للضمير » . يعني أنهم جاؤوا ب « تَلِقُوْنه » وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب « تُكذِّبون
» وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر . وقال الطبري وغيره : « إن هذه اللفظةَ
مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ
وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال : وَلَقَ في سَيْرِه أي : أسرع وأنشد :
3436 جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ ... وقال أبو البقاء : أي : تُسْرعون
فيه . وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون » .
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر « تَأْلِقُوْنه » بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ
مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ . وقرأ يعقوب « تِيْلَقُوْنه » بكسر
التاءِ من فوقُ ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ ، وهو مضارع
وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل .
وقوله : { بِأَفْوَاهِكُمْ } كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران :
167 ] وقد تقدَّم .
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
قوله
: { ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ } : كقوله : { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
ظَنَّ } [ الآية : 12 ] ولكن لا التفاتَ فيه . وقال الزمخشري : « فإن قلت : كيف
جاز الفصلُ بين » لولا « و » قُلْتم « . قلت : للظروفِ شأنٌ ليس لغيرِها لأنها لا
يَنْفَكُّ عنها ما يقعُ فيها فلذلك اتُّسِع فيها » . قال الشيخ : « وهذا يُوْهِمُ
اختصاص ذلك بالظروف ، وهو جارٍ في المفعول به تقول ، لولا زيداً ضَرَبْتَ ، ولولا
عمراً قَتَلْتَ » .
وقال الزمخشري أيضاً : « فإِنْ قلتَ : أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ
فاصلاً؟ قلت : الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما
سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به ، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه .
فإنْ قلتَ : ما معنى » يكون « والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل : ما لنا أن نتكلَّم
بهذا؟ قلت : معناه ينبغي ويَصِحُّ ، أي : ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه : { مَا
يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } [ المائدة : 116 ] .
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
قوله : { أَن تَعُودُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مفعولٌ من أجلهِ أي : يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا . الثاني : أنه على حَذْفِ « في » أي : في أَنْ تعودوا نحو : وَعَظْتُ فلاناً في كذا فتركه . الثالث : أنَّه ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدى ب عَنْ ، ثم حُذِفَتْ أي : يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ . وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ « أنْ » بعد نَزْعِ الخافضِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قوله
: { فَإِنَّهُ يَأْمُرُ } : في هذه الهاءِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أنها ضميرُ
الشَّأْن . وبه بدأ أبو البقاء . والثاني : أنها ضميرُ الشيطان . وهذان الوجهان
إنما يجوزان على رَأْيِ مَنْ لا يَشْترط عَوْدَ ضميرٍ على اسمِ الشرط مِنْ جملة
الجزاء . والثالث : أنه عائدٌ على « مَنْ » الشرطيَةِ .
قوله : { مَا زَكَا } العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال : زكا يَزْكُو . وفي ألفه
الإِمالةُ وعدمُها . وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها . وكُتبت ألفُه ياءً وهو
شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا . وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ
المُشَدَّدِ . فعلى قراءة التخفيفِ يكون « مِنْ أحد » فاعلاً . وعلى قراءةِ
التشديدِ يكونُ مفعولاً . و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن . والفاعلُ هو
اللهُ تعالى .
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
قوله
: { وَلاَ يَأْتَلِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف
كقوله :
3437 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . وآلَتْ حَلْفَةً لم
تَحَلَّلِ
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن « ولا يَتَأَلَّ » من الأَلِيَّة كقوله : «
مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه » . ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ
أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ]
قال :
3438 وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه ... بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ
وقال أبو البقاء : وقُرِىء « ولا يَتَأَلَّ » على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة
أيضاً « .
قلت : ومنه :
3439 تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني ... إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ
مَفائِدُ
قوله : { أَن يؤتوا } هو على إسقاطِ الجارِّ ، وتقديرُه على القول الأولِ ، ولا
يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا . وعلى الثاني : ولا يُقَصِّر
أُولو الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا . وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب »
تُؤْتُوا « بتاء الخطاب . وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه : » ألا تُحِبون « . وقرأ
الحسن وسفيان بن الحسين : وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا ، بالخطاب ، وهو موافِقٌ
لِما بعده .
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ } : ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به « لهم » . وقيل : بل ناصبُه « عذابُ » . ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ وأجيب : بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه/ ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه . وقرأ الأخَوان « يَشْهَدُ » بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ، وقد وقعَ الفَصْلُ . والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ .
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
والتنوينُ في « إذ » عوضٌ من الجملة ، تقديرُه : يوم إذ تشهد . وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه ، وقرأ زيد بن علي « يُوْفِيْهِمْ » مخففاً مِنْ أوفى . وقرأ العامَّةُ بنصب « الحق » نعتاً ل « دينَهم » ، وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدٌ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ برفعِه نعتاً لله تعالى .
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً ، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « لهم » خبرَ « أولئك » و « مغفرةٌ » فاعلُه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
قوله
: { تَسْتَأْنِسُواْ } : يجوزُ أن يكونَ من الاستئناس؛ لأنَّ الطارِقَ
يَسْتَوْحِشُ من أنه : هل يُؤْذن له أو لا؟ فيُزالُ استيحاشُه ، وهو رَدِيْفُ
الاستئذانِ فَوُضِع موضعَه . وقيل : من الإِيناس وهو الإِبْصار أي : حتى
تَسْتَكْشفوا الحالَ . وفسَّره ابن عباس « حتى تَسْتَأْذِنُوا » وليست قراءةً .
وما يُنقل عنه أنه قال : « تستأنسوا خطأٌ من الكاتب ، إنما هون تستأذنوا » . . . .
. منحولٌ عليه . وهو نظيرُ ما تقدَّم في الرعد { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا }
[ الرعد : 31 ] وقد تقدَّم القول فيه .
والاستِئْناسُ : الاسْتِعْلام ، قال :
3440 كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا ... يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ
وَحَِدِ
وقيل : هو من الإِنْس بكسرِ الهمزةِ أي : يتعرَّفُ : هل فيها إنسِيُّ أم لا؟ وحكى
الطبريُّ أنه بمعنى : وتُؤْنِسُوا أنفسَكم « .
قال ابنُ عطية : » وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ « .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
قوله : { أَن تَدْخُلُواْ } : أي : في أن تدخلوا . والجارُّ متعلِّقٌ بجُناح .
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
قوله : { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } : في « مِنْ » أوجهٌ ، أحدُها : أنها للتبعيضِ لأنَّه يعفى عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ . والثاني : لبيانٍ الجنسِ . قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً ب « مِنْ » . والثالث : أنها لابتداءِ الغاية . وقاله ابنُ عطية . والرابعُ : أنها مزيدةٌ . وهو قولُ الأخفشِ .
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قوله
: { وَلْيَضْرِبْنَ } : ضَمَّن « يَضْرِبْنَ » معنى يُلْقِيْنَ فلذلك عدَّاه ب «
على » . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بكسرِ لامِ الأمرِ .
وقرأ طلحة « بخُمْرِهنَّ » بسكونِ الميمِ ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ
تسكينِ المفردِ . وكَسَر الجيمَ مِنْ « جُيُوْبِهِنَّ » ابنُ كثير والأخَوان وابن
ذَكْوان .
والغَضُّ : إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية . قال :
3441 فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ ... فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا
والخُمُر : جمع خِمار . وفي القلَّة يُجْمَعُ على « أَخْمِرَة » ، قال امرؤُ القيس
:
3442 وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ ... كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ
والجَيْبُ : ما في طَوْقِ القميصِ ، يبدو منه بعضُ الجَسَدِ .
قوله : { غَيْرِ أُوْلِي } قرأ ابن عامر وأبو بكر « غيرَ » نصباً . وفيه وجهان ،
أحدُهما : أنَّه استثناءٌ ، والثاني : أنَّه حالٌ ، والباقون « غيرِ » بالجرِّ
نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً ، والإِرْبَةُ : الحاجةُ . وتقدَّم اشتقاقُها في طه
.
قوله : { مِنَ الرجال } حالٌ من « أُولي » وأمَّا قولُه : « أو الطفلِ الذين » فقد
تقدَّم في الحج أن « الطفلَ » يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع .
وقيل : لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم : « أهلكَ الناسَ
الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ » .
و « عَوْرات » جمعُ عَوْرَة وهو : ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه ، وغَلَبَ
في السَّوْءَتين . والعامَّةُ على « عَوْرات » بسكون الواوِ ، وهي لغةُ عامَّةِ
العربِ ، سَكَّنوها تخفيفاً ، لحرفِ العلة . وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ « عَوَرات »
بفتح العين . ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش . وهي لغةُ
هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة . قال الفراء : « وأنشدَني بعضُهم :
3443 أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ ... رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وجعلها ابن مجاهد لحناً وخطأ ، يعني من طريق الرواية ، وإلاَّ فهي لغة ثابتة .
قوله : { أَيُّهَا المؤمنون } العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء ،
وهي » ها « التي للتنبيه . وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف { ياأيها الساحر } [
الآية : 49 ] ، في الرحمن { أَيُّهَا الثقلان } [ الآية : 31 ] بضم الهاء وصلاً ،
فإذا وَقَفَ سَكَّن . ووجْهُها : أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين
اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً . وقد رُسِمَتْ
هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ . فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ ، والباقون
بدونِها ، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ ، وثَبَتَتْ في غير هذه
المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل ، نحو : { يَاأَيُّهَا الناس } [ البقرة : 21 ] ،
{ يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 153 ] وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ
مُتَّبَعَةٌ .
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قوله
: { الأيامى } : هو جمعُ « أيِّم » بزنةِ فَيْعِل . يُقال منه : آمَ يَئِيْم كباع
يبيع قال الشاعر :
3444 كلُّ امرىءٍ سَتَئِيْمُ مِنْهُ ... العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ
وقياسُ جمعِه « أيائم » كسَيِّد وسِيائِد . و « أيامى » فيه وجهان ، أظهرُهما : من
كلام سيبويه أنه جمعٌ على فعالى غيرَ مقلوبٍ وكذلك « يتامى » ، وقيل : إن الأصل
أيايِم ويتايِم في : أيِّم ويتيم فقُلبا . والأَيِّم : مَنْ لا زوجَ له ذكراً كان
أو أنثى . وخَصَّه أبو بكر الخَفَّافُ بمَنْ فَقَدَتْ زوجَها فإطلاقُه على البِكْر
مجازٌ . و « منكم » حالٌ ، وكذا « مِنْ عبادِكم » .
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قوله
: { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء . والخبرُ
الجملةُ المقترنةُ بالفاء ، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط . ويجوز نصبه
بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال . وهذا أرجحُ لمكان الأمر .
وقال الزمخشري : « وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما : إذا لم يتزوَّجا ، بِكْرين كانا أو
ثِّيَبْن . قال :
3445 فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي ... وإن كنتُ أفتى منكمُ أتَأَيَّمُ
وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم : » اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة
والأيمة والكَزَم والقَرَم « قلت : أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن ،
وبالمعجمةِ شدةُ العطشِ . والأَيْمة : طول العُزْبَة ، والكَزَم : شدةُ شهوةِ
الأكل . والقَرَمُ : شدةُ شهوةِ اللحم .
قوله : { عَلَى البغآء } » البغاء « مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً ، أي :
زَنَتْ . وهو مختصٌّ بزِنى النساء . ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا
يكونُ مع الإِرداة .
قوله : { فِإِنَّ الله } جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط . والعائدُ على اسمِ الشرط
محذوفٌ تقديرُه : غفور لهم . وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه ، وابن عطية ،
وأبو البقاء : فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي : للمُكْرَهات ، فَعَرِيَتْ جملةُ
الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ . لا يُقال : إن الرابطَ هو الضميرُ
المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ : مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ
فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ ، تقول
: » هندٌ عجبْتُ مِنْ ضَرْبِها زيداً « فهذا جائزٌ ، ولو قلت : هندٌ عجبتُ مِنْ
ضَرْبِ زيدٍ أي : من ضَرْبِها ، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً .
وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ » بهم « ورَجِّح تقديرَ » بهنَّ « فقال : »
فيه وجهان ، أحدُهما : غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن
المُكْرَهِ فيما فَعَلَ . والثاني : فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ .
وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ « . وفيه نظرٌ لِما
عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد
تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ . ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ » لهنَّ « أورد سؤالاً
فقال : » فإن قلتَ : لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ ، لأنَّ المُكْرَهَةَ
على الزنى بخلاف المكرِه [ عليه في أنها ] غيرُ آثمةٍ . قلت : لعل الإِكراهَ غيرُ
ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ
عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ . وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه
فتكونُ آثمةً « .
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
وتقدَّمَ
الخلافُ في « مُبَيّنات » كسراً وفتحاً .
قوله : { وَمَثَلاً } عطفٌ على « آيات » أي : وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين
قبلكم .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قوله
: { الله نُورُ السماوات } : مبتدأٌ وخبرٌ : إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذو نورٍ
السماوات . والمرادُ بالنور عَدْلُه . ويؤْيِّد هذا قولُه { مَثَلُ نُورِهِ } .
وأضاف النورَ لهذين الظرفين : إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته ،
حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ ،
وأنَّهم يَسْتضيئون به . ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ
كقولهم : فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها ، قال النابغة :
3446 فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ
وقال :
3447 قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : مُنَّوِّرُ السماواتِ
. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز
المكي « نَوَّرَ » فعلاً ماضياً . وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى ، و « السماواتِ »
مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ . و « الأرضَ » بالنصبِ نَسَقٌ عليه . وفَسَّره الحسنُ فقال
: الله مُنَوِّرُ السماوات .
قوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً . وهذه الجملةُ إيضاحٌ
لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها . وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : كَمَثَلِ نورِ
مشْكاة . قال الزمخشري : « أي : صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ
كَمِشْكاةٍ أي : كصفةِ مِشْكاة » .
واختلفوا في الضمير في « نُوره » فقيل : هو للهِ تعالى ، وهو الأولى ، والمرادُ
بالنورِ على هذا : الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ ، أو الإِيمان ، وقيل : إنه عائدٌ
على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به . وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها
. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به . وقيل : يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم
ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ . وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ
أُبَيّ ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد . / قال مكي : « يُوْقَفَ على » الأرض « في
هذه الأقوالِ الثلاثةِ » .
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ : أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي : قُصِدَ فيه تشبيهُ
جملةٍ بجملةٍ ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه
وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه
. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي : قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ
بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في « نوره » .
والمِشْكاةُ : الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ . وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟
خلافٌ . وقيل : هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل ،
وتكون في جَوْفُ الزجاجة ، وقيل : هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه المصباحُ ،
وقيل : ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ ، وأمال « المِشْكاة » الدُّوري عن
الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ . ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة
.
والمِصْباح : السِّراجُ الضخمُ . والزجاجةُ : واحدةٌ الزجاج ، وهو جوهرٌ معروفٌ .
وفيه ثلاثُ لغاتٍ : فالضم لغةُ الحجاز ، وهو قراءةُ العامَّة ، والكسرُ والفتحُ
لغةُ قيس .
وبالفتح
قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في
روايةٍ عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلافُ في قوله « الزجاجةُ » .
والجملةُ مِنْ قوله : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } صفةُ ل « مِشْكاة » . ويجوزُ أن يكونَ
الجارُّ وحدَه هو الوصفَ ، و « مصباحٌ » مرتفعٌ به فاعلاً .
قوله : { دُرِّيٌّ } ، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ . وقرأ
حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ . والباقون بضمِّ الدال وتشديد
الياءِ من غيرِ همزةٍ ، وهذه الثلاثةُ في السبع ، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ
وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء . وقرأ
أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً « دَرِّيْء » بفتح الدال
وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ .
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو « سِكِّين » وفي
الصفاتِ نحوِ « سِكِّير » .
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي : يدفع بعضُها
بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها ، قيل : ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ
مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا : إنها من السرور ، وإنه أُبْدل مِن
إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل ، ومُرِّيخاً للذي في
داخلِ القَرْنِ اليابس ، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً ، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه
القراءة ، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ . وقال بعضهم : « وزن دُرِّيْء في هذه
القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس ، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ
، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة .
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ
كقراءةِ حمزةَ ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً ، وأَدْغم ، فَيَتَّحدُ
معنى القراءتين ، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها .
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها ، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى
الدُّر . والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ .
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ . قال أبو الفتح : » وهو بناءٌ
عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين « . قلت : وقد
حكى الأخفشُ : » فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار « و » كوكَبٌ دَرِّيْءٌ « مِنْ »
دَرَاْتُه « .
قولِه : { يُوقَدُ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو » تَوَقَّدَ « بزنة تَفَعَّلَ فعلاً
ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح ، ولا يعودُ على » كوكب « لفسادِ
المعنى . والأخوان وأبو بكر » تُوْقَدُ « بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ ،
مضارعَ أَوْقَدَ . وهو مبنيٌّ للمفعولِ . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على
» زجاجة « فاسْتَتَرَ في الفعل . وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ
.
والضميرُ
المستترُ يعودُ على المصباح .
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن ، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك ،
إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال ، جعله مضارع « تَوَقَّدَ » ، والأصلُ : تَتَوَقَّد بتاءَيْن
، فحُذِفَ إحداهما ك « تَذَكَّرُ » . والضميرُ أيضاً للزُّجاجة .
وقرأ عبد الله « وَقَّدَ » فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً ، أي : المصباح .
وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً « يَوَقَّدُ » بالياء مِنْ تحتُ ، وضَمِّ الدال ،
مضارعَ تَوَقَّدَ . والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ ، وتاءٍ مِنْ فوقُ ،
فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ . هذا شاذٌ إذ لم يتوالَ مِثْلان ، ولم يَبْقَ في
اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف ، بخلافِ « تَنَزَّلُ » و « تَذَكَّرُ » وبابِه؛
فإنَّ فيه تاءَيْن ، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد . / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه
وجهٌ من القياس وهو : أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في
حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء
على تَتَوَقَّد بتاءين ، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء .
قوله : { مِن شَجَرَةٍ } « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي :
مِنْ زيتِ شجرةٍ . وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما : أنَّها بدلٌ مِنْ « شجرةٍ » .
الثاني : أنها عطفٌ بيان ، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ . وقد تقدَّم
هذا في قوله { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] .
قوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ } صفةٌ ل « شَجَرة » ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ . وقرأ
الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي : لا هي شرقيةٌ . والجملةُ أيضاً في محل
جَرٍّ نعتاً ل « شَجَرة » .
قوله : { يَكَادُ } هذه الجملةُ أيضاً نعتُ ل « شجرةٍ » .
قوله : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } جوابُها محذوفٌ أي : لأضاءَتْ لدلالةِ ما
تقدَّمَ عليه ، والجملةُ حاليةٌ . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه « رُدُّوا
السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس » وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ : حتى في هذه الحال .
وقرأ ابن عباس والحسن « يَمْسَسْه » بالياءِ لأنَّ المؤنَّثَ مجازيٌّ ، ولأنه قد
فُصِلَ بالمفعولِ أيضاً .
قوله : { نُّورٌ على نُورٍ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : ذلك نورٌ . و « على نورٍ »
صفةٌ ل « نور » .
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
قوله
: { فِي بُيُوتٍ } : فيها ستةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها صفةٌ ل « مِشْكاةٍ » أي :
كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي : في بيتٍ من بيوتِ الله . الثاني : أنه صفةٌ لمصباح .
الثالث : أنه صفةٌ ل « زجاجة » . الرابع : أنه متعلقٌّ ب « تُوْقَدُ » . وعلى هذه
الأقوالِ لا يُوقف على « عليم » . الخامس : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه { فِي
تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : يُسَبِّحونه في بيوت . السادس : أَنْ
يتعلَّقَ ب « يُسَبِّحُ » أي : يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت . وفيها تكريرٌ للتوكيدِ
كقولِه : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] . وعلى هذه القولَيْن
فيُوْقَفُ على « عليم » . وقال الشيخ : « وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ » ولم يُذْكر
سوى قولين .
قوله : { أَذِنَ الله } في محلِّ جرٍّ صفةً ل « بيوتٍ » ، و « أن تُرفع » على
حَذْفِ الجارِّ أي : في أَنْ تُرْفَعَ . ولا يجوزُ تَعَلُّقُ « في بيوت » بقوله :
« ويُذْكَرُ » لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز « أَنْ » ، وما بعد « أَنْ » لا يتقدَّم
عليها .
قوله : { يُسَبِّحُ } قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ .
والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة . والأولى منها بذلك الأولُ
لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه ، والذي يليه أولى . و « رجالٌ » على هذه القراءةِ
مرفوعٌ على أحدِ وجهين : إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه ،
وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل : يُسَبِّحُه رجالٌ
. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر :
3448 لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ
الطَّوائحُ
كأنه قيل : مَنْ يبكيه؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ . إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً ،
منهم مَنْ جَوَّزَه ، ومنهم مَنْ مَنعه . والوجهُ الثاني في البيت : أنَّ « يَزيدُ
» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي : يا يزيد ، وهو ضعيف جداً .
والثاني : أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : المُسَبِّحه رجالٌ . وعلى هذه
القراءةِ يُوْقفُ على الآصال .
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل . والفاعلُ « رجال » فلا يُوْقَفُ على
الآصال .
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة « تُسَبِّح » بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ
جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها . وقرأ
أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ . وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى
الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء ، كقولهم : « صِيْد عليه يومان » أي : وَحْشُها
. وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي : تُسَبَّح
التسبيحةُ ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين ، كما خَرَّجوا قراءةَ
أَبي جعفرٍ أيضاً { ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ]
أي : ليجزى الجزاءُ قوماً ، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ
صريح .
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
قوله
: { لاَّ تُلْهِيهِمْ } : في محلِّ رفعٍ صفةً ل « رجالٌ » .
قوله : { يَخَافُونَ } يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال ، وأَنْ تكونَ حالاً
مِنْ مفعول « تُلْهِيْهم » ، و « يوماً » مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر . و «
يتقلَّبُ » صفةٌ ل يوماً .
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قوله
: { لِيَجْزِيَهُمُ } : يجوز تعلُّقُه ب « يُسَبِّح » أي : يُسَبِّحون لأجل الجزاء
. ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ أي : فعلوا ذلك ليَجْزيهم . وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنه
من بابِ الإِعمال فإنه قال : « والمعنى : يُسَبِّحونَ ، ويَخافون ليجزِيَهم ،
ويكونُ على إعمالِ الثاني للحذف من الأول .
قوله : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي ثوابَ أحسنِ ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا . و
» ما « مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
قوله
: { بِقِيعَةٍ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب
. والثاني : أنَّه ظرفٌ . والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه .
والسَّرابُ : ما يتراءى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ
. وقيل : ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان . قال الشاعر :
3449 فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا
مُتَأَلِّقِ
يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ . / وقيل : هو الشُّعاع
الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ
السارِبُ أي الجاري . والقِيْعَةُ : بمعنى القاعِ . وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ .
وقد تقدَّم في طه . وقيل : بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة .
وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة . وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء ، ويَقف عليها
بالهاء . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ ، وإنما
أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه : « مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ » قاله صاحب
« اللوامح » . والثاني : أنه جمع قِيْعَة ، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به
مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم : « الإِخْوةُ والأخواهْ ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ
المَكْرُماهُ » أي : والأخوات ، والبنات ، والمَكْرُمات . وهذه القراءةُ تؤيِّدُ
أنَّ قِيْعَة جمع قاع . الثالث قال الزمخشري : « وقولُ بعضِهم : بقيعاة بتاء
مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة » فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا
اتِّساعاً .
وقوله : { يَحْسَبُهُ الظمآن } جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً . وحَسُن
ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ . هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً . والضمائرُ
المرفوعةُ في « جاءَه » وفي « لم يَجِدْه » وفي « وَجَد » ، والضمائرُ في « عنده »
وفي « وَفَّاه » وفي « حسابه » كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به
الكافرُ المذكورُ أولاً . وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ . وقيل : بل الضميران في «
جاءه » و « وجد » عائدان على الظمآن ، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر ، وإنما
أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه : { والذين كفروا }
حَمْلاً على المعنى ، إذِ المعنى : كلُّ واحدٍ من الكفار . والأولُ أَوْلى لاتساقِ
الضمائرِ .
وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع « الظَّمان » بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ
.
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قوله
: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ } : فيه : أوجهٌ ، أحدها : أنه نَسَقٌ على « كسَراب » ، على
حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه : أو كذي ظُلُمات . ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه : {
إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ
المحذوفِ وهو قولُ أبي عليّ . الثاني : أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما : أو
كأعمال ذي ظلمات ، فتُقَدِّر « ذي » ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله : {
إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } ، وتُقَدِّر « أعمال » ليَصِحَّ تشبيهُ أعمالِ الكفارِ
بأعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ . الثالث
: أنه لا حاجةَ إلى حَذْفٍ البتة . والمعنى : أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في
حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يَهْتدي به بالظُّلْمة . وأمَّا الضميران في « أَخْرج
يَده » فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي : إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها .
و « أو » هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ . وقيل : بل هي للتخييرِ أي : شَبَّهوا
أعمالَهم بهذا أو بهذا .
وقرأ سفيان بن حسين « أوَ كظٌلُمات » بفتح الواو ، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها
همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ . وقد تَقدَّم ذلك في قولِه : { أَوَ أَمِنَ
أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] .
قوله : { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } : « في بحرٍ » صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ .
واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ . كذا قال الزمخشري . وقال
غيرُه : منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمه ، فاللجِّيُّ هو العميقُ
الكثيرُ الماءِ .
قوله : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ } صفةٌ أخرى ل « بَحْرٍ » هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في
« يَغْشاه » على « بحرٍ » وهو الظاهر . وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي : أو كذي
ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في « يَغْشاه » عائداً عليه ، وكانت الجملةُ
حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة ، أو صفةً له .
قوله : { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر ،
صفةً ل « موجٌ » الأول . ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و «
مَوْجٌ » فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ .
قوله : { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } فيه الوجهان المذكوران قبلَه : من كونِ الجملةِ
صفةً ل « موج » الثاني ، أو الجارِّ فقط .
قوله : { ظُلُمَاتٌ } قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان ، أجودُهما : أن يكونَ خبرَ
مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هذه ، أو تلك ظلمات . الثاني : أَنْ يكونَ « ظُلُمات »
مبتدأً . والجملةُ من قولِه « بعضُها فوقَ بعض » خبرُه . ذكره الحوفي . وفيه نظرٌ
لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ : إنها
موصوفةً تقديراً ، أي : ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم : « السَّمْنُ مَنَوَانِ
بدرهم » .
وقرأ ابن كثير « ظلماتٍ » بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ
التنوينِ من « سَحاب » ، فقرأ البزي عنه « سحابُ ظلماتٍ » بإضافة « سَحابُ » ل «
ظلمات » .
وروى
قنبل عنه التنوينَ في « سَحابٌ » كالجماعة مع جرِّه ل « ظُلُماتٍ » . فأمَّا
روايةُ البزي فقال أبو البقاء : / « جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ » ،
وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ « ظلماتٍ » بدلاً مِنْ « ظلماتٍ » الأولى .
قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ
على حَسَبِ القراءتين في « ظلمات » قبلَها لأنها صفةٌ لها . وجَوَّز الحوفيُّ على
قراءةِ رفع « ظلماتٌ » في « بعضُها » أن يكونَ بدلاً من « ظلمات » . ورُدَّ عليه
من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ
فوق بعضٍ وصفاً لها بالتراكم ، لا أنَّ المعنى : أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ ،
من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ . وفيه نظرٌ؛ إذ لا
فرقَ بين قولِك « بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض » ، وبين قولك « الظلماتُ بعضُها فوقَ
بعضٍ » وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ .
وقد تقدَّم الكلامُ في « كاد » ، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها
نفيٌ . وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه . وقال الزمخشري هنا
: « لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي : لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ
يَراها . ومنه قولُ ذي الرمة :
3450 إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ ... رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ
مَيَّةَ يَبْرَحُ
أي : لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ » . وقال أبوة البقاء : « أختلف
الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ . ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه : أنَّ موضوعَ » كاد «
إذا نُفِيَتْ : وقوعُ الفعلِ . وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى : أنَّه لا يرى
يدَه ، فعلى هذا : في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ التقديرَ : لم يَرَها
ولم يَكَدْ ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين . وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه » لم يَرَها «
جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله : » لم يَكَدْ « إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ
: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية . فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه
لم يَكَدْ يراها ، وأنه رآها بعد جُهْدٍ ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها
، وإنْ كان معنى » لم يكَدْ يَراها « : لم يَرَها البتةَ على خلافِ الأكثرِ في هذا
الباب ، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها . والوجه
الثاني : أنَّ » كاد « زائدةٌ وهو بعيدٌ . والثالث : أنَّ » كاد « أُخْرِجَتْ ههنا
على معنى » قارب « والمعنى : لم يقارِبْ رؤيتَها ، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها .
وعليه
جاء قولُ ذي الرمة :
إذا غَيَّر النَّأْيُ . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
البيت . أي : لم يقارِبِ البَراحَ . ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا
رُوْجِع في هذا البيت قال : لم أجِدْ بدل « لم يَكَدْ » . والمعنى الثاني : أنَّه
رآها بعد جُهْدٍ . والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ
نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها « انتهى .
أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ : مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً ،
فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ
البقرة . وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو :
3451 أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
البيتين . وأمَّا [ ما ] ذكره مِنْ زيادةِ » كاد « فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه ،
ولكنه مردودٌ عندَهم . وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني : وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ
فهو مذهبُ الفراء والمبرد . والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه
الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟
وقال ابنُ عطية ما معناه : » إذا كان الفعلُ بعد « كاد » منفياً دَلَّ على ثبوتِه
نحو : كاد زيدٌ لا يقوم ، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو : « كاد زيد يقوم »
وإذا تقدَّم النفيُ على « كاد » احتمل أن يكونَ مُوْجَباً ، وأَنْ يكونَ منفياً .
تقول : « المفلوج لا يَكاد يَسْكُن » فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ . وتقول : رجل
منصرف لا يكاد يَسْكُن ، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد « .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
قوله
: { والطير } : قرأ العامَّةُ « والطيرُ » رفعاً . « صافاتٍ » نصباً : فالرفعُ
عطفٌ على « مَنْ » والنصبُ على الحال . وقرأ الأعرج « والطيرَ » نصباً على
المفعولِ معه و « صافَّاتٍ » حالٌ أيضاً . وقرأ الحسن وخارجة عن نافع « والطيرُ
صافَّاتٌ » برفعِهما على الابتداءِ والخبر . ومفعولُ « صافَّاتٌ » محذوفٌ أي :
أجنحَتَها .
قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ } في هذه الضمائرِ أقوالٌ ، أحدُها : أنَّها
كلَّها عائدةٌ على « كل » أي : كلٌّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها . وهذا/
أولى لتوافُقِ الضمائر . والثاني : أنَّ الضميرَ في « عَلِمَ » عائدٌ على اللهِ
تعالى ، وفي « صلاتَه وتسبيحَه » عائدٌ على « كل » . الثالث : بالعكس أي : عَلِمَ
كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي : أَمَرَ بهما ، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى
الخالق .
ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ « كل » قال : « لأنَّ القراءة برفع »
كلٌّ « على الابتداء ، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه ، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ
اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ » كل « لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ
سببِها ، فيَصيرُ كقولك : » زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه « فتنصِبُ » زيداً « بفعلٍ
دَلَّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز » . قلت : وليس كما ذكر
مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ ، ولا في هذه السورة ، بل نصَّ
النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على
الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب
، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ ، والرفعُ لا يُحْوج إليه ، فكانَ أرجحَ .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
قوله
: { بَيْنَهُ } : إنما دخلَتْ « بينَ » على مفردٍ وهي إنما تَدْخُلُ على المثَّنى
فما فوقَه لأنه : إمَّا أَنْ يُرادَ بالسحاب الجنسُ فعاد الضميرُ عليه على حكمِه ،
وإمَّا أَنْ يُرادَ حَذْفُ مضافٍ أي : بين قِطَعِه ، فإنَّ كلَّ قطعةٍ سَحابةٌ .
قوله : { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } تقدَّم الخلافُ في « خِلال » هل هو مفرد
كحِجاب أم جمعٌ كجِبال جمع جَبَل؟ ويؤيِّد الأولَ قراءةُ ابنِ مسعودٍ والضحاكِ ،
ويروى عن أبي عمروٍ أيضاً « مِنْ خَلَلِه » بالإِفرادِ .
والوَدْقُ قيلأ : هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً . قال :
3452 فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقيل : هو البَرْقُ . وأَنْشد :
3453 أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها ... خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ
والوَدْقُ في الأصل : مصدرٌ يقال : وَدَقَ السحابُ يَدِقُ وَدْقاً و « يَخْرجُ »
حالٌ لأنها بَصَرية .
قوله : { مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } « مِن » الأولى لابتداء
الغايةِ اتفاقاً . وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لابتداءِ
الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل . والتقدير :
ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي : من جبالٍ فيها ، فهو بدل اشتمالٍ . الثاني :
أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري وابنُ عطية . فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ
الإِنزالِ كأنه قال : ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ . الثالثَ : أنها زائدة أي : يُنَزِّل
من السماءِ جبالاً . وقال الحوفيُّ : « مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى » . ثم قال : «
وهي للتبعيضِ » .
ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً . لو قلت : «
خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ » لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية
.
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ : الثلاثةُ المتقدمةُ . والرابع : أنها لبيانِ
الجنسِ . قاله الحوفي والزمخشري ، فيكون التقديرُ على قولِهما : ويُنَزِّل من
السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ
بَرَدٌ . ومفعولُ « يُنَزِّلُ » هو « مِنْ جبال » كما تقدَّمَ تقريرُه . وقال
الزمخشري : « أو الأَوْلَيان للابتداء ، والثالثةُ للتبعيض » قلت : يعني أن
الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه ، وحنيئذ يكون مفعول « يُنَزِّل » هو
الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه : ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها .
وإذا قيل : بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ ،
والثاني بدلٌ من الأول ، والتقدير : ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً ، وهو
بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً ل «
يُنَزِّل » ، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء ، وخبرُه الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ .
الأولُ قولُ الأخفشِ ، والثاني قولُ الفراءِ . وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً
ل « جبال » ، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ ، أو بالنصبِ
اعتباراً بالمَحَلِّ .
ويجوزُ
أن يكونَ « فيها » وحدَه هو الوصفَ ، ويكون « مِنْ بَرَدٍ » فاعلاً به؛ لاعتمادِه
أي : استقرَّ فيها .
وقال الزَّجاج : « معناه : ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما
تقولُ : » هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ « أي : خاتم حديدٍ في يدي . وإنما جِئْتَ في
هذا وفي الآية ب » مِنْ « لمَّا فرَّقْتَ ، ولأنَّك إذا قلت : هذا خاتمٌ مِنْ
حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً » انتهى . فيكونُ « مِنْ بَرَدٍ » في موضعِ جَرٍّ
صفةً/ ل « جبال » ، كما كان « من حديد » صفةً ل « خاتم » ، ويكونُ مفعولُ «
يُنَزِّل » « من جبال » . ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ
المُنَزَّلُ بَرَداً .
وقال أبو البقاء : « والوجه الثاني : أنَّ التقدير : شيئاً من جبالٍ ، فحُذِفَ
الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ . وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه { فِيهَا مِن
بَرَدٍ } يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه ، فيكونُ تقديرُه : ويُنَزِّلُ
مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ . وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ ، وتقديرٌ
مُسْتغنى عنه » . وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء ،
فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه ، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ
مِنْ عَوْدِه على السماء . وقوله آخراً : « وتَقْديرٌ مستغنى عنه » ، وينافي قولَه
: « وهذا الوجه هو الصحيح » . والضميرُ في « به » يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو
الظاهرُ ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً ، جرياً بالضمير مَجْرى
اسمِ الإِشارةِ . كأنه قيل : فَيُصيب بذلك ، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ .
قوله : { سَنَا بَرْقِهِ } العامَّةُ على قَصْر « سَنا » وهو الضَّوْءُ ، وهو مِنْ
ذواتِ الواوِ ، يُقال : سَنا يَسْنُو سَناً . أي : أضاءَ يُضيْءُ . قال امرؤُ
القيس :
3454 يضيءُ سَناه ، أو مصابيحُ راهِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
والسَّنا بالمدِّ : الرِفْعَةُ . قال :
3455 وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
وقرأ ابنُ وثَّاب « سَناءُ بُرَقِه » بالمدِّ ، وبضمِّ الباء مِنْ « بُرَقِه »
وفتح الراء . ورُوي عنه ضَمُّ الراءِ أيضاً . فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه
المحسوسََ من البرقِ لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ . وأمَّا «
بُرَقِه » فجمعُ بُرْقَة ، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب . وأمَّا ضمُّ الراءِ
فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعاً لضم الظاء . وإنْ كان أصلُها السكونَ .
وقرأ العامَّة أيضاً « يَذْهَبُ » بفتح الياء والهاء . وأبو جعفر بضمِّ الياءِ
وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ . وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا : «
لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة » .
وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر {
تُنْبِتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] من أنَّ الباء مزيدةٌ ، أو أنَّ المفعولَ
محذوفٌ ، والباءُ بمعنى « مِنْ » تقديرُه : يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ
كقولِه :
3456 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شُرْبَ النَّزِيف
بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
قوله
: { مِّن مَّآءٍ } : فيها وجهان . أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ ب « خَلَق » أي :
خَلَقَ مِنْ ماءٍ كلَّ دابة . و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . وعلى هذا فيُقال :
وُجِدَ من الدوابِّ ما لم يُخْلَقْ مِنْ ماءٍ كآدمَ فإنه مِنْ تراب ، وعيسى فإنَّه
مِنْ رُوحٍ ، والملائكةِ فإنَّهم مِنْ نُور ، والجِنِّ فإنهم مِنْ نارٍ . وأُجيب
بأنَّ الأمرَ الغالِبَ ذلك . وفيه نظرٌ فإنَّ الملائكةَ أَضعافُ الحيوان ، والجنَّ
أيضاً أضعافُهم . وقيل : لأنَّ الحيوانَ لا يَعيش [ إلاَّ ] به ، فجُعِل منه لذلك
، وإن كان لنا من الحيوانِ ما لا يَحْتاج إلى الماءِ البتة ، ومنه الضبُّ .
وقيل : جاء في التفسير : أنه كان خَلَق في الأولِ جوهرة فنظرَ إليها فذابَتْ ماء ،
فمنها خَلَق ذلك . والثاني : أنَّ « مِنْ » متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «
دابَّة » والمعنى : الإِخبارُ بأنه خَلَق كلَّ دابةٍ كائنةٍ من الماء ، أي : كلُّ
دابة من ماءٍ هي مخلوقةٌ للهِ تعالى . قاله القفَّال .
ونكَّر « ماء » وعَرَّفه في قوله : { مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء
: 30 ] لأنَّ المقصودَ هنا التنويعُ .
قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي } إلى آخره . إنما أَطْلَقَ « مَنْ » على غيرِ
العاقلِ لاختلاطِه بالعاقلِ في المفصَّل ب « مَنْ » وهو « كلَّ دابة » ، وكان
التعبيرُ ب « مَنْ » أولى لِتَوافُقِ اللفظِ . وقيل : لمَّا وصفَهم بما يُوصف به
العقلاء وهو المَشْيُ أَطْلق عليها « مَنْ » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذه الصفةَ ليسَتْ
خاصةً بالعقلاء ، بخلافِ قولِه تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }
[ النحل : 17 ] . [ وقوله : ]
3457 . . . . . . . . . . . . . . هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه ... لَعَلِّي . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في { خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } في سورة إبراهيم
. واستعير المَشْيُ للزَحْفِ على البطنِ ، كما استُعير المِشْفَرُ للشَّّفَةِ
وبالعكسِ .
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
قوله
: { لِيَحْكُمَ } : أفردَ الضميرَ وقد تقدَّمه اسمان وهما : اللهُ ورسوله ، فهو
كقولِه تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] [
لأنَّ ] حكمَ رسولِه هو حكمُه . قال الزمخشري : « كقولك : » أعجبني زيدٌ وكَرَمَهُ
« أي : كرمُ زيدٍ/ ومنه :
3458 ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ ... غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ
أي : قبل فُرَّط القَطا ، يعني قبل تقدُّمِ القطا .
وقرأ أبو جعفرٍ » ليُحْكَمَ بينَهم « هنا والتي بعدَها مبنياً للمفعولِ ، والظرفُ
قائمٌ مقامَ الفاعل .
قوله : { إِذَا فَرِيقٌ } » إذا « هي الفجائيةُ . وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها .
وهي جوابُ » إذا « الشرطيةِ أولاً . وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في
» إذا « الشرطيةِ جوابُها؛ فإنَّ ما بعدَ الفجائيةِ لا يَعْمَلُ فيما قبلها ، كذا
ذكره الشيخ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا ، وجوابُ الجمهور عنه .
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
قوله : { إِلَيْهِ } : يجوزُ تعلُّقُه ب « يَأْتُوا » لأنَّ أتى وجاء قد جاءا مُعَدَّيَيْنِ ب « إلى » . ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب « مُذْعِنين »؛ لأنه بمعنى مُسرِعين في الطاعة . وصَحَّحَه الزمخشري قال : « لِتقدُّم صلتِه ودلالتِه على الاختصاص » . و « مُذعِنين » حالٌ . والإِذْعان : الانقيادُ يُقال : أَذْعَنَ فلانٌ لفِلان أي : انقادَ له . وقال الزجاج : « الإِذعانُ الإِسْراعُ مع الطاعةِ » .
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
قوله
: { أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ } : « أَمْ » فيهما منقطعٌ ، تتقدَّرُ عند
الجمهورِ بحرفِ الإِضراب وهمزةِ الاستفهامِ . تقديرُه : بل ارْتابوا ، بل أيخافون
. ومعنى الاستفهام هنام التقريرُ والتوقيفُ ، ويُبالَغُ به تارةً في الذمِّ كقوله
:
3459 ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا ... على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ
الدهر
وتارةً في المدح كقولِ جرير :
3460 أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا ... وأندى العالمينَ بُطونَ راحِ
و [ قوله ] : { أَن يَحِيفَ } مفعول الخوف . والحَيْفُ : المَيْلُ والجَوْرُ في
القضاءِ .
يقال : حاف في قضائِه أي : مال .
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
قوله : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } : العامَّةُ على نصبِه خبراً ل كان ، والاسمُ « أنْ » المصدريةُ وما بعدَها . وقرأ أمير المؤمنين والحسنُ وابن أبي إسحاق برفعِه على أنه الاسمُ و « أَنْ » وما في حيِّزها الخبرُ . وهي عندهم مَرْجوحةٌ؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأَوْلى جَعْلُ الأعرفِ الاسمَ ، وإنْ كان سيبويه خَيَّر في ذلك بين كلِّ معرفتين ، ولم يُفَرِّق هذه التفرقةَ . وقد تَقَدَّم تحقيقُ هذا في آل عمران .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
قوله
: { وَيَتَّقْهِ } : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين : الأُولى
تسكينُ القافِ ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ
إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ : الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً ،
وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي . الثانيةُ : تسكينُها قولاً
واحداً . وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم . الثالثةُ : إسكانُ الهاءِ أو
وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ . الرابعةُ : تحريكها من غير صلةٍ . وبها قرأ
قالون وحفص . الخامسةُ : تحريكُها موصولةً أو مقصورةً . وبها قرأ هشامٌ .
فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ
من هذا التصنيفِ . وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ :
وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون : كَبْد وكَتْف وصَبْر في : كَبِد وكَتِف
وصَبِر ، لأنها كلمةٌ واحدة ، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مجرى المتصل؛
فإنَّ « يَتَّقْهِ » صار منه « تَقِهِ » بمنزلة « كَتِف » فَسُكِّن كما تُسَكَّن .
ومنه :
3461 قالَتْ سليمى اشْتَرْ لنا سَوِيقا ... بسكونِ الراءِ ، كما سَكَّن الآخرُ :
3462 فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا ... والآخر :
3463 عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان
يريد : مُنْتَصِباً ، ولم يَلِدْه . وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا
الضابطِ في قوله : { فَهِيَ كالحجارة } [ الآية : 74 ] ، وهي وهو ونحوها .
وقال مكي : « كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ
الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها ، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو : مِنْهُ
وعَنْهُ . ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به ، وأبقى الهاءَ على
كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ ، ولم يَصِلْها بياءٍ ، لأنَّ الياءَ
المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ
على أصلِه » . وقال الفارسي : « الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين ، وليسَتْ/
الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه ، ولمَّا
أُجْرِيَ » تَقْهِ « مجرى » كَتْف « وسكَّن القافَ التقى ساكنان ، ولَمَّا
التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما : فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني .
لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك
ثانيهما . وأصلُ التقاءِ الساكنين [ الكسر ] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . .
. . . لم يَلْدَه أَبَوانِ
وذلك أنَّ أصلَه » لَمْ يلِده « بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ ، ثم لَمَّا
سَكَّن اللامَ التقى ساكنان ، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه ، فحَرَّك
ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ
الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ .
وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول : » لا يَصِحُّ قولُه : إنه كسر
الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط « .
وقد
رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال : « وعجبتُ مِنْ نَفْيِه
الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في » أَرْجِهْ « و » فَأَلْقِهْ « وإذا قرأه في »
أَرْجِهْ « و » فَأَلْقِهْ « احتمل أن يَكونَ » يَتَّقْهِ « عنده قبل سكون القاف
كذلك ، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع
كسرِ القاف » .
قلت : لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط ، الهاء من حيث هي هي ،
وإنما عَنَى هاءَ « يَتَّقْهِ » بخصوصِها . وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ
الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ : « تعليلُه حَذْفَ الصلةِ : بأنَّ الياءَ
المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على
أصلِه ، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ » يُؤَدِّهي « وشبهِه بالصلة ، ولو كان
يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها . قال أبو عبد الله :
» وهو وإنْ قَرَأ « يؤدِّهي » وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ « يَرْضَهُ » بغيرِ صلةٍ
فألحقَ مكي « يَتَّقْهِ » ب « يَرْضَهُ » وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه
لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين . وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه .
وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه «
يَتَّقِهِ » بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ
وجهَيْه ، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما . والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه
على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به ، لا على ما قَلَّ ونَدَر ، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ
.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
قوله
: { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً
من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ « أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين » : أُقْسِمُ بجَهْدِ
اليمينِ جَهْداً ، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى
المفعولِ ك { َضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] ، قاله الزمخشري . والثاني أنه حالٌ
تقديرُه : مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم : أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك . وقد
خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه : «
وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل : جاهدين أَيْمانَهم » . وقد تقدَّم
الكلامُ على { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } [ الآية : 53 ] في المائدة .
قوله : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها خبرُ
مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ . الثاني : أنها مبتدأٌ ،
والخبرُ محذوفٌ أي : أَمْثَلُ ، أو أولى . وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في
الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه : { صَبْرٌ
جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله :
3464 فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ ... وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ
على خلافٍ في ذلك . والثالث : أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي : ولْتَكُنْ
طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ . واستُضْعِفَ ذلك : بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا
تَقَدَّم مُشْعِرٌ به كقوله : { يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [
النور : 36 ] . / في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي : يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به
نَفْيٌ كقولِكَ : « بلى زيدٌ » لمَنْ قال : لم يقم أحدٌ ، أو استفهامٌ كقوله :
3465 ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ ... بلى خالد إنْ لم تُعِقْه
العَوائقُ
والعامَّةُ على رفعِ « طاعةٌ » على ما تقدَّم . وزيد بن علي واليزيديُّ على
نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ ، وهو الأصلُ . قال أبو البقاء « ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ
جائزاً في العربية ، وذلك على المصدرِ أي : أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً . وقد
دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها { قُلْ أَطِيعُواْ الله } . قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ
به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه . وأمَّا قولُه : و { قُولُواْ قَوْلاً }
فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَّعْرُوفٌ } [ محمد : 21 ] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ .
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ ماضياً ، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين . ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة . وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه . والأصل : تَتَوَلَّوْا . ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء : « فإنْ تَّوَلَّوْا » وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما . ويُرَجِّحه أيضاً الخطابُ في قولِه : { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } . ودعوى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانياً بعيدٌ .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
قوله
: { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } : فيه وجهان ، أحدُهما : هو جوابُ قسمِ مضمرٍ أي :
أُقْسِم لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ويكونُ مفعولُ الوعدِ محذوفاً تقديرُه : وَعَدَهم
الاستخلافَ لدلالةِ قوله : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } عليه . والثاني : أَنْ يجريَ
« وعد » مَجْرى القسمِ لتحقُّقِه ، فلذلك أُجيب بما يُجاب به القَسَمُ .
قوله : { كَمَا استخلف } أي : استخلافاً كاستخلافهم . والعامَّةُ على بناء «
اسْتَخْلَفَ » للفاعل . وأبو بكر بناه للمفعول . فالموصولُ منصوبٌ على الأول ،
ومرفوعٌ على الثاني .
قوله : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ } قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ « ولَيُبْدِلَنَّهم »
بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ « أَبْدَلَ » . وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في
قولِه : { أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] .
قوله : { يَعْبُدُونَنِي } فيه سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مستأنفٌ أي : جوابٌ
لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل : ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل :
يَعْبُدونني . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هم يعبدونني . والجملةُ أيضاً
استئنافيةٌ تقتضي المدحَ . الثالث : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ « وَعَدَ اللهُ » .
الرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعولُ « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » . الخامس : أن يكونَ
حالاً مِنْ فاعلِه . السادس : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعولِ « لَيُبَدِّلَنَّهُمْ
» . السابع : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه .
قوله : { لاَ يُشْرِكُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً مِنْ
فاعلِ « يَعْبُدُونَنِي » أي : يَعْبُدونني مُوَحِّدين ، وأن يكونَ بدلاً من
الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } : فيه وجهان . أحدُهما : أنه معطوفٌ على { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ الآية : 54 ] . وليس ببعيدٍ أن يقعَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصلٌ وإنْ طال؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غيرَ المعطوفِ عليه . قاله الزمخشري . قلت : وقولُه : « لأنَّ حَقَّ المعطوفِ » إلى أخره لا يَظْهَرُ علةً للحكمِ الذي ادَّعاه . والثاني : أنَّ قولَه { وَأَقِيمُواْ } من بابِ الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ . وحَسَّنَهُ الخطابُ في قولِه قبل ذلك « منكم » .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قوله
: { لاَ تَحْسَبَنَّ } : قرأ العامَّة « لا تَحْسَبنَّ » بتاءِ الخطابِ . والفاعلُ
ضميرُ المخاطبِ أي : لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ . ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه
للرسولِ عليه السلام؛ لأنَّ/ مِثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى ينهى عنه
. وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ « لا يَحْسَبَنَّ » بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة
. فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي : لا يَحْسَبَنَّ
حاسِبٌ أو أحدٌ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه . ولكنه ضعيفٌ للمعنى
المتقدِّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء
. قال النحاس : « ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلاَّ
وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ ، فمنهم مَنْ يقولُ : هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلاَّ
بمفعولٍ واحدٍ ل » يَحْسَبَنَّ « .
وقال الفراء : » هو ضعيفٌ « وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني . التقديرُ : » لا
يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين « قلت : وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ
أنهم اعتقدوا أنَّ » الذين « فاعلٌ ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو
» معجزين « ، فلذلك قالوا ما قالوا . والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها : أنَّ
الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم ، أو على ما يُفْهَمُ من السياق ، كما سَبَقَ
تحريرُه . الثاني : أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه : لا يَحْسَبَنَّ الذين
كفروا أنفسَهم مُعْجزين . إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين
. ومنه قولُ عنترةَ :
3466 ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه ... مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : لا تظني غيرَه واقعاً . ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال : » وأن
يكونَ الأصلُ : لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين ، ثم حُذِف الضميرُ الذي
هو المفعولُ الأول . وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن لَمَّا
كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث « فقَدَّرَ المفعولَ
الأول ضميراً متصلاً . قال الشيخ : » وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ
عمران في قولِه : { لاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } في قراءةِ
مَنْ قرأه بالغَيْبة ، وجَعَل الفاعلَ « الذين يَفْرحون » . وملخَّصُه : أن هذا
ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر « لا يَحْسَبَنَّهم » إذ لا
يجوزُ : « ظَنَّه زيدٌ قائماً » على رَفْعِ « زيدٌ » ب « ظنَّه » قلت : وقد تقدَّم
في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه .
الثالث : أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه : { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } قاله الكوفيون
. ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال : « والمعنى : لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً
يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك . وهذا معنىً قويٌّ جيد » .
قلت
: قيل : هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في « الأرض » ب « مُعْجِزين » فجعله
مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه ، وهو نظيرُ : « ظَنَنْتُ قائماً في
الدار » .
قوله : { وَمَأْوَاهُمُ النار } فيه ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنَّ هذه الجملةَ
عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ ، وهو مذهبُ سيبويهِ
أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض ، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً
وإنشاءً . وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه . الثاني :
أنَّها معطوفةٌ عليها ، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ . والتقدير :
الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار . قاله الزمخشري . كأنه يرى
تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ . هذا ظاهرُ حالِه . الثالث : أنها معطوفةٌ على
جملةٍ مقدرةٍ .
قال الجرجاني : « لا يُحتمل أَنْ يكونَ » ومَأْواهم « متصلاً بقولهِ : » لا
تَحْسَبَنَّ ذاك « أي : وهذا إيجابٌ فهو إذن معطوفٌ بالواو على مضمرٍ قبلَه
تقديرُه : لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا مُعْجِزين في الأرضِ بل هم مقهورون ،
ومَأْواهم النار » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
قوله
: { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي
: ثلاثةَ أوقاتٍ ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله : { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر
وَحِينَ تَضَعُونَ } { وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء } . والثاني : أنه منصوبٌ على
المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ . ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/ : « والظاهرُ مِنْ
قوله » ثلاثَ مرات « . ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ : ضربْتُ ثلاثَ مراتٍ لا
تفْهَمُ منه إلاَّ ثلاثَ ضَرَبات . ويؤيِّده قولُه عليه السلام : » الاستئذانُ
ثلاث « قلت : مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا ، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ
المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ . وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في
رواية » الحُلْمَ « بسكونِ العينِ وهي تميميةٌ .
قوله : { مِّن قَبْلِ صلاوة } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ قوله »
ثلاث « فتكونُ في محلِّ نصبٍ . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ » عورات « فيكونُ في محلِّ
جر . الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي من قبلِ أي : تلك المراتُ فيكونُ في
محلِّ رفعٍ .
قوله : { مِّنَ الظهيرة } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما : أنَّ » مِنْ « لبيانِ الجنس
أي : حين ذلك الذي هو الظهيرةُ . الثاني : أنها بمعنى » في « أي تَضَعُونها في
الظهيرةِ . الثالث : أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ . وأمَّا
قولُه : { وَحِينَ تَضَعُونَ } فعطفٌ على محلِّ { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر } ،
وقوله : { وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء } عطفٌ على ما قبلَه ، والظَّهيرةُ : شِدَّةُ
الحَرِّ ، وهو انتصافُ النهارِ .
قوله : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } قرأ الأخَوان وأبو بكر » ثلاثَ « نصباً . والباقون
رفعاً . فالأولى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ
قوله : { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } . قال ابن عطية : » إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ :
أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه « ، وكذا
قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء . ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ
نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً ، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ . وعلى هذا الوجهِ
أعني وجهَ البدل لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } لأنه بدلٌ منه
وتابعٌ له ، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه .
الثاني : أنَّ { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو
البقاء . يعني قولَه : { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر } وما عُطِفَ عليه ، ويكونُ
بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ .
الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ . فقَدَّره أبو البقاء أعني . وأَحْسَنُ
من هذا التقديرِ » اتَّقوا « أو » احْذروا « ثلاثَ .
وأمَّا الثانية ف » ثلاثُ « خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ .
وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال : » أي : هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ ،
فحُذِف المبتدأُ والمضافُ « . قلت : وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ
الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً
كما قدَّمْتُه عنه .
قال
الزمخشري : « وسمى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ
تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها . والعَوْرَةُ : الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ ،
وأَعْوَرَ المكانُ . والأَعْوَرُ : المختلُّ العينِ » فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ
تقديرِ أوقاتِ ، مضافةً ل « عَوْراتٍ » بخلافِ كلامِه أولاً . فيُؤْخَذُ من مجموعِ
كلامِه وجهان ، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ
يُوقف على ما قبلَ { ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ } لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها .
وقرأ الأعمش « عَوَرات » وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم : يفتحون عينَ فَعَلات واواً
أو ياءً وأُنشِدَ :
3467 أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ ... رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ
قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من
الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل : هُنَّ
ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ ، بل هي كلامٌ
مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً ، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب «
ثلاثَ عَوْراتٍ » .
قوله : { بَعْدَهُنَّ } قال أبو البقاء : « التقديرُ : بعد استئذانِهم فيهنَّ ، ثم
حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ ، فبقي : بعد استئذانِهم ، ثم حَذَفَ المصدرَ » يعني
بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر . وهذا غيرُ
ظاهرٍ ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنى : ليس عليكم جناحٌ . ولا عليهم أي :
العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ ،
ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره .
قوله : { طوافون } خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هم طَوَّافون ، و « عليكم »
متعلِّقٌ به .
قوله : { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } في « بعضُكم » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه
مبتدأٌ ، و « على بعض » الخبرُ ، فقدَّره أبو البقاء « يَطُوْفُ على بعض » .
وتكونُ هذه الجملةُ بدلاً مِمَّا قبلها . ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة . يعني
: أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً ، أو مؤكِّدةَ . ورَدَّ
الشيخ هذا : بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه . والجوابُ عنه : أن الممتنعَ
الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه ، وهنا
عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ الجارِّ مُقامَه ، ولذلك قال الزمخشري : « خبرُه »
على بعض « ، على معنى : طائف على بعض ، وحُذِفَ لدلالةِ » طَوَّافون « عليه » .
الثاني : أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ « طوَّافون » قاله ابن عطية . قال الشيخ : «
ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ » هم « لأنَّه يصيرُ
التقديرُ : هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ ، وهو لا يَصِحُّ . فإنْ جَعَلْتَ التقدير :
أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ ، فيدفَعُه أنَّ قولَه » عليكم « يَدُلُّ على أنهم هم
المَطُوفُ عليهم ، و » أنتم طَوَّافون « يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا » .
قلت
: نختار أنَّ التقديرَ : أنتم ، ولا يلزَمُ محذورٌ . قوله : « فيدفعه إلى آخره »
لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنى : كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه ، وإن
كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ
، ويكونُ « بعضُكم » بدلاً من « طَوَّافون » وقيل : « بعضُ » بدلٌ مِنْ « عليكم »
بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ ، ومجروراً من مجرور . ونظيرُه
قولُ الشاعرِ :
3468 فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه ... ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ
تكَسَّرا
ف « بعضُه » بدلُ من « النبعَ » المنصوب ، و « ببعض » بدلٌ من المجرورِ بالباء .
الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي : يطوفُ بعضُكم على بعضٍ ، حُذِفَ لدلالةِ «
طَوَّافون » عليه . قاله الزمخشري .
وقرأ ابن أبي عبلة « طوَّافين » بالنصبِ على الحال من ضميرِ « عليهم » .
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قوله
: { والقواعد } : جمع « قاعِد » من غيرِ تاءِ تأنيثٍ . ومعناه : القواعدُ عن
النكاحِ ، أو عن الحيضِ ، أو عن الاستمتاعِ ، أو عن الحَبَل ، أو عن الجميع .
ولولا تَخَصُّصُهُنَّ بذلك لوَجَبَتِ التاءُ نَحو : ضارِبة وقاعِدة من القعود
المعروف . وقوله : { مِنَ النسآء } وما بعدَه بيانٌ لهن و « القواعدُ » مبتدأٌ . و
« من النساء » حالٌ و « اللاتي » صفةٌ للقواعد لا للنساء . وقوله : { فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ } الجملةُ خبرُ المبتدأ ، وإنما دَخَلَتْ لأَنْ المبتدأَ موصوفٌ
بموصول ، لو كان ذلك الموصولُ مبتدأً لجاز دخولُها في خبرِه ، ولذلك مَنَعْتُ أَنْ
تكونَ « اللاتي » صفةً للنساء؛ إذ لا يبقى مسوِّغٌ لدخولِ الفاءِ في خبر المبتدأ .
وقال أبو البقاء : « ودَخَلَتْ الفاءُ لِما في المبتدأ من معنى الشرطِ؛ لأنَّ
الألفَ واللامَ بمعنى الذي » . وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقُه في المائدة .
ولكن هنا ما يُغْني عن ذلك : وهو ما ذَكَرْتُه من وصفِ المبتدأ بالموصولِ المذكورِ
.
و { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ } حالٌ مِنْ « عليهنَّ » . والتبرُّجُ : الظهورُ ، مِن
البُرْج : وهو البناءُ الظاهرُ . و « بزينةٍ » متعلقٌ به .
قوله : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } مبتدأٌ بتأويل : استعفافُهن ، و « خيرٌ » خبرُه .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله
: { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } : العامةُ على فتح/ الميمِ ، واللامُ مخففةٌ
. وابن جبير « مُلِّكْتُم » بضمِ الميمِ وكسرِ اللامِ مشددةً أي : مَلَّككم غيرُكم
. والعامَّةُ علكى « مفاتحَه » دونَ ياءٍ جمع مِفْتَح . وجَوَّز أبو البقاء أن
يكون جمع « مِفْتَح » بالكسرِ وهو الآلةُ ، وأن يكون جمعَ « مَفْتح » بالفتح وهو
المصدر . بمعنى الفتح . وابن جبير « مفاتيحَه » بالياء بعد التاء جمع مِفْتاح .
والأولُ أقيسُ . وقرأ أبو عمرو في روايةِ هارونَ عنه « مِفتْاحَه » بالإِفراد وهي
قراءةُ قتادة .
قوله : { أوْ صَدِيقِكُمْ } العامَّةُ على فتحِ الصادِ . وحميد الخزاز روى كسرَها
إتْباعاً لكسرةِ الدال . والصَّدِيْق يقع للواحِد والجمع كالخَليط والقَطِين
وشِبْهِهما .
قوله : { جَمِيعاً } حالٌ من « تَأْكُلوا » ، و « أَشْتاتاً » عطفٌ عليه وهو جمعُ
شَتّ .
قوله : { تَحِيَّةً } منصوبٌ على المصدرِ مِنْ معنى « فسَلِّموا » فهو من بابِ
قَعَدْتُ جُلوساً . وقد تقدَّم وزن التحيَّة . و { مِّنْ عِندِ الله } يجوز أن
يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل « تحيةً » ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ « تحيِّة » أي : التحية
صادرةً من جهةِ الله . و « مِنْ » لابتداء الغايةِ مجازاً ، إلاَّ أنه يُعَكِّر
على الوصفِ تأخُّرُ الصفةِ الصريحةِ عن المُؤَولةِ . وقد تقدَّم ما فيه .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قوله
: { على أَمْرٍ جَامِعٍ } : « جامع » مِن الإِسنادِ المجازيِّ؛ لأنَّه لَمَّا كان
سبباً في جَمْعِهم نُسِبَ الفعلُ إليه مجازاً . وقرأ اليمانيُّ « على أَمْرٍ جميعٍ
» فيُحتمل أَنْ تكونَ صيغةَ مبالغةٍ بمعنى مُجَمِّع ، وأَنْ لا تكونَ . والجملةُ
الشرطيةُ مِنْ قولِه : { وَإِذَا كَانُواْ } وجوابِها عطفٌ على الصلةِ مِنْ قوله :
« آمَنوا » .
قوله : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } تعليلٌ أي : لأجلِ بعضِ حاجتِهم . وأظهر العامَّةُ
الضادَ عند الشينِ ، وأدغَمها أبو عمرٍو فيها لِما بينهما من التقارُبِ؛ لأنَّ
الضادَ من أقصى حافةِ اللسانِ ، والشينَ مِنْ وسَطِه . وقد اسْتَضْعَفَ جماعةٌ من
النَّحَويين هذه الروايةَ واسْتَبْعدوها عن أبي عمرٍو رأسِ الصناعةِ من حيث إن
الضادَ أقوى من الشين ، ولا يُدْغم الأقوى في الأضعف . وأساء الزمخشري على راويها
السوسي .
وقد أجاب الناس فقال : « وجهُ الإِدغامِ أن الشينَ أشدُّ استطالةً من الضادِ ،
وفيها نَفَسٌ ليس في الضادِ ، فقد صارَتِ الضادُ أنقصَ منها ، وإدغامُ الأنقصِ في
الأَزْيد جائزٌ » . قال : « ويؤيِّد هذا أن سيبويه حكى عن بعضِ العرب » اطَّجَعَ «
في » اضْطجع « ، وإذا جاز إدغامُها في الطاءِ فإدغامُها في الشين أَوْلى » .
والخَصْمُ لا يُسَلِّمُ جميعَ ما ذُكِرَ ، وسَنَدُ المَنْعِ واضحٌ .
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله
: { دُعَآءَ الرسول } : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لمفعولِه أي :
دعاءَكم الرسولَ بمعنى : أنَّكم لا تنادُوه باسمِه فتقولون : يا محمدُ ،
ولابكُنيته فتقولون : يا أبا القاسمِ ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير : يا رسولَ
الله يا نبيَّ الله . وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل .
واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل : لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ
بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤُون عنه ، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ ، بل
يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه . واختاره أبو العباس ، ويؤيِّدُه قوله : {
فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } . وقيل : معناه لا تَجْعَلوا
دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم ، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله
حاجةً ، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه ، ورُبَّما لا تُجاب . وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه
السلام مسموعةٌ مستجابةٌ . . . في التخريجةِ الأخرى .
وقرأ الحسنُ « نَبِيِّكم » بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ [ بعدَها ] ياءٌ
مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ « بينَكم » الظرفِ في قراءة العامَّة . وفيها ثلاثةُ أوجهٍ
، أحدها : أنَّه بدلٌ من الرسول . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ [
رسولٌ ] ، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول . الثالث : أنَّه نعتٌ . لا
يُقال : إنَّه لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ
مِنَ المنعوتِ . بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَماً بالغَلَبةِ
على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد تَسَاويا تعريفاً .
قوله : { قَدْ يَعْلَمُ الله } قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلاَّ في
أفعالِ اللهِ تعالى ، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ . وقد رَدَّها بعضُهم إلى
التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ ، فالتقليلُ
ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه .
قوله : { لِوَاذاً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ
الأولِ؛ إذ التقديرُ : يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلاً ، أو يُلاوِذُون لِواذاً .
والثاني : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين . واللِّواذُ : مصدرُ لاوَذَ .
وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها ، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ
في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو : لاوَذَ فلو أُعِلَّتْ في الفعلِ
أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو : القيام والصِّيام لقَلْبها ألفاً في قام وصام . فأمَّا
مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ/ فمعتلٌّ نحو : لاذَ لِياذاً ، مثل : صام صِياماً
وقام قِياماً . واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ : التَّسَتُّرُ يُُقال : لاَوَذَ فلانٌ
بكذا أي : اسْتَتَر به . واللَّوْذُ : ما يَطِيْفُ بالجبل . وقيل : اللِّواذُ :
الرَّوَغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفْيَةٍ . وفي التفسير : أنَّ المنافقين كانوا
يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا . والمفاعَلَةُ :
لأنَّ كلاً منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ .
وقرأ يزيد بن قطيب « لَواذاً » بفتحِ اللامِ ، وهي محتملةٌ لوجهين أحدُهما : أَنْ
تكونَ مصدرَ « لاذ » ثلاثياً فتكون مثلَ : طافَ طَوافاً .
وصَلَحَتْ
أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ ، إلاَّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعاً لفتحةِ العينِ وهو
تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ .
قوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين } فيه وجهان ، أشهرُهما : وهو الذي لا يَعْرِف
النحاةُ غيرَه أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و « أن تصيبَهم » مفعولُه أي :
فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ . والثاني : أنَّ فاعل «
فَلْيَحْذَرْ » ضميرٌ مستترٌ ، والموصولُ مفعولٌ به . وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ
منها : أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ . وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ
المنطوقِ به ، فلا يُقال : هو خلافُ الأصلِ . ألا ترى أنَّ نحوَ : قُمْ ولْتقم
فاعلُه مضمرٌ ، ولا يُقال في شيءٍ منه : هو خلافُ الأصلِ ، وإنما الإِضمارُ خلافُ
الأصلِ فيما كان حَذْفاً نحو : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] .
ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي : ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ
يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً ، وأُجيب : بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو
الموصولُ الأولُ أي : فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه فيكونون
قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي : أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب
الفُسَّاقِ . وقد رَدُّوا هذا بوجهين ، أحدُهما : أنَّ الضميرَ مفردٌ ، والذي
يعودُ عليه جمعٌ ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسيرِ الضمائر . الثاني :
أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون ، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون
لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم ، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ
يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم .
ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ : بأنَّ الضميرَ وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمعٍ
باعتبارِ أنَّ المعنى : فليحذَرْ هو . أي : مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك . وحكى سيبويه «
ضرَبني وضربْتُ قومَك » أي : ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر ، وهي مسألةٌ معروفةٌ
في النحوِ ، أو يكونُ التقديرُ : فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين . وعن
الثاني : بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازاً . يعني
أنَّه لا يطاوعُها على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ . كأنه قيل :
فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم ، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به ، ولهذا
يُقال : أَمَر نفسَه ونهاها ، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ .
ومنها : أنَّه يَصيرُ قولُه : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ } مُفْلَتاً ضائِعاً؛ لأنَّ « يَحْذَرُ » يتعدَّى لواحدٍ ، قد
أَخَذَه على زَعْمِكم وهو « الذين يُخالفون » ، ولا يتعدى إلى اثنين حتى يَقُولوا
: إنَّ « أنْ تصيبَهم فتنةٌ » في محلِّ مفعولِه الثاني فبقي ضائعاً . وفيه نظرٌ؛
لأنَّه لا يُسَلَّم ضَياعُه؛ لأنه مفعولٌ من أجله . واعتُرِضَ على هذا : بأنه لم
يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ
الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ . فنقول :
مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة ، وهو مجرورٌ باللامِ تقديراً ، وإنما
حُذِفَتْ مع « أَنْ » لطولِها بالصلة .
و « يُخالِفُون » يتعدى بنفسِه نحو : خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ ، و « إلى » نحو :
خالَفْتُ إلى كذا ، فكيف تعدى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه ضُمِّن
معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي : صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عنه مخالِفاً له . والثاني :
قال ابن عطية : « معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ/ أَمْرِه ، كما تقول : كان المطر عن
ريحِ كذا ، وعَنْ لما عدا الشيءَ » . الثالث : أنها مزيدةٌ أي : يخالفون أمرَه ،
وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة ، والزيادةُ خلافُ الأصلِ .
وقُرِىء « يُخَلِّفون » بالتشديد ، ومَفْعولُه محذوفٌ أي : يُخَلِّفون أنفسَهم .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قوله
: { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } : قال : الزمخشري : « أَدْخَلَ » قد «
ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق ، ويرجع توكيدُ
العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ : وذلك أنَّ » قد « إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت
بمعنى » رُبَّما « فوافَقَتْ » رُبَّما « في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله
:
3469 فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما ... أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ
ونحوٌ من ذلك قولُ زهير :
3470 أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه ... ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ : » وكونُ « قد » إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ لبعضِ
النحاةِ . وليس بصحيحٍ ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق . والصحيحُ : أنَّ «
رُبَّ » للتقليلِ للشيءِ ، أو لتقليلِ نظيرِه . وإنْ فُهِم تكثيرٌ فمِنْ السِّياقِ
لا منها « .
{ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ } في » يوم « وجهان أحدُهما : أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ
لعطفِه على قولِه : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } أي : يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ
جميعِ أحوالِكم ، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ
الساعة } { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } . والثاني : أنه ظرفٌ لشيءٍ
محذوف . قال ابن عطية : » ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : والعلمُ الظاهرُ لكم أو
نحو هذا يومَ ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ « انتهى .
وقرأ العامَّةُ » يُرْجَعون « مبنياً للمفعول . وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ
. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من
الخطابِ في قولِه : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } إلى الغَيْبة في قوله : » يُرْجَعون
« . والثاني : أنَّ » ما أنتم عليه « خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ . والضميرُ في »
يُرْجَعُون « للمنافقين خاصةً ، فلا التفاتَ حينئذٍ .
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
قوله : { لِيَكُونَ } : اللامُ متعلقةٌ ب « نَزَّل » . وفي اسم « يكون » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرٌ يعودُ على الذي نزَّل . أي : ليكونَ الذي نَزَّل الفرقانَ نذيراً . الثاني : أنه يعودُ على الفرقانِ وهو القرآنُ . أي : ليكون الفرقانُ نذيراً . الثالث : أنه يعودُ على « عبدِه » أي : ليكونَ عبدُه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نذيراً . وهذا أحسنُ الوجوهِ معنىً وصناعةً لقُرْبِه ممَّا يعودُ عليه ، والضميرُ يعودُ على أقربِ مذكورٍ . و « للعالمين » متعلقٌ ب « نذيراً » وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ . ودعوى إفادةِ الاختصاصِ بِعيدةٌ لعدمِ تأتِّيها هنا . ورَجَّح الشيخ عَوْدَه على « الذي » قال : « لأنه العُمْدةُ المسندُ إليه الفعلُ ، وهو مِنْ وصفِه تعالى كقوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] . و » نذيراً « الظاهرُ فيه أنه بمعنى مُنْذِر . وجَوَّزوا أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الإِنذار كالنكير مبعنى الإنكار ومنه { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 16 ] .
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
قوله
: { الذي لَهُ مُلْكُ } : يجوز في « الذي » الرفعُ نعتاً للذي الأولِ ، أو بياناً
، أو بدلاً ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو النصبُ على المدحِ . وما بعد « نَزَّل »
من تمام الصلة فليس أجنبياً ، فلا يضُرُّ الفصلُ به بين الموصولِ الأولِ والثاني
إذا جَعَلْنا الثاني تابعاً له .
قوله : { وَخَلَقَ } الخَلْقُ هنا عبارةٌ عن الإِحداثِ والتهيئةِ لِما يَصْلُح له
حتى يجيءَ قولُه : { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } مفيداً؛ إذ لو حَمْلَنا { خَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ } على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقَدَّر كلَّ شيءٍ
فقدَّره .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
قوله
: { واتخذوا } : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على الكفارِ الذينُ يَضُمُّهم لَفْظُ «
العالمين » ، وأن يعودَ على مَنْ ادَّعَى للهِ شريكاً وَولداً لدلالةِ قولِه : {
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } ، وأنْ يعودَ
على المُنْذَرين لدلالة « نذيراً » عليهم .
قوله : { لاَّ يَخْلُقُونَ } صفةٌ ل « آلهةً » ، وغَلَّبَ العقلاءَ على غيرَهم؛
لأنَّ الكفارَ/ كانوا يَعْبُدون العقلاءَ كعُزَيْرٍِ والمسيح والملائكةِ وغيرِهم
كالكواكبِ والأصنامِ . ومعنى « لا يَخْلُقُون » لا يَقْدِرُوْن على التقدير ،
والخَلْقُ يُوْصَفُ به العبادُ . قال زهير :
3471 وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
ويقال : خَلَقْتُ الأَديمَ أي : قدَّرْتُه . هذا إذا أُريد بالخَلْقِ التقديرُ .
فإنْ أُريد به الإِيجادُ فلا يُوْصَفُ به غير الباري تعالى وقد تقدَّم . وقيل :
بمعنى يَخْتَلِقون ، كقوله : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت : 17 ] .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
قوله
: { افتراه } : الهاءُ تعودُ على إفك . وقال أبو البقاء : « الهاء تعود على »
عَبْدِه « في أول السورة » ولا أظنَّه إلاَّ غَلَطاً ، وكأنه أراد أَنْ يقولَ :
الضمير المرفوع في افتراه فَغَلِط .
قوله : { ظُلْماً } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه مفعولٌ به؛ لأنَّ « جاء » يتعدى
بنفسِه وكذلك « أتى » . والثاني : أنه على إسقاطِ الخافضِ أي : جاؤوا بظلمٍ .
الثالث : أنه في موضعِ الحال ، فيجيءُ فيه ما في قولك « جاء زيدٌ عَدْلاً » من
الأوجه .
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
قوله
: { اكتتبها } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحُدها : أَنْ يكونَ حالاً من أساطيرُ ،
والعاملُ فيها معنى التنبيه ، أو الإِشارةِ المقدرةِ؛ فإنَّ « أساطيرُ » خبرُ
مبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هذه أساطيرُ الأَوَّلِين مُكْتَتَبَةً . والثاني : أن
يكونَ في موضع خبرٍ ثانٍ ل « هذه » . والثالث : أَنْ يكونَ « أساطيرُ » مبتدأً و «
اكْتَتَبها » خبرُه ، واكْتَتَبها : الافتعالُ هنا يجوز أَنْ يكونَ بمعنى أَمَر
بكتابتها كاقتصد واحتَجم ، إذا أَمَر بذلك ، ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى كَتَبَها ،
وهو مِنْ جملةِ افترائِهم عليه لأنه [ عليه السلام ] كان أمِّيَّاً لا يَقْرأ ولا
يَكْتب ، ويكون كقولهم : اسْتَكَبَّه واصْطَبَّه أي : سكبه وصبَّه . والافتعالُ
مُشْعِرٌ بالتكلُّفِ . ويجوز أَنْ يكونَ مِنْ كَتَبَ بمعنى جَمَعَ ، من الكَتْبِ
وهو الجَمْعُ ، لا من الكتابة بالقلَم .
وقرأ طلحةُ « اكْتُتِبَها » مبنياً للمفعولِ . قال الزمخشري : « والمعنى اكتتبها
له كاتِبٌ لأنه كان أمِّيَّاً لا يكتُب بيدِه ، ثم حُذِفَتِ اللامُ فأفضى الفعلُ
إلى الضمير فصار : اكتتبها إياه كاتبٌ . كقولِه : { واختار موسى قَوْمَهُ } [
الأعراف : 155 ] ثم بُني الفعلُ للضمير الذي هو » إياه « فانقلب مرفوعاً مستتراً
بعد أن كان منصوباً بارزاً ، وبقي ضمير الأساطير على حالِه فصارَ » اكْتُتِبَها «
كما ترى » .
قال الشيخ : « ولا يَصِحُّ ذلك على مذهبِ جمهورِ البصريين؛ لأنَّ » اكتتبها له
كاتب « وَصَل الفعلُ فيه لمفعولين أحدُهما مُسَرَّح ، وهو ضميرُ الأساطير ،
والآخرُ مقيدٌ ، وهو ضميرُه عليه السلام ، ثم اتُّسِع في الفعلِ فحُذِفَ حرفُ الجر
، فصار : اكتتبها إياه كاتبٌ . فإذا بُني هذا للمفعولِ : إنما ينوبُ عن الفاعلِ
المفعولُ المُسَرَّحُ لفظاً وتقديراً لا المسرَّحُ لفظاً ، المقيَّدُ تقديراً .
فعلى هذا يكون التركيب اكْتُتِبَه لا اكتتبها ، وعلى هذا الذي قُلْناه جاء السماعُ
. قال : الفرزدق :
3472 ومِنَّا الذي اختير الرجالَ سماحةً ... وجوداً إذا هَبَّ الرياحُ الزَّعازِعُ
ولو جاء على ما قَرَّره الزمخشريُّ لجاء التركيبُ : » ومنا الذي اختيره الرجالُ «
لأنَّ » اخْتير « تَعدَّى إلى الرجال بإسقاطِ حرفِ الجرِّ؛ إذ تقديرُه : اختير من
الرِّجال » . قلت : وهو اعتراضٌ حَسَنٌ بالنسبة إلى مذهبِ الجمهورِ ، ولكن
الزمخشريَّ قد لا يلْتزمه ، ويوافق الأخفشَ والكوفيين ، وإذا كان الأخفشُ وهم ،
يتركون المَسرَّحَ لفظاً وتقديراً ، ويُقيمون المجرورَ بالحرفِ مع وجودِه فهذا
أَوْلَى وأحرى .
والظاهر أنَّ الجملةَ مِنْ قوله : { اكتتبها فَهِيَ تملى } مِنْ تَتِمَّةِ قولِ
الكفارِ . وعن الحسن أنَّها من كلامِ الباري تعالى ، وكان حَقُّ الكلام على هذا
أَنْ يَقْرَأَ « أَكْتَتَبها » بهمزةٍ مقطوعةٍ مفتوحةٍ للاستفهام كقولِه : { أفترى
عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } [ سبأ : 8 ] . ويمكنُ أن يُعْتَذَرَ عنه :
أنه حَذَفَ الهمزةَ للعلمِ بها كقولِه تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] . وقول الآخر :
3473 أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصا نَبْلا
يريدُ : أو تلك ، وأَأَفْرَحُ ، فُحُذِفَ لدلالةِ الحالِ ، وحَقُّه أَنْ يقفَ على
« الأوَّلين » . قال الزمخشري : « كيف قيل : اكْتَتَبها فهي تُمْلَى عليه ، وإنما
يُقال : أَمْلَيْتُ عليه فهو يكتتبها؟ قلت : فيه وجهان ، أحدُهما : أراد اكتتابَها
وطَلَبه فهي تُمْلَى عليه أو كُتِبَتْ له وهو أُمِّيٌّ فهي تُمْلَى عليه أي :
تُلْقَى عليه مِنْ كتابٍ يَتَحفَّظُها؛ لأنَّ صورةَ الإِلقاءِ على الحافظِ كصورة
الإِلقاءِ على الكاتبِ » .
وقرأ عيسى وطلحة « تُتْلَى » بتاءَيْن مِنْ فوقُ ، من التلاوة . و { بُكْرَةً
وَأَصِيلاً } ظرفا زمان للإِملاء . والياءُ في « تملَى » بدلٌ من اللامِ كقولِه :
{ فَلْيُمْلِلْ } [ البقرة : 282 ] وقد تقدَّمَ .
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
قوله
: { مَالِ هذا } : « ما » استفهاميةٌ مبتدأةٌ . والجارُّ بعدَها خبرٌ . « ويَأْكل
» جملةٌ حاليةٌ ، وبها تَتِمُّ فائدةُ الإِخبار كقوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ
التذكرة مُعْرِضِينَ } . وقدت تقدم في النساء أنَّ الجرِّ كُتِبَتْ مفصولةً من
مجرورِها وهو خارجٌ عن قياسِ الخطِّ .
/ والعاملُ في الحالِ الاستقرارُ العاملُ في الجارِّ ، أو نفسُ الجارِّ ، ذكرَه
أبو البقاء .
قوله : { فَيَكُونَ } العامَّةُ على نصبِه . وفيه وجهان ، أحدُهما : نصبٌ على
جوابِ التحضيضِ . والثاني قال أبو البقاء : فيكونَ منصوبٌ على جوابِ الاستفهام «
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ما بعدَ الفاءِ لا يَتَرَتَّبُ على هذا الاستفهامِ . وشرطُ
النصبِ : أن ينعقدَ منها شرطٌ وجزاءٌ . وقُرِىء » فيكونُ « بالرفعِ ، وهو معطوفٌ
على » أُنْزِل « . وجاز عطفُه على الماضي؛ لأنَّ المرادَ بالماضي المستقبلُ ، إذ
التقدير : لولا نُنَزِّلُ .
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
قوله
: { أَوْ يلقى } : « أو تكونُ » معطوفان على « أُنْزِلَ » لِما تقدَّم مِنْ كونِه
بمعنى نُنَزِّل . ولا يجوزُ أَنْ يُعْطفا على « فيكونَ » المنصوبِ في الجواب ،
لأنهما مُنْدَرجان في التحضيض في حكم الواقعِ بعد « لولا » . وليس المعنى على أنهما
جوابٌ للتحضيضِ فيعطفا على جوابِه . وقرأ الأعمش وقتادةُ « أو يكونُ له » بالياء
من تحتُ؛ لأن تأنيثَ الجنةِ مجازيٌّ .
قوله : { يَأْكُلُ مِنْهَا } الجملةُ في موضعِ الرفعِ صفةً ل « جنةٌ » . وقرأ
الأخَوان « نَأْكُلُ » بنون الجمعِ . والباقون بالياء من تحتُ أي : الرسول .
قوله : { وَقَالَ الظالمون } وَضَعَ الظاهرَ موضعَ المضمرِ ، إذ الأصل : وقالوا .
قال الزمخشري : « وأرادَ بالظالمين إياهم بأعيانهم » . قال الشيخ : « وقوله ليس
تركيباً سائغاً ، بل التركيبُ العربيُّ أَنْ يقولَ : أرادَهم بأعيانِهم » .
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
قوله
: { جَنَّاتٍ } : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « خيراً » ، وأَنْ يكونَ عطفَ بيانٍ
عند مَنْ يُجَوِّزه في النكراتِ ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني . و { تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفةٌ .
قوله : { وَيَجْعَل لَّكَ } قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع « ويجعَلُ »
والباقون بإدغامِ لامِ « يَجْعَلْ » في لام « لك » . وأمَّا الرفعُ ففيه وجهان ،
أحدُهما : أنَّه مستأنفٌ . والثاني : أنه معطوفٌ على جوابِ الشرط . قال الزمخشري :
« لأنَّ الشرطَ إذا وقع ماضياً جاز في جوابِه الجزمُ ، والرفعُ كقولِه :
3474 وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
قال الشيخ : » وليس هذا مذهبَ سيبويه ، بل مذهبُه : أنَّ الجوابَ محذوفٌ ، وأنَّ
هذا المضارعَ مَنْوِيُّ به التقديمُ ، ومذهبُ المبرد والكوفيين أنه جوابٌ على
حَذْفِ الفاءِ . ومذهبُ آخرين : أنه جوابٌ لا على حَذْفِها ، بل لمَّا كان الشرطُ
ماضياً ضَعُفَ تأثيرُ « إنْ » فارتفع « . قلت : فالزمخشريُّ بنى قولَه على هذين
المذهبين . ثم قال الشيخ : » وهذا التركيبُ جائزٌ فصيحٌ . وزعم بعضُ أصحابِنا أنه
لا يجيءُ إلاَّ في ضرورة « .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فتحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّ سكونَ اللامِ للجزمِ
عطفاً على مَحَلِّ » جَعَل «؛ لأنَّه جوابُ الشرط . والثاني : أنه مرفوعٌ ، وإنما
سُكِّن لأجلِ الإِدغام . قال الزمخشري وغيرُه وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ مِنْ جملةِ
مَنْ قرأ بذلك وهو نافعٌ والأخَوان وحفصٌ ليس مِنْ أصولِهم الإِدغامُ ، حتى يدعى
لهم في هذا المكانِ . نعم أبو عمرو أصلُه الإِدغامُ وهو يقرأ هنا بسكونِ اللامِ ،
فيُحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسِنِ علمِ النحوِ والقراءاتِ معاً .
وقرأ طلحةُ بن سليمان » ويَجْعَلَ « بالنصبِ؛ وذلك بإضمارِ » أنْ « على جوابِ
الشرطِ ، واستضعفها ابنُ جني . ومثلُ هذه القراءة :
3475 فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ ... رَبيعُ الناسِ والبَلدُ الحرامُ
ونَأْخُذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ ... أَجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
بالتثليث في » نَأْخذ « .
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
قوله
: { إِذَا رَأَتْهُمْ } : هذه الجملةُ الشرطيةُ في موضعِ نصبٍ صفةً ل « سَعيراً »
لأنَّه مؤنَّثٌ .
قوله : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } إنْ قيل : التغيُّظُ لا يُسْمع
. فالجوابُ من ثلاثةِ أوجه ، أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ أي : صوتَ تغيُّظِها .
والثاني : أنه على حَذْفٍ تقديرُه : سَمِعوا وَرَأَوْا تغيُّظاً وزفيراً ، فيرتفع
كلُّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به أي : رَأَوْا تغيُّظاً وسَمِعوا زَفيراً . والثالث :
أَنْ يُضَمَّن « سمعوا » معنىً يَشْمَلُ الشيئين أي : أَدْرَكوا لها تغَيُّظاً
وزفيراً . وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قولِه :
3476 يا ليتَ زوجَك قد غَدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحاً
ومن قوله :
3477 فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
أي : ومُعْتَقِلاً رمحاً ، وسَقَيْتُها ماءً ، أو تضمِّنُ « مُتَقَلِّداً » معنى
مُتَسَلِّحاً ، و « عَلَفْتُها » معنى : أَطْعَمْتُها تِبْناً وماءً بارداً .
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
قوله
: { مَكَاناً } : منصوب على الظرف و « منها » في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ «
مكان » لأنه في الأصل صفةٌ له . و « مُقَرَّنين » حال مِنْ مفعول « أُلْقُوا » . و
« ثُبوراً » مفعول به . فيقولون : يا ثُبوراه . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من معنى
« دُعُوا » وقيل : منصوبٌ بفعلٍ من لفظِه مقدرٍ تقديرُه : ثَبَرْنا ثُبوراً .
وقرأ/ معاذ بن جبل « مُقَرَّنُوْنَ » بالواو . ووجهُها أَنْ تكونَ بدلاً من مفعول
« أُلْقُوا » .
وقرأ عمر بن محمد « ثَبورا » بفتح الثاء . والمصادرُ التي على فَعُوْل بالفتح
قليلةٌ جداً . ينبغي أن يُضَمَّ هذا إليها ، وقد ذكرْتُها في البقرةِ عند قولِه {
وَقُودُهَا الناس } [ البقرة : 24 ] .
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
قوله
: { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحالِ : إمَّا مِنْ فاعل « يَشاؤون » وإمَّا مِنْ
فاعل « لهم » لوقوعِه خبراً . والعائدُ على « ما » محذوفٌ أي : لهم فيها الذي
يَشاؤُونه حالَ كونِهم خالدين .
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ } في اسمِ كان وجهان ، أحدهما : أنه ضميرُ « ما
يَشاؤون » ، ذكره أبو البقاء . والثاني : أَنْ يعودَ على الوَعْدَ المفهومِ مِنْ
قولِه { وُعِدَ المتقون } . و { مَّسْئُولاً } على المجازِ أي : يُسْأَلُ : هل
وُفِّي بك أم لا؟ أو يَسْأله مَنْ وُعِدَ به؟ .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
قوله
: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } : قرأ ابنُ عامر « نَحْشُرهم » ِ « فنقول » بالنون
فيهما . وابنُ كثير وحفصٌ بالياء مِنْ تحت فيهما . والباقون بالنونِ في الأولِ ،
وبالياءِ في الثاني . وهنَّ واضحاتٌ . وقرأ الأعرج « نَحْشِرُهم » بكسر الشين في
جميع القرآن . قال ابن عطية : « هي قليلةٌ في الاستعمالِ قويةٌ في القياس؛ لأنَّ
يَفْعِلِ بكسرِ العين في المتعدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُل بضمِّ العين » . وقال
أبو الفضل الرازي : « وهو القياس في الأفعالِ الثلاثيةِ المتعديةِ؛ لأنَّ يَفْعُل
بضهم العين قد يكونُ من اللازمِ الذي هو فَعُل بضمِّها في الماضي » . قال الشيخ :
« وليس كما ذكرا ، بل فِعْلُ المتعدِّي الصحيحُ جميعُ حروفِه ، إذا لم يكن
للمغالبةِ ولا حلقيَّ عينٍ ولا لامٍ فإنه جاء على يَفْعِل ويَفْعُل كثيراً . فإنْ
شُهرِ أحدُ الاستعمالين اتُّبعَ ، وإلاَّ فالخيارُ . حتى إنَّ بعضَ أصحابِنا
خَيَّر فيهما : سُمِعا للكلمة أو لم يُسْمَعا » . قلت : الذي خَيَّرَ في ذلك هو
ابنُ عصفور فيُجيزُ أَنْ تقولَ : « زيد يَفْعِل » بكسرِ العينِ ، و « يَضْرُب » [
بضمِّ ] الراءِ مع سماعِ الضمِّ في الأول والكسرِ في الثاني . وسبَقَه إلى ذلك
ابنُ درستويهِ ، إلاَّ أنَّ النحاةَ على خلافِه .
قوله : { وَمَا يَعْبُدُونَ } عطفٌ على مَفْعولِ « نَحْشُرهم » ويَضْعُفُ نصبُه
على المعيَّة . وغَلَّب غيرَ العاقلِ فأتى ب « ما » دونَ « مَنْ » .
قوله : { هَؤُلاَءِ } يجوزُ أن يكونَ نعتاً لعِبادي ، أو بدلاً ، أو بياناً .
قوله : { ضَلُّوا السبيل } على حَذْفِ الجرِّ وهو « عن » ، كما صَرَّح به في قوله
{ يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 117 ] ثم اتُّسِع فيه فَحُذِف نحو : «
هَدَى » ، فإنه يتعدَّى ب « إلى » ، وقد يُحْذَفُ اتِّساعاً . و « ظَلَّ » مطاوعُ
أَضَلَّ .
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
قوله
: { يَنبَغِي } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل . وأبو عيسى الأسودُ القارىء «
ينبغى » مبنياً للمفعولِ . قال ابنُ خالويه : « زعم سيبويه أن ينبغى لغة » .
قوله : { أَن نَّتَّخِذَ } فاعلُ « ينبغي » أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في
قراءةِ الأسود . وقرأ العامَّةُ « نَتَّخِذَ » مبنياً للفاعل . و « من أولياء »
مفعولُه ، وزِيْدَتْ فيه « مِنْ » . ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ «
اتَّخَذَ » متعديةٌ لاثنين ، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ ،
فعلى هذا « مِنْ دونِك » متعلِّقٌ بالاتِّخاذ ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «
أولياء » .
وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين «
نُتَّخَذَ » مبنيَّاً للمفعول . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها المتعديةُ لاثنينِ ،
والأولُ همز ضمير المتكلمين . والثاني : قولُه : « مِنْ أولياء » و « مِنْ »
للتبعيضِ أي : ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء ، قاله الزمخشري . الثاني
: أنَّ « مِنْ أولياء » هو المفعولُ الثاني ايضاً ، إلاَّ أنَّ « مِنْ » مزيدةٌ في
المفعولِ الثاني . وهذا مردودٌ : بأنَّ « مِنْ » لا تُزاد في المفعول الثاني ،
إنما تُزاد في الأولِ . قال ابن عطية : « ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ » مِنْ «
في قوله : » مِنْ أولياء « . اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه » . الثالث : أَنْ
يكونَ « مِنْ أولياء » في موضعِ الحالِ . قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : «
ودَخَلَتْ » مِنْ « زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم ، كقولك : ما اتَّخذت زيداً مِنْ
وكيل » . قلت : فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ ،
وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ « مِنْ » مزيدةً ، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو
الحالُ نفسُه و « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ « مِنْ » في
الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً ، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك .
وقوله : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } { أَمْ هُمْ ضَلُّوا } إنما قَدَّم الاسمَ على
الفعل لمعنىً ذكرْتُه في قولِه تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة :
116 ] .
وقرأ الحَجَّاج « نتخذ مِنْ دونِك [ أولياءَ ] » فبلغ عاصماً فقال : « مُقِتَ
المُخْدِجُ . أَوَ عَلِم أنَّ فيها » مِنْ «؟
قوله : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ } لَمَّا تََضَمَّن كلامُهم أنَّا لم نُضِلَّهم ،
ولم نَحْمِلْهم على الضلالِ ، حَسُن هذا الاستدراكُ وهو أَنْ ذَكَرُوا سبَبَه أي :
أَنْعَمْتَ عليهم وتَفَضَّلْتَ فَجَعَلوا ذلك ذَرِيْعةً إلى ضلالهم عكسَ القضية .
قوله : { بُوراً } يجوز فيه وجهان أحدُهما : أنه جمعُ بائرِ كعائذِ وعُوذ .
والثاني : أنه مصدرٌ في الأصلِ ، فَيَسْتوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ
والمذكرُ والمؤنثُ . وهو مِنْ البَوارِ وهو الهَلاكُ . وقيل : من الفسادِ . وهي
لغةٌ للأزد يقولون : / بارَتْ بضاعتُه أي : فَسَدَتْ . وأمرٌ بائِرٌ أي : فاسدٌ .
وهذا معنى قولِهم : » كَسَدَتِ البضاعةُ « . وقال الحسن : » وهو مِنْ قولِهم :
أرضُ بُوْرٌ أي : لا نباتَ بها . وهذا يَرْجعُ إلى معنى الهلاكِ والفساد « .
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
قوله
: { بِمَا تَقُولُونَ } : هذه الجملةُ من كلامِ اللهِ تعالى اتفاقاً ، فهي على
إضمارِ القولِ والالتفاتِ . قال الزمخشري : « هذه المفاجأةُ بالاحتجاجِ والإِلزامِ
حسنةٌ رائعةٌ ، وخاصةً إذا انضمَّ إليها الالتفاتُ وحَذْفُ القولِ . ونحُوها قولُه
عَزَّ وجَلَّ { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على
فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] وقولُ القائل :
3478 قالوا خُراسانُ أَقْصى ما يُرادُ بنا ... ثم القُفُوْلُ فقد جِئْنا خُرسانا
انتهى . يريد : أن الأصلَ في الآيةِ الكريمة : فقُلْنا : قد كَذَّبوكم ، وفي البيت
فقلنا : قد جِئْنا . والخطابُ في » كَذَّبوكم « للكفارِ ، فالمعنى : فقد كَذَّبكم
المعبودون بما تقولون مِنْ أنَّهم أَضَلُّوكم . وقيل : المعنى : فقد كَذَّبوكم
فيما تقولون من الافتراءِ عليهم أنَّهم أَضَلُّوكم وقيل : هو خطابٌ للمؤمنين في
الدنيا أي : فقد كَذَّبكم أيَّها المؤمنون الكفارَ بما تقولون من التوحيدِ في
الدنيا .
وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياءِ مِنْ تحتُ أي : فقد
كَذَّبكم الآلهةُ بما يقولون { سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن
نَّتَّخِذَ } إلى آخِرِه . وقيل : المعنى : فقد كَذَّبكم أيها المؤمنونَ الكفَّارُ
بما يقولون من الافتراءِ عليكم .
قوله : { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } قرأ حفص بتاءِ الخطاب والمرادُ عبادُها .
والباقون بياءِ الغَيْبة . والمرادُ الآلهةُ التي كانوا يعبُدونها مِنْ عاقلٍ
وغيرِه؛ ولذلك غَلَّب العاقَل فجيْءَ بواوِ الضميرِ .
قوله : { نُذِقْهُ } العامَّةُ بنونِ العظمةِ ، وقرىء بالياءِ وفي الفاعلِ وجهان ،
أظهرهُما : أنَّه اللهُ تعالى لدلالةِ قراءةِ العامَّةِ على ذلك . والثاني : أنه
ضميرُ الظلمِ المفهومِ من الفعل . وفيه تَجَوُّزُ بإسناد إذاقةِ العذابِ إلى
سببِها وهو الظلمُ .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قوله
: { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها :
أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج :
« وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين » وإنما حُذِف
لمكانِ الجارِّ بعدَه . وقَدَّره ابنُ عطية : « رجالاً أو رُسُلاً » . والضميرُ في
« إنهم » وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ . والثاني : أنه لا محلَّ لها
من الإِعرابِ ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا ، تقديرُه :
إلاَّ مَنْ إنهم ، فالضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على معنى « مَنْ » المقدرةِ
، وإليه ذهب الفراء . وهو مردودٌ : بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في
مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ . الثالث : أنَّ الجملةَ محلُّها
النصبُ على الحالِ . وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري . قال : التقديرُ : إلاَّ
وإنهم ، يعني أنَّها حاليةٌ ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية . ورُدَّ : بكونِ
ما بعدَ « إلاَّ » صفةً لِما قبلَها . وقدَّره أبو البقاء أيضاً .
والعامَّةُ على كسرِ « إنَّ » لوجودِ اللامِ في خبرِها ، ولكونِ الجملةِ حالاً على
الراجحِ . قال أبو البقاء : « وقيل : لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ
الجملةَ حاليةٌ ، إذ المعنى : إلاَّ وهم [ يأْكلون » ] . وقُرِىء « أنهم » بالفتح
على زيادةِ اللامِ ، و « أَنْ » مصدريةٌ . التقدير : إلاَّ لأنَّهم . أي : ما
جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم .
وقرأ العامَّةُ « يَمْشُوْن » خفيفةً . وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله
« يُمَشَّوْن » مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . أي : تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ .
وقرأ [ أبو ] عبد الرحمن « يُمَشُّون » بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى «
يَمْشُون » . قال الشاعر :
3479 ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى ... قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ
قال الزمخشري : « ولو قُرِىء » يُمَشُّون « لكان أوجهَ ، لولا الروايةُ » يعني
بالتشديد . قلت : قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد .
قوله : { أَتَصْبِرُونَ } المعادِلُ محذوفٌ أي : أم لا تصبرون . وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ
قال الزمخشري : « موقعُها بعد الفتنةِ موقع » أيُّكم « بعد الابتلاءِ في قولهِ {
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } [ الملك : 2 ] يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها
مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
قوله : { عُتُوّاً } : مصدرٌ . وقد صَحَّ هنا ، وهو الأكثرُ ، وأُعِلَّ في سورة مريم في { عِتِيّاً } [ الآية : 8 ] لمناسبةٍ ذُكِرَتْ هناك وهي تواخي رؤوسِ الفواصلِ .
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
قوله
: { يَوْمَ يَرَوْنَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ يَدُلُّ
عليه قوله : « لا بشرى » أي : يُمْنعون البشرى يومَ يَرَوْن . الثاني : أنه منصوبٌ
باذْكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به . الثالث : أنه منصوبٌ ب « يُعَذَّبون » مقدَّراً .
ولا يجوز أَنْ يعملَ فيه نفسُ البشرى/ لوجهين ، أحدهما : أنها مصدرٌ ، والمصدرُ لا
يعملُ فيما قبله . والثاني : أنها منفيةٌ ب « لا » ، وما بعدَها لا يَعْمل فيما
قبلَها .
قوله : { لاَ بشرى } هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ أي : يَرَوْنَ الملائكةَ
يقولون : لا بشرى ، فالقولُ حالٌ من الملائكة . وهو نظيرُ التقديرِ في قولِه تعالى
: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم }
[ الرعد : 23 ] . قال الشيخ : « واحْتَمَلَ » بُشْرَى « أَنْ يكونَ مبنياً مع » لا
« ، واحْتَمَل أن يكونَ في نيةِ التنوينِ منصوبَ اللفظِ ، ومُنِع من الصرفِ
للتأنيثِ اللازمِ . فإنْ كان مبنياً مع » لا « احْتَمَلَ أَنْ يكونَ » يومئذٍ «
خبراً ، و » للمجرمين « خبرٌ بعد خبرٍ ، أو نعتاً ل » بشرى « ، أو متعلقاً بما
تَعَلَّق به الخبرُ ، وأَنْ يكونَ » يومئذٍ « صفةً ل » بُشْرَى « ، والخبرُ »
للمجرمين « ويجيءُ خلافُ سيبويهِ والأخفشِ : هل الخبرُ لنفسِ لا ، أو الخبرُ
للمبتدأ الذي هو مجموعُ » لا « وما بُني معها؟ وإن كان في نيةِ التنوينِ وهو معربٌ
جاز أن يكونَ » يومئذٍ « و » للمجرمين « . خبرين ، وجاز أَنْ يكونَ » يومئذٍ «
خبراً و » للمجرمين « صفةً . والخبرُ إذا كان الاسمُ ليس مبنيَّاً لنفسِ » لا «
بإجماع » .
قلت : قوله : « واحْتَمَلَ أَنْ يكونَ في نيةِ التنوينِ » إلى آخره لا يتأتى إلاَّ
على قولِ أبي إسحاقَ . وهو أنَّه يرى أنَّ اسمَ « لا » النافيةِ للجنسِ معربٌ ،
ويَعْتَذِرُ عن حذفِ التنوينِ بكثرةِ الاستعمالِ ، ويَسْتَدِلُّ عليه بالرجوعِ
إليه في الضرورةِ . ويُنشِد :
3480 أَلا رجلاً جزاهُ اللهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
ويتأَوَّلُه البصريون على إضمار : ألا تَرَوْنَني رجلاً . وكان يمكنُ الشيخُ أنْ
يجعلَه معرباً كما ادَّعى بطريق أخرى : وهي أن يَجْعَلَ « بشرَى » عاملةً في «
يومَئذٍ » أو في « للمجرمين » فيصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل ، والمُطوَّلُ معربٌ ،
لكنه لم يُلِمَّ بذلك . وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله . ويجوز
أَن يكونَ « بُشرى » معرباً منصوباً بطريقٍ أخرى . وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ
مقدرٍ أي : لا يُبَشَّرون بشرى كقولِه تعالى : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } [ ص : 59
] ، « لا أهلا ولا سهلاً » . إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا
لقولهِ : « جاز أَنْ يكونَ » يومَئذٍ « و » للمجرمين « خبرين » فقد حكمَ أنَّ لها
خبراً .
وإذا
جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون ل « لا » حينئذٍ خبرٌ ، لأنها داخلةٌ على
ذلك الفعلِ المقدرِ . وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه .
قوله : { يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } قد تقدَّم من « يومئذٍ » أوجهٌ . وجَوَّز
أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً ب « بشرى » قال : « إذا قَدَّرْتَ أنها منونةٌ غيرُ
مبنيةٍ مع » لا « ويكونُ الخبرُ » للمجرمين « .
وجَوَّز أيضاً هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ » يومئذٍ « تكريراً ل » يومَ يَرَوْن « .
ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال : »
لأنَّ يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ « اذْكُر » ، أو مِنْ يَعْدِمون البشرى
. وما بعد « لا » العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ما قبلَها . وعلى تقدير ما
ذكراه يكون العاملُ فيه ما قبل لا « . قلت : وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ؛ وذلك لأنَّ
الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالاً مِنَ » الملائكة « ،
والملائكةُ معمولةٌ ل » يَرَوْن « ، ويَرَوْن معمولٌ ل » يوم « خفضاً بالإِضافة ،
ف » لا « وما في حَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ
ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما
بعدَها . والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا ، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع
التأمُّل؟
و » للمُجْرمين « مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك .
والضميرُ في » يقولون « يجوزُ عَوْدُه للكفارِ و » للملائكة « .
و » حِجْراً « من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها ، ولا يُتَصَرَّف فيه . قال
سيبويه : » ويقولُ الرجلُ للرجل : أَتفعل كذا؟ فيقول : حِجراً « . وهي مِنْ حَجَره
إذا مَنَعَه؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه . وكأن
المعنى : أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعاً ويَحْجُرَه حَجْراً .
والعامَّةُ على كسرِ الحاء . والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمِّها وهو لغةٌ فيه .
قال الزمخشري : » ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه
لاختصاصِه بموضعٍ واحد ، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك . وأنشدتُ لبعض الرُجاز :
3481 قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ ... عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ
وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ « حجراً » وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ
على أنَّه يلزمُ النصبَ . وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ . قال : «
وقد قُرِىء بها » . فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ .
ومَحْجُوْراً صفةٌ مؤكَّدةٌ للمعنى كقولهم : ذَيْل ذائِل ، ومَوْت مائتِ .
والحِجْر : العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه .
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
قوله : { هَبَآءً } : الهَباءُ والهَبْوَة : الترابُ الدقيق قاله ابن عرفة . قال الجوهري : « يُقال منه : هبا يَهْبو إذا ارتفع وَأَهْبَيْتُه أنا إهْباءً » . وقال الخليل والزجَّاج : « هو مثلُ الغبارِ الداخلِ في الكُوَّة يتراءَى مع ضوءِ الشمس » . وقيل : الهَباء ما تطايَرَ مِنْ شَرَرِ النارِ إذا أُضْرِمَتْ . والواحدةُ هَباءة على حَدّ تَمْر وتمرة . ومَنْثوراً أي مُفَرَّقاً ، نَثَرْتُ الشيء : فَرَّقْتُه . والنَّثْرَة : لنجومٍ متفرقة . والنَّثْرُ : الكلامُ غيرُ المنظوم على المقابلةِ بالشعرِ . وفائدةُ الوصفِ به أنَّ الهباءَ تراه منتظماً مع الضوء/ فإذا حَرَّكْتُه تَفَرَّقَ فجِيِْءَ بهذه الصفةِ لتفيدَ ذلك . وقال الزمخشري : « أو مفعولٌ ثالثٌ لجَعَلْناه أي : فَجَعَلْناه جامِعاً لحقارةِ الهَباء والتناثُرِ كقوله تعالى : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] أي : جامعين للمَسْخِ والخَسْءِ » . قال الشيخ : « وخالَفَ ابنُ درستويه ، فخالف النحويين في مَنْعِه أن يكونَ لكان خبران وأزيدُ ، وقياسُ قولِه في » جَعَلَ « أَنْ يمنعَ أن يكونَ لها خبرٌ ثالث » . قلت : مقصودُه أنَّ كلامَ الزمخشريِّ مردودٌ قياساً على ما مَنَعَه ابنُ درستويه مِنْ تعديدِ خبر « كان » .
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
قوله : { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ } : في أفْعَل هنا قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من التفضيل . والمعنى : أنَّ المؤمنين خيرٌ في الآخرة مستقراً مِنْ مستقرِّ الكفارِ ، وأحسنُ مقيلاً مِنْ مَقِيلهم ، لو فُرِض أَنْ يكونَ لهم ذلك ، أو على أنهم خيرٌ في الآخرةِ منهم في الدنيا . والثاني : أَنْ تكونَ لمجردِ الوصفِ مِنْ غيرِ مفاضلةٍ .
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
قوله
: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ } : العاملُ في « يومَ » : إمَّا اذْكُرْ ، وإمَّا :
ينفردُ اللهُ بالمُلْك يومَ تَشَقَّقُ ، لدلالة قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق
للرحمن } [ الفرقان : 26 ] عليه .
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو هنا وفي ق « تَشَقَّق » بالتخفيف . والباقون بالتشديدِ .
وهما واضحتان . حَذَفَ الأَوَّلون تاءَ المضارعةِ ، أو تاءَ التَّفَعُّلِ ، على
خلافٍ في ذلك . والباقون أَدْغموا تاء التَفَعُّل في الشين لِما بينهما من
المقاربَةِ ، وهما « كَتَظَاهَرون وتَظَّاهرون » حَذْفاً وإدغاماً . وقد مضى في
البقرة .
قوله : { بالغمام } في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : على السببيَّة أي : بسببِ
الغَمام ، يعني بسببِ طُلوعِه منها . ونحو { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل
: 18 ] كأنَّه الذي تَنْشَقُّ به السماءُ . الثاني : أنها للحالِ أي : ملتبسَةً
بالغَمام . الثالث : أنها بمعنى عَنْ أي : عن الغمامِ كقوله : { يَوْمَ تَشَقَّقُ
الأرض عَنْهُمْ } [ ق : 44 ] .
قوله : { وَنُزِّلَ الملائكة } فيها اثنتا عشرة قراءة : ثِنْتان في المتواتِر ،
وعشرٌ في الشاذ . فقرأ ابن كثير من السبعة « ونُنْزِلُ » بنونِ مضمومةٍ ثم أُخْرى
ساكنةٍ وزايٍ خفيفةٍ مكسورةٍ مضارعَ « أَنْزَلَ » ، و « الملائكةَ بالنصبِ مفعولٌ
به . وكان من حَقِّ المصدرِ أَنْ يجيءَ بعد هذه القراءةِ على إنْزال . قال أبو علي
: » لَمَّا كان أَنْزَل ونَزَّل يَجْريان مَجْرىً واحِداً ، أجرى مصدرَ أحدِهما
على مصدرِ الآخر : وأنشدَ :
3482 وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ ... لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَوَيْتُ
بمعنىً « . قلت : ومثلُه { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] أي :
تَبَتُّلاً . وقرأ الباقون من السبعةِ » ونُزِّل « بضمِّ النون وكسرِ الزاي
المشدَّدةِ وفتحِ اللامِ ، ماضياً مبنياً للمفعول . » الملائكةُ « بالرفعِ لقيامةِ
مقامَ الفاعلِ . وهي موافقةٌ لمصدرِها .
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء » ونَزَّلَ « بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعلِ ، وهو الله
تعالى ، » الملائكةَ « مفعولٌ به . وعنه أيضاً » وأَنْزَل « مبنياً للفاعلِ
عَدَّاه بالتضعيفِ مرةً ، وبالهمزة أخرى . والاعتذارُ عن مجيء مصدرِه على التفعيلِ
كالاعتذارِ عن ابنِ كثير . وعنه أيضاً » وأُنْزِل « مبنياً للمفعولِ .
وقرأ هارون عن أبي عمرٍو » وتُنَزِّل الملائكةُ « بالتاء من فوق وتشديدِ الزايِ
ورفعِ اللام مضارعاً مبنياً للفاعل ، » الملائكةُ « بالرفعِ ، مضارعَ نَزَّل
بالتشديد ، وعلى هذه القراءةِ فالمفعولُ محذوفٌ أي : وتُنَزِّل الملائكةُ ما
أُمِرَتْ أَنْ تُنَزِّلَه .
وقرأ الخَفَّاف عنه ، وجناح بن حبيش » ونَزَل « مخففاً مبنياً للفاعلِ » الملائكةُ
« بالرفع . وخارجة عن أبي عمرٍو أيضاً وأبو معاذ » ونُزِّلُ « بضم النون وتشديدِ
الزاي ونصب » الملائكةَ « . والأصل : ونُنَزِّلُ بنونين حُذِفَتْ إحداهما .
وقرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير في روايةٍ عنهما بهذا الأصلِ » ونُنَزِّل « بنونين
وتشديدِ الزايِ . وقرأ أُبَيُّ و » نُزِّلَتْ « بالتشديدِ مبنياً للمفعولِ . و »
تَنَزَّلَتْ « بزيادةِ تاءٍ في أولهِ ، وتاءِ التأنيث فيهما .
وقرأ أبو عمرٍو في طريقةِ الخَفَّاف عنه « ونُزِلَ » بضمِّ النون وكسرِ الزايِ خفيفةَ مبنياً للمفعول ، قال صاحب اللوامح : « فإنْ صَحَّتِ القراءةُ فإنَّه حُذِفَ منها المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، تقديره : ونُزِل نزولُ الملائكةِ ، فحُذِفَ النزولُ ، ونُقِل إعرابُه إلى الملائكة . بمعنى : نُزِل نازلُ الملائكةِ؛ لأنَّ المصدرَ يجيءُ بمعنى الاسمِ . وهذا ممَّا يجيءُّ على مذهب سيبويهِ/ في ترتيب بناءِ اللازمِ للمفعولِ به؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على مصدره » ، قلت : وهذا تَمَحُّلٌ كثيرٌ دَعَتْ إليه ضرورةُ الصناعةِ ، وقال ابن جني : « وهذا غيرُ معروفٍ؛ لأنَّ نَزَلَ لا يتعدى إلى مفعولٍ فيبنى هنا للملائكة . ووجهُه : أَْنْ يكونَ مثل : زُكِم الرجلُ وجُنَّ ، فإنه لا يُقال : إلاَّ : أَزْكمه وأَجَنَّه الله ، وهذا بابُ سماعٍ لا قياسٍ » . قلت : ونظيرُ هذه القراءة ما تقدَّم في سورة الكهفِ في قراءةِ مَنْ قرأ { فَلاَ يقوم له يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الآية : 105 ] بنصب « وَزْناً » من حيث تَعْدِيَةُ القاصرِ وتَقَدَّم ما فيها .
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ } : فيه ِأوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ « المُلْكُ » مبتدأً ، والخبر : « الحق » ، و « يومئذٍ » متعلِّقٌ بالمُلْك . و « للرحمن » متعلقٌ بالحق ، أو بمحذوفٍ على التبيين ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للحق . الثاني : أنَّ الخبرَ « يومئذٍ » ، و « الحقُّ » نعتٌ للمُلْك . و « للرحمن » على ما تقدَّم . الثالث : أنَّ الخبرَ « للرحمن » و « يومئذٍ » متعلقٌ بالمُلْك ، و « الحقُّ » نعتٌ للمُلك .
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
قوله
: { وَيَوْمَ يَعَضُّ } : معمولٌ لمحذوفٍ ، أو معطوفٌ على « يومَ تَشَقَّقُ » . و
« يَعَضُّ » مضارعُ عَضَّ ، ووزنُه فَعِل بكسرِ العينِ ، بدليلِ قولِهم : عَضِضْتُ
أَعَضُّ ، وحكى الكسائيُّ فتحَها في الماضي ، فعلى هذا يُقال : أَعِضُّ بالكسر في
المضارع . والعَضُّ هنا كنايةٌ عن شدَّةِ اللزومِ . ومثله : حَرَقَ نابَه ، قال :
3483 أبى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نابَه ... عليه فأفضى والسيوفُ
مَعاقِلُهْ
وهذه الكنايةُ أبلغُ من تصريحِ المكنى عنه . وأَلْ في « الظالم » تحتملُ العهدَ ،
والجنسَ ، على حَسَبِ الخلافِ في ذلك .
قوله : { يَقُولُ } هذه الجملةُ حال مِنْ فاعل « يَعَضُّ » . وجملةُ التمنِّي بعد
القولِ مَحْكيَّةٌ به . وتقدَّم الكلامُ في مباشرة « يا » ل « ليت » في النساء .
وفلانٌ كنايةٌ عن عَلَمِ مَنْ يَعْقِل وهو منصرفٌ ، وفُلُ كنايةٌ عن نكرةِ مَنْ
يَعْقِل من الذكور ، وفُلَةُ عَمَّن يَعْقِلُ من الإِناثِ ، والفلانُ والفلانةُ
بالألف واللام عن غير العاقلِ . ويختصُّ فُلُ وفُلَةُ بالنداءِ إلاَّ في ضرورةٍ
كقوله :
3484 في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ ... وليس « فُلُ » مُرَخَّماً من فلان
خلافاً للفراء ، وزعم الشيخ أنَّ ابنَ عصفورِ وابنَ مالك وابن العلج وَهِمُوا في
جَعْلهم « فُلُ » كنايةً عن عَلَم مَنْ يَعْقِلُ كفُلان . ولامُ فُل وفلان فيها
وجهان ، أحدهما : أنها واوٌ . والثاني : أنها ياءٌ ، وقرأ الحسن « يا ويلتي »
بكسرِ التاء وياءٍ صريحةٍ بعدها ، وهي الأصلُ ، وقرأ الدُّوريُّ بالإِمالة ، قال
أبو عليّ : « وتَرْكُ الإِمالةِ أحسنُ؛ لأنَّ أصلَ هذه اللفظةِ الياءُ ، فبُدِّلت
الكسرةُ فتحةً ، والياءُ ألفاً؛ فِراراً من الياءِ . فَمَنْ أمال رَجَعَ إلى الذي
منه فَرَّ أولاً » قلت : وهذا منقوضٌ بنحو « باع » فإنَّ أصلَه الياءُ ومع ذلك
أمالوا ، وقد أمالُوا { يا حسرتى عَلَى مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] و { يَا
أَسَفَى } [ يوسف : 84 ] وهما ك « يا ويلتى » في كونِ ألفِهما عن ياءِ المتكلم .
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
قوله : { وَكَانَ الشيطان } : يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ من مقولِ الظالمِ ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ بالقولِ ، وأَنْ تكونَ من مقولِ الباري تعالى : فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
قوله : { مَهْجُوراً } : مفعولٌ ثانٍ ل « اتَّخَذُوا » أو حال . وهو مفعولٌ مِنْ الهَجْرِ بفتحِ الهاءِ وهو التَّرْكُ والبُعْدُ . أي : جعلوه متروكاً بعيداً . وقيل : هو من الهُجْر بالضم أي : مهجوراً فيه ، حيث يقولون فيه : إنه شِعْرٌ وأساطيرُ ، وجَعَل الزمخشري مفعولاً هنا مصدراً بمعنى الهَجْر قال : « كالمَجْلود والمَعْقُول » . قلت : وهو غيرُ مَقيسٍ ، ضَبَطَه أهلُ اللغةِ في أًُلَيْفاظٍ فلا تتعدى إلاَّ بنَقْلٍ .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
قوله : { هَادِياً } : حالٌ أو تمييزٌ . وقد تقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملةِ .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
قوله
: { جُمْلَةً } : حالٌ من القرآن ، إذ هي في معنى مُجْتمعاً .
قوله : { كَذَلِكَ } إمَّا مرفوعةٌ المَحَلِّ أي : الأمرُ كذلك . و « لِنُثَبِّتَ
» علةٌ لمحذوفٍ أي : لِنُثَبِّتَ فَعَلْنا ذلك . وإمَّا منصوبتُه على الحالِ أي :
أنزل مثلَ ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوفٍ ، و « لِنُثَبِّتَ » متعلقٌ بذلك
الفعلِ المحذوفِ . وقال أبو حاتمٍ : « هي جوابُ قسمٍ » وهذا قولٌ مرجُوْحٌ نحا
إليه الأخفش وجَعَلَ منه « ولتصغى » ، وقد تقدَّم في الأنعام .
وقرأ عبد الله « لِيُثَبِّتَ » بالياءِ أي : اللهُ تعالى .
والتَّرْتيل : التفريقُ . ومجيءُ الكلمةِ بعد الأخرى بسكونٍ يسيرٍ دونَ قَطْع
النَّفَسِ . ومنه ثَغْرٌ رَتْلٌ ومُرَتَّل أي : مُفَلَّجُ الأسنان ، بين أسنانِه
فُرَجٌ يسيرةٌ .
قال الزمخشري : « ونُزِّل هنا بمعنى : أَنْزَل لا غير ك خَبَّر بمعنى أَخْبر ،
وإلاَّ تدافَعا » يعني أنَّ « نَزَّلَ » بالتشديدِ يقتضي بالأصالةِ التنجيمَ
والتفريق ، فلو لم يُجْعَلْ بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك لتدافعَ مع قولِه «
جُمْلَةً » لأنَّ الجملةَ تُنَافي التفريقَ ، وهذا بناءً منه على معتقدِه وهو أنَّ
التضعيفَ يَدُلُّ على التفريقِ . وقد نَصَّ على ذلك في مواضعَ من كتابة « الكشاف »
. وتقدَّم ذلك في البقرةِ وأولِ آل عمران وآخرِ الإِسراء ، وحكى هناك عن ابنِ عباس
ما يُقَوِّي ظاهرُه صحتَه .
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
قوله : { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق } هذا الاستثناءُ مفرَّغٌ . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : لا يَأْتُونك بمَثَلٍ إلاَّ في حالِ إتيانِنا إياك كذا . والمعنى : ولا يَأْتُونك بسؤالٍ عجيبٍ إلاَّ جِئْناك بالأمرِ الحقِّ . و « تَفْسيراً » تمييزٌ ، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي : تفسيراً مِنْ مِثْلِهم .
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قوله : { الذين يُحْشَرُونَ } : يجوز رفعُه خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هم الذين . ويجوزُ نصبُه على الذمِّ ، ويجوز أن يرتفعَ بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } . ويجوز أَنْ يكونَ « أولئك » بدلاً من أو بياناً للموصول ، و « شَرٌّ مكاناً » خبر الموصول .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
قوله : { هَارُونَ } : بدلٌ أو بيانٌ ، أو منصوبٌ على القطع . و « وزيراً » مفعولٌ ثانٍ ، وقيل : حالٌ ، والمفعولُ الثاني قوله : « معه » .
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
قوله : { فَدَمَّرْنَاهُمْ } : العامَّةُ على « فَدَمَّرْنا » فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوفٍ أي : فَذَهبا فكذَّبُوهما فدَمَّرْناهم . وقرأ عليٌّ كرَّم اللهُ وجهَه « فَدَمِّراهم » أمراً لموسى وهارون . وعنه أيضاً « فَدَمِّرانِّهم » كذلك أيضاً ، ولكنه مؤكَّدٌ بالنونِ الشديدةِ . وعنه أيضاً : « فدَمِّرا بهم » بزيادةِ باءِ الجر بعد فعلِ الأمرِ ، وهي تُشْبِهُ القراءةَ قبلَها في الخَط . ونَقَلَ عنه الزمخشري « فَدَمَّرْتُهم » بتاءٍ المتكلِّمِ .
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
قوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ، عطفاً على مَفْعول « دَمَّرْناهم » . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره قولُه « أغْرَقْناهم » . ويُرَجَّح هذا بتقدُّم جملةٍ فعليةٍ قبلَه . هذا إذا قُلنا : إنَّ « لَمَّا » ظرفُ زمانٍ ، وأمَّا إذا قُلْنا إنَّها حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ « أَغْرقناهم » حينئذٍ جوابٌ « لَمَّا » ، وجوابُها لا يُفَسِّر ، ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ لا على سبيلِ الاشتغالِ ، أي : اذكرْ قومَ نوحٍ .
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
قوله
: { وَعَاداً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أَنْ يكونَ معطوفاً على قومِ نوح ، وأنْ
يكونَ معطوفاً على مفعولِ « جَعَلْناهم » ، وأَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ «
للظالمين » لأنَّه في قوةِ : وَعَدْنا الظالمين بعذابٍ .
قوله : { وَأَصْحَابَ الرس } فيه وجهان ، أحدهما : من عَطْفِ المغايِرِ . وهو
الظاهرُ . والثاني : أنَّه من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ . والمرادُ بأصحابِ
الرِّسِّ ثمودُ؛ لأنَّ الرَّسَّ البِئْرُ التي لم تُطْوَ ، عن أبي عبيد ، وثمودُ
أصحابُ آبار . وقيل : الرَّسُ نهرٌ بالمشرق ، ويقال : إنهم أناسٌ عبدةُ أصنامٍ
قَتَلوا نبيَّهم ، ورسَوْه في بئرٍ أي : دَسُّوه فيها .
قوله : { بَيْنَ ذَلِكَ } « ذلك » إشارةٌ إلى مَنْ تقدَّم ذكرُه ، وهم جماعاتٌ ،
فلذلك حَسُنَ « بين » عليه .
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
قوله : { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } : يجوزُ نصبُه بفعلٍ يفسِّره ما بعده أي : وحَذَّرْنا أو ذكَّرْنا ، لأنهما في معنى : ضَرَبْنا له الأمثالَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما تقدَّم ، و « ضَرَبْنا » بيانٌ لسببِ إهْلاكهم . وأمَّا « كلاً » الثانيةُ فمفعولٌ مقدمٌ .
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
قوله
: { مَطَرَ السوء } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ
أي : إمْطار السَّوْء . الثاني : أنه مفعولٌ ثانٍ؛ إذ المعنى : أعطيتُها وأَوْلَيْتُها
مطرَ السَّوْء . الثالث : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : إمطاراً مثلَ مطرِ السَّوْء
.
وقرأ : زيد بن علي « مُطِرَت » ثلاثياً مبنياً للمفعولِ و « مَطَرَ » متعدٍ قال :
3485 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَمَنْ بِوادِيْه بعد
المَحْلِ مَمْطورِ
وقرأ أبو السَّمَّال « مَطَرَ السُّوء » . بضم السين . وقد تقدَّم الكلامُ على
السُّوء والسَّوْء في براءة .
وقوله : { أَتَوْا عَلَى القرية } إنما عدى « أتى » ب « على » لأنه ضُمِّنَ معنى «
مَرَّ » .
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
قوله : { إِن يَتَّخِذُونَكَ } : « إنْ » نافيةٌ و « هُزُواً » مفعولٌ ثانٍ ، ويحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ : موضعَ هُزْء ، وأَنْ يكونَ مَهْزُوَّاً بك . وهذه الجملةُ المنفيةُ تحتمل وجهين ، أحدهما : أنها جوابُ الشرطية . واختصَّت « إذا » بأنَّ جوابها متى كان منفياً ب « ما » أو « إنْ » أو « لا » ، لا يَحْتاج إلى الفاءِ ، بخلافِ غيرِها مِنْ ِأدواتِ الشرط . فعلى هذا يكون قولُه : « أهذا الذي » في محلِّ نصبٍ بالقولِ المضمرِ . وذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : إنْ يَتَّخذونك قائلين ذلك . والثاني : أنَّها جملةٌ معترضةً بين « إذا » وجوابِها ، وجوابُها : هو ذلك القولُ المضمرُ المَحْكيُّ به « أهذا الذي » والتقديرُ : وإذا رَأَوْك قالوا : أهذا الذي بعثَ ، فاعترض بجملة النفي . ومفعولُ « بَعَثَ » محذوفٌ هو عائدٌ الموصولِ أي : بَعَثَه . و « رسولاً » على بابِه من كونِه صفةً فينتصبُ على الحالِ . وقيل هو مصدرٌ/ بمعنى رِسالة فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا رسولٍ ، بمعنى : ذا رسالة ، أو يُجْعَلُ نفسَ المصدرِ مبالغةً ، أو بمعنى مُرْسَل . وهو تكلُّف .
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
قوله
: { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } : قد تقدَّم نظيرُه في « سبحان » .
قوله : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا } جوابُها محذوفٌ أي : لضَلَلْنا عن آلهتِنا ، قال
الزمخشري : « ولولا في مثلِ هذا الكلامِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعةُ
مَجْرى التقييدِ للحكمِ المطلقِ » .
قوله : { مَنْ أَضَلُّ } جملةُ الاستفهامِ معلِّقةٌ ل « يَعْلمون » ، فهي سادَّةٌ
مَسَدَّ مفعولَيْها إنْ كانَتْ على بابِها ، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ بمعنى
عَرَفَ . ويجوزُ في « مَنْ » أَنْ تكنَ موصولةً . و « أَضَلُّ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ
، هو العائدُ على « مَنْ » تقديرُه : مَنْ هو أضلُّ . وإنما حُذِفَ للاستطالةِ
بالتمييزِ كقولِهم : « ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً » ، وهذا ظاهرٌ إن كانَتْ متعديةً
لواحد ، وإنْ كانَتْ متعديةً لاثنين فتحتاجُ إلى تقديرٍ ثانٍ ولا حاجةَ إليه .
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
قوله
: { مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } مفعولا الاتِّخاذِ مِنْ غيرِ تقديمٍ ولا تأخيرٍ
لاستوائِهما في التعريفِ ، وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ أَخَّر » هواه «
والأصلُ قولُك : اتَّخذ الهوى إلَهاً »؟ قلت : ما هو إلاَّ تقديمُ المفعولِ الثاني
على الأولِ للعنايةِ به ، كما تقولُ « عَلِمْتُ منطلقاً زيداً » لفضلِ عنايتِك
بالمنطَلقِ « . قال الشيخ : » وادِّعاءُ القلبِ يعني التقديمَ ليس بجيدٍ لأنَّه من
ضرائرِ الأشعارِ « . قلت : قد تقدَّم فيه ثلاثةُ مذاهبَ . على أنَّ هذا ليس من
القلبِ المذكورِ في شيء ، إنما هو تقديمٌ وتأخيرٌ فقط .
وقرأ ابن هرمز » إلاهَةً هواه « على وزن فِعالة . والإَهة بمعنى : المألوه ،
والهاءُ للمبالغةِ كعلاَّمَة ونسَّابة . وإلاهَةً مفعولٌ ثانٍ قُدِّم لكونِه نكرةً
، ولذلك صُرِفَ . وقيل : الإَهَةً هي الشمسُ . ورُدَّ هذا : بأنَّه كان ينبغي أن
يمتنعَ من الصرفِ للعلميةِ والتأنيث . وأُجيب بأنها تدخُل عليها أل كثيراً فلمَّا
نُزِعَتْ منها صارَتْ نكرةً جاريةً مجرى الأوصافِ . ويُقال : أُلاهَة بضمِّ
الهمزةِ أيضاً اسماً للشمس .
وقرأ بعضُ المدنيين » آلهةً هواه « جمع إلَه ، وهو أيضاً مفعولٌ مقدَّمٌ ، وجمُِع
باعتبارِ الأنواعِ ، فقد كان الرجلُ يعبُدُ آلهةً شَتى . ومفعولُ » أرأيتَ «
الأولِ » مَنْ « ، والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
قوله
: { كَيْفَ } : منصوبةٌ ب « مَدَّ » وهي مُعَلِّقَةٌ ل « تَر » فهي في موضعِ نصبٍ
وقد تقدَّم القولُ في « ألم تَرَ » .
قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا } قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : » ثم « في هذين الموضعين
كيف موقعُها؟ قلت : موقعُها لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثلاثةِ ، كأنَّ الثاني
أعظمُ من الأولِ ، والثالثَ أعظمُ منهما تشبيهاً؛ لتباعُدِ ما بينها في الفَضْلِ
بتباعُدِ ما بينها في الوقتِ » .
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قوله
: { لِّنُحْيِيَ بِهِ } : فيه وجهان أظهرُهما : أنَّه متعلقٌ بالإِنزالَ . والثاني
: وهو ضعيفٌ أنَّه متعلقٌ ب « طَهورٍ » . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : إنزالُ
الماءِ موصوفاً بالطهارة ، وتعليلُه بالإِحياءِ والسَّقْيِ يُؤْذِنُ بأنَّ
الطهارةَ شرطٌ في صحةِ ذلك كما تقول : » حَمَلني الأميرُ على فَرَس جوادٍ
لأَصِيْدَ عليه الوحشَ « ، قلت : لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِنْ جملة ما أُنْزِل
له الماءُ وُصِفَ بالطهارة إكراماً لهم وتَتْميماً للمِنَّةِ عليهم » .
و « طَهُور » يجوز أَنْ يكونَ صفةَ مبالغةٍ منقولاً من طاهر كقوله تعالى : {
شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ، وقال :
3486 إلى رُجَّح الأَكْفالِ غِيْدٍ من الصِّبا ... عِذابِ الثَّنايا رِيْقُهُنَّ
طَهُوْرُ
وأَنْ يكونَ اسمَ ما يُتَطَهَّرُ به كالسَّحُور ، وأَنْ يكونَ مصدراً كالقَبول
والوَلُوع . ووصفُ « بَلْدةً » ب « مَيْت » وهي صفةٌ للمذكورِ لأنها بمعنى البلد .
قوله : { وَنُسْقِيَهِ } العامَّةُ على ضمِّ النونِ . وقرأ أبو عمرو وعاصم في روايةٍ
عنهما وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بفتحها . وقد تقدم أنه قُرىء بذلك في النحل
والمؤمنين . وتقدم كلامُ الناسِ عليهما .
قوله : { مِمَّا خَلَقْنَآ } يجوز أن تَتَعلَّقَ ب « نُسْقيه » ، وهي لابتداء
الغاية . ويجوزُ أن تَتَعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِنْ « أنعاماً » .
ونُكِّرَتِ الأنعام والأناسيّ : قال الزمخشري : « لأنَّ عليَّةَ الناسِ وجُلَّهم
مُنيخون بالأودية والأنهارِ ، فبهم غُنْيَةٌ عن سقْي الماء ، وأعقابُهم وهم كثيرٌ
منهم لا يُعَيِّشهم إلاَّ ما يُنْزِلُ اللهُ مِنْ رحمتِه وسُقْيا سمائِه » .
قوله : { وَأَنَاسِيَّ } فيه وجهان ، أحدهما : وهو مذهبُ سيبويه أنَّه جمعُ إنسان
. والأصلُ : إنسان وأنَاسين ، فَأُبْدِلَتِ النونُ ياءً وأُدْغم فيها الياءُ
قبلَها ، ونحوَ ظِرْبانِ وظَرابِيّ . والثاني : وهو قولُ الفراء والمبرد والزجَّاج
أنه جمع إنْسِيّ . وفيه نظرٌ لأنَّ فَعالِيّ إنما يكونُ جمعاً لِما فيه ياءٌ
مشددةٌ لا تدلُّ على نَسَبٍ نحو : كُرْسِيّ وكَرَاسيّ . / فلو أُريد ب كرسيّ
النسبُ لم يَجُزْ جمعُه على كراسيّ . ويَبْعُدُ أَنْ يُقالَ : إن الياءَ في
إِنْسِي ليست للنسبِ وكان حقُّه أَنْ يُجْمَعَ على أَناسِية نحو : مَهالبة في
المُهَلَّبي وأَزارِقة في الأَزْرقي .
وقرأ يحيى بن الحارث الذِّماري والكسائي في رواية « وأناسِيَ » بتخفيف الياء . قال
الزمخشري : « بحذفِ ياءِ أفاعيل كقولك : أناعِم في أناعِيم » . وقال : « فإنْ قلت
لِمَ قَدَّمَ إحياءَ الأرضِ وسَقْيَ الأنعامِ على سَقْي الأناسي . قلت : لأن حياةَ
الأناسيِّ بحياةِ أرضِهم وحياةِ أنعامهم ، فقدَّم ما هو سببُ حياتِهم ، ولأنَّهم
إذا ظَفِروا بسُقيْا أرضِهم وسَقْيِ أنعامِهم لم يَعْدِموا سُقْياهم » .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } : يجوزُ أَنْ تعودَ الهاءُ على القرآن ، وأن تعودَ على الماءِ أي : صَرَّفنا نُزولَه مِنْ وابِل وَطلّ وجَوْد ورَذاذ وغيرِ ذلك . وقرأ عكرمة « صَرَفْناه » بتخفيف الراء .
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
قوله : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } : أي بالقرآن ، أو بتركِ الطاعةِ المدلولِ عليها بقولهِ { فَلاَ تُطِعِ } ، أو بما دَلَّ عليه { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } مِنْ كونِه نذيرَ كافةِ القُرى أو بالسيف .
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
قوله
: { مَرَجَ البحرين } : في مَرَجَ قولان ، أحدهما : بمعنى : خَلَطَ ومَرَجَ ، ومنه
مَرَجَ الأمرُ أي : اختلط قاله ابن عرفة . وقيل : مَرَجَ : أجرى . وأَمْرَجَ لغةٌ
فيه . قيل : مَرَجَ لغةُ الحجاز ، وأَمْرَجَ لغةُ نجدٍ . وفي كلامِ بعضِ الفصحاء :
« بَحْران أحدُهما بالآخرِ ممروجٌ ، وماءُ العذب منهما بالأُجاج ممروج » .
قوله : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها
لأنها مستأنفةٌ ، جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ . كأنَّ قائلاً قال : كيف مرْجُهما؟ فقيل :
هذا عَذْبٌ وهذا مِلْحٌ . ويجوز على ضَعْفٍ أن تكونَ حاليةً . والفُراتُ المبالِغُ
في الحلاوةِ . والتاءُ فيه أصليةٌ لامُ الكلمةُ . ووزنُه فُعال ، وبعضُ العربِ
يقفُ عليها هاءً . وهذا كما تقدَّم لنا في التابوت . ويُقال : سُمِّي الماءُ
الحُلْوُ فُراتاً؛ لأنه يَفْرُتُ العطشَ أي : يَشُقُّه ويَقْطَعُه . والأُجاج :
المبالِغُ في الملُوحة . وقيل : في الحرارةِ . وقيل : في المَرارة ، وهذا من أحسنِ
المقابلةِ ، وحيث قال تعالى عَذْبٌ فُراتٌ ومِلْحٌ أُجاجٌ . وأنشدْتُ لبعضهم :
3487 فلا واللهِ لا أَنْفَكُّ أَبْكي ... إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتا
أألحى إنْ نَزَحْتُ أُجاجَ عَيْني ... على جَدَثٍ حوى العَذْبَ الفُراتَا
ما أحسنَ ما كنى عن دَمْعِه بالأجاج ، وعن المبكيِّ عليه بالعذب الفُراتِ ، وكان سببَ
إنشادِي هذين البيتين أنَّ بعضَهم لحَّن قائلَهما في قولِه « عُراتا » : كيف
يَقِفُ على تاءِ التأنيث المنونة بالألفِ؟ فقلت : إنها لغةٌ مستفيضةٌ يَجْعلون
التاءَ كغيرِها فيُبْدلون تنوينَها بعد الفتحِ ألفاً . حَكَوْا عنهم . أكلْتُ
تَمْرَتا ، نحو : أكلْتُ زَيْتا .
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي « مَلِحٌ » بفتح الميم وكسرِ اللام ، وكذا في سورة
فاطر ، وهو مقصورٌ مِنْ مالح ، كقولهم : بَرِد في بارد قال :
3488 وصِلِّيانا بَرِدا ... وماء مالح لغةٌ شاذةٌ . وقال أبو حاتم : « وهذه قراءةٌ
مُنْكَرَةٌ » .
قوله : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } : الظاهرُ عطفُه على « بَرْزَخاً » . وقال
الزمخشري : « فإنْ قلتَ : حِجراً مَحْجُوراً ما معناه؟ قلت : هي الكلمةُ التي
يَقُولُها المتعوِّذُ ، وقد فَسَّرناها ، وهي هنا واقعةٌ على سبيلِ المجازِ .
كأنَّ كلَّ واحدٍ من البحرَيْن يقول لصاحبِه : حِجْراً مَحْجُوراً ، وهي من أحسنِ
الاستعاراتِ » ، فعلى ما قالَه يكونُ منصوباً بقولٍ مضمرٍ .
قوله : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } يجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ متعلِّقاً بالجَعْل ،
وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ « بَرْزَخاً » ، والأولُ أظهرُ .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
قوله : { مِنَ المآء } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بخَلَقَ ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ « ماء » و « مِنْ » للابتداء أو للتبعيض . والصِّهْرُ : قال الخليل : « لا يُقال لأهلِ بيتِ المرأةِ إلاَّ » أَصْهار « ، ولا لأهلِ بيتِ الرَّجل إلاَّ » أَخْتان « . قال : » ومن العربِ مَنْ يُطلق الأصهارَ على الجميع « . وهذا هو الغالب .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
قوله : { على رَبِّهِ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « ظَهيراً » وهو الظاهر ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه خبرُ « كان » و « ظهيراً » حالٌ . والظَّهير : المُعاوِن .
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : هو منقطعٌ أي : لكنْ مَنْ شاءَ أَنْ يتَّخِذَ إلى ربه سبيلاً فَلْيَفْعَلْ . والثاني : أنه متصلٌ على حَذْفِ مضافٍ يعني : إلاَّ أجرَ مَنْ ، أي : الأجر الحاصل على دعائِه إلى الإِيمانِ وقَبولِه؛ لأنَّه تعالى يَأْجُرُني على ذلك . كذا حكاه الشيخ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يُسْنِدِ السؤالَ المنفيَّ في الظاهر إلى اللهِ تعالى ، إنما أسندَه إلى المخاطبين . فكيف يَصِحُّ هذا التقديرُ؟
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
قوله
: { الذي خَلَقَ السماوات } : يجوزُ فيه على قراءةِ العامَّةِ في « الرحمنُ »
بالرفع أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأ و « الرحمنُ » خبره ، وأَنْ يكونَ خبرَ
مبتدأ مقدرٍ أي : هو الذي خَلَقَ ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ ، وأَنْ
يكونَ صفةً للحيِّ الذي لا يموت أو بدلاً/ أو بياناً . وأمَّا على قراءةِ زيدِ بن
علي « الرحمنِ » بالجرِّ فيتعيَّن أَنْ يكونَ « الذي خلق » صفةً للحيِّ فقط؛ لئلا
يُفْصَلَ بين النعتِ ومنعوتِه بأجنبيّ .
قوله : { الرحمن } مَنْ قرأ بالرفعِ ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه خبرُ « الذي خَلَق
» وقد تقدَّم . أو يكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو الرحمنُ ، أو يكونُ بدلاً من
الضمير في « استوى » أو يكونُ مبتدأ ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه { فَسْئَلْ بِهِ
} على رأيِ الأخفش . كقوله :
3489 وقائلةٍ خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
أو يكونُ صفةً للذي خلق ، إذا قلنا : إنه مرفوعٌ . وأمَّا على قراءةِ زيدٍ
فيتعيَّن أَْن يكونَ نعتاً .
قوله : « به » في الباء قولان : أحدهما : هي على بابِها ، وهي متعلقةٌ بالسؤالِ .
والمرادُ بالخبير اللهُ تعالى ، ويكونُ مِنَ التجريدِ ، كقولك : لقيت به أَسَداً .
والمعنى : فاسألِ اللهَ الخبيرَ بالأشياء . قال الزمخشري : « أو فاسْأَلْ بسؤالِه
خبيراً ، كقولك : رأيتُ به أسداً أي : برؤيتِه » انتهى . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ
صلةً « خبيراً » و « خبيراً » مفعول « اسْأَلْ » على هذا ، أو منصوبٌ على الحالِ
المؤكِّدة . واستضعفه أبو البقاء . قال « ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ خبيراً حالاً مِنْ
فاعل » اسألْ « لأنَّ الخبيرَ لا يُسْأل إلاَّ على جهةِ التوكيد كقوله : { وَهُوَ
الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ثم قال : » ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من « الرحمن
» إذا رَفَعْتَه ب استوى . والثاني : أن تكونَ الباءُ بمعنى « عن » : إمَّا مطلقاً
، وإمَّا مع السؤالِ خاصةً كهذه الآيةِ الكريمةِ وكقولِ الشاعر :
3490 فإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . والضميرُ في « عنه » للهِ تعالى و « خبيراً » من صفاتِ المَلَكِ وهو
جبريلُ عليه السلام . ويجوز على هذا أعني كونَ « خبيراً » من صفاتِ جبريل أَنْ
تكونَ الباءُ على بابِها ، وهي متعلقةٌ ب « خبيراً » كما تقدَّم أي : فاسْأَلِ
الخُبَراء به .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
قوله : { لِمَا تَأْمُرُنَا } : قرأ الأخَوان « يأْمُرُنا » بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم . والباقون بالخطاب يعني : لِما تأمرنا أنت يا محمد . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي . والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ « أَمَرَ » يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ . ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء : وهو أنَّ الأصلَ : لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له ، ثم بسجودِه ، ثم تَأْمُرُناه ، ثم تأْمُرُنا . كذا قَدَّره ، ثم قال : هذا على مذهبِ أبي الحسن ، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنْ غيرِ تَدْريج « . قلت : وهذا ليس مذهبَ سيبويه . ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً ، والكلامُ في عائِدها موصوفةً كهي موصولةً . ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً ، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي : أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْرِكَ ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً . أي : أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا . وعلى هذا لا تكونُ » ما « واقعةً على العالِم . وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك ، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ .
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
قوله
: { سِرَاجاً } : قرأ الجمهورُ بالإِفراد ، والمرادُ به الشمسُ ، ويؤيِّده ذِكْرُ
القمرِ بعدَه . والأخَوان « سُرُجاً » بضمتين جمعاً ، نحو حُمُر في حِمار .
وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات . وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه :
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد انتظامِهما في الملائكةِ . وقرأ
الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك ، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً . والحسن
والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و « قُمْراً » بضمةٍ وسكونٍ ، وهو جمع
قَمْراء كحُمْر في حَمْراء . والمعنى : وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا ، فحذف المضافُ ،
وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب « منيرا
» . ولو لم يَعْتَبِرْه لقال : منيرةً ، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان :
3491 يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ ... بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ
السَّلْسَلِ
الأصل : ماء بَرَدَى ، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ : « يُصَفِّقُ » بالياءِ مِنْ
تحتُ ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ « تُصَفِّقُ » بالتاء مِنْ فوقُ . على أنَّ بيتَ
حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه :
3492 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها
مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قوله
: { خِلْفَةً } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ ثانٍ . والثاني : أنه حالٌ
بحَسَبِ القَوْلَيْن في « جَعَل » . وخِلْفَة يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ خَلَفَه
يَخْلُفه ، إذا جاء مكانَه ، وأَنْ يكونَ اسمَ هيئةٍ كالرِّكْبَةِ ، وأَنْ يكونَ
من الاختلافِ كقولِه :
3493 ولها بالماطِرُوْنَ إذا ... أكلِ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفةً حتى إذا ارتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيعاً
في بيوتٍ وَسْطَ دَسْكَرةٍ ... حَوْلَها الزيتونُ قد يَنَعا
ومثلُه قول زهير :
3494 بها العِيْنُ والآرام يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
وأَفْرَدَ « خِلْفَةً » قال أبو البقاء : « لأنَّ المعنى : يَخْلُفُ/ أحدُهما
الآخرَ ، فلا يتحقَّق هذا إلاَّ منهما » انتهى .
والشُّكور : بالضم مصدرٌ بمعنى الشُكر ، وبالفتحِ صفةُ مبالغةٍ .
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
قوله
: { وَعِبَادُ الرحمن } : رفعٌ بالابتداءِ . وفي خبره وجهان ، أحدهما : الجملةُ
الأخيرةُ في آخرِ السورة : { أولئك يُجْزَوْنَ } [ الآية : 75 ] وبه بَدَأ
الزمخشريُّ . « والذين يَمْشُون » وما بعده صفاتٌ للمبتدأ . والثاني : أنَّ الخبرَ
« يَمْشُوْن » . العامَّةُ على « عباد » . واليماني « عُبَّاد » بضمِّ العين ،
وشدِّ الباءِ جمع عابد . والحسن « عُبُد » بضمتين .
والعامَّةُ « يَمْشُوْن » بالتخفيفِ مبنياً للفاعل . واليماني والسُلميُّ بالتشديد
مبنياً للمفعول .
قوله : { هَوْناً } : إمَّا نعتُ مصدرٍ أي : مَشْياً هَوْناً ، وإمَّا حالٌ أي :
هَيِّنِيْن . والهَوْن : اللِّيْنُ والرِّفْقُ .
قوله : { سَلاَماً } : يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : نُسَلِّم
سَلاماً ، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم ، فأُقيم السِّلام مُقامَ
التسليمِ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي : قالُوا هذا اللفظَ . قال
الزمخشري : أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى . والمرادُ
سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله :
3495 ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم
يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة ، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ ، ثم نُسِخَ
ذلك ، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ .
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
قوله : { سُجَّداً } : خبرُ « يَبِيْتُون » ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ تامةَ . أي : دَخَلوا في البَيات . و « سُجَّداً » حال . و « لربِّهم » متعلقٌ بسُجَّداً وقَدَّمَ السجودَ على القيام ، وإن كان بعدَه في الفعلِ لاتفاق الفواصل . وسُجَّداً جمعُ ساجِد كضُرِّب في ضارِب . وقرأ أبو البرهسم « سُجوداً » بزنة قُعُود . و « يَبِيْتُ » هي اللغةُ الفاشيةُ ، وأَزْدُ السَّراة وبُجَيْلَة يقولون : يَباتُ وهي لغةُ العوامِّ اليوم .
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
قوله
: { غَرَاماً } : أي : لازمِاً دائماً . وعن الحسن : كلُّ غَريمٍ يفارِقُ غَريمه
إلاَّ غريمَ جهنَّمَ . وأنشدُوا قولَ بشر بن أبي خازم :
3496 ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفا ... رِ كانا عَذاباً وكانا غَراما
وقال الأعشى :
3497 إن يُعاقِبْ يكُنْ غَراماً وإنْ يُع ... طِ جَزِيلاً فإنَّه لا يُبالي
ف « غراماً » بمعنى لازم .
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
قوله
: { سَآءَتْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى أَخْزَنَتْ فتكونَ متصرفةً ، ناصبةً
المفعولَ به ، وهو هنا محذوفٌ أي : إنها أي : جهنَم أَحْزَنَتْ أصحابَها وداخليها
. ومُسْتقراً : يجوزُ أن يكونَ تمييزاً ، وأَنْ يكونَ حالاً . ويجوز أَنْ تكونَ «
ساءَتْ » بمعنى بِئْسَتْ فتعطى حكمَها . ويكونُ المخصوصُ محذوفاً . وفي ساءَتْ
ضميرٌ مبهمٌ . و « مُسْتَقَراً » يتعيَّنُ أنْ يكونَ تمييزاً أي : ساءَتْ هي . ف «
هي » مخصوصٌ . وهو الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين ما وَقَعَتْ خبراً عنه ، وهو «
إنَّها » ، وكذا قَدَّره الشيخ . وقال أبو البقاء : « ومُسْتَقَرَّاً تمييزٌ .
وساءَتْ بمعنى بِئْسَ » . فإن قيلَ : يَلْزَمُ من هذا إشكالٌ ، وذلك أنه يَلْزَمُ
تأنيثُ فعلِ الفاعلِ المذكَّرِ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ لذلك ، فإنَّ الفاعلَ في «
ساءَتْ » على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعدَه ، وهو « مُسْتقراً ومُقاماً » ،
وهما مذكَّران فمِنْ أين جاء التأنيثُ؟ والجوابُ : أن المستقرَّ عبارةٌ عن جهنَّمَ
فلِذلك جاز تأنيثُ فِعْلِه . ومثلُه قولُه :
3498 أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَبْجاءُ مُجْفَرَةٌ ... دعائمُ الزَّوْرِ نعْمَتْ
زَوْرَقُ البلدِ
ومُسْتقراً ومُقاماً : قيل : مُترادفان ، وعُطِفَ أحدُهما على الآخر لاختلافِ
لَفْظَيْهما . وقيل : بل هما مختلفا المعنى ، فالمستقرُّ : للعُصاةِ فإنهم
يَخْرُجون . والمُقام : للكفَّارِ فإنَّهم يَخْلُدون .
وقرأت فرقةُ « مَقاماً » بفتح الميم أي : مكانَ قيامِ . وقراءةُ العامَّةِ هي المطابِقَةُ
للمعنى أي : مكانَ إقامةٍ وثُوِيّ وقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً }
يُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ كلامِهم ، فتكونَ منصوبةً المحلِّ بالقول ، وأَنْ تكونَ
مِنْ كلامِ اللهَ تعالى .
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
قوله
: { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } : قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو
عمرٍو بالفتحِ والكسرِ . ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ أَقْتَرَ . وعليه {
وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] . وأنكر أبو حاتم/ « أقتر » وقال : «
لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } .
ورُدَّ عليه : بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق .
وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في
قَتَّر بمعنى ضَيَّق .
قوله : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } في اسم كان وجهان ، أشهرهما : أنه
ضميرٌ يعودُ على الإِنفاقِ المفهومِ مِنْ قوله : » أَنْفَقُوا « أي : وكان
إنفاقُهم مُسْتوياً قَصْداً لا إسرافاً ولا تَقْتيراً . وفي خبرِها وجهان .
أحدُهما : هو قَواماً و » بينَ ذلك « : إمَّا معمولٌ له ، وإمَّا ل » كان « عند
مَنْ يرى إعمالَها في الظرف ، وإمَّا لمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ » قَواما « .
ويجوزُ أَنْ يكونَ » بين ذلك قواماً « خبرَيْن ل » كان « عند مَنْ يرى ذلك ، وهم
الجمهور خلافاً لابن دُرُسْتَوَيْه . الثاني : أن الخبرَ » بين ذلك « و » قَواماً
« حالٌ مؤكدةٌ .
والثاني : من الوجهين الأَوَّلين : أَنْ يكونَ اسمُها » بين ذلك « وبُني لإضافتِه
إلى غيرِ متمكِّنٍ ، و » قواماً « خبرُها . قاله الفراء . قال الزمخشري : » وهو من
جهةِ الإِعرابِ لا بأسَ به ، ولكنه من جهةِ المعنى ليس بقويٍ ، لأنَّ ما بينَ
الإِسْرافِ والتَّقْتيرِ قَوامٌ لا مَحالةَ ، فليس في الخبر الذي هو معتمدُ
الفائدةِ فائدةٌ « . قلت : هو يُشْبِهُ قولَك » كان سيدُ الجارية مالكَها « .
وقرأ حسان بن عبد الرحمن » قِواما « بالكسرِ فقيل : هما بمعنىً . وقيل : بالكسرِ
اسمُ ما يُقام به الشيءُ . وقيل : بمعنى سَداداً ومِلاكاً .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
قوله
: { إِلاَّ بالحق } : يَجُوزُ أَنْ تتعلَّقَ الباءُ بنفسِ « يَقْتُلون » أي : لا
يَقْتُلونها بسببٍ من الأسبابِ إلاَّ بسببِ الحق ، وأَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على
أنها صفةٌ للمصدرِ أي : قَتْلاً ملتبساً بالحقِّ ، أو على أنها حالٌ أي : إلاَّ
مُلْتَبِسين بالحقِّ .
قوله : « ذلك » إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم لأنه بمعنى : ما ذُكِر ، فلذلك وُحِّدَ
. والعامَّةُ على « يَلْقَ » مجزوماً على جزاءِ الشرط بحذفِ الألِف . وعبد الله
وأبو رجاء « يلقى » بإثباتها كقوله : { فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] على أحدِ
القولين ، وكقراءةِ : { لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] في أحدِ
القولين أيضاً ، وذلك بأَنْ نُقَدِّرَ علامةَ الجزمِ حَذْفَ الضمة المقدِرة .
وقرأ بعضُهم « يُلَقَّ » بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف مِنْ لَقَّاه
كذا . والأَثام مفعولٌ على قراءةِ الجمهورِ ، ومفعولٌ ثانٍ على قراءةِ هؤلاء .
والأَثام : العقوبةُ . قال الشاعر :
3499 جزى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيث أمسى ... عَقوقاً والعُقوقُ له أَثامُ
أي : عقوبةٌ . وقيل : هو الإِثمُ نفسُه . والمعنى : يَلْقَ جزاءَ إثمِ ، فأطلقَ
اسمَ الشيءِ على جزائِه . وقال الحسن : « الأَثامُ اسمٌ مِنْ أسماءِ جهنَّم . وقيل
: بئرٌ فيها . وقيل : وادٍ . وعبد الله » أيَّاماً « جمعُ » يوم « يعنى شدائدَ ،
والعرب تُعَبِّر عن ذلك بالأيام .
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
قوله
: { يُضَاعَفْ } : قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع « يُضاعَفُ » و « يَخْلُدُ » على
أحدِ وجهين : إمَّا الحالِ ، وإمَّا على الاستئنافِ . والباقون بالجزمِ فيها ،
بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال . ومثلُه قولُه :
3500 متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً
تَأَجَّجا
فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ . وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما
تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين ، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ
عامرٍ مع ابنِ كثير ، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم .
وقرأ أبو جعفر وشيبة « نُضَعِّفْ » بالنون مضمومة وتشديدِ العين ، « العذابَ »
نصباً على المفعول به . وطلحة « يُضاعِف » مبنياً للفاعل أي اللَّهُ ، « العذابَ »
نصباً . وطلحة بن سليمان و « تَخْلُدْ » بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ . وأبو حيوةَ
« وُيخَلِّد » مشدداً مبنياً للمفعولِ . ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك ، إلاَّ أنه
بالتخفيف .
قوله : { مُهَاناً } حالٌ . وهو اسمُ مفعولٍ . مِنْ أَهانه يُهِيْنُه أي : أذلَّه
وأَذاقه الهوان .
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
قوله
: { إِلاَّ مَن تَابَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الذي لم يَعْرف الناسُ غيرَه
أنَّه استثناءٌ متصلٌ لأنَّه من الجنسِ . الثاني : أنه منقطع . قال الشيخ : « ولا
يَظْهَرْ يعني الاتصال لأنَّ المستثنى منه مَحْكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له
العذابُ ، فيصيرُ التقديرُ : إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحاً فلا يُضاعَفُ
له . ولا يَلزَمُ من انتفاءِ التضعيفِ انتفاءُ العذابِ غيرِ المضعَّفِ ، فالأولى
عندي أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً أي : لكن مَنْ/ تابَ وآمنَ وعَمِل عملاً صالحاً
فأولئك يُبَدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ . وإذا كان كذلك فلا يَلْقَى عذاباً البتةَ
» . قلت : والظاهرُ قولُ الجمهورِ . وأمَّا ما قاله فلا يَلْزَمُ؛ إذ المقصودُ
الإِخبارُ بأنَّ مَنْ فعل كذا فإنه يَحُلُّ به ما ذَكَرَ ، إلاَّ أَنْ يتوبَ .
وأمَّا إصابةُ أصلِ العذابِ وعدمُها فلا تَعرُّضَ في الآية له .
قوله : { سَيِّئَاتِهِمْ } هو المفعولُ الثاني للتبديلِ ، وهو المقيَّدُ بحرفِ
الجر ، وإنما حُذِفَ لفهم المعنى وحَسَنات هو الأولُ المُسَرَّح وهو المأخوذُ ،
والمجرورُ بالباءِ هو المتروكُ . وقد صَرَّح بهذا في قولِه تعالى : {
بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] . وقال الراجز :
3501 تَضْحَكُ منِّي أختُ ذاتِ النِّحْيَيْنْ ... أَبْدلكِ اللهُ بلونٍ لَوْنَيْنْ
سوادَ وجهٍ وبياضَ عَيْنَيْنُ ... وقد تقدم تحقيقُ هذا في البقرةِ عند قولِه : {
وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
قوله
: { الزُّورَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به أي : لا يَحْضُرون الزُّوْرَ
. وفُسِّر بالصنمِ واللهوِ . الثاني : أنه مصدرٌ ، والمرادُ شهادةُ الزُّوْرِ .
قوله : { بِاللَّغْوِ } أي بأهِله .
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً } : النفيُ مُتَسَلِّطٌ على القيدِ ، وهو الصَّمَمُ والعمى أي : إنهم يَخِرُّون عليها ، لكنْ لا على هاتين الصفتين . وفيه تعريضٌ بالمنافقين .
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
قوله
: { مِنْ أَزْوَاجِنَا } : يجوزُ أَنْ تكونَ « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وأنْ
تكونَ للبيانِ . قاله الزمخشري ، وجعله من التجريدِ ، أي : هَبْ لنا قُرّةَ
أَعْيُنٍ من أزواجِنا كقولِك : « رأيت منك أسداً » وقرأ أبو عمرٍو والأخَوان وأبو
بكر « ذُرِّيَّتِنا » بالتوحيدِ ، والباقون بالجمعِ سلامةً . وقرأ أبو هريرة وأبو
الدرداء وابن مسعود « قُرَّاتِ » بالجمعِ . وقال الزمخشري : « أتى هنا ب » أَعْيُن
« صيغةِ القلةِ ، دون » عيون « صيغةٍ الكثرة ، إيذاناً بأنَّ عيونَ المتقين قليلةٌ
بالنسبةِ إلى عُيون غيرهم » . ورَدَّه الشيخُ بأنَّ أَعْيُناً يُطْلَقُ على العشرة
فما دونَها ، وعيونَ المتقين كثيرةٌ فوق العَشرة « ، وهذا تَحَمُّل عليه؛ لأنه إنما
أراد القلةَ بالنسبة إلى كثرةِ غيرِهم ، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً .
قوله : { إِمَاماً } فيه وجهان ، أَحدُهما : أنَّه مفردٌ ، وجاء به مفرداً إرادةً
للجنس ، وحَسَّنَه كونُه رأسَ فاصلةٍ . أو المراد : اجعَلْ كلَّ واحدٍ منا إماماً
، وإمَّا لاتِّحادِهم واتفاقِ كلمتِهم ، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ كصِيام
وقِيام . والثاني : أنه جمعُ آمّ كحالٍّ وحِلال ، أو جمعُ إِمامة كقِلادة وقِلاد .
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
قوله
: { الغرفة } : مفعولٌ ثانٍ ل « يُجْزَوْن » . والغُرْفَةُ ما ارتفعَ من البناءِ ،
والجمعُ غُرَفٌ .
قوله : { بِمَا صَبَرُواْ } أي : « بصَبْرِهم » أي : بسببِه أو بسببِ الذي صبروه .
والأصلُ : صبروا عليه ، ثم حُذِفَ بالتدريج . والباءُ للسببية كما تقدَّم . وقيل :
للبدلِ كقوله :
3502 فليت لي بهُم قَوْماً . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
البيت . ولا حاجةَ إلى ذلك .
قوله : { وَيُلَقَّوْنَ } قرأ الأَخَوان وأبو بكر بفتح الياء ، وسكونِ اللام ،
مِنْ لَقِيَ يلقى . الباقون بضمِّها وفتحِها وتشديدِ القافِ على بنائِه للمفعول .
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قوله
: { لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } : جوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم . أي : لولا
دعاؤُكم ما عَنَى بكم ولا اكترَثَ . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً . وهو
الظاهرُ . وقيل : استفهاميةٌ بمعنى النفي ، ولا حاجةَ إلى التجوُّزِ في شيءٍ
يَصِحُّ أَنْ يكونَ حقيقةً بنفسه . و « دعاؤُكم » : يجوز أن يكونَ مضافَاً للفاعلِ
أي : لولا تَضَرُّعُكم إليه . ويجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي : لولا دعاؤُه
إيَّاكم إلى الهدى . ويقال : ما عَبَأْتُ بك أي : ما اهتَمَمْتُ ولا اكتَرَثْتُ .
ويقال : عَبَأْتُ الجيشَ وعَبَّأته أي : هَيَّأْتُه وأَعْدَدْتُه ، والعِبْء :
الثِّقَلُ .
قوله : { لِزَاماً } خبرُ « يكون » واسمُها مضمرٌ أي : يكون العذابُ ذا لِزام .
واللِّزام : بالكسرِ مصدرٌ كقوله :
3503 فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ ... فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما
وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال « لَزاماً » بفتح اللامِ . وهو مصدرٌ
أيضاً نحو : البَيات . وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً « لَزامِ » بكسر الميم كأنه
جَعَله مصدراً معدولاً نحو : « بَدادِ » فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن
اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال :
3504 إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا ... فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ
فَجارِ
طسم (1)
قوله : { طسم } : أظهر حمزةُ نونَ « سين » قبل الميمِ كأنه ناوِي الوقفِ/ وإلاَّ فإدغامُ مثلِه واجبٌ . والباقون يُدغمون . وقد تقدَّم إعرابُ الحروفِ المقطعة . وفي مصحفِ عبد الله ط . س . م . مقطوعةً من بعضها . قيل : وهي قراءةُ أبي جعفر ، يَعْنُون أنه يقف على كلِّ حرفٍ وَقْفَةً يميز بها كلَّ حرفٍ ، وإلاَّ لم يُتَصَوَّرْ أَنْ يُلْفَظُ بها على صورتِها في هذا الرسمِ . وقرأ عيسى وتروى عن نافع بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء . وأمال الطاءَ الأخَوان وأبو بكر . وقد تقدَّم ذلك .
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
قوله
: { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ } : العامَّةُ على نونِ العظمةِ فيهما . ورُوِي عن أبي
عمرٍو بالياء فيهما أي : إنْ يَشَأْ اللهُ يُنَزَّلْ . و « إنْ » أصلُها أَنْ
تدخلَ على المشكوكِ أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُه ، والآيةُ من هذا الثاني .
قوله : { فَظَلَّتْ } عطفٌ على « نُنَزِّلْ » فهو في محلِّ جزمٍ . ويجوز أن يكونَ
مستأنفاً غيرَ معطوفٍ على الجزاءِ . ويؤيِّد الأولَ قراءةُ طلحة « فَتَظْلِلْ »
بالمضارعِ مفكوكاً .
قوله : { خَاضِعِينَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ عن « أعناقُهم » .
واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ . وأُجيب عنه بأوجهٍ ،
أحدُها : أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ ، كما قِيل : لهم وجوهٌ وصدورٌ قال :
3505 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في مَجْمَعٍ
مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ
الثاني : أنه على حذفِ مضافٍ أي : فظلَّ أصحابُ الأعناقِ ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ
على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ . وقد تقدَّم ذلك
قريباً عند قراءةِ { وَقُمْراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] . الثالث : أنه
لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ
لمؤنث في قولِه :
3506 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقَتْ
صَدْرُ القناةِ من الدمِ
الرابع : أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس ، وهم الجماعةُ ، فليس المرادُ
الجارحةَ البتة . ومن قولُه :
3507 أنَّ العراقَ وأهلَه ... عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
قلت : وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ . إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ
على جماعةِ الناسِ مطلقاً ، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم . الخامس : قال الزمخشري : «
أصلُ الكلامِ : فظلًُّوا لها خاضعين ، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع ،
وتُرِكَ الكلامُ على أصله ، كقولهم : ذهبَتْ أهلُ اليمامة ، فكأن الأهلَ غيرُ
مذكور » . قلت : وفي التنظير بقولِه : ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ « نظرٌ؛ لأنَّ » أهل «
ليس مقحماً البتة؛ لأنه المقصودُ بالحكم وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ .
السادس : أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ
العقلاءِ كقوله { ساجِدِين } و { طائِعِين } في يوسف والسجدة .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في » أعناقُهم « قاله الكسائي ،
وضَعَّفه أبو البقاء قال : » لأنِّ « خاضعين » يكون جارياً على غيرِ فاعلِ «
ظَلَّتْ » فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل ، فكان يجبُ أَنْ يكونَ « خاضعين
هم » . قلت : ولم يَجْرِ « خاضعين » في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له ، وهو
الضمير في « أعناقُهم » ، والمسألة التي قالها : هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير
مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى ، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان
كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ
في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به ، ولو ضَعَّفه
بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ . على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ
جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [
الحجر : 47 ] .
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } : جملةٌ حاليةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا وما قبلَه في أول الأنبياء .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
قوله
: { كَمْ أَنبَتْنَا } : « كم : للتكثيرِ فهي خبريةٌ ، وهي منصوبةٌ بما بعدَها على
المفعولِ به أي : كثيراً من الأزواج أنْبتنا . و { مِن كُلِّ زَوْجٍ } تمييزٌ .
وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً ولا معنى له .
قال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : ما معنى الجمعِ بين كم وكل؟ ولو قيل : أنبتنا فيها
مِنْ كل زوج؟ قلت : قد دَلَّ « كل » على الإِحاطةِ بأزواجِ النباتِ على سبيلِ
التفصيلِ ، و « كم » على أن هذا المحيطَ متكاثرٌ مُفْرِطٌ « .
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قوله
: { وَإِذْ نادى } : العامُ فيه مضمرٌ . فقدَّره الزجَّاج : اتلُ ، وغيرُه : اذكر
.
قوله : { أَنِ ائت } يجوزُ أن تكونَ مفسِّرةً ، وأن تكونَ مصدريةً أي بأن .
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قوله
: { قَوْمَ فِرْعَوْنَ } : بدلٌ أو عطفُ بيانٍ للقومِ الظالمين . وقال أبو البقاء
: « إنه مفعولٌ » تَتَّقون « على قراءةِ مَنْ قرأ » تتقون « بالخطاب وفتح النون
كما سيأتي . ويجوز على هذه القراءةِ أن يكونَ منادى » .
قوله : { أَلا يَتَّقُونَ } العامَّةُ على الياء في « يتَّقون » وفتحِ النون ،
والمرادُ قومُ فرعونَ . والمفعولُ محذوفٌ أي : يتقون عقابَ . قرأ عبد الله بن مسلم
ابن يسار وحماد وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق على الالتفات ، خاطبهم بذلك توبيخاً ،
والتقدير : يا قومَ فرعونَ/ وقرأ بعضُهم « يتقونِ » بالياءِ مِنْ تحتُ وكسرِ
النونِ . وفيها تخريجان ، أحدهما : أنَّ يتَّقونِ « مضارعٌ ، ومفعولُه ياءُ
المتكلم ، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ . الثاني : جَوَّزَه الزمخشري أن تكونَ » يا «
للنداء . و » اتقون « فعلُ أمرٍ كقوله : » ألا يا اسْجدوا « أي يا قومِ اتقونِ .
أو ياناسُ اتقونِ . وسيأتي تحقيقُ مثلِ هذا في النمل . وهذا تخريجٌ بعيد .
وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ .
وجَّوزَ الزمخشري أن تكونَ حالاً من الضمير في الظالمين أي : يَظْلِمون غيرَ متقين
اللهَ وعقابَه . فأُدْخلت همزةُ الإِنكارِ على الحالِ . وخطَّأه الشيخ من وجهين ،
أحدهما : أنه يلزَمُ منه الفصلُ بين الحالِ وعامِلها بأجنبيّ منهم ، فإنه أعربَ »
قومَ فرعون « عطفَ بيانٍ للقوم الظالمين . والثاني : أنه على تقديرِ تسليمِ ذلك لا
يجوزُ أيَضاً؛ لأنَّ ما بعد الهمزةِ لا يعمل فيه ما قبلها . قال : » وقولك : جئت
أمسرعاً « إن جعلت » مسرعاً « معمولاً ل جئت لم يَجُزْ فإنْ أضمرْتَ عاملاً جاز .
والظاهرُ أن » ألا « للعرض . وقال الزمخشري : » إنها لا النافيةُ دخلت عليها همزةُ
الإِنكار « . وقيل : هي للتنبيهِ .
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
قوله : { أَن يُكَذِّبُونِ } : مفعولُ « أخافُ » أي : « أخاف تكذيبهم إيَّاي » .
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
قوله
: { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ } : الجمهورُ على الرفع . وفيه وجهان ،
أحدُهما : أنه مستأنفٌ ، أخبر بذلك . والثاني : أنه معطوفٌ على خبر « إنَّ » .
وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى والأعمش بالنصب فيهما . والأعرج بنصبِ الأولِ ورفعِ
الثاني : فالنصبُ عطفٌ على صلة « أنْ » فتكونُ الأفعالُ الثلاثة : يُكَذِّبُونِ ،
ويَضيقُ ، ولا يَنْطَلِقُ ، داخلةً في حَيِّز الخوف . قال الزمخشري : « والفرقُ
بينهما أي الرفع والنصب أن الرفعَ فيه يُفيد أن فيه ثلاثَ عللٍ : خوفَ التكذيبِ ،
وضيقِ الصدر ، وامتناعَ انطلاقِ اللسانِ . والنصبُ : على أنَّ خَوْفَه متعلقٌ بهذه
الثلاثة . فإنْ قلتَ : في النصبِ تعليقُ الخوفِ بالأمور الثلاثةِ . وفي جُملتها
نفيُ انطلاقِ اللسانِ ، وحقيقةُ الخوف إنماهي غَمٌّ يَلْحَقُ الإِنسانَ لأمرٍ
سيقعُ ، وذلك كان واقعاً ، فكيف جازَ تعليقُ الخوفِ به؟ قلت : قد عَلَّقَ الخوفَ بتكذيبهم
، وبما يَحْصُل له [ بسببِه ] من ضيقِ الصدرِ ، والحَبْسَةُ في اللسانِ زائدةٌ على
ما كان به . على أن تلك الحَبْسَةَ التي كانَتْ به زالَتْ بدعوتِه . وقيل :
بَقيَتْ منها بقيةٌ يسيرةٌ . فإنْ قلت : اعتذارُك هذا يَرُدُّه الرفعُ؛ لأن المعنى
: إني خائفٌ ضَيِّقُ الصدرِ غيرُ منطلقِ اللسانِ . قلت : يجوز أن يكونَ هذا قبلَ
الدعوةِ واستجابتِها . ويجوز أَنْ يريدَ القَدْرَ اليسيرَ الذي بقي » .
قوله : { فَأَرْسِلْ } أي : فأَرْسِلْ جبريلَ أو المَلَكَ ، فحذف المفعولَ به .
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
قوله : { فاذهبا } : عطفٌ على ما دَلَّ عليه حرفُ الرَّدْعِ من الفعل . كأنه قيل : ارتدِعْ تظنُّ فاذهَبْ أنت وأخوكَ .
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
قوله
: { إِنَّا رَسُولُ } : إنما أَفْرد رسولاً : إمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى رسالة ،
والمصدرُ يُوَحَّد . ومن مجيءِ « رسول » بمعنى رسالة قوله :
3508 لقد كَذَبَ الواشُون ما فُهْتُ عندهمْ ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برسولِ
أي : برسالة ، وإمَّا لأنهما ذوا شريعةٍ واحدة فنُزِّلا منزلةَ رسول ، وإمَّا
لأنَّ المعنى : أنَّ كلَّ واحدٍ منا رسولٌ ، وإمَّا لأنه مِنْ وَضْعِ الواحدِ
موضعَ التثينةِ لتلازُمِهما ، فصارا كالشيئين المتلازِمَيْن كالعينين واليدين ،
وحيث لم يقصِدْ هذه المعانيَ طابَقَ في قولِه : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه
: 47 ] .
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
قوله : { أَنْ أَرْسِلْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً ل « رسول » إذ قيل : بأنَّه بمعنى الرسالة ، شرحا الرسالة بهذا ، وبَيَّناها به . ويجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي : رسولٌ بكذا .
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
قوله
: { وَلِيداً } : حال من مفعول « نُرَبِّكَ » وهو فَعيل بمعنى مَفْعول . والوليد :
الغلامُ تسميةً له بما كان عليه .
قوله : { مِنْ عُمُرِكَ } حال من « سنين » . وقرأ أبو عمرٍو في روايةٍ بسكونِ
الميم تخفيفاً ل فُعُل .
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
وقرأ « فِعْلتَك » بالكسرِ على الهيئة : الشعبيُّ لأنها نوع من القَتْلِ وهي الوَكْزَةُ . و { أَنتَ مِنَ الكافرين } يجوز أن تكونَ حالاً ، وأَن تكونَ مستأنفةً .
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
قوله
: { إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } : إذن هنا حرفُ جوابٍ فقط . وقال الزمخشري : «
إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً » قال : « فإنْ قلتَ : إذَنْ حرفُ جوابٍ وجزاءٍ معاً ،
والكلامُ وقع جواباً لفرعون فكيف وقع جزاءً؟ قلت : قولُ فرعون » وفَعَلْتَ فعْلتَك
« فيه معنى : أنك جازَيْتَ نعمتي بما فعلْتَ . فقال له موسى : نعم : فعلتُها
مُجازياً لك تسليماً لقولِه ، كأنَّ نعمتَه كانت عنده جديرةً بأَنْ تجازى/ بنحوِ
ذلك الجزاءِ » .
قال الشيخ : « وهذا مذهبُ سيبويهِ يعني أنها للجزاءِ والجوابِ معاً . قال : ولكنَّ
شُرَّاح الكتابِ فهموا أنَّه قد تتخلَّفُ عن الجزاءِ ، والجوابُ معنىً لازمٌ لها »
.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
قوله : { لَمَّا خِفْتُكُمْ } : العامَّة على تشديدِ الميم وهي « لَمَّا » التي هي حرف وجوبٍ عند سيبويهِ أو بمعنى حين عند الفارسي . وروي عن حمزةَ بكسرِ اللام وتخفيف الميم أي : لتخَوُّفي منكم . و « ما » مصدريةٌ . وهذه القراءةُ تُشْبِهُ قراءتَه في آل عمران : « لِما آتَيْتُكم » وقد تقدَّمَتْ مستوفاةً . وقرأ عيسى « حُكُماً » بضمِّ الكاف إتباعاً .
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
قوله
: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } : فيه وجهان أحدُهما : أنه خبرٌ على سبيلِ التهكُّمِ أي :
إن كانَ ثَمَّ نعمةُ فليسَتْ إلاَّ أنَّك جَعَلْتَ قومي عبيداً لك . وقيل : حرفُ
الاستفهام محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : أو تلك وهذا مذهب الأخفش ، وجَعَلَ مِنْ ذلك
قولَ الشاعر :
3509 أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم هذا مشبعاً في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن
سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ الآية : 79 ] وفي غيرِه .
قوله : { أَنْ عَبَّدتَّ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان ل «
تلك » ، كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ
مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه .
والثالثَ : أنها بدلٌ من « نعمةٌ » . الرابع : أنها بدلٌ من « ها » في « تَمُنُّها
» . الخامس : أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي : بأَن عَبَّدْت . السادس : أنها خبرُ
مبتدأ مضمرٍ أي : هي . السابعُ : أنها منصوبةٌ بإضمار أعني . والجملة مِنْ «
تَمُنُّها » صفةٌ لنعمة . و « تُمُنُّ » يتعدَّى بالباء فقيل : هي محذوفةٌ أي :
تمُنُّ بها ، وقيل : ضَمَّنَ « تَمُنُّ » معنى تَذْكُرُ .
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
قوله : { وَمَا رَبُّ العالمين } : إنما أتى ب « ما » دون « مَنْ »؛ لأنها يُسْأل بها عن طلبِ الماهيةِ كقولك : ما العنقاء؟ ولَمَّا كان جوابُ هذا السؤالِ لا يمكنُ عَدْلُ موسى عليه الصلاة والسلام إلى جوابٍ ممكنٍ ، فأجاب بصفاتِه تعالى ، وخَصَّ تلك الصفاتِ لأنه لا يشارِكُه تعالى فيها أحدٌ . وفيه إبطالٌ لدعواه أنه إلَهٌ . وقيل : جَهِلَ السؤالَ ، فأتى ب « ما » دون « مَنْ » وليس بشيءٍ . وقيل : إنما سأَلَ عن الصفاتِ . ذكره أبو البقاء . وليس بشيءٍ؛ لأنَّ أهلَ البيانِ نَصُّوا على أنها يُطْلَبُ بها الماهياتِ وقد جاء ب « مَنْ » في قوله : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] .
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قوله
: { وَمَا بَيْنَهُمَآ } : عادَ ضميرُ التثنيةِ على جمعَيْن : اعتباراً بالجنسَيْن
كما فَعَلَ ذلك في الظاهر في قول الشاعرِ :
3510 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين رِماحَيْ مالِكٍ
ونَهْشَلِ
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
قوله : { لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } : إنما عَدَل عن لأَسْجُنَنَّك وهو أَخَصُّ منه؛ لأنَّ فيه مبالغةً ليسَتْ في ذاك ، أو معناه : لأَجْعَلَنَّك مِمَّنْ عَرَفْتَ حالَه في سُجوني .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ } : هذه واوُ الحالِ . وقال الحوفي : « للعطف » . وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } [ الآية : 170 ] في البقرة . وغالبُ الجملِ هنا تقدَّم إعرابُها .
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
قوله : { حَوْلَهُ } : حالٌ من « الملأ » . ومفعولُ القولِ قولُه : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } ، وقيل : صلةٌ للملأ فإنه بمعنى الذي . وقيل : الموصولُ محذوفُ ، وهما قولان للكوفين .
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
قوله : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } : يجوزُ أن يكون قَسَماً ، وجوابُه : { إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } . ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : نَغْلِبُ بسببِ عزَّتِه ، يَدُلُّ عليه ما بعدَه ، ولا يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب « الغالبون » ، لأنَّ ما في حَيِّز « إنَّ » لا يتقدم عليها .
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
قوله
: { فَأُلْقِيَ } : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : فاعلُ الإِلقاءِ ما هو لو صُرِّح
به؟ قلت : هو اللهُ عزَّ وجل » ، ثم قال : « ولك أَن لا تقدِّرَ فاعلاً؛ لأنَّ »
أُلْقُوا « بمعنى خَرُّوا وسقطوا » . قال الشيخ : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لا يبنى
الفعلُ للمفعولِ إلاَّ وله فاعلٌ ينوبُ المفعولُ به عنه . أما أنه لا يُقَدَّر له
فاعلٌ فقولُ ذاهِبٌ عن الصوابِ » .
قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } قد تقدَّم خلافُهم فيها . وقال ابن عطية هنا : «
وقرأ البزي وابن فليح عن ابن كثير بشدِّ التاءِ وفتح اللام وشدِّ القاف . ويلزم
على هذه القراءةِ إذا ابتدَأَ أن يحذف همزةَ الوصلِ ، وهمزةُ الوصلِ لا تدخلُ على
الأفعالِ المضارعةِ كما لا تدخُل على أسماءِ الفاعلين » ، قالا لشيخ : « كأنه
يُخَيِّل إليه أنه لا يمكن الابتداءُ بالكلمةِ إلاَّ باجتلابِ همزةِ الوصلِ ، وهذا
ليس بلازم ، كثيراً ما يكون الوصلُ مخالفاً للوقفِ ، والوقفُ مخالفاً للوصل ،
ومَنْ له تَمَرُّنٌ في القراءات/ ، عَرَفَ ذلك » . قلت : يريد قولَه : { فَإِذَا
هِيَ تَلْقَفُ } فإن البزيَّ يُشَدِّد التاء ، إذ الأصل : تَتَلَّقَّفُ بتاءَيْن
فَأَدْغم ، فإذا وَقَفَ على « هي » وابتدأ تَتَلَقَّفَ فحقُّه أَنْ يَفُكَّ ولا
يُدْغِمَ؛ لئلا يُبتدأَ بساكنٍ وهو غيرُ مُمْكِنٍ ، وقولُ ابن عطية : « ويَلْزمُ
على هذه القراءةِ » إلى آخره تضعيفٌ للقراءةِ لِما ذكره هو : مِنْ أنَّ همزةَ
الوصلِ لا تَدْخُل على الفعلِ المضارعِ ، ولا يمكن الابتداءُ بساكنٍ ، فمِنْ ثَمَّ
ضَعُفَتْ . وجوابُ الشيخ بمَنْعِ الملازَمَةِ حَسَنٌ ، إلاَّ أنه كان ينبغي أن
يُبْدِلَ لفظةَ الوقفِ بالابتداء؛ لأنه هو الذي وقع الكلامُ فيه ، أعني الابتداءَ
بكلمة « تَّلَقَّفُ » .
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قوله
: { أَن كُنَّآ } : قرأ العامَّة بفتح « أَنْ » أي : لأَنْ كُنَّا مبدأ القول
بالإِيمان . وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسرِ الهمزةِ . وفيه وجهان ، أحدُهما :
أنَّها شرطيةٌ ، والجوابُ محذوفٌ لفهمِ المعنى أو متقدمٌ عند مَنْ يُجِيزه .
والثاني : أنها المخففةُ من الثقيلة واسْتُغْني عن اللامِ الفارقةِ لإِرشادِ
المعنى : إلى الثبوت دونَ النفي ، كقوله :
3511 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإنْ مالِكٌ كانَتْ
كرامَ المعادنِ
وفي الحديث : « إن كانَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُحِبُّ العَسَلَ » أي
: ليُحبه .
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
قوله : { حَاشِرِينَ } : هو مفعولُ « أَرْسَلَ » و « حاشرين » معناه : حاشرين السحرةَ .
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
قوله
: { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ } : معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي : قال إنَّ هؤلاءِ . وهذا
القولُ يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : أَرْسَلَهم قائلاً ذلك ، ويجوز أَنْ يكونَ
مفسِّراً ل أَرْسَلَ ، والشِّرْذِمَةُ : الطائفةُ من الناسِ . وقيل : كلُّ بقيةٍ
مِنْ شيءٍ خسيسٍ يُقال لها : شِرْذِمة ، ويقال : ثوبٌ شَراذم أي : أَخْلاق ، قال :
3512 جاء الشتاءُ وقميصي أُخْلاقْ ... شراذِمٌ يضحكُ منه الخَلاَّقْ
وأنشد أبو عبيدة :
3513 [ يُحْذَيْنَ ] في شَراذِمِ النِّعالِ ...
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
قوله
: { حَاذِرُونَ } : قرأ الكوفيون وابن ذكوان « حاذِرُون » بالألفِ ، والباقون «
حَذِرُوْن » بدونهِا ، فقال أبو عبيدة : « هما بمعنىً واحد يُقال : رجلٌ حَذِرٌ
وحَذُرٌ وحاذِرٌ بمعنىً » وقيل : بل بينهما فرقٌ . فالحَذِرُ : المُتَيَقِّظُ .
والحاذِرُ : الخائفُ . وقيل : الحَذِر : المخلوقُ مَجْبُولاً على الحَذَرِ .
والحاذِرُ : ما عُرِض في ذلك ، وقيل : الحَذِرُ : المُتَسَلِّح أي : له شوكةُ
سلاحٍ . وأنشد سيبويهِ في إعمال حَذِر على أنه مثالُ مبالغةٍ مُحَوَّلٌ مِنْ حاذر
قولَه :
3514 حَذِرٌ أموراً لا تَضِيْرُ وآمِنٌ ... ما ليسَ مُنْجِيَه من الأَقْدارِ
وقد زعم بعضُهم أنَّ سيبويهِ لمَّا سأله : هل تحفظُ شيئاً في إعمالَ فَعِل؟ صنع له
هذا البيتَ . فعيب على سيبويه : كيف يأخذُ الشواهدَ الموضوعةَ؟ وهذا غَلَطٌ؛ فإن
هذا الشخصَ قد أقرَّ على نفسِه بالكذبِ فلا يُقْدَحُ قولُه في سيبويهِ . والذي
ادعى أنَّه صنعَ البيتَ هو اللاحقيُّ . وحَذِر يتعدَّى بنفسه ، قال تعالى : {
يَحْذَرُ الآخرة } [ الزمر : 9 ] ، وقال العباس بن مرادس :
3515 وإني حاذِرٌ أَنْمِيْ سِلاحي ... إلى أوصالِ ذَيَّالٍ مَنيعِ
وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عمار « حاذِرُوْن » بالدال المهملة من قولهم : «
عَيْنٌ حَدْرَة » أي : عظيمة ، كقوله :
3516 وعَيْنٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
والمعنى : عظيماً . وقيل : الحادِرُ : القويُّ الممتلىء . وحُكي : رجلٌ حادِرٌ أي
: ممتلِىءٌ غَيْظاً ، ورجلٌ حادِرٌ أي : أحمقُ كأنه ممتلىءٌ مِنْ الحَمَقِ ، قال :
3517 أُحِبُّ الغلامَ السَّوْءَ من أجلِ أُمِّه ... وأُبْغِضُهُ من بُغْضِها وهو
حادِرُ
ويقال : أيضاً : رجلٌ حَذُر ، بزنة « يَقُظ » مبالغةً في حاذِر ، من هذا المعنى
قلت : فقد صار يُقال : حَذِرَ وحَذُر وحاذر بالدال المعجمة والمهملة ، والمعنى
مختلف .
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
قوله : { وَمَقَامٍ } : قرأ العامَّةُ بفتحِ الميمِ ، وهو مكانُ القيامِ ، وقتادة والأعرج بضمِّها . وهو مكانُ الإِقامة .
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
قوله
: { كَذَلِكَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، قال الزمخشري : « يَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ :
النصبَ على » أخْرَجْناهم مثلَ ذلك الإخراج الذي وَصَفْنا . والجرُّ على أنَّه
وصفٌ ل مَقامٍ أي : ومقامٍ كريمٍ مثلِ ذلك المَقامِ الذي كان لهم . والرفعُ على
أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي : الأمر كذلك « . قال الشيخ : » فالوجهُ الأولُ لا
يَسُوْغُ؛ لأنه يَؤُوْل إلى تشبيهِ الشيءِ بنفسِه ، وكذلك الوجهُ الثاني لأنَّ/
المَقامَ الذي كان لهم هو المَقامُ الكريمُ فلا يُشَبَّهُ الشيءُ بنفسِه « قلت :
وليس في ذلك تشبيهُ الشيِءِ بنفسِه؛ لأنَّ المرادَ في الأول : أَخْرَجْناهم
إخراجاً مثلَ الإِخراجِ المعروفِ المشهورِ ، وكذلك الثاني .
قوله : { وَأَوْرَثْنَاهَا } عطفٌ على » فَأَخْرَجْناهم « .
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
قوله
: { فَأَتْبَعُوهُم } : العامَّةُ بقطع الهمزة مِنْ أَتْبَعَه أي : ألحقه نفسَه ،
فحذف الثاني ، وقيل : يُقال : أتبعه بمعنى اتَّبعه بوصل الهمزة أي : لحقه ، والحسن
والحارث الذماري بوصِلها وتشديدِ التاءِ وهي بمعنى اللَّحاق .
قوله : { مُّشْرِقِينَ } منصوبٌ على الحالِ . والظاهرُ أنه من الفاعلِ . ومعنى
مُشْرِقين أي : داخِلين في وقتِ الشروقِ كأصبح وأمسى أي : دخَلَ في هذين الوقتين ،
وقيل : داخلين نحو : المَشْرق كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ ، وقيل : مُشْرقين بمعنى
مُضيئين . وفي التفسير : أنَّ بني إسرائيل كانوا في نُوْر ، والقِبْطَ في ظُلمة ،
فعلى هذا يكون « مُشْرِقين » حالاً من المفعول ، وعندي أنه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً
من الفاعل والمفعول ، إذا جَعَلْنا « مُشرِقين » داخلين في وقتِ الشُّروق ، أو في
مكانٍ المَشْرِق؛ لأنَّ كلاً من القبيلين كان داخِلاً في ذلك الزمانِ ، أو في ذلك
المكان .
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قوله
: { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } : قرأ العامَّةُ « تراءى » بتحقيقِ الهمزة ، وابن
وثاب والأعمش من غير همزٍ . وتفسيرُه أن تكنَ الهمزةُ مخففةً بينَ بينَ ، لا
بالإِبدال المحض؛ لئلا تجتمعَ ثلاثُ أَلِفاتٍ : الأولى الزائدةُ بعد الراءِ ،
والثانيةُ المبدلةُ عن الهمزةِ ، والثالثةُ لامُ الكلمة ، لكن الثالثة لا تَثْبُتُ
وَصْلاً . لحذفِها لالتقاء الساكنين . ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فأقول :
هذا الحرف إمَّا أَنْ يُوْقَفَ عليه أو لا . فإن وُقِفَ عليه : فحمزةُ يُميل ألفَه
الأخيرةَ لأنها طرفٌ منقبلةٌ عن ياء . ومن ضرورةِ إمالتِها إمالةُ فتحةِ الهمزةِ
المُسَهَّلَةٍ؛ لأنه إذا وُقف على مثلِ هذه الهمزةِ سَهَّلَها على مقتضى مذهبِه ،
وأمال الألفَ الأولى إتْباعاً لإِمالةِ فتحةِ الهمزةِ . ومِنْ ضرورةِ إمالَتِها
إمالةُ فتحةِ الراءِ قبلها . وهذا هو الإِمالةُ لإِمالةٍ .
وغيرُه من القُرَّاءِ لا يُميل شيئاً من ذلك ، وقياسُ مذهبِ الكسائيِّ أَنْ يُميلَ
الألفَ الأخيرةَ وفتحةَ الهمزةِ قبلها . وكذا نقله ابنُ الباذش عنه وعن حمزةَ .
وإنْ وُصِلَ : فإنَّ ألفَه الأخيرةَ تَذْهَبُ لالتقاءِ الساكنين ، ولذهابِها
تَذْهَبُ إمالةُ فتحةِ الهمزة وتبقى إمالةُ الألف الزائدة . وإمالةُ فتحةِ الراءِ
قبلَها عنده اعتداداً بالألفِ المحذوفةِ . وعند ذلك يُقال : حُذِفَ السببُ وبقي
المُسَبَّبُ؛ لأن إمالةَ الألفِ الأولى إنما كان لإِمالةِ الألفِ الأخيرةِ كما
تقدَّم تقريرُه ، وقد ذَهَبَتِ الأخيرةُ ، فكان ينبغي أَنْ لا تُمال الأولى لذهابِ
المُقْتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوفَ ، وجعلَه في قوةِ المنطوقِ ، ولذلك نحا عليه
أبو حاتمٍ فقال : « وقراءةُ هذا الحرفِ بالإِمالةِ مُحالٌ : قلت : وقد تقدَّم في
الأنعام عند » رأى القمر « و » رأى الشمس « ما يُشْبه هذا العملَ فعليك باعتبارِه
ثَمَّة .
قوله : { لَمُدْرَكُونَ } العامَّةُ على سكونِ الدالِ اسمَ مفعولٍ مِنْ أَدْرك أي
: لمُلْحَقُون . وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدالِ مشدَّدةً وكسرِ الراء .
قال الزمخشري : » والمعنى : متتابِعُون في الهَلاك على أيديهم . ومنه بيت الحماسة
:
3518 أَبَعْدَ بَني أمِّي الذين تتابَعُوا ... أُرَجِّيْ الحياةَ أم مِنْ الموتِ
أجْزَعُ
يعني : أن ادَّرَك على افْتَعَل لازمٌ بمعنى فَنِي واضْمَحَلَّ . يقال : ادَّرَكَ
الشيءُ يَدَّرِكُ فهو مُدَّرِك أي : فَنِيَ تتابعاً ، ولذلك كُسِرَت الراءُ .
وممَّنْ نَصَّ على كسرِها أبو الفضلِ الرازي قال : « وقد يكون » ادَّرَكَ « على
افْتَعَل بمعنى أَفْعَلَ متعدِّياً ، ولو كانَتِ القراءةُ مِنْ هذا لَوَجَبَ فتحُ
الراءِ ، ولم يَبْلُغْني عنهما يغني عن الأعرجِ وعُبيد إلاَّ الكسرُ » .
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
قوله
: { فانفلق } : قبلَه جملةٌ محذوفةٌ أي : فضربَ فانفلقَ . وزعم ابنُ عُصْفور أنَّ
المحذوفَ إنما هو ضَرَبَ وفاءُ انفلقَ ، وأن الفاءَ الموجودَة هي فاء « فَضَرَبَ »
، فأبقى من كلٍ ما يُدْلُّ على المحذوفِ . أبقى الفاءَ مِنْ « فضرب » لِتَدُلَّ
على « ضَرَبَ » وأبقى « انفلق » لِتَدُلَّ على الفاء المتصلةِ به ، وهذا كلامٌ
متهافتٌ .
واختلفَ القُراء في ترقيقِ راءِ « فِرْق » عن ورشٍ لأجلِ القاف . وقُرِىء « فِلْق
» بلامٍ بَدَلِ الراءِ لموافقةِ « فانفلقَ » . والطَّوْدُ : الجبلُ العظيمُ/
المتطاولُ في السماءِ .
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
قوله : { وَأَزْلَفْنَا } : أي : قَرَّبْنا مِنَ النجاةِ . و « ثَمَّ » ظرفُ مكانٍ بعيدٍ . و « الآخرين » هم موسى وأصحابُه ، وقرأ الحسن وأبو حيوة « وزَلَفْنا » ثلاثياً ، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف أي : أَزْلَلْنا . والمرادُ بالآخَرين في هذه القراءة فرعونُ وقومُه .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
قوله
: { إِذْ قَالَ } : العاملُ في « إذ » « نَبَأَ » أو اتْلُ . قاله الحوفي . وهذا
لا يتأتى إلاَّ على كونِ « إذ » مفعولاً به . وقيل : « إذ » بدلٌ مِنْ « نَبَأ »
بدلُ اشتمالٍ . وهو يَؤُوْلُ إلى أنَّ العاملَ فيه « اتْلُ » بالتأويلَ المذكورِ .
قوله : { وَقَوْمِهِ } الهاءُ تعودُ على « إبراهيم » لأنَّه المُحَدَّثُ عنه .
وقيل : تعودُ على أبيه ، لأنَّه أقربُ مذكورٍ ، أي : قال لأبيه وقومِ أبيه ،
ويؤيِّده { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } [ الأنعام : 74 ] ، حيث أضافَ القومَ إليه .
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
قوله : { نَعْبُدُ أَصْنَاماً } : أَتَوْا في الجوابِ بالتصريحِ بالفعل ليَعْطِفُوا عليه قولَهم « فَنَظَلُّ » افتخاراً بذلك وابتهاجاً به ، وإلاَّ فكان قولُهم « أصناماً » كافياً ، كقوله تعالى : { قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] { قَالُواْ خَيْراً } [ النحل : 30 ] .
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
قوله
: { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } : لا بُدَّ مِنْ محذوفٍ أي : يسمعون دعاءَكم ، أو
يَسْمَعُوْنكم تَدْعُون . فعلى التقديرِ الأولِ : هي متعديةٌ لواحدٍ اتفاقاً ،
وعلى الثاني : هي متعديةٌ لاثنين ، قامَتِ الجملةُ المقدرَّةُ مَقام الثاني . وهو
قولُ الفارِسيِّ . وعند غيرِه الجملةُ المقدَّرَةُ حالٌ . وقد تقدَّمَ تحقيقُ
القولَيْن . وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضمِّ الياءِ وكسرِ الميمِ ، والمفعولُ
الثاني محذوفٌ . أي : يُسْمِعُونَكم الجوابَ .
قوله : { إِذْ تَدْعُونَ } منصوبٌ بما قبلَه ، فما قبله وما بعده ماضيان معنىً ،
وإنْ كانا مستقبلَيْنِ لفظاً ، لعملِ الأولِ في « إذ » ، ولعَمَلِ « إذ » في
الثاني . وقال بعضُهم : « إذ » هنا بمعنى إذا . وقال الزمخشري : « إنه على حكاية
الحالِ الماضيةِ ، ومعناه : اسْتَحْضِروا الأحوالَ [ الماضيةَ ] التي كنتم
تدَّعُونها فيها ، [ وقولوا ] : هل سَمِعُكم أو أَسْمَعُوا ، وهو أبلغ في
التَّبْكِيْتِ » . و قد تقدَّم أنه قُرِىءَ بإدغامِ ذال « إذا » وإظهارِها في
التاء . وقال ابنُ عطيةَ : ويجوز فيه قياسُ « مُدَّكِر » ونحوِه . ولم يَقْرَأْ به
أحدٌ . والقياسُ أن يكون اللفظُ به « إدَّدْعون » والذي مَنَعَ من هذا اللفظِ
اتصالُ الدالِ الأصلية في الفعل ، فكَثُرَتْ المتماثلاتُ « قلت : يَعْني فيكون
اللفظُ بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ ثم بدالٍ ساكنةٍ مهملةٍ أيضاً » .
قال الشيخ : « وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ هذا الإِبدالَ إنما هو في تاءِ الافتعالِ بعد
الدالِ والذالِ والزايِ نحو : ادَّهَنَ وادَّكَرَ وازْدَجَر ، وبعد جيمٍ شذوذاً
نحو : » اجْدمَعُوا « في » اجتمعوا « ، أو في تاء الضميرِ بعد الدالِ والزايِ نحو
» فُزْدُ « في » فُزْتُ « و » جَلَدَّ « في » جَلَدْتُ « أو تاء » تَوْلَج « قالوا
فيها : » دَوْلج « ، وتاء المضارعة ليس شيئاً مِمَّا ذَكر . وقوله : » والذي
مَنَعَ إلى آخرِه « يَقْتضي جوازَه لو لم يُوْجَدْ ما ذُكِر ، فعلى مقتضى قولِه
يجوز أَنْ تقولَ في إذْ تَخْرج : ادَّخْرُج ، ولا يقول ذلك أحدٌ ، بل يقولون :
اتَّخْرُج ، فيُدغمون الذالَ في التاءِ » .
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
قوله : { كَذَلِكَ } : منصوبٌ ب « يَفْعَلون » أي : يَفْعَلون مثلَ فِعْلِنَا . ويَفْعَلُون في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً ل « وَجَدْنا » .
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
قوله
: { عَدُوٌّ } : اللغةُ العاليةُ إفرادُ « عَدُوّ » وتذكيرُه . قال تعالى : { هُمُ
العدو } [ المنافقون : 4 ] . وإنما فُعِل به ذلك تَشْبيهاً بالمصادرِ نحو : الوَلُوع
والقَبُول . وقد يُقال : أعداءٌ وعَدُوَّة . وقوله : { عَدُوٌّ لي } على أصلِه
مِنْ غيرِ تقديرِ مضافٍ ولا قلبٍ . وقيل : الأصنامُ لا تُعادِي لأنها جَمادٌ ،
فالتقديرُ : فإنَّ عُبَّادَهم عدوُّ لي . وقيل : بل في الكلامِ قَلْبٌ ، تقديرُه :
فإنِّي عدوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامةِ الكلامِ بدونِهما .
قوله : { إِلاَّ رَبَّ العالمين } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه منقطعٌ أي : لكنْ
ربُّ العالمين ليس بعدُوّ لي . وقال الجرجاني : « فيه تقديمٌ وتأخيرٌ أي :
أفَرَأَيْتُمْ ما كنتم تَعْبُدُوْنَ أنتم وآباؤكم الأَقْدمون ، إلاَّ ربَّ
العالمين فإنهم عدوٌّ لي ، و » إلاَّ « بمعنى/ » دون « و » سوى « . والثاني : أنه
متصلٌ . وهو قول الزجاج؛ لأنهم كانوا يَعْبدون اللهَ تعالى والأصنامَ .
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
قوله
: { الذي خَلَقَنِي } : يجوز فيه أوجهٌ : النصبُ على النعتِ ل « رَبَّ العالمَين »
أو البدلِ ، أو عطفِ البيانِ ، أو على إضمارِ أعني . والرفعُ على خبرِ ابتداءِ
مضمرٍ أي : هو الذي خلقني أو على الابتداءِ .
و [ قوله ] : { فَهُوَ يَهْدِينِ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ رفعٍ خبراً له . قال
الحوفي : « ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تَضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط » . وهذا
مردودٌ؛ لأنَّ الموصولَ مُعَيَّنٌ ليس عامَّاً ، ولأنَّ الصلةَ لا يمكنُ فيها
التجدُّدُ ، فلم يُشْبِهِ الشرطَ . وتابع أبو البقاء الحوفيَّ ولكنه لم يتعرَّضْ
للفاء . فإنْ عنى ما عناه الحوفيُّ فقد تقدَّمَ ما فيه . وإن لم يَعْنِهِ فيكونُ
تابعاً للأخفش في تجويزِه زيادةَ الفاءِ في الخبر مطلقاً نحو : « زيدٌ فاضربه » ،
وقد تقدَّم تحريرُه .
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
قوله
: { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي } : يجوز أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه محذوفٌ . وكذلك ما
بعده . ويجوزُ أَنْ يكونوا أوصافاً للذي خَلَقني . ودخولُ الواوِ جائزٌ . وقد
تقدَّم تحقيقُه في أولِ البقرةِ كقوله :
3519 إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابنُ أبي إسحاقَ وتُرْوى عن عاصم أيضاً ياءَ المتكلمِ في « يَسْقِينِ » و «
يَشْفِينْ » و « يُحْيِيْنِ » . والعامَّةُ « خَطِيئَتي » بالإفرادِ . والحسن «
خطاياي » جمعَ تكسيرٍ .
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
قوله : { مِن وَرَثَةِ } : إمَّا أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً أي : مستقِرَّاً أو كائناً مِنْ وَرَثَةِ ، وإمَّا أَنْ يكونَ صفةً لمحذوفٍ هو المفعولُ الثاني ، أي : وارِثاً مِنْ وَرَثَةِ .
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } : بدلٌ مِنْ « يوم » قبلَه . وجعل ابنُ عطيةَ هذا من كلامِ اللهِ تعالى إلى آخر الآياتِ مع إعرابِه « يومَ لا ينفعُ » بدلاً مِنْ « يوم يُبْعَثون » . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ العامِلَ في البدلِ هو العامِلُ في المبدلِ منه ، أو آخرُ مثلُه مقدَّرٌ . وعلى كِلا هذين القولَين لا يَصِحُّ لاختلافِ المتكلِّمين .
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله
: { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منقطِعٌ أي : لكنْ مَنْ
أتى اللهَ بقَلْبٍ سليمٍ فإنه ينفَعُه ذلك . وقال الزمخشري : « ولا بُدَّ لك مع
ذلك مِنْ تقديرِ مضافٍ وهو الحالُ المرادُ بها السلامةُ ، وليست من جنسِ المالِ
والبنينَ ، حتى يَؤول المعنى إلى : أنَّ البنينَ والمالَ لا ينفعانِ ، وإنما ينفعُ
سَلامةُ القلبِ ، ولو لم يُقَدَّرِ المُضافُ لم يَتَحصَّلْ للاستثناءِ معنى » .
قال الشيخ : « ولا ضرورةَ تَدْعُو ألى حذفِ المضافِ كما ذكر » . قلت : إنما
قَدَّرَ المضافَ ليُتَوَهَّمَ دخولُ المستثنى في المستثنى منه؛ لأنه متى لم
يُتَوَهَّمْ ذلك لم يَقعِ الاستثناءُ ، ولهذا مَنَعوا : « صَهَلَتِ الخيلُ إلاَّ
الإِبِلَ » إلاَّ بتأويلٍ .
الثاني : أنه مفعولٌ به لقوله : « لا يَنْفَعُ » أي : لا ينفعُ المالُ والبنونَ
إلاَّ هذا الشخصَ فإنه ينفَعُه فإنه ينفَعُه مالُه المصروفُ في وجوهِ البِرِّ ،
وبنوه الصلحاءُ ، لأنه عَلَّمهم وأحسنَ إليهم . الثالث : أنه بدلٌ مِن المفعولِ
المحذوفِ ، أو مستثنى منه ، إذ التقديرُ : لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ أحداً من الناس
إلاَّ مَنْ كانت هذه صفتَه . والمستثنى منه يُحْذَفُ كقوله :
3520 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولم يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ
سيفٍ ومِئْزرا
أي : ولم يَنْجُ بشيءٍ . الرابع : أنه بدلٌ مِنْ فاعلٍ « يَنْفَعُ » فيكون مرفوعاً
. قال أبو البقاء : « وغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فيكون التقديرُ : إلاَّ مالُ مَنْ ،
أو بنو مَنْ فإنه ينفع نفسَه وغيرَه بالشفاعة » .
قلت : وأبو البقاء خَلَط وجهاً بوجهٍ : وذلك أنه إذا أرَدْنا أن نجعلَه بدلاً من
فاعل « ينفع » فلنا فيه طريقان ، أحدهما : طريقةُ التغليب أي : غَلَّبْنا البنين
على المالِ ، فاستثنى من البنين ، فكأنه قيل : لا ينفعُ البنونَ إلاَّ مَنْ أتى مِن
البنين بقلبٍ سليم فإنه ينفع نفسَه بصلاحِه ، وغيرَه بالشفاعةِ .
والطريقة الثانية : أَنْ تُقَدِّر مضافاً محذوفاً قبل « مَنْ » أي : إلاَّ مالُ
مَنْ أو بنو مَنْ فصارَتِ الأوجُه خمسةً .
ووجَّه الزمخشريُّ اتصالَ الاستثناءِ ، بوجهين ، أحدُهما : إلاَّ حالَ مَنْ أتى
اللهِ بقلبٍ سليمٍ ، وهو مِنْ قوله :
3521 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ
ضَرْبٌ وَجِيعُ
« وما ثوابُه إلاَّ السيفُ » ومثاله أن يقال : هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال : مالُه
وبَنُوه سلامةُ قلبِه . تريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه ، وإثباتَ سلامةِ قلبِه
بدلاً عن ذلك . والثاني قال : « وإن شِئْتَ حَمَلْتَ الكلامَ على المعنى وجَعَلْتَ
المالَ والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يومَ لا يَنْفع غِنَى إلاَّ غَنى مَنْ
أتى ، لأنَّ غِنى الرجلِ في دينِه بسلامةِ قلبِه ، كما أنَّ غِناه في دنياه بمالِه
وبنيه . » .
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
قوله : { وَبُرِّزَتِ } : قرأ مالك بن دينار « وَبَرَزَتْ » بفتح الباء والراء خفيفةً ، مبنياً للفاعل ، مسنداً للجحيم فلذلك رُفِعَ .
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
قوله
: { فَكُبْكِبُواْ } : أي : أُلْقُوا ، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض . قال الزمخشري :
« الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ . جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ
في المعنى » . وقال ابن عطية نحواً منه ، قال : « وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ
بَيِّنٌ نحو : صَرَّ وصَرصَرَ » وهذا هو مذهب الزجاج . وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ
مذاهبَ ، أحدها : هذا . والثاني : وهو مذهبُ البصريين أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ .
والثالث وهو قول الكوفيين أنَّ الثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني ، فأصل كَبْكَبَ
: كَبَّبَ بثلاثِ باءات . ومثلُه : لَمْلَمَ وكَفْكَفَ . هذا إذا صَحَّ المعنى
بسقوطِ الثالث . فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من
غيرِ خلافٍ نحو : سِمسِم وخِمْخِم .
وواو « كُبْكِبوا » قيل : للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ . وقيل : لعابديها
.
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
قوله : { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } : جملةٌ حاليةٌ معترضةٌ بين القولِ ومعمولِه ، ومعمولُه الجملةُ القسميةُ .
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
قوله : { إِن كُنَّا لَفِي } مذهبُ البَصْريين : أنَّ « إنْ » مخففة واللامَ فارقةٌ ، ومذهبُ الكوفيين : أنَّ « إنْ » نافية ، واللامَ بمعنى « إلاَّ » .
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
قوله : { إِذْ نُسَوِّيكُمْ } : « إذ » منصوبٌ : إمَّا ب « مُبين » ، وإمَّا بمحذوفٍ أي : ضَلَلْنا في وقتِ تَسْويتنا لكم بالله في العبادةِ . ويجوز على ضَعْفٍ أَنْ يكونَ معمولاً ل « ضلال » ، والمعنى عليه . إلاَّ أنَّ ضعفَه صناعيٌّ : وهو أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يَعْمَلُ بعد وصفِه .
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
قوله
: { حَمِيمٍ } : الحميمُ : القريبُ مِنْ قولِهم : « حامَّةُ فلانٍ » أي : خاصَّتُه
. وقال الزمخشري : « الحميمُ مِنَ الاحتمامِ ، وهو من الاهتمام ، أو من الحامَّةِ
وهي الخاصَّةُ ، وهو الصديقُ الخالص » والنفي هنا يَحْتمل نفيَ الصديقِ من أصلِه ،
أو نفيَ صفتِه فقط فهو من باب :
3522 على لاحِبٍ لا يهتدى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
والصديقُ : يحتمل أَنْ يكونَ مفرداً ، وأَنْ يكونَ مُسْتَعملاً للجمع ، كما
يُسْتعمل العدوُّ له يقال : هم صديق وهم عدو .
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
قوله
: { فَلَوْ أَنَّ } : يجوزُ أَنْ تكونَ المُشْرَبَةَ معنى التمني ، فلا جوابَ لها
على المشهورِ . ويكون نصبُ « فنكونَ » جواباً للتمني الذي أَفْهَمَتْه « لو »
ويجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها ، وجوابُها محذوفٌ أي : لَوَجَدْنا شُفَعاءَ
وأصدقاءَ أو لَعَمِلْنا صالحاً . وعلى هذا فنَصْبُ الفعلِ ب « أَنْ » مضمرةً عطفاً
على « كَرَّةً » أي : لو أنَّ لَنا كَرَّةً فكوناً ، كقولها :
3523 لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
قوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ } : إنَّما أَنَّثَ فعلَ القومِ؛ لأنه مؤنثُ بدليلِ تصغيره على قُوَيْمَة . وقيل : لأنَّه بمعنى « أُمَّة » ولمَّا كانَتْ آحادُه عقلاءَ ذكوراً وإناثاً عاد الضميرُ عليه باعتبارِ تغليبِ الذكورِ فقيل : « لهم أخوهم » . وحَذَفَ مفعولَ « تتَّقون » أي : ألا تتَّقون عقابَ الله .
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
قوله
: { واتبعك الأرذلون } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ كاف « لك » . وقرأ عبد الله وابن عباس
وأبو حيوة « وأَتْباعُك » مرفوعاً ، جمعَ تابع كصاحِب وأَصْحاب ، أو تَبِيْع
كشَريف وأشراف ، أو تَبع ك بَرَم وأَبْرام . وفي رفعه وجهان ، أحدهما : أنَّه
مبتدأٌ ، و « الأَرْذَلُون » خبرُه . والجملةُ حاليةٌ أيضاً . والثاني : أنه عطفٌ
على الضميرِ المرفوعِ في « نُؤْمِنُ » وحَسَّن ذلك الفصلُ بالجارِّ . و « الأرذلون
» صفتُه .
وقرأ اليماني : « وأتباعِك » بالجرِّ عطفاً على الكاف في « لك » . وهو ضعيفٌ أو
ممنوعٌ عند البصريين . وعلى هذا فيرتفع « الأَرْذَلُون » على خبر ابتداء مضمر أي :
هم الأرذلون . وقد تقدَّم مادة « الأَرْذَل » في هود .
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
قوله : { وَمَا عِلْمِي } : يجوز في « ما » وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء . و « علمي » خبرها . والباء متعلقة به . والثاني : أنها نافيةٌ . والباءُ متعلقةٌ ب « عِلْمي » أيضاً . قاله الحوفي ، ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلامُ به جملةً .
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
قوله
: { لَوْ تَشْعُرُونَ } : جوابُها محذوفٌ ، ومفعولُ « تَشْعُرون » أيضاً .
وقرأ الأعْرج وأبو زرعة « لو يَشْعُرون » بياء الغَيْبة ، وهو التفاتٌ . ولا
يَحْسُنُ عَوْدُه على المؤمنين .
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
قوله
: { فَتْحاً } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به ، بمعنى المفتوحِ/ ، وأَنْ يكونَ
مصدراً مؤكِّداً .
قوله : { وَنَجِّنِي } المنجى منه محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : ممَّا يَحُلُّ بقومي .
و { مِنَ المؤمنين } بيانٌ لقولِه { مَنْ مَّعِي } .
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
قوله : { المشحون } : أي المَمْلوءُ المُؤْقَرُ . يقال : شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورِجالاً . والشَّحْناء : العَداوةُ؛ لأنها تملأَ الصدورَ إحَناً . والفُلْكُ هنا مفردٌ بدليلِ وَصْفِه بالمفردِ . وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة .
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
قوله
: { تَعْبَثُونَ } : جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ « تَبْنُون » . والرِّيع بكسر الراء
وفتحها : جمع رَِيْعة . وهو في اللغةِ المكانُ المرتفعُ . قال ذو الرمة :
3524 طِراقُ الخَوافي مُشْرِفٌ فوقَ رِيْعَةٍ ... ندى ليلِه في رِيْشه
يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة : « هو الطريقُ » وأنشد للمسيَّب بن عَلَس يصفُ ظُعُناً :
3525 في الآلِ يَخْفِضُها ويَرْفَعُهما ... رِيْعٌ يَلُوْحُ كأنه سَحْلُ
واختلفَ المفسِّرون في العبارة عنه على أقوالٍ كثيرةٍ . والرَّيْعُ بالفتح : ما
يَحْصُل مِنَ الخَراج .
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
قوله
: { تَخْلُدُونَ } : العامَّةُ على تخفيفِه مبنياً للفاعلِ . وقتادَةُ بالتشديدِ
مبنياً للمفعول . ومنه قولُ امرِىء القيس :
3526 وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ ... قليلُ الهُمومِ ما يَبِيْتُ
بأَوْجالِ
و « لَعَلَّ » هنا على بابِها . وقيل : للتعليل . ويؤيِّده قراءةُ عبدِ الله « كي
تَخْلُدون » فقيل : للاستفهام ، قال زيد بن علي . وبه قال الكوفيون . وقيل :
معناها التشبيهُ أي : كأنكم تَخْلُدُون . ويؤيِّدُه ما في حرفِ أُبَيّ « كأنكم
تَخْلُدون » . وقُرِىء « كأنَّكم خالِدُون » . وكم مَنْ نَصَّ عليها أنَّها تكونُ
للتشبيهِ .
والمصانِعُ : جمعُ مَصْنَعَة ، وهي بِرَكُ الماء . وقيل : القصور . وقيل : بُروجُ
الحَمام .
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
قوله : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ } : أي : وإذا أَرَدْتُمْ . وإنما احْتَجْنا إلى تقديرِ الإِرادة لئلا يَتَّحدَ الشرطُ والجزاءُ . و « جَبَّارِين » حالٌ .
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
قوله : { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ الجملةَ الثانيةَ بيانٌ للأولى ، وتفسيرٌ لها . والثاني : أَنَّ « بأَنْعامٍ » بدلٌ مِنْ قولِه : { بِمَا تَعْلَمُونَ } بإعادةِ العاملِ كقولِه { اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } [ يس : 20 - 21 ] قال الشيخ : « والأكثرون لا يَجْعَلُون هذا بدلاً ، وإنما يَجْعلونه تكريراً وإما يَجْعلون بدلاً بإعادةِ العاملِ إذا كانَ حرفَ جرّ مِنْ غيرِ إعادةِ متعلِّقِه نحو : » مَرَرْتُ بزيدٍ بأخيكَ « ولا يقولون : » مَرَرْت بزيدٍ ، مررتُ بأخيك « على البدل » .
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
قوله
: { أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } : معادِلٌ لقولِه : { أَوَعَظْتَ } ، وإنما
أتى المعادِلِ كذا ، دونَ قولِه : « أم لم تَعِظْ » لتواخي القوافي ، وأبدى له
الزمخشريُّ معنىً فقال : وبينهما فرقٌ ، لأنَّ المعنى : سَواءٌ علينا أَفَعَلْتَ
هذا الفعلَ الذي هو الوعظُ أم لم تَكُنْ أصلاً مِنْ أهلِه ومباشرَتِه ، فهو أبلغُ
في قِلَّةِ اعْتِدادِهم بوَعْظِه . مِنْ قولِك : أَمْ لم تَعِظْ « .
وقرأ العامَّةُ » أَوَعَظْتَ « باظهارِ الظاءِ قبل التاءِ ، ورُوِيَ عن أبي عمرٍو
والكسائيِّ وعاصمٍ ، وبها قرأ الأعمشُ وابن محيصن بالإِدْغامِ ، وهي ضعيفةٌ؛ لأنَّ
الظاءَ أقوى ولا يُدْغَمُ الأقوى في الأضعفِ ، على أنَّه قد جاء من هذا في القرآنِ
العزيزِ أشياءُ متواترةٌ يجبُ قَبولُها نحو : { زُحْزِحَ عَنِ } [ آل عمران : 185
] و { لَئِن بَسَطتَ } [ المائدة : 28 ] .
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
قوله : { إِلاَّ خُلُقُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتحِ الخاءِ وسكونِ اللامِ . والباقون بضمَّتين فقيل : معناهما الاختلاقُ وهو الكَذِبُ . وكذا قرأ ابنُ مسعودٍ . وقيل : ما نحن فيه من البِنْية حياةٌ وموتٌ هو خُلُقُ الأوَّلينَ وعادَتُهُم . وروى الأصمعيُّ عن نافعٍ ، وبها قرأ أبو قلابة ، بضمِّ الخاءِ وسكونِ اللام وهي تخفيفُ المضمومَةِ .
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
قوله : { فِي جَنَّاتٍ } : بدلٌ مِنْ « فيما ههنا » بإعادةِ العاملِ؛ فَصَّل بعدما أَجْمَلَ كما في الآيةِ قبلَها . و « ما » موصولةٌ ، وظرفُ المكان صلتُها .
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
قوله
: { وَنَخْلٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ ذِكْرِ الخاص بعد العامِّ؛ لأنَّ
الجناتِ تشمَل النخلَ ، ويجوزَ أَنْ يكونَ تكريراً للشيءِ الواحدِ بلفظٍ آخَرَ ،
فإنَّهم يُطْلِقُوْن الجنةَ ولا يريدونَ إلاَّ النخلَ . قال زهير :
3527 كأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ ... من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً
سُحُقا
/ وسُحُقاً : جمعُ « سَحُوْق » ولا يُوْصَفُ به إلاَّ النخلُ والطَّلْعُ الكفرى ،
وهو عُنقودُ التَّمْرِ قبل خروجهِ من الكُمِّ . قال الزمخشري : « الطَّلْعَةُ : هي
التي تَطْلُع من النخلةِ كنَصْلِ السيفِ ، في جَوْفه شماريخُ القِنْو . والقِنْو
هو اسمٌ للخارج من الجِذْعِ كما هو بعُرْجُوْنِه » . والهَضِيْمُ : اللطيفُ ، مِنْ
قولهم : « كَشْحٌ هضيمٌ » . وقيل المتراكِبُ .
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
قوله
: { وَتَنْحِتُونَ } العامَّةُ على الخطابِ وكسرِ الحاءِ . والحسنُ وعيسى وأبو
حيوة بفتحها ، وعن الحسن أيضاً « تَنْحاتون » بألفٍ للإِشباعِ ، وعنه وعن أبي حيوة
« يَنْحِتُون » بالياء مِنْ تحتُ . وقد تَقَدَّم ذلك كلُّه في الأعراف .
قوله : { فَارِهِينَ } قرأ الكوفيون وابنُ عامر « فارِهيْنَ » بالألف كما قرؤوا «
حاذِرون » بها والباقونَ « فَرِهين » بدون ألف ، كما قرؤوا « حَذِرُون » بدونِها .
والفَراهَةُ : النشاطُ والقوةُ . وقيل : الحِذْقُ . يقال : دابَّة فارِهٌ ، ولا
يقال : فارِهَة ، وقد فَرُه يَفْرُه فَراهة .
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
قوله : { لَّهَا شِرْبٌ } : صفةٌ ل « ناقَةٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه الجارَّ والمجرورَ و « شِرْبٌ » فاعلٌ به لاعتمادِه . وقرأ ابن أبي عبلة « شُرْبٌ » بالضمِّ فيهما . والشِّرْبُ : بالكسرِ النصيبُ كالسِّقْيِ ، وبالضمِّ المصدرُ .
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
قوله : { لِعَمَلِكُمْ } : كقولِه : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] وقد تقدَّم . وقيل : « من القالِيْن » صفةٌ لخبرٍ محذوفٍ . وهذا الجارُّ متعلِّقٌ به . أي : إنِّي قالٍ لِعملكم من القالِيْنَ .
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
قوله
: { فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } : المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : مَطَرهم . والقالي
: المُبْغِضُ . يقال : قَلاه يَقْليه قِلَىً ويَقْلاه ، وهي شاذَّة . قال :
3528 وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أي : أنتَ مُذْنِبٌ ... وتَقْلِينني لكنَّ إياكِ
لا أَقْلي
وقال آخر :
3529 واللهِ ما فارَقْتُكم عَنْ قِلَىً لكمْ ... ولكنَّ ما يقضى فسوفَ يكونُ
واسمُ المفعولِ منه : مَقْلِيّ . والأصلُ مَقْلُوْي . فأُدْغِمَ ك مَرْمِيّ قال :
3530 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَلسْتُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ
ولا قالِ
أي : لا يَبْغُضُني غيري ولا أَبْغَضُه . وغَلِط بعضُهم فَجَعَلَ ذلك مِنْ قولهم
قلا اللحمَ أي : شواه ، فكأنه : قلا كَبِدَه بالبُغْض . ووَجْهُ الغَلَطِ : أنَّ
هذا من ذواتِ الياءِ ، وذَلك من ذواتِ الواوِ . ويُقال : قلا اللحمَ يَقْلُوه
قَلْواً فهو قالٍ كغازٍ ، ومَقْلُوٌّ .
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
قوله
: { الأيكة } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر « لَيْكَةَ » بلامٍ واحدةٍ وفتح
التاء . جعلوه اسماً غيرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافاً إليه « أصحاب » هنا ، وفي ص خاصة .
والباقون « الأَيْكَةِ » مُعَرَّفاً بأل موافقةً لِما أُجْمِعَ عليه في الحجر وفي
ق .
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ الناسِ في القراءةِ الأُولى . وتجرَّأَ بعضُهم على قارئها
، وسأذكر لك من ذلك طرفاً . فَوَجْهُها على ما قال أبو عُبيد : « أَنَّ لَيْكَةَ
اسمٌ للقريةِ التي كانوا فيها ، والأيْكَةَ اسمٌ للبلدِ كله . قال أبو عبيد : » لا
أُحِبُّ مفارقَةَ الخَطِّ في شيءٍ من القرآنِ إلاَّ ما يَخْرُج من كلامِ العربِ ،
وهذا ليسَ بخارجٍ من كلامِها مع صحةِ المعنى في هذه الحروفِ؛ وذلك أنَّا وَجَدْنا
في بعضِ التفسيرِ الفرقَ بين لَيْكة والأَيْكة فقيل : لَيْكة هي اسمُ القرية التي
كانوا فيها ، والأَيْكَةُ : البلادُ كلُّها فصار الفرقُ بينهما شبيهاً بما بين
بَكَّة ومَكَّة ، ورَأَيْتُهُنَّ مع هذا في الذي يقال : إنه الإِمامُ مصحفُ عثمانَ
مفتَرِقاتٍ ، فوجَدْتُ التي في الحجر والتي في ق « الأَيْكَة » ، ووَجَدْتُ التي
في الشعراءِ والتي في ص « لَيْكَة » ، ثم اجْتَمَعَتْ عليها مصاحفُ الأمصارِ بعدُ
، فلا نَعْلَمُها اختلفَتْ فيها . وقرأ أهلُ المدينةِ على هذا اللفظِ الذي
قَصَصْنا يعني بغيرِ ألفٍ ولامٍ ولا إجراءٍ « . انتهى ما قاله أبو عبيد . قال
الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقَلْتُه عنه : » هذه عبارتُه وليسَتْ سديدةَ؛
فإن اللامَ موجودةٌ في « لَيْكة » وصوابُه بغير ألفٍ وهمزةٍ « . قلت : بل هي
سديدةٌ . فإنه يعني بغيرِ ألفٍ ولامِ معرفةٍ لا مُطْلقَ لامٍ في الجملة .
وقد تُعُقِّبَ قولُ أبي عبيدٍ ، وأنكروا عليه ، فقال أبو جعفر : » أَجْمع
القرَّاءُ على خفضِ التي في الحجر وق فيجبُ أَنْ يُرَدَّ ما اخْتُلِفَ/ فيه إلى ما
اتُّفِقَ عليه إذا كان المعنى واحداً . فأمَّا ما حكاه أبو عبيدٍ مِنْ أَنَّ «
ليكَةَ » اسمُ القرية ، وأن الأَيْكَةَ اسمُ البلدِ كلِّه فشيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا
يُعْرَفُ مَنْ قاله ، ولو عُرِفَ لكان في نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ العلمِ جميعاً من
المفسِّرين والعالِمين بكلامِ العرب على خلافِه . ولا نَعْلم خلافاً بين أهلِ
اللغة أنَّ الأَيْكَة الشجرُ الملتفُّ . فأمَّا احتجاجُ بعضِ منِ احتجَّ لقراءة
مَنْ قَرَأ في هذين الموضعين بالفتح أنَّه في السَّوادِ « لَيْكة » فلا حجَّةَ فيه
. والقولُ فيه : أنَّ أصلَه : الأَيْكَة ، ثم خُفِّفَتِ الهمزةُ فَأُلْقِيَتْ
حركتُها على اللامِ فسَقَطَتْ واستَغْنَيْتَ عن ألفِ الوصلِ؛ لأنَّ اللامَ قد
تحرَّكَتْ ، فلا يجوزُ على هذا إلاََّ الخفضُ ، كما تقول : مررتُ بالأَحْمَرِ على
تحقيقِ الهمزةِ ، ثم تُخَفِّفُها فتقول : بِلَحْمَرِ فإنْ شِئْتَ كَتَبْتَه في
الخَطِّ على ما كتبتَه أولاً ، وإن شِئْتَ كَتَبْتَه بالحَذْفِ ولم يَجُزْ إلاَّ
الخفضُ ، فلذلك لا يجوزُ في « الأَيْكَةِ » إلاَّ الخفضُ .
قال
سيبويه : « واعلَمْ أنَّ كلَّ ما لم يَنْصَرِفْ إذا دَخَلَتْه الألفُ واللامُ أو
أَضَفْتَه انصرَفَ » ، ولا نعلمُ أحداً خالَف سيبويه في هذا « .
وقال المبردُ في كتاب » الخط « » كَتَبُوا في بعضِ المواضعِ « كَذَّبَ أصحابُ
لَيْكَة » بغير ألفٍ؛ لأن الألفَ تذهبُ في الوصلِ ، ولذلك غَلِطَ القارىءُ بالفتحِ
فَتَوَهَّم أنَّ « لَيْكَةَ » اسمُ شيءٍ ، وأنَّ اللامَ أصلٌ فَقَرأ : أصحابُ
ليكةَ « . وقال الفراء : » نرى والله أعلم أنها كُتِبَتْ في هذين الموضعين بتركِ
الهمزِ فسَقَطَتِ الألفُ لتحريكِ اللام « . قال مكي : تَعَقَّب ابنُ قتيبَة على
أبي عبيد فاختار » الأَيْكَةِ « بالألفِ والهمزةِ والخفضِ قال : » إنما كُتِبَتْ
بغيرِ ألفٍ على تخفيفِ الهمزِ « . قال : » وقد أجمعَ الناسُ على ذلك ، يعني في
الحجر وق ، فوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ما في الشعراء وص بما أَجْمَعوا عليه ، فما
أَجْمَعُوا عليه شاهِدٌ لما اخْتَلفوا فيه « .
وقال أبو إسحاق : » القراءة بجَرِّ قوله : « ليكةِ » وأنت تريد « الأيكة » أجودُ
مِنْ أَنْ تجعلَها « لَيْكَةَ » ، وتفتَحها؛ لأنَّها لا تنصرفُ؛ لأنَّ لَيْكَة لا
تُعَرَّفُ ، وإنما هي أَيْكة للواحدِ ، وأَيْك للجمعِ مثل : أَجَمَة وأَجَم .
والأَيْكُ : الشجرُ الملتفُّ فأجودُ القراءةِ فيها الكسرُ ، وإسقاطُ الهمزة ، لموافقة
المصحف ولا أعلمه إلاَّ قد قُرِىء به « .
وقال الفارسيُّ : » قولُ مَنْ قال « ليكةَ » ففتحَ التاءَ مُشْكِلٌ ، لأنه فَتَحَ
معِ لَحاقِ اللامِ الكلمةَ . وهذا في الامتناعِ كقولِ مَنْ قال : « مَرَرْتُ
بِلَحْمَرَ » ففتحَ الأخِرَ مع لَحاقِ لامِ المعرفةِ ، وإنما كُتِبَتْ « لَيْكَةَ
» على تخفيفِ الهمزِ ، والفتحُ لا يَصِحُّ في العربيةِ؛ لأنه فَتْحُ حرفِ
الإِعرابِ في موضع الجرِّ مع لامِ المعرفةِ ، فهو على قياسِ قَوْلِ مَنْ قال «
مررتُ بلَحْمَرَ » . ويَبْعُدُ أَنْ يفتحَ نافعٌ ذلك مع ما قال عنه ورش « .
قلت : يعني أنَّ وَرْشاً نَقَلَ عن نافعٍ نَقْلَ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها
، حيث وُجِد بشروطٍ مذكورةٍ ، ومن جملةِ ذلك : ما في سورةِ الحجر وق مِنْ لفظِ »
الأيكة « فقرَأ على قاعدتِه في السورتين بنَقْلِ الحركةِ وطَرْحِ الهمزةِ وخَفْضِ
الياءِ ، فكذلك ينبغي أَنْ يكونَ الحكمُ في هذين الموضعينِ أيضاً .
وقال الزمخشري : » قُرِىءَ « أصحابُ الأَيْكة » بالهمزة وتخفيفها وبالجرِّ على
الإِضافةِ ، وهو الوجهُ . ومَنْ قَرَأَ بالنصبِ وزعَمَ أنَّ لَيْكَة بوزنِ لَيْلة
اسمُ بلد ، فَتَوَهُّمٌ قاد إليه خطُّ المصحفِ ، وإنما كُتبت على حكمِ لفظِ اللافظ
كما يكتب أَصحاب [ النحو ] ، لأن .
.
. على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف ، وقد كُتِبَتْ في سائرِ القرآنِ على الأصلِ ،
والقصة واحدةٌ . على أنَّ لَيْكَة اسمٌ لا يُعْرَفُ . ورُوي أنَّ أصحابَ الأَيْكة
كانوا أصحابَ شجرٍ مُلْتَفٍّ وكان شجرُهم الدَّوْمَ ، يعني أنَّ مادةَ لام ي ك
مفقودةٌ في لسانِ العرب كذا قال النُّقَّابُ مِمَّنْ تَتَبَّع ذلك قال : « وهذا
كما نَصُّوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يُجامعا الجيمَ في لغةِ العربِ »
ولذلك لم يَذْكرها صاحب « الصحاح » مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ عن أبي عبيد ، ولو
كانت موجودةً في اللغةِ لذكرها مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ لشدة الاحتياجِ إليها
.
وقال الزجاج أيضاً : « أهلُ المدينة يفتحون على ما جاء في التفسيرِ : أن اسمَ
المدينة التي كان فيها شعيبٌ لَيْكة » قال أبو علي : « لو صَحَّ هذا فلِمَ/ أجمعَ
القرَّاءُ على الهمزِ في قوله : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة } [ الآية : 78 ]
في الحجر . والأَيْكة التي ذُكِرَتْ ههنا هي الأَيْكَةُ التي ذُكِرَتْ هناك . وقد
قال ابن عباس : » الأَيْكَةُ : الغَيْضَةُ « ولم يُفَسِّرْها بالمدينةِ ولا البلدِ
» .
قلت : وهؤلاء كلُّهم كأنَّهم زعموا أن هؤلاء الأئمةَ الأثباتَ إنما أَخَذوا هذه
القراءةَ مِنْ خَط المصاحفِ دونَ أفواهِ الرجالِ ، وكيف يُظَّنُّ بمثلِ أَسَنِّ
القراءِ وأعلاهُمْ إسناداً ، الآخذِ للقرآن عن جملةٍ من جُلَّة الصحابةِ أبي
الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما ، وبمثل إمامِ مكةَ شَرَّفها الله تعالى وبمثل
إمامِ المدينةِ؟ وكيف يُنْكَرُ على أبي عبيدٍ قولُه ، أو يُتَّهَمُ في نَقْلِه؟
ومَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ ، والتواتُرُ قَطْعِيٌّ فلا يُعارَضُ
بالظنِّي .
وأمَّا اختلافُ القراءةِ مع اتحادِ القصةِ فلا يَضُرُّ ذلك ، عَبَّر عنها تارةً بالقريةِ
خاصةً ، وتارةً بالمصرِ الجامعِ للقرى كلِّها ، الشاملِ هو لها . وأمَّا تفسيرُ
ابنِ عباس فلا ينافي ذلك ، لأنَّه عَبَّر عنها كَثُر فيها . ومَنْ رأى ما ذكرْتُه
من مناقبِ هؤلاء الأئمةِ في شَرْحِ « حرز الأماني » اطَّرَحَ ما طُعِنَ به عليهم ،
وعَرَفَ قَدْرهم ومكانتَهم . وقال أبو البقاء في هذه القراءةِ : « وهذا لا
يَسْتقيمُ؛ إذ ليس في الكلامِ » لَيْكة « حتى يُجْعَلَ عَلَماً . فإن ادُّعِي
قَلْبُ الهمزة لاماً فهو في غايةِ البُعْدِ » . قلت :
3531 وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ
القَناعيسِ
« أطرقْ كرا إنَّ النِّعامِ بالقرى » « مَنْ أنت وزيداً » .
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
قوله
: { الجبلة } العامَّةُ على كسرِ الجيمِ والباءِ وشَدِّ اللامِ . وأبو حُصَيْن
والأعمشُ والحسن بضمِّهما وشدِّ اللام . والسُّلمي بفتحِ الجيمِ أو كسرها مع سكون
الباء . وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ ومعناه : الخَلْقُ المتَّحِدُ الغليظُ مأخوذٌ من
الجَبَل . قال الشاعر :
3532 والمَوْتُ أعظمُ حادِثٍ ... فيما يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
وقال المهدَوِيُّ : « الجِبْلُ والجَبْلُ والجُبْلُ لغاتٌ ، وهو الجمعُ الكثيرُ
العددِ من الناس . وقيل : الجِبِلَّةُ مِنْ قولِهم : جُبِل على كذا أي : خُلِق
وطُبِع عليه . وسيأتي في يس إنْ شاء الله تعالى تمامُ الكلامِ على ذلك عند قولهِ :
{ جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] واختلافُ القراء فيه .
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
قوله : { وَمَآ أَنتَ } : جاء في قصةِ هود « ما أنت » بغير واو وهنا « وما أنت » بالواو ، فقال الزمخشري : « إذا دَخَلَتْ الواوُ فقد قُصِدَ مَعْنيان كلاهما مخالِفٌ للرسالةِ عندهم : التسخيرُ والبَشَريَّةُ ، وأنَّ الرسولَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ مُسَخَّراً ولا بَشَراً . وإذا تُرِكَتِ الواوُ فلم يُقْصَدْ إلاَّ معنىً واحدٌ وهو كونُه مُسَخَّرا ، ثم قَرَّر بكونِه بشراً » . وتقدَّم الخلافُ في « كِسَفاً » واشتقاقُه في الإِسراء .
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
قوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ } : الهاءُ تعودُ على القرآنِ ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به . وتنزيل بمعنى مُنَزَّل ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : ذو تنزيل .
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
قوله : { نَزَلَ } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص « نَزَل » مخففاً . و { الروح الأمين } مرفوعان على إسنادِ الفعلِ للروحِ ، والأمينُ نعتُه ، والمرادُ به جبريل . وباقي السبعة بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهو اللهُ تعالى . « الروحَ الأمينَ » منصوبان على المفعولِ . و « الروحُ الأمينُ » مرفوعان على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه . و « به » إمَّا متعلِّقٌ ب « نَزَلَ » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ .
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
قوله : { على قَلْبِكَ لِتَكُونَ } : قال الشيخ : الظاهرُ تعلُّقُ « على قلبِك » و « لتكون » ب « نَزَل » ولم يَذْكُرْ ما يقابلُ هذا الظاهرَ . وأكثرُ ما يُتَخيل أنَّه يجوزُ أن يتعلقا ب « تنزيل » أي : وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين على قلبك لتكون . ولكنْ فيه ضَعْفٌ من حيث الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بجملة « نَزَلَ به الروحُ » . وقد يُجاب عنه بوجهين ، أحدُهما : أنَّ هذه الجملةَ اعتراضيةٌ وفيها تأكيدٌ وتسديدٌ ، فليسَتْ بأجنبية . والثاني : الاغتفارُ في الظرفِ وعديلِه . وعلى هذا فلا يَبْعُدُ أن يجيءَ في المسألةِ بابُ الإِعمالِ؛ فإنَّ كُلاًّ من/ « تنزيل » و « نَزَل » يطلبُ هذين الجارَّيْن .
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
قوله : { بِلِسَانٍ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب المُنْذِرين أي : ليكونَ من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسانِ العربيِّ وهم : هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وإسماعيلُ ومحمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . ويجوز أن يتعلَّقَ ب « نَزَلَ » أي : نَزَلَ باللسانِ العربيِ لتنذرَ به؛ لأنه لو نَزَلَ بالأعجمي لقالوا : لِمَ نَزَل علينا ما لا نفهمُه؟ وجَوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من « به » بإعادةِ العاملِ قال : « أي : نَزَلَ بلسانٍ عربيّ أي : برسالة أو لغة » .
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
قوله : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ } : أي : وإن القرآنَ . وقيل : وإن محمداً . وفيه التفاتٌ؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم لقيل : وإنَّك لفي زُبُر . وقرأ الأعمش « زُبْرِ » بسكون الباء ، وهي مخففةٌ من المشهورةِ .
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
قوله
: { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً } : قرأ ابن عامر « تكن » بالتاء مِنْ فوقُ «
آيةٌ » بالرفع . والباقون « يكنْ » بالياء مِنْ تحتُ « آيةً » بالنصب . وابن عباس
« تكن » بالتاء مِنْ فوقُ و « آيةً » بالنصبِ . فأمَّا قراءةُ ابن عامرٍ ف « تكون
» تُحتمل أَنْ تكونَ تامةً ، وأَنْ تكونَ ناقصةً . فإن كانَتْ تامةً جاز أن يكونَ
ِ « لهم » متعلقاً بها ، و « آيةٌ » فاعلاً بها . و « أَنْ يعلَمَه » : إمَّا بدلٌ
مِنْ آية ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : أو لم يَحْدُثْ لهم علامَةُ عِلْمِ
علماءِ بني إسرائيل .
وإنْ كانَتْ ناقصةً جاز فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ اسمُها مضمراً
فيها بمعنى القصةِ ، و « آيةٌ أَنْ يَعْلَمَه » جملةٌ قُدِّم فيها الخبرُ واقعةٌ
موقعَ خبر « تكن » . الثاني : أن يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ أيضاً ، و « لهم »
خبرٌ مقدمٌ ، و « آيةٌ » مبتدأٌ مؤخر ، والجملةُ خبر « تكن » و « أَنْ يعلَمَه » :
إمَّا بدلٌ من « آيةٌ » ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي أَنْ يعلَمه . الثالث
: أَنْ يكونَ « لهم » خبرَ « تكنْ » مقدَّماً على اسمها ، و « آيةٌ » اسمُها و «
أَنْ يعلَمَه » على الوجهين المتقدِّمين : البدليةِ وخبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . الرابع :
أَنْ يكونَ « آيةٌ » اسمَها و « أَنْ يعلمَه » خبرُها . وقد اعتُرِضَ هذا : بأنه
يَلْزَمُ جَعْلُ الاسمِ نكرةً ، والخبرِ معرفةً . وقد نصَّ بعضُهم على أنه ضرورةٌ
كقوله :
3533 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يَكُ مَوْقِفٌ منكِ
الوَداعا
وقوله :
3534 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكون مزاجَها عَسَلٌ
وماءُ
وقد اعتُذِر عن ذلك : بأنَّ « آية » قد تخصَّصَتْ بقوله : « لهم » فإنه حالٌ منها
، والحال صفة ، وبأن تعريفَ الجنسِ ضعيفٌ لعمومه . وهو اعتذارٌ باطلٌ ولا ضرورةَ
تَدْعُو إلى هذا التخريجِ ، بل التخريجُ ما تقدم .
وأمَّا قراءةُ الباقينَ فواضحةٌ جداً ف « آيةً » خبرٌ مقدمٌ ، و « أَنْ يَعْلَمه »
اسمُها مؤخرٌ ، و « لهم » متعلِّقٌ بآية حالاً مِنْ « آية » .
وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فكقراءةِ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهم إلاَّ أَنْ قَالوا
} [ الأنعام : 23 ] وكقول لبيد :
3535 فمضَى وقدَّمها وكانت عادَةً ... منه إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
إمَّا لتأنيثِ الاسمِ لتأنيِث [ الخبر ] ، وإمَّا لأنه بمعنى المؤنث . ألا ترى
أنَّ « أَنْ يعلَمَه » في قوةِ « المعرفةِ » و « إلاَّ أَنْ قالوا » في قوة «
مقالتهم » وإقدامها « بإقدامتها » .
وقرأ الجحدريُّ : « أَنْ تعلمَه » بالتاء من فوق . شَبَّه البنين بجمع التكسير في
تغيُّر واحدِه صورةً ، فعامَلَ فعلَه المسندَ إليه معاملةَ فعلِه في لَحاقِ علامةِ
التأنيثِ . وهذا كقوله :
3536 قالَتْ بنو عامرٍ خالُوا بني أَسَدٍ ... يا بؤسَ للجَهْلِ ضَرَّاراً
لأَقْوامِ
وكتبوا في الرسم الكريم « عُلَمؤا » بواو الميمِ والألف . قيل : هو على لغة مَنْ
يُميل الألفَ نحو الواوِ ، وهذا كما فُعِلَ في الصلاةِ والزكاةِ .
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
قوله
: { الأعجمين } : قال صاحب « التحرير » : « الأعْجَمين جمع أعجمي بالتخفيف . ولولا
هذا التقديرُ لم يَجُزْ أَنْ يُجمعَ جَمْعَ سلامةٍ » قلت : وكان سببُ مَنْعِ جمعهِ
: أنه من بابِ أَفْعَل فَعْلاء كأَحْمر حَمْراء . والبصريون لا يُجيزون جَمْعَه
جمعَ سلامة إلاَّ ضرورةً كقوله :
3537 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حلائلَ أَسْوَدِيْنَ
وأَحْمَرينا
فلذلك قَدَّره منسوباً فخففَ الياء . وقد جعله ابنُ عطية جمعَ أَعْجَم فقال :
ألأَعْجَمون جمعُ أَعْجَمُ/ وهو الذي لا يُفْصِحُ ، وإن كان عربيَّ النسبِ يقال له
« أعجمُ » وذلك يقال للحيوانات . ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « جُرْحُ
العجماء جُبار » وأسند الطبريُّ عن عبدِ الله بن مطيع : أنه كان واقفاً بعرفةَ
وتحته جَمَلٌ فقال : جملي هذا أعجمُ ، ولو أنه أُنْزِل عليه ما كانوا يُؤْمِنون .
والعَجَمِيُّ : هو الذي نِسْبَتُه في العَجَمِ ، وإن كان أفصحَ الناسِ « .
وقال الزمخشريُّ : » الأعجمُ : الذي لا يُفْصِحُ ، وفي لسانِه عُجْمَةٌ أو
استعجامٌ . والأعجميُّ مثلُه ، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ النسَبِ توكيداً « قلت : وقد
تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا في سورة النحلِ . وقد صَرَّح أبو البقاء بمَنْع أن يكون »
الأعجمين « جمعَ » أَعْجم « وإنما هو جمعُ أعجمي مخففاً مِنْ أعجميّ ك »
الأَشْعرون « في الأشعري قال : » الأعجمين [ أي ] : الأعجميين فحذف ياءَ النسب كما
قالوا : الأشعرون أي : الأشعريُّون ، وواحدُه أعجمي ، ولا يجوز أن يكونَ جمعَ أعجم
لأنَّ مؤنثَه عَجْماء . ومثلُ هذا لا يُجْمَعُ جَمْعَ التصحيح « .
قلت : وقد تقدَّم ذلك . ففيما قال ابنُ عطية نظرٌ . وأمَّا الزمخشري فليس في
كلامِه أنه جمع أَعْجم مخففاً أو غيرَ مخففٍ ، وإنْ كان ظاهرُه أنَّه جمع أعجم
مِنْ غيرِ تخفيفٍ . ولكن الذي قاله ابن عطية تَبِعَ فيه الفراء فإنه قال : »
الأعجمين جمعَ أَعْجم أو أعجمي على حَذْفِ ياءِ النِّسَبِ كما قالوا : الأشعرين
وواحدهم أشعري . وأنشد للكميت :
3538 ولو جَهَّزْتَ قافيةً شَرُوْدا ... لقد دَخَلَتْ بيوتَ الأَشْعَريْنا
لكنَّ الفراء لا يَضُرُّه ذلك فإنه من الكوفيين . وقد قَدَّمْتُ عنهم أنهم يُجيزون
جمع أَفْعَل فَعْلاء .
و [ قرأ ] الحسن وابن مقسم « الأَعْجميِّين » بياءَي النسب ، وهي مؤيدةٌ لتخفيفِه
منه في قراءةِ العامَّة .
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
قوله : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } : أي : مثلَ ذلك ، أو الامر كذلك . والضمير في « سَلَكْناه » عائدٌ على القرآن وهو الظاهرُ أي : سلكناه في قلوبِ المجرمين ، كما سَلَكْناه في قلوبِ المؤمنين . ومع ذلك لم ينجَعْ فيهم . وقيل : عائدٌ على التكذيبِ أو الكفر .
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
قوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } : في الجملةِ وجهان ، أحدُهما : الاستئنافُ على جهةِ البيانِ والإِيضاح لِما قبله . والثاني : أنها حالٌ من الضمير في « سَلَكْناه » أي : سَلَكْناه غيرَ مُؤْمَنٍ به . ويجوز أن يكونَ حالاً من « المجرمين » لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه .
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
قوله
: { فَيَأْتِيَهُم } : و « فيقولوا » عطفٌ على « يَرَوْا » . وقرأ العامة بالياءِ
مِنْ تحتُ . والحسن وعيسى بالتاء مِنْ فوقُ . أَنَّث ضميرَ العذابِ لأنَّه في معنى
العقوبة . وقال الزمخشري : « أنَّثَ على أن الفاعل ضميرُ الساعة » . وقال الزمخشري
: « فإن قلتَ : ما معنى التعقيب في قوله : » فَيَأْتِيَهم «؟ قلت : ليس المعنى
التعقيبَ في الوجود ، بل المعنى تَرَتُّبُها في الشدَّة . كأنَّه قيل : لا
يُؤْمِنُون بالقرآنِ حتى تكونَ رُؤْيَتُهم العذابَ [ فما هو ] أشدُّ منها . ومثالُ
ذلك أن تقول : » إنْ أسَأْتَ مَقَتَك الصالحون فَمَقَتَك اللهُ « ، فإنَّك لا
تَقْصِدُ [ بهذا الترتيب ] أنَّ مَقْتَ اللهِ بعد مَقْتِ الصالحين ، وإنما قَصْدُك
إلى ترتيبِ شدَّةِ الأمرِ على المسيء » .
وقرأ الحسن « بَغَتَةً » بفتحِ الغين .
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : قد تقدَّمَ تحقيقُه . وقد تنازَعَ « أفرأيت » و « جاءهم » في قوله : « ما كانوا يُمَتَّعون » فإن أَعْمَلْتَ الثاني وهو « جاءهم » رَفَعْتَ به « ما كانوا » فاعلاً به ، ومفعولُ « أرأَيْتَ » الأولُ ضميرُه ، ولكنه حُذِفَ ، والمفعولُ الثاني هو الجملةُ الاستفهاميةُ في قوله : « ما أَغْنَى عنهم » . ولا بُدَّ مِنْ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين المفعولِ الأولِ المحذوفِ ، وهو مقدَّرٌ ، تقديره : أفرأيْتَ ما كانوا يُوْعَدُون ما أغنى عنهم تَمَتُّعُهم ، حين حَلَّ أي : الموعودُ به . ودَلَّ على ذلك قوةُ الكلامِ . وإنْ أَعْمَلَتْ الأولَ نصبْتَ به « ما كانوا يُوْعَدُون » وأَضْمَرْتَ في « جاءهم » ضميرَه فاعلاً به . والجملةُ الاستفهاميةُ مفعولٌ ثانٍ أيضاً . والعائدُ مقدرٌ على ما تقرَّرَ في الوجهِ قبلَه ، والشرطُ معترضٌ ، وجوابُه محذوفٌ . وهذا كلُّه مفهومٌ مما تقدَّم في سورةِ الأنعامِ ، وإنما ذكرْتُه هنا لأنه تقديرُ عَسِرٌ يحتاج إلى تأمُّلٍ وحسنِ صناعةٍ ، وهذا كلُّه إنَّما يتأتى على قولِنا : إنَّ « ما » استفهاميةٌ ، ولا يَضُرُّنا تفسيرُهم لها بالنفي ، فإن الاستفهامَ قد يَرِدُ بمعنى النفي . وأمَّا إذا جَعَلْتَها نافيةً حرفاً ، كما قال أبو البقاء ، فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ مفعولَ « أرأيت » الثاني لا يكونُ إلاَّ جملةً استفهاميةً كما تقرَّر غيرَ مرة .
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
قوله
: { مَآ أغنى } : يجوز أَنْ تكونَ « ما » استفهاميةً في محلِّ نصبٍ مفعولاً
مقدَّماً ، و « ما كانوا » هو الفاعلُ ، و « ما » مصدريةٌ بمعنى : أيُّ شيءٍ أغنى
عنهم كونَهم متمتِّعين . وأَنْ تكونَ نافيةً والمفعولُ محذوفٌ أي : لم يُغْنِ عنهم
تمتُّعُهم شيئاً .
وقرىء « يُمْتَعُون » بإسكانِ الميم وتخفيف التاءِ ، مِنْ أَمْتَع اللهُ زيداً
بكذا .
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
قوله
: { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } : يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ل « قريةٍ » ،
وأَنْ تكونَ حالاً منها . وسَوَّغَ ذلك سَبْقُ النفيِ . وقال الزمخشري : « فإنْ
قلتَ : كيف عَزَلْتَ الواوَ عن الجملةِ بعدَ » إلاَّ « ولم تُعْزَلْ عنها في قولِه
: { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر
: 4 ] قلت : الأصلُ عَزْلُ الواوِ؛ لأنَّ الجملةَ صفةٌ ل » قريةٍ « . وإذا
زِيْدَتْ فلتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ كما قي قوله : { سَبْعَةٌ
وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] . قال الشيخ : » ولو قدَّرنا « لها
مُنْذِرُون » جملةً لم يَجُزْ أن تجيءَ صفةً بعد « إلاَّ » .
ومذهبُ الجمهورِ أنه لا تجيءُ الصفةُ بعد « إلاَّ » معتمدةً على أداةِ الاستثناءِ
نحو : ما جاءَني أحدٌ إلاَّ راكبٌ . وإذا سُمِع مثلُ هذا خَرَّجوه على البدلِ ، أي
: إلاَّ رجلٌ را كبٌ . ويَدُلُّ على صحةِ هذا المذهبِ أنَّ العربَ تقولُ : « ما
مررتُ بأحدٍ إلاَّ قائماً » ولا يُحْفَظُ عنهم « إلاَّ قائمٍ » بالجرِّ . فلو كانت
الجملةُ صفةً بعد « إلاَّ لَسُمِعَ الجرُّ في هذا . [ وأيضاً فلو كانَتْ الجملةُ
صفةً للنكرة لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفةِ بعد » إلاَّ « يعني نحو : » ما مررتُ
بزيدٍ إلاَّ العاقلِ « ] .
ثم قال : » فإنْ كانَتِ الصفةُ غيرَ معتمدةٍ على الأداةِ جاءَتِ الصفةُ بعد «
إلاَّ » نحو : « ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمروٍ » . التقدير : ما جاءني
أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ . وأمَّا كونُ الواوِ تُزاد لتأكيد وَصْلِ الصفةِ
بالموصوفِ فغيرُ معهودٍ في عبارةِ النَّحْويين . لو قلتَ : « جاءني رجلٌ وعاقلٌ »
أي : « رجلٌ عاقلٌ » لم يَجُزْ . وإنما تدخل الواوُ في الصفاتِ جوازاً إذا عُطِفَ
بعضُها على بعضٍ ، و تَغَايَرَ مدلُولها نحو : مررت بزيدٍ الشجاعِ والشاعرِ .
وأمَّا { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] فتقدَّم الكلامُ عليه « .
قلت : أمَّا كونُ الصفةِ لا تقعُ بعد » إلاَّ « معتمدةً ، فالزمخشريُّ يختارُ غيرَ
هذا ، فإنَّها مسألةً خلافيةً . وأمَّا كونُه لم يُقَلْ » إلاَّ قائماً « بالنصبِ
دونَ » قائم « بالجرِّ فذلك على أحدِ الجائزين وليس فيه دليلٌ على المَنْعِ مِنْ
قَسيمِه . وأمَّا قولُه » فغيرُ معهودٍ من كلامِ النحويين « فمَمنوعٌ . هذا ابنُ
جني نَصَّ عليه في بعضِ كتبه . وأمَّا إلزامُه أنها لو كانَتِ الجملةُ صفةً بعد »
إلاَّ « للنكرةٍ لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفة بعد » إلاَّ « فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ
ذلك مختصٌّ بكونِ الصفةِ جملةً . وإذا كانت جملةً تعذَّر كونُها صفةً للمعرفةِ . وإنما
اختصَّ ذلك بكونِ الصفةِ جملةً؛ لأنها لتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ ، والتأكيد لائقٌ
بالجملةِ . وأمَّا قولُه : » لو قلتَ : جاءني رجلٌ وعاقلٌ لم يَجُزْ « فمُسَلَّمٌ
، ولكن إنما امتنع ذلك في جملةً ، فإنَّ اللَّبْسَ مُنْتَفٍ . وقد تقدَّم {
سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } فَلْيُلْتَفَتْ إليه ثَمَّة .
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
قوله
: { ذكرى } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مفعولٌ مِنْ أجله . وإذا كانَتْ
مفعولاً مِنْ أجلهِ ففي العاملِ فيه وجهان ، أحدهما : « مُنْذِرُوْن » ، على أنَّ
المعنى : مُنْذِرون لأجلِ الموعظةِ والتذكرةِ . الثاني : « أَهْلَكْنا » . قال
الزمخشري : « والمعنى : وما أهلَكْنا مِنْ أهلِ قريةٍ ظالمين إلاَّ بعدَما
ألزَمْناهم الحُجَّةَ بإرسالِ المُنْذَرِين إليهم ليكون [ إهلاكُهم ] تذكرةً
وعبرةَ لغيرِهم فلا يَعْصُوا مثلَ عصيانِهم » ثم قال : « وهذا الوجهُ عليه
المُعَوَّل » .
قال الشيخ « وهذا لا مُعَوَّلَ عليه؛ فإنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ ما قبل » إلاَّ «
لا يعمل فيما بعدها ، إلاَّ أَنْ يكونَ مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعاً له
غيرَ معتمدٍ على الأداة نحو : » ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٌ من عمروٍ « ، والمفعولُ
له ليس واحداً من هذه . ويتخرَّج مذهبُه على مذهبِ الكسائي والأخفشِ ، وإن كانا لم
يَنُصَّا على المفعولِ له بخصوصيَّته » . قلت : والجواب ما تقدَّم قبلَ ذلك مِنْ
أنَّه يختارُ مذهبَ الأخفش .
الثاني : من الأوجهِ الأُوَلِ : أنَّها في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : هذه
ذكرى . وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً . الثالث : أنها صفةٌ ل مُنْذِرُوْن : إمَّا على
المبالغةِ ، وإمَّا على الحذفِ أي : مُنْذروْن ذَوو ذكرى ، أو على وقوعِ المصدرِ
وقوعَ اسمِ الفاعلِ أي : مُنْذِرون مُذكِّرون . وقد تقدَّم تقريرُ ذلك . الرابع :
أنها في محلِّ نصبٍ على الحال أي : مُذَكِّرين ، أو ذوي ذكرى ، أو جُعِلوا نفسَ
الذكرى مبالغةً . الخامس : أنها منصوبةٌ على المصدرِ المؤكِّد . وفي العاملِ فيها
حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : لفظُ « مُنْذِرُون » لأنَّه مِنْ معناها فهما ك «
قَعَدْتُ جلوساً » . والثاني : أنه محذوفٌ مِنْ لفظِها أي : تَذْكُرون ذِكْرى .
وذلك المحذوفُ صفةٌ ل « مُنْذِرون » .
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
قوله
: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } : العامَّةُ على الياء/ ورفعِ النونِ ، وهو
جمعُ تكسيرِ . وقرأ الحسن البصري وابن السَّمَيْفع والأعمش بالواوِ مكانَ الياءِ ،
والنونُ مفتوحةٌ إجراءً له مُجْرى جمعِ السلامة . وهذه القراءةُ قد رَدَّها جمعٌ
كثيرٌ من النحويين . قال الفراء : « غَلِطَ الشيخُ ظنَّ أنها النونُ التي على
هِجاءَيْن » . وقال النضر بن شميل : « إنْ جاز أن يُحْتَجَّ بقولِ العَجَّاجِ
ورؤبةَ فهلا جازَ أَنْ يُحْتَجَّ بقولِ الحسنِ وصاحبِه يعني محمد بن السميفع ، مع
أنَّا نعلُم أنَّهما لم يُقْرآ به إلاَّ وقد سَمِعا فيه » . وقال النحاس : « هو
غَلَطٌ عند جميعِ النَّحْويين » . وقال المهدويُّ : « هو غيرُ جائزٍ في العربيةِ »
. وقال أبو حاتم : « هي غلطٌ منه أو عليه » .
وقد أَثْبَتَ هذه القراءةَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ ، ودفعوا عنها الغَلَطَ ، فإنَّ
القارىءَ بها من العلمِ بمكانٍ مَكينٍ ، وأجابوا عنها بأجوبةٍ صالحةٍ . فقال :
النضر بن شميل : « قال يونس بن حبيب : سمعتُ أعرابياً يقول : » دَخلتُ بساتينَ من
ورائِها بساتُون « فقلت : ما أشبَه هذا بقراءةِ الحسنِ » وخرَّجها بعضُهم على أنها
جمعُ شَيَّاط بالتشديد مِثالَ مبالغةٍ ، مثلَ « ضَرَّاب » و « قتَّال » ، على أَنْ
يكونَ مشتقاً من شاط يَشِيْط أي : أَحْرَقَ ، ثم جُمِع جَمْعَ سلامةٍ مع تخفيفِ
الياءِ فوزنُه فَعالُون مخففاً مِنْ فعَّالين بتشديد العين . ويَدُلُّ على ذلك
أنَّهما وغيرَهما قرؤُوا بذلك أعني بتشديدِ الياءِ . وهذا منقولٌ عن مؤرج السدوسي
ووجَّهها آخرون : بأنَّ أخِرَه لَمَّا كان يُشْبِهُ آخرَ يَبْرِين وفِلَسْطين
أُجْري إعرابُه تارةً على النونِ ، وتارةً بالحرفِ كما قالوا : هذه يَبْرِينُ
وفِلَسْطينُ ويبرونَ وفلسطونَ . وقد تقدَّم القولُ في ذلك في البقرة .
والهاء في « به » تعود على القرآن .
وجاءت هذه الجمل الثلاث منفيةً على أحسنِ ترتيبٍ نفى أولاً تنزيلَ الشياطين به؛
لأنَّ النفيَ في الغالبِ يكونُ في الممكنِ ، وإنْ كان الإِمكانُ هنا منتفياً . ثم
نفى ثانياً انْبِغاءَ ذلك أي : ولو فُرِضَ الإِمكانُ لم يكونوا أهلاً له ، ثم نفى
ثالثاً الاستطاعةَ والقُدْرَةَ ، ثم ذكر علةَ ذلك ، وهي انعزالهُم عن السَّماع من
الملأِ الأعلى؛ لأنهم يُرْجَمُون بالشُّهُبِ لو تَسَمَّعوا .
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
قوله : { فَتَكُونَ } : منصوبٌ في جوابِ النهي .
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
قوله : { فَإِنْ عَصَوْكَ } : في هذه الواوِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها ضميرُ الكفارِ أي : فإنْ عَصاك الكفارُ في أَمْرِك لهم بالتوحيدِ . الثاني : أنها ضميرُ المؤمنين أي : فإنْ عَصاك المؤمنون في فروعِ الإِسلام وبعضَ الأحكامِ بعد تصديقِك والإِيمان برسالتِك . وهذا في غاية البعد .
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
قوله : { وَتَوكَّلْ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر بالفاءِ . والباقون بالواوِ . فأمَّا قراءةُ الفاءِ جَعَلَ فيها ما بعد الفاءِ كالجزاءِ لِما قبلها مُتَرَتِّباً عليه ، وقراءةُ الواوِ لمجرَّدِ عَطْفِ جملةٍ على أخرى .
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
قوله : { الذي يَرَاكَ } : يجوزُ أنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو منصوبَه على المدحِ ، أو مجرورَهُ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ .
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
قوله : { وَتَقَلُّبَكَ } : عطفٌ على مفعول « يَراك » أي : ويرى تَقَلُّبَك . وهذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ جناح بن حبيش بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً ، وكسر اللامِ ورفعِ الباء جَعَلَه فعلاً ، ومضارع « قَلَّب » بالتشديد ، وعَطَفْه على المضارعِ قبلَه ، وهو « يراك » أي : الذي يُقَلِّبُك .
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
قوله : { على مَن تَنَزَّلُ } متعلِّقٌ « ب » تَنَزَّلُ « بعده . وإنما قُدِّمَ لأنَّ له صدَر الكلامِ ، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله مِنْ فعلِ التنبئةِ لأنَّها بمعنى الِعلْمِ . ويجوزُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لاثنين فتسدَّ الجملةُ المشتملةُ على الاستفهام مَسَدَّ الثاني؛ لأن الأولَ ضميرُ المخاطبين ، وأَنْ تكونَ متعدِّيةً لثلاثة فتسدَّ مَسَدَّ اثنين . وقرأ البزي » على مَنْ تَّنَزَّلُ « بتشديد التاء [ مِنْ تنزَّل ] في الموضعين ، والأصل تَتَنَزَّلُ بتاءَيْن ، فأدغم . والإِدغامُ في الثاني سَهْلٌ لتحرُّكِ ما قبل المُدْغَمِ ، وفي الأول صعوبةٌ لسكونِ ما قبلَه ، وهو نونُ » مَنْ « وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] .
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
قوله
: { يُلْقُونَ } : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على « الشياطين » ، فيجوزُ أَنْ تكونَ
الجملةُ مِنْ « يُلْقُون » حالاً ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً . ومعنى إلقائِهم السمعَ
: إنصاتُهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُّوا شيئاً ، أو يُلْقُوْن الشيءَ
المسموعَ إلى الكهنةِ . ويجوزُ أَنْ يعودَ على { كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } من حيثُ
إنَّه جَمْعٌ في المعنى . فتكونُ الجملة : إمَّا مستأنفةً ، وإمَّا صفةً ل « كلِّ
أَفَّاكٍ » ومعنى الإِلقاء ما تقدَّم .
وقال الشيخ حالَ عَوْدِ الضميرِ على « الشياطين » ، وبعدما ذكر المعنيين
المتقدِّمين في إلقاءِ السَّمْعِ قال : « فعلى معنى الإِنْصاتِ يكونُ » يُلْقُون «
استئنافَ إخبار ، وعلى إلقاءِ المسموع إلى الكَهَنَةِ يُحْتَمَلُ الاستئنافُ ،
واحْتُمِلَ الحالُ من » الشياطين « أي : تَنَزَّل على كلِّ أَفَّاكٍ أثيمٍ
مُلْقِِيْنَ ما سَمِعُوا » . انتهى وفي تخصيصه الاستئنافَ بالمعنى الأولِ ،
وتجويزِه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ؛ لأنَّ جوازَ الوجهين جارٍ في المعنَيَيْن
فيُحتاج في ذلك إلى دليلٍ .
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
قوله
: { يَتَّبِعُهُمُ } : قد تقدَّمَ أن نافعاً يقرأ بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء
في سورة الأعراف عند قولِه : { لاَ يَتَّبِعُوكم } [ الأعراف : 193 ] والفرقُ بين
المخفَّفِ والمثقَّلِ ، فَلْيُنْظَرْ ثَمَّة . وسكَّن الحسنُ العينَ ، ورُوِيَتْ
عن أبى عمروٍ ، وليسَتْ ببعيدةِ عنه ك { يَنْصُرْكم } [ آل عمران : 160 ] وبابِه .
وروى هارونُ عن بعضِهم نصبَ العينِ وهي غلط . والقولُ بأنَّ الفتحةَ للإِتباعِ
خطأٌ .
والعامَّةُ على رَفْعِ « الشعُراءُ » بالابتداءِ . والجملةُ بعدَه الخبرُ . وقرأ
عيسى بالنصبِ على الاشتغال .
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
قوله
: { يَهِيمُونَ } : يجوزُ أنْ تكون هذه الجملةُ خبرَ « أنَّ » . وهذا هو الظاهرُ؛
لأنَّه مَحَطُّ الفائدةِ . و « في كل وادٍ » متعلقٌ به . ويجوزُ أَنْ يكونَ « في
كل وادٍ » هو الخبرَ ، و « يهيمون » حالٌ من الضميرِ في الخبر . والعاملُ ما
تَعَلَّق به هذا الخبرُ أو نفسُ الجارِّ ، كما تقدَّم في نظيرِه غيرَ مرة . ويجوزُ
أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً بعد خبرٍ عند مَنْ يرى تعدُّدَ الخبرَ مطلقاً وهذا من
بابِ الاستعارةِ البليغةِ والتمثيلِ الرائعِ ، شبَّه جَوَلانَهم في أفانينِ القولِ
وطرائقِ المدحِ والذمِّ والتشبيهِ وأنواعِ الشعرِ بِهَيْمِ الهائمِ في كلِّ وادٍ
وطريقٍ .
والهائِمُ : الذي يَخْبِط في سَيْرِه ولا يَقْصِدُ موضعاً معيَّناً . هام على وجهه
: أي ذَهَبَ . والهائِمُ : العاشِقُ من ذلك . والهيمانُ : العَطْشانُ . الهُيام :
داءُ يأخذُ الإِبلَ من العطشِ . وجمل أَهْيَمُ ، وناقةٌ هَيْماءُ . والجمع فيهما :
هِيم . قال تعالى : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } [ الواقعة : 55 ] . والهَيام من
الرَّمْلِ : اليابسُ كأنهم تَخَيَّلُوا فيه معنى العطشِ .
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قوله
: { أَيَّ مُنقَلَبٍ } : منصوبٌ على المصدرِ . والناصبُ له « يَنْقَلِبُون »
وقُدِّمَ لتضمُّنِهِ معنى الاستفهامِ . وهو مُعَلِّق ل « سَيَعْلَمُ » سادَّاً
مَسَدَّ مفعولَيْها . وقال أبو البقاء : « أيَّ مُنْقَلبٍ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أَيْ
: يَنْقلبون انقلاباً أيَّ مُنْقَلَبٍ . ولا يعملُ فيه » سَيَعْلم « لأنَّ
الاستفهامَ لا يعمل فيه ما قبله » . وهذا الذي قاله مردودٌ : بأنَّ أَيَّاً
الواقعةَ صفةً لا تكونُ استفهاميةً وكذلك الاستفهاميةُ لا تكونُ صفةً لشيء ، بل
هما قِسْمان ، كلٌّ منهما قِسْمٌ برأسِه . و « أيّ » تنقسمُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ وهي
: الشرطيةُ ، والاستفهاميةُ ، والموصولةُ ، والصفةُ والموصوفةُ عند الأخفش خاصة ،
والمناداةُ نحو : يا أيُّهذا ، والمُوْصِلَةُ لنداءِ ما فيه أل نحو : يا أيُّها
الرجلُ ، عند غير الأخفش . والأخفشُ يجعلُها في النداءِ موصولةً . وقد أَتْقَنْتُ
ذلك في « شرح التسهيل » .
وقرأ ابن عباس والحسن « أي مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون » بالفاءِ والتاءِ من فوقُ .
من الانفلاتِ ، ومعناها واضحٌ . والله أعلم .
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
قوله
: { وَكِتَابٍ } : العامَّةُ على جَرِّه عطفاً على القرآن ، وهل المرادُ نفسُ
القرآنِ فيكونَ من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ ، والمدلولُ واحدٌ ، أو اللوحُ
المحفوظُ أو نفس السورةِ؟ وقيل : القرآنُ والكتابُ عَلَمان للمنزَّلِ على نبيِّنا
محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فهما كالعبَّاسِ وعَبَّاس . يعني فتكون أل فيهما
لِلَمْحِ الصفةِ . وهذا خطأٌ؛ إذ لو كانا عَلَمَيْن لما وُصِفا بالنكرةِ ، وقد
وُصِف « قرآن » بها في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [
الآية : 1 ] في سورة الحجر . ووُصِفَ بها « كتاب » كما في هذه الآية الكريمةِ . والذي
يُقال : إنه نكرةٌ هنا لإِفادةِ التفخيم ، كقوله تعالى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ }
[ القمر : 55 ] .
وقرأ ابن أبي عبلة « كتابٌ مبينٌ » برفعِهما ، عطفٌ على « آياتُ » المُخْبِرِ بها
عن « تلك » . فإن قيل : كيف صَحَّ أَنْ يُشارَ لاثنين ، أحدُهما مؤنثٌ ، والآخرُ
مذكرٌ باسم إشارةِ المؤنثِ ولو قلتَ : « تلك هندٌ وزيدٌ » لم يَجُزْ؟ فالجواب من
ثلاثةِ أوجه : أحدُهما : أنَّ المرادَ بالكتابِ هو الآياتُ؛ لأنَّ الكتابَ عبارةٌ
عن آياتٍ مجموعةٍ فلمَّا كانا شيئاً واحداً/ صَحَّتْ الإِشارةُ إليهما بإشارةِ
الواحدِ المؤنثِ . الثاني : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ أي : وآياتُ كتابٍ مبين .
الثالث : أنه لَمَّا وَليَ المؤنثَ ما يَصِحُّ الإِشارةُ به إليه اكتُفي به
وحَسُنَ ، ولو أُوْلِيَ المذكرَ لم يَحْسُنْ . ألا تراك تقولُ : « جاءَتْني هندٌ
وزيدٌ » ولو حَذَفْتَ « هند » أو أَخَّرْتَها لم يَجُزْ تأنيثُ الفعلِ .
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قوله : { هُدًى وبشرى } : يجوزُ فيهما أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ يكونا منصوبَيْنِ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِهما أي : يَهْدي هُدَىً ويُبَشِّر بُشْرَى . الثاني : أن يكونا في موضعِ الحالِ من « آياتُ » . والعاملُ فيها ما في « تلك » مِنْ معنى الإِشارةِ . الثالث : أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ من « القرآن » . وفيه ضعفٌ من حيث كونُه مضافاً إليه . الرابع : أَنْ يكونَ حالاً من « كتاب » في قراءة مَنْ رَفَعه . ويَضْعُفُ في قراءة مَنْ جرَّه لِما تقدَّمَ مِنْ كونِه في حكمِ المضافِ إليه لعَطْفِه عليه . الخامس : أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في « مبين » سواءً رَفَعْتَه أم جَرَرْتَه . السادس : أَنْ يكونا بَدَلَيْن مِنْ « آيات » . السابع : أَنْ يكونا خبراً بعد خبر . الثامن : أن يكونا خبرَيْ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي هدىً وبشرى .
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
قوله
: { الذين يُقِيمُونَ } : يجوزْ أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً للمؤمنين ، أو
بدلاً ، أو بياناً ، أو منصوبه على المدحِ أو مرفوعَه على تقديرِ مبتدأ أي : هم
الذين .
قوله : { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } « هم » الثاني تكريرٌ للأول على سبيلِ
التوكيدِ اللفظيَّ . وفهم الزمخشري منه الحَصْرَ أي : لا يُوقِنُ بالآخرةِ حقَّ
الإِيقانِ إلاَّ هؤلاءِ المتصفونَ بهذه الصفاتِ . و « بالآخرةِ » متعلقٌ ب «
يُوقنون » ولا يَضُرُّ الفصلُ بينهما بالتوكيدِ . وهذه الجملةُ يُحتمل أَنْ تكونَ
معطوفةً على الصلةِ داخلةً في حَيِّزِ الموصولِ ، وحينئذٍ يكون قد غايَرَ بين
الصلتين لمعنىً : وهو أنَّه لَمَّا كان إقامةُ الصلاةِ وإيتاءُ الزكاةِ ممَّا
يتكرَّرُ ويتجدَّدُ أتى بالصلتين جملةً فعليةً فقال : « يُقيمون » و « يُؤْتُون »
. ولمَّا كان الإِيقانُ بالآخرةِ أمراً ثابتاً مطلوباً دوامُه أتى بالصلةِ جملةً
اسميةً مكَّرراً فيها المسندُ إليه مُقَدَّماً فيها المُوْقَنُ به الدالُّ على
الاختصاصِ ليدلَّ على الثباتِ والاستقرارِ . وجاء بخبرِ المبتدأ في هذه الجملةِ
فعلاً مضارعاً ، دلالةً على أنَّ ذلك مُتَجَدِّدٌ كلَّ وقتٍ غيرُ منقطعٍ . ويُحتمل
أَنْ تكونَ مستأنفةً غيرَ داخلةٍ في حَيِّز الموصولِ .
قال الزمخشري : « ويُحتمل أَنْ تَتِمَّ الصلةُ عنده » أي : عند قولِه : « وهم » .
قال « وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً » يريد أنَّ الصلةَ تَمَّتْ عند « الزكاةِ »
فيجوزُ في ذلك . وإلاَّ فكيف يَصِحُّ إذا أخَذْنا بظاهرِ كلامِه أنَّ الصِّلةَ
تَمَّتْ عند قولِه « وهم »؟ وتسميتُه هذا اعتراضاً يعني من حيث المعنى ، وسياقُ
الكلام ، وإلاَّ فالاعتراضُ في الاصطلاحِ لِما يكون بين متلازِمَيْنِ من مبتدأ
وخبرٍ ، وشرطٍ وجزاءٍ ، وقَسَمٍ وجوابِه ، وتابعٍ ومتبوعٍ ، وصلةٍ وموصولٍ ، وليس
هنا شيءٌ من ذلك .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
قوله
: { الأخسرون } في أَفْعَل قولان ، أحدهما : وهو الظاهرُ أنَّها على بابِها من
التفضيل ، وذلك بالنسبةِ إلى الكفَّار من حيث اختلافُ الزمانِ والمكانِ . يعني :
أنَّهم أكثرُ خُسْراناً في الآخرةِ منهم في الدنيا ، أي : إنَّ خُسْرانَهم في
الآخرة أكثرُ من خُسْرانِهم في الدنيا . وقال جماعةٌ منهم الكرماني : « هي هنا للمبالغةِ
لا للشِّرْكة؛ لأن المؤمنَ لا خُسْران له في الآخرةِ البتة » . وقد تقدَّم جوابُ
ذلك : وهو أنَّ الخسرانَ راجعٌ إلى شيءٍ واحدٍ . باعتبارِ اختلافِ زمانهِ و مكانِه
.
وقال ابن عطية : « الأَخْسرون جمع » أَخْسَر « لأنَّ أَفْعَلَ صفةٌ لا يُجْمَعُ ،
إلاَّ أن يُضافَ فَتَقْوى رتبتُه في الأسماء ، وفي هذا نظرٌ » . قال الشيخ : « ولا
نظرَ في أنَّه يُجمع جَمْعَ سلامةٍ أو جمعَ تكسيرٍ إذا كان بأل ، بل لا يجوزُ فيه
إلاَّ ذلك ، إذا كان قبله ما يُطابِقُه في الجمعيَّةِ . فتقول : » الزيدون هم
الأفضلون والأفاضل « و » الهندات هنَّ الفُضْلَياتُ « ، والفُضُلُ . وأمَّا قوله :
» لا يُجْمَعُ إلاَّ أَنْ يُضَافَ « فلا يَتَعَيَّنُ إذ ذاك جَمْعُه ، بل إذا
أُضيف إلى نكرةٍ لا يجوزُ جَمْعُه ، وإن أضيف إلى معرفةٍ جاز في الجمعُ والإِفرادُ
» .
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
قوله : { لَتُلَقَّى } : « لَقِيَ » مخفَّفاً يتعدى لواحدٍ ، وبالتضعيف يتعدى لاثنين فأُقيم أَوَّلُهما هنا مُقامَ الفاعلِ ، والثاني « القرآنَ » . وقول من قال : إنَّ أصلَه تَلَقَّنَ بالنون/ تفسيرُ معنىً فلا يَتَعَلَّقُ به مُتَعَلَّقٌ ، فإنَّ النونَ أُبْدِلَتْ حرفَ علةٍ .
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
قوله
: { إِذْ قَالَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار اذكُرْ أو تَعَلَّمْ مقدَّراً
مدلولاً عليه ب عَليم أو ب حَليم . وفيه ضعفٌ لتقيُّدِ الصفةِ بهذا الظرفِ .
قوله : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قرأ الكوفيون بتنوين « شهاب » على أنَّ قَبَساً بدلٌ
مِنْ « شهاب » أو صفةً له؛ لأنه بمعنى مَقْبوس كالقَبَضِ والنَّقَضِ . والباقون
بالإِضافةِ على البيانِ؛ لأن الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه . والشِّهابُ :
الشُّعلةُ . والقَبَس : القطعةُ منها ، تكونُ في عُوْدٍ وغيرِ عُوْد . و « أَوْ »
على بابِها من التنويع . والطاء في « تَصْطَلُون » بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال لأنه
مِنْ صَلِيَ بالنار .
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
قوله
: { نُودِيَ } : في القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ
موسى ، وهو الظاهرُ . وفي « أَنْ » حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها
المُفَسِّرَةُ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول . والثاني : أنها الناصبةُ للمضارعِ ،
ولكنْ وُصِلَتْ هنا بالماضي . وتقدَّم تحقيقُ ذلك ، وذلك على إسقاطِ الخافضِ أي :
نُوْدي موسى بأَنْ بُورِك . الثالث : أنها المخففةُ ، واسمُها ضميرُ الشأنِ ، و «
بُوْرِك » خبرُها ، ولم يَحْتَجْ هنا إلى فاصلٍ؛ لأنه دعاءٌ ، وقد تقدَّم نحوُه في
النور في قوله : { أَنْ غَضِب } [ النور : 9 ] في قراءته فعلاً ماضياً .
قال الزمخشري : « فإن قلتَ : هل يجوزُ أن تكونَ المخففةَ من الثقيلةِ ، والتقدير :
بأنَّه بُورك . والضميرُ ضميرُ الشأنِ والقصةِ؟ قلت : لا لأنه لا بُدَّ مِنْ » قد
« . فإنْ قلتَ : فعلى إضمارِها؟ قلت : لا يَصِحُّ لأنها علامةٌ ولا تُحْذَفُ » .
انتهى . فمنع أَنْ تكونَ مخففةً لِما ذًُكِر ، وهذا بناءً منه على أَنَّ «
بُوْرِكَ » خبرٌ لا دعاءٌ . أمَّا إذا قُلْنا : إنه دعاءٌ كما تقدَّم في النورِ
فلا حاجةَ إلى الفاصلِ كما تقدَّم . وقد تقدَّم فيه استشكالٌ : وهو أنَّ الطلبَ لا
يَقَعُ خبراً في هذا البابِ فكيف وَقَعَ هذا خبراً ل « أَنْ » المخففةِ وهو
دُعاءٌ؟
الثاني : من الأوجهِ الأُوَلِ : أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ نفسُ « أَنْ بُوْرِكَ
» على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي : بأَنْ بُوْرِكَ . و « أَنْ » حينئذٍ : إمَّا ناصبةٌ
في الأصلِ ، وإمَّا مخففةٌ .
الثالث : أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعلِ أي : نُودي النداءُ ، ثم فُسِّر
بما بعدَه . ومثلُه { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات
لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
قوله : { مَن فِي النار } « مَنْ » قائمٌ مقامَ الفاعلِ ل « بُوْرك » . وبارَكَ
يتعدى بنفسِه ، ولذلك بُني للمفعولِ . يقال : بارَكَكَ اللهُ ، وبارَكَ عليكَ ،
وبارَكَ فيك ، وبارك لكَ ، وقال الشاعر :
3539 فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً ... وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب
إذ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبدُ الله بن الزبير :
3540 فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ ... إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ
وقال آخر :
3541 بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْ ... رِكَ نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ
والمرادُ ب « مَنْ » : إمَّا الباري تعالى ، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي : مَنْ
قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار . وقيل : المرادُ به موسى والملائكةُ ، وكذلك بمَنْ
حولَها . وقيل : المرادُ ب « مَنْ » غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي
حولَها .
قوله : { وَسُبْحَانَ الله } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه من تتمَّةِ النداءِ أي :
نُوْدِي بالبركةِ وتَنْزِيْهِ ربِّ العزَّةِ . أي : نُودي بمجموعِ الأمرَيْنِ .
الثاني : أنه من كلامِ اللهِ تعالى مخاطِباً لنبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ
، وهو على هذا اعتراضُ بين أثناءِ القصةِ . الثالث : أنَّ معناه : وبُوْرِك مَنْ
سَبَّح اللهَ . يعني أنه حَذَفَ « مَنْ » وصلَتها وأبقى معمولَ الصلةِ إذ التقدير
: بُوْرِكَ مَنْ في النار ومَنْ حَوْلَها ، ومَنْ قال : سبحان الله و « سُبْحانَ »
في الحقيقةِ ليس معمولاً ل « قال » بل لفعلٍ مِنْ لفظِه ، وذلك الفعلُ هو المنصوبُ
بالقول .
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
قوله
: { إِنَّهُ أَنَا الله } : في اسمِ « إنَّ » وجهان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الشأن .
و { أَنَا الله } مبتدأ وخبرُه ، و { العزيز الحكيم } صفتان لله . والثاني : أنه
ضميرٌ راجعٌ إلى ما دلَّ عليه ما قبله ، يعني : أنَّ مُكَلِّمَكَ أنا ، و « الله »
بيانٌ ل « أنا » . واللهُ العزيزُ الحكيمُ صفتان للبيانِ . قاله الزمخشري . قال
الشيخ : « وإذا حُذِفَ الفاعلُ وبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ فلا يجوزُ أَنْ يعودَ
الضميرُ على ذلك/ المحذوفِ ، إذ قد غُيِّرَ الفعلُ عن بنائِه له . وعُزِمَ على
أَنْ لا يكونَ مُحَدَّثاً عنه ، فَعَوْدُ الضميرِ إليه مِمَّا يُنافي ذلك؛ إذ
يصيرُ مُعْتَنَىً به » .
قلت : وفيه نظرٌ؛ لأنَّه قد يُلْتَفَتُ إليه . وقد تقدَّم ذلك في قوله في البقرة {
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } [ الآية : 178 ] ثم قال : « وأداءٌ إليه » قيل : أي : الذي
عفا ، وهو وليُّ الدمِ ، على ما تقدَّم تحريره . ولَئِنْ سُلِّم ذلك فالزمخشريُّ
لم يَقُلْ : إنه عائدٌ على ذلك الفاعلِ ، إنما قال : راجعٌ إلى ما دَلَّ عليهِ ما
قبلَه ، يعني مِن السِّياقِ .
وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ » رَبّ « أي : إنَّ الرَّبَّ أنا
الله ، فيكون » أنا « فَصْلاً ، أو توكيداً ، أو خبراً إنَّ ، واللهُ بدلٌ منه » .
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
قوله
: { وَأَلْقِ } : عطفٌ على ما قبلَه من الجملةِ الاسميةِ الخبريةِ . وقد تقدَّم
أنَّ سيبويهِ لا يَشْترط تناسُبَ الجملِ ، وأنه يُجيز « جاء زيدٌ ومَنْ أبوك »
وتقدَّمت أدلَّتُه في أول البقرة . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ علامَ عَطَفَ
قولَه : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } ؟ قلت : على قولِه » بُوْرِكَ « لأنَّ المعنى :
نُوْدِيَ أَنْ بُوْرِكَ . وقيل له : أَلْقِ عَصاك . والدليلُ على ذلك قولُه : »
وأَنْ أَلْقِ عَصاك « بعد قولِه » يا موسى إنَّه أنا اللهُ « على تكريرِ حرفِ
التفسيرِ كما تقول : » كتْبْتُ إليه أَنْ حُجَّ واعْتَمِرْ « وإنْ شِئْتَ : أَنْ
حُجَّ وأَنِ اعْتَمِرْ » . قال : الشيخ : « وقولُه : » إنه معطوفٌ على « بُوْرِكَ
» منافٍ لتقديرِه « وقيل له : » أَلْقِ عصاك « لأَنَّ هذه جملةٌ معطوفةٌ على »
بُوْرِكَ « وليس جُزْؤها الذي هو معمول » وقيل « معطوفاً على » بُوْرِكَ « ، وإنما
احتاج إلى تقديرِ » وقيل له : أَلْقِ « لتكونَ جملةً خبريةً مناسِبَةً للجملةِ
الخبريةِ التي التي عُطِفَتْ عليها . كأنه يرى في العطفِ تناسُبَ الجملِ
المتعاطفةِ . والصحيحُ أنَّه لا يُشْتَرَطُ ذلك » ثم ذكرَ مذهبَ سيبويه .
قوله : { تَهْتَزُّ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ هاء « تَراها » لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ
.
قوله : { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانيةً ، وأَنْ تكونَ حالاً
من ضمير « تَهْتَزُّ » فتكونَ حالاً متداخلةً . وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد
« جَأَنٌّ » بهمزةٍ مكانَ الألفِ ، وتقدَّم تقريرُ هذا في آخرِ الفاتحةِ عند {
وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] .
قوله : { وَلَمْ يُعَقِّبْ } يجوز أن يكونَ عطفاً على « ولى » ، وأَنْ يكونَ حالاً
أخرى . والمعنى : لم يَرْجِعْ على عَقِبِه . كقوله :
3542 فما عَقَّبوا إذ قيلَ : هل مَنْ مُعَقِّبٍ ... ولا نَزَلُوا يومَ الكَريهةِ
مَنْزِلا
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
قوله
: { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ
المرسلين مَعْصُومون من المعاصي . وهذا هو الظاهرُ الصحيحُ . والثاني : أنه متصلٌ
. وِلأهلِ التفسيرِ فيه عباراتٌ ليس هذا موضعَها . وعن الفراء : أنَّه متصلٌ . لكن
من جملةٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : وإنما يَخاف غيرُهم إلاَّ مَنْ ظَلَمَ . وردَّه
النحاس : بأنه لو جاز هذا لجازَ « لا أضرب القوم إلاَّ زيداً » أي : وإنما أَضْرِبُ
غيرَهم إلاَّ زيداً ، وهذا ضدُّ البيانِ والمجيءُ بما لا يُعْرَفُ معناه .
وقَدَّره الزمخشري ب « لكن » . وهي علامةٌ على أنه منقطعٌ ، وذكر كلاماً طويلاً .
فعلى الانقطاعِ يكونُ منصوباً فقط على لغةِ الحجاز . وعلى لغةِ تميمٍ يجوزُ فيه
النَصبُ والرفعُ على البدلِ من الفاعلِ قبلَه . وأمَّا على الاتصالِ فيجوزُ فيه
الوجهان على اللغتين ، ويكون الاختيارُ البدلَ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ .
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم « ألا » بفتح الهمزة وتخفيفِ اللامِ جعلاها حرفَ
تنبيهٍ . و « مَنْ » شرطيةٌ ، وجوابُها { فَإِنِّي غَفُورٌ } .
والعامَّةٌ على تنوينِ « حُسْناً » . ومحمد بن عيسى الأصبهاني غيرَ منوَّن ، جعله
فُعْلى مصدراً كرُجْعَى فمنعَها الصرفَ لألفِ التأنيثِ . وابنُ مقسم بضم الحاء
والسين منوناً . ومجاهد وأبو حيوة ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ بفَتْحِهما . وقد تقدَّم
تحقيقُ القراءتين في البقرة .
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
قوله
: { تَخْرُجْ } : الظاهرُ أنه جوابٌ لقولِه « أَدْخِلْ » أي : إنْ أَدْخَلْتَها تَخْرُجْ
على هذه الصفةِ ، وقيل : في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه : وأَدْخِلْ يدَك تَدْخُلْ ،
وأَخْرِجْها تَخْرُجْ . فَحَذَفَ من الثاني ما أَثْبَتَه في الأولِ ، ومن الأولِ
ما أَثْبته في الثاني . وهذا تقديرُ ما لا حاجةَ إليه .
قوله : { بَيْضَآءَ } حالٌ مِنْ فاعلِ « تَخْرُجْ » . و { مِنْ غَيْرِ سواء }
يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً أخرى ، أو مِن الضميرِ في « بَيْضاء » أو صفةً ل «
بَيْضاءَ » .
قوله : { فِي تِسْعِ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنهُ حالٌ ثالثة . قال أبو البقاء .
يعني : مِنْ فاعل يَخْرُجْ « / أي : آيةً في تسعِ آياتٍ . كذا قدَّره ، والثاني :
أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي : اذهَبْ في تسعِ . وقد تَقَدَّم اختيارُ الزمخشري لذلك
في أولِ هذه الموضوعِ عند ذِكْر البَسْملةِ ، ونَظَّره بقولِ الآخرِ :
3543 وقُلْتُ إلى الطَعامِ فقالَ منهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقولهم : » بالرَّفاهِ والبنين « ، وجَعَلَ هذا التقديرَ أعربَ وأحسنَ . الثالث :
أَنْ يتعلَّقَ بقولِه : » وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ « . قال الزمخشري : » ويجوزُ
أَنْ يكونَ المعنى : وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ يَدك في تسع آياتٍ أي : في جملةِ
تسعِ آياتٍ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : كانَتِ الآياتُ إحدى عشرةَ منها اثنتان : اليدُ
والعَصا . والتِّسْعُ : الفَلْقُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضفادِعُ
والدَّمُ والطَّمْسَةُ والجَدْبُ في بَواديهم ، والنُّقْصانُ في مزارِعهم « انتهى
. وعلى هذا تكونُ » في « بمعنى » مع « لأنَّ اليدَ والعَصا حينئذٍ خارِجتان مِن
التِّسْع ، وكذا فعلَ ابنُ عطية ، أعني أنه جَعَلَ » في تِسْع « متصلاً ب » أَلْقِ
« و » أَدْخِلْ « إلاَّ أنَّه جَعَلَ اليدَ والعَصا مِنْ جملةِ التسعِ . وقال : »
تقديرُه نُمَهِّد لكَ ذلك ، ونُيَسِّر في [ جملةِ ] تسعِ « .
وجَعَلَ الزجاجُ أنَّ » في « بمعنى » مِنْ « قال : كما تقول : خُذْ لي من الإِبلِ
عشراً فيها فَحْلان أي : منها فَحْلان » .
قولُه : { إلى فِرْعَوْنَ } هذا متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به « في تسعِ » ، إذا لم
تَجْعَلْه حالاً ، فإنْ جَعَلْناه حالاً عَلَّقْناه بمحذوفٍ ، فقدَّره أبو البقاء
« مُرْسَلاً إلى فرعون » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه كونٌ مقيدٌ وسبَقَه إلى هذا التقديرِ
الزجاجُ ، وكأنهما أرادا تفسيرَ المعنى دونَ الإِعرابِ . وجَوَّزَ أبو البقاء
أيضاً أن تكونَ صفةً لآيات ، وقدَّره : « واصلةً إلى فرعونَ » . وفيه ما تقدَّم .
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
قوله : { مُبْصِرَةً } : حالٌ ، ونَسَبَ الإبصارَ إليها مجازاً؛ لأنَّ بها تُبْصِرُ ، وقيل : بل هي مِنْ أَبْصَرَ المنقولةِ بالهمزةِ مِنْ بَصِرَ أي : إنها تُبْصِرُ غيرَها لِما فيها من الظهور . ولكنه مجازٌ آخرُ غيرُ الأولِ ، وقيل : هو بمعنى مفعول نحو : ماءٌ دافِقٌ أي : مَدْفُوق . وقرأ علي بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصادِ أي : على وزنِ « أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ » ذاتُ سِباع ، ونصبُها على الحالِ أيضاً ، وجَعَلها أبو البقاء في هذه القراءةِ [ مفعولاً مِنْ أجله . وقد تَقَدَّم ذلك ] .
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قوله
: { واستيقنتهآ } : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ معطوفةً على الجملةِ قبلَها .
ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « جَحَدُوا » وهو أبلغُ في الذَّمِّ .
واسْتَفْعل هنا بمعنى تَفَعَّل نحو : اسْتَعظم واسْتَكْبر ، بمعنى : تَعَظَّم
وتَكَبَّر .
قوله : { ظُلْماً وَعُلُوّاً } يجوزُ أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ أي : ظالِمين
عالِين ، وأَنْ يكونا مفعولاً مِنْ أجلِهما أي : الحامِلُ على ذلك الظُّلْمُ
والعُلُوُّ . وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة « وعِليَّاً » بكسر العينِ
واللامِ ، وقَلْبِ الواوِ ياءً . وقد تقدَّم تحقيقُه في « عِتيَّا » في مريم .
ورُوي عن الأعمش وابن وثاب ضمُّ العين كما في « عِتيّا » . وقرىء و « غُلُوَّاً »
بالغينِ مُعَجَمَةً ، وهو قريبٌ من هذا المعنى .
قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } « كيف » خبرٌ مقدمٌ « وعاقبةُ » اسمُها ،
والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنها مُعَلِّقةٌ ل « انْظُرْ » بمعنى
تَفَكَّرْ .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
قوله : { وَقَالاَ } : قال الزمخشري : فإن قلتَ : أليسَ هذا موضعَ الفاءِ دونَ الواو كقولك : « أَعْطَيْتُه فَشَكر » و « مَنَعْتُه فَصَبرَ »؟ قلت : بلى . ولكنَّ عَطْفَه بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاه بعضُ ما أَحْدَثَ فيهما إيتاءُ العِلْمِ وشيءٌ من مَواجبِهِ ، فأضمرَ ذلك ثُمَّ عَطَفَ عليه التحميدَ ، كأنه قال : « ولقد آتيناهُما عِلْماً فَعَمِلا به ، وعَلَّماه وعَرَفاه حَقَّ مَعْرِفَتِه وقالا : » الحمد « انتهى . وإنما نَكَّر » عِلْماً « تَعْظيماً له أي : علماً سَنِيَّاً ، أو دلالةً على التبعيضِ لأنه قليلٌ جداً بالنسبةِ إلى عِلْمِه تعالى .
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
قوله
: { مِنَ الجن } : وما بعَده بيانٌ لجنودِه ، فيتعلَّق بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ
يكونَ هذا الجارُّ حالاً ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً .
قوله : { يُوزَعُونَ } أي : يُمْنَعون ويُكَفُّون . والوَزْعُ : الكَفُّ والحَبْسُ
، يقال : وَزَعَه يَزَعُهُ فهو وازِعٌ ومَوْزُوْع ، وقال عثمان رضي الله عنه : «
ما يَزَعُ السلطانُ أكثرُ مِمَّا يَزَغُ القرآنُ » وعنه : / « لا بُدَّ للقاضي
مِنْ وَزَغَةٍ » .
وقال الشاعر :
3544 ومَن لم يَزَعْه لُبُّه وحَياؤُه ... فليس له مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْه وازِعُ
وقوله : { أوزعني أَنْ أَشكُرَ } بمعنى : أَلْهِمْني ، من هذا؛ لأن تحقيقَه :
اجعلني أَزَعُ نفسي عن الكفر .
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
قوله
: { حتى إِذَآ } : في المُغَيَّا ب « حتى » وجهان ، أحدهما : هو يُوْزَعُون؛
لأنَّه مُضَمَّنٌ معنى : فهم يسيرون ممنوعاً بعضُهم مِنْ مفارقةِ بعضٍ حتى إذا .
والثاني : أنَّه محذوفٌ أي : فسارُوا حتى . وتقدَّم الكلامُ في « حتى » الداخلةِ
على « إذا » هل هي حرفُ ابتداءٍ أو حرفُ جرّ؟
قوله : « وادي » متعلقٌ ب « أَتَوْا » وإنما عُدِّيَ ب « على » لأنَّ الواقعَ كذا؛
لأنَّهم كانوا محمولِيْنَ على الرِّيح فهم مُسْتَعْلُون . وقيل : هو مِنْ قولِهم :
أَتَيْتُ عليه ، إذا اسْتَقْصَيْتَه إلى آخره والمعنى : أنهم قَطَعوا الواديَ
كلَّه وبَلَغُوا آخرَه . ووقف القُراءُ كلُّهم على « وادِ » دونَ ياءٍ اتِّباعاً
للرَّسْمِ ، ولأنها محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الوصلِ ، ولأنها قد
حُذِفَتْ حيث لم تُحْذَفْ لالتقاءِ الساكنين نحو : { جَابُواْ الصخر بالواد } [
الفجر : 9 ] فَحَذُفها وقفاً وقد عُهِدَ حَذْفُها دونَ التقاء ساكنين أولى . إلاَّ
الكسائيَّ فإنه وَقَفَ بالياء قال : « لأنَّ المُوْجِبَ للحذفِ إنما هو التقاءُ
ساكنين بالوصلِ ، وقد زالَ فعادَتِ اللامُ » ، واعتَذَر عن مخالفةِ الرسمِ بقوةِ
الأصلِ .
والنَّمْلُ اسمُ جنسٍ معروفٌ ، واحده نَمْلة ، ويقال : نُمْلَة ونُمْلٌ بضمِّ
النونِ وسكونِ الميم ، ونُمُلَةٌ ونُمُلٌ بضمهما ونَمُلَة بالفتح والضم ، بوزن
سَمُرة ، ونَمُل بوزن رَجُل . واشتقاقُه من التنمُّلِ لكثرةِ حركتِه . ومنه قيل
للواشي : المُنْمِل ، يقال : أَنْمَلَ بين القومِ يُنْمِلُ أي : وشى ، ونَمَّ
لكثرةِ تَرَدُّدِه وحركتِه في ذلك ، قال :
3545 ولَسْتُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ ... ولا مُنْمِشٍ فيهمُ مُنْمِلُ
ويقال أيضاً : نَمَل يَنْمُلُ فهو نَمِل ونَمَّال . وتَنَمَّل القوم : تفرَّقوا
للجمع تفرُّقَ النملِ . وفي المثل : « أجمعُ مِنْ نملة » . والنَّّمْلَةُ أيضاً :
فُرْجَةٌ تخرج في الجَنْب تشبيهاً بها في الهيئة ، والنَّمْلَة أيضاً : شَقٌّ في
الحافِر ، ومنه : فَرَسٌ مَنْمولُ القوائم . والأَنْمُلَة طرفُ الإِصْبَعِ مِنْ
ذلك لِدِقَّتِها وسُرْعَةِ حركتِها . والجمعُ : أَنامِل .
قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ
التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى ، فإذا أُريد
تمييزُ ذلك قيل : نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو : حَمامةٌ ويَمامةٌ . وحكى
الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه . أنه وقف على قتادةَ وهو يقول : سَلُوني . فأمَرَ
مَنْ سأله عن نملةِ سليمان : هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب . فقيل لأبي حنيفة
في ذلك؟ فقال : كانَتْ أنثى . واستدل بلَحاقِ العلامةِ . قال الزمخشري : « وذلك
أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ
فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى ، وهو وهي »
انتهى .
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال : « ولَحاقُ التاءِ في » قالَتْ « لا يَدُلُّ
على أنَّ النملةَ مؤنثٌ ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر : » قالت نملة «؛ لأنَّ »
نملة « وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث ، وما كان
كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ
من الحيوان ، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ
عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا
للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس » ، قال : «
وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ .
وكونُه
أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ
المؤنث ، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين
. ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من
اللهِ تعالى « قال : » وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب « قالَتْ » ولو
كان ذَكَراً لقيل : قال ، فكلامُ النحاةِ على خِلافه ، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ
إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى « ، قال : » وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/
النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من
المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة ، وأمَّا
تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ . لا تقول : هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ ، وأمَّا
النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار
إلاَّ التأنيثُ ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو : المرأة ، أو غيرِ
العاقل كالدابَّة ، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من
ذلك ، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية
« انتهى .
أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ : من حيث إنَّ التأنيثَ : أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ ،
واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ البتة ، بدليلِ أنه لا يجوز : » قامَتْ
ربعةُ « وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز : قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ ،
فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ ، وإنما تعيَّن لفظُ
التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً : وهو أنَّا ننظر إلى ما
عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ
فهناك له هذا الاعتبارُ ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ ، وإنما نَبَّهْتُك
على القَدْرِ المحتاج إليه .
وأمَّا قولُه : » وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ « يعني : لا
يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ
الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ . قد يمكن الاطلاعُ على ذلك ، وإنَّ
الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ
النملةِ والقملةِ . ومَنْعُه أيضاً أن يقال : هو الشاةُ ، وهو الحمامة ، ممنوعٌ .
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ
رَجُل وسَمُرَة .
وسليمان
التميمي بضمتين فيهما . وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ .
قوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه نهيٌ . والثاني : أنه
جوابٌ للأمرِ ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان ، أحدُهما : أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا
تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ ، وفي
المعنى للنَّمْلِ أي : لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم : « لا أُرَيَنَّك
ههنا » . والثاني : أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه ، وهي ادْخلوا . وقد تَعَرَّضَ
الزمخشريُّ لذلك فقال : « فإنْ قلتَ : لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل : يُحتمل أَنْ
يكونَ جواباً للأمرِ ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ . والذي جَوَّزَ أَنْ
يكونَ بدلاً أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم ، فيَحْطِمَنَّكم ، على طريقةِ » لا
أُرَيَنَّك ههنا « أرادَتْ : لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان ، فجاءت بما هو أبلغُ .
ونحوُه » عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها « . قال الشيخ : أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ
للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ ، مع أنه يُحْتمل أن
يكونَ اشتئنافَ نهي » قلت : يعني أنَّ الأعمشَ قرأ « لا يَحْطِمْكم » بجزم الميمِ
، دونَ نونِ توكيدٍ .
قال : وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك ، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ ، وإذا
لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ
الأمرِ إلاَّ في الشعرِ . وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ
النحوِ . ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر :
3546 نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى ... حديثاً متى يأتِك الخيرُ
يَنْفَعا
وقول الآخر :
3547 فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ ... ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا
قال سيبويه : « وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب »
قال : « وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ » لا يَحْطِمَنَّكم «
مخالِفٌ لمدلولِ » ادْخُلوا « . وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى : لا تكونوا حيث أنتم
فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ . نعم لو كان
اللفظُ القرآنيُّ : لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ
الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ . وأمَّا قوله : » إنه أراد
لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه « فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ ،
بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه . وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : خيلُ
سليمانَ وجنودُه ، أو نحو ذلك ، مما يَصِحُّ تقديره » . انتهى .
أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال
: « وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار » .
وأمَّا
مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول
إليه المعنى . وأمَّا قوله : « فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ » لم يُسَوِّغ ذلك ،
وإنما فَسَّر المعنى . وعلى تقدير ذلك فقد قيل به . وجاء الخطابُ في قولها : «
ادْخُلوا » كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم .
وقرأ أُبَيٌّ « ادْخُلْنَ » ، « مَساكِنَكُنَّ » ، « لا يَحْطِمَنْكُنَّ » بالنونِ
الخفيفةِ جاءَ به على الأصل . وقرأ شهر بن حوشب « مَسْكَنَكُمْ » بالإِفراد . وقرأ
حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ ، وفتحِ الحاءِ ، وتشديدِ
الطاءِ والنونِ ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد . وعن الحسن أيضاً قراءاتان : فتحُ
الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها . والأصل : لا يَحْتَطِمَنَّكم
فأَدْغَم . وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في « لا يَهِدِّي » ونحوِه .
وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية . والحَطْمُ : الكَسْر . يقال منه :
حَطَمْتُه فحَطِمَ ثم اسْتُعمِل لكلِّ كَسْرٍ مُتَناهٍ . والحُطامُ : ما تكسَّر
يُبْساً ، وغَلَبَ على الأشياءِ التافهةِ . والحُطَمُ : السائق السريع كأنه
يَحْطِمُ الإِبل قال :
3548 قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ... ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ
ولا بَجَزَّارٍ على ظهرِ وَضَمْ ... والحُطَمَةُ : من دَرَكاتِ النار . ورجلٌ
حُطَمة : للأكولِ . تشبيهاً لبطنه بالنارِ كقوله :
3549 كأنمَّا في جَوْفِه تَنُّوْرُ ...
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قوله
: { ضَاحِكاً } : قيل : هي حالٌ مؤكدةٌ؛ لأنَّها مفهومةٌ مِنْ تَبَسَّمَ . وقيل :
بل هي حالٌ مقدرةٌ فإنَّ التبسُّمَ ابتداءُ الضحكِ . وقيل : لَمَّا كان التبسُّمُ
قد يكون للغَضَبِ ، ومنه : تَبَسَّم تَبَسُّمَ الغَضْبانِ ، أتى بضاحكاً مبيِّناً
له . قال عنترة :
3550 لمَّا رآني قد قَصَدْت أُرِيْدُه ... أبدى نواجِذَه لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتَبَسَّمَ تفعَّل ، بمعنى بَسَمَ المجرد . قال :
3551 وتَبْسِمُ عن ألمى كأن مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ له
نَدِي
وقال بعض المُوَلَّدين :
3552 كأنَّما تَبْسِمُ عن لؤلؤٍ ... مُنَضَّدٍ أو بَرَدٍ أو أَقَاحِ
وقرأ ابن السمفيع « ضَحِكاً » مقصوراً . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مصدرٌ
مؤكِّدٌ لمعنى تَبَسَّم لأنه بمعناه . والثاني : أنه في موضعِ الحالِ فهو في
المعنى كالذي قبله . الثالث : أنه اسمُ فاعل كفَرِح؛ وذلك لأنَّ فِعْلَه على فَعِل
بكسر العين وهو لازم فَهو كفَرحِ وبَطرِ .
قوله : { أَنْ أَشْكُرَ } مفعولٌ ثانٍ لأَوْزِعْني لأنَّ معناه أَلْهِمْني . وقيل
: معناه اجْعَلني أَزَعُ شكرَ نعمتك أي : أكُفُّه وأمنعُه حتى لا ينفلتَ مني ، فلا
أزال شاكراً . وتفسير الزَّجاج له ب « امْنَعْني أن أكفَر نعمتَك » من بابِ تفسيرِ
المعنى باللازم .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
قوله
: { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } : هذا استفهامُ توقيفٍ ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاء
القَلْب ، وأنَّ الأصلَ : ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قويٌّ دونه . والهُدْهُدُ
معروفٌ . وتصغيره على هُدَيْهِد وهو القياس . وزعم بعضُ النحويين أنه تُقْلَبُ
ياءُ تصغيره ألفاً ، فيقال : هُداهِد . وأنشد :
3553 كهُداهِدٍ كَسَرَ الرماةُ جناحَه ... يَدْعو بقارعةِ الطريق هَدِيْلا
كما قالوا دُوابَّة وشُوابَّة ، في : دُوَيْبَّة وشُوَيْبَّة . ورَدَّه بعضُهم :
بأن الهُداهِد الحَمامُ ، الكثيرُ ترجيعِ الصوتِ . تزعُمُ العربُ أن جارحاً في
زمان الطُّوفانِ ، اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ تسمَّى الهديل . قالوا : فكلُّ حمامةٍ
تبكي فإنما تبكي على الهديل .
قوله : { أَمْ كَانَ } هذه « أم » المنقطعةُ وقد تقدَّم الكلامُ فيها . وقال ابن
عطية : « قوله مالي لا أرى الهدهد » مَقْصَدُ الكلامِ : الهُدْهُدُ غاب ، ولكنه
أَخَذَ اللازمَ عن مُغَيَّبِه : وهو أَنْ لا يَراه ، فاستفهم على جهةِ التوقُّفِ
عن اللازمِ ، وهذا ضَرْبٌ من الإِيجاز . والاستفهامُ الذي في قوله : « مالي » نابَ
منابَ الألفِ التي تحتاجُها « أم » . قال الشيخ : « فظاهرُ كلامِه أنَّ » أم «
متصلةٌ ، وأن الاستفهامَ الذي في قوله » مالي « ناب منابَ ألفِ الاستفهام . فمعناه
: أغاب عني الآن فلم أَرَهُ حال التفقُّد أم كان مِمَّنْ غابَ قبلُ ، ولم أَشْعُرْ
بغَيْبَتِه؟ » . قلت : لا يُظَّنُّ بأبي محمد ذلك ، فإنه لا يَجْهَلُ أنَّ شَرْطَ
المتصلةِ تَقَدُّمُ همزةِ الاستفهامِ أو التسويةِ لا مطلقُ الاستفهامِ .
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
قوله
: { عَذَاباً } : أي : تَعْذِيباً ، فهو اسمُ مصدرٍ أو مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد ك
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقد كتبوا « أو
لأَاذْبَحَنَّه » بزيادةِ ألفٍ بين لامِ ألفٍ والذال . ولا يجوز أن يُقرأ بها .
وهذا كما تقدم أنهم كتبوا « ولأَاوْضَعوا خلالَكم » بزيادة ألف بين لام ألف والواو
.
قوله : { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي } قرأ ابنُ كثيرٍ بنون التوكيد المشددة ، بعدها نونُ
الوقايةِ . وهذا هو الأصلُ واتَّبع مع ذلك رَسْمَ مصحفِه . والباقون بنونٍ
مشدَّدَةٍ فقط . الأظهرُ أنها نونُ التوكيدِ الشديدةِ ، تُوُصِّل بكسرِها لياءِ
المتكلم . وقيل بل هي نونُ التوكيدِ الخفيفةِ أُدْغِمَتْ في نونِ الوقايةِ . وليس
بشيءٍ لمخالَفَةِ الفعلين قبلَه . وعيسى بن عمر بنونٍ مشددةٍ مفتوحة لم يَصِلْها
بالياء .
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
قوله
: { فَمَكَثَ } : قرأ عاصم بفتحِ الكافِ . والباقون بضمِّها . وهما لغتان . إلاَّ
أنَّ الفتحَ أشهرُ ، ولذلك جاءت الصفة على « ماكِث » دون مَكِيْث . واعْتُذِر عنه
بأنَّ فاعِلاً قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو : حَمُض فهو حامِض ، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ
، وفَرُهَ فهو فارِهٌ .
قوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي : مُكْثاً غيرَ بعيدٍ
، وللزمان أي : زماناً غيرَ بعيدٍ ، وللمكان أي : مكاناً غيرَ بعيدٍ . والظاهرُ
أنَّ الضمير في « مكث » للهُدْهُدِ . وقيل : لسليمان عليه السلام .
قوله : { مِن سَبَإٍ } : قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ ، جعلاه اسماً
للقبيلة ، أو البُقْعَةِ ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث . وعليه
قولُه :
3554 مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِها العَرِما
وقرأ قنبل بسكونِ الهمزةِ ، كأنه نوى الوقفَ وأجرى الوَصْلَ مُجْراه . والباقون
بالجَرِّ والتنوينِ ، جعلوه اسماً للحَيِّ أو المكانِ . وعليه قولُه :
3555 الوارِدُون وتَيْمٌ في ذُرا سَبَأٍ ... قد عَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ
وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ . وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه
من البديع : « التجانُسُ » وهو تَجْنيسُ التصريفِ . وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ
كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ . ومثلُه : { تَفْرَحُونَ فِي
الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] وفي الحديث : «
الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ » .
وقال آخر :
3556 للهِ ما صَنَعَتْ بنا ... تلك المَعاجِرُ والمحَاجِرْ
وقال الزمخشري : « وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } مِنْ جنسِ الكلامِ الذي
سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع . وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ ،
بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعاً ، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ ، يَحْفَظُ معه
صحةَ المعنى وسَدادَه ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظاً
ومعنىً . ألا ترى أنه لو وُضِع مكان » بنَبَأ « » بخبر « لكان المعنى صحيحاً ، وهو
كما جاء أصَحُّ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال » . يريد
بالزيادة : أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من
الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ ، وعلى ما لا شأنَ له ،
فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ . وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحوِ { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ
} في علم البديع بالتَّرْدِيد . قاله صاحب « التحرير » . وقال غيرُه : إنَّ
الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها ، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ
الأولِ إلى النصف الثاني . فمثالُ الأولِ قولُه :
3557 سَريعٌ إلى ابنِ العَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَه ... وليس إلى داعي الخَنا بسَريعِ
ومثالُ الثاني قولُه :
3558 والليالي إذا نَأَيْتُمْ طِوالٌ ... والليالي إذا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في روايةٍ « مِنْ سَبَاً » مقصوراً منوَّناً . وعنه أيضاً : « مِنْ
سَب