5.
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
==============
الصافات - تفسير ابن كثير
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)
{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) }
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة، شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا، عليه السلام، وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة، [فإنه] (1) لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة، فدعى ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه عليهم؛ ولهذا قال: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } أي: فلنعم المجيبون (2) له. { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } ، وهو التكذيب والأذى، { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال: الناس كلهم من ذرية نوح [عليه السلام] (3) .
وقد روى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال: "سام، وحام ويافث".
وقال (4) الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ أن نبي الله (5) صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم".
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة-
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، أ: "المجيبون كنا له".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت : "النبي"
(7/22)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
عن قتادة، به (1) .
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ: وقد روي عن عمران (2) بن حُصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (3) والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأوَل، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام. ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة، فولد سامُ العربَ وفارسَ والروم، وولد يافثُ الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حامُ القبطَ والسودان والبربر. وروي عن وهب بن منبه نحو هذا، والله أعلم .
وقوله: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } ، قال ابن عباس: يذكر بخير.
وقال مجاهد: يعني لسان صدق للأنبياء كلهم.
وقال قتادة والسدي: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال الضحاك: السلام والثناء الحسن .
وقوله تعالى: { سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم.
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي: هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله، نجعل (4) له لسانَ صدْق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك .
ثم قال: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي المصدقين الموحدين الموقنين، { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ } أي: أهلكناهم، فلم تبْق (5) منهم عين تطرف، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
{ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ } يقول: من أهل دينه. وقال مجاهد: على منهاجه وسنته .
{ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال ابن عباس: يعني شهادة أن لا إله إلا الله.
__________
(1) المسند (5/9) وسنن الترمذي برقم (3931) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(2) في س: "عمر".
(3) حديث عمران بن حصين: رواه الطبراني في المعجم الكبير (18/146) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين وسمرة بن جندب به.
(4) في ت، س: "يجعل".
(5) في ت، أ: "يبق".
(7/23)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
وقال (1) ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن عَوْف: قلت لمحمد بن سِيرين: ما القلب السليم؟ قال: يعلم (2) أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن: سليم من الشرك، وقال عروة: لا يكون لعانا .
وقوله: { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } : أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال: { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } قال قتادة: [يعني]: (3) ما (4) ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم غيره؟!
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (98) }
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فَهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه، { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم: يعني قتادة: أنه نظر في (5) السماء متفكرا فيما يلهيهم (6) به، فقال: { إِنِّي سَقِيمٌ } أي: ضعيف.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة (7) ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [الأنبياء: 62]، وقوله في سارة: هي أختي" (8) فهو حديث مخرج في الصحاح (9) والسنن من طرق (10) ، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت: "تعلم".
(3) زيادة من س، أ.
(4) في ت: "فما".
(5) في ت، س: "إلى".
(6) في س: "يكيدهم".
(7) في ت: "فأما الحديث الذي رواه البخاري وأهل السنن عن أبي هريرة"
(8) تفسير الطبري (23/45) في السنن الكبرى برقم (8374) من طريق حماد بن أسامة به.
(9) في ت: "الصحيح".
(10) جاء من طريق أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة: رواه البخاري في صحيحه برقم (5084) زمسلم في صحيحه برقم (2371) من طريق جرير بن حازم به، ورواه البخاري في صحيحه برقم (3358) من طريق حماد بن زيد به. وجاء من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: رواه الترمذي في السنن برقم (3166) من طريق محمد بن إسحاق به، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8375) من طريق شعيب بن أبي حمزة به.
(7/24)
تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: "إن [في] (1) المعاريض لمندوحة عن الكذب" (2)
وقال (3) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرَة (4) ، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال: "ما منها كلمة إلا ما حمل بها عن دين الله تعالى، فقال: { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقال { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } ، وقال للملك حين أراد المرأة: هي أختي" (5) .
قال سفيان في قوله: { إِنِّي سَقِيمٌ } يعني: طعين. وكانوا يفرون من المطعون، فأراد أن يخلو بآلهتهم. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } ، فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج. فقال: إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: رأى نجما طلع فقال: { إِنِّي سَقِيمٌ } كابد نبي الله عن دينه (6) { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } .
وقال آخرون: فقال (7) : { إِنِّي سَقِيمٌ } بالنسبة إلى ما يستقبل، يعني: مرض الموت.
وقيل: أراد { إِنِّي سَقِيمٌ } أي: مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره وقال: { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. رواه ابن أبي حاتم.
ولهذا قال تعالى: { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي: إلى عيدهم، { فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء، { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتُبرّك لهم فيه.
قال السدي: دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم (8) في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه [صنم آخر] (9) أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا: إذا كان حين نرجع وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام، إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: { أَلا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ } ؟!
__________
(1) زيادة من ت، س، أ.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/199) من طريق داود بن الزبرقان عن سعيد عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين مرفوعا. ورواه أيضا من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن مطرف عن عمران بن الحصين موقوفا وقال: "هذا هو الصحيح موقوفا".
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "بإسناده".
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (3148) حدثنا ابن أبي عمر عن سفيان به فذكر حديث الشفاعة مطولا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" وعلي بن زيد بن جدعان أجمع الأئمة على ضعفه.
(6) في ت، أ: "ذنبه".
(7) في ت، س: "أراد".
(8) في أ: "هن".
(9) زيادة من ت، أ.
(7/25)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
وقوله: { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } : قال الفراء: معناه مال عليهم ضربا باليمين.
وقال قتادة والجوهري: فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
قوله هاهنا: { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } : قال مجاهد وغير واحد: أي يسرعون.
وهذه القصة هاهنا مختصرة، وفي سورة الأنبياء مبسوطة، فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم، عليه السلام، هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم، فقال: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } ؟! أي: أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم؟! { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله خلقكم وعملكم. ويحتمل أن تكون بمعنى "الذي" تقديره: والله خلقكم والذي تعملونه. وكلا القولين متلازم، والأول أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب "أفعال العباد"، عن علي بن المديني، عن مروان (1) بن معاوية، عن أبي مالك، عن ربْعِيّ بن حراش، عن حذيفة مرفوعا قال: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" (2) . وقرأ بعضهم: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }
فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر، فقالوا: { ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء، ونجاه الله من النار وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها؛ ولهذا قال تعالى: { فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ }
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) }
__________
(1) في ت، س: "هارون".
(2) خلق أفعال العباد (ص73).
======================
الصافات - تفسير القرطبي
الآية: 75 {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ }
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا } من النداء الذي هو الاستغاثة؛ ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26]. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } قال الكسائي: أي {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } له كنا. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } يعني أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين على ما تقدم. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو الغرق. {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه؛ فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ }. وقال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح: فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالبة والترك واللان والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك. وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل؛ بدليل قوله: {ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء: 3]. وقوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] فعلى هذا معنى الآية: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } دون ذرية من كفر أنا أغرقنا أولئك
(15/89)
قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، فإنه محبب إلى الجميع؛ حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما: {وتركنا عليه في الآخرين} يقال: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ } أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية؛ يعني يسلمون له تسليما ويدعون له؛ وهو من الكلام المحكي؛ كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا }. [النور:1]. والقول الآخر أن يكون المعنى وأبقينا عليه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ } أي سلامة له من أن يذكر بسوء {في الآخرين}. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} منصوب بـ {تركنا} أي تركنا عليه ثناء حسنا سلاما. وقيل: {فِي الْآخِرِينَ } أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به؛ قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } [الشورى: 13]. وقال سعيد بن المسيب: وبلغني أنه من قال حين يسمي {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد. وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل". وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة؛ فقال وسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أي شيء" فقال: لدغتني عقرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك".
قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب؛ أي جزاء كذلك. {إنه من عبادنا المؤمنين} هذا بيان إحسانه. قوله تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي من كفر. وجمعه أُخر. والأصل فيه أن يكون معه {من} إلا أنها حذفت؛ لأن المعنى معروف، ولا يكون آخرا إلا وقبله شيء من جنسه. {ثم} ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم؛ كقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [البلد: 16] أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين، وهم الذين تأخروا عن الإيمان.
(15/90)
الآية: 83 {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ َلإِبْرَاهِيمَ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ }
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ َلإِبْرَاهِيمَ } قال ابن عباس: أي من أهل دينه. وقال مجاهد: أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي: الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد. وقال الكلبي والفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. فالهاء في {شيعته} على هذا لمحمد عليه السلام. وعلى الأول لنوح وهو أظهر، لأنه هو المذكور أولا، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي مخلص من الشرك والشك. وقال عوف الأعرابي: سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله عز وجل في خلقه. وذكر الطبري عن غالب القطان وعوف وغيرهما عن محمد بن سيرين أنه كان يقول للحجاج: مسكين أبو محمد! إن عذبه الله فبذنبه، وإن غفر له فهنيئا له، وإن كان قلبه سليما فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال عوف: فقلت لمحمد ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول لنا: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط، فقال تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }. ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته؛ الثاني عند إلقائه في النار.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيه } {لأبيه} وهو آزر، وقد مضى الكلام فيه. {وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } تكون {ما} في موضع رفع بالابتداء و {ذا} خبره. ويجوز أن تكون
(15/91)
{ما} و {ذا} في موضع نصب بـ {تعبدون} . {أئفكا} نصب على المفعول به؛ بمعنى أتريدون إفكا. قال المبرد: والإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض. {آلهة} بدل من إفك {دون الله تريدون} أي تعبدون. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أتريدون ألهة من دون الله آفكين. {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ فهو تحذير، مثل قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } [ الانفطار:6]. وقيل: أي شيء أوهمتموه حتى أشركتم به غيره.
قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } قال ابن زيد عن أبيه: أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم منظورا فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه؛ وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم. وقال ابن عباس: كان علم النجوم من النبوة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فكان نظر إبراهيم فيها علما نبويا. وحكى جويبر عن الضحاك. كان علم النجوم باقيا إلى زمن عيسى عليه السلام، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه منه، فقالت لهم مريم: من أين علمتم بموضعه؟ قالوا: من النجوم. فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم لا تفهمهم في علمها، فلا يعلم علم النجوم أحد؛ فصار حكمها في الشرع محظورا، وعلمها في الناس مجهولا. قال الكلبي: وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمز جرد، وكانوا ينظرون في النجوم. فهذا قول. وقال الحسن: المعنى أنهم لما كلفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل. فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي؛ أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل حي يسقم فقال. {إِنِّي سَقِيمٌ } الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره: نظر في النجوم. وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تغشاه فيها الحمى. وقيل: المعنى فنظر فيما نجم من الأشياء فعلم أن لها خالقا
(15/92)
ومدبرا، وأنه يتغير كتغيرها. فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ }. وقال الضحاك: معنى {سقيم} سأسقم سقم الموت؛ لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض؛ كما قال للملك لما سأل عن سارة هي أختي؛ يعني أخوة الدين. وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك أيضا أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون، وكانوا يهربون من الطاعون، {فـ} لذلك {تَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي فارين منه خوفا من العدوى. وروى الترمذي الحكيم قال: حدثنا أبي قال حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط عن السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن سمرة عن الهمداني عن ابن مسعود قال: قالوا لإبراهيم: إن لنا عيدا لو خرجت معنا لأعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه وخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه، وقال إني سقيم أشتكي رجلي، فوطئوا رجله وهو صريع، فلما مضوا نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [ الأنبياء: 57]. قال أبو عبدالله: وهذا ليس بمعارض لما قال ابن عباس وابن جبير؛ لأنه يحتمل أن يكون قد اجتمع له أمران.
قلت: وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات..." الحديث. وقد مضى في سورة "الأنبياء" وهو يدل على أنه لم يكن سقيما وإنما عرض لهم. وقد قال جل وعز: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر: 30]. فالمعنى إني سقيم فيما استقبل فتوهموا هم أنه سقيم الساعة. وهذا من معاريض الكلام على ما ذكرنا، ومنه المثل السائر [كفى بالسلامة داء] وقول لبيد:
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني فإذا السلامة داء
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح! فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه! فإبراهيم صادق، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم واصطفائهم عد هذا ذنبا؛ ولهذا قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء: 82] وقد مضى هذا كله مبينا والحمد لله. وقيل: أراد سقيم النفس لكفرهم. والنجوم يكون جمع نجم ويكون واحدا مصدرا.
(15/93)
الآية: 91 - 96 {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } قال السدي: ذهب إليهم. وقال أبو مالك: جاء إليهم. وقال قتادة: مال إليهم. وقال الكلبي: أقبل عليهم. وقيل: عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل. وقال الشاعر:
ويريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ } فخاطبها كما يخاطب من يعقل؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا قيل: كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم. وقيل: تركوه للسدنة. وقيل: قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء؛ فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ }{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } خص الضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد؛ قال الضحاك والربيع بن أنس. وقيل: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [الأنبياء: 57]. وقال الفراء وثعلب: ضربا بالقوة واليمين القوة. وقيل: بالعدل واليمين ها هنا العدل. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } [الحاقة: 44] أي بالعدل، فالعدل لليمين والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين؛ ولذلك قال: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } [الصافات: 28] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم، والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق، فالبيعة باليمين؛ فلذلك يعطى كتابه غدا بيمينه؛ لأنه وفي بالبيعة، ويعطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله؛ لأن الجور هناك. فقوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفى له ها هنا. فجعل تلك الأوثان جذاذا، أي فتاتا كالجذيذة
(15/94)
وهي السويق وليس من قبيل القوة؛ قاله الترمذي الحكيم. {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قرأ حمزة {يزفون} بضم الياء. الباقون بفتحها. أي يسرعون؛ قاله ابن زيد. قتادة والسدي: يمشون. وقيل: المعنى يمشون بجمعهم على مهل آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بسوء. وقيل: المعنى يتسللون تسللا بين المشي والعدو؛ ومنه زفيف النعامة. وقال الضحاك: يسعون وحكى يحيى بن سلام: يرعدون غضبا. وقيل: يختالون وهو مشي الخيلاء؛ قاله مجاهد. ومنه أُخِذ زفاف العروس إلى زوجها. وقال الفرزدق:
وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زُفَّف
ومن قرأ: {يزفون} فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على التزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف. وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا، وزففت العروس وأزففتها وازدففتها بمعنى، والمزفة: المحفة التي تزف فيها العروس؛ حكي ذلك عن الخليل. النحاس: "ويزفون" بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته؛ وأنشد هو وغيره:
تمنى حصين أن يسود جذاعة ... فأمسى حصين قد أذل وأ قهرا
أي صير إلى ذلك؛ فكذلك {يزفون} يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد: الزفيف الإسراع. وقال أبو إسحاق: الزفيف أول عدو النعام. وقال أبو حاتم: وزعم الكسائي أن قوما قرؤوا {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُونَ } خفيفة؛ من وزف يزف، مثل وزن يزن. قال النحاس: فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف {يزفون} مخففة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال
(15/95)
أبو إسحاق: وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس: ولا نعلم أحدا قرأ {يزفون}.
قلت: هي قراءة عبدالله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري: و {يزفون} على البناء للمفعول. {يزفون} من زفاه إذا حداه؛ كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع: {يزفون} بالراء من رفيف النعام، وهو ركض بين المشي والطيران.
قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } فيه حذف؛ أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا، فقال محتجا: {أتعبدون ما تنحون} أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } {ما} في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعني الخشب والحجارة وغيرهما؛ كقوله: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } [الأنبياء: 56] وقيل: إن {ما} استفهام ومعناه التحقير لعملهم. وقيل: هي نفي، والمعنى وما تعملون ذلك لكن الله خالقه. والأحسن أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا، والتقدير والله خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة: أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد. وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خالق كل صانع وصنعته" ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه" وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الآية: 97 {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ }
(15/96)
قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً } أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في "الأنبياء" بيانه فـ {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً } تملؤونه حطبا فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وملأوه نارا وطرحوه فيها. وقال ابن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في {الجحيم} تدل على الكناية؛ أي في جحيمه؛ أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري: أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك، وهو الذي جاء فيه الحديث: "بينما رجل يمشى في حلة له يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" والله أعلم. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً } أي بإبراهيم. والكيد المكر؛ أي احتالوا لإهلاكه. {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } المقهورين المغلوبين إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم.
الآية: 99 - 101 {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ }
هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه {سَيَهْدِينِ } فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام. وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في "الكهف" مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبيت القدس.
(15/97)
وقيل: خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل: قال ذلك لمن فارقه من قومه؛ فيكون ذلك توبيخا لهم. وقيل: قاله لمن هاجر معه من أهله؛ فيكون ذلك منه ترغيبا. وقيل: قال هذا قبل إلقائه في النار. وفيه على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي. الثاني: إني ميت؛ كما يقال لمن مات: قد ذهب إلى الله تعالى؛ لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها، إلى أن قيل لها: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً } فحينئذ سلم إبراهيم منها. وفي قوله: {سيهدين} على هذا القول تأويلان: أحدهما: {سيهدين} إلى الخلاص منها. الثاني: إلى الجنة. وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم: لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب؛ فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول: اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا؛ فلما ذهب به ليطرح في النار { قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} . فلما طرح في النار قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" فقال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً } [الأنبياء: 69] فقال أبو لوط وكان ابن عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني. فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه.
قوله تعالى: {رب هب لي من الصالحين} لما عرفه الله أنه مخلصه دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في "آل عمران" القول في هذا. وفي الكلام حذف؛ أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد؛ لأن الصغير لا يوصف بذلك، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في "هود". ويأتي أيضا في "الذاريات".
الآية: 102 - 113 {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}
===================
الصافات - تفسير الطبري
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره: لقد نادانا نوح بمسألته إيانا هلاك قومه، فقال:( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ...إلى قوله( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) وقوله( فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) يقول: فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا، فأجبنا له دعاءه، فأهلكنا قومه( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) يعني: أهل نوح الذين ركبوا معه السفينة. وقد ذكرناهم فيما مضى، وبيَّنا اختلاف العلماء في عددهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) قال: أجابه الله. وقوله( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) يقول: من الأذى والمكروه الذي كان فيه
(21/58)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)
من الكافرين، ومن كرب الطُّوفان والغرق الذي هلك به قوم نوح.
كما حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّل، قال: ثنا أسباط عن السديّ،( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) قال: من الغرق
وقوله( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول: وجعلنا ذريّة نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد مَهْلِك قومه، وذلك أن الناس كلهم من بعد مَهْلِك نوح إلى اليوم إنما هم ذرية نوح، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح، والترك والصقالبة والخَزَر أولاد يافث بن نوح، والسودان أولاد حام بن نوح، وبذلك جاءت الآثار، وقالت العلماء.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن عَشْمَة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في قوله( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال:"سام وحام ويافث".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: فالناس كلهم من ذرية نوح.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول: لم يبق إلا ذرية نوح
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) }
يعني تعالى ذكره بقوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) وأبقينا عليه، يعني على نوح ذكرا جميلا وثناء حسنا في الآخرين، يعني: فيمن تأخَّر بعده من الناس يذكرونه به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/59)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: يُذْكَر بخير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: جعلنا لسان صدق للأنبياء كُلِّهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: الثناء الحسن.
وقوله( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) يقول: أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء; وسلام مرفوع بعلى. وقد كان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: معناه: وتركنا عليه في الآخرين،( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ ) أي تركنا عليه هذه الكلمة، كما تقول: قرأت من القرآن( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فتكون الجملة في معنى نصب، وترفعها باللام، كذلك سلام على نوح ترفعه بعلى، وهو في تأويل نصب، قال: ولو كان: تركنا عليه سلاما، كان صوابا. وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنا كما فعلنا بنوح مجازاة له على طاعتنا وصبره على أذى قومه في رضانا وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وأبقينا عليه ثناء في الآخرين( كَذَلِكَ نَجْزِي ) الذين يحسنون فيطيعوننا، وينتهون إلى أمرنا، ويصبرون على الأذى فينا. وقوله( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن نوحا من عبادنا الذين آمنوا بنا، فوحدونا، وأخلصوا لنا العبادة، وأفردونا بالألوهة.
وقوله( ثُمَّ أَغْرَقْنَا
(21/60)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
الآخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره: ثم أغرقنا حين نجَّينا نوحا وأهله من الكرب العظيم من بقي من قومه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) قال: أنجاه الله ومن معه في السفينة، وأغرق بقية قومه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) }
يقول تعالى ذكره: وإن من أشياع نوح على منهاجه وملته والله لإبراهيمَ خليل الرحمن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) يقول: من أهل دينه.
حدثني ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزّة، عن مجاهد، في قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على منهاج نوح وسنته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على مِنهاجه وسنته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على دينه وملته.
(21/61)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: من أهل دينه.
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: وإن من شيعة محمد لإبراهيم، وقال: ذلك مثل قوله( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ) بمعنى: أنا حملنا ذرية من هم منه، فجعلها ذرية لهم، وقد سبقتهم.
وقوله( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) يقول تعالى ذكره: إذ جاء إبراهيم ربه بقلب سليم من الشرك، مخلص له التوحيد.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) والله من الشرك.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: سليم من الشرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد( بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: لا شك فيه. وقال آخرون في ذلك بما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عَثَّام بن عليّ، قال: ثنا هشام، عن أبيه، قال: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قطّ، فقال الله:( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )
وقوله( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) يقول حين قال: يعني إبراهيم لأبيه وقومه: أي شيء تعبدون.
وقوله( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) يقول: أكذبا معبودا غير الله تريدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
(21/62)
فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لأبيه وقومه:( فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ )؟ يقول: فأي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة(فما ظنكم برب العالمين) يقول: إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.
وقوله( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم، فرأى نجما قد طلع، فعصب رأسه وقال: إني مَطْعُون، وكان قومه يهربون من الطاعون، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم، ويخرجوا عنه، ليخالفهم إليها فيكسرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) رأى نجما طلع.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عليه، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب(فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) رأى نجما طلع.
حدثنا بشر، قال: كَايَدَ نبي الله عن دينه، فقال: إني سقيم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) قالوا لإبراهيم وهو في بيت آلهتهم: أخرج معنا، فقال لهم: إني مطعون، فتركوه مخافة أن يعديهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن أبيه،
(21/63)
في قول الله:(فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) قال: أرسل إليه ملكهم، فقال: إن غدا عيدنا، فاحضر معنا، قال: فنظر إلى نجم فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال:( إِنِّي سَقِيمٌ )
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول الله:( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ )
وقوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) : أي طعين، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد.
واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه:( إِنِّي سَقِيمٌ ) وهو صحيح، فروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ" .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال:"وَلَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيْرَ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ، قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقَوْلِهِ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وقَوْلِهِ فِي سارَة: هِي أُخْتِي" .
حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا أبي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلا فِي ثَلاثٍ" ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن المسيب بن رافع، عن أبي هريرة، قال:"ما كذب إبراهيم غير ثلاث كذبات، قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وإنما قاله موعظة، وقوله حين سأله الملك، فقال أختي لسارَة، وكانت امرأته".
(21/64)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أيوب، عن محمد، قالَ:"إن إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات ، ثنتان في الله، وواحدة في ذات نفسه; فأما الثنتان فقوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقصته في سارَة، وذكر قصتها وقصة الملك".
وقال آخرون: إن قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) كلمة فيها مِعْراض، ومعناها أن كل من كان في عقبة الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، والخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف هذا القول، وقول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحقّ دون غيره. قوله( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) يقول: فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه، خوفا من أن يعدِيَهُمْ السقم الذي ذكر أنه به.
كما حُدثت عن يحيى بن زكريا، عن بعض أصحابه، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس( إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول: مطعون فتولَّوا عنه مدبرين، قال سعيد: إن كان الفرار من الطاعون لقديما.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة( فَتَوَلَّوْا ) فنكصوا عنه( مُدْبِرِينَ ) منطلقين.
وقوله( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: فمال إلى آلهتهم بعد ما خرجوا عنه وأدبروا; وأرى أن أصل ذلك من قولهم: راغ فلان عن فلان: إذا حاد عنه، فيكون معناه إذا كان كذلك: فراغ عن قومه والخروج معهم إلى آلهتهم; كما قال عدي بن زيد:
حِينَ لا يَنْفَعُ الرَّوَاغُ وَلا يَنْ... فَعُ إلا المُصَادِقُ النِّحْرِيرُ (1)
__________
(1) البيت نسبه المؤلف لعدي بن زيد العبادي، ولم أجده في ترجمته في الأغاني ولا في شعره في شعراء النصرانية. ولعله من قصيدته التي مطلعها" أرواح مودع أم بكور" . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى:" فراغ عليهم ضربا باليمين" على أن معنى راغ: حاد. وفسره بعضهم بمال." وفي اللسان: روغ" راغ يروغ روغا وروغانا: حاد. وراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد.
وقوله تعالى" فراغ عليهم ضربا" أي مال وأقبل .اهـ. وفي ( اللسان: نحر ): والنحر( بكسر النون ) والنحرير : الحاذق الماهر العاقل المجرب. وقيل: النحرير: الرجل: الطبن الفطن المتقن البصير في كل شيء. وجمعه: النحارير. اهـ.
وقال الفرّاء في معاني القرآن 273 :" فراغ عليهم ضربا باليمين" : أي مال عليهم ضربا، واغتنم خلوتهم من أهل دينهم. وفي قراءة عبد الله ( أي ابن مسعود ):" فراغ عليهم صفقا باليمين" .
(21/65)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
يعني بقوله"لا ينفع الرّوَاغ": الحِياد. أما أهل التأويل فإنهم فسَّروه بمعنى فَمَال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) : أي فمال إلى آلهتهم، قال: ذهب.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قوله( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) قال: ذهب.
وقوله( فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) هذا خبر من الله عن قيل إبراهيم للآلهة; وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو: فقرّب إليها الطعام فلم يرها تأكل، فقال لها:( أَلا تَأْكُلُونَ ) فلما لم يرها تأكل قال لها: ما لكم لا تأكلون، فلم يرها تنطق، فقال لها:( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) مستهزئا بها، وكذلك ذكر أنه فعل بها، وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى قبلُ.
وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) يستنطقهم( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) }
(21/66)
يقول تعالى ذكره: فمال على آلهة قومه ضربا لها باليمين بفأس في يده يكسرهن.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما خلا جعل يضرب آلهتهم باليمين
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، فذكر مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) فأقبل عليهم يكسرهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ثم أقبل عليهم كما قال الله ضربا باليمين، ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده
وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك بمعنى: فراغ عليهم ضربا بالقوّة والقدرة، ويقول: اليمين في هذا الموضع: القوّة: وبعضهم كان يتأوّل اليمين في هذا الموضع: الحلف، ويقول: جعل يضربهنّ باليمين التي حلف بها بقوله( وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله:"فراغ عليهم صفقا باليمين". ورُوي نحو ذلك عن الحسن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا خالد بن عبد الله الجُشَمِي، قال: سمعت الحسن قرأ:"فَرَاغَ عَلَيْهِمْ صَفْقًا بِالْيَمِينِ": أي ضربا باليمين.
وقوله( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة:( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) بفتح الياء وتشديد الفاء من قولهم: زَفَّتِ النعامة، وذلك أوّل عدوها، وآخر مشيها; ومنه قول الفرزدق:
(21/67)
وَجَاءَ قَرِيعُ الشَّوْلِ قَبْلَ إِفَالِهَا... يَزِفُّ وَجَاءَتْ خَلْفَهُ وَهِيَ زُفَّفُ (1) .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:"يُزِفُّونَ" بضم الياء وتشديد الفاء من أزف فهو يزف. وكان الفرّاء يزعم أنه لم يسمع في ذلك إلا زَفَفْت، ويقول: لعلّ قراءة من قرأه:"يُزِفُّونَ" بضم الياء من قول العرب: أطْرَدْتُ الرجل: أي صيرته طريدا، وطردته: إذا أنت خسئته إذا قلت: اذهب عنا; فيكون يزفون: أي جاءوا على هذه الهيئة بمنزلة المزفوفة على هذه الحالة، فتدخل الألف. كما تقول: أحمدت الرجل: إذا أظهرت حمده، وهو محمد: إذا رأيت أمره إلى الحمد، ولم تنشر حمده; قال: وأنشدني المفضَّل:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ جِذَاعَةُ... فأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلَّ وَأَقْهَرا (2)
__________
(1) البيت للفرزدق ( ديوانه طبعة الصاوي 558 ) من قصيدته التي مطلعها:" عزفت بأعشاش وما كدت تعزف" . ( وفي اللسان: قرع ) : القريع من الإبل الذي يأخذ بذراع الناقة فينيخها. وقيل سمي قريعا لأنه يقرع الناقة، قال الفرزدق ( وأنشد بيت الشاهد ). والإفال: جمع أفيل وأفيلة، وهو الفصيل. وقال أبو عبيد: الإفال بنات المخاض. وفي ( اللسان: زفف ) الزفيف: سرعة المشي مع تقارب وسكون. وقيل: هو أول عدو النعام: زف يزف زفا، وزفيفا وزفوفا، وأزف عن الأعرابي. قال الفرّاء في معاني القرآن : والناس يزفون بفتح الياء، أي يسرعون. وقرأها الأعمش يزفون ( بضم الياء ) أي يجيئون على هيئة الزفيف، بمنزلة المزفوفة على هذه الحال. وقال الزجاج: يزفون: يسرعون. وأصله من زفيف النعامة، وهو ابتداء عدوها .اهـ.
(2) البيت للمخبل السعدي يهجو الزبرقان. واستشهد به الفرّاء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة 273 ) لتخريج قراءة الأعمش قوله تعالى:" فأقبلوا إليه يزفون" بضم الياء. قال كأنها من أزفت، ولم نسمعها إلا زففت تقول للرجل: جاءنا يزف ( بفتح الياء ) . ولعل قراءة الأعمش من قول العرب: قد أطردت الرجل: أي صيرته طريدا، طردته إذا أنت قلت له: اذهب عنا." يزفون" : أي جاءوا على هذه الهيئة بمنزلة المزفوفة. على هذه الحال، فتدخل الألف، كما تقول للرجلك هو محمود: إذا أظهرت حمده، وهو محمد: إذا رأيت أمره إلى الحمد؛ ولم تنشر حمده. قال: وأنشدني المفضل:" تمنى حصين ... البيت" فقال: اقهر: أي صار إلى القهر، وإنما هو قهر. وقرأ الناس بعد" يزفون" بفتح الياء وكسر الزاي. وقد قرأ بعض القراء:" يزفون" بالتخفيف كأنها من وزف يزف. وزعم الكسائي أنه لا يعرفها. وقال الفرّاء: لا أعرفها أيضا، إلا أن تكون لم تقع إلينا. وفي اللسان إلينا. وفي اللسان والمحكم: جذع: ( وجذاع الرجل: قومه، لا واحد لها ). قال المخبل يهجو الزبرقان:" تمنى... البيت". أي قد صار أصحابه أذلاء مقهورين ورواه الأصمعي: قد أذل وأقهرا ( بالبناء للمجهول ). أو يكون" أقهر" وجد مقهورا . وخص أبو عبيدة بالجذاع رهط الزبرقان.
(21/68)
فقال: أقهر، وإنما هو قُهِر، ولكنه أراد صار إلى حال قهر. وقرأ ذلك بعضهم.
"يَزِفُونَ" بفتح الياء وتخفيف الفاء من وَزَفَ يَزِفُ وذُكر عن الكسائي أنه لا يعرفها، وقال الفرّاء: لا أعرفها إلا أن تكون لغة لم أسمعها. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقول: الوَزْف: النَّسَلان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله(إليه يزفون) قال: الوزيف: النسلان.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه بفتح الياء وتشديد الفاء، لأن ذلك هو الصحيح المعروف من كلام العرب، والذي عليه قراءة الفصحاء من القرّاء.
وقد اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: معناه: فأقبل قوم إبراهيم إلى إبراهيم يَجْرُون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) : فأقبلوا إليه يجرون.
وقال آخرون: أقبلوا إليه يَمْشُون.
* ذكر من قال ذلك:
محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال: يَمْشُون.
وقال آخرون: معناه: فأقبلوا يستعجلون.
* ذكر من قال ذلك:
(21/69)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن أبيه( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال: يستعجلون، قال: يَزِفّ: يستعجل.
وقوله( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أتعبدون أيها القوم ما تنحتون بأيديكم من الأصنام.
كما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) الأصنام.
وقوله( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه: والله خلقكم أيها القوم وما تعملون. وفي قوله( وَمَا تَعْمَلُونَ ) وجهان: أحدهما: أن يكون قوله"ما" بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.
والآخر أن يكون بمعنى"الذي"، فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم.
وهذا المعنى الثاني قصد إن شاء الله قتادةُ بقوله: الذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) : بِأَيْدِكُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) }
يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم لما قال لهم إبراهيم:( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) ابنوا لإبراهيم بنيانا; ذكر أنهم بنوا له بنيانا يشبه التنور، ثم نقلوا إليه الحطب، وأوقدوا عليه( فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) والجحيم عند العرب: جمر النار بعضُه على بعض، والنار على النار.
(21/70)
وقوله( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ) يقول تعالى ذكره: فأراد قوم إبراهيم كيدًا، وذلك ما كانوا أرادوا من إحراقه بالنار. يقول الله:( فَجَعَلْنَاهُمُ ) أي فجعلنا قوم إبراهيم( الأسْفَلِينَ ) يعني الأذلين حجة، وغَلَّبنا إبراهيم عليهم بالحجة، وأنقذناه مما أرادوا به من الكيد.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ) قال: فما ناظرهم بعد ذلك حتى أهلكهم.
وقوله( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يقول: وقال إبراهيم لما أفْلَجَه الله على قومه ونجاه من كيدهم:( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) يقول: إني مُهَاجِرٌ من بلدة قومي إلى الله: أي إلى الأرض المقدَّسة، ومفارقهم، فمعتزلهم لعبادة الله.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) : ذاهب بعمله وقلبه ونيته.
وقال آخرون في ذلك: إنما قال إبراهيم( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) حين أرادوا أن يلقوه في النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول: لما أرادوا أن يُلْقوا إبراهيم في النار( قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فجمع الحطب، فجاءت عجوز على ظهرها حطب، فقيل لها: أين تريدين ؟ قالت: أريد أذهب إلى هذا الرجل الذي يُلْقَى في النار; فلما ألقي فيها، قال: حَسْبِيَ الله عليه توكلت، أو قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قال: فقال الله:( يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال: فقال ابن لُوط، أو ابن أخي لوط: إن النار لم تحرقه من أجلي، وكان بينهما قرابة، فأرسل الله عليه عُنُقا من النار فأحرقته.
وإنما اخترت القول الذي قلت في ذلك، لأن الله تبارك وتعالى ذكر خبره
(21/71)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
وخبر قومه في موضع آخر، فأخبر أنه لما نجاه مما حاول قومه من إحراقه قال( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) ففسر أهل التأويل ذلك أن معناه: إني مهاجر إلى أرض الشام، فكذلك قوله( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) لأنه كقوله( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) وقوله( سَيَهْدِينِ ) يقول: سيثبتني على الهدى الذي أبصرته، ويعيننى عليه.
وقوله( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدا صالحا; يقول: قال: يا رب هب لي منك ولدا يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون.
كما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: ولدا صالحا.
وقال: من الصالحين، ولم يَقُلْ: صالحا من الصالحين، اجتزاء بمن ذكر المتروك، كما قال عز وجل:( وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ) بمعنى زاهدين من الزاهدين.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) }
يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا إبراهيم بغلام حليم، يعني بغلام ذي حِلْم إذا هو كَبِر، فأما في طفولته في المهد، فلا يوصف بذلك. وذكر أن الغلام الذي بشر الله به إبراهيم إسحاق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة:( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) قال: هو إسحاق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ
(21/72)
حَلِيمٍ ) بشر بإسحاق، قال: لم يُثْن بالحلم على أحد غير إسحاق وإبراهيم.
وقوله( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم مع إبراهيم العمل، وهو السعي، وذلك حين أطاق معونته على عمله.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قولهِ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول: العمل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: لما شبّ حتى أدرك سعيه سَعْي إبراهيمَ في العمل.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: لما شبّ حين أدرك سعيه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: سَعي إبراهيم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) : سَعي إبراهيم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: السَّعْيُ ها هنا العبادة.
وقال آخرون: معنى ذلك: فلما مشى مع إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
(21/73)
السَّعْيَ ) : أي لما مشى مع أبيه.
وقوله( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه:( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشَّرته الملائكة بإسحاق ولدًا أن يجعله إذا ولدته سارَة لله ذبيحا; فلما بلغ إسحاقُ مع أبيه السَّعْي أرِي إبراهيم في المنام، فقيل له: أوف لله بنذرك، ورؤيا الأنبياء يقين، فلذلك مضى لما رأى في المنام، وقال له ابنه إسحاق ما قال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: قال جبرائيل لسارَة: أبشري بولد اسمه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فضربت جبهتها عَجَبا، فذلك قوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) و( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) إلى قوله( حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) قالت سارَة لجبريل: ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا، فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هو لله إذن ذَبيح; فلما كبر إسحاق أُتِيَ إبراهيمُ في النوم، فقيل له: أوف بنذرك الذي نَذَرْت، إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه، فقال لإسحاق: انطلق نقرب قُرْبَانا إلى الله، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قُرْبانك؟( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فقال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه سارَة فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وضرب الله صفيحة من النحاس على
(21/74)
حلق إسحاق; فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه، وحزّ من قفاه، فذلك قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) يقول: سلما لله الأمر( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) فنودي يا إبراهيم( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله:(وفديناه بذبح عظيم) فرجع إلى سارَة فأخبرها الخبر، فجَزِعَت سارَة وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تُعْلِمني!.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) قال: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا فى المنام شيئا فعلوه.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية:( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ).
قوله( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) : اختلفت القرّاء في قراءة قوله( مَاذَا تَرَى ؟ ) ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قراء أهل الكوفة:( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟) بفتح التاء، بمعنى: أي شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة:"مَاذَا تُرَى" بضم التاء، بمعنى: ماذا تُشير، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه:( مَاذَا تَرَى ) بفتح التاء، بمعنى: ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل: أو كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضيّ لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم: هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسر بذلك أم لا وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.
(21/75)
وقوله(
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) يقول تعالى ذكره: قال إسحاق لأبيه: يا
أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي.( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
) يقول: ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا، وقال:(افعل ما
تُؤْمَرُ، ولم يقل: ما تؤمر به، لأن المعنى: افعل الأمر الذي تؤمره، وذكر أن ذلك
في قراءة عبد الله:"إني أرى في المنام: افعل ما أُمِرْت به".
٦
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
==============
الصافات - تفسير ابن كثير
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) }
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم [عليه السلام] (1) : إنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من
__________
(1) زيادة من ت، س.
(7/26)
إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، وقال: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } يعني: أولادا مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أولُ ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل وُلِدَ ولإبراهيم، عليه السلام، ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمْر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكْره، فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا "إسحاق"، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا "إسحاق" لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحَرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب (1) مكة وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال: "وحيد" إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تُلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } . ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الحجر:53]. وقال تعالى: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود:71]، أي: يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأن الله [تعالى] (2) قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام.
وقوله: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم، عليه السلام، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد "فاران" وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وغيرهم: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } يعني: شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وَحْي، ثم تلا هذه الآية: { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى }
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي، حدثنا
__________
(1) في ت: "حيث".
(2) زيادة في ت.
(7/27)
سفيان بن عيينة، عن إسرائيل بن يونس، عن سِمَاك، عن عكرمة (1) ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي" ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه (2) .
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.
{ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي: امض لما أمرك (3) الله من ذبحي، { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي: سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما وعد؛ ولهذا قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [مريم:54، 55].
قال الله تعالى: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي: فلما تشهدا وذكرا الله تعالى (4) إبراهيم على الذبح والولد على شهادة الموت. وقيل: { أَسْلَمَا } ، [يعني] (5) : استسلما وانقادا؛ إبراهيم امتثل أمْرَ الله، وإسماعيل طاعة الله وأبيه. قاله مجاهد، وعكرمة والسدي، وقتادة، وابن إسحاق، وغيرهم.
ومعنى { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه، ليكون أهون عليه، قال ابن عباس، ومجاهد (6) وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة: { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } : أكبه على وجهه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيْج (7) ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغَنَويّ، عن أبي الطفيل (8) ، عن ابن عباس أنه قال: لما أمر إبراهيم بالمناسك (9) عَرَض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، وثَمّ تَلَّه للجبين، وعلى إسماعيل قميص أبيض، فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلعه، فنُوديَ من خلفه: { أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } ، فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين. قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش.
وذكر تمام الحديث في "المناسك" بطوله (10) . ثم رواه أحمد بطوله عن يونس، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير (11) ، عن ابن عباس، فذكر نحوه إلا أنه قال: "إسحاق" (12) . فعن ابن عباس في تسمية الذبيح (13) روايتان، والأظهر عنه إسماعيل، لما سيأتي بيانه.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/6) من وجه آخر عن سماك: فرواه من طريق الفريابي عن سفيان عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
(3) في أ: "أنزل".
(4) في ت، س، أ: "عز وجل".
(5) زيادة من ت، وفي أ: "بمعنى".
(6) في ت: "ومجاهد وغيرهما".
(7) في أ: "شريج".
(8) في ت: "بإسناده".
(9) في أ: "لما أمر الله إبراهيم عليه السلام بالمناسك".
(10) المسند (1/297)
(11) في ت: "بسنده".
(12) المسند (1/306).
(13) في أ: "الذبح".
(7/28)
وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن جعفر بن إياس، عن ابن عباس في قوله: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال: خرج عليه كبش من الجنة. قد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات فأفلَتَه عندها، فجاء الجمرةَ الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته (1) فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها. ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فوالذي نفسُ ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حَشَّ (2) ، يعني: يبس.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، أخبرنا القاسم قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل كعب يحدث عن الكُتُب، فقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني قد خَبَأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". فقال له كعب: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فداك أبي وأمي -أو: فداه أبي وأمي-أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه السلام؟ إنه لما أُريَ ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا. فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه، فذهب الشيطان فدخل على سارة، فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: غدا به لبعض حاجته. قال: لم يغد لحاجة، وإنما ذهب به ليذبحه. قالت: وَلِم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فقد أحسن أن يطيع ربه. فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام: أين يذهب بك أبوك؟ قال: لبعض حاجته. قال: (3) إنه (4) لا يذهب بك لحاجة، ولكنه يذهب بك ليذبحك. قال: ولم يذبحني؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن. قال: فيئس منه فلحق (5) بإبراهيم، فقال: أين غدوت بابنك؟ قال لحاجة. قال: فإنك لم تغد به لحاجة، وإنما غدوت به لتذبحه قال: وَلم أذْبَحه؟ قال: تزعم أن ربك أمرك بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمرني (6) بذلك لأفعلن. قال: فتركه ويئس أن يطاع (7) .
وقد رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد (8) بن جَاريَةَ الثقفي أخبره، أن كعبا قال لأبي هريرة... فذكره بطوله، وقال في آخره: وأوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها. قال إسحاق: اللهم، إني أدعو (9) أن تستجيب لي: أيُّما عَبْد لقيك من الأولين والآخرين، لا يشرك بك شيئًا، فأدخله
__________
(1) في س: "فأفلته".
(2) في س: "وشح".
(3) في أ: "فقال".
(4) في س: "فإنه".
(5) في ت، س: "فيئس منه فتركه فلحق".
(6) في أ: "كان أمرني ربي".
(7) تفسير عبد الرزاق (2/123)
(8) في أ: "أسد".
(9) في ت، س: "أدعوك".
(7/29)
الجنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار (1) ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي، وبين أن أختبئ شفاعتي، فاختبأت شفاعتي، ورجوت أن تكفر الجَمْ (3) لأمتي، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي، إن الله لما فرج عن إسحاق كرْبَ الذبح قيل له: يا إسحاق، سل تعطه. فقال: أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة".
هذا حديث غريب منكر (4) . وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مُدْرَجَة، وهي قوله: "إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق" إلى آخره، والله أعلم. فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن "إسماعيل"، وإنما حرفوه بإسحاق؛ حَسَدًا منهم كما تقدم، وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة، حيث كان إسماعيل لا إسحاق [عليهما السلام] (5) ، فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام.
وقوله تعالى: { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } أي: قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح
وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم، عليه السلام، عند ذلك: { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا }
وقوله: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق:2، 3].
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل، خلافا لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة، لأن الله تعالى شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } أي: الاختبار الواضح الجلي؛ حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله، منقادا لطاعته؛ ولهذا قال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم:37].
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "أن تكون أعم".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3603) وابن عدي في الكامل (4/272) من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به، وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/219) وقال: "سألت أبي، فقال: هذا حديث منكر".
(5) زيادة من أ.
(7/30)
وقوله: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال سفيان الثوري، عن جابر الجُعْفي، عن أبي الطفيل، عن علي، رضي الله عنه: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال: بكبش أبيض أعين أقرن، قد ربط بسمرة -قال أبو الطفيل وجدوه مربوطًا بسُمَرة في ثَبِير (1)
وقال الثوري أيضا، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار، حدثنا داود العطار، عن ابن خثيم (2) ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء ابنه، هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء، فذبحه، وهو الكبش الذي قَرّبه ابن آدم فتقبل منه، فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق.
وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال: كان الكبش يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عِهْن أحمر.
وعن الحسن البصري: أنه كان اسم كبش إبراهيم: جرير.
وقال ابن جريج: قال عبيد بن عمير: ذبحه بالمقام. وقال مجاهد: ذبحه بمنى عند المنحر (3) . وقال هُشَيْم، عن سيار، عن عكرمة؛ أنّ ابن عباس كان أفتى الذي جعل عليه نذرًا أن ينحر نفسه، فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك: لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا، فإن الله تعالى قال في كتابه: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فُدي بكبش. وقال الثوري، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال: وَعْلٌ.
وقال محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرْوَى، أهبط عليه من ثبير (4) .
وقد قال (5) الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن خاله مُسافع (6) ، عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم -وَلدت عامة أهل دارنا-أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة -وقال (7) مرة: إنها سألت عثمان: لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال: "إني كنتُ رأيت قرني الكبش، حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فَخَمَّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي". قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش معلقين (8) في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا (9) .
__________
(1) في أ: "ثبين".
(2) في أ: "خيثم".
(3) في أ: "النحر".
(4) في أ: "ثبين".
(5) في ت: "وروى".
(6) في أ: "شافع".
(7) في أ: "وقالت".
(8) في أ: "معلقة".
(9) المسند (4/68).
(7/31)
وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل، عليه السلام، فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدي به إبراهيم (1) خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل، إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو؟:
ذكر من قال: هو إسحاق [عليه السلام] (2) :
قال حمزة الزيات، عن أبي ميسرة، رحمه الله، قال: قال يوسف، عليه السلام، للملك في وجهه: ترغب أن تأكل معي، وأنا -والله-يوسف بن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.
وقال الثوري، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل: إن يوسف، عليه السلام، قال للملك كذلك أيضا.
وقال سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه قال: "قال موسى: يا رب، يقولون: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه. وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود. وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن".
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال: أنا فلان بن فلان، ابن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله [صلوات الله وسلامه عليهم] (3) .
وهذا صحيح إلى ابن مسعود، وكذا روى عكرمة، عن ابن عباس أنه إسحاق. وعن أبيه العباس، وعلي بن أبي طالب مثل ذلك. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وعبيد بن عمير، وأبو ميسرة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن شقيق، والزهري، والقاسم بن أبي بزة، ومكحول، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبو الهذيل، وابن سابط. وهو اختيار ابن جرير. وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق.
وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سفيان بن العلاء، بن جارية (4) ، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار، أنه قال: هو إسحاق (5) .
وهذه الأقوال -والله أعلم-كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر، رضي الله عنه عن كتبه، فربما استمع له عمر، رضي الله عنه، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا عنه غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة -والله أعلم-حاجة إلى حرف
__________
(1) في ت: "إسماعيل".
(2) زيادة من ت، س.
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "والعلاء بن حارث".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (23/52).
(7/32)
واحد مما عنده. وقد حكى البغوي هذا القول بأنه إسحاق عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعباس، ومن التابعين عن كعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، ومقاتل، وعطاء، والزهري، والسدي -قال: وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس (1) . وقد ورد في ذلك حديث -لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين، ولكن لم يصح سنده-قال ابن جرير:
حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن حباب، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال: هو إسحاق (2) .
ففي إسناده ضعيفان (3) ، وهما الحسن بن دينار البصري، متروك. وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحدث. وقد رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، به مرفوعا. (4) . ثم قال: قد رواه مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأحنف، عن العباس قوله، وهذا (5) أشبه وأصح.
[ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل -عليه السلام-وهو الصحيح المقطوع به] (6) .
قد تقدمت الرواية عن ابن عباس أنه إسحاق. قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس، هو إسماعيل عليه لسلام.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح (7) عن ابن عباس أنه قال: المفدى إسماعيل، عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود (8) .
وقال إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: الذبيح إسماعيل.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو إسماعيل. وكذا قال يوسف بن مهران.
وقال الشعبي: هو إسماعيل، عليه السلام، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.
وقال (9) محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري: أنه كان لا يشك في ذلك: أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل.
قال ابن إسحاق: وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (7/46).
(2) تفسير الطبري (23/52).
(3) في ت: "لأن في سنده ضعيفين".
(4) في ت: "مرفوعا قال: هو إسحاق".
(5) في ت: "وهو".
(6) زيادة من ت، س.
(7) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(8) تفسير الطبري (23/52).
(9) في ت: "وروى".
(7/33)
من ابنيه إسماعيل. وإنا لنجد ذلك في كتاب الله، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } . يقول الله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } ، يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من [الله] (1) الموعد بما وعده (2) ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.
وقال ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة (3) الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم؛ أنه (4) ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك -قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز-فقال له عمر: أيُّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، بكون (5) إسحاق أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عز وجل. (6)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: سألت أبي عن الذبيح، من هو؟ إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: إسماعيل. ذكره في كتاب الزهد.
وقال ابن أبي حاتم: وسمعت أبي يقول: الصحيح أن الذبيح إسماعيل، عليه السلام. قال: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا: الذبيح إسماعيل.
وقال البغوي في تفسيره: وإليه ذهب عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والسدي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وهو رواية عن ابن عباس، وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء (7) .
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا فقال: حدثني محمد بن عمار الرازي، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي، عن عبيد الله بن محمد العتبي -من ولد عتبة بن أبي سفيان-عن أبيه: حدثني عبد الله بن سعيد، عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "ما أوعده".
(3) في أ: "بردة".
(4) في ت: "به".
(5) في أ: "لأن".
(6) رواه الطبري في تفسيره (23/54).
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/47).
(7/34)
أبي سفيان، فذكروا الذبيح: إسماعيل أو إسحاق؟ فقال على الخبير (1) سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها عليه، ليذبحن أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا: افد ابنك بمائة من الإبل. ففداه بمائة من الإبل، وإسماعيل الثاني (2) .
وهذا حديث غريب جدا. وقد رواه الأموي في مغازيه: حدثنا بعض أصحابنا، أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي، حدثنا عبيد الله (3) بن محمد العتبي -من ولد عتبة بن أبي سفيان-حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا الصنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، وذكره. كذا كتبته من نسخة مغلوطة (4) .
وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى:: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } ، فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات:28]. وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي، أي العمل. ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا. قال: وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام. قال: وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك. هذا ما اعتمد عليه في تفسيره، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جدا، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى، والله أعلم (5) .
وقوله: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } ، لما تقدمت البشارة بالذبيح -وهو إسماعيل-عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق، وقد ذكرت في سورتي (6) هود" و "الحجر" (7) .
وقوله: { نَبِيًّا } حال مقدرة، أي: سيصير منه نبي من الصالحين.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن داود، عن عكرمة قال : قال ابن عباس، رضي الله عنهما: الذبيح إسحاق. قال: وقوله: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } قال: بشر بنبوته. قال: وقوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [مريم:53] قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد: وهب له نبوته.
وحدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت داود يحدث، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } قال: إنما بشر به نبيا حين فداه الله من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده (8) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان الثوري، عن داود، عن عكرمة،
__________
(1) في س: "الخبر".
(2) تفسير الطبري (23/54).
(3) في أ: "عبد الله".
(4) في أ: "من نسخة كذا والله أعلم".
(5) وقد حرر هذه المسألة الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى. انظر المواضع في: الفهرس العام (36/32).
(6) في ت: "سورة".
(7) سورة هود، الآية: 71، وسورة الحجر، الآية: 53.
(8) تفسير الطبري (23/57).
(7/35)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
عن ابن عباس: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } قال: بشر به حين ولد، وحين نبئ.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } قال: بعد ما كان من أمره، لما جاد لله بنفسه، وقال الله: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ }
وقوله: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } كقوله تعالى: { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود:48].
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) }
يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمده في حقهم من الإساءة العظيمة، من قتل الأبناء واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس الأشياء. ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم، وأقر أعينهم منهم، فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم. ثم أنزل الله على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين، وهو التوراة، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً } [الأنبياء:48].
وقال هاهنا: { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: في (1) الأقوال والأفعال .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ } أي: أبقينا لها (2) من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا، ثم فسره بقوله: { سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }
{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (126) }
__________
(1) في أ: "من".
(2) في ت، س: "لهما".
===============
الصافات - تفسير القرطبي
الآيه: [103] {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}
الآيه: [104] { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
الآيه: [105] { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}
الآيه: [106 { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
الآيه: [107] { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}
الآيه: [108] { سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
الآيه: [109] { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
الآيه: [110] { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
الآيه: [111] { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ}
الآيه: [112] { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ }
فيه سبع عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي فوهبنا له الغلام؛ فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وقال مجاهد: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال ابن عباس: هو احتلام. قتادة: مشى مع أبيه. الحسن ومقاتل: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. ابن زيد: هو السعي في العبادة. ابن عباس: صام وصلى، ألم تسمع الله عز وجل يقول: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } [الإسراء: 19].
واختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق. وممن قال بذلك العباس بن عبدالمطلب وابنه عبدالله وهو الصحيح عنه. روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال: الذبيح إسحاق. وهو الصحيح عن عبدالله بن مسعود أن رجلا قال له: يا ابن الأشياخ الكرام. فقال عبدالله: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم وسلم".
(15/99)
وروى أبو الزبير عن جابر قال: الذبيح إسحاق. وذلك مروي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن عبدالله بن عمر: أن الذبيح إسحاق. وهو قول عمر رضي الله عنه. فهؤلاء سبعة من الصحابة. وقال به من التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبدالرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبدالله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس، كلهم قالوا: الذبيح إسحاق. وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد منهم النحاس والطبري وغيرهما. قال سعيد بن جبير: أرى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى به المنحر من منى؛ فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال. وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين. وقال آخرون: هو إسماعيل. وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة. وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد:
إن الذبيح هديت إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا ... وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصه التفضيل
وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الذبيح
(15/100)
إسماعيل" والأول أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين. واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } أنه دعا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } فقال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [مريم:49]؛ ولأن الله قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق؛ لأنه قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } ، وقال هنا: {بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. احتج من قال إنه إسماعيل: بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [مريم: 54]؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به؛ ولأن الله تعالى قال: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً } فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا، وأيضا فإن الله تعالى قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس. وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع؛ أما قولهم: كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأنه يكون نبيا، فإنه يحتمل أن يكون المعنى: وبشرناه بنبوته بعد أن كان من أمره ما كان؛ قال ابن عباس وسيأتي. ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحاق يعقوب. قال: لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق. وأما قولهم: ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدم. وقال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح. وهذا مذهب ثالث.
الثانية: قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات. وقال محمد بن كعب:
(15/101)
كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا؛ فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا". وقال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي؛ واستدل بهذه الآية. وقال السدي: لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح. فقيل له في منامه: قد نذرت فف بنذرك. ويقال: إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك؛ فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان؟ فسمي يوم التروية. فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر. وروي أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر. فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر والحمد لله؛ فبقي سنة. وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر.
الثالثة: فقال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. وقوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } : أي حققت ما نبهناك عليه، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل به في هذا الباب. وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه؛ لأن معنى ذبحت الشيء قطعته. واستدل على هذا بقول مجاهد: قال إسحاق لإبراهيم لا تنظر آلي فترحمني، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض؛ فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقة فانقلبت. فقال له ما لك؟ قال: انقلبت السكين. قال اطعني بها طعنا. وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءا التأم. وقالت طائفة: وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس، وكان كلما أراد قطعا وجد منعا. وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل
(15/102)
وإبراهيم صلوات الله عليهما، وكان أولى بالبيان من الفداء. وقال بعضهم: إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم. وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء.
الرابعة: قوله تعالى: {انْظُرْ مَاذَا تَرَى } قرأ أهل الكوفة غير عاصم {ماذا ترى} بضم التاء وكسر الراء من أرِى يُري. قال الفراء: أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير؛ أي ما تريك نفسك من الرأي. وأنكر أبو عبيد {تُرى} وقال: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة. وكذلك قال أبو حاتم. النحاس: وهذا غلط، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور، يقال: أريت فلانا الصواب، وأريته رشده، وهذا ليس من رؤية العين. الباقون {ترى} مضارع رأيت. وقد روي عن الضحاك والأعمش {ترى} غير مسمى الفاعل. ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله؛ أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله فـ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء؛ كقوله: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل: 59] أي اصطفاهم على ما تقدم. و {ما} بمعنى الذي. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } قال بعض أهل الإشارة: لما استثنى وفقه الله للصبر. وقد مضى الكلام في {يَا أَبَتِ } [يوسف: 4] وكذلك في {يَا بُنَيَّ }[ يوسف: 5] في "يوسف" وغيرها
(15/103)
الخامسة- قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي انقادا لأمر الله. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي وضوان الله عليهم {فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي فوضا أمرهما إلى الله. وقال ابن عباس: استسلما. وقال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله عز وجل وأسلم الآخر ابنه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } قال قتادة: كبه وحول وجهه إلى القبلة. وجواب "لما" محذوف عند البصريين تقديره {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } فديناه بكبش. وقال الكوفيون: الجواب {ناديناه} والواو زائدة مقحمة؛ كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا } [يوسف: 15] أي أوحينا. وقول: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } [الأنبياء:96]. {واقترب} أي اقترب. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ } [الزمر: 73] أي قال لهم. وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى، والواو زائدة. وقال أيضا:
حتى إذا حملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم الفاجر الخب
أراد قلبتم. النحاس: والواو من حروف المعاني لا يجوز أن تزاد. وفي الخبر: إن الذبيح قال لإبراهيم عليه السلام حين أراد ذبحه: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب؛ واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقى ليكون الموت أهون علي وأقذفني للوجه؛ لئلا تنظر إلى وجهي فترحمني، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع، وإذا أتيت إلى أمي فأقرئها مني السلام. فلما جر إبراهيم عليه السلام السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس، فلم تعمل السكين شيئا، ثم ضرب به على جبينه وحز في قفاه فلم تعمل السكين شيئا؛ فذلك قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } كذلك فال ابن عباس: معناه كبه على وجهه فنودي {يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } فالتفت فإذا بكبش؛ ذكره المهدوي. وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل؛ هذا بهيئة
(15/104)
الذبح، وهذا بصورة المذبوح، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين. وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم. والله أعلم. قال الجوهري: {وتله للجبين} أي صرعه؛ كما تقول: كبه لوجهه. الهروي: والتل الدفع والصرع؛ ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "وتركوك لمتلك" أي لمصرعك. وفي حديث آخر: "فجاء بناقة كوماء فتلها" أي أناخها. وفي الحديث: "بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي" قال ابن الأنباري: أي فألقيت في يدي؛ يقال: تللت الرجل إذا ألقيته. قال ابن الأعرابي: فصبت في يدي؛ والتل الصب؛ يقال: تل يتل إذا صب، وتل يتل بالكسر إذا سقط.
قلت: وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ؛ فقال للغلام: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء" فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال؛ فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده؛ يريد جعله في يده. وقال بعض أهل الإشارة: إن إبراهيم ادعى محبة الله، ثم نظر إلى الولد بالمحبة، فلم يرض حبيبه محبة مشتركة؛ فقيل له: يا إبراهيم اذبح ولدك في مرضاتي، فشمر وأخذ السكين وأضجع ولده، ثم قال: اللهم تقبله مني في مرضاتك. فأوحى الله إليه: يا إبراهيم لم يكن المراد ذبح الولد، وإنما المراد أن ترد قلبك إلينا، فلما رددت قلبك بكليته إلينا رددنا ولدك إليك. وقال كعب وغيره: لما أرى إبراهيم ذبح ولده في منامه، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل الشيطان لهم في صورة الرجل، ثم أتى أم الغلام وقال: أتدرين أين يذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: لا. قال: إنه يذهب به ليذبحه. قالت: كلا هو أرأف به من ذلك. فقال: إنه يزعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه. ثم أتى الغلام فقال: أتدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: لا. قال: فإنه يذهب بك ليذبحك. قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قال: فليفعل ما أمره الله به، سمعا وطاعة لأمر الله. ثم جاء إبراهيم فقال: أين تريد؟ والله إني لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك
(15/105)
بذبح ابنك. فعرفه إبراهيم فقال: إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر ربي. فلم يصب، الملعون منهم شيئا. وقال ابن عباس: لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى.
واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل: بمكة في المقام. وقيل: في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله؛ قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب. وحكي عن سعيد بن جبير: أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى. وقال ابن جريج: ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين. والأول أكثر؛ فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أنه ذبحه بمكة. وقال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام: لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة. والله أعلم.
قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } أي النعمة الظاهرة؛ يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه. وقد يقال بلاه. قال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فزعم قوم أنه جاء باللغتين. وقال آخرون: بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره، ولا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه، ولا يقال من الابتلاء يبلوه. وأصل هذا كله من الاختبار أن يكون بالخير والشر؛ قال الله عز وجل: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. وقال أبو زيد: هذا من البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه؛ قال: وهذا من البلاء المكروه.
(15/106)
السابعة- قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح؛ كالطحن اسم المطحون. والذبح بالفتح المصدر. {عظيم} أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح؛ أو لأنه متقبل. قال النحاس: عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف، أو المتقبل. وقال ابن عباس: هو الكبش الذي تقرب به هابيل، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وعنه أيضا: أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه، وهذا قول علي رضي الله عنه. فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه. وقال: يا بني اليوم وهبت لي. وقال أبو إسحاق الزجاج: قد قيل أنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي. وأهل التفسير على أنه فدي بكبش.
في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهذا مذهب مالك وأصحابه. قالوا: أفضل الضحايا الفحول من الضأن، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز، وفحول المعز خير من إناثها، وإناث المعز خير من الإبل والبقر. وحجتهم قوله سبحانه وتعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي ضخم الجثة سمين، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة. وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل: إني نذرت أن أنحر ابني؟ فقال: يجزيك كبش سمين، ثم قرأ: {وفديناه بذبح عظيم} . وقال بعضهم: لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين. وأكثر ما ضحي به الكباش. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال: الذبح العظيم الشاة.
واختلفوا أيهما أفضل: الأضحية أو الصدقة بثمنها. فقال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى؛ لأنه ليس موضع الأضحية؛ حكاه أبو عمر. وقال ابن المنذر: روينا عن بلال أنه قال: ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه -
(15/107)
هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به. وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل. وبه قال مالك وأبو ثور. وفيه قول ثان: إن الضحية أفضل؛ هذا قول ربيعة وأبي الزناد. وبه قال أصحاب الرأي. زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا: الضحية أفضل من الصدقة؛ لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. فال أبو عمر: وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان؛ فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم" قال أبو عمر: وهو حديث غريب من حديث مالك. وعن عائشة قالت: يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة" ذكره أبو عمر في كتات التمهيد. وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا" قال: وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم. وهذا حديث حسن.
الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف. وقال عكرمة: كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما، ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس. قال أبو عمر: ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم؛ لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم؛ لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. وقد حكى الطحاوي
(15/108)
في مختصره: وقال أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر. قال: ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه. وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا: ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. قال: وبه نأخذ. قال أبو عمر: وهذا قول مالك؛ قال: لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى. وقال الإمام الشافعي: هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة. وقد احتج من أوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى؛ لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة. احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى" قالوا: فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضي. وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال.
والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية: وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. قال ابن المنذر: وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال: يضحى ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن رجل. وقال الإمام الشافعي: لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية. وقال أصحاب الرأي: جائز؛ لأن ولدها بمنزلة أمه. وقال أبو ثور: يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام.
وقد مضى في سورة "الحج" الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" في رواية قال: "ويقول بسم الله والله أكبر" وقد مضى في آخر "الأنعام" حديث عمران بن حصين، ومضى في "المائدة" القول في التذكية وبيانها وما يذكى به، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى. وفي صحيح مسلم
(15/109)
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به" فقال لها: "يا عائشة هلمي المدية" ثم قال: "اشحذيها بحجر ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به. وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية: بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان. وقال مالك: إن فعل ذلك فحسن، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه. وقال الشافعي: والتسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله، أو صلى على محمد عليه السلام لم أكرهه، أو قال اللهم تقبل مني، أو قال تقبل من فلان فلا بأس. وقال النعمان: يكره أن يذكر مع اسم الله غيره؛ يكره أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح. وقال: لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح. وحديث عائشة يرد هذا القول. وقد تقدم أن إبراهيم عليه السلام قال لما أراد ذبح ابنه: الله أكبر والحمد لله. فبقي سنة.
روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي" لفظ مالك ولا خلاف فيه. واختلف في اليسير من ذلك. وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. قال: والمقابلة ما قطع طرف أذنها، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء المشقوقة، والخرقاء المثقوبة؛ قال هذا حديث حسن صحيح. وفي الموطأ عن نافع: أن عبدالله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن والتي نقص من خلقها. قال مالك: وهذا أحب ما سمعت إلي. قال
(15/110)
القتبي: لم تسنن أي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا. وهذا كما يقال: فلان لم يلبن أي لم يعط لبنا، ولم يسمن أي لم يعط سمنا، ولم يعسل أي لم يعط عسلا. وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء. قال أبو عمر: ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة؛ فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها؛ لأنه عيب غير خفيف. والنقصان كله مكروه، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "استشرقوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" ذكره الزمخشري.
ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه؛ قال ابن عباس. وعنه رواية أخرى: ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبدالمطلب ابنه؛ روى الروايتين عنه الشعبي. وروى عنه القاسم بن محمد: يجزيه كفارة يمين. وقال مسروق: لا شيء عليه. وقال الشافعي: هو معصية يستغفر الله منها. وقال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شيء. قال محمد: عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث. وذكر ابن عبدالحكم عن مالك فيمن قال: أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي. قال: ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه. قال: ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه؛ قال القاضي ابن العربي: يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة؛ لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة. وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة؛ لأن الله تعالى قال:
(15/111)
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج: 78] والإيمان التزام أصلي، والنذر التزام فرعي؛ فيجب أن يكون محمولا عليه. فإن قيل: كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز. قلنا: هذا اعتراض على كتاب الله، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام، وقد قال الله تعالى: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك: أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } في الصبر على ذبح الولد والنفس، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية. فإن قيل: كيف يصير نذرا وهو معصية. قلنا: إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء؟ فإن قيل: فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء؟ قلنا: لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره؛ لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده؛ فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه. وقيل: هو دعاء إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [الشعراء. 84]. وقال عكرمة: هو السلام على إبراهيم أي سلاما منا. وقيل: سلامة له من الآفات مثل: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [الصافات: 79] حسب ما تقدم. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي من الذين أعطوا العبودية حقها حتى استحقوا الإضافة إلى الله تعالى.
قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن عباس: بشر بنبوته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين؛ فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } أي ثنينا عليهما النعمة وقيل كثرنا ولدهما؛ أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني
(15/112)
إسرائيل من صلبه. وقد قيل: إن الكناية في {عليه} تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة: {وفديناه بذبح عظيم} ثم قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي على إسماعيل {وَعَلَى إِسْحَاقَ } كنى عنه؛ لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال: {ومن ذريتهما} فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة.
قلت: قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل؛ فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق، وبشر به إبراهيم مرتين؛ الأولى بولادته والثانية بنبوته؛ كما قال ابن عباس. ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و {نبيا} نصب على الحال والهاء في {عليه} عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه. وأما ما روي من طريق معاوية قال: سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الذبيحين؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال معاوية: إن عبدالمطلب لما حفر بئر زمزم، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله، فسهل الله عليه أمرها، فوقع السهم على عبدالله، فمنعه أخواله بنو مخزوم؛ وقالوا: أفد ابنك؛ ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه؛ لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ ولأن العرب تجعل العم أبا؛ قال الله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة: 133] وقال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } [يوسف: 100] وهما أبوه وخالته. وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح إسناده فكيف وفي الفرزدق نفسه مقال.
قوله تعالى: {مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ } لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال: منهم محسن ومنهم مسيء، وإن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة؛ فاليهود والنصارى
(15/113)
وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر، وفي التنزيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] الآية؛ أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلا. وقد تقدم.
الآية: 114 - 122 {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، إنا كذلك نجزي المحسنين، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } لما ذكر إنجاء إسحاق من الذبح، وما من به عليه بعد النبوة، ذكر ما من به أيضا على موسى وهرون من ذلك. وقوله: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } قيل: من الرق الذي لحق بني إسرائيل. وقيل من الغرق الذي لحق فرعون. { وَنَصَرْنَاهُمْ } قال الفراء: الضمير لموسى وهرون وحدهما؛ وهذا على أن الاثنين جمع؛ دليله قوله: {وآتيتاهما} {وهديناهما}. وقيل: الضمير لموسى وهرون وقومهما وهذا هو الصواب؛ لأن قبله {ونجيناهما وقومهما}. و {الكتاب المستبين} التوراة؛ يقال استبان كذا أي صار بينا؛ واستبانه فلان مثل تبين الشيء بنفسه وتبينه فلان. و"الصراط المستقيم" الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. {وتركنا عليهما في الآخرين} يريد الثناء الجميل. {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، إنا كذلك نجزي المحسنين، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } تقدم.
====================
الصافات - تفسير الطبري
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) }
يقول تعالى ذكره: فلما أسلما أمرهما لله وفوّضاه إليه واتفقا على التسليم لأمره والرضا بقضائه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا ثابت بن محمد، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلم بن صالح، قالا ثنا عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال: اتفقا على أمر واحد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: أسلما جميعا لأمر الله ورضي الغلام بالذبح، ورضي الأب بأن يذبحه، فقال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع، ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله، فذلك قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) فلما فعل ذلك( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ).
(21/76)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال: أسلم هذا نفسه لله، وأسلم هذا ابنه لله.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال: أسلما ما أمرا به.
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) يقول: أسلما لأمر الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) : أي سلم إبراهيم لذبحه حين أمر به وسلم ابنه للصبر عليه، حين عرف أن الله أمره بذلك فيه.
وقوله( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) يقول: وصَرَعَه للجَبِيِن، والجبينان ما عن يمين الجبهة وعن شمالها، وللوجه جبينان، والجبهة بينهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو العاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: وضع وجهه للأرض، قال: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، ولا تجهز عليّ، اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) : أى وكبه لفيه وأخذ الشفرة( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) حتى بلغ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
(21/76)
عن أبيه، عن ابن عباس( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: أكبه على جبهته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: جبينه، قال: أخذ جبينه ليذبحه.
حدثنا ابن سنان، قال: ثنا حجاج، عن حماد، عن أبي عاصم الغَنَوِيّ عن أبي الطُّفَيل، قال: قال ابن عباس: إن إبراهيم لما أُمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حَصَيَات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوُسْطَى، فرماه بسبع حَصَيَات حتى ذهب، ثم تلَّه للجَبِين، وعلى إسماعيل قَميص أبيض، فقال له: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أعْيَن أبيض فذبحه، فقال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع هذا الضرب من الكِباش.
وقوله( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) وهذا جواب قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) ومعنى الكلام: فلما أسلما وتلَّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم; وأدخلت الواو في ذلك كما أدخلت في قوله( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) وقد تفعل العرب ذلك فتدخل الواو في جواب فلما، وحتى وإذا تلقيها.
ويعني بقوله( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) التي أريناكها في منامك بأمرناك بذبح ابنك.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول: إنا كما جَزَيْناك بطاعتنا يا إبراهيم، كذلك نجزى الذين أحسنوا، وأطاعوا أمرنا، وعملوا في رضانا.
وقوله( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) : يقول تعالى ذكره: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك إسحاق، لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكَّرَ فيه أنه بلاء شديد ومِحْنة عظيمة. وكان ابن زيد يقول: البلاء في هذا الموضع الشرّ وليس باختبار.
(21/78)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) قال: هذا فى البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه.( صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) : ابتليتَ ببلاء عظيم أمرت أن تذبح ابنك، قال: وهذا من البلاء المكروه وهو الشرّ وليس من بلاء الاختبار.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) }
وقوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) يقول: وفدينا إسحاق بذبح عظيم، والفدية: الجزاء، يقول: جزيناه بأن جعلنا مكان ذبحه ذبح كبش عظيم، وأنقذناه من الذبح.
واختلف أهل التأويل، في المفديّ من الذبح من ابني إبراهيم، فقال بعضهم: هو إسحاق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.
حدثني الحسين بن يزيد بن إسحاق، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الذي أُمِر بذبحه إبراهيم هو إسحاق.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن عكرمة، قال:
(21/79)
قال ابن عباس: الذبيح إسحاق.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا زيد بن حباب، عن الحسن بن دينار، عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره، قال:"هو إسحاق" .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، فقال: أنا فلان بن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا إبراهيم بن المختار، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن الزهري، عن العلاء بن حارثة الثقفي، عن أبي هريرة، عن كعب في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: من ابنه إسحاق.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا زكريا وشعبة، عن ابن إسحاق، عن مسروق، في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبيد بن عمير، قال: هو إسحاق.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمير قال:( قال موسى: يا ربّ يقولون يا إله
(21/80)
إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قطّ إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظنّ ).
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، قال: قال موسى: أي ربّ بم أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما أعطيتهم؟ فذكر معنى حديث عمرو بن عليّ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي سنان الشيباني، عن ابن أبي الهذيل، قال: الذبيح هو إسحاق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي، أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم النبيّ؟ قال أبو هريرة: بلى، قال كعب: لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق ، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن أحدا منهم أبدا، فتمثل الشيطان لهم رجلا يعرفونه، فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارَة امرأة إبراهيم، فقال لها: أين أصبح إبراهيم غاديا بإسحاق ؟ قالت سارَة: غدا لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما لذلك غدا به، قالت سارَة: فَلِمَ غدا به؟ قال: غدا به ليذبحه! قالت سارَة: ليس من ذلك شيء، لم يكن ليذبح ابنه! قال الشيطان: بلى والله! قالت سارَة: فلم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك; قالت سارَة: فهذا أحسن بأن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند سارَة حتى أدرك إسحاق وهو يمشي على إثر أبيه، فقال: أين أصبح أبوك غاديا بك ؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما غدا بك لبعض حاجته، ولكن غدا بك ليذبحك، قال إسحاق: ما كان أبي ليذبحني! قال: بلى; قال: لِمَ ؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك; قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنَّه، قال: فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أين أصبحت غاديا بابنك؟ قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه، قال: لِمَ أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك; قال: الله فوالله لئن كان أمرني بذلك ربي لأفعلنّ; قال: فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسَلَّم إسحاق، أعفاه الله وفداه بذبح عظيم، قال إبراهيم لإسحاق: قم أي بنيّ، فإن الله قد أعفاك; وأوحى الله إلى إسحاق: إني قد أعطيتك دعوة أستجيب
(21/81)
لك فيها; قال، قال إسحاق: اللهمّ إني أدعوك أن تستجيب لي، أيما عبد لقيك من الأوّلين والآخرين لا يُشرك بك شيئا، فأدخله الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفي، حليف بني زُهرة، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار أن الذي أُمِر إبراهيم بذبحه من ابنيه إسحاق، وأن الله لما فرج له ولابنه من البلاء العظيم الذي كان فيه، قال الله لإسحاق: إني قد أعطيتك بصبرك لأمري دعوة أعطيك فيها ما سألت، فسلني، قال: ربّ أسألك أن لا تعذّب عبدا من عبادك لقيك وهو يؤمن بك، فكانت تلك مسألته التي سأل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن ابن سابط، قال: هو إسحاق.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا سفيان بن عُقْبة، عن حمزة الزيات، عن أبي ميسرة، قال: قال يوسف للملِك في وجهه: ترغب أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.
قال: ثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبى سنان، عن ابن أبي الهُذَيل، قال: قال يوسف للملِك، فذكر نحوه.
وقال آخرون: الذي فُدِي بالذبح العظيم من بني إبراهيم: إسماعيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قالا ثنا يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الذبيح: إسماعيل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثني بيان، عن الشعبيّ، عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: إسماعيل.
(21/82)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن محمد بن ميمون السكريّ، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: إن الذي أمر بذبحه إبراهيم إسماعيلُ.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عليّ بن زيد، عن عمار، مولى بني هاشم، أو عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: هو إسماعيل، يعني( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ).
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا داود، عن الشعبيّ، قال: قال ابن عباس: هو إسماعيل.
وحدثني به يعقوب مرّة أخرى، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: سئل داود بن أبي هند: أيّ ابني إبراهيم الذي أُمِر بذبحه؟ فزعم أن الشعبي قال: قال ابن عباس: هو إسماعيل.
حدثنا ابن المثني، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن بيان، عن الشعبيّ، عن ابن عباس أنه قال في الذي فداه الله بذبح عظيم قال: هو إسماعيل.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رَباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المَفْدِيّ إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.
حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: الذي فداه الله هو إسماعيل.
حدثنا ابن سنان القزّاز، قال: ثنا حجاج بن حماد، عن أبي عاصم
(21/83)
الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، مثله.
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه: إسماعيل.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الآية( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل، قال: وكان قَرْنا الكبش مَنُوطَيْن بالكعبة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، قال: الذبيح إسماعيل.
قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، قال: رأيت قرني الكبش في الكعبة.
قال: ثنا ابن يمان، عن مبارك بن فضالة، عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، عن يوسف بن مهران، قال: هو إسماعيل.
قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هو إسماعيل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عوف، عن الحسن( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ وهو يقول: إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أُمر به من ذبح ابنه إسماعيل، وذلك أن الله يقول، حين فرغ من قصة المذبوح من إبراهيم، قال:( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول: بشرناه بإسحاق ومن وراء
(21/84)
إسحاق يعقوب، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعود ما وعده الله، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم: إسماعيل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ يقول ذلك كثيرا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فَرْوة الأسلمي عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما هو; ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فأسلم فحسُن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فقال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أيّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسُدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، فالله أعلم أيهما كان، كل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لربه.
حدثني محمد بن عمار الرازي، قال: ثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، قال: ثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابيّ، عن عبيد بن محمد العُتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان، عن أبيه، قال: ثني عبد الله بن سعيد، عن الصّنَابحي، قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم:( كنا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عُدّ عليّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين; فضحك عليه الصلاة
(21/85)
والسلام ; فقلنا له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أُمِر بحفْر زمزم، نذر لله لئن سَهُل عليه أمرها ليذبحنّ أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا: افْدِ ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، وإسماعيل الثاني ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: الذي فُدِيَ به إسماعيل، ويعني تعالى ذكره الكبش الذي فُدِيَ به إسحاق، والعرب تقول لكلّ ما أُعِدّ للذبح ذِبْح، وأما الذَّبح بفتح الذال فهو الفعل.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في المَفْديّ من ابني إبراهيم خليل الرحمن على ظاهر التنزيل قول من قال: هو إسحاق، لأن الله قال:( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) فذكر أنه فدَى الغلامَ الحليمَ الذي بُشِّر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدًا صالحًا من الصالحين، فقال:( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) فإذ كان المفدِيّ بالذبح من ابنيه هو المبشَّر به، وكان الله تبارك اسمه قد بين في كتابه أن الذي بُشِّر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال جل ثناؤه:( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معنيّ به إسحاق، كان بيَّنا أن تبشيره إياه بقوله( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن.
وبعد: فإن الله أخبر جل ثناؤه في هذه الآية عن خليله أنه بشَّره بالغلام الحليم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين، ومعلوم أنه لم يسأله ذلك إلا في حال لم يكن له فيه ولد من الصالحين، لأنه لم يكن له من ابنيه إلا إمام الصالحين، وغير موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له. فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو الذي ذكر في سائر القرآن أنه بشَّره به وذلك لا شك أنه إسحاق، إذ كان المفديّ
(21/86)
هو المبشَّر به. وأما الذي اعتلّ به من اعتلّ في أنه إسماعيل، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم; فإن الله إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير ممكن أن يكون قد وُلد لإسحاق فيها أولاد، فكيف الواحد؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة المفديّ من ولد إبراهيم بقوله( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) ولو كان المفديّ هو إسحاق لم يبشَّر به بعد، وقد ولد، وبلغ معه السعي، فإن البشارة بنبوه إسحاق من الله فيما جاءت به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة من الله له على صبره لأمر ربه فيما امتحنه به من الذبح، وقد تقدمت الرواية قبلُ عمن قال ذلك. وأما اعتلال من اعتلّ بأن قرن الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حُمل من الشام إلى الكعبة. وقد رُوي عن جماعة من أهل العلم أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام، وبها أراد ذبحه.
اختلف أهل العلم في الذِّبح الذي فُدِي به إسحاق، فقال بعضهم: كان كبشا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن عليّ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كبش أبيض أقرن أعين مربوط بسَمُرَة في ثَبِير.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كبش قال عبيد بن عمير: ذُبِح بالمَقام، وقال مجاهد: ذبح بمنًى في المَنْحَر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن سعيد، عن ابن عباس قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه.
(21/87)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، عن عكرمة، أن ابن عباس كان أفتى الذي جعل عليه أن ينحر نفسه، فأمره بمئة من الإبل، قال: فقال ابن عباس بعد ذلك: لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا، فإن الله قال في كتابه:( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: ذبح كبش.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: قال ابن عباس: التفتَ فإذا كبش، فأخذه فذبحه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كان الكبش الذي ذبحه إبراهيم رعى في الجنة أربعين سنة، وكان كبشا أملح، صوفه مثل العِهْنِ الأحمر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: بكبش.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا ليث، قال مجاهد: الذبح العظيم: شاة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: وثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله( بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: بكبش.
* وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: الذِّبح: الكبش.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: التفت، يعني ابراهيم، فإذا بكبش، فأخذه وخلَّى عن ابنه.
(21/88)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الذبح العظيم: الكبش الذي فدى الله به إسحاق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة بن دِعامة، عن جعفر بن إياس، عن عبد الله بن العباس، في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: خرج عليه كبش من الجنة قد رعاها قبل ذلك أربعين خريفا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرمي بسبع حصيات، فأفلته عنده، فجاء الجمرة الوسطى، فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات، فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من مِنَى، فذبحه; فوالذي نفس ابن عباس بيده، لقد كان أوّل الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه عند ميزاب الكعبة قد حُشّ، يعني يبس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال ابن إسحاق: ويزعم أهل الكتاب الأول وكثير من العلماء أن ذبيحة إبراهيم التي فدى بها ابنه كبش أملح اقرن أعين.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: بكبش.
وقال آخرون: كان الذبح وعلا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كان وَعِلا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرويّ أهبط عليه من ثبير.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للذِّبح الذي فدي
(21/89)
به إسحاق عظيم، فقال بعضهم: قيل ذلك كذلك، لأنه كان رَعَى في الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: رعى في الجنة أربعين خريفا.
وقال آخرون: قيل له عظيم، لأنه كان ذِبْحًا متقبَّلا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد،( عَظِيمٌ ) قال: متقبَّل.
حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد في( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: العظيم: المتقبل.
وقال آخرون: قيل له عظيم، لأنه ذِبْح ذُبِحَ بالحقّ، وذلك ذبحه بدين إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما يقول الله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) لذبيحته التي ذبح فقط، ولكنه الذَّبح على دينه، فتلك السُّنَّة إلى يوم القيامة، فاعلموا أن الذبيحة تدفع مِيتة السُّوء، فضحُّوا عباد الله.
قال أبو جعفر: ولا قول في ذلك أصح مما قال الله جلّ ثناؤه، وهو أن يقال: فداه الله بذِبح عظيم، وذلك أن الله عم وصفه إياه بالعظم دون تخصيصه، فهو كما عمه به.
وقوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول تعالى ذكره: وأبقينا عليه فيمن بعده إلى يوم القيامة ثناءً حسنا.
(21/90)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: سأل إبراهيمُ، فقال:( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) قال: فترك الله عليه الثناء الحسن في الآخرين، كما ترك اللسانَ السَّوْء على فرعون وأشباهه كذلك ترك اللسان الصدق والثناء الصالح على هؤلاء.
وقيل: معنى ذلك: وتركنا عليه في الآخرين السلام، وهو قوله( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، وذلك قول يُرْوى عن ابن عباس تركنا ذكره لأن في إسناده من لم نستجز ذكره; وقد ذكرنا الأخبار المروية في قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) فيما مضى قبل. وقيل:
معنى ذلك: وتركنا عليه في الآخرين أن يقال: سلام على إبراهيم.
وقوله( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) يقول تعالى ذكره: أمَنَة من الله في الأرض لإبراهيم أن لا يذكر من بعده إلا بالجميل من الذكر.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول: كما جزينا إبراهيم على طاعته إيانا وإحسانه في الانتهاء إلى أمرنا، كذلك نجزي المحسنين( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن إبراهيم من عبادنا المخلصين لنا الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) }
يقول تعالى ذكره: وبشَّرنا إبراهيم بإسحاق نبيا شكرا له على إحسانه وطاعته.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: بشر به بعد ذلك نبيا، بعد ما كان هذا من أمره لمَّا جاد لله بنفسه.
(21/91)
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: الذبيح إسحاق; قال: وقوله( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال بُشِّر بنبوته. قال: وقوله( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد وهب الله له نبوته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود يحدّث، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: إنما بشره به نبيا حين فداه من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله:( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) قال: إنما بُشِّر بالنبوّة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: بُشِّر إبراهيم بإسحاق.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: بنبوته.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن شيخ من أهل المسجد، قال: بُشِّر إبراهيم لسبع عشرة ومئة سنة.
وقوله( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ) يقول تعالى ذكره: وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ ) يعني بالمحسن: المؤمن المطيع لله، المحسن في طاعته إياه( وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) ويعني بالظالم لنفسه: الكافر بالله، الجالب على نفسه بكفره عذاب الله وأليم عقابه( مبين ) : يعني الذي قد أبان ظلمه نفسه بكفره بالله.
(21/92)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) قال: المحسن: المطيع لله، والظالم لنفسه: العاصي لله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) }
يقول تعالى ذكره: ولقد تفضلنا على موسى وهارون ابني عمران، فجعلناهما نبيين، ونجيناهما وقومهما من الغم والمكروه العظيم الذي كانوا فيه من عُبودة آل فرعون، ومما أهلكنا به فرعون وقومه من الغرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدّيّ، في قوله( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) قال: من الغرق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) : أي من آل فرعون.
وقوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) يقول: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وآله بتغريقناهم،( فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) لهم.
وقال بعض أهل العربية: إنما أريد بالهاء والميم في قوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) موسى وهارون، ولكنها أخرجت على مخرج مكنيّ الجمع، لأن العرب تذهب بالرئيس
(21/93)
وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
كالنبي والأمير وشبه إلى الجمع بجنوده وأتباعه، وإلى التوحيد لأنه واحد في الأصل، ومثله:( على خوف من فرعون وملئهم ) وفي موضع آخر: وملئه قال: وربما ذهبت العرب بالاثنين إلى الجمع كما تذهب بالواحد إلى الجمع، فتخاطب الرجل، فتقول: ما أحسنتم ولا أجملتم، وإنما تريده بعينه، وهذا القول الذي قاله هذا الذي حكينا قوله في قوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) وإن كان قولا غير مدفوع، فإنه لا حاجة بنا إلى الاحتيال به لقوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) لأن الله أتبع ذلك قوله( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) ثم قال:( وَنَصَرْنَاهُمْ ) يعني: هما وقومهما، لأن فرعون وقومه كانوا أعداء لجميع بني إسرائيل، قد استضعفوهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، فنصرهم الله عليهم، بأن غرّقهم ونجى الآخرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) }
يقول تعالى ذكره: وآتينا موسى وهارون الكتاب: يعني التوراة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ) : التوراة.
ويعني بالمستبين: المتبيِّن هُدَى ما فيه وتفصيله وأحكامه.
وقوله( وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يقول تعالى ذكره: وهدينا موسى وهارون الطريق المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام دين الله، الذي ابتعث به أنبياءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/94)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الإسلام.
وقوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ) يقول: وتركنا عليهما في الآخرين بعدهم الثناء الحسن عليهما.
وقوله( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) يقول: وذلك أن يقال: سلام على موسى وهارون.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول: هكذا نجزي أهل طاعتنا، والعاملين بما يرضينا عنهم( إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن موسى وهارون من عبادنا المخلصين لنا الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
=============
الصافات - تفسير ابن كثير
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
{ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) }
قال (1) قتادة، ومحمد بن إسحاق، يقال: إلياس هو إدريس. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيدة بن ربيعة (2) ، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: إلياس هو إدريس. وكذا قال الضحاك.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
(7/36)
وقال وَهْب بن منَبِّه: هو إلياس بن ياسين (1) بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل، عليهما السلام، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له: "بعل"، فدعاهم إلى الله، ونهاهم عن عبادة ما سواه. وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد (2) ، واستمروا على ضلالتهم، ولم يؤمن به منهم أحد. فدعا الله عليهم.
فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم، ووعدوه (3) الإيمان به إن هم أصابهم المطر. فدعا الله لهم، فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل الله أن يقبضه إليه. وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب، عليه السلام، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا، فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه، فجاءته فرس من نار فركب (4) ، وألبسه الله النور وكساه الريش، وكان يطير مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا، هكذا حكاه وهب عن أهل الكتاب، والله أعلم بصحته.
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ } أي: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ .
{ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي: { بَعْلا } يعني: ربا.
قال قتادة وعكرمة: وهي لغة أهل اليمن. وفي رواية عن قتادة قال: هي لغة أزد شنوءة.
وقال ابن إسحاق: أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها: "بعل".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها: "بعلبك"، غربي دمشق.
وقال الضحاك: هو صنم كانوا يعبدونه.
وقوله: { أَتَدْعُونَ بَعْلا } أي: أتعبدون صنما؟ { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } أي: هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له .
قال الله تعالى: { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي للعذاب يوم الحساب .
{ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي: الموحدين منهم. وهذا استثناء منقطع من مثبت .
وقوله: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } أي: ثناء جميلا.
{ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } كما يقال في إسماعيل: إسماعين. وهي لغة بني أسد. وأنشد بعض بني نمير في ضَبِّ صَادَه.
يَقُولُ رَبّ السوق لما جينا ... هذا وربِّ البيت إسْرَائينا (5)
ويقال: ميكال، وميكائيل، وميكائين، وإبراهيم وإبراهام، وإسرائيل وإسرائين، وطور سيناء، وطور سينين. وهو موضع واحد، وكل هذا سائغ (6)
وقرأ آخرون: "سلام على إدراسين"، وهي قراءة عبد الله بن مسعود. وآخرون: " سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ" يعني: آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسيره (7) .
{
__________
(1) في ت: "شبي" وفي س: "تبي".
(2) في ت: "ارتدوا".
(3) في ت، س: "فوعدوه".
(4) في ت، س: "فركبه".
(5) البيت في تفسير الطبري (23/57).
(6) فس أ: "شائغ".
(7) في ت: "كما تقدم من تفسيرها".
(7/37)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) }
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط، عليه السلام أنه بعثه إلى قومه.
فكذبوه، فنجاه الله من بين أظهرهم هو وأهله.
إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها.
فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات، وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا؛ ولهذا قال: { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي: أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها؟
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) }
قد تقدمت قصة يونس، عليه السلام، في سورة الأنبياء. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى ونَسَبَه إلى أمه" (1) وفي رواية قيل: "إلى أبيه".
وقوله: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } قال ابن عباس: هو الموقر، أي: المملوء بالأمتعة.
{ فَسَاهَمَ } أي: قارع { فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } أي: المغلوبين. وذلك أن السفينة تَلَعَّبَت (2) بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر، لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس، عليه الصلاة والسلام (3) ثلاث مرات، وهم يضنون (4) به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك.
وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار، وأن يلتقم، يونس عليه السلام، فلا يَهْشِمُ له لحما، ولا يكسر له عظما (5) . فجاء ذلك الحوت وألقى يونس، عليه السلام، نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس في بطن الحوت، حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي، فقام يصلي في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه: "يا رب، اتخذتُ لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس" واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت، فقيل: ثلاثة أيام، قاله قتادة. وقيل جُمْعَة (6) قاله جعفر الصادق. وقيل: أربعين يوما، قاله أبو مالك.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3395) وصحيح مسلم برقم (2377).
(2) في أ: "تلعب".
(3) في ت: "عليه السلام".
(4) في ت: "يظنون".
(5) في س: فلا تهشم له لحما ولا تكسر له عظما".
(6) في ت، س، أ: "سبعة".
(7/38)
وقال مُجَالد (1) ، عن الشعبي: التقمه ضحى، وقذفه (2) عشية.
والله أعلم بمقدار ذلك. وفي شعر أمية بن أبي الصلت :
وَأنْتَ بفَضلٍ منْكَ نَجَّيتَ يُونُسًا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أضْعَاف حُوتٍ ليَالِيا (3)
وقوله: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، قيل: لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء. قاله الضحاك بن قيس، وأبو العالية، ووهَب بن مُنَبِّه، وقتادة، وغير واحد. واختاره ابن جرير. وقد ورد في الحديث الذي سنورده ما يدل على ذلك إن صح الخبر. وفي حديث عن ابن عباس: " تَعَرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" (4)
وقال ابن عباس، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وعطاء بن السائب، والسدي، والحسن، وقتادة: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } يعني: المصلين.
وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. وقال بعضهم: كان من المسبحين في جوف أبويه. وقيل: المراد: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } هو قوله: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء:87، 88] قاله سعيد بن جبير وغيره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي حدثنا أبو صخر (5) : أن يزيد الرّقاشي حَدّثه: أنه سمع أنس بن مالك -ولا أعلم إلا أنّ أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-"أن يونس النبي صلى الله عليه وسلم (6) حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت، فقال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين. فأقبلت الدعوة تحف بالعرش، قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيده غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل، ودعوة مستجابة؟ قالوا: يا رب، أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجِّيه في البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعرَاء".
ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، به (7) (8) زاد ابن أبي حاتم: قال أبو صخر حُمَيد بن زياد: فأخبرني ابن قُسيَط وأنا أحدثه هذا الحديث: أنه سمع أبا هريرة يقول: طرح بالعراء، وأنبت الله عليه اليقطينة. قلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة، قال: شجرة الدُّباء. قال أبو هريرة: وَهَيَّأ الله له أرْويَّة وحشية تأكل من خشاش الأرض -أو قال: هشاش الأرض-قال: فَتَتَفشَّح (9) عليه فَتَرْويه من لبنها كل عَشيَّة وبُكرةٍ حتى نَبَت.
__________
(1) في ت: "مجاهد"
(2) في أ: "ونقله".
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(4) سيأتي تخريجه عند الآية: 38 من سورة الزمر.
(5) في ت: "بإسناده".
(6) في ت، س: "عليه السلام".
(7) بياض في س.
(8) تفسير الطبري (23/64).
(9) في ت، س: "فتنفشخ".
(7/39)
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره:
فَأَنْبَتَ يَقْطينًا عَلَيه برَحْمَةٍ ... مِن الله لَولا اللهُ ألفى ضَاحيا (1)
وقد تقدم حديث أبي هريرة مسندًا مرفوعا في تفسير سورة "الأنبياء" (2) .
ولهذا قال تعالى: { فَنَبَذْنَاهُ } أي: ألقيناه { بِالْعَرَاءِ } قال ابن عباس، وغيره: وهي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء. قيل: على جانب دجلة. وقيل: بأرض اليمن. فالله أعلم.
{ وَهُوَ سَقِيمٌ } أي: ضعيف البدن. قال ابن مسعود، رضي الله عنه: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش. وقال السدي: كهيئة الصبي: (3) حين يولد، وهو المنفوس. وقاله ابن عباس، وابن زيد أيضا.
{ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ووهب بن منبه، وهلال بن يَسَاف وعبد الله بن طاوس، والسدي، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني (4) وغير واحد قالوا كلهم: اليقطين هو القرع.
وقال هُشَيم، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَير: كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين.
وفي رواية عنه: كل شجرة تَهْلِك من (5) عَامِها فهي من اليقطين.
وذكر بعضهم في القرع فوائد، منها: سرعة نباته، وتظليلُ ورقه لكبره، ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة أغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره أيضا. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ الدُّبَّاء، ويتتبعه (6) من حَوَاشي الصَّحْفة (7) (8) .
وقوله تعالى: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } روى شَهْر بن حَوْشَب، عن ابن عباس أنه قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت. رواه ابن جرير: حدثني الحارث قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا أبو (9) هلال عن شهر، به.
وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت.
قلت: ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولا أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت، فصدقوه كلهم وآمنوا به. وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت، كانوا مائة ألف أو يزيدون.
وقوله: { أَوْ يَزِيدُونَ } قال ابن عباس -في رواية عنه-: بل يزيدون، وكانوا مائة وثلاثين ألفا.
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(2) سورة الأنبياء، الآية: 87.
(3) في أ: "الصبي يعني".
(4) في ت: "وابن عباس وغيرهما من التابعين"
(5) في ت: "في".
(6) في أ: "ويتبعه".
(7) في ت: "القصعة".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (5439) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) في أ: "ابن".
(7/40)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
وعنه: مائة ألف وبضعةً وثلاثين ألفا. وعنه: مائة ألف وبضعةً وأربعين ألفا.
وقال سعيد بن جبير: يزيدون سبعين ألفا.
وقال مكحول: كانوا مائة ألف وعشرة آلاف. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البَرْقي (1) ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت زُهَيرًا عمن سمع أبا العالية قال: حدثني أبي بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } ، قال: "يزيدون عشرين ألفا" (2) .
ورواه الترمذي عن علي بن حُجْر، عن الوليد بن مسلم، عن زُهَير، عن رجل، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، به، وقال: غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير، به (3) .
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك: معناه إلى المائة الألف (4) ، أو كانوا يزيدون عندكم، يقول: كذلك كانوا عندكم.
وهكذا سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة:74]، وقوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء:77]، وقوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم:9] أن المراد ليس أنقص من ذلك، بل أزيد.
وقوله: { فَآمَنُوا } أي: فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس، عليه السلام، جميعهم. { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي: إلى وقت آجالهم، كقوله: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98].
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) }
__________
(1) في أ: "الرقي".
(2) تفسير الطبري (23/67).
(3) سنن الترمذي برقم (3229).
(4) في أ: "ألف".
====================
الصافات - تفسير القرطبي
الآية: 123 {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } قال المفسرون: إلياس نبي من بني إسرائيل. وروي عن ابن مسعود قال: إسرائيل هو يعقوب وإلياس هو إدريس. وقرأ: {وإن إدريس} وقاله عكرمة. وقال: هو في مصحف عبدالله: {وإن إدريس لمن المرسلين} وانفرد بهذا القول. وقال ابن عباس: هو عم اليسع. وقال ابن إسحاق وغيره: كان القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوقنا ثم حزقيل، ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان من دونه، فبعث الله إليهم إلياس نبيا وتبعه اليسع وآمن به، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يريحه منهم فقيل له: اخرج يوم كذا وكذا إلى موضع كذا وكذا فما استقبلك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج ومعه اليسع فقال: يا إلياس ما تأمرني. فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر العهد به. وقطع الله على إلياس لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش وألبسه النور، فطار مع الملائكة، فكان إنسيا ملكيا سماويا أرضيا. قال ابن قتيبة: وذلك أن الله تعالى قال لإلياس: "سلني أعطك". قال: ترفعني إليك وتؤخر عني مذاقة الموت. فصار يطير مع الملائكة. وقال بعضهم: كان قد مرض وأحس الموت فبكى، فأوحى الله إليه: لم تبك؟ حرصا على الدنيا، أو جزعا من الموت، أو خوفا من النار؟ قال: لا، ولا شيء من هذا وعزتك، إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك! ويذكرك
(15/115)
الذاكرون بعدي ولا أذكرك! ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم! ويصلي المصلون ولا أصلي!! فقيل له: "يا إلياس وعزتي لأؤخرنك إلى وقت لا يذكرني فيه ذاكر". يعني يوم القيامة. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: إن إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان في كل عام ببيت المقدس يوافيان الموسم في كل عام. وذكر ابن أبي الدنيا؛ إنهما يقولان عند افتراقهما عن الموسم: ما شاء الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله؛ ما شاء الله ما شاء الله، ما يكون من نعمة فمن الله؛ ما شاء الله ما شاء الله؛ توكلت على الله حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد مضى في "الكهف". وذكر من طريق مكحول عن أنس قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر، إذا نحن بصوت يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المتوب عليها، المستجاب لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس، انظر ما هذا الصوت". فدخلت الجبل، فإذا أنا برجل أبيض اللحية والرأس، عليه ثياب بيض، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما نظر إلي قال: أنت رسول النبي؟ قلت: نعم؛ قال: ارجع إليه فأقرئه مني السلام وقل له: هذا أخوك إلياس يريد لقاءك. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى إذا كنا قريبا منه، تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت، فتحدثا طويلا، فنزل عليهما شيء من السماء شبه السفرة فدعواني فأكلت معهما، فإذا فيها كمأة ورمان وكرفس، فلما أكلت قمت فتنحيت، وجاءت سحابة فاحتملته فإذا أنا أنظر إلى بياض ثيابه فيها تهوي؛ فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي! هذا الطعام الذي أكلنا أمن السماء نزل عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سألته عنه فقال يأتيني به جبريل في كل أربعين يوما أكلة، وفي كل حول شربة من ماء زمزم، وربما رأيته على الجب يملأ بالدلو فيشرب وربما سقاني".
قوله تعالى: { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } يعني لبني إسرائيل {لا تَتَّقُونَ } يعني الله عزوجل وتخافون عقابه {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك
(15/116)
قال ثعلب: اختلف الناس في قوله عز وجل ها هنا {بعلا} فقالت طائفة: البعل ها هنا الصنم. وقال طائفة: البعل ها هنا ملك. وقال ابن إسحاق: امرأة كانوا يعبدونها. والأول أكثر. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال: صنما. وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال: ربا. النحاس: والقولان صحيحان؛ أي أتدعون صنما عملتموه ربا. يقال: هذا بعل الدار أي ربها. فالمعنى أتدعون ربا اختلقتموه، و {أتدعون} بمعنى أتسمون. حكى ذلك سيبويه. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي: البعل الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال: من بعل هذه؟. أي من ربها؛ ومنه سمي الزوج بعلا. قال أبو دواد:
ورأيت بعلك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
مقاتل: صنم كسره إلياس وهرب منهم. وقيل: كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام. وبه سميت مدينتهم بعلبك كما ذكرنا. {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي أحسن من يقال له خالق. وقيل: المعنى أحسن الصانعين؛ لأن الناس يصنعون ولا يخلقون. {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } بالنصب في الأسماء الثلاثة قرأ الربيع بن خيثم والحسن وابن أبي إسحاق وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى أبو عبيد أنها على النعت. النحاس: وهو غلط وإنما هو على البدل ولا يجوز النعت ها هنا؛ لأنه ليس بتخلية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس: وأولى مما قال - أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع
(15/117)
أولى وأحسن؛ لأن قبله رأس آية فالاستئناف أولى. ابن الأنباري: من نصب أو رفع لم يقف على {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } على جهة التمام؛ لأن الله عز وجل مترجم عن {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } من الوجهين جميعا.
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ } أخبر عن قوم إلياس أنهم كذبوه. {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي في العذاب. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي من قومه فإنهم نجوا من العذاب. وقرئ {المخلصين} بكسر اللام وقد تقدم. {وتركنا عليه في الآخرين} تقدم. {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } قراءة الأعرج وشيبة ونافع. وقرأ عكرمة وأبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ }. وقرأ الحسن: {سلام على الياسين} بوصل الألف كأنها ياسين دخلت عليها الألف واللام التي للتعريف. والمراد إلياس عليه السلام، وعليه وقع التسليم ولكنه اسم أعجمي. والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا؛ فياسين وإلياس والياسين شيء واحد. الزمخشري: وكان حمزة إذا وصل نصب وإذا وقف رفع. وقرئ: {على إلياسين} و"إدريسين وإدرسين وإدراسين" على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. النحاس: ومن قرأ: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } فكأنه والله أعلم جعل اسمه إلياس وياسين ثم سلم على آله؛ أي أهل دينه ومن كان على مذهبه، وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46]. ومن قرأ {إلياسين} فللعلماء فيه غير قول. فروى هرون عن ابن أبي إسحاق قال: إلياسين مثل إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له. وأبو عبيدة يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل بيته سلم عليهم؛ وأنشد:
قدني من نصر الخبيبين قدي
(15/118)
يقال: قدني وقدي لغتان بمعنى حسب. وإنما يريد أبا خبيب عبدالله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه. وغير أبي عبيدة يرويه: الخبيبين على التثنية، يريد عبدالله ومصعبا. ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا؛ قال: فإن العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون: المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال: فعلى هذا {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} سمي كل رجل منهم بإلياس. وقد ذكر سيبويه عي كتابه شيئا من هذا، إلا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على جهة النسبة؛ فيقولون: الأشعرون يريدون به النسب. المهدوي: ومن قرأ {إلياسين} فهو جمع يدل فيه إلياس فهو جمع إلياسي فحذفت ياء النسبة؛ كما حذفت ياء النسبة في جميع المكسر في نحو المهالبة في جمع مهلبي، كذلك حذفت في المسلم فقيل المهلبون. وقد حكى سيبويه: الأشعرون والنميرون يريدون الأشعريين والنميريين. السهيلي: وهذا لا يصح بل هي لغة في إلياس، ولو أراد ما قالوه لأدخل الألف واللام كما تدخل في المهالبة والأشعريين؛ فكان يقول: {سلام على الإلياسين} لأن العلم إذا جمع ينكر حتى يعرف بالألف واللام؛ لا تقول: سلام على زيدين، بل على الزيدين بالألف واللام. فإلياس عليه السلام فيه ثلاث لغات. النحاس: واحتج أبو عبيد في قراءته {سلام على إلياسين} وأنه اسمه كما أن اسمه إلياس لأنه ليس في السورة سلام على {آل} لغيره من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فكما سمي الأنبياء كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو وهو غير لازم؛ لأنا بينا قول أهل اللغة أنه إذا سلم على آله من أجله فهو سلام عليه. والقول بأن اسمه {إلياسين} يحتاج إلى دليل ورواية؛ فقد وقع في الأمر إشكال. قال الماوردي: وقرأ الحسن {سلام على ياسين} بإسقاط الألف واللام وفيه وجهان: أحدهما أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس. والثاني أنهم آل ياسين؛ فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان : أحدهما: أنها زيدت لتساوي الآي، كما قال في موضع: {طُورِ سَيْنَاءَ } [المؤمنون: 20] وفي موضع آخر {وَطُورِ سِينِينَ }[ التين: 2] فعلى هذا يكون
(15/119)
السلام على أهله دونه، وتكون الإضافة إليه تشريفا له. الثاني: أنها دخلت للجمع فيكون داخلا في جملتهم فيكون السلام عليه وعليهم. قال السهيلي: قال بعض المتكلمين في معاني القرآن: آل ياسين آل محمد عليه السلام، ونزع إلى قول من قال في تفسير {يس} يا محمد. وهذا القول يبطل من وجوه كثيرة: أحدها: أن سياقة الكلام في قصة إلياسين يلزم أن تكون كما هي في قصة إبراهيم ونوج وموسى وهارون وأن التسليم راجع عليهم، ولا معنى للخروج عن مقصود الكلام لقول قيل في تلك الآية الأخرى مع ضعف ذلك القول أيضا؛ فإن {يس} و {حم} و {الم} ونحو ذلك القول فيها واحد، إنما هي حروف مقطعة، إما مأخوذة من أسماء الله تعالى كما قال ابن عباس، وإما من صفات القرآن، وإما كما قال الشعبي: لله في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح القرآن. وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لي خمسة أسماء" ولم يذكر فيها {يس} . وأيضا فإن {يس} جاءت التلاوة فيها بالسكون والوقف، ولو كان اسما للنبي صلى صلى الله عليه وسلم لقال: {يسن} بالضم؛ كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [يوسف: 46] وإذا بطل هذا القول لما ذكرناه؛ فـ {إلياسين} هو إلياس المذكور وعليه وقع التسليم. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو مثل إدريس وإدراسين، كذلك هو في مصحف ابن مسعود. {وإن إدريس لمن المرسلين} ثم قال: {سلام على إدراسين}. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } تقدم.
الآية: 133 - 138 {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: { وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } تقدم قصة لوط. { ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } أي بالعقوبة. {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ }
(15/120)
خاطب العرب: أي تمرون عل منازلهم وآثارهم {مصبحين} وقت الصباح {وبالليل} تمرون عليهم أيضا بالليل وتم الكلام. {أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي تعتبرون وتتدبرون.
الآية: 139 - 144 {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
فيه ثمان مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } يونس هو ذو النون، وهو ابن متى، وهو ابن العجوز التي نزل عليها إلياس، فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر ويونس صبي يرضع، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتؤانسه، ولا تدخر عنه كرامة تقدر عليها. ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت فلحق بالجبال، ومات ابن المرأة يونس، فخرجت في أثر إلياس تطوف وراءه في الجبال حتى وجدته، فسألته أن يدعو الله لها لعله يحيى لها ولدها؛ فجاء إلياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يوما من موته، فتوضأ وصلى ودعا الله فأحيا الله يونس بن متى بدعوة إلياس عليه السلام. وأرسل الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ثم تابوا، حسبما تقدم بيانه في سورة "يونس" ومضى في "الأنبياء" قصة يونس في خروجه مغاضبا. واختلف في رسالته هل كانت قبل التقام الحوت إياه أو بعده. قال الطبري عن شهر بن حوشب: إن جبريل عليه السلام أتي يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم. قال: ألتمس دابة. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: ألتمس حذاء. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: فغضب فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب السفينة احتبست السفينة لا تتقدم ولا تتأخر. قال: فتساهموا،
(15/121)
قال: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه؛ فنودي الحوت: أيا حوت! إنا لم نجعل لك يونس رزقا؛ إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. قال: فالتقمه الحوت من ذلك المكان حتى مر به إلى الأبلة، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة، ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى. حدثنا الحارث قال حدثنا الحسن قال حدثنا أبو هلال قال حدثنا شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت؛ واستدل هؤلاء بأن الرسول لا يخرج مغاضبا لربه، فكان ما جرى منه قبل النبوة. وقال آخرون: كان ذلك منه بعد دعائه من أرسل إليهم إلى ما أمره الله بدعائهم إليه، وتبليغه إياهم رسالة ربه، ولكنه وعدهم نزول ما كان حذرهم من بأس الله في وقت وقته لهم ففارقهم إذ لم يتوبوا ولم يراجعوا طاعة الله، فلما أظل القوم العذاب وغشيهم - كما قال الله تعالى في تنزيله - تابوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم، وبلغ يونس سلامتهم وارتفاع العذاب الذي كان وعدهموه فغضب من ذلك وقال: وعدتهم وعدا فكذب وعدي. فذهب مغاضبا ربه وكره الرجوع إليهم، وقد جربوا عليه الكذب؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد مضى هذا في "الأنبياء" وهو الصحيح على ما يأتي عند قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]. ولم ينصرف يونس؛ لأنه اسم أعجمي ولو كان عربيا لانصرف وإن كانت في أول الياء؛ لأنه ليس في الأفعال يفعل كما أنك إذا سميت بيُعفر صرفته؛ وإن سميت بيَعفر لم تصرفه.
الثانية: قوله تعالى: {إِذْ أَبَقَ } قال المبرد: أصل أبق تباعد؛ ومنه غلام آبق. وقال غيره: إنما قيل ليونس أبق؛ لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل مستترا من الناس. {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي المملوءة {والفلك} يذكر ويؤنث ويكون واحدا وجمعا وقد تقدم. قال الترمذي الحكيم: سماه آبقا لأنه أبق عن العبودية، وإنما العبودية ترك الهوى وبذل النفس عند أمور الله؛ فلما لم يبذل النفس عندما اشتدت عليه العزمة من الملك حسبما تقدم بيانه في "الأنبياء"، وآثر هواه لزمه اسم الآبق، وكانت عزمة الملك في أمر الله
(15/122)
لا في أمر نفسه، وبحظ حق الله لا بحظ نفسه؛ فتحرى يونس فلم يصب الصواب الذي عند الله فسماه آبقا ومليما.
الثالثة: قوله تعالى: {فَسَاهَمَ } قال المبرد: فقارع، قال: وأصله من السهام التي تجال.
{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } قال: من المغلوبين. قال الفراء: دحضت حجته وأدحضها الله. وأصله من الزلق؛ قال الشاعر:
قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون
أي المغلوبين. {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } أي أتى بما يلام عليه. فأما الملوم فهو الذي يلام، استحق ذلك أو لم يستحق. وقيل: المليم المعيب. يقال: لام الرجل إذا عمل شيئا فصار معيبا بذلك العمل. {فلولا أنه كان من المسبحين} قال الكسائي: لم تكسر "أن" لدخول اللام؛ لأن اللام ليست لها. النحاس: والأمر كما قال؛ إنما اللام في جواب لولا. {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } أي من المصلين {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي عقوبة له؛ أي يكون بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. واختلف كم أقام في بطن الحوت. فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما. الضحال: عشرين يوما. عطاء: سبعة أيام. مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. وقيل: ساعة واحدة. والله أعلم.
روى الطبري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله تعالى ذكره - حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر؛ فلما أنتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه وهو في بطن الحوت: "إن هذا تسبيح دواب البحر" قال: "فسبح وهو في بطن الحوت" قال: "فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة" قال: "ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر" قالوا: العبد الصالح الذي كان
(15/123)
يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال نعم. فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت بقذفه في الساحل كما قال تعالى : {وَهُوَ سَقِيمٌ } " . وكان سقمه الذي وصفه به الله - تعالى ذكره - أنه ألقاه الحوت على الساحل كالصبى المنفوس قد نشر اللحم والعظم. وقد روي: أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يغير منه شيء فأسلموا؛ ذكره الزمخشري في تفسيره. وقال ابن العربي: أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني: أنه سئل عن الباري في جهة؟ فقال: لا، هو يتعالى عن ذلك. قيل له: ما الدليل عليه؟ قال: الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى" فقيل له: ما وجه الدليل في هذا الخبر؟ فقال: لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينا. فقام رجلان فقالا: هي علينا. فقال لا يتبع بها اثنين؛ لأنه يشق عليه. فقال واحد: هي علي. فقال: إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت، فصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] كما أخبر الله عنه، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر وارتقى به صعدا، حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، ومناجاه ربه بما ناجاه به، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله تعالى من يونس في بطن الحوت في ظلمة البحر.
ذكر الطبري: أن يونس عليه السلام لما ركب في السفينة أصاب أهلها عاصفة من الريح، فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم. فقال يونس وعرف أنه هو صاحب الذنب: هذه خطيئتي فألقوني في البحر، وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم. {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي. وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين، وأنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا سهامهم الثالثة فكان من المدحضين. فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل فابتلعه الحوت. وروي أنه لما ركب في السفينة تقنع ورقد فساروا غير بعيد إذ جاءتهم
(15/124)
ريح كادت السفينة أن تغرق، فاجتمع أهل السفينة فدعوا فقالوا: أيقظوا الرجل النائم يدعوا معنا؛ فدعا الله معهم فرفع الله عنهم تلك الريح. ثم انطلق يونس إلى مكانه فرقد، فجاءت ريح كادت السفينة أن تغرق، فأيقظوه ودعوا فارتفعت الريح. قال: فبينما هم كذلك إذ رفع حوت عظيم رأسه إليهم أراد أن يبتلع السفينة، فقال لهم يونس: يا قوم هذا من أجلي فلو طرحتموني في البحر لسرتم ولذهب الريح عنكم والروع. قالوا: لا نطرحك حتى نتساهم، فمن وقعت عليه رميناه في البحر. قال: فتساهموا فوقع على يونس؛ فقال لهم: يا قوم اطرحوني فمن أجلي أوتيتم؛ فقالوا: لا نفعل حتى نتساهم مرة أخرى. ففعلوا فوقع على يونس. فقال لهم: يا قوم اطرحوني فمن أجلي أوتيتم؛ فذلك قول الله عز وجل: {فساهم فكان من المدحضين} أي وقع السهم عليه؛ فانطلقوا به إلى صدر السفينة ليلقوه في البحر، فإذا الحوت فاتح فاه، ثم جاؤوا به إلى جانب السفينة، فإذا بالحوت، ثم رجعوا به إلى الجانب الآخر، فإذا بالحوت فاتح فاه؛ فلما رأى ذلك ألقى بنفسه فالتقمه الحوت؛ فأوحى الله تعالى إلى الحوت: إني لم أجعله لك رزقا ولكن جعلت بطنك له وعاء. فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة فنادى في الظلمات: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 87] وقد تقدم ويأتي.
ففي هذا من الفقه أن القرعة كانت معمولا بها في شرع من قبلنا، وجاءت في شرعنا على ما تقدم في "آل عمران" قال ابن العربي: وقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن. الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم، فأقرع بينهم؛ فأعتق اثنين وأرق أربعة. الثالث: أن رجلين اختصما إليه في مواريث قد درست فقال: "اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه". فهذه ثلاثة مواطن، وهي القسم في النكاح، والعتق، والقسمة، وجريان القرعة فيها لرفع الإشكال
(15/125)
وحسم داء التشهي. واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات في الغزو على قولين؛ الصحيح منهما الإقراع؛ وبه قال فقهاء الأمصار. وذلك أن السفر بجميعهن لا يمكن، واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة. وكذلك في مسألة الأعبد الستة؛ فإن كل اثنين منهما ثلث، وهو القدر الذي يجوز له فيه العتق في مرض الموت، وتعيينهما بالتشهي لا يجوز شرعان فلم يبق إلا القرعة. وكذلك التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق إلا القرعة، فصارت أصلا في تعيين المستحق إذا أشكل. قال: والحق عندي أن تجري في كل مشكل، فذلك بين لها، وأقوى لفصل الحكم فيها، وأجلى لرفع الإشكال عنها؛ ولذلك قلنا: إن القرعة بين الزوجات في الطلاق كالقرعة بين الإماء في العتق.
الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز. وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه؛ فإنه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار أو البحر، وإنما تجرى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته. وقد ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفا؛ وهذا فاسد؛ فإنها لا تخف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال، ولكنهم يصبرون على قضاء الله عز وجل.
أخبر الله عز وجل أن يونس كان من المسبحين، وأن تسبيحه كان سبب نجاته؛ ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. قال ابن عباس: {من المسبحين} من المصلين. قال قتادة: كان يصلي قبل ذلك لحفظ الله عز وجل له فنجاه. وقال الربيع بن أنس: لولا أنه كان له قبل ذلك عمل صالح {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قال: ومكتوب في الحكمة - إن العمل الصالح يرفع ربه إذا عثر. وقال مقاتل: {من المسبحين} من المصلين المطيعين قبل المعصية. وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت؛ ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر وجد متكأ.
(15/126)
قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل" فيجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويخبؤها بجهده، ويسترها عن خلقه، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه. وقد خرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينما ثلاثة نفر - في رواية ممن كان قبلكم - يتماشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم..." الحديث بكماله وهو مشهور، شهرته أغنت عن تمامه. وقال سعيد بن جبير: لما قال في بطن الحوت: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] قذفه الحوت. وقيل: {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } من المصلين في بطن الحوت.
قلت: والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان، وعليه يدل حديث أبي هريرة المذكور قبل الذي ذكره الطبري. قال: فسبح في بطن الحوت. قال: فسمعت الملائكة تسبيحه؛ فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. وتكون {كان} على هذا القول زائدة؛ أي فلولا أنه من المسبحين. وفي كتاب أبي داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد مضى هذا في سورة [الأنبياء" فيونس عليه السلام كان قبل مصليا مسبحا، وفي بطن الحوت كذلك. وفي الخبر: فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس لك رزقا؛ إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. وقد تقدم.
الآية: 145 - 148 { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
(15/127)
قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة: طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطينة؛ فقلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء؛ هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو هشاش الأرض - فتفشج عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج به - يعني الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبي المنفوس لم ينقص من خلقه شيء. وقيل: إن يونس لما ألقاه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهي فيما ذكر شجرة القرع تتقطر عليه من اللبن حتى رجعت إليه قوته. ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها يبست، فحزن وبكى عليها فعوتب؛ فقيل له: أحزنت على شجرة وبكيت عليها، ولم تحزن على مائة ألف وزيادة من بني إسرائيل، من أولاد إبراهيم خليلي، أسرى في أيدي العدو، وأردت إهلاكهم جميعا. وقيل: هي شجرة التين. وقيل: شجرة الموز تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. والأكثر على أنها شجرة اليقطين على ما يأتي. ثم إن الله تبارك وتعالى اجتباه فجعله من الصالحين. ثم أمره أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله تعالى قد تاب عليهم، فعمد إليهم حتى لقي راعيا فسأله عن قوم يونس وعن حالهم وكيف هم، فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم. فقال له: فأخبرهم أني قد لقيت يونس. قال: وماذا؟ قال: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك لقيت يونس، قال: وماذا؟ قال وهذه الشجرة تشهد لك أنك لقيت يونس. وأنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا فقال: لا تعجلوا علي حتى أصبح، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس، فاستنطقها فأخبرتهم أنه لقي يونس؛ واستنطق الشاة والشجرة فأخبرتاهم أنه لقي يونس، ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك.
(15/128)
ذكر هذا الخبر وما قبله الطبري رحمه الله. {فَنَبَذْنَاهُ } طرحناه. وقيل: تركناه. {بِالْعَرَاءِ } بالصحراء؛ قال ابن الأعرابي. الأخفش: بالفضاء. أبو عبيدة: الواسع من الأرض. الفراء: العراء المكان الخالي. قال: وقال أبو عبيدة: العراء وجه الأرض؛ وأنشد لرجل من خزاعة:
ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وحكى الأخفش في قوله: {وهو سقيم} جمع سقيم سقمى وسقامى وسقام. وقال في هذه السورة: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ } وقال في {نون وَالْقَلَمِ } [القلم: 1]: {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} [ القلم: 49] والجواب: أن الله عز وجل خبر ها هنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولولا رحمة الله عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم؛ قاله النحاس. وقوله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } يعني {عليه} أي عنده؛ كقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } [الشعراء: 14] أي عندي. وقيل: {عليه} بمعنى له. {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } اليقطين: شجر الدباء: وقيل غيرها؛ ذكره ابن الأعرابي. وفي الخبر: "الدباء والبطيخ من الجنة" وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال المبرد: يقال لكل شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض يقطينة نحو الدباء والبطيخ والحنظل، فإن كان لها ساق يقلها فهي شجرة فقط، وإن كانت قائمة أي بعروق تفترش فهي نجمة وجمعها نجم. قال الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6] وروي نحوه عن ابن عباس والحسن ومقاتل. قالوا: كل نبت يمتد ويبسط على الأرض ولا يبقى على استواء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل فهو يقطين. وقال سعيد بن جبير: هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه فيدخل في هذا الموز.
قلت: وهو مما له ساق. الجوهري: واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه. الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان إذا أقام به فهو يفعيل. وقيل: هو اسم اعجمي. وقيل: إنما خص اليقطين بالذكر، لأنه لا ينزل عليه ذباب. وقيل: ما كان ثم يقطين
(15/129)
فأنبته الله في الحال. القشيري: وفي الآية ما يدل على أنه كان مفروشا ليكون له ظل. الثعلبي: كانت تظله فرأى خضرتها فأعجبته، فيبست فجعل يتحزن عليها؛ فقيل له: يا يونس أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن على شجيرة، فأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة، وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس أنا أرحم الراحمين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول: "إنها شجرة أخي يونس" وقال أنس: قدم للنبي صلى الله عليه وسلم مرق فيه دباء وقديد فجعل يتبع الدباء حوالي القصعة. قال أنس: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. أخرجه الأئمة.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وقد تقدم عن ابن عباس أن رسالة يونس عليه السلام إنما كانت بعد ما نبذه الحوت. وليس له طريق إلا عن شهر بن حوشب. النحاس: وأجود منه إسنادا وأصح ما حدثناه عن علي بن الحسين قال: حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا عمرو بن العنقزي قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال عن يونس النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أن يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا فجأروا إلى الله عز وجل واستغفروا، فكف الله عز وجل عنهم العذاب، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئا - وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل - فخرج يونس مغاضبا، فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت السفينة والسفن تسير يمينا وشمالا؛ فقالوا: ما لسفينتكم؟ فقالوا: لا ندري. فقال يونس عليه السلام: إن فيها عبدا آبقا من ربه جل وعز وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك. قال: فأقرعوا فمن قرع فليقع، فاقترعوا فقرعهم يونس فأبوا أن يدعوه، فال: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع. فاقترعوا فقرعهم يونس ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله به جل وعز حوتا فابتلعه وهو يهوي به إلى قرار الأرض، فسمع يونس عليه السلام
(15/130)
تسبيح الحصى {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] قال: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. قال: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. قال: وأنبت الله عليه شجرة من يقطين فنبتت، فكان يستظل بها ويصيب منها، فيبست فبكى عليها؛ فأوحى الله جل وعز إليه: أتبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال: وخرج رسول الله يونس فإذا هو بغلام يرعى؛ قال: يا غلام من أنت؟ قال: من قوم يونس. قال: فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال: إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم تكن له بينة فمن يشهد؟ قال: هذه الشجرة وهذه البقعة. قال: فمرهما؛ فقال لهما يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فأشهدا له. قالتا نعم. قال: فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة وكان له إخوة، فأتى الملك فقال: إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام. قال: فأمر به أن يقتل؛ فقالوا: إن له بينة فأرسلوا معه. فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما بالله جل وعز أتشهدان أني لقيت يونس؟ قالتا: نعم قال: فرجع القوم مذعورين يقولون له: شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا. قال عبدالله: فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبدالله: فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين في هذا الحديث أن يونس كان قد أرسل قبل أن يلقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب؛ لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم العذاب إلى ثلاثة أيام، ففرقوا ببن كل والدة وولدها، وضجوا ضجة واحدة إلى الله عز وجل.
وهذا هو الصحيح في الباب، وأنه لم يكن حكم الله عز وجل فيهم كحكمه في غيرهم في قول عز وجل: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } [غافر: 85] وقول عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } [النساء: 18] الآية.
(15/131)
وقال بعض العلماء: إنهم رأوا مخائل العذاب فتابوا. وهذا لا يمنع، وقد تقدم ما للعلماء في هذا في سورة "يونس" فلينظر هناك.
قوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ } قد مضى في "البقرة" محامل "أو" في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74]. وقال القراء: {أو} بمعنى بل. وقال غيره: إنها بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما
أي ورزاما. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77]. وقرأ جعفر بن محمد {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ َوَ يَزِيدُونَ } بغير همز؛ فـ {يزيدون} في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي وهم يزيدون. النحاس: ولا يصح هذان القولان عند البصريين، وأنكروا كون {أو} بمعنى بل وبمعنى الواو؛ لأن بل للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده، وتعالى الله عز وجل عن ذلك، أو خروج من شيء إلى شيء وليس هذا موضع ذلك؛ والواو معناه خلاف معنى {أو} فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لبطلت المعاني؛ ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائتي ألف أخصر. وقال المبرد: المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر، وإنما خوطب العباد على ما يعرفون. وقيل: هو كما تقول: جاءني زيد أو عمرو وأنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب. وقال الأخفش والزجاج: أي أو يزيدون في تقديركم. قال ابن عباس: زادوا على مائة ألف عشرين ألفا. ورواه أبي بن كعب مرفوعا. وعن ابن عباس أيضا: ثلاثين ألفا. الحسن والربيع: بضعا وثلاثين ألفا. وقال مقاتل بن حيان: سبعين ألفا. {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} أي إلى منتهى آجالهم.
======================
الصافات - تفسير الطبري
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (129) }
يقول تعالى ذكره: وإن إلياس، وهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران فيما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وقيل: إنه إدريس، حدثنا بذلك بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان يقال: إلياس هو إدريس. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل.
وقوله( لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول جلّ ثناؤه: لمرسل من المرسلين( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ) .
؟ يقول حين قال لقومه في بني إسرائيل: ألا تتقون الله أيها
(21/95)
القوم، فتخافونه، وتحذرون عقوبته على عبادتكم ربا غير الله، وإلهًا سواه( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) يقول: وتَدعون عبادة أحسن مَن قيل له خالق.
وقد اختلف في معنى بَعْل، فقال بعضهم: معناه: أتدعون ربا؟ وقالوا: هي لغة لأهل اليمن معروفة فيهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عُمارة، عن عكرمة، في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: إلها.
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عمارة، عن عكرمة، في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) يقول: أتدعون ربا، وهي لغة أهل اليمن، تقول: من بعل هذا الثور: أي من ربُّه؟
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، قالا ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: ربا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: هذه لغة باليمانية: أتدعون ربا دون الله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: ربّا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن عبد الله بن أبي يزيد، قال: كنت عند ابن عباس فسألوه عن هذه الآية:( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: فسكت ابن عباس، فقال رجل: أنا بعلها، فقال ابن عباس: كفاني هذا الجواب.
وقال آخرون: هو صنم كان لهم يقال له بَعْل، وبه سميت بعلبك.
(21/96)
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) يعني: صنما كان لهم يسمى بَعْلا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ؟ قال: بعل: صنم كانوا يعبدون، كانوا ببعلك، وهم وراء دمشق، وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون.
وقال آخرون: كان بَعْل: امرأة كانوا يعبدونها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بَعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله.
وللبَعْل في كلام العرب أوجه. يقولون لربّ الشيء هو بَعْله، يقال: هذا بَعْل هذه الدار، يعني ربُّها; ويقولون لزوج المرأة بعلُها; ويقولون لما كان من الغروس والزروع مستغنيا بماء السماء، ولم يكن سقيا بل هو بعل، وهو العَذْي. وذُكر أن الله بعث إلى بني إسرائيل إلياس بعد مهلك حِزْقيل بن يوزا.
وكان من قصته وقصة قومه فيما بلغنا، ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه، قال: إن الله قبض حِزْقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونُسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نُسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل، يقال له: أحاب، كان اسم امرأته: أربل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل.
(21/97)
قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول:( ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله; يقول الله لمحمد:( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرّقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا والله ما أرى فلانا وفلانا، يعدّد ملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله- إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون وينعمون مملكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل; فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه: عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون، فقال إلياس: اللهمّ إن بني إسرائيل قد أبَوْا إلا أن يكفروا بك والعبادة لغيرك، فغير ما بهم من نعمتك ) أو كما قال.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: فذكر لي أنه أوحي إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك، فقال إلياس: اللهم فأمسك عليهم المطر; فحبس عنهم ثلاث سنين، حتى هلكت الماشية والهوامّ والدوابّ والشجر، وجهد الناس جهدا شديدا. وكان إلياس فيما يذكرون حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى، شفقا على نفسه منهم، وكان حيثما كان وضع له رزق، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت، قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه، ولقي منهم أهل ذلك المنزل شرا. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع ابن أخطوب به ضرّ، فآوته وأخفت أمره، فدعا إلياس لابنها، فعُوفِيَ من الضرّ الذي كان به، واتبع اليسع غلاما شابا، فيزعمون- والله أعلم- أن أوحى إلى إلياس: إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى
(21/98)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
بني إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل، فيزعمون والله أعلم أن إلياس قال: أي ربّ دعني أنا الذي أدعو لهم وأكون أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك، قيل له: نعم; فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهدا، وهلكت البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، أو كما قال لهم، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك، وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحقّ، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم، فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل، فنزعتم، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، قالوا: أنصفت; فخرجوا بأوثانهم، وما يتقربون به إلى الله من إحداثهم الذي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، ثم قالوا لإلياس: يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل التُّرس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدحَسَتْ ثم أرسل المطر، فأغاثهم، فحيت بلادهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه; فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم، دعا ربه أن يقبضه إليه، فيريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا، فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فماذا جاءوك من شيء فاركبه ولا تهبه; فخرج إلياس وخرج معه اليسع بن أخطوب، حتى إذا كان في البلد الذي ذُكر له في المكان الذي أُمر به، أقبل إليه فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه، فانطلق به، فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سَماويا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فقرأته عامة قراء مكة والمدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة:( الله رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) رفعا على الاستئناف، وأن الخبر قد تناهى عند قوله( أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة:( اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) نصبا، على الردّ على قوله( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) على أن ذلك كله كلام واحد.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، مع استفاضة القراءة بهما في القرّاء، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام: ذلك معبودكم أيها الناس الذي يستحق عليكم العبادة: ربكم الذي خلقكم، وربّ آبائكم الماضين قبلكم، لا الصنم الذي لا يخلق شيئا، ولا يضرّ ولا ينفع.
وقوله( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) يقول: فكَذّب إلياس قَومُهُ، فإنهم لمحضرون: يقول: فإنهم لمحضرون في عذاب الله فيشهدونه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) في عذاب الله.( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: فإنهم يحضرون في عذاب الله، إلا عباد الله الذين أخلصهم من العذاب( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين من الأمم بعده.
القول في تأويل قوله تعالى : { سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) }
يقول تعالى ذكره: أمنة من الله لآل ياسين.
(21/99)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) فقرأته عامة قرّاء مكة والبصرة والكوفة:( سَلامُ عَلى إلْياسِينَ ) بكسر الألف من إلياسين ، فكان بعضهم يقول: هو اسم إلياس، ويقول: إنه كان يُسمى باسمين: إلياس، وإليا سين مثل إبراهيم، وإبراهام; يُستشهد على ذلك أن ذلك كذلك بأن جميع ما في السورة من قوله( سَلامٌ ) فإنه سلام على النبي الذي ذكر دون آله، فكذلك إلياسين ، إنما هو سلام على إلياس دون آله. وكان بعض أهل العربية يقول: إلياس: اسم من أسماء العبرانية، كقولهم: إسماعيل وإسحاق، والألف واللام منه، ويقول: لو جعلته عربيا من الإلس، فتجعله إفعالا مثل الإخراج، والإدخال أجْري ; ويقول: قال: سلام على إلياسين، فتجعله بالنون، والعجمي من الأسماء قد تفعل به هذا العرب، تقول: ميكال وميكائيل وميكائيل، وهي في بني أسد تقول: هذا إسماعين قد جاء، وسائر العرب باللام; قال: وأنشدني بعض بني نمير لضب صاده:
يَقُولُ رَبُّ السُّوقِ لَمَّا جِيْنا... هَذَا وَرَبّ البَيْتِ إسْرَائِينا (1)
__________
(1) هذان البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص 274) قال : وقوله :" وإن إلياس لمن المرسلين" : ذكر أنه نبي ، وأن هذا الاسم اسم من أسماء العبرانية ، كقولهم : إسماعيل وإسحاق ، والألف واللام منه . ولو جعلته عربيا من الألف فتعجل إفعالا . مثل الإخراج والإدخال ، لجرى (أي صرف) . ثم قال :" سلام على إلياسين" ، فجعله بالنون ، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هذا العرب ، تقول : ميكال وميكائيل وميكائين ، بالنون ، وهي في بني أسد ، يقولون : هذا إسماعين قد جاء ، بالنون ، وسائر العرب باللام . قال : وأنشدني بعض بني نمير لضب صاده بعضهم :"يقول أهل السوق .... البيتين . فهذا وجه لقوله" إلياسين" في (مجاز القرآن : مصورة الجامعة الورقة 210 - 1) قال أبو عبيدة :"سلام على إلياسين" : أي سلام على إلياس وأهله ، وعلى أهل دينه جميعهم ، بغير إضافة إلياء على العدد . قال الشاعر قدني من نصر الحبيبين قدي
فجعل عبدالله بن الزبير أبا خبيب" مصغرا" ومن كان على رأيه عددا ولم يضفهما بالياء" أي لم ينسبهم إليه بياء النسب" فيقول خبيبيون وقال أبو عمر وبن العلاء : نادى مناد يوم الكلاب فقال : هلك اليزيدون . يعني يزيد بن عبدالمدان ، ويزيد بن هوبر ، ويزيد بن مخرمة الحارثيون .
ويقال : جاءك الحارثون والأشعرون .
(21/101)
قال: فهذا كقوله إلياسين; قال: وإن شئت ذهبت بإلياسين إلى أن تجعله جمعا، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه، كما تقول لقوم رئيسهم المهلب: قد جاءتكم المهالبة والمهلبون، فيكون بمنزلة قولهم الأشعرين بالتخفيف، والسعدين بالتخفيف وشبهه، قال الشاعر :
أنا ابْنُ سَعْدٍ سَيِّدِ السَّعْدِينَا (1)
قال: وهو في الاثنين أن يضمّ أحدهما إلى صاحبه إذا كان أشهر منه اسما كقول الشاعر :
جَزَانِي الزَّهْدَمَانِ جَزاءَ سَوْءٍ... وكُنتُ المَرْءَ يُجْزَى بالكَرَامَةْ (2)
__________
(1) وهذا أيضا من شواهد الفراء في معاني القرآن ، جاء بعد الشاهد الذي قبله . قال الفراء بعد كلامه السابق في أن إلياسين لغة في إلياس عند بني أسد : وإن شئت ذهبت" بإلياسين" على أن تجعله جمعا ، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه ، كما تقول للقوم رئيسهم المهلب : قد جاءتكم المهالبة والمهلبون ، فيكون بمنزلة قوله : الأشعرين والسعدين وشبهه . قال الشاعر :" أنا ابن سعد ..." البيت . وهذا يشبه كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن ، وقد نقلناه في آخر الشاهد السابق على هذا.
(2) هذا الشاهد الثالث على قراءة قوله تعالى" سلام على إلياسين" . نقله الفراء وأبو عبيدة في كتابيهما . قال الفراء بعد كلامه السابق : وهو في الاثنين أكثر أن يضم أحدهما إلى صاحبه ، إذا كان أشهر منه اسما ، كقول الشاعر :" جزاني الزهدمان ... البيت" . واسم أحدهما زهدم . وقال أبو عبيدة : وكذلك يقال في الاثنين . وأنشد البيت ، ونسبه إلى قيس بن زهير . ثم قال بعده : وإنما هو زهدم وكردم العبسيان : أخوان . وقيل لعلي بن أبي طالب : نسألك سنة العمرين : يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما . ثم ذكر أبو عبيدة بعد ذلك وجها آخر فقال : إن أهل المدينة يقولون :" سلام على آل ياسن" أي على أهل ياسين . فقال سعد بن أبي وقاص وأبو عمرو وأهل الشام : هم قومه ومن كان معه على دينه . وقالت الشيعة : آل محمد : أهل بيته . واحتجوا بأنك تصغر الآل ، فتجعله أهيلا. ا هـ . وذكر بعد كلامه السابق في الموضوع وجها آخر فقال : وقد قرأ بعضهم :" وإن إلياس" يجعل اسمه" ياسا" أدخل عليه الألف واللام . ثم يقرءون :" سلام على آل ياسين" . جاء التفسير في تفسير الكلبي : على آل ياسين : على آل محمد صلى الله عليه وسلم والأول أشبه بالصواب والله أعلم ، لأن في قراءة عبدالله (يعني ابن مسعود) :" وإن إدريس لمن المرسلين"" سلام على إدراسين" . وقد يشهد على صواب هذا قوله :" وشجرة تخرج من طور سيناء" . ثم قال في موضع آخر :" وطور سينين" . وهو معنى واحد . والله أعلم .
(21/102)
واسم أحدهما: زهدم; وقال الآخر:
جَزَى الله فِيها الأعْوَرَيْنِ ذَمَامَةً... وَفَرْوَةَ ثَفْرَ الثَّوْرَةِ المُتَضَاجِمِ (1)
واسم أحدهما أعور.
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة:"سَلام عَلى آل يَاسِينَ" بقطع آل من ياسين، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى: سلام على آل محمد. وذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ قوله( وَإِنَّ إِلْيَاسَ ) بترك الهمز في إلياس ويجعل الألف واللام داخلتين على"ياس" للتعريف، ويقول: إنما كان اسمه"ياس" أدخلت عليه ألف ولام ثم يقرأ على ذلك:"سلام على إلياسين".
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه:( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بكسر ألفها على مثال إدراسين، لأن الله تعالى ذكره إنما أخبر عن كل موضع ذكر فيه نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم في هذه السورة بأن عليه سلاما لا على آله، فكذلك السلام في هذا الموضع ينبغي أن يكون على إلياس كسلامه على غيره من أنبيائه، لا على آله، على نحو ما بيَّنا من معنى ذلك.
فإن ظنّ ظانّ أن إلياسين غير إلياس، فإن فيما حكينا من احتجاج من احتج بأن إلياسين هو إلياس غني عن الزيادة فيه.
مع أن فيما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) قال: إلياس.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود:"سَلامٌ عَلى إدْرَاسِينَ" دلالة واضحة على خطأ قول من قال: عنى بذلك سلام على آل محمد، وفساد قراءة من قرأ:"وإنَّ إلياسَ" بوصل
__________
(1) هذا هو الشاهد الرابع في الموضوع نفسه ، أنشده الفراء في معاني القرآن بعد سابقه . وأنشده صاحب اللسان في ضجم ، ونسبه إلى الأخطل ، وروايته فيه" ملامة" في موضع" ذمامة" . وقال : الضجم : العوج في الأنف ، يميل إلى أحد شقيه . والمتضاجم : المعوج الفم قال الأخطل :" جزى الله ... البيت" . وفروة : اسم رجل . ا هـ . وموضع الشاهد فيه قوله" الأعورين" كالذي قبله تماما .
(21/103)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136)
النون من"إن" بالياس، وتوجيه الألف واللام فيه إلى أنهما أدخلتا تعريفا للاسم الذي هو ياس، وذلك أن عبد الله كان يقول: إلياس هو إدريس، ويقرأ:"وَإِنَّ إدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ"، ثم يقرأ على ذلك:"سَلامٌ عَلَى إدْرَاسِينَ"، كما قرأ الآخرون:( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بقطع الآل من ياسين. ونظير تسمية إلياس بإل ياسين :( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) [ثم قال في موضع آخر:( وَطُورِ سِينِينَ ) وهو موضع واحد سمي بذلك.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنا هكذا نجزي أهل طاعتنا والمحسنين أعمالا وقوله( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن إلياس عبد من عبادنا الذين آمنوا، فوحَّدونا، وأطاعونا، ولم يشركوا بنا شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (136) }
يقول تعالى ذكره: وإن لوطا المرسل من المرسلين.
( إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) يقول: إذ نجَّينا لوطا وأهله أجمَعينَ من العذاب الذي أحللناه بقومه، فأهلكناهم به.( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) يقول: إلا عجوزا في الباقين، وهي امرأة لوط، وقد ذكرنا خبرها فيما مضى، واختلاف المختلفين في معنى قوله( فِي الْغَابِرِينَ ) ، والصواب من القول في ذلك عندنا.
وقد حُدثت عن المسيِّب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) يقول: إلا امرأته تخلَّفت فمسخت حجرا، وكانت تسمى هيشفع. (1)
__________
(1) في عرائس المجالس للثعالبي ، طبعة الحلبي 106 : وكانت تسمى هلسفع .
(21/104)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) قال: الهالكين.
وقوله( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ) يقول: ثم قذفناهم بالحجارة من فوقهم، فأهلكناهم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) }
يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: وإنكم لتمرون على قوم لوط الذين دمرناهم عند إصباحكم نهارا وبالليل. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) قالوا: نعم والله صباحا ومساء يطئونها وطْئًا، من أخذ من المدينة إلى الشام، أخذ على سدوم قرية قوم لوط.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله( لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) قال: في أسفاركم.
وقوله( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) يقول: أفليس لكم عقول تتدبرون بها وتتفكَّرون، فتعلمون أن من سلك من عباد الله في الكفر به، وتكذيب رسله، مسلك هؤلاء الذين وصف صفتهم من قوم لوط، نازل بهم من عقوبة الله، مثل الذي نزل بهم على كفرهم بالله، وتكذيب رسوله، فيزجركم ذلك عما أنتم عليه من الشرك بالله، وتكذيب محمد عليه الصلاة والسلام.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) قال: أفلا تتفكَّرون ما أصابهم في معاصي الله أن يصيبكم ما أصابهم، قال: وذلك المرور أن يمر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
(21/105)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) }
يقول تعالى ذكره: وإن يونس لمرسل من المرسلين إلى أقوامهم( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يقول: حين فرّ إلى الفُلك، وهو السفينة، المشحون: وهو المملوء من الحمولة المُوقَر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) كنَّا نحدّث أنه الموقر من الفُلك.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال: الموقر. وقوله( فَسَاهَمَ ) يقول: فَقَارَعَ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/106)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( فَسَاهَمَ ) يقول أقْرَعَ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال: فاحتبست السفينة، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا، فقُرِعَ يونس، فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( فَسَاهَمَ ) قال: قارع.
وقوله( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) يعني: فكان من المسهومين المغلوبين، يقال منه: أدحض الله حجة فلان فدحضت: أي أبطلها فبطلت، والدَّحْض: أصله الزلق في الماء والطين، وقد ذُكر عنهم: دَحَض الله حجته، وهي قليلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) يقول: من المقروعين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال: من المسهومين.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال: من المقرعين.
وقوله( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ) يقول: فابتلعه الحوت; وهو افتعل من اللَّقْم. وقوله( وَهُوَ مُلِيمٌ ) يقول: وهو مكتسب اللوم، يقال: قد ألام الرجل، إذا أتى ما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلَم، كما يقال: أصبحت مُحْمِقا مُعْطِشا: أي عندك الحمق والعطش; ومنه قول لبيد:
سَفَها عَذَلْتَ ولُمْتَ غيرَ مُلِيمِ... وَهَداكَ قَبلَ الْيومِ غيرُ حَكيمِ (1)
فأما الملوم فهو الذي يلام باللسان، ويعذل بالقول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( وَهُوَ مُلِيمٌ ) قال: مذنب.
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة العامري . استشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 211 - 1) قال في قوله تعالى" وهو مليم" يقول العرب : ألام فلان في أمره : وذاك إذا أتى أمرا يلام عليه . وقال لبيد :" سفها ... البيت" . ا هـ . واستشهد به في ( اللسان : لوم ) على مثل ما استشهد به أبو عبيدة . وقال : لام فلان غير مليم .
(21/107)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَهُوَ مُلِيمٌ ) : أي في صنعه.
حدثني يونس، قال. أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَهُوَ مُلِيمٌ ) قال: وهو مذنب، قال: والمليم: المذنب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) }
يقول تعالى ذكره:( فَلَوْلا أَنَّهُ ) يعني يونس( كَانَ مِنَ ) المُصَلِّينَ لله قبل البلاء الذي ابتُلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، يوم يبعث الله فيه خلقه محبوسا، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجَّاه.
وقد اختلف أهل التأويل في وقت تسبيح يونس الذي ذكره الله به، فقال( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك، وقالوا مثل قولنا في معنى قوله( مِنَ الْمُسَبِّحِينَ )
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) كان كثير الصَّلاةِ في الرّخاء، فنجَّاه الله بذلك; قال: وقد كان يقال في الحكمة: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَر، فإذا صُرع وجد متكئا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّة، عن بعض أصحابه، عن قتادة،
(21/108)
في قوله( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: كان طويل الصلاة في الرّخاء; قال: وإنّ العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، إذا صرع وجد متكئا .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا أبو ضحر، أن يزيد الرَّقاشي، حدثه، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :"أنَّ يُونُسَ النَّبِيّ حِينَ بَدَا لَهُ أنْ يَدْعُوَ الله بالكَلِماتِ حِينَ نَادَاهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَالَتِ المَلائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ فِي بِلادٍ غَرِيبَة، قَالَ: أما تَعْرِفُونَ ذلكَ؟ قَالُوا يَا رَبّ وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ذَلكَ عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، قَالُوا: يَا رَبّ أوَلا يُرْحَمُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيهِ مِنَ البَلاءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعَرَاءِ" .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: من المصلِّين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جُبَير( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: من المصلين.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: كان له عمل صالح فيما خلا.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: المصلين.
(21/109)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا كثير بن هشام، قال: ثنا جعفر، قال: ثنا ميمون بن مهران، قال: سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة، إن يونس كان عبدًا لله ذاكرا، فلما أصابته الشدّة دعا الله فقال الله:( لَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فذكره الله بما كان منه، وكان فرعون طاغيا باغيا فلمَّا( أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) قال الضحاك: فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة.
قال أبو جعفر: وقيل: إنما أحدث الصلاة التي أخبر الله عنه بها، فقال:( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) في بطن الحوت.
وقال بعضهم: كان ذلك تسبيحا، لا صلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران القطان، قال: سمعت الحسن يقول في قوله( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: فوالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت; قال عمران: فذكرت ذلك لقتادة، فأنكر ذلك وقال: كان والله يكثر الصلاة في الرخاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبَير:( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) قال: قال( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فلما قالها، قذفه الحوت، وهو مغرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) : لصار له بطن الحوت قبرًا إلى يوم القيامة.
(21/110)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك، قال: لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوما.
وقوله( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) يقول: فقذفناه بالفضاء من الأرض، حيث لا يواريه شيء من شجر ولا غيره; ومنه قول الشاعر:
ورَفَعْتُ رِجْلا لا أخافُ عِثارَها... وَنَبَذْتُ بالبَلدِ العَرَاءِ ثِيابِي (1)
يعني بالبلد: الفضاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) يقول: ألقيناه بالساحل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) بأرض ليس فيها شيء ولا نبات.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( بِالْعَرَاءِ ) قال: بالأرض. وقوله( وَهُوَ سَقِيمٌ ) يقول: وهو كالصبي المنفوس: لحم نِيء.
كما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَهُوَ سَقِيمٌ ) كهيئة الصبيّ.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في" مجاز القرآن ، الورقة 211 - ب) . قال في قوله تعالى :" فنبذناه بالعراء" : تقول العرب :" نبذته بالعراء" : أي الأرض الفضاء . قال الخزاعي :" ورفعت رجلا ... إلخ البيت" . العراء : لا شيء يواريه من شجر ولا من غيره اهـ . ، أنشده صاحب (اللسان : عرا) ولم ينسبه . قال : وقال أبو عبيده إنما قيل له عراء ، لأنه لا شجر فيه، ولا شيء يغطيه . وقيل : عن العراء وجه الأرض الخالي وأنشد :" ورفعته رجلا ... البيت" . ونقل بعد ذلك كلام الزجاج في معنى العراء ، فراجعه ثمة .
(21/111)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: خرج به، يعني الحوت، حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبيّ المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ما لَفَظَه الحوت حتى صار مثل الصبيّ المنفوس، قد نشر اللحم والعظم، فصار مثل الصبيّ المنفوس، فألقاه في موضع، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين.
وقوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) يقول تعالى ذكره: وأنبتنا على يونس شجرة من الشجر التي لا تقوم على ساق، وكل شجرة لا تقوم على ساق كالدُّباء والبِطِّيخ والحَنْظَل ونحو ذلك، فهي عند العرب يَقْطِين.
واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَير، في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: هو كل شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق.
حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَير، في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: كلّ شيء ينبت ثم يموت من عامه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال:( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) فقالوا عنده: القرع; قال: وما يجعله أحقّ من البطيخ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،
(21/112)
عن مجاهد، قوله( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: غير ذات أصل من الدُّبَّاء، أو غيره من نحوه. وقال آخرون: هو القرع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، أنه قال في هذه الآية:( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.
حدثني مطر بن محمد الضبيّ، قال: ثنا عبد الله بن داود الواسطي، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي، في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) : كنَّا نحدَّث أنها الدُّبَّاء، هذا القرع الذي رأيتم أنبتها الله عليه يأكل منها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أبو صخر، قال: ثني ابن قسيط، أنه سمع أبا هُرَيرة يقول: طرح بالعراء، فأنبت الله عليه يقطينة، فقلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: الشجرة الدُّبَّاء، هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خَشاش الأرض -أو هَشاش- فتفشح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال ابن أبي الصلت قبل الإسلام في ذلك بيتا من شعر:
فَأَنْبَتَ يَقْطِينا عَلَيْه برَحْمَةٍ... مِنَ الله لَوْلا الله أُلْفِيَ ضَاحِيا (1)
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت كما قال المؤلف ، ولم أجده في شعراء النصرانية ولا في ترجمته في الأغاني . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 211 - ب) : في قوله تعالى" شجرة من يقطين) : كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطين ، مثل الدباء والحنظل والبطيخ . اهـ . وفي (اللسان : قطن) : قال الفراء قيل عند ابن عباس : هو ورق القرع . وما جعل القرع من بين الشجر يقطينا ؛ كل ورقة اتسعت وشترت فهي يقطين . قال الفراء : وقال مجاهد : كل شيء ذهب بسطا في الأرض : يقطين . ونحو ذلك قال الكلبي . قال : ومنه القرع ، والبطيخ ، والقثاء والشريان . وقال سعيد بن جبير : كل شيء ينبت ثم يموت من عامه فهو يقطين . ا هـ .
(21/113)
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أنبت الله عليه شجرة من يقطين; قال: فكان لا يتناول منها ورقة فيأخذها إلا أروته لبنا، أو قال: شرب منها ما شاء حتى نبت.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: هو القرع، والعرب تسميه الدُّبَّاء.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن ورقاء، عن سعيد بن جُبَير في قول الله:( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: هو القرع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.
وقال آخرون: كان اليقطين شجرة أظلَّت يونس.
* ذكر من قال ذلك:
(21/114)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب عن سعيد بن جُبَير، قال: اليقطين: شجرة سماها الله يقطينا أظلته، وليس بالقرع. قال: فيما ذُكر أرسل الله عليه دابة الأرض، فجعلت تقرض عروقها، وجعل ورقها يتساقط حتى أفضت إليه الشمس وشكاها، فقال: يا يونس جزعت من حرّ الشمس، ولم تجزع لمئة ألف أو يزيدون تابوا إليّ، فتبت عليهم؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) }
يقول تعالى ذكره: فأرسلنا يونس إلى مئة ألف من الناس، أو يزيدون على مئة ألف. وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: معنى قوله( أوْ ) : بل يزيدون.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن الحكم بن عبد الله بن الأزور، عن ابن عباس، في قوله( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: بل يزيدون، كانوا مئة ألف وثلاثين ألفا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله( مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: يزيدون سبعين ألفا، وقد كان العذاب أرسل عليهم، فلما فرقوا بين النساء وأولادها، والبهائم وأولادها، وعجُّوا إلى الله، كشف عنهم العذاب، وأمطرت السماء دما.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيرا، عمن سمع أبا العالية، قال: ثني أبيّ بن كعب، أنه سأل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن قوله( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ )
(21/115)
قال: يزيدون عشرون ألفا.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك: معناه إلى مئة ألف أو كانوا يزيدون عندكم، يقول: كذلك كانوا عندكم.
وإنما عنى بقوله( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أنه أرسله إلى قومه الذين وعدهم العذاب، فلما أظلهم تابوا، فكشف الله عنهم. وقيل: إنهم أهل نينَوَى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل، قال: قال الحسن: بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: قوم يونس الذين أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت.
وقيل: إن يونس أرسل إلى أهل نِيْنَوَى بعد ما نبذه الحوت بالعراء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: سمعت أبا هلال محمد بن سليمان، قال: ثنا شهر بن حوشب، قال:( أتاه جبرائيل، يعني يونس، وقال: انطلق إلى أهل نِينَوَى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم; قال: ألتمس دابة; قال: الأمر أعجل من ذلك، قال: ألتمس حذاء، قال: الأمر أعجل من ذلك، قال: فغضب فانطلق إلى السفينة فركب; فلما ركب احتبست السفينة لا تُقدم ولا تُؤخر; قال: فتساهموا، قال: فسُهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: أيا حوت إنا لم نجعل يونس لك رزقا، إنما جعلناك له حوزا ومسجدا;
(21/116)
قال: فالتقمه الحوت، فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الأيْلة، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى ).
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت.
وقوله( فَآمِنُوا ) يقول: فوحدوا الله الذي أرسل إليهم يونس، وصدقوا بحقيقة ما جاءهم به يونس من عند الله.
وقوله( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) يقول: فأخرنا عنهم العذاب، ومتعناهم إلى حين بحياتهم إلى بلوغ آجالهم من الموت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) : الموت.
حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) قال: الموت.
وقوله( فَاسْتَفْتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : سل يا محمد مشركي قومك من قريش.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) : يعني مشركي قريش.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) قال: سلهم، وقرأ:( وَيَسْتَفْتُونَكَ ) قال: يسألونك.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ
(21/117)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
( فَاسْتَفْتِهِمْ ) يقول: يا محمد سلهم.
وقوله( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) : ذكر أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها، فقال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام : سلهم، وقل لهم: ألربي البنات ولكم البنون؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة،( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) ؟ لأنهم قالوا: يعني مشركي قريش: لله البنات، ولهم البنون.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) قال: كانوا يعبدون الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) }
يعني تعالى ذكره: أم شهد هؤلاء القائلون من المشركين: الملائكة بنات الله خلقي الملائكة وأنا أخلقهم إناثا، فشهدوا هذه الشهادة، ووصفوا الملائكة بأنها إناث.
وقوله( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم( لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قيلهم ذلك.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ) يقول: من كذبهم.
وقوله( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم( لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قيلهم ذلك.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ) يقول: من كذبهم. ======
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق