الأحد، 14 مايو 2023

ج17والاخر-الدر المصون في علم الكتاب المكنون المؤلف : السمين الحلبي

 

ج17.والاخر- الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي

قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)

قوله : { تِلْكَ } : مبتدأٌ مُشارٌ بها إلى الرَّجْفة والرَّدَّة في الحافِرة . و « كَرَّةٌ » . خبرُها . و « خاسِرَةٌ » صفةٌ ، أي : ذاتُ خُسْرانٍ ، أو أُسْنِدَ إليها الخَسارُ ، والمرادُ : أصحابُها ، مجازاً . والمعنى : إنْ كان رجوعُنا إلى القيامةِ حَقَّاً فتلك الرَّجْعَةُ رَجْعَةٌ خاسِرَةٌ ، وهذا أفادَتْه « إذَنْ » فإنها حرفُ جوابٍ وجزاءٍ عند الجمهور . وقيل : قد لا تكونُ جواباً . وعن الحسنِ : إنَّ « خاسرة » بمعنى كاذِبة

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)

قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ } : « هي » ضميرُ الكَرَّة ، أي : لا تَحْسَبوا تلك الكرَّةَ صعبةً على اللَّهِ تعالى . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بِمَ تَعَلَّقَ قولُه : » فإنما هي «؟ قلت : بمحذوفٍ معناه : لا تَسْتَصْعِبوها ، فإنما هي زَجْرَةٌ » . قلت : يعني بالتعلُّقِ من حيث المعنى ، وهو العطفُ .

فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

قوله : { فَإِذَا هُم } : المفاجأةُ والتَّسَبُّبُ هنا واضحان والسَّاهرة قيل : وجهُ الأرضِ ، والفَلاةُ ، وُصِفَتْ بما يقع فيها ، وهو السَّهَرُ لأجلِ الخوفِ . وقيل : لأنَّ السَّرابَ يَجْري فيها ، مِنْ قولِهم : عَيْنٌ ساهرَةٌ . قال الزمخشري : « والسَّاهرةُ : الأرضُ البيضاءُ المستويةُ ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ السَّرابَ يجري فيها ، مِنْ قولهم/ عينٌ ساهِرَةٌ جارِيةُ الماء ، وفي ضَدِّها نائمةٌ . قال الأشعت بن قيس :
4486 وساهِرَةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً ... لأَقْطارِها قد جُبْتُها مُتَلَثِّما
أو لأنَّ ساكنَها لا ينامُ ، خَوْفَ الهَلَكَة » انتهى . وقال أمية :
4487 وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... وما فاهوا لهمْ فيها مُقيمُ
يريد : لحمُ حيوانِ أرضٍ ساهرةٍ . وقال أبو كبير الهذلي :
4488 يَرْتَدْنَ ساهِرَةً كأنَّ جَميمَها ... وعَمِيْمَها أسْدافُ ليلٍ مُظْلِمٍ
قال الراغب : « هي وَجْهُ الأرضِ . وقيل : أرضُ القيامةِ . وحقيقَتُها التي يَكْثُرُ الوَطْءُ بها ، كأنَّها سَهِرَتْ مِنْ ذلك ، إشارةً إلى نحوِ قولِ الشاعر :
4489 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحَرَّكَ يَقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ
والأَسْهَران : عِرْقان في الأنفِ » انتهى . والسَّاهُوْر : غلافُ القَمَرِ الذي يَدْخُل فيه عند كُسوفِه . قال :
4490 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أو شُقَّةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ بَطْنِ ساهُوْرِ
أي : هذه المرأةُ بمنزلةِ قطعةِ القمر . وقال أميَّةُ :
4491 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَمَرٌ وساهُوْرٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)

قوله : { إِذْ نَادَاهُ } : « إذ » منصوبٌ ب « حديثُ » لا ب « أتاك » لاختلافِ وقتَيْهما . وتقدَّم الكلامُ في { طُوًى } [ الآية : 12 ] في طه .

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)

قوله : { اذهب } : يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ . ويجوزُ أن يكونَ على إضمارِ القولِ . وقيل : هو على حَذْفِ « أَنْ » ، أي : أَنْ اذهَبْ . ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله : « أَنْ اذْهَبْ » . و « أَنْ » هذه الظاهرةُ أو المقدرةُ يُحتمل أَنْ تكونَ تفسيريةً ، وأَنْ تكونَ مصدريةً ، أي : ناداه بكذا .

فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)

قوله : { هَل لَّكَ } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ . و « إلى أَنْ » متعلقٌ بذلك المبتدأ ، وهو حَذْفٌ شائعٌ . والتقدير : هل لك سبيلٌ إلى التزكية ومثله : « هل لك في الخير » يريدون : هل لك رغبةٌ في الخير . وقال الشاعر :
4492 فهل لكمُ فيها إليَّ فإنَّني ... بَصيرٌ بما أَعْيا النِّطاسِيَّ حِذْيَما
وقال أبو البقاء : « لَمَّا كان المعنى : أَدْعوك جاء ب » إلى « . وهذا لا يُفيدُ شيئاً في الإِعراب . وقرأ نافعٌ وابنُ كثير بتشديدِ الزاي مِنْ » تَزَّكَّى « والصادِ مِنْ » تَصَّدَّى « في السورةِ تحتها . والأصلُ : تتزَكَّى وتتصَدَّى ، فالحَرَمِيَّان أدغما ، والباقون حَذَفُوا نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] . وتقدَّم الخلافُ في أيَّتِهما المحذوفةِ .

فَحَشَرَ فَنَادَى (23)

قوله : { فَحَشَرَ فنادى } : لم يُذْكَر مفعولاهما؛ إذ المرادُ فَعَلَ ذلك ، أو يكونُ التقدير : فَحَشَرَ قومَه فناداهم . وقوله « فقال » تفسيرٌ للنداء .

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)

قوله : { نَكَالَ الآخرة } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل « أَخَذَ » ، والتجوُّزُ : إمَّا في الفعل ، أي : نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ ، وإمَّا في المصدر ، أي : أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له ، أي : لأجل نَكالِه . ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ ، أي : نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ ، قاله الزمخشري ، وجعله ك { وَعْدَ الله } [ النساء : 122 ] و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] . والنَّكالُ : بمنزلةِ التَّنْكيل ، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم . والآخرةُ والأولى : « إمَّا الداران ، وإمَّا الكلمتان ، فالآخرةُ قولُه : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، والأولى : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به .

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)

قوله : { أَمِ السمآء } : عطفٌ على « أنتم » وقوله : « بناها » بيانٌ لكيفيةِ خَلْقِه إياها . فالوقفُ على « السماء » ، والابتداءُ بما بعدَها . ونظيرُه ما مرَّ في الزخرف [ الآية : 58 ] { أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ }

رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)

قوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا } : جملةٌ مفسِّرةٌ لكيفيةِ البناءِ . والسَّمْكُ : الارتفاعُ . ومعناه في الآيةِ كما قال الزمخشريُّ : « جَعَلَ مقدارَ ذهابِها في سَمْتِ العُلُوِّ مديداً رفعياً » . وسَمَكْتُ الشيءَ : رَفَعْتُه في الهواءِ . وسَمَك هو ، أي : ارتفعَ سُمُوكاً فهو قاصِرٌ ومتعدٍّ . وسَنامٌ سامِكٌ تامِكٌ ، أي : عالٍ مرتفعٌ . وسِماكُ البيت ما سَمَكْتُه به . والسِّماك : نجمٌ معروفٌ ، وهما اثنان : رامحٌ وأَعْزَلُ . قال الشاعر :
4493 إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائِمُه أعَزُّ وأَطْوَلُ

وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)

قوله : { وَأَغْطَشَ } : أي : أظلم بلغةِ أنْمار وأَشْعر . يقال : غَطِش الليلُ وغَطَّشْتُه أنا ، وأَغْطَشْتُه قال :
4494 عَقَرْتُ لهُمْ ناقتي مَوْهِناً ... فلَيْلُهُمُ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ
وليلٌ أغطشٌ وليلةٌ غَطْشاءُ . قال الراغب : « وأصلُه من الأَغْطشِ ، وهو الذي في عَيْنه عَمَشٌ . ومنه فَلاةٌ غَطْشى لا يُهْتدى فيها . والتغاطُشُ : التَّعامي » انتهى . ويقال : أَغْطشَ الليلُ ، قاصراً كأظلم ، فأَفْعَلَ فيه متعدٍّ/ ولازمٌ .
وقوله : { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } فيه حَذْفٌ ، أي : ضُحى شمسِها ، أو أضافَ الليلَ والضُّحى لها للملابسةِ التي بينها وبينهما .

وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)

قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } : « بعد » على بابِها من التأخيرِ . ولا مُعارَضَةَ بينها وبين آيةِ فُصِّلت؛ لأنَّه خلق الأرضَ غيرَ مَدْحُوَّةٍ ، ثم خَلَق السماءَ ، ثم دحا الأرضَ . وقولُ أبي عبيدة : « إنها بمعنى قَبْل » مُنْكَرٌ عند العلماءِ . ويقال : دحا يَدْحُوا دَحْواً ودَحَى يَدْحي دَحْياً ، أي : بَسَط ، فهو من ذواتِ الواوِ والياءِ ، فيُكتبُ بالألف والياء ، ومنه قيل لِعُشِّ النَّعامة : أُدْحُوٌّ ، وأُدْحِيٌّ ، لانبساطِه في الأرض . وقال أمية :
4495 وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ... فهم قُطَّانُها حتى التَّنادِي
وقيل : دحى بمعنى سَوَّى . قال زيد بن نُفَيْل :
4496 وأَسْلَمْتُ وَجْهِيْ لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... له الأرضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثقالاً
دَحاها فلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّها ... بأَيْدٍ وأَرْسى عليها الجِبالا
والعامَّةُ على نصبِ « الأرض » و « الجبال » على إضمارِ فعلٍ مفسَّرٍ بما بعده ، وهو المختارُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ . ورَفَعَهما الحسنُ وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السَّمَّال وعمرُو بن عبيد ، على الابتداء ، وعيسى برفع « الأرض » فقط .

أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)

قوله : { أَخْرَجَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ تفسيراً . والثاني : أَنْ يكونَ حالاً . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : فهلاَّ أَدْخَلَ حرفَ العطفِ على » أَخْرَجَ « . قلت : فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ » دحاها « بمعنى بَسَطها ومهَّدها للسُّكنى ، ثم فَسَّر التمهيدَ بما لا بُدَّ منه في تأتِّي سُكْناها مِنْ تسويةِ أمرِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ وإمكانِ القَرارِ عليها . والثاني : أَنْ يكونَ » أَخْرَجَ « حالاً بإضمار » قد « كقولِه : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] . قلت : إضمار » قد « هو قولُ الجمهورِ ، وخالفَ الكوفيون والأخفش .

مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

قوله : { مَتَاعاً } : العامَّةُ على النصبِ مفعولاً له ، أو مصدراً لعاملٍ مقدَّرٍ ، أي : مَتَّعكم . والمَرْعَى في الأصل : مكانٌ أو زمانٌ أو مصدرٌ ، وهو هنا مصدرٌ بمعنى المفعولِ ، وهو في حق الآدميين استعارةٌ .

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)

قوله : { فَإِذَا جَآءَتِ } : في جوابِها أوجهٌ ، أحدُها : قولُه : « فأمَّا مَنْ طغى » نحو : « إذا جاءك بنو تميم فأمَّا العاصي فَأَهِنْه ، وأمَّا الطائعُ فأكْرِمْهُ » . وقيل : محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري : فإنَّ الأمرَ كذلك ، أي : فإنَّ الجحيمَ مَأْواه . وقدَّره غيرُ انقسم الراؤون قسمين . وقيل : عاينوا أو علموا . وقال أبو البقاء : « العاملُ فيها جوابُها ، وهو معنى قولِه : » يومَ يتَذَكَّرَ الإِنسانُ « . والطامَّة : الدَّاهِية تَطِمُّ على غيرِها من الدَّواهي لِعَظَمِها . والطَّمُّ : الدَّفْنُ . ومنه : طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ . وفي المثل : » جرى الوادي فَطمَّ على القُرى « والمرادُ بها في القرآن النخفةُ الثانيةُ لأنَّ بها يَحْصُل ذلك .

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)

قوله : { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ } : بدلٌ مِنْ « إذا » أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، أي : أعني يومَ ، أو يومَ يتذكَّرُ يجري كيتَ وكيتَ .

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)

قوله : { وَبُرِّزَتِ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ مشدداً ، و « لِمَنْ يرى » بياء الغيبة . وزيد بن عليّ وعائشةُ وعكرمةُ مبنياً للفاعلِ مخففاً ، و « ترى » بتاءٍ مِنْ فوقُ فجوَّزوا في تاء « ترى » أَنْ تكونَ للتأنيثِ ، وفي « ترى » ضمير الجحيم كقولِه : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ الفرقان : 12 ] ، وأَنْ تكونَ للخطابِ ، أي : ترى أنت يا محمدُ . وقرأ عبد الله « لِمَنْ رأى » فعلاً ماضياً .

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)

قوله : { هِيَ المأوى } : إمَّا : هي المَأْوى له ، أو هي مَأْواه ، وقامَتْ أل مَقامَ الضميرِ ، وهو رأيُ الكوفيين . وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذا الخلافِ والردُّ على قائلِه بقوله :
4497 رَحِيْبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفيقةٌ ... بجَسَّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
إذا لو كانَتْ أل عِوَضاً من الضميرِ لَما جُمِع بينهما في هذا البيتِ . ولا بُدَّ مِنْ أحدِ هذَيْن التأويلَيْن في الآيةِ الكريمةِ لأجلِ العائدِ من الجملةِ الواقعةِ خبراً إلى المبتدأ . والذي حَسَّن عدمَ ذِكْرِ العائدِ كَوْنُ الكلمةِ وقعَتْ رأسَ فاصلةٍ . وقال الزمخشري : « والمعنى : فإنَّ الجحيمَ مَأْواه ، كما تقولُ للرجل : / » غُضَّ الطرفَ « وليس الألفُ واللامُ بدلاً من الإِضافةِ ، ولكنْ لَمَّا عُلِمَ أنَّ الطاغيَ هو صاحبُ المَأْوى ، وأنَّه لا يَغُضُّ الرجلُ طَرْفَ غيره ، تُرِكَتِ الإِضافةُ ، ودخولُ الألفِ واللامِ في » المَأْوَى « والطَّرْفِ للتعريفِ لأنَّهما معروفان » .
قال الشيخ : « وهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ منه الرابِطُ العائدُ على المبتدأ ، إذ قد نَفَى مذهبَ الكوفيين ، ولم يُقَدِّر ضميراً كما قَدَّره البصريُّون ، فرامَ حصولَ الرابطِ بلا رابطٍ » . قلت : قوله : « ولكنْ لَمَّا عُلِمَ » إلى آخره هو عينُ قولِ البصريين ، ولا أَدْري كيف خَفِيَ عليه هذا؟

فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)

قوله : { فِيمَ أَنتَ } : « فيم » خبرٌ مقدمٌ ، و « أنت » مبتدأٌ مؤخرٌ و « مِنْ ذِكْراها » متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، والمعنى : أنت في أيِّ شيءٍ مِنْ ذِكْراها ، أي : ما أنت مِنْ ذكراها لهم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ . وقال الزمخشريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها : « لم يَزَلْ عليه السلامُ يَذْكُرِ الساعةَ ، ويُسْألُ عنها حتى نَزَلَتْ » . قال : فعلى هذا هو تَعَجُّبٌ مِنْ كثرةِ ذِكْرِه لها ، كأنَّه قيل : في أيِّ شُغْلٍ واهتمامٍ أنا مِنْ ذِكراها والسؤال عنها « . وقيل : الوقفُ على قولِه : » فيمَ « وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : فيم هذا السؤالُ ، ثم يُبْتدأ بقولِه : { أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } ، أي : إرسالُك وأنت خاتمُ الأنبياءِ ، وآخرُ الرسلِ ، والمبعوثُ في نَسْمِ الساعةِ ، ذِكْرٌ مِنْ ذِكْراها وعلامةُ مِنْ علاماتِها ، فكَفاهم بذلك دليلاً على دُنُوِّها ومشارَفَتِها والاستعدادِ لها ، ولا معنى لسؤالِهم عنها ، قاله الزمخشري ، وهو كلامٌ حسنٌ لولا أنه يُخالِفُ الظاهرَ ومُفَكِّكٌ لنَظْمِ الكلامِ .

إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)

قوله : { مُنذِرُ مَن } : العامَّةُ على إضافةِ الصفةِ لِمعمولِها تخفيفاً . وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن بالتنوين . قال الزمخشريُّ : « وهو الأصلُ ، والإِضافةُ تخفيفٌ ، وكلاهما يَصْلُحُ للحالِ والاستقبالِ . فإذا أُريد الماضي فليس إلاَّ الإِضافةُ كقولِك : هو مُنْذِرُ زيدٍ أمسِ » . قال الشيخ : « قوله : » هو الأصلُ « يعنى التنوينَ هو قولٌ قاله غيرُه ، ثم اختار الشيخُ أنَّ الأصلَ الإِضافةُ . قال : » لأنَّ العملَ إنما هو بالشَّبه ، والإِضافةُ أصلٌ في الأسماءِ . ثم قال : « وقوله فليس إلاَّ الإِضافةُ فيه تفصيلٌ وخِلافٌ مذكورٌ في النحو » . قلت : لا يُلْزِمُه أَنْ يَذْكُرَ محلَّ الوفاقِ ، بل هذان اللذن ذكرهما مذهبُ جماهيرِ الناسِ .

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

قوله : { أَوْ ضُحَاهَا } : أي : ضُحى العَشِيَّةِ ، أضاف الظرفَ إلى ضميرِ الظرفِ الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً ، وذَكَرهما لأنهما طرفا النهارِ ، وحَسَّن هذه الإِضافةَ وقوعُ الكلمةِ فاصلةً .

أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)

قوله : { أَن جَآءَهُ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ من أجلِه ، وناصبُه : إمَّا « تَوَلَّى » وهو قولُ البَصْريين ، وإمَّا « عَبَسَ » وهو قولُ الكوفيين . والمختارُ مذهبُ البَصْريين لعَدَمِ الإِضمارِ في الثاني ، وقد عَرَفْتَ تحقيقَ هذا فيما تقدَّم مِنْ مسائلِ التنازع . والتقدير : لأَنْ جاءَه الأعمى فَعَلَ هذَيْنِ الفِعلَيْنِ . والخلافُ في موضع « أَنْ » بعد حَذْفِ الجارِّ مشهورٌ . وقيل : « أَنْ » بمعنى « إذ » نقله مكي .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ « عَبَّس » بالتشديد . والعامَّةُ على « أنْ » بهمزةٍ واحدةٍ . وزيد بن علي وعيسى وأبو عمران الجوني بهمزتَيْن . وقال الزمخشري : « وقُرِىء آأنْ بهمزتين وبألفٍ بينهما ، وُقِفَ على » عَبَس وتولَّى « ثم ابْتُدِىء على معنى : ألأَنْ جاءَه الأعمى فَعَل ذلك » .

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)

قوله : { لَعَلَّهُ يزكى } : الظاهرُ أجراءُ الترجِّي مُجرى الاستفهام لِما بينهما من معنى الطلبِ في التعليق؛ لأنَّ المعنى منصَبٌّ على تَسَلُّطِ الدِّراية على الترجِّي؛ إذ التقدير : لا يَدْري ما هو مترجَّى منه التزكيةُ أو التذكُّرُ . وقيل : الوقفُ على « يَدْري » والابتداءُ بما بعده على معنى : وما يُطْلِعُك على أمرهِ وعاقبةِ حالِه ، ثم ابتدأ فقال : { لَعَلَّهُ يزكى } .

أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)

قوله : { فَتَنفَعَهُ } : قرأ عاصم بنصبه ، والباقون برفعه . فأمَّا نصبُه فعلى جوابِ الترجِّي كقوله : { فَأَطَّلِعَ } في سورة المؤمن [ الآية : 37 ] وهو مذهبٌ كوفيٌّ ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك . وقال ابن عطية : « في جواب التمني؛ لأنَّ قولَه » أو يَذَّكَّرُ « في حكم قولِه » لعلَّه يزَّكَّى « . قال الشيخ : » وهذا ليس تمنياً إنما هو تَرَجٍّ « . قلت : إنما يريد التمنيَ المفهومَ من الكلام ، ويدلُّ له ما قال أبو البقاء : » وبالنصب على جواب التمنِّي في المعنى « وإلاَّ فالفرقُ بين التمني والترجِّي لا يَجْهَلُه أبو محمد . وقال مكي : » مَنْ نصبه جَعَلَه جوابَ « لعلَّ » بالفاء لأنه غيرُ موجَبٍ فأشبه التمنيَ والاستفهامَ ، وهو غيرُ معروفٍ عند البصريين « .
وقرأ عاصمٌ في ورايةٍ والأعرجُ » أو يَذْكُرُ « بسكونِ الذالِ وتخفيفِ الكافِ مضومةً مضارعَ ذَكَرَ .

فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)

قوله : { تصدى } تقدَّمَتْ/ فيه قراءتا التثقيلِ والتخفيفِ ، ومعناه تتعرَّضُ . يُقال : تَصَدَّى ، أي : تَعَرَّضَ وأصلُه تَصَدَّدَ من الصَّدَدِ ، وهو ما استقبلك وصار قُبالتَك ، فأبدلَ أحدَ الأمثالِ حرفَ علةٍ نحو : تَظَنَّيْتُ وَقَصَّيْتُ أَظْفاري و :
4498 تَقَضِّيَ البازِيْ . . . . . . . . . ... قال الشاعر :
4499 تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كأنَّ جَبينَه ... سِراجُ الدُّجى تُجْبَى إليه الأساوِرُ
وقيل : هو من الصَّدى ، وهو الصوتُ المسموعُ في الأماكنِ الخاليةِ والأجرامِ الصُّلبةِ . وقيل : من الصَّدى وهو العطش ، والمعنى على التعرض ، ويُتَمَحَّلُ لذلك إذا قلنا : أًصلُه من الصوت أو العطش .
وقرأ أبو جعفر « تُصَدَّى » بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الصادِ ، أي : تَصَدِّيك يُحَرِّضُك على إسلامِه . يقال : تَصَدِّي الرجلِ وتَصْدِيَتُه . وقال الزمخشري : « وقُرِىء » تُصَدَّى « بضم التاء ، أي : تُعَرَّضُ ، ومعناه : يَدْعوك داعٍ إلى التَّصَدِّي له من الحِرْصِ والتهالُكِ على إسلامِه » .

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)

قوله : { أَلاَّ يزكى } : مبتدأٌ خبرُه عليك ، أي : ليس عليك عَدَمُ تَزْكيتِه .

وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)

قوله : { يسعى } : حالٌ مِنْ فاعل « جاءكَ » وقوله « وهو يَخْشى » جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ « يَسْعى » ، فهو حالٌ مِنْ حالٍ . وجَعْلُها حالاً ثانية معطوفةً على الأولى ليس بالقويِّ .

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

قوله : { تلهى } : أًصلُه تَتَلَهَّى مِنْ لَهِيَ يَلْهى بكذا ، أي : اشتغل ، وليس هو من اللهوِ في شيءٍ . وقال الشيخ : « ويمكنُ أن يكونَ منه؛ لأنَّ ما يُبْنى على فَعِل من ذواتِ الواو تَنْقَلِبُ واوه ياءً لانكسارِ ما قبلَها نحو : شَقِي يَشْقى . فإن كان مصدرُه جاء بالياءِ فيكونُ مِنْ مادةٍ غيرِ مادةِ اللهو » . قلت : الناسُ إنما لم يَجْعلوه من اللهو لأَجْلِ أنه مُسْنَدٌ إلى ضمير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولا يَليق بمَنْصِبه الكريم أَنْ يَنْسُبَ اللَّهُ تعالى إليه التفعُّلَ من اللهو بخِلاف الاشتغال ، فإنه يجوزُ أَنْ يَصْدُرَ منه في بعض الأحيان ، ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ غيرُ هذا ، وإنما سَقَط الشيخ .
وقرأ ابن كثير في روايةِ البزِّي عنه « عَنْهو تَّلهَّى » بواوٍ هي صلةٌ لهاءِ الكناية وتشديدِ التاءِ ، والأصل تَتَلَهَّى فأدغم ، وجاز الجَمْعُ بين ساكنَيْن لوجود حرفِ علةٍ وإدغامٍ ، وليس لهذه الآيةِ نظيرٌ : وهو أنه إذا لقي صلةَ هاءِ الكناية ساكنٌ آخرُ ثَبَتَتِ الصلةُ بل يجبُ الحَذْفُ . وقرأ أبو جعفر « تُلَهَّى » بضم التاء مبنياً للمفعولِ ، أي : يُلْهِيْكَ شأنُ الصَّناديد . وقرأ طلحة « تَتَلَهَّى » بتاءَيْن وهي الأصلُ ، وعنه بتاءٍ واحدةٍ وسكونِ اللام .

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)

قوله : { إِنَّهَا } : الضمير للسورةِ أو للآيات .

فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)

قوله : { ذَكَرَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى؛ لأنه مُنَزِّلُ التذكِرَة ، وأن تكونَ للتذكرة ، وذكَّر ضميرَها لأنها بمعنى الذِّكْر والوَعْظ .

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)

قوله : { فَي صُحُفٍ } : صفةٌ ل « تَذْكِرة » فقوله { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } جملةٌ معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها . ونحوُها : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } ويجوز أَنْ يكون « في صُحُف » خبراً ثانياً ل « إنَّها » ، والجملةُ معترضةٌ بين الخبرَيْن .

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)

قوله : { سَفَرَةٍ } : جمعُ سافِر وهو الكاتبُ ، ومثلُه كاتِب وكَتَبة . وسَفَرْتُ بين القومِ أَسْفِر سَِفارة : أَصْلَحْتُ بينهم . قال :
4500 فما أَدَعُ السَّفارة بين قومي ... وما أَسْعلى بغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ
وأَسْفَرَتِ المرأةُ : كَشَفَتْ نِقابها .

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)

قوله : { مَآ أَكْفَرَهُ } : إمَّا تعجبٌ ، وإمَّا استفهامُ تعجبٍ .

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)

قوله : { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للإِنسانِ . والسبيل ظرفٌ ، أي : يَسَّر للإِنسان الطريقَ ، أي : طريق الخيرِ والشرِّ كقولِه : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] . وقال أبو البقاء : « ويجوز أن ينتصِبَ بأنه مفعولٌ ثانٍ ل يَسَّره ، والهاء للإِنسان ، أي : يَسَّره السبيلَ ، أي : هداه له » . قلت : فلا بُدَّ مْن تضمينِه معنى أَعْطى حتى يَنْصِبَ اثنين ، أو يُحْذفُ حرفُ الجرِّ ، أي : يَسَّره للسبيل ، ولذلك قَدَّره بقولِه : هداه له . ويجوزُ أَنْ يكون « السبيل » منصوباً على الاشتغال بفعلٍ مقدرٍ ، والضميرُ له ، تقديره : ثم يَسَّر السبيلَ يَسَّره ، أي : سَهَّله للناسِ كقوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وتقدَّم مثلُه في قولِه : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } [ الإِنسان : 3 ] .

ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)

قوله : { فَأَقْبَرَهُ } : أي : جَعَلَ له قَبْراً . يُقال : قَبَرَه إذا دَفَنَه وأَقْبَره ، أي : جَعَلَه بحيث يُقْبَرُ ، وجَعَلَ له قبراً ، والقابِرُ : الدافنُ بيده . قال الأعشى :
4501 لو أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقَلْ إلى قابِرِ

ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)

قوله : { شَآءَ } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : شاءَ إنْشارَه . وأَنْشَرَه : جوابُ « إذا » . وقرأ شعيبُ بن أبي حمزة نَشَره ثلاثياً ، ونقلها أبو الفضلِ أيضاً وقال : « هما لغتان بمعنى الإِحياء » .

كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)

قوله : { مَآ أَمَرَهُ } : « ما » موصولةٌ . قال أبو البقاء : « بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : ما أمره به » . قلت : وفيه نظرٌ من حيث إنَّه قَدَّر العائدَ مجروراً بحرفٍ لم يَجُرَّ الموصولَ : ولا أمره به . فإنْ قلت : « أمرَ » يتعدَّى إليه بحَذْفِ الحرفِ فأُقَدِّرُه غيرَ مجرورٍ . قلت : إذا قَدَّرْتَه غيرَ مجرورٍ : فإمَّا أَنْ تقدِّرَه متصلاً أو منفصلاً ، وكلاهما مُشْكِلٌ؛ لِما قَدَّمْتُ في أولِ البقرة عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .

أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)

قوله : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً } : قرأ الكوفيون « أنَّا » بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف . والباقون بالكسر . والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بدلٌ مِنْ « طعامِه » فتكونُ في محلِّ جر . استشكل بعضُهم هذا الوجهَ ، وَرَدَّه : « بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ . ورُدَّ على هذا بوجهَيْن ، أحدهما : أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ : وهو أنَّ المعنى : فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ ، وهذا ليسَ بواضح . والثاني : أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى : أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير . وقد نحا مكي إلى هذا فقال : لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى » إلى طعامه « : إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه » .
والوجه الثاني : أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ ، أي : فلينظُرْ لأِنَّا ، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها . والوجهُ الثالث : أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أنَّا صَبَبْنا ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ ، وجوابُه ما تقدَّمَ .
وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه . وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي « أنَّى » التي بمعنى « كيف » وفيها معنى التعجبِ ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ ، وعلى غيرِها كلمتان .

وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)

قوله : { وَقَضْباً } : القَضْبُ هنا قيل : الرُّطَبُ لأنه يُقْضَبُ من النخلِ ، أي : يُقْطَعُ . ورجَّحه بعضُهم بذِكْرِه بعد قوله : « وعِنَباً » وكثيراً ما يَقْترنان . وقيل : القَتُّ ، كذا يُسَمِّيه أهلُ مكة . وقيل : كلُّ ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدم . وقيل : هو الرَّطْبَةُ . والمقاضِبُ : الأرضُ التي تُنْبِتُها . قال الراغب : « والقَضيب كالقَضْب ، لكنَّ القضيبَ من فروع الشجرِ ، والقَضْبَ في البَقْلِ . والقَضْبُ أي : بالفتح قَطْعُ القَضْبِ والقَضيبِ ، وعنه عليه السلام : » أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تَصْليباً قَضَبَه « وسيفٌ قاضِبٌ وقَضيبٌ ، أي : قاطعٌ ، فقضيب هنا بمعنى فاعِل ، وفي الأولِ بمعنى مَفْعول ، وناقة قَضِيب لِما يُؤْخَذُ من بين الإِبلِ ولم تُرَضْ ، وكلُّ ما لم يُهَذَّبْ فهو مقتضَبٌ ، ومنه » اقتضابُ الحديثِ «
لِما لم يُتَرَوَّ ويُهَذَّبْ . وقال الخليل : » القضيب : أغصانُ الشجرِ ليُتَّخَذَ منها قِسِيٌّ/ أو سِهامٌ .

وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)

قوله : { غُلْباً } : جمعُ أَغْلَب وغَلْباء كحُمْر في أَحْمر وحَمْراء . يقال : حديقةٌ غَلْباءُ ، أي : غليظةُ الشجرِ ملتفَّتُه ، واغْلَوْلَبَ العُشْبُ ، أي : غَلُظَ . وأصلُه في وصفِ الرِّقاب . يقال : رجلٌ أغلبُ ، وامرأةٌ غَلْباءُ ، أي : غليظا الرَّقَبةِ . قال عمرو بن معدي كرب :
4502 يَسْعَى بها غُلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ ... بُزْلٌ كُسِيْنَ من الكُحَيْلِ جِلالا
والغَلَبَةُ : القَهْرُ ، أن تَنالَ وتُصيبَ غَلَبَةَ رقبتِه ، هذا أصله .

وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)

قوله : { وَأَبّاً } : الأبُّ للبهائم بمنزلةِ الفاكهةِ للناس . وقيل : هو مُطْلَقُ المَرْعى . قال بعضُهم يمدح النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم :
4503 له دَعْوَةٌ مَيْمونَةٌ ريحُها الصَّبا ... بها يُنْبِتُ اللَّهُ الحَصيدةَ والأَبَّا
وقيل : الأبُّ يابِسُ الفاكهةِ ، وسُمِّي المَرْعى أبَّاً لأنه يُؤَمُّ ويُنْتَجَعُ ، والأَبُّ والأَمَّ بمعنىً . قال :
4504 جِذْمُنا قَيْسٌ ونَجْدٌ دارُنا ... ولنا الأَبُّ بِها والمَكْرَعُ
وأبَّ لكذا ، أي : تَهَيَّأ ، يَؤُبُّ أبَّاً وأَبابة وأَباباً . وأبَّ إلى وطنِهِ ، إذا نَزَعَ إليه نُزوعاً ، تَهَيَّأَ لِقَصْدِه ، وكذا أبَّ لِسَيْفِه ، أي : تهيَّأ لِسَلِّه . وقولُهم : « إبَّانَ ذلك » هو فِعْلان منه ، وهو الزمانُ المُهَيَّأُ لفِعْلِه ومجيئِه .

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

قوله : { الصآخة } : الصَّيحَةُ التي تَصُخُّ الآذانَ ، أي : تَصُمُّها لشِدَّةِ وَقْعَتِها . وقيل : هي مأخوذةٌ مِنْ صَخَّه بالحجَرِ ، أي : صَكَّه به . وقال الزمخشري : « صَخَّ لحديثِه مثلَ أصاخ فوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بالصاخَّة مجازاً؛ لأنَّ الناسَ يَصِخُّون لها » . وقال ابن العربي : « الصَّاخَّة : التي تُوْرِثُ الصَّمَمَ ، وإنها لَمُسْمِعَةٌ ، وهذا مِنْ بديع الفصاحة كقوله :
4505 أصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أيَّامَ فُرْقَتِهمْ ... فهل سَمِعْتُمْ بسِرٍ يُوْرِث الصَّمَما
وقال :
4506 أَصَمَّ بك النَّاعي وإنْ كانَ أَسْمَعا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجوابُ » إذا « محذوفٌ ، يَدُلُّ عليه قولُه { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، أي : التقديرُ : فإذا جاءَتِ الصَّاخةُ اشتغلَ كلُّ أحدٍ بنفسِه .

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)

قوله : { يَوْمَ يَفِرُّ } : بدلٌ مِنْ « إذا » ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « يُغْنِيْه » عاملاً في « إذا » ولا في « يومَ » لأنه صفةٌ لشَأْن ، ولا يتقدَّمُ معمولُ الصفةِ على موصوفِها . والعامَّةُ على « يُغْنيه » من الإِغناء ، وابن محيصن والزُّهريُّ وابن أبي عبلة وحميد وابن السَّمَيْفَع « يَعْنِيه » بفتح الياء وبالعينِ المهملةِ ، مِنْ قولِهم : عَناني الأمرُ ، أي : قَصَدني .

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)

قوله : { غَبَرَةٌ } : الغَبَرَةُ : الغُبارُ ، والقَتَرَةُ : سَوادٌ كالدُّخان . وقال أبو عبيدة : « القَتَرُ في كلامِ العربِ : الغبارُ جمعُ القَتَرة » . قال الفرزدق :
4507 مُتَوَّجٌ برِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُه ... مَوْجٌ ترى فوقَه الراياتِ والقَتَرا
قلت : وفي عطفِه على الغَبَرة ما يَرُدُّ هذا ، إلاَّ أَنْ يقولَ : لَمَّا اختلفَ اللفظانِ حَسُن العطفُ كقولِه :
4508 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كَذِباً ومَيْنا
وقوله :
4509 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . النَّأْيُ والبُعْدُ
وهو خلافُ الأصلِ . والعامَّةُ على فتحِ التاءِ مِنْ « قَتَرة » ، وأَسْكنها ابنُ أبي عبلة .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)

قوله : { إِذَا الشمس } : في ارتفاع « الشمسِ » وجهان ، أصحُّهما : أنها مرفوعةٌ بفعلٍ مقدرٍ مبنيٍّ للمفعول ، حُذِف وفَسَّره ما بعده على الاشتغالِ . والرفعُ على هذا الوجهِ أعني إضمارَ الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يُجيزون أَنْ يَلِيَها غيرُه ، ويتأوَّلون ما أَوْهَمَ خلافَ ذلك ، والثاني : أنها مرفوعةٌ بالابتداء ، وهو قول الكوفيين والأخفش لظواهرَ قد جاءَتْ في الشعر ، وانتصر له ابنُ مالك وهناك أظهَرْتُ معه البحثَ . وقال الزمخشري : « ارتفاعُ الشمسُ على الابتداءِ أو الفاعليةِ . قلت : بل على الفاعليةِ » ثم ذكرَ نحوَ ما تقدم . ويعني بالفاعليةِ ارتفاعَها بفعلٍ في الجملةِ ، وقد مرَّ أنه يُسَمَّى مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً . وتقدَّم تفسير التكوير في أوّلِ « تنزيلُ » . وارتفاعُ « النجوم » وما بعدَها كما تقدَّم في « الشمس » .

وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)

والاْنكِدار : الانتثارُ ، أي : انصَبَّتْ كما يَنْصَبُّ العُقابُ إذا كُسِرَتْ . قال العَجَّاجُ يصفُ صَقْراً :
4510 أَبْصَرَ خِرْبانَ الفَلاةِ فانكَدَرْ ... تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازيْ كَسَرْ

وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)

والعِشار : جمع عُشَراء ، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ ، وكذلك « نِفاس » في جَمْع نُفَساء . وقيل : العِشارُ : السَّحابُ . وعُطِّلت ، أي : لا تُمْطر . وقيل : الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها . والتَّعْطيل : الإِهمالُ . ومنه قيل للمرأة : « عاطِلٌ » إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ . وتقدَّم/ في « بئرٍ مُعَطَّلةٍ » . وقال امرؤ القيس :
4511 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ « عُطِلت » بتخفيفِ الطاءِ . قال الرازي : « هو غَلَطٌ ، إنما هو » عَطَلَتْ « بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي . يُقال : عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ » .
والوحوش : ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ . والوَحْشُ أيضاً : المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه ، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت ، أي : ببلدٍ قَفْر . والوحشُ : الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام ، وجمعُه أَوْحاش ، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ : وَحْشِيّ ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان ، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه . وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ .

وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)

قوله : { سُجِّرَتْ } : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ « سُجِرَتْ » بتخفيف الجيم ، والباقون بتثقيلِها على المبالغةِ والتكثيرِ . وتقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ .

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)

قوله : { زُوِّجَتْ } : العامَّةُ على تشديد الواوِ مِنْ التزويجِ ، ورُوي عن عاصمٍ « زُوْوِجَتْ » على فُوْعِلَتْ . قال الشيخ : « والمُفَاعَلَةُ تكون بين اثنين » انتهى . قلت : وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ : لأنه ينبغي أَنْ يُلفَظَ بواوٍ ساكنةٍ أخرى مكسورةٍ . وقد تقدَّم لك أنَّه اجتمع مِثْلان ، وسَكنَ أوَّلُهما وَجَبَ الإِدغام حتى في كلمتين ، ففي كلمةٍ واحدةٍ بطريقِ الأَوْلى .

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)

قوله : { الموءودة } : هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل . يقال : وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه . وقال الزمخشري : « وَأَدَ يَئِدُ ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ . قال اللَّهُ تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] لأنه إثْقالٌ بالتراب » . قال الشيخ : « ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ . والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب : أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً ، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ . فالأول : كيَئِس وأيِسَ . والثاني : كَطَأْمَنْ واطمأنَّ . والثالث : كشوايع وشواعِي . والرابع : كلَعَمْري ورَعَمْلي » .
وقرأ العامَّةُ : « المَوْءُوْدَة » بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة . وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها ، وحُذِفَتِ الهمزةُ ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة : واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو : « أُجوه » في وُجوه ، فصار اللفظُ كما ترى ، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ . والثاني : أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ : قاده يَقُوده . والأصلُ : مأْوُودة ، مثلَ مَقْوُوْدة ، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ : مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن : إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا : إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا : إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ .
وقُرِىءَ « المَوُوْدة » بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً . وقرأ الأعمش « المَوْدَة » بزنةِ المَوْزَة . وتوجيهُه : أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحَذَفَ ثانيهما ، ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ ، وقد حُذِفَتْ . وقال مكي : « بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها ، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها ، فسَكَّنها ، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني ، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ : أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة . قالوا : لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك ، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ .
والعامَّةُ على » سُئِلت « مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين . والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم . وقرأ أبو جعفر » قُتِّلَتْ « بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ ، فناسبَه التكثيرُ .
وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس » سَأَلَتْ « مبنياً للفاعل ، » قُتِلْتُ « بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها . وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ » سَأَلَتْ « مبنياً للفاعل ، » قُتِلَتْ « بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة .

وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)

قوله : { نُشِرَتْ } : قرأ الأخَوان وابن كثير وأبو عمرو بالتثقيل . والباقون بالتخفيف . ونافعٌ وحفصٌ وابنُ ذكوانَ/ « سُعِّرَتْ » بالتثقيل ، والباقون بالتخفيف .

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

قوله : { عَلِمَتْ } : هذا جوابُ « إذا » أولَ السورةِ وما عُطِفَ عليها .
قوله : { كُشِطَتْ } [ التكوير : 11 ] ، أي : قُشِرَتْ ، مِنْ قولهم : كَشَطَ جِلْدَ الشاةِ ، أي : سَلَخَها . وقرأ عبد الله « قُشِطَتْ » بالقاف ، وقد تقدَّم أنهما يَتعقبان كثيراً ، وأنه قُرِىء « قافوراً » و « كافوراً » في { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } .

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)

قوله : { بالخنس } : جمعُ خانِس ، والخُنُوس : الانقباضُ . يقال : خَنَسَ من القوم وانْخَنَسَ . وفي الحديث : « فانْخَنَسْتُ » ، أي : اسْتَخْفَيْتُ . والخَنَسُ : تأخُّرُ الأَنْفِ عن الشَّفَة مع ارتفاع الأَرْنَبةِ قليلاً . ويقال : رجلٌ أَخْنَسُ وامرأةُ خَنْساءُ . ومنه الخَنساءُ الشاعرة . والخُنَّسُ في القرآن قيل : كواكبُ سبعةٌ : القمران وزُحَلُ والزهرةُ والمُشْتري والمَرِّيخ وعُطارِد . والكُنَّسُ : الدَّاخلة في الكِناس وهو بيتُ الوحشِ . والجواري : جمعُ جارية . وقيل : هي بَقَرُ الوحشِ؛ لأنَّ هذه صفتُها وقيل : الظِّباء ، قالوا : لأنَّ الخَنَسَ يكون فيها .

وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)

قوله : { عَسْعَسَ } : يقال : عَسْعَسَ وسَعْسَعَ أقبل . قال العَجَّاج :
4512 حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وانْجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسا
أي : أَدْبَر . وقيل : هو لهما على طريق الاشتراك . وقيل : أَدْبَرَ بلغةِ قريشٍ خاصةً . وقيل : أقبل ظلامُه ، ويُرَجِّحُه مقابلتُه بقولِه { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } وهذا هو قريبٌ من إدْباره .

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)

قوله : { عِندَ ذِي العرش } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل « رسولٍ » ، وأن يكونَ حالاً مِنْ « مَكين » ، وأصلُه الوصفُ ، فلمَّا قُدِّمُ نُصِبَ حالاً .

مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)

قوله : { ثَمَّ أَمِينٍ } : العامَّةُ على فَتْحِ الثاءِ؛ لأنَّه ظرفُ مكانٍ للبعيدِ . والعاملُ فيه « مُطاعٍ » . وأبو البرهسم وأبو جعفر وأبو حيوة بضمِّها جعلوها عاطفةً ، والتراخي هنا في الرتبةِ؛ لأنَّ الثانية أعظمُ من الأولى .

وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)

قوله : { بِضَنِينٍ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم ، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ . وقيل : معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم : « بئرٌ ظَنُوْنٌ » ، أي : قليلةُ الماءِ . وفي مصحفِ عبد الله كذلك ، والباقون بالضاد بمعنى : ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه ، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها ، وليس كذلك لِما مرَّ ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين ، خِلافاً لمَنْ يقول : إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز ، لِعُسْرِ معرفتِه . وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك ، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ ، بما لا يَليق التطويلُ فيه . و « على الغيب » متعلقٌ ب « ظَنِين » أو « بضَنِين » .

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)

قوله : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } : « أين » منصوبٌ ب « تَذْهبون » لأنه ظرفٌ مُبْهَمٌ . وقال أبو البقاء : « أي : إلى أين ، فحذف حرفَ الجر كقولك : ذهبتُ الشامَ . ويجوزُ أَنْ يُحْمَلَ على المعنى كأنه قال : أين تؤمنون » . يعني أنه على الحذفِ ، أو على التضمين . وإليه نحا مكي أيضاً ، ولا حاجة إلى ذلك البتة؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مبهمٌ لا مُخْتَصٌّ .

لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)

قوله : { لِمَن شَآءَ } : بدلٌ مِنْ « العالمين » بإعادةِ العاملِ ، وعلى هذا فقولُه « أن يَسْتقيمَ » مفعولُ « شاء » ، أي : لمَنْ شاء الاستقامة ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « لمَنْ شاء » خبراً مقدماً ، ومفعول « شاء » محذوفٌ ، و « أَنْ يَسْتَقيم » مبتدأ . وقد مَرَّ له نظيرٌ .

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين } : أي : إلاَّ وقتَ مشيئةِ الله ، وقال مكي : « وأنْ في موضع خفضٍ بإضمارِ الباءِ ، أو في موضعِ نصبٍ بحذفِ الخافضِ » يعني أنَّ الأصلَ : إلاَّ بأَنْ ، وحينئذٍ تكونُ للمصاحبة .

وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)

قوله : { فُجِّرَتْ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول مثقَّلاً . وقرأ مجاهد مبنياً للفاعل مخففاً ، من الفُجور ، نظراً إلى قولِه : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] ، فلمَّا زال البَرْزَخُ بَغَيا . وقرأ مجاهد أيضاً والربيع ابن خُثَيْم والزعفرانيُّ والثوري مبنياً للمفعول مخففاً .

وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

قوله : { بُعْثِرَتْ } : أي : قُلِبَتْ . يقال : بَعْثَره وبَحْثَرَه بالعين والحاء . قال الزمخشري : « وهما مركبان من البَعْث والبَحْث مضموماً إليهما راءٌ » يعني : أنهما ممَّا اتَّفق معناهما؛ لأنَّ الراءَ مزيدةٌ فيهما إذ ليَسْت مِنْ حروفِ الزيادةِ ، وهذا ك « دَمِث ودِمَثْرٍ ، وسَبِطَ وسِبَطْر . و » عَلِمَتْ « جوابُ » إذا « .

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)

قوله : { مَا غَرَّكَ } : العامَّةُ على « غَرَّك » ثلاثياً و « ما » استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء . وقرأ ابن جبير والأعمش « ما أَغَرَّك » فاحتمل أَنْ تكونَ استفهاميةً ، وأن تكونَ تعجبيةً . ومعنى أغرَّه : أدخله في الغِرَّة أو جعله غارَّاً .

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)

قوله : { الذي خَلَقَكَ } : يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ .
قوله : { فَعَدَلَكَ } قرأ الكوفيون « عَدَلَك ، مخففاً . والباقون/ مثقلاً . فالتثقيل بمعنى : جَعَلكَ متناسِبَ الأطرافِ ، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ ، فهو من التَّعْديلِ . وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا ، أي : عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ . وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ ، أي : صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ .

فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)

قوله : { في أَىِّ صُورَةٍ } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقُ ب « رَكَّبَكَ » و « ما » مزيدةٌ على هذا ، و « شاءَ » صفةٌ ل « صورةٍ » ، ولم يَعْطِفْ « رَكَّبَكَ » على ما قبله بالفاءِ ، كما عَطَفَ ما قبلَه بها؛ لأنه بيانٌ لقولِه : « فَعَدَلَكَ » . والتقدير : فَعَدَلَكَ : ركَّبك في أيِّ صورةٍ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ التي شاءها . والمعنى : وَضَعَكَ في صورةٍ اقتضَتْها مَشيئتُه : مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وطُولٍ وقِصَرٍ وذُكورةٍ وأُنوثةٍ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، أي : رَكَّبك حاصلاً في بعض الصور . الثالث : أنه يتعلَّقُ بعَدَلَكَ ، نقله الشيخ عن بعض المتأوِّلين ، ولم يَعْتَرِضْ عليه ، وهو مُعْتَرَضٌ : بأنَّ في « أيّ » معنى الاستفهام ، فلها صدرُ الكلام فكيف يعمل فيها ما تقدَّمَها؟
وكأنَّ الزمخشري استشعر هذا فقال : « ويكونُ في » أيّ « معنى التعجبِ ، أي : فَعَدَلَكَ في أيِّ صورةٍ عجيبةٍ » . وهذا لا يَحْسُنُ أَنْ يكونَ مُجَوِّزاً لِتَقَدُّمِ العاملِ على اسمِ الاستفهامِ ، وإنْ دَخَلَه معنى التعجب . ألا ترى أنَّ كيف وأنَّى وإنْ دَخَلهما معنى التعجبِ لا يتقدَّم عاملُهما عليهما . وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قُصِدَ به الاستثباتُ : هل يجوزُ تقديمُ عاملِه أم لا؟ والصحيح أنه لا يجوزُ ، وكذلك لا يجوز أن يتقدَّمَ عاملُ « كم » الخبريةِ عليها لشَبَهِها في اللفظ بالاستفهاميةِ فهذا أَوْلَى ، وعلى تعلُّقِها ب « عَدَلَكَ » تكون « ما » منصوبةً ب « شاء » ، أي : رَكَّبَكَ ما شاءَ من التركيبِ ، أي : تركيباً حَسَناً ، قاله الزمخشري ، فظاهرُه أنها منصوبةٌ على المصدر .
وقال أبو البقاء : « ويجوز أَنْ تكونَ » ما « زائدةً ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وعلى الأمرَيْن : الجملةُ نعتٌ ل » صورة « ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : رَكَّبك عليها . و » في « تتعلَّقُ ب » رَكَّبك « . وقيل : لا موضعَ للجملةِ؛ لأن » في « تتعلَّقُ بأحد الفعلَيْن ، والجميعُ كلامٌ واحدٌ ، وإنما تقدُّمُ الاستفهامِ على » ما « هو حَقُّه . قوله : » بأحد الفعلَيْنِ « يعني : شاءَ ورَكَّبك . وتَحَصَّل في » ما « ثلاثةُ أوجهٍ : الزيادةُ ، وكونُها شرطيَّةً ، وحيئنذٍ جوابُها محذوفٌ ، والنصبُ على المصدريةِ ، أي : واقعةٌ موقعَ مصدرٍ .

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)

والعامَّةُ : « يُكَذِّبُون » خطاباً . والحسن وأبو جعفر وشَيْبَةُ بياء الغَيْبة .

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)

قوله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل تُكَذِّبون ، أي : تُكَذِّبُون والحالةُ هذه ، ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً ، أخبرهم بذلك لينزَجِروا .

يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

قوله : { يَعْلَمُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ، وأَنْ يكونَ حالاً من ضمير « كاتبين » ، وأَنْ يكونَ نعتاً ل « جحيم » ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً .

يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)

قوله : { يَصْلَوْنَهَا } : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً . وقرأ العامَّةُ « يَصْلَوْنَها » مخففاً مبنياً للفاعل . وابن مقسم مشدَّداً مبيناً للمفعولِ ، وتقدَّم مثلُه .

يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

قوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع « يوم » على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو يومُ . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه ، يعني قولَه : « يومَ الدين » . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ « يومٌ » مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة ، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : لا يَمْلِكُ فيه . وقرأ الباقون « يومَ » بالفتح . وقيل : هي فتحةُ إعرابٍ ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون ، أو بإضمار اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به ، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر ، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل ، وإن كان معرباً ، كقولِه { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] وقد تقدَّم .

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)

قوله : { وَيْلٌ } : مبتدأٌ ، وسَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً . ولو نُصِبَ لجاز . وقال مكي : « والمختارُ في » وَيْل « وشبهِه إذا كان غيرَ مضافٍ الرفعُ . ويجوزُ النصبُ ، فإنْ كانَ مضافاً أو مُعَرَّفاً كان الاختيارُ/ فيه النصبَ نحو : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ } [ طه : 61 ] . و » للمُطَفِّفين « خبرُه .
والمُطَفِّفُ : المُنَقِّصُ . وحقيقتُه : الأَخْذُ في كيلٍ ، أو وَزْنٍ ، شيئاً طفيفاً ، أي : نَزْراً حقيراً ، ومنه قولُهم : » دونَ الطَّفيف « ، أي : الشيء التافِه لقلَّتِه .

الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)

قوله : { عَلَى الناس } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنَّه متعلِّقٌ ب « اكْتالوا » و « على » و « مِنْ » تَعْتَقِبان هنا . قال الفراء : « يقال : اكْتَلْتُ على الناس : استَوْفَيْتُ منهم ، واكْتَلْتُ منهم : أَخَذْتُ ما عليهم » وقيل : « على » بمعنى « مِنْ » . يقال : اكْتَلْتُ عليه ومنه ، بمعنىً ، والأولُ أوضحُ . وقيل : « على » تتعلَّقُ ب « يَسْتَوْفُون » . قال الزمخشري : « لَمَّا كان اكْتِيالُهم اكتيالاً يَضُرُّهُمْ ويُتَحامَلُ فيه عليهم أبدلَ » على « مكانَ » مِنْ « للدلالة على ذلك . ويجوزُ أن تتعلَّقَ ب » يَسْتَوْفون « ، وقدَّم المفعولَ على الفعل لإِفادةِ الخصوصيةِ ، أي : يَسْتَوْفون على الناس خاصةً ، فأمَّا أنفسُهم فَيَسْتَوْفون لها » انتهى . وهو حسنٌ .

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)

قوله : { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن ، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في « هم » على وجهين ، أحدهما : هو ضميرُ نصبٍ ، فيكونُ مفعولاً به ، ويعودُ على الناس ، أي : وإذا كالُوا الناسَ ، أو وَزَنوا الناسَ . وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين ، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ ، ويجوزُ حَذْفُه . وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه ، أو أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ . والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم ، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح . وأنشد الزمخشريُّ :
4513 ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً ... ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ
أي : جَنَيْتُ لك . والثاني : أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو . والضميرُ عائدٌ على المطففينِ ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا ، فقال : « ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ ، وذلك أنَّ المعنى : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا ، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا . فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا ، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا ، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر » .
قال الشيخ : « ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد ، والحديثُ واقعٌ في الفعل . غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ ، وهو في { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم » . قلت : الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن : إذا أخذوا مِنْ غيرِهم ، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم ، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين ، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني . ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال : « والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه ، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع ، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك : » هم [ لم ] يَدْعُوا « ، و » هو يَدْعُو « ، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال : المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما ، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرَيْن للمطففين ، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا » .

ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ ، فقال : « إذا اكْتالوا » ولم يَقُلْ : أو اتَّزَنوا ، كما قال ثانياً : أو وَزَنُوهم . قال الزمخشري : « كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء ، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً » .
قولُه : « يُخْسِرون » جوابُ « إذا » وهو مُعَدَّىً بالهمزة . يقال : خَسِرَ الرجلُ ، وأَخْسَرْتُه أنا ، فمفعولُه محذوفٌ ، أي : يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم .

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

قوله : { أَلا يَظُنُّ } : الظاهرُ أنَّها « ألا » التحضيضيةُ ، حَضَّهم على ذلك ، ويكونُ الظنُّ بمعنى اليقين . وقيل : هل لا النافيةُ دخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ .

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

قوله : { يَوْمَ يَقُومُ } : يجوزُ نصبُه ب « مَبْعُوثون » ، قاله الزمخشري : أو ب يُبْعَثون « مقدَّراً ، أو على البدلِ مِنْ محلِّ » يوم « ، أو بإضمارِ » أَعْني « ، أو هو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أو مجرورٌ بدلاً من » ليومٍ عظيمٍ « ، وإنما بُني في هذَيْن الوجهَيْن على الفتحِ لإِضافتِه للفعل ، وإن كان مضارعاً ، كما هو رأي الكوفيين ، ويَدُلُّ على صحة هذَيْن الوجهين قراءةُ زيدِ بنِ علي » يومُ يقومُ « بالرفعِ ، وما حكاه أبو معاذٍ القارىءُ » يوم « بالجرِّ على ما تقدَّم .

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)

قوله : { لَفِي سِجِّينٍ } : اختلفوا في نون « سِجِّين » . فقيل : هي أصليةٌ . اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر . وقيل : بل هي بدلٌ من اللامِ ، والأصلُ : سِجِّيْل ، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ . واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسمُ موضعٍ ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم . وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ ، وإذا كان اسمَ مكانٍ ، فقوله « كتابٌ مَرْقُوْمٌ » : إمَّا بدلٌ منه ، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه ، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل : التقدير : هو مَحَلُّ كتابٍ ، ثم حُذِفَ المضافُ . وقيل : التقديرُ : وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ ، إمَّا مِنْ الأولِ ، وإمَّا مِنْ الثاني : وأمَّا إذا قُلْنا : إنه اسمٌ ل « كتاب » فلا إشكال .
وقال ابن عطية : « مَنْ قال : إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ ، على أنه خبرُ » إنّ « والظرفُ الذي هو » لفي سِجِّين « مُلْغَى ، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة ، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، التقدير : هو كتابٌ ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟ » انتهى ، وهذا لا يَصِحُّ البتة؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى . لا يقال : اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو « كتابٌ » عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو « مرقوم » لامتنعَ ذلك . أمَّا مَنْعُ عملِ « كتابٌ » فلأنَّه موصوف ، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل . وأمَّا امتناعُ عملِ « مرقومٌ » فلأنَّه صفةٌ ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها . وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه ، وهذا ليس معمولاً للخبرِ ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ ، وليس بملغى . وأمَّا قولُه ثانياً « ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو » فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب « كتابٌ » .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب » كتاب مرقوم « فكأنه قيل : إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت : » سِجِّين « كتابٌ جامعٌ ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى : أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم » انتهى .

كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)

والرَّقْمُ : الخَطُّ . وقيل : الخَتْمُ بلغة حِمْيَرٍ ، والصحيحُ الأولُ . قال : /
4514 سأَرْقُمُ في الماءِ القَراح إليكُمُ ... على بُعْدِكُمْ إنْ كان للماءِ راقِمُ
وتقدَّمت هذه المادةُ في الكهف .

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)

قوله : { الذين يُكَذِّبُونَ } : يجوزُ فيه الإِتباعُ نعتاً وبدلاً وبياناً ، والقطعُ رفعاً ونصباً .

إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)

قوله : { إِذَا } : العامَّةُ على الخبر . والحسن « أإذا » على الاستفهامِ الإِنكاريِّ . والعامَّةُ « تُتْلى » بتَاءين مِنْ فوقُ ، وأبو حيوة وابن مقسم بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ .

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)

قوله : { بَلْ رَانَ } : قد تقدَّم وَقْفُ حفص على « بل » في الكهف . والرَّيْنُ والرانُ الغِشاوة على القلبِ ، كالصَّدأ على الشيءِ الصقيلِ من سيفٍ ومِرْآة ونحوِهما . قال الشاعر :
4515 وكم رانَ مِنْ ذنبٍ على قلبِ فاجِرٍ ... فتابَ مِن الذنبِ الذي ران وانْجَلَى
وأصلُ الرَّيْنِ : الغلبةُ ، ومنه : رانَتِ الخمرُ على عقلِ شاربِها . وران الغَشْيُ على عقل المريض . قال :
4516 . . . . . . . . . . . . رانَتْ به الخَمْ ... رُ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الزمخشري : « يقال : ران عليه الذنبُ وغان ، رَيْناً وغَيْناً . والغَيْنُ الغَيْم . ويقال : ران فيه النومُ : رَسَخَ فيه ، ورانَتْ به الخمرُ : ذهَبَتْ به » . وحكى أبو زيد : « رِيْنَ بالرَّجل رَيْناً : فجاء مصدرُه مفتوحَ العين وساكنَها . و » ما كانوا « هو الفاعلُ . و » ما « يُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ . وأُمِيْلَتْ ألفُ » ران « وفُخِّمَتْ ، فأمالها الأخَوان وأبو بكر وفَخَّمها الباقون ، وأُدغِم لامُ » بل « في الراء وأُظْهِرَتْ .

كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)

قوله : { عَن رَّبِّهِمْ } : متعلِّقٌ بالخبرِ ، وكذلك « يومئذٍ » . والتنوينُ عوضٌ من جملةٍ تقديرُها ، يومَ إذ يقومُ الناسُ؛ لأنه لم يناسِبْ إلاَّ تقديرُها .

ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

قوله : { يُقَالُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ ما دلَّتْ عليه جملةُ قولِه { هذا الذي كُنتُمْ } . ويجوزُ أَنْ يكونَ الجملةَ نفسَها ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرَ ، وقد تقدَّم تحريرُه أولَ البقرة .

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)

قوله : { لَفِي عِلِّيِّينَ } : هو خبر « إنَّ » . وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك ، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم . وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة ، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل . وقال أبو البقاء : « واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك . وقيل : هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين » ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في « سِجِّين » مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم . وقال الزمخشري : « عِلِّيُّون : عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ ، منقولٌ مِنْ جَمْع » عِلِّيّ « فِعِّيل من العُلُو ك » سِجِّين « مِنْ السَّجْن » ، سُميِّ بذلك : إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ « . قلت : وتلك الأقوالُ الماضيةُ في » سِجِّين « كلُّها عائدةٌ هنا .

يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

قوله : { يَشْهَدُهُ } : جملةٌ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ثانيةً ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً .

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)

قوله : { تَعْرِفُ } : العامُّةُ على إسنادِ الفعلِ إلى المخاطب ، أي : تَعْرِفُ أنت يا محمدُ ، أو كلُّ مَنْ صَحَّ منه المعرفةُ .
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبةُ وطلحةُ ويعقوبُ والزعفراني « تُعْرَفُ » مبنياً للمفعول ، « نَضْرَةُ » رَفْعٌ على قيامِها مقَامَ الفاعلِ . وعلي بن زيد كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ أسفلَ لأنَّ التأنيثَ مجازي .
[ وقوله : { يَنظُرُونَ } حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر أو مستأنف ] [ و « على الأرائك » متعلق ب « يَنْظرون » أو حال من ضميره ، أو حال مِنْ ضمير المستكنّ في الخبر ] .

يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)

قوله : { مِن رَّحِيقٍ } : الرحيق : الشرابُ الذي لا غِشَّ فيه ، وقيل : أجودُ الخمر . وقال حسان :
4517 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَرَدى يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)

قوله : { خِتَامُهُ } : قرأ الكسائيُّ « خاتَمهُ » بفتح التاءِ بعد الألف . والباقون بتقديمِها على الأف ، فوجهُ قراءةِ الكسائيِّ أنَّه جعله اسماً لِما تُخْتَمُ به الكأسُ بدليلِ قولِه « مَخْتوم » ، ثم بَيَّنَ الخاتَمَ ما هو؟ ورُوِيَ عن الكسائيِّ أيضاً كَسْرُ التاءِ ، فيكونُ كقولِه تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 40 ] والمعنى خاتَمٌ رائحتُهُ مِسْكٌ ، ووجهُ قراءةِ الجماعةِ أنَّ الخِتامَ هو الطينُ الذي يُخْتَمُ به الشيءُ ، فجُعِل بَدَلَه المِسْكُ . قال الشاعر :
4518 كأنَّ مُشَعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرى ... . . . . . . البُخْتُ مَسْدودَ الخِتامِ
وقيل : خَلْطُه ومِزاجُه . وقيل : خاتِمتُه ، أي : مَقْطَعُ شُرْبِه يَجِدُ فيه الإِنسانُ ريحَ المِسْكِ . والتنافُسُ : المغالبة في الشيء النفيسِ . يقال : نَفِسْتُ به نَفاسَةً ، أي : بَخِلْتُ به ، وأصلُه مِنْ النَّفْس لعِزَّتها .

وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)

قوله : { مِن تَسْنِيمٍ } : التَّسْنيم اسمٌ لعَيْنٍ في الجنة . قال الزمخشري : « تَسْنْيم عَلَمٌ لَعْينٍ بعينها ، سُمِّيت بالتَّسْنيم الذي هو مصدرُ سَنَمَه : إذا رفعه » . قلت : وفيه نظرٌ؛ لأنه كان مِنْ حَقِّه أن يُمْنَعَ الصرفَ للعَلَمِيَّة والتأنيث ، وإنْ كان مجازياً . ولا يَقْدَحُ في ذلك كونُه مذكَّرَ الأصلِ؛ لأنَّ العِبْرَةَ بحالِ العَلَمَّيةِ . ألا ترى نَصَّهم على أنه لو سُمِّي بزيد امرأةٌ وَجَبَ المَنْعُ ، وإن كان في « هِنْد » وجهان . اللهم إلاَّ أَنْ تقولَ : ذَهَبَ بها مَذْهَبَ الهِنْد ونحوِه ، فيكونَ كواسِط ودابِق .

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

قوله : { عَيْناً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه حالٌ ، قاله الزجاج ، يعني مِنْ « تَسْنيم » لأنَّه عَلَمٌ لشيءٍ بعينِه ، إلاَّ أنه يُشْكِل بكونه جامداً . الثاني : أنه منصوبٌ على المدح ، قاله الزمخشري . الثالث : أنها منصوبةٌ ب يُسْقَونْ مقدراً ، قاله الأخفش . وقوله : « يَشْرب » بها ، أي : مِنْها ، أو الباءُ زائدةٌ ، أو ضُمِّن « يَشْربُ » معنى يَرْوي . وتقدَّم هذا مُشْبعاً في سورة الإِنسان .

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)

قوله : { َمِنَ الذين آمَنُواْ } : متعلِّقٌ ب « يَضْحكون » ، أي : مِنْ أجلِهم ، وقُدِّمَ لأجل الفواصلِ . والتغامُز : الرَّمْزُ بالعينِ .

وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)

قوله : { فَكِهِينَ } : قرأ حفص « فَكِهين » دون ألف . والباقون بها . فقيل : هما بمعنى . وقيل : فكهين : أَشِرين ، وفاكهين : مِنْ التفكُّهِ . وقيل : فكِهين : فَرِحين ، وفاكهين ناعمين . وقيل : فاكهين أصحابُ فاكهةٍ ومِزاج .

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)

قوله : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ المرفوعُ للكفار ، والمنصوبُ للمؤمنين ، ويجوزُ العكسُ ، وكذلك الضميران في « أُرْسِلوا عليهم » .

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)

قوله : { فاليوم } : منصوبٌ ب « يَضْحَكون » . ولا يَضُرُّ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّه لو تقدَّم العاملُ هنا لجاز؛ إذا لا لَبْسَ ، بخلاف « زيدٌ قام في الدار » لا يجوز : في الدار زيدٌ قام .

عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)

قوله : { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } : كما تقدَّم في نظيره .

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

قوله : { هَلْ ثُوِّبَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقةً للنظرِ قبلها ، فتكونَ في محلِّ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافض . ويجوز أَنْ تكونَ على إضمارِ القول ، أي : يقولون : هل ثُوِّبَ . وثُوِّبَ ، أي : جُوْزِيَ . يُقال : ثَوَّبه وأثابه . قال الشاعر :
4519 سَأَجْزِيك أو يَجْزيك عني مُثَوِّبٌ ... وحَسْبُك أَنْ يُثْنَى عليك وتُحْمَدَا
وأدغم أبو عمروٍ والكسائيُّ وحمزةُ لامَ « هل » في الثاء . وقوله « ما كانوا » فيه حَذْفٌ ، أي : ثوابَ ما كانوا . و « ما » موصولٌ اسميٌّ أو حرفيٌّ .

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)

قوله : { إِذَا السمآء } : كقولِه : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] في إضمارِ الفعلِ وعَدَمِه . وفي « إذا » هذه احتمالان ، أحدهما : أَنْ تكونَ شرطيةً . والثاني : أَنْ تكونَ غير شرطيةٍ . فعلى الأول في جوابها خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه « أَذِنَتْ » ، والواوُ مزيدةٌ . الثاني : أنه « فَمُلاقِيه » ، أي : فأنت مُلاقِيْه . وإليه ذهب الأخفش . الثالث : أنَّه { ياأيها الإنسان } على حَذْفِ الفاء . الرابع : أنه { ياأيها الإنسان } أيضاً ، ولكن على إضمارِ القولِ ، أي : يقال : يا أيها الإِنسانُ . الخامس : أنه مقدرٌ تقديرُه : بُعِثْتُمِ . وقيل : تقديرُه : لاقى كلُّ إنسانٍ كَدْحَه . وقيل : هو ما صَرَّح به في سورتَيْ التكوير والانفطار ، وهو قولُه : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] ، [ الانفطار : 5 ] قاله الزمخشري ، وهو حسنٌ .
وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ مفعولاً بها ، بإضمار اذكرْ . والثاني : أنها مبتدأٌ ، وخبرُها « إذا » الثانية ، والواوُ مزيدةٌ ، تقديرُه : وقتُ انشقاقِ السماءِ وقتُ مَدِّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقتٍ واحد ، قاله الأخفشُ أيضاً . والعاملُ فيها إذا كانت ظرفاً عند الجمهور جوابُها : إمَّا الملفوظُ به ، وإمَّا المقدَّرُ . وقال مكي : « وقيل : العاملُ » انْشَقَّتْ « . وقال ابن عطية : » قال بعضُ النحاة : العامل « انْشَقَّتْ » ، وأبى ذلك كثيرٌ من أئمتهم؛ لأنَّ « إذا » مضافةٌ إلى « انشَقَّتْ » ، ومَنْ يُجِزْ ذلك تَضْعُفْ عنده الإِضافةُ ويَقْوى معنى الجزاء .
وقرأ العامَّةُ « انشَقَّتْ » بتاءِ التأنيث ساكنةً ، وكذلك ما بعده . وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة ، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض . قال أبو الفضل : « وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي . وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تأنيثِ الفعل للإِناث ، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماءِ ، فصار ذلك فارقاً بين الاسمِ والفعل فيمَنْ وقَفَ على ما في الأسماء بالتاءِ ، وذلك لغة طيِّىء ، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك » .
وقال ابن عطية : « وقرأ أبو عمرو » انشَقَّتْ « يقف على التاء كأنه يُشِمُّها شيئاً من الجرِّ ، وكذلك في أخواتها . قال أبو حاتم : » سمعتُ أعرابياً فصيحاً في بلادِ قيسٍ يكسِرُ هذه التاءات « . وقال ابن خالَويه : » انشَقَّت « بكسر التاء عُبَيْد عن أبي عمرو . قلت : كأنه يريدُ إشمامَ الكسرِ ، وأنه في الوقفِ دونَ الوصل لأنه مُطْلَقٌ ، وغيرُه مقيَّدٌ ، والمقيَّدُ يَقْضي على المطلق . وقال الشيخ : » وذلك أنَّ الفواصلَ تجري مَجْرى القوافي ، فكما أن هذه التاءَ تُكسر في القوافي تُكْسَرُ في الفواصل . ومثالُ كسرِها في القوافي قولُ كثيِّر عَزَّةَ :
4520 وما أنا بالدَّاعي لِعَزَّةَ بالرَّدى ... ولا شامِتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زلَّتِ
وكذلك باقي القصيدة ، / وإجراءُ الفواصلِ في الوقف مُجْرى القوافي مَهْيَعٌ معروفٌ ، كقولِه تعالى : { الظنونا } [ الآية : 10 ] { الرسولا } [ الآية : 66 ] في الأحزاب ، وحَمْلُ الوصلِ على الوقفِ موجودٌ أيضاً .

وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)

قوله : { وَأَذِنَتْ } : عَطْفٌ على « انْشَقَّتْ » ، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ ، ومعنى « أَذِنَتْ » ، أي : استمعَتْ أَمْرَه . يُقال : أَذِنْتُ لك ، أي : استمَعْتُ كلامَك . وفي الحديث : « ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن » وقال الشاعر :
4521 صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به ... وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا
وقال آخر :
4522 إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً ... وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم :
4523 أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا .
قوله : { وَحُقَّتْ } الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى ، أي : حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك ، أي : بسَمْعِه وطاعتِه . يُقال : هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به ، والمعنى : وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ .

وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)

قوله : { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } : كالأولِ ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ « إذا » الأولى على زيادةِ الواوِ .

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)

قوله : { كَادِحٌ } : الكَدْحُ : قال الزمخشري : « جَهْدُ النفس [ في العمل ] والكَدُّ فيه ، حتى يُؤَثِّر فيها ، ومنه كَدَح جِلِدَه إذا خَدَشَه . ومعنى » كادِحٌ « ، أي : جاهِدٌ إلى لقاءِ ربِّك وهو الموتُ » . انتهى . وقال ابن مقبل :
4524 وما الدَّهْرُ إلاَّ تارتان فمِنْهما ... أموتُ وأخرى أَبْتغي العيشَ أَكْدَحُ
وقال آخر :
4525 ومَضَتْ بَشاشَةُ كلِّ عيشٍ صالحٍ ... وبَقِيْتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ
وقال الراغب : « وقد يُستعمل الكَدْحُ استعمالَ الكَدْمِ بالأسنان . قال الخليل : الكَدْحُ دونَ الكَدْم » .
قوله : { فَمُلاَقِيهِ } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على كادح . والتسبيبُ فيه ظاهرٌ . ويجوز أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : فأنت مُلاقيه . وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط . وقال ابنُ عطية : « فالفاءُ على هذا عاطفةٌ جملةَ الكلامِ على التي قبلها . والتقدير : فأنت مُلاقيه » يعني بقوله : « على هذا » ، أي : على عَوْدِ الضميرِ على كَدْحِك . قال الشيخ : « ولا يَتَعَيَّنُ ما قاله ، بل يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْف المفردات » . والضمير : إم‍َّا للربِّ ، وإمَّا للكَدْح ، أي : مُلاقٍ جزاءَ كَدْحِك .

وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)

قوله : { مَسْرُوراً } : حالٌ مِنْ فاعل « يَنْقَلِبُ » . وقرأ زيد بن علي « ويُقْلَبُ » مبنياً للمفعول مِنْ قَلَبه ثلاثياً .

وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)

قوله : { ويصلى } : قرأ أبو عمرو وحمزةُ وعاصمٌ بفتح الياء وسكونِ الصادِ وتخفيفِ اللام ، والباقون بالضم والفتح والتثقيل . وقد تقدَّم تخريجُ القراءتَيْن في النساء عند قولِه : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وأبو الأشهب ونافع وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ عنهم « يُصْلى » بضمِّ الياء وسكونِ الصاد مِنْ « أَصْلى » .

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

قوله : { أَن لَّن } : هذه « أَنْ » المخففةُ كالتي في أول القيامة ، وهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْن أو أحدِهما على الخلاف . و « يَحُوْرُ » معناه يَرْجِعُ . يقال : حار يَحُورُ حَوْراً . قال لبيد :
4526 وما المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْءُه ... يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هو ساطعٌ
ويُسْتعمل بمعنى صار فيَرْفع الاسمَ ويَنْصِبُ الخبرَ عند بعضِهم ، وبهذا البيتِ يَسْتَدِلُّ قائِلُه . ومَنْ منع نَصَبَ « رماداً » على الحال . وقال الراغب : « الحَوْرُ التردُّد : إمَّا بالذاتِ وإمَّا بالفكرة . وقولُه تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } ، أي : لن يُبْعَثَ . وحار الماءُ في الغَديرِ ، تَرَدَّد فيه . وحار في أمْرِه وتَحَيَّر ، ومنه » المِحْوَرُ « للعُوْدِ الذي تجري عليه البَكَرة لتردُّدِه . وقيل : » نعوذُ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر « ، أي : مِنْ التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه ، ومحاورةُ الكلام : مراجعتُه » .

بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

قوله : { بلى } : جوابٌ للنفي في « لن » ، و « إنَّ » جوابُ قسمٍ مقدرٍ .

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)

قوله : { بالشفق } : قال الراغب : « الشَّفَقُ : اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس . والإِشفاقُ : عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه ، ويَخاف ما يلحقُه ، فإذا عُدِّيَ ب » مِنْ « فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ ، وإذا عُدِّي ب » على « فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ » . وقال الزمخشري : « الشَّفَقُ : الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء ، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه . سُمِّي شَفَقاً لر‍ِقَّته ، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان : رِقَّةُ القلبِ عليه » . انتهى . والشَّفَقُ شفقان : الشَّفَقُ الأحمر ، والآخر الأبيضُ ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ . قال الشاعر :
4527 تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا ... والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ

وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)

قوله : { وَمَا وَسَقَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً ، أو نكرةً . ووسَقَ ، أي : جَمَعَ . ومنه « الوَسَقُ » لجماعة الآصُعِ وهو ستون صاعاً . والوِسْق بالكسر الاسمُ ، وبالفتح المصدرُ وطعامٌ مَوْسوق ، أي : مجموعٌ . يقال : وَسَقَه فاتَّسق واسْتَوْسَقَ . ونظيرُ وقوعِ افتعل واستفعل مطاوعَيْن اتِّسَعَ واستَوْسَع . وقيل : وَسَق ، أي : عَمِلَ فيه . قال الشاعر :
4528 فيَوْماً ترانا صالِحِيْنَ وتارةً ... تقومُ بنا كالواسِق المُتَلَبِّبِ
وإبل مُسْتَوسِقَة . قال الراجز : /
4529 إنَّ لنا قَلائِصاً حَقائِقا ... مُسْتَوْسِقاتٍ لو تَجِدْنَ سائَقا
قوله : { إِذَا اتسق } ، أي : امتلأ . قال الفراء : « وهو امتلاؤُه واستواؤُه لياليَ البدر » وهو افتعلَ من الوَسْقِ وهو الضمُّ والجَمْعُ كما تقدَّم . وأَمْرُ فلانٍ مُتِّسِقٌ ، أي : مُجَتَمعُ على ما يَسْتُرُ .

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)

قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } : هذا جوابُ القسم . وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد ، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع . وتقدَّم تصريفُ مثلِه . فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها : إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله : { ياأيها الإنسان } [ الانشقاق : 6 ] ، وإمَّا خطابُ غيرِه . وقيل : هو خطابٌ للرسول ، أي : لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم . وقيل : التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء ، أي : لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال : تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان ، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ . وهذا قولُ ابنِ مسعود . والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ .
وقرأ عمر « لَيَرْكَبُنَّ » بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار . وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء ، أي : لَيركبَنَّ الإِنسانُ . وقيل : ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار . وقرأ عبد الله وابن عباس « لَتِرْكَبنَّ » بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة . وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس ، أي : لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ .
قوله : { طَبَقاً } مفعولٌ به ، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه . والطَّبَقُ : قال الزمخشري : « ما طابَقَ غيرَه . يُقال : ما هذا بطَبَقٍ لذا ، أي : لا يطابقُه . ومنه قيل للغِطاء : الطَّبَقُ . وأطباق الثرى : ما تَطابَقَ منه ، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها : طَبَقٌ . ومنه قولُه تعالى : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } ، أي : حالاً بعد حال ، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ . ويجوز أنْ يكونَ جمعَ » طبقة « وهي المرتبةُ ، مِنْ قولهم : هم على طبقاتٍ ، ومنه » طبَقات الظهر « لفِقارِه ، الواحدةُ طبَقَة ، على معنى : لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة ، بعضُها أرفعُ من بعض ، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة » انتهى . وقيل : المعنى : لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ . ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام :
4530 وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ ... أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ ... إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد : بدا عالَمٌ آخرُ : فعلى هذا التفسير يكون « طبقاً » حالاً لا مفعولاً به . كأنه قيل : متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة . وأمَّا قولُ الأقرعِ :
4531 إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه ... وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
فيحتملُ الأمرين ، أي : ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى ، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين ، ويكون نصبُ « طَبَقاً » على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف ، أو الحال ، أي : منتقلاً . والطَّبَقُ أيضاً : ما طابقَ الشيءَ ، أي : ساواه ، ومنه دَلالةُ المطابقةِ . وقال امرؤ القيس :
4532 دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله : { عَن طَبقٍ } في « عن » وجهان ، أحدُهما : أنها على بابها ، والثاني : أنها بمعنى « بَعْدَ » .

وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال « تَرْكَبُنَّ » . والثاني : أنَّها صفةٌ ل « طَبقا » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما محلُّ » عن طبَق «؟ قلت : النصبُ على أنُّه صفةٌ ل » طبقا « ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حالٌ من الضمير في » لتركبُنَّ « ، أي : لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة » .
وقال أبو البقاء : « وعن بمعنى بَعْدَ . والصحيح أنها على بابِها ، وهي صفةٌ ، أي : طبقاً حاصلاً عن طَبق ، أي : حالاً عن حال . وقيل : جيلاً عن جيل » انتهى . يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه ، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ « طَبَقاً » مفعولاً به بل حالاً ، كما تقدَّم ، لكنه لم يَذْكُرْ في « طبقاً » غيرَ المفعولِ به . وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى ، إذ يصير التقديرُ : لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم ، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ ، أي : لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ .

فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)

قوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } : حالٌ ، وقد تقدَّم مثلُه .

وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)

قوله : { وَإِذَا قُرِىءَ } : شرطٌ ، و « لا يَسْجُدون » . جوابُه . وهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أيضاً نَسَقاً على ما قبلها ، أي : فمالهم إذا قُرىء عليهم القرآن لا يَسْجُدون؟ .

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)

قوله : { يُكَذِّبُونَ } : العامَّةُ على ضمِّ الياءِ وفتحِ الكافِ وتشديدِ الدال . والضحَّاك وابنُ أبي عبلة بالفتحِ والإِسكانِ والتخفيفِ/ . وتقدَّمت هاتان القراءتان أولَ البقرة .

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)

قوله : { يُوعُونَ } : هذه هي العامَّةُ مِنْ أَوْعى يُوْعي . وأبو رجاء « يَعُوْن » مِنْ وعى يَعِي .

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً ، وأن يكون منقطعاً . هذا إذا كانت الجملةُ مِنْ قولِه : « لهم أَجْرٌ » مستأنفةً أو حاليةً . أمَّا إذا كان الموصولُ مبتدأً ، والجملةُ خبرَه ، فالاستثناء وليس مِنْ قبيلِ استثناءِ المفرداتِ ، ويكونُ من قسمِ المنقطعِ ، أي : لكِن الذين آمنوا لهم كيتَ وكيتَ . وتقدَّم معنى « المَمْنون » في حمِ السجدة .

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)

قوله : { قُتِلَ } : هذا جوابُ القسمِ على المختارِ ، وإنما حُذِفَتِ اللامُ ، والأصلُ : لَقُتِلَ ، كقولِ الشاعر :
4533 حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجرٍ ... لَناموا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في قولِه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . وقيل : تقديرُه : لقد قُتِلَ ، فحَذَفَ اللامَ وقد ، وعلى هذا فقولُه : « قُتِلَ » خبرٌ لا دُعاءٌ . وقيل بل هي دعاءٌ فلا يكونُ جواباً . وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } . الثاني : قولُه : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ } قاله المبرد . الثالث : أنه مقدرٌ . فقال الزمخشري : ولم يَذْكُرْ غيرَه « هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } ، كأنه قيل : أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما لُعِنَ أصحابُ الأُخدودِ » ثم قال : « وقُتِل دعاءٌ عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإنسان } [ عبس : 17 ] ، وقيل : التقدير : لَتُبْعَثُنَّ .
وقرأ الحسن وابن مقسم » قُتِّلَ « بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو تكثيراً . وقوله : » الموعودِ « ، أي : الموعود به . قال مكي : » الموعود نعتٌ لليوم . وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به . ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على الموصوفِ مِنْ صفتِه « انتهى . وكأنَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به غيرُه من الناس ، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ إليه ، لأنه موعودٌ به لا موعودٌ . وهذا لا يُحتاج إليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك ، ويكونُ فيه ضميرٌ عائدٌ عليه ، كأنَّه قيل : واليومِ الذي وَعَدَ أَنْ يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ .
والأُخْدودُ : الشِّقُّ في الأرضِ . قال الزمخشري : » والأخْدودُ : الخَدُّ في الأرضِ ، وهو الشِّقُّ . ونحوُهما بناءً ومعنىً : الخَقُّ والأُخْقُوق ، ومنه : « فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ جِرْذان » . انتهى . فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ ، وقد يقعُ على المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه ، وأمَّا الأخدودُ فاسمٌ له فقط . وقال الراغب : « الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ ، مستطيلٌ غائِصٌ .
وجمع الأخدود : أخاديدُ . وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان ، وهما ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ ، والخَدُّ يُستعار للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن وجهِ الجسم » ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزول ، والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ . وقال غيره : سُمِّيَ الخَدُّ خَدَّاً لأنَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ ، أي : مجاريَ .

النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)

قوله : { النار } : العامَّةُ على جَرِّها ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ من « الأخدود » بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الأخدودَ مشتملٌ عليها ، وحينئذٍ فلا بُدَّ فيه من الضميرِ ، فقال البصريون : هو مقدَّرٌ ، تقديرُه : النارِ فيه . وقال الكوفيون : أل قائمةٌ مَقامَ الضميرِ ، تقديرُه : نارِه ثم حُذِفَ الضميرُ ، وعُوِّضَ عنه أل . وتقدَّم البحثُ معهم في ذلك . الثاني : أنه بدلُ كلٍّ مِنْ كل ، ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : أُخدودِ النار . الثالث : أنَّ التقديرَ : ذي النار؛ لأنَّ الأخدودَ هو الشِّقُّ في الأرض ، حكاه أبو البقاء ، وهذا يُفْهِمُ أنَّ النارَ خفضٌ بالإِضافةِ لتلك الصفةِ المحذوفة ، فلمَّا حُذِف المضافُ قام المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب ، واتَّفَقَ أنَّ المحذوفَ كان مجروراً ، وقولُه : « لأنَّ الأُخْدودَ هو الشِّقُّ » تعليلٌ لصحةِ كونِه صاحبَ نارٍ ، وهذا ضعيفٌ جداً ، الرابع : أنَّ « النار » خفصٌ على الجوارِ ، نقله مكيٌّ عن الكوفيين ، وهذا يقتضي أنَّ « النار » كانت مستحقةً لغيرِ الجرِّ فعدَلَ عنه إلى الجرِّ للجوارِ . والذي يقتضي الحالَ أنَّه عَدَلَ عن الرفع ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد قُرِىء في الشاذِّ « النارُ » رفعاً ، والرَفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : قِتْلَتُهم النارُ . وقيل : بل هي مرفوعةً على الفاعليةِ تقديرُه : قَتَلَتْهم النارُ ، أي : أَحْرَقَتْهم ، والمرادُ حينئذٍ بأصحابِ الأخدودِ المؤمنون .
وقرأ العامَّةُ « الوَقود » بفتح الواو ، والحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى بضمِّها ، وتقدَّمت القراءتان وقولُ الناسِ فيهما في أولِ البقرة .

إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)

قوله : { إِذْ هُمْ } : العامل في « إذ » إمَّا « قُتِلَ أصحابُ » ، أي : قُتِلوا في هذا الوقتِ . وقيل : « اذكُر » مقدَّراً ، فيكونُ مفعولاً به . ومعنى قُعودِهم عليها : / أي : على ما يَقْرُبُ منها كحافَّتها ، ومنه قولُ الأعشى :
4534 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وباتَ على النارِ النَّدى والمُحَلَّقُ
والضميرُ في « هم » يجوزُ أَنْ يكونَ للمؤمنين ، وأنْ يكونَ للكافرين .

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)

قوله : { وَمَا نَقَمُواْ } : العامَّةُ على فتح القافِ ، وزيد بن علي وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة بكسرِها . وقد تقدَّم معنى ذلك في المائدة .
وقوله : { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } كقولِه في المعنى :
4535 ولا عَيْبَ فيها غيرَ شُكْلَةِ عَيْنِها ... كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عُيونُها
وكقولِ قيس الرقيات :
4536 ما نَقِموا من بني أُمَيَّةَ إلاَّ ... أنَّهم يَحْلُمُون إنْ غَضِبوا
يعني : أنهم جعلوا أحسنَ الأشياء قبيحاً . وتقدَّم الكلامُ على محلِّ « أَنْ » أيضاً في سورة المائدة .
وقوله : { أَن يُؤْمِنُواْ } أتى بالفعلِ المستقبلِ تنبيهاً على أنَّ التعذيبَ إنما كان لأَجْلِ إيمانِهم في المستقبلِ ، ولو كفروا في المستقبلِ لم يُعَذَّبُوا على ما مضى من الإِيمان .

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)

قوله : { فَلَهُمْ عَذَابُ } : هو خبرُ « إنَّ الذين » ودخلت الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرطِ ، ولا يَضُرُّ نَسْخُه ب « إنَّ » خلافاً للأخفش . وارتفاع « عذابُ » يجوزُ على الفاعليَّةِ بالجارِّ قبله لوقوعِه خبراً ، وهو الأحسنُ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداء .

وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

قوله : { الودود } : مبالغةٌ في الوُدِّ . قال ابن عباس : « هو المتودِّدُ لعبادِه بالمغفرة » ، وعن المبرد : « هو الذي لا وَلَدَ له » ، وأنشد :
4573 وأَرْكَبُ في الرَّوْع خَيْفانَةً ... ذَلولَ الجِماحِ لِقاحاً وَدُوْدا
أي : لا ولدَ لها تَحِنُّ إليه . وقيل : هو فَعُول بمعنى مَفْعول كالرَّكوب والحَلُوْب ، أي : يَوَدُّه عبادُه الصالحون .

ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)

قوله : { المجيد } : قرأ الأخَوان بالجرِّ فقيل : نعتاً للعرش . وقيل : نعتاً ل « ربِّك » في قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] . قال مكي : « وقيل : لا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للعرش؛ لأنه مِنْ صفاتِ اللَّهِ تعالى » . والباقون بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبرٍ . وقيل : هو نعتٌ ل « ذو » . واستدلَّ بعضُهم على تعدُّدِ الخبرِ بهذه الآيةِ . ومَنْ مَنَعَ قال : لأنهما في معنى خبرٍ واحدٍ ، أي : جامعٌ بين هذه الأوصافِ الشريفةِ ، أو كلٌّ منها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ .

فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

قوله : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من « الجنود » ، وحينئذٍ فكان ينبغي أَنْ يأتيَ البدلُ مطابقاً للمبدلِ منه في الجمعية فقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : جنودِ فرعون . وقيل : المرادُ فرعونُ وقومُه ، واسْتَغْنى بذِكْرِه عن ذِكْرِهم؛ لأنهم أتباعُه . ويجوزُ أن يكونَ منصوباً بإضمار أعني؛ لأنَّه لَمَّا لم يُطابق ما قبلَه وجب قَطْعُه .

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)

قوله : { قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } : العامَّةُ على تبعيَّةِ « مَجيد » ل « قرآن » . وقرأ ابن السميفع بإضافةِ « قرآن » ل « مَجيد » فقيل : على حَذْفِ مضافٍ ، أي : قرآنُ ربٍّ مَجيدٍ كقوله :
4538 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكنَّ الغِنى رَبٌّ غفورُ
أي : غنى رَبٍّ غفورٍ . وقيل : بل هو من إضافةِ الموصوف لصفتِه فتتحدُ القراءتان ، ولكنْ البصريون لا يُجيزون هذه لئلا يلزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه ، ويتأوّلُون ما وَرَدَ .

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

قوله : { مَّحْفُوظٍ } : قرأ نافع بالرفع نعتاً ل « قرآن » ، والباقون بالجرِّ نعتاً ل « لوحٍ » . والعامَّةُ على فتح اللام ، وقرأ ابن السَّمَيْفع وابن يعمر بضمِّها . قال الزمخشري : « يعني اللوحَ فوق السماء السابعة الذي فيه اللوحُ محفوظٌ مِنْ وصولِ الشياطين إليه » . وقال أبو الفضل : « اللُّوح : الهواء » وتفسيرُ الزمخشري أمسُّ بالمعنى ، وهو الذي أراده ابن خالويه « .

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)

قوله : { والطارق } : الطارقُ في الأصل اسمُ فاعل مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ طُروقاً ، أي : جاء ليلاً قال :
4539 فمِثْلَكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعاً ... فألهَيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
وأصلُه من الضَّرْبِ . والطارقُ بالحصى الضارِبُ به . قال :
4540 لعَمْرُكَ ما تَدْري الضواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللَّهُ صانعُ
ثم اتُّسِع فقيل لكلٍ جاء ليلاً : طارِقٌ .

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)

قوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } : قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في « لَمَّاً » . فمَنْ خَفَّفها هنا كانت « إنْ » هنا مخففةً من الثقيلة ، و « كلُّ » مبتدأٌ ، واللامُ فارقةٌ ، و « عليها » خبرٌ مقدَّمٌ و « حافظٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملةُ خبرُ « كل » و « ما » مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « عليها » هو الخبرَ وحدَه ، و « حافِظٌ » فاعلٌ به ، وهو أحسنُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « كلُّ » متبدأً ، و « حافظٌ » خبرَه ، و « عليها » متعلقٌ به و « ما » مزيدة أيضاً ، هذا كلُّه تفريعٌ على قولِ البصريِين . وقال الكوفيون : « إنْ هنا نافيةٌ ، واللامُ بمعنى » إلاَّ « إيجاباً بعد النفي ، و » ما « مزيدةٌ . وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى .
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ ، و » لَمَّا « بمعنى » إلاَّ « ، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود . وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا » إنَّ « بالتشديدِ ، » كلَّ « بالنصب على أنَّه اسمُها ، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ ، و » ما « مزيدةٌ و » حافظٌ « خبرُها ، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً . وقيل : الجواب { إِنَّهُ على رَجْعِهِ } ، وما بينهما اعتراضٌ . وفيه بُعْدٌ .

خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)

قوله : { دَافِقٍ } : قيل : فاعِل بمعنى مَفْعول كعكسِه في قولهم : « سيلٌ مُفْعَم » ، وقولِه تعالى : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإِسراء : 45 ] على وجهٍ . وقيل : دافق على النسبِ ، أي : ذي دَفْقٍ أو انْدِفاق . وقال ابن عطية : « يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الماءُ دافقاً؛ لأنَّ بعضَه يَدْفُقُ بعضاً ، أي : يدفعه فمنه دافِق ، ومنه مَدْفوق » انتهى . والدَّفْقُ : الصَّبُّ/ ففِعْلُه متعدٍّ . وقرأ زيدُ ابنُ علي « مَدْفُوقٍ » وكأنه فَسَّر المعنى .

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)

قوله : { والترآئب } : جمع تَريبة . وهي مَوْضِعُ القِلادةِ من عظامِ الصدرِ؛ لأنَّ الولدَ مخلوقٌ مِنْ مائهما ، فماءُ الرجل في صُلْبه ، والمرأةُ في ترائبِها ، وهو معنى قولِه : { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } بالإِنسان : 2 ] . وقال الشاعر :
4540 مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال :
4541 والزَّعْفَرانُ على ترائبِها ... شَرِقَتْ به اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ
وقال أبو عبيدة : « جمع التَّريبة تريب » . قال :
4542 ومِنْ ذَهَبٍ يَذُوْبُ على تَرِيْبٍ ... كلَوْنِ العاجِ ليس بذي غُضونِ
وقيل : الترائبُ : التَّراقي . وقيل : أضلاعُ الرجلِ التي أسفلَ الصُّلْب . وقيل : ما بين المَنْكِبَيْن والصَّدْرِ . وعن ابن عباس : هي أطرافُ المَرْءِ يداه وِرجْلاه وعيناه . وقيل : عُصارةُ القلبِ . قال ابن عطية : « وفي هذه الأقوالِ تَحَكُّمٌّ في اللغة » .
وقرأ العامَّةُ « يَخْرُج » مبنياً للفاعل . وابنُ أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول . وقرأ أيضاً وأهلُ مكة « الصُّلُب » بضم الصاد واللام ، واليمانيُّ بفتحهما ، وعليه قولُ العَجَّاج :
4543 في صَلَبٍ مِثْلِ العِنانِ المُؤْدَمِ ... وتَقَدَّمَتْ لغاتُه في سورة النساء . وأَغْرَبُها « صالِب » كقوله :
4544 . . . . . . . . . . . . . مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)

قوله : { إِنَّهُ } : الضميرُ للخالقِ المدلولِ عليه بقوله : « خُلِقَ » لأنه معلومٌ أَنْ لا خالقَ سواه .
قوله : { على رَجْعِهِ } في الهاء وجهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ الإِنسانِ ، أي : على بَعْثِه بعد موتِه . والثاني : أنه ضميرُ الماءِ ، أي : يُرْجِعُ المنيَّ في الإِحليلِ أو الصُّلْبِ .

يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)

قوله : { يَوْمَ تبلى } : فيه أوجهٌ . وقد رتَّبها أبو البقاء على الخلافِ في الضمير فقال على القولِ بكونِ الضميرِ للإِنسان : « فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه معمولٌ ل » قادر « . إلاَّ أنَّ ابنَ عطية قال بعد أن حكى أوجهاً عن النحاةِ قال : » وكل هذه الفِرَقِ فَرَّتْ من أَنْ يكونَ العاملُ « لَقادِرٌ » لئلا يظهرَ من ذلك تخصيصُ القدرةِ بذلك اليومِ وحدَه « ثم قال : » وإذا تُؤُمِّل المعنى وما يَقْتَضِيه فصيحُ كلامِ العربِ جازَ أَنْ يكونَ العاملُ « لَقادر » لأنَّه إذا قَدَرَ على ذلك في هذا الوقتِ كان في غيره أقدرَ بطريق الأَوْلى . الثاني : أن العاملَ مضمرٌ على التبيين ، أي : يَرْجِعه يومَ تُبْلى . الثالث : تقديره : اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به . وعلى عَوْدِه على الماء يكونُ العاملُ فيه اذكُرْ « انتهى ملخصاً .
وجَوَّزَ بعضُهم أَنْ يكون العاملُ فيه » ناصرٍ « . وهو فاسدٌ لأنَّ ما بعد » ما « النافيةِ وما بعد الفاءِ لا يعملُ فيما قبلَهما . وقيل : العامل فيه » رَجْعِه « . وهو فاسدٌ لأنه قد فصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ ، وبعضُهم يَغْتَفِرُه في الظرف .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)

قوله : { ذَاتِ الرجع } : قيل : هو مصدرٌ بمعنى : رجوعِ الشمس والقمر إليها . وقيل : المطر كقولِه يصفُ سيفاً :
4545 أبيضُ كالرَّجْعِ رَسوبٌ إذا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كما سُمِّي أَوْباً كقولِه :
4546 رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأْوي لِقُلَّتِها ... إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأَوْبُ والسَّبَلُ

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)

قوله : { إِنَّهُ } : جوابُ القسمِ في قوله : « والسَّماءِ » . والهَزْلُ : ضدُّ الجَدِّ والتشميرِ في الأمر . قال الكُميت :
4547 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُجَدُّ بنافي كلِّ يومٍ ونَهْزِلُ
والضمير في « إنَّه » للقرآن . وقيل : للكلامِ المتقدَّمِ الدالِّ على البعث والنشور .

فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

قوله : { أَمْهِلْهُمْ } : هذه قراةُ العامَّة ، لَمَّا كرَّر الأمرَ توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن . وعن ابن عباس « مَهِّلْهُمْ » كالأولِ . والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ . يقال : أَمْهَلْتُك كذا ، أي : انتظرتُك لِتَفْعَلَه . والمَهْلُ : الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ .
قوله : { رُوَيْداً } مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى العامل ، وهو تصغيرُ إرْواد على الترخيم . وقيل : بل هو تصغيرُ « رُوْدِ » ، وأنَشد :
4548 تكادُ لا تَثْلِمُ البَطْحاءُ وَطْأتَه ... كأنَّه ثَمِلٌ يَمْشي على رُوْدِ
واعلَمْ أنَّ رُوَيْداً يُستعمل مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه ، فيُضاف تارةً كقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] ولا يُضافُ أخرى نحو : رويداً زيداً [ ويُستعمل اسمَ فعلٍ فلا يُنَوَّن ، بل يبنى على الفتح نحو : رُوَيْداً زيداً ] ويقع حالاً نحو : ساروا رُوَيْدا ، أي : متمهِّلين ، ونعتاً لمصدر محذوف نحو : « ساروا رُوَيْداً » ، أي : سَيْراً رويداً . وهذه الأحكامُ لها موضوعٌ هو أَلْيَقُ بها .

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)

قوله : { الأعلى } : يجوزُ جَرُّه صفةً ل « ربِّك » ، ونصبُه صفةً لاسم . إلاَّ أنَّ هذا يمنعُ أَنْ يكونَ « الذي » صفةً ل « ربِّك » ، بل يتعيَّنُ جَعْلُه نعتاً ل « اسم » ، أو مقطوعاً ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بصفةِ غيرِه؛ إذ يصيرُ التركيبُ مثلَ قولِك : « جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنةِ » فيُفْصَلُ بالعاقل بين « هند » وبين صفتِها . وتقدَّم الكلامُ في إضافةِ الاسمِ إلى المُسَمَّى .

وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)

قوله : { قَدَّرَ } : قرأ الكسائيُّ بتخفيفِ الدالِ ، والباقون بالتشديد . وقد تقدَّمَتْ القراءتان في المرسلات .

فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)

قوله : { غُثَآءً } : إمَّا مفعولٌ ثانٍ ، وإمَّا حالٌ . والغُثاء بتشديد الثاء وتخفيفِها وهو الفصيحُ / ما يُقَدِّمُه السَّيْلُ على جوانبِ الوادي من النباتِ ونحوِه . قال امرؤ القيس :
4549 كأنَّ ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدوةً ... من السَّيْلِ والغُثَّاء فَلْكَةُ مِغْزَلِ
ورواه الفراءُ « والأَغْثاء » على الجمعِ . وفيه غرابةٌ من حيث جَمَعَ فُعالاً على أفْعال .
قوله : { أحوى } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّه نعتٌ ل « غُثاء » . والثاني : أنه حالٌ من « المَرْعَى » . قال أبو البقاء : « قَدَّم بعضَ الصلةِ » . قلت : يعني أنَّ الأصلَ أخرجَ المرعى أَحْوى فجعله غثاءً ، ولا يُسَمَّى هذا تقديماً لبعضِ الصلةِ . والأحْوى : أَفْعَلُ مِنْ الحُوَّة وهي سَوادٌ يَضْرِبُ إلى الخُضْرة . قال ذو الرَّمة :
4550 لَمْياءُ في شَفَتَيْها حَوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَ النحاةِ اسْتَدَلَّ على وجودِ بدلِ الغَلَطِ بهذا البيت . وقيل : خُضرةٌ عليها سوادٌ . والأَحْوى : الظَّبْيُ؛ لأنَّ في ظهره خُطَّتَيْن . قال :
4551 وفي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شادِنٌ ... مُظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدِ
ويقال : رجلٌ أَحْوَى وامرأةٌ حَوَّاء . وجَمْعُهما حُوٌّ ، نحو : أحمر وحمراءُ وحُمْر .

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)

{ فَلاَ تنسى } : قيل : هو نَفْيٌ ، أخبر تعالى أنَّ نبيَّه عليه السلام لا يَنْسَى . وقيل : نهيٌّ ، والألفُ إشباعٌ ، وقد تَقَدَّم نحوٌ مِنْ هذا في يوسف وطه . ومنع مكي أَنْ يكونَ نهياً لأنه لا يُنْهَى عمَّا ليس باختيارِه . وهذا غيرُ لازمٍ؛ إذ المعنى : النهيُ عن تعاطي أسبابِ النسيانِ ، وهو شائعٌ .

إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)

قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه مفرغٌ ، أي : إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه . والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه . وفي الحديث : « أنه كان يُصبح فينسَى الآياتِ لقولِه : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] . وقيل : إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ والنُّدْرَةُ ، كما رُوِيَ » أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في صلاتِه ، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ ، فسأله فقال : « نَسِيْتُها » « وقال الزمخشري : » الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان رَأْساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ إلاَّ ما شاء اللَّهُ ، ولم يَقْصِدْ استثناءَ شيءٍ ، وهو مِنْ استعمالِ القلَّة في معنى النفي « انتهى . وهذا القولُ سبقَه إليه الفراء ومكي . وقال الفراء وجماعة معه : » هذا الاستثناءُ صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء . وليس [ ثم ] شيءٌ أُبيح استثناؤُه « . قال الشيخ : » هذا لا يَنْبغي أَنْ يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ ، وكذلك القولُ بأنَّ « لا » للنهي ، والألفَ فاصلةٌ « انتهى . وهذا الذي قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً ، أي : زائداً مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره ، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ أو النهي عنه .
وقال مكي : » وقيل : معنى ذلك ، إلاَّ ما شاء الله ، وليس يشاءُ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً ، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في الموضعَيْنِ : خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ إلاَّ ما شاء ربُّك « وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهم » . وقيل : هو استثناءٌ مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } . نقله مكي . وهذا يَنْبغي أَنْ لا يجوزَ البتة .
قوله : { وَمَا يخفى } « ما » اسميةٌ . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً لئلا يَلْزَمَ خُلُوُّ الفعلِ مِنْ فاعل . ولولا ذلك لكان المصدريةُ أحسنَ لِيُعْطَفَ مصدرٌ مؤولٌ على مثلِه صريح .

وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

قوله : { وَنُيَسِّرُكَ } : عَطْفٌ على « سَنُقْرِئُك » فهو داخلٌ في حَيِّزِ التنفيسِ ، وما بينهما مِنْ الجملةِ اعتراض .

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)

قوله : { إِن نَّفَعَتِ } : « إنْ » شرطيةٌ . وفيه استبعادٌ لتذكُّرِهم . ومنه :
4552 لقد أَسْمَعْتَ لو نادَيْتَ حَيَّاً ... ولكنْ لا حياةَ لمَنْ تُنادي
وقيل : « إنْ » بمعنى إذْ كقولِه : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ } [ آل عمران : 139 ] . وقيل : هي بمعنى « قد » ذكَرَه ابنُ خالويه ، وهو بعيدٌ جداً . وقيل : بعده شيءٌ محذوفٌ تقديرُه : إنْ نَفَعَتِ الذكرى وإن لم تنفَعْ ، قاله الفراء . والنحاس والجرجاني والزهراوي .

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)

قوله : { وَيَتَجَنَّبُهَا } : أي : الذكرى .

ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

قوله : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ } : « ثم » للتراخي بين الرُّتَبِ في الشدة .

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)

قوله : { بَلْ تُؤْثِرُونَ } : قرأ أبو عمرو بالغيبة ، والباقون بالخطاب ، وهما واضحتان .

وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)

قوله : { وأبقى } : أي : مِنْ الدنيا .

إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)

قوله : { لَفِي الصحف } : قرأ أبو عمرو في روايةِ الأعمش وهارون بسكون الحاء في الحرفين ، وهو واضحٌ أيضاً .

صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

قوله : { إِبْرَاهِيمَ } : قرأ العامَّة بألفٍ بعد الراء وياءٍ بعد الهاء ، وأبو رجاء بحَذْفهما ، والهاءُ مفتوحةٌ أو مكسورةٌ فعنه قراءتان . وأبو موسى وابن الزبير بألفَيْن وكذا في كلِّ القرآنِ ، ومالك ابن دينار بألفٍ بعد الراء فقط ، والهاءُ مفتوحةٌ ، وعبد الرحمن بن أبي بكر « وإبْرَاهيم » بحذف الألفِ وكسرِ الهاءِ . وقال ابنُ خالويه : « وقد جاء » إبْراهُم « يعني بألفٍ وضمِّ الهاءِ . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا الاسمِ الكريمِ ولغاتِه مستوفى في البقرة .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)

قوله : { هَلْ أَتَاكَ } : هو استفهامٌ على بابِه ، ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ « التشويق » . وقيل : / بمعنى قد ، وقد تقدَّم شَرْحُ هذا في { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإِنسان : 1 ] .

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)

قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } : قد تقدَّم نظيرُه في القيامة وفي النازعات . والتنوينُ في « يومئذٍ » عوضٌ مِنْ جملةٍ مدلولٍ عليها باسمِ الفاعلِ من الغاشية تقديره : يومَ إذ غَشِيَتْ الناسَ؛ إذ لا تتقدَّمُ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها . و « خاشعة » وما بعدَه صفةٌ ، و « تَصْلى » هو الخبرُ . وقرأ أبو عمروٍ وأبو بكر بضمِّ التاء مِنْ « تَصْلَى » على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . والباقون بالفتح على تسميةِ الفاعل . والضمير على كلتا القراءتين للوجوه . وقرأ أبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ وفتح الصادِ وتشديدِ اللام . وقد تقدَّم معنى ذلك كله في الانشاق والنساءَ .
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ وابنُ محيصن « عاملةً ناصبةً » بالنصب : إمَّا على الحالِ ، وإمَّا على الذمِّ .

تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)

قوله : { آنِيَةٍ } : صفةٌ ل « عَيْنٍ » أي : حارَّة ، أي : التي حَرُّها مُتناهٍ في الحرِّ كقولِه : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] . وأمالها هشامٌ؛ لأنَّ الألفَ غيرُ منقلبةٍ عن غيرِها ، بل هي أصلٌ بنفسِها ، وهذا بخلافِ « آنِيَة » في سورة الإِنسان ، فإنَّ الألفَ هناك بدلٌ مِنْ همزة ، إذ هو جمعُ إناء ، فوزنُها هنا فاعلِة ، وهناك أَفْعِلَة ، فاتَّحد اللفظُ واختلفَ التصريفُ ، وهذا مِنْ محاسنِ علمِ التصريف .

لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)

قوله : { ضَرِيعٍ } : هو شجرٌ في النار . وقيل : حجارةٌ . وقيل : هو الزَّقُّوم . وقال أبو حنيفة : « هو الشِّبْرِقُ ، وهو مَرْعى سَوْءٍ ، لا تَعْقِدُ عليه السائمةُ شَحْماً ولا لَحْماً . قال الهذليُّ :
4553 وحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكلُّها ... حَدْباءُ دامِيَةُ الضُّلوعِ حَرُوْدُ
وقال أبو ذؤيب :
4554 رَعَى الشِّبْرِقٌ الريَّانَ حتى إذا ذَوَى ... وعادَ ضَريعاً نازَعَتْه النَّحائِصُ
وقيل : هو يَبيس العَرْفَجِ إذا تَحَطَّم . وقال الخليل : » نبتٌ أخضرُ مُنْتِنُ الريح يَرْمي به البحرُ . وقيل : نبتٌ يُشبه العَوْسَج . والضَّراعةُ : الذِّلَّةُ والاستكانةُ مِنْ ذلك .

لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

قوله : { لاَّ يُسْمِنُ } : قال الزمخشري : « مرفوعُ المحلِّ أو مجرورهُ على وصفِ طعامٍ أو ضَريع » . قال الشيخ : « إمَّا وَصْفُه ل ضريعٍ ، فيصِحُّ؛ لأنه مثبتٌ نفى عنه السِّمَنَ والإِغناءَ من الجوع . وأمَّا رفعُه على وصفِه لطعام فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطعامَ منفيٌّ و » يُسْمِنُ « منفيٌّ فلا يَصِحُّ تركيبُه؛ لأنه يَصيرُ التقدير : ليس لهم طعامٌ لا يُسْمِنُ ولا يُغني مِنْ جمعٍ إلاَّ مِنْ ضريع ، فيصير المعنى : أنَّ لهم طعاماً يُسْمِنُ ويُغْني من جوعٍ إلاَّ مِنْ غيرِ الضَّريع ، كما تقول : » ليس لزيدٍ مالٌ لا يُنتفع به إلاَّ مِنْ مال عمروٍ « فمعناه : أنَّ له مالاً يُنتفع به مِنْ غيرِ مالِ عمروٍ » . قلت : وهذا لا يَرِدُ لأنه على تقدير تَسْليم القول بالمفهوم مَنَعَ منه مانعٌ وهو السياقُ ، وليس كلُّ مفهوم معمولاً به . وأمَّا المثالُ الذي نظَّر به فصحيحٌ ، لكنه لا يمنع منه مانعٌ كالسِّياق في الآيةِ الكريمة . ثم قال الشيخ : « ولو قيل : الجملةُ في موضعِ رفع صفةً للمحذوفِ المقدَّرِ في » إلاَّ مِنْ ضريعٍ « كان صحيحاً؛ لأنه في موضعِ رفعٍ ، على أنَّه بدلٌ من اسم ليس ، أي : ليس لهم طعامٌ إلاَّ كائنٌ مِن ضَريعٍ ، أو إلاَّ طعامٌ مِنْ ضريعٍ غيرِ مُسَمِّنٍ ولا مُغْنٍ مِنْ جوعٍ ، وهذا تركيبٌ صحيحٌ ومعنى واضحٌ » .
وقال الزمخشري أيضاً : « أو أُريد أَنْ لا طعامَ لهم أصلاً؛ لأنَّ الضَّريعَ ليس بطعامٍ للبهائمِ فضلاً عن الإِنس؛ لأنَّ الطعامَ ما أَشْبَع أو أَسْمَنَ ، وهو عنهما بمَعْزِلٍ كما تقول : » ليس لفلانٍ ظلٌّ إلاَّ الشمسُ « تريد نَفْيَ الظلِّ على التوكيد » . قال الشيخ : « فعلى هذا يكونُ استثناءً منقطعاً ، إذ لم يندَرِجْ الكائنُ مِن الضَّريع تحت لفظِ » طعام « إذ ليس بطعامٍ ، والظاهرُ الاتصالُ فيه وفي قولِه { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] قلت : وعلى قولِ الزمخشري المتقدمِ لا يَلْزَمُ أَنْ يكونَ منقطعاً؛ إذ المرادُ نفيُ الشيءِ بدليلِه ، أي : إن كان لهم طعامٌ فليس إلاَّ هذا الذي لا يَعُدُّه أحدٌ طعاماً ومثلُه » ليس له ظلٌّ إلاَّ الشمسُ « وقد مضى تحقيقُ هذا عند قولِه : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] وقوله :
4555 ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثله كثيرٌ .

لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)

قوله : { لاَّ تَسْمَعُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ بالياء/ من تحتُ مضمومةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، « لاغِيةٌ » رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ . وقرأ نافع كذلك ، إلاَّ أنَّه بالتاء مِنْ فوقُ ، والتذكيرُ والتأنيثُ واضحان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . وقرأ الباقون بفتح التاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ « لاغيةً » ، فيجوزُ أَنْ تكونَ التاءُ للخطابِ ، أي : لا تَسْمع أنت ، وأنْ تكونَ للتأنيثِ ، أي : لا تسمعُ الوجوهُ . وقرأ المفضل والجحدريُّ « لا يَسْمَعُ » بياء الغَيْبة مفتوحةً ، « لاغيةً » نصباً ، أي : لا يَسْمَعُ فيها أحدٌ .
ولاغِيَة يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل كلمةٍ على معنى النسبِ ، أي : ذات لغوٍ أو على إسنادِ اللَّغْوِ إليها مجازاً ، وأَنْ تكونَ صفةً لجماعة ، أي : جماعة لاغية ، وأَنْ تكونَ مصدراً كالعافِية والعاقِبة كقولِه : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } [ الواقعة : 25 ] .

وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)

قوله : { وَنَمَارِقُ } : جمع نُمْرُقة ، وهي الوِسادةُ . قالت :
4556 نحن بَناتِ طارِقْ ... نَمْشي على النَّمَارِقْ
وقال زهير :
4557 كُهولاً وشُبَّاناً حِسانٌ وجوهُهُمْ ... لهم سُرُرٌ مَصْفوفةٌ ونَمارِقْ
والنُّمْرُقَة بضمِّ النونِ والراءِ وكسرِهما ، لغتان أشهرُهما الأولى .

وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

قوله : { وَزَرَابِيُّ } : جمع زَرِيْبة بفتح الزاي وكسرِها لغتان مشهورتان وهي البُسُطُ العِراضُ . وقيل : ما له منها خَمْلَة . ومَبْثوثة : مفرَّقة .

أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)

قوله : { الإبل } : اسمُ جمعٍ واحدُه : بعير وناقة وجمل . وهو مؤنثٌ ، ولذلك تَدْخُلُ عليه تاءُ التأنيثِ حالَ تصغيرِه ، فيقال : أُبَيْلَة ويُجْمع آبال ، واشتقوا مِنْ لفظِه . فقالوا : « تأبَّلَ زيدٌ » ، أي : كَثُرَتْ إبلُه ، وتَعَجَّبوا مِنْ هذا فقالوا : « ما آبَلَه » ، أي : ما أكثرَ إبِلَه . وتقدَّم في الأنعام .
قوله : { كَيْفَ } منصوبٌ ب « خُلِقَتْ » على حَدِّ نَصْبِها في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] والجملةُ بدلٌ من « الإِبل » بدلُ اشتمالِ ، فتكونُ في محلِّ جرّ ، وهي في الحقيقة مُعَلِّقةٌ للنظر ، وقد دخلَتْ « إلى » على « كيف » في قولهم « انظُرْ إلى كيف يصنعُ » ، وقد تُبْدَلُ الجملةُ المشتملةُ على استفهامٍ من اسمٍ ليس فيه استفهامٌ كقولِهم : عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو؟ على خلافٍ في هذا مقررٍ في علمِ النحو .
وقرأ العامَّةُ : خُلِقَتْ ورفِعَتْ ونُصِبَتْ وسُطِحَتْ مبنياً للمفعولِ ، والتاءُ ساكنةٌ للتأنيث . وقرأ أمير المؤمنين وابن أبي عبلة وأبو حيوة « خَلَقْتُ » وما بعدَه بتاءِ المتكلم مبنياً للفاعل . والعامَّةُ على « سُطِحَتْ » مخففاً ، والحسن بتشديدها .

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)

قوله : { بِمُصَيْطِرٍ } : العامَّةُ على الصاد ، وقنبل في بعضِ طُرُقِه ، وهشام بالسين وخلف بإشمامِ الصادِ زاياً بلا خلافٍ ، وعن خلاَّد وجهان . وقرأ هارونُ « بمُسَيْطَرٍ » بفتح الطاء اسمَ مفعولٍ؛ لأنَّ « سَيْطَرَ » عندهم متعدّ ، يَدُلُّ على ذلك فعلُ مطاوعِه وهو تَسَيْطر ، ولم يَجِىءْ اسمُ فاعلٍ على مُفَيْعِل إلاَّ : مُسَيْطِر ومُبَيْقِر ومُهَيْمِن ومُبَيْطِر مِنْ سَيْطَرَ وبَيْقَرَ وهَيْمَنَ وبَيْطَرَ . وقد جاء مُجَيْمِر اسمَ واد ، ومُدَيْبِر . قيل : ويمكنُ أَنْ يكونَ أصلُهما « مُجْمِر » و « مُدْبِر » فصُغِّرا . قلت : وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَهم جَوَّز « مُهَيْمِناً » مُصَغَّراً ، وتَقَدَّم أنه خطأٌ عظيمٌ ، وذلك في سورة المائدةِ وغيرها .

إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)

قوله : { إِلاَّ مَن تولى } : العامَّةُ على « إلاَّ » حرفَ استثناء ، وفيه قولان ، أحدهما : أنه منقطعٌ لأنه مستثنى مِنْ ضمير « عليهم » . والثاني : أنه متصلٌ لأنه مستثنى مِنْ مفعول « فَذَكِّرْ » ، أي : فَذَكِّرْ عبادي إلاَّ مَنْ تولَّى . وقيل : « مَنْ » في محلِّ خفض بدلاً من ضمير « عليهم » ، قاله مكي . ولا يتأتَّى هذا عند الحجازيين ، إلاَّ أَنْ يَكونَ متصلاً ، فإنْ كان منقطعاً جاز عند تميمٍ؛ لأنهم يُجْرُوْنه مُجْرى المتصل ، والمتصلُ يُختار فيه الإِتباعُ لأنه غيرُ موجَبٍ . هذا كلُّه إذا لم يُجْعَل « مَنْ تولَّى » شرطاً وما بعده جزاؤُه ، فإنْ جَعَلْتَه كذلك كان منقطعاً ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، وعلى القولِ بكونِه مستثنى مِنْ مفعول « فَذَكِّرْ » المقدرِ تكون جملةُ النفي اعتراضاً .
وقرأ زيد بن علي وزيد بن أسلم وقتادة « ألا » حرفَ استفتاحٍ ، وبعده جملةٌ شرطية أو موصولٌ مضمَّنٌ معناه .

إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)

قول : { إِيَابَهُمْ } : العامَّةُ على تخفيفِ الياءِ ، مصدرِ آبَ يَؤُوبُ إياباً [ والأصلُ : أوَب يَأوُبُ إواباً ] ، أي : رَجَعَ ك قام يقوم قياماً . وقرأ شيبة وأبو جعفر بتشديدها . وقد اضطربَتْ فيها أقوالُ التصريفيين ، فقيل : هو مصدرٌ ل أَيَّبَ على وزن فَيْعَل كبَيْطَرَ ، يُقالُ منه : أيَّبَ يُؤَيِّبُ إيَّاباً ، والأصلُ/ أيْوَبَ يِؤَيْوِبُ إيْواباً كبَيْطَرَ يُبَيْطرُ ، فاجتَمَعَتْ الياءُ والواوُ في جميع ذلك ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً ، وأُدغِمت الياءُ المزيدةُ فيها ، فإيَّاب على هذا فِيْعال . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوّبَ بزنةِ فَوْعَل كحَوْقَلَ ، والأصل : إِوْوَاب بواوَيْن ، الأولى زائدةٌ ، والثانيةُ عينُ الكلمةِ ، فسَكَنَتِ الأولى بعد كسرةٍ ، فقُلِبت ياءً ، فصار إيْواباً ، فاجتمعَتْ ياءٌ وواوٌ ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَتْ في الياءِ بعدها ، فوزنُه فِيعال كحِيْقال ، والأصلُ : حِوْقال . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوَّبَ على وزن فَعْوَل كجَهْور ، والأصلُ : إِوْوَاب على وزن فِعْوال ، ك « جِهْوار » الأولى عينُ الكلمةِ ، والثانيةُ زائدةٌ ، وفُعِل به ما فُعِل بما قبلَه مِنْ القلبِ والإِدغام للعللِ المتقدمةِ ، وهي مفهومةٌ مِمَّا مَرَّ ، فإن قيل : الإِدغامُ مانعٌ مِنْ قَلْبِ الواوِ ياءً . قيل إنما يمنعُ إذا كانت الواوُ والياءُ عيناً وقد عَرَفْتَ أنَّ الياءَ في فَيْعَل والواوَ في فَوْعَل وفَعْوَل زائدتان . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوَّب بزنةِ فَعَّلَ نحو : كِذَّاباً والأصلُ إوَّاب ، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ياءً لانكسارِ ما قبلَها فقيلَ : إيْواباً . قال الزمخشري : « كدِيْوان في دِوَّان ، ثم فُعِلَ به ما فُعِلَ بسَيِّد » يعني أنَّ أصلَه سَيْوِد ، فقُلِبت وأُدْغِمت ، وإلى هذا نحا أو بالفضل أيضاً .
إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ما قالاه : بأنهم نَصُّوا : على أنَّ الواوَ الموضوعةَ على الإِدغامِ لا تَقْلِبُ الأولى ياءً ، وإن انكسَرَ ما قبلها قال : « وَمَّثلوا بنفس » إوَّاب « مصدرَ أوَّب مشدداً ، وباخْرِوَّاط مصدرَ اخْرَوَّط . قال : » وأمَّا تشبيهُ الزمخشريِّ بديوان فليس بجيدٍ؛ لأنَّهم لم يَنْطِقوا بها في الوَضْعِ مُدْغمةً ، ولم يقولوا : دِوَّان ، ولولا الجَمْعُ على « دَواوين » لم يُعْلَمْ أنَّ أصلَ هذه الياءِ واوٌ ، وقد نَصُّوا على شذوذِ « دِيْوان » فلا يُقاسُ عليه غيرُه « .
قلت : أمَّا كونُهم لم يَنْطِقوا بدِوَّان فلا يَلْزَمُ منه رَدُّ ما قاله الزمخشريُّ ، ونَصَّ النحاةُ على أنَّ أصلَ » دِيْوان « دِوَّان ، و » قيراط « : قِرَّاط ، بدليلِ الجَمْعِ على دَواوين وقَرارِيط ، وكونُه شاذاً لا يَقْدَحُ؛ لأنه لم يَذْكُرْه مَقيساً عليه بل مَنَظِّراً به .
وقد ذهب مكي إلى نحوٍ مِنْ هذا فقال : » وأصل الياءِ واوٌ ، ولكنْ انقلبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها ، وكان يَلْزَمُ مَنْ شَدَّد أَنْ يقولَ : إوَّابَهم لأنَّه مِنْ الواو ، أو يقول : إيوابهم ، فيُبْدِلُ مِنْ أول المشدد ياءً كما قالوا : « دِيْوان » والأصلُ : دِوَّان « انتهى .

وقيل : هو مصدرٌ لأَأْوَبَ بزنة أَكْرَم مِنْ الأَوْب ، والأصلُ : إأْواب كإكْرام ، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ل إأْواب ياءً لسكونِها بعد همزةٍ مكسورةٍ فصار اللفظُ إيواباً فاجتمعت الياءُ والواوُ على ما تقدَّم ، فقُلِبَ وأُدْغِمَ ، ووزنُه إفْعال ، وهذا واضحٌ .
وقال ابن عطية في هذا الوجه : « سُهِّلَتِ الهمزةُ وكان الواجبُ في الإِدغامِ بردِّها إوَّاباً ، لكن اسْتُحْسِنَتْ فيه الياءُ على غير قياس » انتهى . وهذا ليس بجيدٍ لِما عَرَفْتَ أنَّه لَمَّا قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً فالقياسُ أن يُفْعَلَ ما تقدَّم مِنْ قَلْبِ الواوِ إلى الياءِ مِنْ دونِ عكسٍ ، وإنما ذَكَرْتُ هذه الأوجهَ مشروحةً لصعوبتها مع عَدَمِ مَنْ يُمْعِنُ النظرَ مِنْ المُعْرِبين في مثل هذه المواضعِ القَلِقَةِ القليلةِ الاستعمال . وقَدَّم الخبرَ في قولِه « إلينا » و « علينا » مبالغةً في التشديد والوعيدِ .

وَالْفَجْرِ (1)

قوله : { والفجر } : جوابُ هذا القَسَم قيل : مذكورٌ وهو قولُه { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] قاله ابن الأنباري . وقيل : محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه ، أي : لَنُجازِيَنَّ أحدٍ بما عَمل بدليلِ تعديدِه ما فعلَ بالقرونِ الخاليةِ . وقدَّر الزمخشري : « ليُعَذِّبَنَّ » قال : « يَدُلُّ عليه { أَلَمْ تَرَ } [ الآية : 6 ] إلى قولِه : / { فَصَبَّ } [ الفجر : 13 ] . وقدَّره الشيخ بما دَلَّتْ عليه خاتمةُ السورةِ قبلَه ، لإِيابُهم إلينا وحِسابُهم علينا .

وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)

والعامَّةُ على « ليالٍ » بالتنوين ، « عَشْرٍ » صفةٍ لها . وقرأ ابنُ عباس « وليالِ عَشْرٍ » بالإِضافةِ . فبعضهم يكتبُ « ليالِ » في هذه القراءةِ دونَ ياءٍ ، وبعضُهم قال : « وليالي » بالياء ، وهو القياسُ . قيل : والمرادُ : وليالي أيام عشرٍ ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا أن يُقال : عشرةٍ؛ لأنَّ المعدودَ مذكرٌ . ويُجاب عنه : بأنَّه إذا حُذِف المعدودُ جاز الوجهان ، ومنه « وأتبعه بسِتٍّ من شوال » وسَمَعَ الكسائي : « صُمْنا من الشهر خمساً » .

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)

قوله : { والوتر } : قرأ الأخَوان بكسرِ الواو ، والباقون بفتحها وهما لغتان كالحِبْر والحَبْر ، والفتحُ لغةُ قريشٍ ومَنْ والاها ، والكسرُ لغةُ تميم . وهاتان اللغتان في « الوتر » مقابلَ الشَّفْع . فأمَّا في الوِتْر بمعنى التِّرَة ، أي : الذَّحْلُ فبالكسرِ وحدَه ، قاله الزمخشري . ونقل الأصمعيُّ فيه اللغتين أيضاً . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ يونسَ عنه بفتح الواو وكسر التاء ، فيحتمل أَنْ يكونَ لغةً ثالثة ، وأن يكونَ نَقَل كسرةَ الراءِ إلى التاء إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ/ .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)

وقال مقاتل : « هل هنا في موضع » إنَّ « تقديرُه : إنَّ في ذلك قَسَماً لذي حِجْرٍ ، ف » هل « على هذا في موضع جواب القسم » انتهى . وهذا قولٌ باطلٌ؛ لأنه لا يَصْلُح أَنْ يكونَ مُقْسَماً عليه ، على تقديرِ تسليمِ أنَّ التركيبَ هكذا ، وإنما ذكَرْتُه للتنبيهِ على سقوطِه . وقيل : ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : وصلاةِ الفجر أو وربِّ الفجر .
والعامَّةُ على عَدَمِ التنوينِ في « الفجر » و « الوَتْر » و « يَسْرِ » . وأبو الدينار الأعرابي بتنوين الثلاثةِ . قال ابن خالَوَيْه : « هذا ما رُوي عن بعضِ العرب أنه يقفُ على أواخرِ القوافي بالتنوينِ ، وإنْ كان فِعلاً ، وإنْ كان فيه الألفُ واللامُ . قال الشاعر :
4558 أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعتابَنْ ... وقُولي إنْ أَصَبْتُ لقد أصابَنْ
يعني بهذا تنوينَ الترنُّم ، وهو أنَّ العربيَّ إذا أراد تَرْكَ الترنمِ وهو مَدُّ الصوتِ نَوَّن الكلمةَ ، وإنما يكونُ في الرويِّ المطلقِ . وقد عاب بعضُهم قولَ النَّحْويين » تنوين الترنم « وقال : بل ينبغي أَنْ يُسَمُّوه بتنوين تَرْكِ الترنُّم ، ولهذا التنوينِ قسيمٌ آخرُ يُسَمَّى » التنوينَ الغالي « ، وهو ما يَلْحَقُ الرويَّ المقيَّدَ كقولِه :
4559 . . . . . . . . . . . . . خاوي المخترقْنْ ... على أن بعض العروضيين أنكر وجودَه . ولهذين التنوينَيْن أحكامٌ مخالفةٌ لحكمِ التنوينِ حَقَّقْتُها في » شرح التسهيل « ولله الحمد . والحاصلُ أنَّ هذا القارىءَ أجْرى الفواصلَ مُجْرى القوافي فَفَعَلَ فيها ما يَفْعل فيها . وله نظائرُ مَرَّ منها : { الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] { السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] { الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] في الأحزاب . و { المتعال } في الرعد [ الآية : 9 ] » و « يَسْر » هنا ، كما سأبيِّنُه إن شاء الله تعالى . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : فما بالُها مُنَكَّرَة مِنْ بين ما أَقْسَمَ به؟ قلت : لأنها ليالٍ مخصوصةٌ مِنْ بينِ جنس الليالي العِشْرِ بعضٌ منها ، أو مخصوصةٌ بفضيلةٍ ليسَتْ في غيرها . فإنْ قلتَ : هلاَّ عُرِّفَتْ بلامِ العهدِ لأنها ليالٍ معلومةٌ . قلت : لو قيل ذلك لم تستقلَّ بمعنى الفضيلةِ التي في التنكير ، ولأنَّ الأحسنَ أَنْ تكون اللاماتُ متجانِسَةً ليكون الكلامُ أبعدَ من الإِلغازِ والتَّعْمِية » . قلت : يعني بتجانسِ اللاماتِ أن تكون كلُّها إمَّا للجنسِ ، وإمَّا للعهدِ ، والفَرَضُ أنَّ الظاهرَ أن اللاماتِ في الفجر وما معه للجنسِ ، فلو جيءَ بالليالي معرفةً بلامِ العهدِ لَفاتَ التجانسُ .
قوله : { إِذَا يَسْرِ } : منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم ، أي : أُقْسِم به وقتَ سُراه . وحَذَفَ ياءَ « يَسْري » وَقْفاً ، وأثبتها وصلاً ، نافعٌ وأبو عمروٍ ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير ، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم ، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي ، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي . ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ . ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ : يُسْرَى فيه ، قاله الأخفش . وقال غيره : المرادُ يَنْقُصُ كقوله : { إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] ، { إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ] .

هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)

قوله : { لِّذِى حِجْرٍ } : الحِجْرُ : العقل . وتقدَّم الكلامُ عليه .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)

قوله : { بِعَادٍ إِرَمَ } : قرأ العامَّةُ « بعادٍ » مصروفاً « إرَمَ » بكسرِ الهمزة وفتح الراءِ والميم ، ف « عاد » اسمٌ لرجلٍ في الأصل ، ثم أُطْلِقَ على القبيلة أو الحيِّ ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه . وأمَّا « إرَمُ » فقيل : هو اسمُ قبيلةٍ . وقيل : اسمُ مدينةٍ : واخْتُلف في التفسير في تعيينِها . فإن كانَتْ اسمَ قبيلةٍ كانت بدلاً أو عطفَ بيانٍ ، أو منصوبةً بإضمارِ « أعني » ، وإن كانَتْ اسمَ مدينةٍ فيقلَقُ الإِعراب من عاد ، وتخريجُه على حَذْفِ مضافٍ ، كأنه قيل : بعادٍ أهلِ إرمَ ، قاله الزمخشري ، وهو حَسَنٌ ويَبْعُدُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « عاد » بدلَ اشتمال إذا لا ضميرَ ، وتقديرُه قَلِقٌ . وقد يقال : إنه لَمَّا كان المَعْنِيُّ بعادٍ مدينتَهم؛ لأنَّ إرمَ قائمةٌ مَقامَ ذلك صَحَّ البدلُ . وإرمُ اسمُ جَدِّ عادٍ ، / وهو عادُ بنُ عَوَضِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ . قال زهير :
4560 وآخَرِين تَرَى الماذيَّ عِدَّتَهْمْ ... مِنْ نَسْجِ داوُدَ أو ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
وقال قيس الرقيات :
4561 مَجْداً تليداً بناه أوَّلُوه له ... أَدْرَكَ عاداً وساماً قبلَه إرَما
وقرأ الحسن « بعادَ » غيرَ مصروفٍ . قال الشيخ : « مُضافاً إلى إرم . فجاز أَنْ يكون » إرَمُ « أباً أو جَدَّاً أو مدينةً » . قلت : يتعيَّنُ أَنْ يكونَ في قراءةِ الحسن غيرَ مضافٍ ، بل يكون كما كان منوناً ، ويكونُ « إرمَ » بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ أَعْني [ ولو كان مضافاً لوجَبَ صَرْفُه ] . وإنَّما مُنع « عاد » اعتباراً بمعنى القبيلة أو جاء على أحدِ الجائزَيْنِ في « هند » وبابِه . وقرأ الضحاك في روايةٍ « بعادَ إرم » ممنوعَ الصرفِ وفَتْحِ الهمزةِ مِنْ « أرَمَ » . وعنه أيضاً « أرْمَ » بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الراءِ ، وهو تخفيفُ « أَرِمَ » بكسرِ الراء ، وهي لغةٌ في اسمَ المدينة ، وهي قراءةُ ابنِ الزُّبَيْرِ . وعنه في « عاد » مع هذه القراءة الصَّرْفُ وتَرْكُه .
وعنه أيضاً وعن ابن عباس « أَرَمَّ » بفتح الهمزةِ والراءِ ، والميمُ مشددةٌ جعلاه فعلاً ماضياً . يقال : « أَرَمَّ العَظْمُ » ، أي : بَلِيَ . ورَمَّ أيضاً وأرَمَّه غيرُه ، فأَفْعَلَ يكون لازماً ومتعدياً في هذا . و « ذات » على هذه القراءةِ مجرورةٌ صفةً ل « عاد » ، ويكونُ قد راعى لفظَها تارةً في قولِه : « أرَمَّ » ، فلم يُلْحِقْ علامةَ تأنيثٍ ، ويكونُ « أرَمَّ » معترضاً بين الصفةِ والموصوفِ ، أي : أَرَمَّتْ هي بمعنى : رَمَّتْ وَبِلِيَتْ ، وهو داءٌ عليهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ « أرَمَّ » ضميرَ الباري تعالى ، والمفعولُ محذوفٌ ، أي : أرَمَّها اللَّهُ . والجملةُ الدعائيةُ معترضةٌ أيضاً .

ومعناها أخرى في « ذات » فأنَّثَ . ورُوي عن ابن عباس « ذاتَ » بالنصب على أنها مفعولٌ ب « أرَمَّ » . وفاعلُ « أرَمَّ » ضميرٌ يعودُ على الله تعالى ، أي : أرَمَّها اللَّهُ تعالى ويكون « أرمَّ » بدلاً مِنْ « فَعَلَ ربُّكَ » أو تبييناً له .
وقرأ ابن الزبير « بعادِ أَرِمَ » بإضافةِ « عاد » إلى « أرِم » مفتوحَ الهمزةِ مكسورَ الراء ، وقد تقدَّم أنه اسمُ المدينة . وقُرىء « أرِمِ ذاتِ » بإضافة « أرم » إلى « ذات » . ورُوي عن مجاهدٍ « أرَمَ » بفتحتين مصدرَ أَرِمَ يَأْرَمُ ، أي : هَلَكَ ، فعلى هذا يكونُ منصوباً ب « فعَلَ ربُّك » نَصْبَ المصدرِ التشبيهيِّ ، والتقدير : كيف أهلك ربُّك إهلاكَ ذاتِ العِمادِ؟ وهذا أغربُ الأقوالِ .
و « ذاتِ العِمادِ » إنْ كان صفةً لقبيلةٍ فمعناه : أنهم أصحابُ خيامٍ لها أَعْمِدةٌ يَظْعَنون بها ، أو هو كنايةٌ عن طولِ أبدانهم كقولِه :
4562 رَفيعُ العِمادِ طويلُ النِّجا ... دِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قاله ابن عباس ، وإنْ كان صفةً للمدينة فمعناه : أنها ذاتُ عُمُدٍ من الحجارة .

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)

قوله : { التي لَمْ يُخْلَقْ } : يجوز أَنْ يكونَ تابعاً ، وأَنْ يكونَ مَقْطوعاً رفعاً أو نصباً . والعامَّةُ على « يُخْلَقْ » مبنياً للمفعولِ ، « مِثْلُها » مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . وعن ابن الزبير « يَخْلُقْ » مبنياً للفاعل « مثلَها » منصوبٌ به . وعنه أيضاً « نَخْلُقْ » بنونِ العظمةِ .

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)

قوله : { وَثَمُودَ } : قرأ العامَّةُ بمَنْع الصرف ، وابنُ وثَّاب بصَرْفِه . وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبعاً . و « الذين » يجوز فيه ما تقدَّم في { التي لَمْ يُخْلَقْ } . وجابَ الشيءَ يجوبُه قَطَعَه وخَرَقه جَوْباً . وجُبْتُ البلادَ : قطعتُها سَيْراً . قال الشاعر :
4563 ولاَ رأَيْتُ قَلوصاً قبلَها حَمَلَتْ ... سِتِّين وَسْقاً ولا جابَتْ بها بلداً
قوله : { بالواد } متعلقٌ : إمَّا ب « جابوا » ، أي : فيه ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « الصخر » ، أو من الفاعِلين . وأثبت ياءَ « الوادي » في الحالَيْن ابنُ كثير وورشٌ ، بخلافٍ عن قنبل فرُوي عنه إثباتُها في الحالَيْن ، ورُوي عنه إثباتُها في الوصلِ خاصةً ، وحذفها الباقون في الحالَيْن ، موافقةً لخطِّ المصحفِ ومراعاةً للفواصل كما تقدَّم في { إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] .

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)

قوله : { الذين طَغَوْاْ } : يجوزُ فيه ما جاز في « الذين » قبله من الإِتباعِ والقطع على الذمِّ .
قوله : { سَوْطَ } هو الآلةُ المعروفةُ . قيل : وسُمِّيَ سَوْطاً لأنه يُساط به اللحمُ عند الضَّرْبِ ، أي : يَخْتلط . قال كعب بن زهير :
4564 وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها ... فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
وقال آخر :
4565 أحارِثُ إنَّا لو تُساطُ دماؤُنا ... تَزَايَلْنَ حتى لا يَمَسَّ دَمٌ دَما
وقيل : هو في الأصلِ مصدرُ ساطه يَسُوْطه سَوْطاً ، ثم سُمِّيَتْ به الآلةُ . وقال أبو زيد : « أموالُهم بينهم سَوِيطة » ، أي : مختلطةٌ . واستعمالُ الصَّبِّ في السَّوْط استعارةٌ بليغة ، وهي شائعةٌ في كلامِهم/ .

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

قوله : { لبالمرصاد } : المِرْصاد كالمَرْصَد ، وهو المكانُ يترتَّبُ [ فيه ] الرَّصَدَ جمعَ راصِد كحَرَس ، فالمِرْصاد مِفْعال مِنْ رَصَده كمِيْقات مِنْ وَقَتَه ، قاله الزمخشري . وجَوَّزَ ابنُ عطية في « المِرْصاد » أَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ قال : « كأنه قيل : لَبالراصد ، فعبَّر ببناء المبالغة » . ورَدَّ عليه الشيخ : بأنَّه لو كان كذلك لم تَدْخُلْ عليه الباءُ إذ ليس هو في موضعِ دخولِها لا زائدةً ولا غيرَ زائدةٍ . قلت : قد وَرَدَتْ زيادتُها في خبرِ « إِنَّ » كهذه الآيةِ ، في قولِ امرىء القيس :
4566 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
إلاَّ أنَّ هذا ضرورةٌ لا يُقاسُ عليه الكلامُ فَضْلاً عن أفصحِه .

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)

قوله : { فَأَمَّا الإنسان } : مبتدأٌ ، وفي خبرِه وجهان ، أحدهما : وهو الصحيحُ أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه « فيقولُ » كقولِه : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ } [ البقرة : 26 ] كما تقدَّم بيانُه ، والظرفُ حينئذٍ منصوبٌ بالخبر؛ لأنه في نيةِ التأخيرِ ، ولا تمنعُ الفاءُ من ذلك ، قاله الزمخشريُّ وغيرُه . والثاني : أنَّ « إذا » شرطيةٌ وجوابُها « فيقول » ، وقولُه « فأَكْرَمَه » معطوفٌ على « ابتلاه » ، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ « الإِنسان » ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ « إمَّا » تَلْزَمُ الفاءَ في الجملةِ الواقعةِ خبراً عَمَّا بعدها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ مضمر ، كقولِه تعالى : { فَأَمَّا الذين اسودت } [ آل عمران : 106 ] كما تقدَّم بيانُه ، إلاَّ في ضرورةٍ .
قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ بمَ اتَّصَلَ قولُه » فأمَّا الإِنسانُ «؟ قلت : بقولِه : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } فكأنَّه قيل : إنَّ اللَّهَ لا يريدُ من الإِنسانِ إلاَّ الطاعةَ ، فأمَّا الإِنسانُ فلا يريد ذلك ولا يَهُمُّه إلاَّ العاجلةَ » . انتهى . يعني بالتعلُّقِ مِنْ حيثُ المعنى ، وكيف عُطِفَتْ هذه الجملةُ التفصيليةُ على ما قبلَها مترتبةً عليه؟ وقوله : « لا يريد إلاَّ الطاعةَ » على مذهبِه ، ومذهبُنا أنَّ اللَّهَ يريد الطاعةَ وغيرَها ، ولولا ذلك لم يقعْ . فسُبحان مَنْ لا يُدْخِلُ في مُلْكِه ما لا يُريد . وإصلاحُ العبارةِ أَنْ يقولَ : إنَّ اللَّهَ يريدُ من العبدِ أو الإِنسانِ من غيرِ حَصْرٍ . ثم قال : « فإنْ قُلْتَ : فكيف توازَنَ قولُه : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ } وقولُه : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه } ، وحقُّ التوازنِ أَنْ يتقابلَ الواقعان بعد » أمَّا « و » أمَّا « . تقول : » أمَّا الإِنسانُ فكفورٌ ، وأمَّا المَلَكٌ فشَكورٌ « ، » أمَّأ إذا أَحْسَنْتَ إلى زيدٍ فهو مُحْسِنٌ إليك ، وأمَّا إذا أَسَأْتَ إليه فهو مُسِيْءٌ إليك «؟ قلت : هما متوازنان من حيث إنَّ التقديرَ : وأمَّا هو إذا ما ابتلاه ربُّه وذلك أنَّ قولَه : { فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ } خبرُ المبتدأ الذي هو الإِنسانُ . ودخولُ الفاءِ لِما في » أمَّا « مِنْ معنى الشرطِ ، والظرفُ المتوسِّطُ بين المبتدأ والخبرِ في نيةِ التأخيرِ ، كأنه قال : فأمَّا الإِنسانُ فقائِلٌ ربي أكرمَنِ وقتَ الابتلاءِ فَوَجَبَ أَنْ يكونَ » فيقولُ « الثاني خبرَ المبتدأ واجبٌ تقديرُه » .

وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)

قوله : { فَقَدَرَ عَلَيْهِ } : قرأ ابنُ عامرٍ بتشديدِ الدال ، والباقون بتخفيفِها ، وهما لغتان بمعنىً واحد ، ومعناهما التضييقُ . ومن التخفيفِ قولُه : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] .
قوله : { أَكْرَمَنِ } « أهانَنِ » قرأ نافعٌ بإثباتِ ياءَيْهما وَصْلاً وحَذْفِهما وقفاً ، مِنْ غيرِ خلافٍ عنه ، والبزيُّ عن ابن كثير يُثْبِتُهما في الحالَيْن ، وأبو عمرو اختُلِفَ عنه في الوصلِ فرُوي عنه الإِثباتُ والحَذْفُ ، والباقون يَحذفونهما في الحالَيْن ، وعلى الحَذْفِ قولُ الشاعر :
4567 ومِن كاشِحٍ طاهرٍ عُمْرُه ... إذا ما انْتسَبْتُ له أَنْكَرَنْ
يريد : أنكرني . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : هَلاَّ قال : فأهانَه وقَدَرَ عليه رِزْقَه ، كما قال : فأكرَمَه ونَعَّمه . قلت : لأنَّ البَسْطَ إكرامٌ من الله تعالى لعبدِه بإنعامِه عليه مُتَفَضِّلاً مِن غيرِ سابقةٍ . وأمَّا التقديرُ فليس بإهانةٍ له؛ لأنَّ الإِخلالَ بالتفضُّل لا يكونُ إهانة ، كما إذا أهدى لك زيدٌ هديةً تقول : أكرمني ، فإذا لم يَهْدِ لك شيئاً لا يكو مُهيناً لك » .

كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)

قوله : { تُكْرِمُونَ } : قرأ أبو عمرو هذا والثلاثةَ بعدَه بياء الغَيْبة حَمْلاً على معنى الإِنسانِ المتقدِّمِ/ إذ المرادُ به الجنسُ ، والجنسُ في معنى الجَمْعِ ، والباقون بالتاء في الجميع خطاباً للإِنسانِ المرادِ به الجنسُ على طريقِ الالتفاتِ . وقرأ الكوفيون « تَحاضُّون » والأصلُ : تتحاضُّون ، فحذف إحدى التاءَيْن ، أي : لا يَحُضُّ بعضُكم بعضاً . ورُوي عن الكسائي « تُحاضُّون » بضم التاءِ ، وهي قراءةُ زيدِ ابن علي وعلقمةَ ، أي : تُحاضُّون أنفسَكم . والباقون « تَحُضُّون » مِنْ حَضَّه على كذا ، أي : أغْرَاه به . ومفعولُه محذوفٌ ، أي : لا تَحُضُّون أنفسَكم ولا غيرَها . ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ ، أي : لا تُوْقِعون الحَضَّ .

وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)

قوله : { على طَعَامِ } : متعلِّقٌ بتحاضُّون . و « طعام » يجوزُ أَنْ يكونَ على أصلِه مِنْ كونِه اسماً للمطعومِ . ويكون على حَذْفِ مضافٍ ، أي : على بَذْلِ ، أو على إعطاءِ طعامٍ ، وأَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ بمعنى الإِطعام ، كالعطاء بمعنى الإِعطاء ، فلا حَذْفَ حينئذٍ . والتاءُ في « التراث » بدلٌ من الواو ، لأنه من الوِراثة . ومثلُه : تَوْلَج وتَوْراة وتُخَمَة ، وقد تقدَّم ذلك . و « لَمَّاً » بمعنى مجموع . يقال : لَممْتُ الشيءَ لَمَّاً ، أي : جَمَعْتُه جَمْعاً . قال الحطيئة :
4568 إذا كان لَمَّاً يَتْبَعُ الذَّمَّ ربَّه ... فلا قَدَّس الرحمنُ تلك الطَّواحِنا
ولَمَمْتُ شَعَثَه من ذلك . قال النابغة :
4569 ولَسْتَ بمُسْتَبْقٍ أخالً لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ ، أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ
والجَمُّ : الكثير . ومنه « جُمَّةُ الماء » . قال زهير :
4570 فلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه : الجُمَّة للشَّعْر ، وقولُهم « جاؤوا الجَمَّاءَ الغَفير » . من ذلك .

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

قوله : { دَكّاً دَكّاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ مؤكِّد ، و « دكاً » الثاني تأكيدٌ للأول تأكيداً لفظياً ، كذا قاله ابنُ عُصفور ، وليس المعنى على ذلك . والثاني : أنه نصبٌ على الحالِ والمعنى : مكرَّراً عليه الدَّكُّ ك عَلَّمْتُه الحِساب باباً باباً ، وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشريِّ ، وكذلك « صَفَّاً صَفَّاً » حالٌ أيضاً ، أي : مُصْطَفِّين أو ذوي صفوفٍ كثيرة .

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب « جيْء » والقائمُ مَقامَ الفاعلِ « بجهنَّمَ » . وجَوَّزَ مكي أَنْ يكونَ « يومَئِذٍ » قائماً مَقامَ الفاعلِ . وإمَّا « يومَئذ » الثاني فقيل : بدلٌ من « إذا دُكَّت » ، والعامل فيهما « يتذكَّر » قاله الزمخشري ، وهذا هو مذهبُ سيبويهِ ، وهو أنَّ العاملَ في المبدلِ منه عاملٌ في البدلِ ، ومذهبُ غيرِه أنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ . وقيل : إنَّ العاملَ في « إذا دُكَّتْ » « يقولُ » ، والعاملُ في « يومئذ » « يتذكَّر » قاله أبو البقاء .
قوله : { وأنى لَهُ الذكرى } « أنَّى » خبرٌ مقدمٌ ، و « الذكرى » مبتدأٌ مؤخرٌ ، و « له » متعلقٌ بما تَعَلَّق به الظرفُ .

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)

قوله : { لاَّ يُعَذِّبُ } : قرأ الكسائي « لا يُعَذَّبُ » و « لا يُوْثَقُ » مبنيين للمفعولِ . والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل . فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى « أحد » وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى . وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى ، ومضافَيْنِ للمفعول ، والضميرُ للإِنسانِ ، ويكون « عذاب » واقعاً موقع تَعْذيب . والمعنى : لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه ، لكفرِه وعنادِه ، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء . إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ ، وعن الكوفيين الجوازُ ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن . ومن الإِعمال قولُه :
4571 أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا
ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ « المِئَة » بفعلٍ مضمر . وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر :
4572 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
وقيل : المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] قاله الزمخشري . وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه . /
والضميرُ في « عذابَه » و « وَثاقَه » يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى ، بمعنى : أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ ، أي : إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ ، كذا قاله أبو عبد الله ، وفيه نظرٌ : من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ « يومئذٍ » معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه ، إلاَّ أن يُقالَ : يُتَوَسَّعُ فيه .
وقيل : المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك . وقيل : المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه . ورُدَّ هذا : بأنَّ « لا » إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى ، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ ، وبأنَّ « يومَئذٍ » المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا . وقيل : المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها ، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه . ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى : لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ ، أو يكونُ المعنى : لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] . وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه .
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما « وِثاقَه » بكسر الواو .

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)

قوله : { ياأيتها } : هذه قراءةُ العامَّةِ « يا أيتُها » بتاءِ التأنيث . وقرأ زيدُ بن علي « يا أيُّها » كنداءِ المذكرِ ، ولم يُجَوِّز ذلك أحدٌ ، إلاَّ صاحبَ « البديع » ، وهذه شاهدةٌ له . وله وجه : وهو أنها كما لم تطابِقْ صفتَها تثنيةً وجَمْعاً جاز أن لا تطابِقَها تأنيثاً . تقول : يا أيُّها الرجلان يا أيُّها الرجال . و « راضيةً » و « مَرْضيَّةً » حالان ، أي جامعةً بين الوصفَيْن؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ أحدِهما الآخرُ .

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)

قوله : { فِي عِبَادِي } يجوزُ أَنْ يكونَ : في جسد عبادي ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى : في زُمْرة عبادي . وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعةٌ « في عبدي » والمرادُ الجنسُ ، وتَعَدَّى الفعلُ الأولُ ب « في » لأنَّ الظرفَ ليس بحقيقي نحو : « دخلت في غِمار الناس » ، وتعدَّى الثاني بنفسِه لأنَّ الظرفيةَ متحققةٌ ، كذا قيل ، وهذا إنما يتأتَّى على أحدِ الوجهَيْنِ ، وهو أنَّ المرادَ بالنفس بعضُ المؤمنين ، وأنه أَمْرٌ بالدخولِ في زُمْرة عبادِه ، وأمَّا إذا كان المرادُ بالنفسِ الروحَ ، وأنها مأمورةٌ بدخولِها في الأجساد فالظرفيةُ فيه متحقِّقةٌ أيضاً .

وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)

قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن : إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد . واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية ، فقال : وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ ، ف « حِلٌّ » بمعنى حَلال ، قال معنى ذلك الزمخشري . ثم قال : « فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه » وأنت حِلٌّ « في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله تعالى { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء : أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية .
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن . أنَّ الجملةَ حاليةٌ ، أي : لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك ، أي : لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه . وقيل : المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه ، أي : مُسْتَحَلٌّ أَذاك . وتقدَّم الكلام في مثلِ » لا « هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ .

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)

قوله : { وَمَا وَلَدَ } : قيل : « ما » بمعنى « مَنْ » وقيل : مصدريةٌ . أَقْسَم بالشخص وفِعْلِه . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : هَلاَّ قيل : ومَنْ وَلَدَ . قلت : فيه ما في قولِه { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] ، أي : بايِّ شيءٍ وَضَعَتْ ، أي : موضوعاً عجيبَ الشأن » وقيل : « ما » نافيةٌ فتحتاج إلى إضمارِ موصولٍ ، به يَصِحُّ الكلامُ تقديره : والذي ما وَلَدَ؛ إذ المرادُ بالوالد مَنْ يُوْلدُ له ، وبالذي لم يَلِدْ العاقرُ ، قال : معناه ابنُ عباس وتلميذُه ابنُ جُبير وعكرمة .

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)

قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا } : هذا هو المُقْسَمُ عليه والكَبَدُ : المَشقةُ . قال الزمخشري : « وأصلُه مِنْ كَبِدَ الرجلُ كَبَداً فهو أكبدُ ، إذا وَجِعَتْ كَبِدْه وانتفخَتْ ، فاتُّسِعَ فيه حتى اسْتُعْمِلَ في كلِّ نَصَبٍ ومشقةٍ ، ومنه اشْتُقَّت المكابَدَةُ ، كما قيل : كَبَته ، بمعنى أهلكه ، وأصلُه كَبَدَه ، أي : أصاب كَبِدَه . قال لبيد :
4573 يا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقام الخُصومُ في كَبَدِ
أي : في شِدَّةِ الأمرِ وصعوبةِ الخَطْبِ وقال ذو الإِصبَع :
4574 ليَ ابنُ عَمّ لَوَانَّ الناسَ في كَبَدٍ ... لظلَّ مُحْتَجِراً بالنَّبْلِ يَرْمِيْني

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)

قوله : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأنْ تكونَ حالاً . وقرأ العامَّةُ « لُبَداً » بضمِّ اللامِ وفتحِ الباءِ . وشَدَّد أبو جعفر الباءَ ، وعنه أيضاً سكونُها . ومجاهد وابن أبي الزناد بضمتين ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه اللفظةِ والاختلافُ فيها في الجنِّ .

وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)

قوله : { وَشَفَتَيْنِ } : الشَّفْةُ محذوفةُ اللامِ ، والأصلُ شَفَهة ، بدليل تصغيرِها على شُفَيْهَة ، وجَمْعِها على شِفاه ، ونظيرُه سَنَة في إحدى اللغتين . وشافَهْتُه ، أي : كلَّمْتُه من غير واسطةٍ ، ولا يُجمع بالألفِ والتاءِ ، استغناءً بتكسيرِها عن تَصْحيحِها .

وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

قوله : { النجدين } : إمَّا ظرفٌ ، وإمَّا على حَذْفِ الجارِّ إنْ أُريد بهما الثَّدْيان ، والنَّجْدُ في الأصل : « العُنُقُ لارتفاعِه . وقيل : الطريقُ العالي ، كقولِ امرئِ القيس :
4575 فريقانِ منهمْ قاطعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وآخرُ منهمْ جازعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ومنه » نَجْدٌ « لارتفاعِها عن تِهامةَ .

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)

قوله : { فَلاَ اقتحم } قال الفراء والزجَّاج : « ذَكَر » لا « مرةً واحدةً ، والعربُ لا تكادُ تُفْرِدُ » لا « مع الفعل الماضي حتى تُعِيْدَ ، كقولِه تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } [ القيامة : 31 ] ، وإنما أفردَها لدلالةِ آخرِ الكلامِ على معناه فيجوزُ أَنْ يكونَ قولُه : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] قائماً مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبةَ ولا آمَنَ » وقال : الزمخشري : « هي متكررةٌ في المعنى؛ لأنَّ معنى » فلا اقتحمَ العقبةَ « فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعمَ مِسْكيناً ، ألا ترى أنه فَسَّر اقتحامَ العقبةِ بذلك » قال الشيخ : « ولا يَتِمُّ له هذا إلاَّ على قراءةِ » فَكَّ « فعلاً ماضياً » .

فَكُّ رَقَبَةٍ (13)

وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ « فَكَّ » فعلاً ماضياً ، « ورقبةً » نصباً « أو أَطْعم » فعلاً ماضياً أيضاً . والباقون « فَكُّ » برفع الكاف اسماً ، « رقبةٍ » خَفْصٌ بالإِضافة ، « أو إطعامٌ » اسمٌ مرفوعٌ أيضاً . فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه « اقتحمَ » فهو بيانٌ له ، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ ، والثانيةُ يرتفع فيها « فَكُّ » على إضمار مبتدأ ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ ، على معنى الإِباحة . وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه « فلا اقتحمَ » تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر . ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر ، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو « فَكُّ » مُفَسِّراً للعين ، وهو العقبةُ .
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء « فَكَّ أو أطعمَ » فعلَيْن كما تقدَّم ، إلاَّ أنهما نصبا « ذا » بالألف . وقرأ الحسن « إطعامٌ » و « ذا » بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ « أَطْعم » أو « إطعامٌ » و « يتيماً » حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له . وهو في قراءةِ العامَّةِ « ذي » بالياء نعتاً ل « يوم » على سبيل المجاز ، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم : « ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ » والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين ، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ .
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ ، وربما قيل في العطش مع التعب ، قال الراغب . يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه ، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب . يقال تَرِب ، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب . فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى ، أي : صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة . وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال : « والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر » .

ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)

قوله : { ثُمَّ كَانَ } : لتراخي الإِيمان وتباعُدِه في الرتبةِ والفضيلةِ عن العِتْقِ والصدقةِ ، لا في الوقتِ ، لأنَّ الإِيمانَ هو السَّابقُ ولا يَثْبُتُ عَمَلٌ إلاَّ به ، قاله الزمخشري . وقيل : المعنى على : ثم كان في عاقبةِ أَمْرِه من الذين وافَوْا الموتَ على الإِيمان لأنَّ الموافاةَ عليه شرطٌ في الانتفاعِ بالطاعاتِ . وقيل : التراخي في الذِّكْرِ وتقدَّم تفسيرُه .

عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

قوله : { مُّؤْصَدَةُ } : قرأ أبو عمروٍ وحمزة وحفص بالهمز ، والباقون بالواو ، وكذا في « الهُمْزة » فالقراءةُ الأولى من آصَدْتُ البابَ ، أي : أَغْلَقْته أُوْصِدُه فهو مُؤْصَدٌ . قيل : ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أَوْصَدْتُ ، ولكنه هَمَزَ الواوَ الساكنةَ لضمةِ ما قبلَها كما هَمَزَ { بالسوق والأعناق } [ ص : 33 ] كما تقدَّم . والقراءةُ الثانيةُ ايضاً تحتمل المادتَيْن ، ويكون قد خُفِّفَتِ الهمزةُ لسكونها بعد ضمة . وقد نَقَل الفراء عن السوسيِّ الذي قاعدتُه إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ أنه لا يُبْدِلُ هذه بعد ضمةٍ ، وعَلَّلوا ذلك بالالتباسِ . واتفق أنه قد قَرَأ « مُوْصَدة » بالواوِ مَنْ قاعدتُه تحقيقُ الهمزةِ ، والظاهر أنَّ القراءتَين من مادتين : الأولى مِنْ آصَدَ يُؤْصِد كأَكْرَم يُكْرِم ، والثانية مِنْ أَوْصَدَ يُوصِدُ ، مثل أَوْصَلَ يُوْصِلُ . قال الشاعر :
4576 تَحِنُّ إلى أجْبِالِ مكةَ ناقتي ... ومِنْ دونِها أبوابُ صنعاءَ مُوْصَدَهْ
أي : مُغْلَقة وقال آخر :
4577 قوماً يُعالِجُ قُمَّلاً أبناؤُهمْ ... وسلاسِلاً حِلَقاً وباباً مُؤْصَدا
وكان أبو بكرٍ راوي عاصمٍ يكره الهمزةَ في هذا الحرفِ ، وقال رحمه الله : « لنا إمامٌ يَهْمز » مؤصدة « فأشتهي أن أَسُدَّ أذُني إذا سمعتُه » قلت : وكأنه لم يَحْفَظْ عن شيخِه إلاَّ تَرْكَ الهمزِ مع حِفْظ حفصٍ إياه عنه ، وهو أَضْبَطُ لحرِفه من أبي بكر على ما نقله القُراء ، وإن كان أبو بكرٍ أكبرَ وأتقنَ وأوثقَ عند أهل الحديث .
وقوله : { عَلَيْهِمْ نَارٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكونَ الخبرُ وحده « عليهم » و « نار » فاعلٌ به ، وهو الأحسنُ .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)

قوله : { وَضُحَاهَا } : قد تقدَّم في « طه » الكلامُ على هذه المادةِ وقال المبرد : « إن الضُّحى والضَّحْوةَ مشتقان من الضَّحِّ وهو النورُ ، فأُبْدلت الألفُ والواوُ من الحاءِ » هذا يكادُ يكونُ اختلاقاً على مثلِ أبي العباس لجلالتِه .

وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)

قوله : { جَلاَّهَا } : الفاعلُ ضميرُ النهارِ ، وقيل : عائدٌ على الله تعالى . والضميرُ المنصوبُ : إمَّا للشمسِ ، وإمَّا للظُّلمةِ ، وإمَّا للدنيا ، وإمَّا للأرضِ .
قوله : { إِذَا تَلاَهَا } وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً ، ولا جوابَ لفظاً ، وتقديرُه غيرُ صالحٍ ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً ، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم ، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ ، و « إذا » ظرفٌ مستقبلٌ ، والحال لا يعملُ في المستقبلِ . وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى .
ويَخُصُّ « إذا » الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال : « فإن قلتَ : الأمرُ في نصبِ » إذا « مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو : إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن ، وفي نحو قولك : » مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ « وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه . قلت : الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً ، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً ، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول : » ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً « فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ ، لقيامِها مَقامَ » ضرب « الذي هو عامِلُهما » انتهى .
قال الشيخ : « إمَّا قولُه : » في واوات العطف : فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ « فليس هذا بالمختار ، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه ، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك . وقوله : » فتقع / في العطفِ على عاملَيْن « ليس ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن ، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن : مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن : مجرورٍ ومنصوبٍ ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ ، وذلك نحوُ قولِك : » امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً « وأنشدَ سيبويهِ في كتابه :
4578 وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها ... صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّرا
فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ ، على مجرورٍ ومرفوعٍ ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ . وقوله : وفي قولِك : » مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ « هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ ، بل وِزانُ ما في الآية : » مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ « ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه » على استكراه « فليس كما ذَكَر ، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ :

{ والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 13 ] . الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى ، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولِك : « مررتُ بزيدٍ وعمرو » والأولى بمنزلةِ التاء والباء . وأمَّا قولُه : إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً « فليس هذا الحكمُ مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ ، فتقول : أُقْسِم - أو أَحْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ ، وأمَّا قَولُه : » والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه « إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار » قال : « والذي نقوله : إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في » إذا « بعد الأقسام ، كقوله : { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] { والليل إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] { والصبح إِذَآ أَسْفَرَ } [ المدثر : 34 ] { والقمر إِذَا تَلاَهَا } { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] وما أَشْبهها ، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ . ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه ، أي : وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول . ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل ، لا سيما إنْ كان جُرْماً . ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه ، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه : والنجمِ كائناً إذا هوى ، والليلِ كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ » كائناً « أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً . وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ ، كما لا تكونُ أخباراً » انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في « إذا » وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه .
فقوله : « إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم ، لأنه يختارُ القولَ الآخَرَ . وقوله : » ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن « ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن : أنَّ قولَه : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو » النهار « والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن ، والعاملان هما : فعلُ القسمِ الناصبُ ل » إذا « الأولى ، وواوُ القسمِ الجارَّةُ ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان ، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور ، وظرفاً على ظرف ، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم . وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟
وأمَّا قولُه : » وأنشد سيبويهِ إلى آخره « فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن ، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ .

وأمَّا قولُه « أجازَ ابنُ كَيْسان / فلا يَلْزَمُه مذهبُه . وأمَّا قولُه : » فالمثالُ كالآيةِ ، بل وزانها إلى آخره « فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر : وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ .
وأمَّا قولُه » بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره « فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه ، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه . غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ . وقوله : » ولا جائزٌ أَنْ يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ « إلى آخره ، فأقول : بل يجوزُ تقديرُه : وهو العاملُ ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل ، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ . وقوله : » ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ ، فيكون قد عَمِل فيه « إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك ، وتكون حالاً مقدرةً . قوله : » يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ « ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم ، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم . قوله : » وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً « جوابُه : يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه ، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)

قوله : { يَغْشَاهَا } المفعولُ للشمسِ . وقيل : للأرض ، وجيء ب « يَغْشاها » مضارعاً دونَ ما قبلَه وما بعدَه مراعاةً للفواصلِ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيبُ « إذا غَشِيَها » فتفوتُ المناسبةُ اللفظيةُ بين الفواصلِ والمقاطع .

وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)

قوله : { وَمَا بَنَاهَا } : وما بعدَه ، فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى ، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ ، واختاره ابن جرير . والثاني : أنها مصدريةٌ ، أي : وبناءِ السماء ، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد ، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ : بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر : بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس ، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى . وأُجِيب عنه بوجهَيْن ، أحدُهما : يكونُ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه . والثاني : أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه .
وقال الزمخشري : « جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه » فأَلْهمها « وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم . والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً ، وإنما أُوْثِرَتْ على » مَنْ « لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها . وفي كلامهم : » سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا « انتهى . يعني أنَّ الفاعلَ في » فألهمها « عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في » بناها « كذلك ، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ » ما « فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً .
وقال الشيخ : » أمَّا قولُه : « وليس بالوجهِ لقولِه » فَأَلْهمها « يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في » فَأَلْهمها « على الله تعالى ، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو » ما « المرادُ به الذي . قال : » ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ ، ففي « بناها » ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى ، أي : وبناها هو ، أي : الله تعالى ، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول : « عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً » تقديره : مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو ، كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله : « وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم » ليس كذلك ، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ ، وقوله : « وإنما أُوْثِرَتْ » إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف « الذي » فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به « ما » دون « مَنْ » وقوله : : وفي كلامِهم « إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ » سبحان « عَلَم و » ما « مصدريةٌ ظرفيةٌ » انتهى .

أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً ، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ . وأمَّا قولُه : فلا تنفرد به « ما » دونَ « مَنْ » فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً ، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل ، وعلى صفتِه ، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله : { فانكحوا مَا طَابَ } [ النساء : 3 ] ، وقالوا : تقديره : فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به « ما » دون مَنْ . والتنكيرُ في « نفس » : إمَّا لتعظيمِها ، أي ، نفس عظيمة ، وهي نفسُ آدمَ ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ] .

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)

قوله : { قَدْ أَفْلَحَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه جوابُ القسم ، والأصل : لقد ، وإنما حُذِفَتْ لطولِ الكلامِ . والثاني : أنه ليس بجوابٍ وإنما جيْءَ به تابعاً لقولِه { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطرادِ ، وليس مِنْ جوابِ القسم في شيءٍ ، فالجوابُ محذوفٌ تقديرُه : ليُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عليهم ، أي : على أهلِ مكةَ لتكذيبِهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، كما دَمْدَم على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً صلَّى الله عليه وسلم ، قال معناه الزمخشري ، وقدَّره غيرُه : لتُبْعَثُنَّ .
وقوله : { طَحَاهَا } [ الشمس : 3 ] ، أي : دَحاها ، وقد تقدَّم معناه . وفيه لغتان ، يقال : طحا يَطْحوا وطحى يَطْحي . ويجيءُ طحا بمعنى ذهب ، قال علقمة :
4579 طحابك قَلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ ... بُعَيْدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشيبُ
ويقال : طحا بمعنى ارتفعَ . وفي أقسامِهم : « ولا والقمرِ الطَّاحي » ، أي : المرتفعُ . وفاعلُ « زكَّاها » و « دَسَّاها » الظاهرُ أنه ضميرُ « مَنْ » وقيل : ضميرُ الباري تعالى ، أي : مَنْ زكاهَّا اللَّهُ ، ومَنْ دَسَّاها اللَّهُ ، أي : مَنْ زَكَّى اللَّهُ نفسَه . وأنحى الزمخشريُّ على صاحبِ هذا القولِ لمنافرتِة مذهبَه ، والحقُّ أنَّه خلافُ الظاهرِ ، لا لما قال الزمخشريُّ ، بل لمنافرةِ نظمِه للاحتياجِ إلى عَوْدِ الضميرِ على النفسِ مقيدةً بإضافتِها إلى ضمير « مَنْ »

وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

قوله : { دَسَّاهَا } : أصلُه دسَّسَهَا فَكَثُرَتْ الأمثالُ فأُبْدِل مِنْ ثالِثها حرفَ علةٍ كما قالوا : قَصَّيْتُ [ أَظْفاري ] و [ قولِه ] :
4580 تَقَضِّيَ البازِي . . . . . . . . . . . . . . ... والتَّدْسِيَةُ : الإِخفاءُ بمعنى أخفاها بالفجورِ ، وقد نَطَق بالأصل مَنْ قال :
4581 وأنت الذي دَسَّسْتَ عمراً فأصبحَتْ ... حَلائلُه منه أراملَ ضُيَّعاً
ومن قال :
4582 ودَسَّسْت عَمْراً في التراب فأصبحَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)

قوله : { بِطَغْوَاهَآ } : في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها للاستعانةِ مجازاً ، كقولِه : « كتبتُ بالقلمِ » وبه بدأ الزمخشري ويعني فَعَلَتِ التكذيبَ بطُغْيانها ، كقولك : « ظلمَني بجُرْأتِه على الله تعالى » الثاني : أنها للتعدية ، أي : كَذَبَتْ بما أُوْعِدَتْ به مِنْ عذابها ذي الطُّغيان ، كقولِه تعالى { فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] . والثالث : أنها للسببية ، أي : بسبب طُغْيانِها .
وقرأ العامَّةُ « طَغْواها » بفتح الطاءِ وهو مصدرٌ بمعنى الطُّغيان ، وإنما قُلِبَتْ الياءُ واواً فَرْقاً بين الاسمِ والصفةِ ، يعني ، أنهم يُقِرُّون ياءَ فَعْلى بالفتح صفةً نحو : خَزْيا وصَدْيا ، ويَقْلبونها في الاسم نحو : تَقْوى وشَرْوى ، وكان الإِقرارُ في الوصفِ لأنه أثقلُ مِنْ الاسمِ ، والياءُ أخفُّ من الواوِ ، فلذلك جُعِلت في الأثقل .
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بضم الطاء ، وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجْعى والحُسْنى ، إلاَّ أنَّ هذا شاذ إذ كان مِنْ حَقِّه بقاءُ الياءِ على حالِها كالسُّقْيا وبابها ، هذا كلُّه عند مَنْ يقول : طَغَيْتُ طُغْياناً بالياءِ ، فأمَّا مَنْ يقول : طَغَوْت بالواو فالواوُ أصلٌ عنده ، قاله ابو البقاء ، وقد تقدَّم الكلامُ على اللغتين في البقرة والله الحمدُ .

إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)

قوله : { إِذِ انبعث } : « إذِ » يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ ظرفاً ل « كذَّبَتْ » والثاني : أَنْ يكونَ ظرفاً للطَّغْوى .
و « أشْقاها » فاعلُ « انبعَث » وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يُراد به شخصٌ واحد بعينه . وفي التفسيرِ أنه رجل يُسَمَّى قُدار بن سالف . والثاني : أن يُراد به جماعةٌ ، قال الزمخشري : « ويجوز أن يكونوا جماعةً [ والتوحيد ] / لتَسْوِيَتِك في أفعلِ التفضيل إذا اضفْتَه ، بين الواحدِ والجمع والمذكرِ والمؤنثِ ، وكان يجوزُ أَنْ يقول : أشْقَوْها » انتهى . وكان ينْبغي أَنْ يُقَيِّد فيقول : إذا أضَفْتَه إلى معرفةٍ؛ لأن المضافَ إلى النكرةِ حُكْمُه الإِفرادُ والتذكيرُ مطلقاً كالمقترنِ ب « مِنْ » .

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)

قوله : { فَقَالَ لَهُمْ } : إنْ كان المرادُ ب « أَشْقاها » جماعةً فعَوْدُ الضميرِ مِنْ « لهم » عليهم واضحٌ ، وإنْ كان المرادُ به عَلَماً بعينِه فالضميرُ مِنْ « لهم » يعودُ على ثمود .
قوله : { نَاقَةَ الله } منصوبٌ على التحذير ، أي : احْذَروا ناقةَ اللَّهِ فلا تَقْرَبُوها ، وإضمارُ الناصبِ هنا واجبٌ لمكانِ العطف ، فإنَّ إضمارَ الناصبِ يجبُ في ثلاثةِ مواضعَ ، أحدُها : أن يكونَ المحذَّرُ نحو : « إياك » وبابه . الثاني : أن يُوجدَ فيه عطفٌ . الثالث : أَنْ يوجَدَ فيه تَكْرارٌ نحو : « الأسدَ الأسدَ » وقرأ زيد بن علي « ناقةُ الله » رفعاً على خبرِ ابتداء مضمرٍ ، أي : هذه ناقةُ اللَّهِ فلا تتعرَّضوا لها .

فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)

قوله : { فَدَمْدَمَ } : الدَّمْدَمَةُ . قيل : الإِطباقُ يُقال : دَمْدَمْتُ عليه القبرَ ، أي : أَطْبَقْتُه عليه . وقيل : الإِلزاقُ بالأرض . وقيل : الإِهلاكُ باستئصالٍ . وقيل : الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه : دَمْدَمَ في كلامه . ودَمْدَمْتُ الثوبَ : طَلَيْتُه بالصَّبْغ . والباءُ في « بذَنْبهم » للسببية .
قوله : { فَسَوَّاهَا } الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه « بَطَغْواها » ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ ، أي : سَوَّاها بينهم ، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ . وقرأ ابن الزبير « فَدَهْدَمَ » بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم ، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ .

وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

قوله : { وَلاَ يَخَافُ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر « فلا » بالفاء ، والباقون بالواو ، ورُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام بالفاء وفي غيرِها بالواوِ ، فقد قرأ كلُّ بما يوافقُ رَسْمَ مُصْحَفِه . ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ « ولم يَخَفْ » وهي مُؤَيَّدَةٌ لقراءةِ الواوِ ، ذكره الزمخشري ، فالفاءُ تقتضي التعقيبَ ، وهو ظاهرٌ . والواوُ يجوزُ أَنْ تكونَ للحالِ ، وأنْ تكونَ لاستئنافِ الأخبارِ ، وضميرُ الفاعل في « يَخاف » يحتملُ عَوْدُه على الرَّبِّ ، وهو الأظهرُ ، لكونِه أقربَ مذكورٍ . والثاني : أنه يعودُ على رسولِ الله ، أي : ولا يخاف عقبى هذه العقوبةِ لإِنذاره إياهم . والثالث : أنه يعودُ على « أشقاها » أي : انبعَثَ لعَقْرها ، والحالُ أنه غيرُ خائفٍ عاقبةَ هذه الفَعْلَةِ الشنعاءِ . وعقبى الشيء خاتمتُه .

وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)

قوله : { وَمَا خَلَقَ } : يجوزُ في « ما » أَنْ تكونَ بمعنى « مَنْ » وهو رأيُ جماعةٍ تقدَّم ذِكْرُهمْ في السورةِ قبلَها . وقيل : هي مصدريةٌ . وقال الزمخشري : « والقادرُ : العظيمُ القدرةِ الذي قَدَرَ على خَلْقِ الذكَرِ والأنثى من ماءٍ واحدٍ » قلت : قد تقدَّم تقريرُ قولِه هذا وما اعْتُرِضَ به عليه ، وما أُجيب عنه ، في السورةِ قبلها . وقرأ أبو الدرداء « والذَّكرِ والأنثى » وقرأ عبد الله « والذي خَلَق » ، والكسائيُّ ونَقَلها ثعلبٌ عن بعض السَّلَف « وما خَلَقَ الذَّكَرِ » بجرِّ « الذكَرِ » قال الزمخشري : « على أنه بدلٌ من محلِّ » ما خَلَقَ « بمعنى » وما خَلَقَه « أي : ومخلوقِ اللَّهِ الذكَرِ ، وجاز إضمارُ » الله « لأنه معلومٌ بانفرادِه بالخَلْق » . وقال الشيخ : « وقد يُخَرَّجُ على تَوَهُّم المصدرِ ، أي : وخَلْقِ الذَّكرِ ، كقوله :
4583 تَطُوفُ العُفاةُ بأبوابِه ... كما طاف بالبَيْعَةِ الراهبِ
بجرِّ » الراهب « على توهُّمِ النطقِ بالمصدر ، أي : كطَوافِ الراهبِ » انتهى . والذي يَظْهَرُ في تخريجِ البيت أنَّ اصلَه « الراهبيّ » بياءِ النسَبِ ، نسبةً إلى الصفةِ ، ثم خُفِّف ، وهو قليلٌ كقولِهم : أَحْمري ودَوَّاري ، وهذا التخريجُ بعينِه في قولِ امرئ القيس :
4584 . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَقِلْ في مَقيلٍ نَحْسُه مُتَغَيِّبِ
استشهد به الكوفيون على تقديمِ الفاعلِ . وقرأ العامَّةُ { تجلى } فعلاً ماضياً ، وفاعلُه ضميرٌ عائدٌ على النهار . وعبد الله بن عبيد بن عمير « تتجلى » بتاءَيْن ، أي : الشمس . وقُرئ « تُجْلي » بضمِّ التاءِ وسكونِ الجيم ، أي : الشمسُ ايضاً ، ولا بُدَّ من عائدٍ على النهارِ محذوفٍ ، أي : تتجلى أو تُجْلِي فيه .

إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ } : هذا جوابُ القسمِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ محذوفاً ، كما قيلَ في نظائرِه المتقدمةِ .

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)

قوله : { أعطى } : حَذَفَ مفعولَيْ « أعطى » ومفعولَ « اتقى » ومفعولَ « صَدَّقَ » المجرور ب « على »؛ لأنَّ الغرضَ ذِكْرُ هذه الأحداثِ دونَ متعلَّقاتها ، وكذلك مُتَعَلَّقا البخل والاستغناءِ . وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } إمَّا من بابِ المقابلةِ لقولِه : { فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى } ، وإمَّا لأنَّ نيسِّره بمعنى نُهَيِّئُه ، والتهيئةُ تكونُ في اليُسْر والعُسْر .

وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)

قوله : { وَمَا يُغْنِي } : يجوز أَنْ تكونَ « ما » نفياً ، وأَنْ تكونَ استفهاماً إنكارياً .
قوله : { تردى } إمَّا من الهلاكِ ، أو مِنْ تردى بأكفانِه ، وهو كنايةٌ عن الموت كقولِه :
4585 وخُطَّا بأَطْرافِ الأسِنَّةِ مَضْجَعي ... ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدائيا
وقول الآخر :
4586 نَصيبُك مِمَّا تَجْمَعُ الدهرَ كلَّه ... رِداءان تلوى فيهما وحَنُوطُ

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)

قوله : { نَاراً تلظى } : قد تقدَّم في البقرة أن البزيَّ يُشَدِّد مثلَ التاء ، والتشديدُ فيها عَسِرٌ لالتقاءِ الساكنين فيها على غير حَدِّهما ، وهو نظيرُ قولِه : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] وقد تقدَّم . وقال أبو البقاء : يُقرأ بكسر التنوين وتشديد التاءِ ، وقد ذُكِرَ وَجْهُه عند { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] انتهى . وهذه قراءةٌ غريبةٌ ، ولكنها موافقةٌ للقياس من حيث إنه لم يلتقِ فيها ساكنان . وقوله : « وقد ذُكِر وجهُه الذي قاله في البقرة لا يُفيد هنا شيئاً البتة ، فإنه قال هناك : » ويُقْرأُ بتشديدِ التاءِ ، وقبلَه ألفٌ ، وهو جْمعٌ بين ساكنَيْن ، وإنما سَوَّغَ ذلك المدُّ الذي في الألفِ « .
وقرأ ابن الزُّبير وسفيان وزيد بن علي وطلحة » تتلظى « بتاءَيْن وهو الأصلُ .

لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)

قوله : { إِلاَّ الأشقى } : قيل : الأشقى والأَتْقى بمعنى الشقيّ والتقيّ ولا تفضيلَ فيهما؛ لأنَّ النارَ ليسَتْ مختصةً بالأكثرِ شقاءً ، وتجنُّبها ليس مختصاً بالأكثرِ تَقْوى . وقيل : بل هما على بابِهما ، وإليه ذهب الزمخشريُّ قال : « فإنْ قلتَ : كيف قال : » لا يَصْلاها إلاَّ الأشقى « { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ شقيّ يَصْلاها ، وكلَّ تقيّ يُجَنَّبُها ، لا يَخْتَصُّ بالصَّلْي أشقى الأشقياءِ ، ولا بالنجاةِ أتقى الأتقياءِ ، وإنْ زَعَمْتَ أنه نكَّر النار فأراد ناراً بعينِها مخصوصةً بالأشقى ، فما تصنع بقولِه { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } ؟ فقد عُلِمَ أنَّ أَفْسَقَ المسلمين يُجَنَّبُ تلك النارَ المخصوصةَ لا الأتقى منهم خاصة . قلت : الآية واردةٌ في لموازنةِ بين حالتَيْ عظيمٍ من المشركين وعظيمٍ من المؤمنين ، فأُريد أَنْ يُبالَغَ في صفتَيْهما المتناقضتَيْن فقيل : الأشقَى ، وجُعِل مختصَّاً بالصَّلْي ، كأن النارَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له . وقيل : الأتقى . وجُعل مختصَّاً بالنجاةِ ، كأنَّ الجنةَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له . وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله عنه » انتهى . فآل جوابُه إلى أنَّ المرادَ بهما شخصان معيَّنان .

الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)

قوله : { يتزكى } : قرأ العامَّةُ { يتزكى } مضارعَ تَزَكَّى ، والحسن بن علي بن الحسن بن علي أمير المؤمنين يزكى بإدغامِ التاءِ في الزاي . وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها في موضعِ الحالِ من فاعلِ « يُؤْتي » أي : يُؤتيه مُتَزَكِّياً به . والثاني : أنها لا موضعَ لها من الإِعراب ، على أنها بدلٌ مِنْ صلة « الذي » ذكرهما الزمخشري . وجعل الشيخُ متكلَّفاً .

وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)

قوله : { تجزى } : صفةٌ لنعمةٍ ، أي : تُجْزِي الإِنسانَ ، وإنما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعولِ لأجلِ الفواصل؛ إذ الأصلُ يُجْزيها إياه أو يُجْزِيه إياها .

إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)

قوله : { إِلاَّ ابتغآء } : في نصبِه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ له . قال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له على المعنى؛ لأنَّ المعنى : لا يُؤْتي مالَه إلاَّ ابتغاءَ وَجْهِ ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ » وهذا أَخَذَه مِنْ قولِ الفَرَّاء فإنه قال : « ونُصِبَ على تأويل : ما أعْطَيْتُك ابتغاءَ جزائِك ، بل ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ تعالى . والثاني : أنَّه منصوبٌ على الاستثناء المنقطع ، إذ لم يندَرِجْ تحت جنسِ » مِنْ نعمة « وهذه قراءة العامَّةِ ، أعني النصبَ والمدَّ . وقرأ يحيى برفعِه ممدوداً على البدل مِنْ محلِّ » مِنْ نعمة « لأنَّ محلَّها الرفعُ : إمَّا على الفاعليَّةِ ، وإمَّا على الابتداءِ ، و » مِنْ « مزيدةٌ في الوجهَيْن ، والبدلُ لغة تميمٍ ، لأنهم يُجْرُون المنقطعَ في غيرِ الإِيجاب مجرى المتصل . وأنشد الزمخشريُّ بالوجهَيْن : النصبِ والبدلِ قولَ بشرِ بنِ أبي خازم :
4587- أَضْحَتْ خَلاءً قِفاراً أَنيسَ بها ... إلاَّ الجآذِرُ والظِّلْمانَُِ تَخْتَلِفُ
وقولَ القائلِ في الرفع :
4588- وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ ... إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ
وقال مكي : » وأجاز الفراء الرفعَ في « ابتغاء » على البدل مِنْ موضع « نِعْمَةٍ » وهو بعيدٌ « قلت : كأنَّه لم يَطِّلِعْ عليها ، قراءةً ، واستبعادُه هو البعيدُ ، فإنَّها لغةٌ فاشيةٌ . وقرأ ابنُ ابي عبلة » ابْتِغا « بالقصر .

وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

قوله : { وَلَسَوْفَ يرضى } : هذا جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ . والعامَّةُ على « يرضى » مبنياً للفاعلِ . وقُرِئ ببنائِه للمفعول مِنْ أَرْضاه الله ، وهو قريبٌ مِنْ قولِه في آخرِ سورةِ طه { لَعَلَّكَ ترضى } و { ترضى } [ طه : 130 ] .

وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)

قوله : { سجى } : قيل : معناه سَكَن ، ومنه : سجا البحر يَسْجُو سَجْواً ، أي : سَكَنَتْ أمواجُه ، وطَرْفٌ ساجٍ ، أي : فاتر ، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ ، أي : تَغْطِيَتُه بالثوبِ ، قاله الراغب وقال الأعشى :
4589 وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ ... وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا
وقيل : سجا ، أي : أَدْبَرَ وقيل بعكسِه . وقال الفراء : « أظلم » . وقال ابن الأعرابي : « اشتدَّ ظلامُه » وقال الشاعر :
4590 يا حَبَّذا القَمْراءُ والليلُ السَّاجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ
وهو من ذواتِ الواوِ ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً .

مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)

قوله : { مَا وَدَّعَكَ } : هذا هو الجوابُ . والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع . [ وقرأ ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم : وَدَعَه ، أي : تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب « تَرَكَ » وما تصرَّفَ منه ، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ . قال الشاعر :
4591 سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ ... عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
وقال الشاعر :
4592 وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ ... فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ
قيل : والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك .
قوله : { وَمَا قلى } أي : ما أَبْغَضَك ، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع ، وطيِّىء تقول : قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر :
4593 أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه ... ولا واللَّهِ أَقْلاه
لكَ اللَّهُ على ذاكَ ... لكَ اللَّهُ [ لكَ اللَّهُ ]
وحُذِفَ مفعولُ « قَلَى » مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ « فآوى » وما بعدَه .

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)

قوله : { وَلَلآخِرَةُ } : الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم ، وكذلك في « ولَسَوْفَ » أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ : اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه ، واثنان مُثْبَتان مؤكَّدان ، وهما كونُ الآخرةِ خيراً له من الدنيا ، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما هذه اللامُ الداخلةُ على » سَوْف «؟ قلت : هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة ، والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُه : ولأنت سَوْفَ يُعْطيك ، كما ذَكَرْنا في { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] أن المعنى : لأَنا أُقْسِمُ . وذلك أنها لا تَخْلو : مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء . فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد ، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ ، ولامُ الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلا بُدَّ من تقدير [ مبتدأ ] وخبره ، وأصله : ولأنت سوف يعطيك » ونقل الشيخ عنه أنه قال : « وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال » انتهى . وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم .
قوله : « لا تَدْخُلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد » هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ ، إحداهما : أَنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين الفعل حرفُ تنفيسٍ كهذه الآيةِ ، كقولِك : واللَّهِ لَسَأُعْطيك . والثانية : أن لا يُفْصَلَ بينهما بمعمولِ الفعل كقولِه تعالى : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 158 ] . ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ : « ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك : » إنَّ زيداً لَقائمٌ ، بل هي التي في قولِك : « لأَقومَنَّ » ونابَتْ « سوفَ » عن إحدى نونَيْ التوكيدِ ، فكأنه قال : ولَيُعْطِيَنَّك .
وقوله : « خُلِع منها دلالتُها على الحال » يعني أنَّ لامَ الابتداءِ الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال ، وهنا لا يُمْكِنُ ذلك لأجلِ حَرْفِ التنفيسِ ، فلذلك خُلِعَتِ الحاليةُ منها .
وقال الشيخ : « واللامُ في » ولَلآخرةُ « لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ » ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي علي ثم قال : « ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في » وللآخرةُ خيرٌ « وفي » ولَسَوْفَ يُعْطيك « اللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ ، عَطَفَها على جوابِ القسم ، وهو قولُه : { مَا وَدَّعَكَ } فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة » انتهى . فظاهرُه أنَّ اللامَ في « ولَلآخرةُ » لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها القسمُ ، بدليلِ قولِه ثانياً : « ويجوز عندي » ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملةِ عن جواب القسم البتةَ ، وكذلك في { ولَسَوْفَ } وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم ، وإنما مَنَعَ أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً .

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)

قوله : { فآوى } : العامَّة على « آوى » بألفٍ بعد الهمزة رباعياً ، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ . وأبو الأشهب « فأوى » ثلاثياً . قال الزمخشري : « وهو على معنيين : إمَّا مِنْ » أواه « بمعنى آواه . سُمع بعضُ الرعاة يقول : » أين آوي هذه « ، وإمَّا مِنْ أوى له إذا رحمه » انتهى . وعلى الثاني قولُه :
4594- أراني - ولا كفرانَ لله - أيَّةُ ... لنفسي لقد طالَبْتُ غيرَ مُنيلِ
أي : رحمةً لنفسي . ووجهُ الدلالةِ مِنْ قولِه : « يقول : أين آوي هذه »؟ أنه لو كان من الرباعي لقال : « أُؤْوي » بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانيةِ؛ لأنه مضارعُ « آوى » مثل أَكْرَمَ ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعةِ ، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في « أُوْمِنُ أنا » لئلا تثقلَ بالإِدغام ، ولذلك نصَّ القراءُ على أنَّ « تُؤْويه » من قوله « وفَصيلتِه التي تُؤْويه » لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ .

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)

قوله : { عَآئِلاً } : أي : فقيراً . وهذه قراءةُ العامَّةِ . يقال : عال زيدٌ أي : افتقر . قال جرير :
4595 اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً ... لابنِ السبيل وللفقيرِ العائلِ
وأعال : كَثُرَ عيالُه قال :
4596 ومايَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ
وقرأ اليماني « عَيِّلاً » بكسر الياء المشددة كسَيِّد .

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)

قوله : { فَأَمَّا اليتيم } : منصوبٌ ب تَقْهَرْ . وبه استدل الشيخ ابن مالك - رحمه الله - على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل . ألا ترى أن « اليتيمَ » منصوبٌ بالمجزوم ، وقد تقدَّم على الجازمِ ، ولو قَدَّمْتَ « تَقْهَرْ » على « لا » لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمِه ، كالمجرورِ لا يتقدَّمُ على جارِّه ، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند قولِه تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] . وقراءةُ العامَّةِ « تَقْهَرْ » بالقاف من الغلبةِ . وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف . يقال : كَهَرَ في وجهه ، أي : عَبَسَ . وفلان ذو كُهْرُوْرة ، أي عابسُ الوجه . ومنه الحديث « فبأبي وأمي هو ما كَهَرني » قاله الزمخشري . وقال الشيخ : « وهي لغةٌ بمعنى قراءةِ الجمهور » انتهى . والكَهْرُ في الأصل : ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : متعلقٌ ب حَدِّثْ ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك . وقد تقدَّم هذا .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)

قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ } : الاستفهامُ إذا دخل على النفي قَرَّره ، فصار المعنى : قد شَرَحْنا ، ولذلك عَطَفَ عليه الماضي . ومثلُه { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] . والعامَّةُ على جزمِ الحاء ب « لم » وقرأ أبو جعفر بفتحها . وقال الزمخشري : « وقالوا : لعلَّة بَيَّنَ الحاءَ وأشبعها في مَخْرَجِها ، فظنَّ السامعُ أنه فتحها » وقال ابن عطية : « إنَّ الأصلَ : ألم نَشْرَحَنْ » بالنونِ الخفيفةِ ، ثم أَبْدَلَها ألفاً ، ثم حَذَفَها تخفيفاً ، كما أنشد ابو زيد :
4597 مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ من الموتِ أفِرّْ ... أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ
بفتح راء « لم يُقْدَرَ » وكقولِه :
4598 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ... ضَرْبَكَ بالسيفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
بفتح باء « اضربَ » انتهى . وهذا مبنيٌ على جوازِ توكيدِ المجزومِ ب لم ، وهو قليلٌ جداً ، كقولِه :
4599 يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما ... شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّما
فتتركبُ هذه القراءةُ مِنْ ثلاثةِ أصولٍ كلُّها ضعيفةٌ؛ لأنَّ توكيدَ المجزومِ ب « لم » ضعيفٌ ، وإبدالُها أَلِفاً إنما هو الوقفِ ، وإجراءُ الوصلِ مجرى / الوقفِ خِلافُ الأصلِ ، وحَذْفُ الألفِ ضعيفٌ ، لأنه خلافُ الأصلِ . وخَرَّجه الشيخُ على لغةٍ حكاها اللحيانيُّ في « نوادره » عن بعضِ العربِ وهو الجزمُ ب « لن » ، والنصبُ ب « لم » عكسَ المعروفِ عند الناس ، وجعله أَحْسَنَ ممَّا تقدَّم . وأنشد قولَ عائشةَ بنتِ الأعجم تمدح المختار وهو القائمُ بطَلَبِ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما :
4600 قد كادَ سَمْكُ الهدى يُنْهَدُّ قائمُهُ ... حتى أتيحَ له المختارُ فانْعَمدا
في كلِّ ما هَمَّ أمضى رأيَه قُدُماً ... ولم يُشاوِرَ في إقدامِه أحدا
بنَصْبِ راء « يُشاور » وجَعَله محتمِلاً للتخريجَيْنِ .

الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)

قوله : { أَنقَضَ ظَهْرَكَ } : أي : حَمَله على النقيضِ وهو صوتُ الانتقاضِ والانفكاكِ لثِقَلِه ، مَثَلٌ لِما كان يُثْقِلُه صَلَّى الله عليه وسلَّم . قال أهل اللغة : أَنْقَضَ الحِمْلُ ظَهْرَ الناقةِ إذا سَمِعْتَ له صَريراً مِنْ شِدَّة الحِمْلِ . وسمِعْتُ نقيضَ الرَّحْلِ ، أي : صريرَه . قال العباس ابن مرداس :
4601 وأَنْقَضَ ظهري ما تَطَوَّيْتَ منهمُ ... وكنتُ عليهم مُشْفِقاً مُتَحَنِّناً
وقال جميل :
4602 وحتى تداعَتْ بالنَّقيضِ حِبالُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)

قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } : العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع ، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها . وفيه خلافٌ . هل هو أصلٌ ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في « العُسر » الأولِ لتعريف الجنس ، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس : « لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول : « لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » والسببُ فيه : أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو : « جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ » وكقولِه تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 1516 ] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول . فقوله : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل ، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه ب أل .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم . قلت : هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أوفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه ، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى ، كما كرَّر قولَه : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب ، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك : » جاء زيدٌ زيدٌ « وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف ، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو : إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ » زيد « في قولك : » إنَّ مع زيد مالاً ، إنَّ مع زيد مالاً « وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً ، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال » .
وقال أبو البقاء : « العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ ، وأمَّا » يُسْراً « في الموضعَيْنِ فاثنانِ ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام ، ومن هنا قيل : » لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن « وقال الزمخشري أيضاً : » فإنْ قلتَ : إنَّ « مع » للصحبة ، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت : أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب « وقال أيضاً : فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير؟ قلت : التفخيمُ كأنه قيل : إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصحفِ ابن مسعودٍ مرةٌ واحدٌ . فإنْ قلتَ : فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال : » والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه ، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن « قلت : » كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله « يُسْراً » مِنْ معنى التفخيم ، فتأوَّله ب « يُسْرِ الدارَيْن » وذلك يُسْران في الحقيقة « .

فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)

قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ } : العامَّةُ على فتحِ الراءِ مِنْ « فَرَغْتَ » وهي الشهيرةُ ، وقرأها أبو السَّمَّال مكسورةً ، وهي لُغَيَّةُ قال الزمخشري : « ليسَتْ بالفصيحة » وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ فيكف تعلَّق قولُه » فإذا فَرَغْتَ فانصَبْ « بما قبلَه؟ قلتُ : لَمَّا عَدَّد نِعَمَه السَالفةَ ووعْدَه الآنفةَ بعثَة على الشكرِ والاجتهادِ في العبادة . عن ابن عباسٍ : فإذا فَرَغْتَ مِنْ صلاتِك فانصَبْ في الدعاء » .
والعامَّةُ على فتحِ الصادِ وسكونِ الباء أمراً من النَّصَب وقُرئ بتشديدِ الباءِ متفوحةً أَمْراً من الأنْصباب ، وكذا قُرِئ بكسر الصاد ساكنةَ الباء أمراً من النَّصْب بسكون الصاد ، ولا أظن الأولى إلاَّ تصحيفاً ولا الثانيةَ إلاَّ تحريفاً فإنها تُرْوى عن الإِمامية . وتفسيرُها : فإذا فَرَغْتَ مِنْ النبوَّةِ فانْصِبِ الخليفة . قال ابن عطية : « وهي قراءةُ ضعيفةٌ شاذةٌ لم تَثْبُتْ عن عالمٍ » قال الزمخشري : « ومن البدعِ ما رُوي عن بعضِ الرافضةِ أنه قرأ » فانصِبْ « أي : انْصِبْ عليَّاً للإِمامة ، ولو صَحَّ هذا للرافِضِيِّ لصَحَّ للناصِبيِّ أن يَقْرأ هكذا ، ويجعَلَه أمراً بالنَّصبْ الذي هو بُغْضُ عليّ رضي الله عنه وعداوتُه » .

وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

قوله : { فارغب } : مِنْ الرَّغْبة وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة « فَرَغَّب » بتشديد العين . أمراً مِنْ رَغَّبَة بالتشديدِ ، اي : فَرَغِّب الناسَ إلى طلبِ ماعنده .

وَطُورِ سِينِينَ (2)

قوله : { وَطُورِ سِينِينَ } : الطُّور جَبَلٌ . وسينين : اسم مكانٍ فأُضيف الجبل للمكان الذي هو به . قال الزمخشري : « ونحو سِينون يَبْرُوْن في جواز الإِعرابِ بالواو والياء والإِقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بحركات الإِعراب » وقال أبو البقاء : « هو لغةٌ في سَيْناء » انتهى . وقرأ العامَّةُ بكسرِ السين . وابنُ أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاءٍ بفتحها ، وهي لغةُ بكرٍ وتميم . وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله والحسن وطلحة « سِيْناءَ » بالكسر ، والمد ، وعمرُ أيضاً وزيدُ بن علي بفتحِها والمدِّ ، وقد ذُكِرا في المؤمنين ، وهذه لغاتٌ اختلفَتْ في هذا الاسمِ السُّرْيانيِّ على عادةِ العرب في تلاعُبها بالأسماء الأعجميةِ . وقال الأخفش : « سينين شجرٌ ، الواحدةُ سِيْنِية » وهو غريبٌ جداً غيرُ معروفٍ عن أهلِ التفسير .

وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)

قوله : { الأمين } : هذا فَعيل للمبالغةِ ، أي : أمِنَ مَنْ فيه ، ومَنْ دخله مِنْ إنسِيّ وطيرٍ وحيوانٍ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ أَمُنَ الرجلُ بضمِ الميم أمانةً فهو أمينٌ ، وأمانتُه . حِفْظُه مَنْ دَخَله كما يَحْفَظُ الأمينُ ما يُؤْتَمَنُ عليه . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مَفْعول ، مِنْ أَمِنَة لأنه مأمونُ الغَوائل .

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا } : هذا هو المُقْسَمُ عليه .
قوله : { في أَحْسَنِ تَقْوِيم } صفةٌ لمحذوفٍ ، أي : في تقويمٍ أحسنِ تقويم . وقال أبو البقاء : في أحسنِ تقويم في موضع الحالِ من « الإِنسان » وأراد بالتقويمِ القَوام لأنَّ التقويمَ فِعْلٌ وذاك وَصْفٌ للخالقِ لا للمخلوقِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : في أحسنِ قَوامِ التقويمِ ، فحُذِف المضافُ . ويجوزُ أَنْ تكونَ « في » زائدةً ، اي : « قَوَّمْناه أحسنَ تقويم » انتهى ، ولا حاجةَ إلى هذه التكلُّفاتِ

ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)

قوله : { أَسْفَلَ سَافِلِينَ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أنه حالٌ من المفعول . والثاني : أنه صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ ، أي : مكاناً أسفلَ سافِلين وقرأ عبد الله « السَّافِلين » معرَّفاً .

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)

قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } : فيه وجهان أحدُهما : أنه متصلٌ على أنَّ المعنى : رَدَدْناه أسفلَ مِنْ سِفْلٍ خلْقاً وتركيباً يعني : أقبحَ مِنْ خَلْقِه وأَشْوَهَه صورةً ، وهم أهلُ النار فالاتصالُ على هذا واضحٌ ، والثاني : أنه منقطعٌ على أنَّ المعنى : ثم رَدَدْناه بعد ذلك التقويم والتحسينِ أسفَل مِنْ سِفْل في أحسنِ الصورةِ والشكلِ حيث نَكَّسْناه في خلْقِه فقوَّسَ ظهرُه وضَعُفَ بصرُه وسَمْعُه . والمعنى : ولكن الذين كانوا صالحين مِنْ الهرمى فلهم ثوابٌ دائمٌ ، قاله الزمخشري ملخصاً .

فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)

قوله : { فَمَا يُكَذِّبُكَ } : « ما » استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء . والخبرُ الفعلُ بعدها ، والمخاطَبُ الإِنسانُ على طريقةِ الالتفاتِ وقيل : المخاطَبُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى الأولِ يكون المعنى : فما يجعلك كاذباً بسبب الدِّين وإنكارِه بعد هذا الدليل ، يعني أنك تُكَذِّب إذا كَذَّبْتَ بالجزاءِ؛ لأنَّ كلَّ مكذِّب بالحق فهو كاذبٌ فأيُّ شيءٍ يَضْطَرُّكَ إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ والباءُ مِثْلُها في قولِه تعالى : { على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] . وعلى الثاني يكون المعنى : فماذا الذي يُكَذِّبُكَ فيما تُخْبِرُ به مِنْ الجزاء والبعث وهو الدِّين بعد هذه العِبَرِ التي يُوْجِبُ النظرُ فيها صحةَ ما قلتَ؟ قاله الفراء والأخفش .

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)

قوله : { اقرأ } : العامَّةُ على سكونِ الهمزةِ أمراً مِنْ القراءةِ . وقرأ عاصم في روايةِ الأعشى براءٍ مفتوحةٍ ، وكأنه قَلَبَ الهمزةَ ألفاً كقولِهم : قرا يَقْرا نحو : سعَى يَسْعى ، فلمَّا أَمَرَ منه حَذَفَ الألفَ على حَدِّ حَذْفِها مِنْ اسْعَ ، وهذا كقولِ زهير :
4603 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يُظْلَمِ
وقد تقدَّمَ تحريرُه .
قوله : { باسم رَبِّكَ } : يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ تكونَ الباءُ للحال ، أي : اقرأ مُفْتِتحاً باسمِ ربِّك ، قل باسم الله ، ثم اقرَأْ ، قاله الزمخشري . الثاني : انَّ الباءَ مزيدةٌ والتقدير : اقرأ اسمَ ربِّك ، كقولِه :
4604 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُوْدُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وقيل : الاسمُ صلةٌ ، أي : اذكُرْ ربَّك ، قالهما ابو عبيدة . الثالث : أنَّ الباءَ للاستعانةِ والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه : اقرَأْ ما يوحى إليك مُسْتعيناً باسمِ ربِّك . الرابع : أنها بمعنى « على » ، أي : اقرأْ على اسمِ ربِّك كما في قولِه : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله } [ هود : 41 ] قاله الأخفش ، وقد تَقَدَّم أولَ هذا الموضوع : كيف قَدَّمَ هذا الفعلَ على الجارِّ وقُدِّرَ متأخراً في بسم الله الرحمن الرحيم وتخريجُ الناسِ له ، فأغنى عن إعادَتِه .
قوله : { الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان } يجوزُ أَنْ يكونَ « خَلَقَ » الثاني تفسيراً ل « خَلَقَ » الأول يعني انه أَبْهمه أولاً ، ثم فَسَّره ثانياً بخَلْقِ الإِنسانِ تفخيماً لخَلْقِ الإِنسانِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ المفعولَ مِنْ الأولِ ، تقديرُه : خَلَقَ كلَّ شيءٍ لأنَّه مُطْلَقٌ فيتناوَلُ كلَّ مخلوق .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)

وقوله : { خَلَقَ الإنسان } : تخصيصٌ له بالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ ما يتناوَلُه الخَلْقُ؛ لأنَّ التنزيلَ إليه . ويجوزُ اَنْ يكونَ تأكيداً لفظياً ، فيكونُ قد أكَّد الصلةَ وحدَها ، كقولك : « الذي قام قام زيدٌ » والمرادُ بالإِنسانِ الجنسُ ولذلك قال : { مِنْ عَلَقٍ } جمعَ عَلَقة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مخلوقٌ مِنْ عَلَقَةٍ كما في الآية الآخرى .

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

وقوله : { الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } : قريبٌ مِنْ قولِه : « خَلَق ، خلَق الإِنسانَ » فلكَ أَنْ تُعيدَ فيه ما تقدَّم .

أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)

قوله : { أَن رَّآهُ } : « أنْ » مفعولٌ له ، أي : لرؤيتِه نفسَه مُسْتَغْنياً . وتعدى الفعلُ هنا إلى ضميرَيْه المتصلَيْن؛ لأنَّ هذا مِنْ خواصِّ هذا البابِ . قال الزمخشري : « ومعنى الرؤيةِ العِلْمُ لو كانَتْ بمعنى الإِبصارِ لامتنعَ في فِعْلِها الجمعُ بين الضميرَيْن ، و » استغنى « هو المفعول الثاني » . قلت : والمسألةُ فيها خلافٌ : ذهب جماعةٌ إلى أنَّ « رأى » البَصَرية تُعْطي حُكْمَ العِلْمَّية ، وجَعَل مِنْ ذلك قولَ عائشةَ - رضي اللَّهُ عنها - « لقد رَأَيْتُنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعامٌ إلاَّ الأسْوَدان » وأنشد :
4605 ولقد أَراني للرِّماح دَرِيْئَةً ... مِنْ عَنْ يمين تارةً وأمامي
وتقدَّم تحقيقُه . وقرأ قنبل بخلافٍ عنه « رَأَه » دونَ ألفٍ بعد الهمزة وهو مقصورٌ مِنْ « رآه » في قراءةِ العامَّةِ ، ولا شكَّ أنَّ الحَذْفَ في مثلِه جاء قليلاً كقولِهم : « اصابَ الناسَ جَهْدٌ ، ولو تَرَ أهلَ مكةَ » بحَذْفِ لامِ « ترى » وقولِ الآخرِ :
4606 وَصَّانِيَ العَجَّاجُ فيما وَصَّني ... يريد : وصَّاني ولَمَّا روى ابن مجاهد هذه القراءةَ عن قنبل وقال : « قرأتُ بها عليه » نَسَبه فيها إلى الغلظ . ولا يَنْبغي ذلك لأنه إذا ثبتَتْ قراءةً ولها وجهٌ وإنْ كان غيرُه أشهرَ منه فلا يَنْبغي أَنْ يُقْدِمَ على تَغْليِطِه .

أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)

قوله : { أَرَأَيْتَ الذي } : قد تقدَّم لك الكلامُ على هذا الحرفِ مُسْتوفى ، وللزمخشريِّ هنا كلامٌ رَأَيْتُ ذِكْرَه لخصوصيَّةٍ تَتَعلَّقُ به قال : « فإن قلتَ : ما متعلَّقُ » أَرَأَيْت «؟ قلت : » الذي يَنْهى « مع الجملةِ الشرطيةِ وهما في موضعِ المفعولَيْنِ . فإن قلت : فأين جوابُ الشرط؟ قلت : هو محذوفٌ تقديرُه : إنْ كان على الهدى أو أمرَ بالتقوى ألم يعلَمْ بأنَّ اللَّهَ يرى ، وإنما حُذِفَ لدلالةِ ذِكْرِه في جوابِ الشرطِ الثاني . فإنْ قلتَ : كيف صََحَّ أَنْ يكونَ » ألم يعلَمْ « جواباً للشرِط؟ قلت : كما صَحَّ في قولِك : إنْ أَكْرَمْتُك أتكرِمُني ، وإن أَحْسَنَ إليك زيدٌ هل تُحْسِنُ إليه؟ فإنْ قلتَ : فما أَرَأَيْتَ الثانيةُ وتوسُّطُها بين معفولَيْ » أَرَأَيْتَ «؟ قلت : هي زائدةٌ مكررةٌ للتوكيد » قلت : وإذ قد تَعَرَّض للكلامِ في هذه الآية فَلْنَجْرِ معه :
أعلَمْ أَنَّ « ارَأَيْتَ » – كما عَلِمْتَ – لا يكونُ مفعولُها الثاني إلاَّ جملةً استفهاميةً كقولِه : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } [ يونس : 50 ] إلى آخرِها . ومثلُه كثيرٌ ، وهنا « أرَأَيْتَ » ثلاثَ مراتٍ ، وقد صَرَّحَ بعد الثالثةِ منها بجملةٍ استفهاميةٍ فتكونُ في موضعِ المفعولِ الثاني لها ، ومعفولُها الأولُ محذوفٌ ، وهو ضميرٌ يعودُ على « الذي ينهى » الواقعِ مفعولاً أولَ ل « أَرَأَيْتَ » الأولى ، ومفعولُ « أَرَأيْتَ » الأولى الذي هو الثاني محذوفٌ ، وهو جملةٌ استفهاميةٌ ، كالجملةِ الواقعةِ بعد « أَرَأَيْتَ » الثالثةِ وأمَّا « أرأَيْتَ » الثانية فلم يُذْكَرْ لها مفعولٌ لا أولُ ولا ثانٍ ، حُذِف الأولُ لدلالة المفعولِ مِنْ « أَرَأَيْتَ » الأولى عليه ، وحُذف الثاني لدلالة مفعولِ « أَرَأَيْتَ » الثالثةِ عليه ، فقد حُذِف الثاني مِنْ الأولى ، والأولُ من الثالثةِ ، والاثنان مِنْ الثانيةِ . وليس طَلَبُ كلٍ مِنْ « أَرَأَيْتَ » للجملةِ الاسميةِ على سبيلِ التنازع لأنه يَسْتدعي إضماراً ، والجملُ لا تُضْمَرُ ، إنما تُضْمَرُ المفردات ، وإنما ذلك مِنْ بابِ الحَذْفِ للدلالةِ . وأمَّا الكلامُ على الشرطِ مع « أَرَأَيْتَ » هذه فقد عَرَفْتَه ممَّا في الأنعام في نُطيل الكلامَ بإعادتِه . وتجويزُ الزمخشريِّ وقوعَ جوابِ الشرط استفهاماً بنفسِه لا يجوزُ ، بل نَصُّوا على وجوبِ ذِكْرِ الفاءِ في مثله ، وإن وَرَدَ شيءٌ فهو ضرورةٌ .

كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)

قوله : { لَنَسْفَعاً } : الوقفُ على هذه النونِ بالألفِ ، تشبيهاً لها بالتنوين ، وكذلك يُحْذَفُ بعد الضمة والكسرة وقفاً . وتكتب ههنا ألفاً إتباعاً للوقف . ورُوِي عن أبي عمروٍ « لَنَسْفَعَنَّ » بالنونِ الثقيلةِ . والسَّفْعُ : الأَخْذُ والقَبْضُ على الشيءِ بشدةٍ وجَذْبه . وقال عمرو بن معد يكرب :
4607 قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأَيْتَهُمْ ... ما بين مُلْجمِ مُهْرِه أو سافعِ
وقيل : هو الأَخْذُ بلغةِ قريشٍ . وقال الراغب : « السَّفْعُ : الأخْذُ بسُفْعِه الفَرَس ، أي : بسَوادِ ناصيتِه ، وباعتبار السوادِ قيل للأثافيّ : » سُفْعٌ « وبه سُفْعَةُ غَضَبٍ ، اعتباراً بما يَعْلُو من اللون الدُّخاني وَجْهَ مَنْ اشتدَّ به الغضبُ ، وقيل : للصَّقْر : » أسْفَعُ « لِما فيه مِنْ لَمْعِ السَّوادِ ، وامرأةٌ سَفْعاءُ اللونِ » انتهى . وفي الحديث : « فقامَتِ امرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْن » .

نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)

قوله : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ } : بدلٌ من الناصية بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ . قال الزمخشري : « وجاز بَدَلُها عن المعرفةِ وهي نكرةٌ لأنَّها وُصِفَتْ فاسْتَقَلَّتْ بفائدةٍ » قلت : هذا مذهبُ الكوفيين لا يُجيزون إبدال نكرةٍ مِنْ غيرها إلاَّ بشرط وَصْفِها أو كونِها بلفظِ الأولِ ، ومذهبُ البصريين لا يَشْتَرِطُ شيئاً ، وأنشدوا :
4608 فلا وأبيك خيرٍ منك إنِّي ... لَيُوْذِيْنيْ التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلةَ وزيدُ بن علي بنصبِ « ناصيةً كاذبةً خاطئةً » على الشتم . وقرأ الكسائي في روايةٍ بالرفع على إضمارِ : هي ناصية : ونَسَبَ الكَذِبَ والخَطَأَ إليها مجازاً . والألفُ واللامُ في الناصية قيل : عِوَضٌ من الإِضافةِ ، أي : بناصيتِه . وقيل : الضميرُ محذوفٌ ، أي : الناصية منه .

فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)

قوله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } : إمَّا أَنْ يكون حَذْفِ مضاف ، أي : أهلَ نادِيه أو على التجوُّز في نداءِ النادي لاشتمالِه على الناس كقوله : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] . والنادي والنَّدِيُّ : المَجْلِسُ المُتَّخَذُ للحديث . قال زهير :
4609 وفيهم مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهُمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
وقالت أعرابية : « هو سَيِّدُ ناديه وثمالُ عافية » .

سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)

قوله : { الزبانية } : قال الزمخشري : « الزَّبانية في كلامِ العربِ : الشُّرَطُ ، الواحد زِبْنِيَة كعِفْرِية ، مِنْ الزَّبْن وهو الدفعُ . وقيل : زِبْنيّ وكأنه نُسِبَ إلى الزَّبْن ، ثم غُيِّر للنَّسَبِ ، كقولهم : إمْسيّ وأصلُه زَبانيّ فقيل : زبانِيَة على التعويض » وقال عيسى بن عمر والأخفش : « واحدُهم زابِن : وقيل : لا واحدَ له مِنْ لفظِه كعَباديد وشماطيط » والحاصلُ أنَّ المادةَ تَدُلُّ على الدَّفْعِ قال :
4610 مطاعيمُ في القُصْوى مطاعينُ في الوغَى ... زبانيَةٌ غُلْبٌ عِظامٌ حُلُومُها
وقال آخر :
4611 ومُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يرى مِنْ أناتِنا ... ولو زَبَنَتْه الحَرْبُ لم يَتَرَمْرَمِ
وقال عتبة : « وقد زبَنَتْنا الحربُ وزبَنَّاها » ومنه الزُّبون لأنَّه يُدْفع مِنْ بائعٍ إلى آخر . وقرأ العامَّة « سَنَدْعُ » بنونِ العظمة ولم تُرْسَمْ بالواو ، وقد تقدَّم نظيرُه نحو : « يَدْعُ الداعِ » . وقرأ ابنُ أبي عبلة « سيدعى الزبانيةُ » مبنياً للمعفولِ ورَفْعُ الزَّبانية لقيامِها مقامَ الفاعل .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)

قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } : أي : القرآن ، أُضْمِرَ للِعْلمِ به . و « في ليلةِ القَدْر » يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً للإِنزالِ . وفي التفسير : أنه أَنْزَلَه إلى السماءِ الدنيا في هذه الليلةِ . ثم نَزَلَ مُنَجَّماً إلى الأرض في عشرينَ سنة . وقيل : المعنى : أَنْزَلَ في شأنها وفَضْلِها . فليسَتْ ظرفاً ، وإنما هو كقولِ عُمَرَ : « خَشِيْتُ أَنْ يَنْزِلَ فيَّ قرأنٌ » وقولِ عائشة : « لأَنا أَحْقُر في نفسي أَنْ يَنْزِل فيَّ قرآنٌ » وسُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ : إمَّا لتقديرِ الأمور فيها ، وإمَّا لضِيقِها بالملائكةِ .

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)

قوله : { والروح فِيهَا } : يجوزُ أَنْ يرتفعَ « الرُّوحُ » بالابتداءِ ، والجارُّ بعدَه الخبرُ ، وأن يرتفعَ بالفاعليةِ عطفاً على الملائكةِ ، و « فيها » متعلِّقٌ ب « تَنَزَّلُ »
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِم } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « تَنَزَّلُ » وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من المرفوع ب « تَنَزَّلُ » أي ملتبساً بإذن ربِّهم .
قوله : { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } يجوزُ في « مِنْ » وجهان ، أحدهما : أنها بمعنى اللام . ويتعلَّقُ ب « تَنَزَّلُ » ، أي : تَنَزَّلُ مِنْ أجلِ كلِّ أمرٍ قُضي إلى العامِ القابل : والثاني : أنَّها بمعنى الباء ، أي : تتنزَّلُ بكلِّ أمرٍ ، فهي للتعدية ، قاله أبو حاتم . وقرأ العامَّةُ « أَمْرٍ » واحدُ الأمور . وابن عباس وعكرمة والكلبي « امْرِئٍ » مُذ‍كَّرُ امرأة ، أي : مِنْ أجلِ كلِّ إنسانٍ . وقيل : مِنْ أجل كلِّ مَلَكٍ ، وهو بعيدٌ . وقيل : « مِنْ كلِّ أَمْرٍ » ليس متعلقاً ب « تَنَزَّلُ » إنما هو متعلِّقٌ بما بعده ، أي : هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ مَخُوفٍ ، وهذا لا يتمُّ على ظاهرِه لأنَّ « سَلامٌ » مصدرٌ لا يتقدَّم عليه معمولُه ، وإنما المرادُ أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه هذا المصدرُ .

سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

قوله تعالى : { سَلاَمٌ هِيَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « هي » ضمير الملائكة ، و « سلام » بمعنى التسليم ، أي : الملائكة ذاتُ تَسْليمٍ على المؤمنين . وفي التفسير : أنهم يُسَلِّمون تلك الليلةَ على كلِّ مؤمنِ ومؤمنة بالتحية . والثاني : أنها ضميرُ ليلةِ القَدْرِ ، وسلامٌ بمعنى سَلامة ، أي : ليلةُ القَدْرِ ذاتُ سلامةٍ مَنْ شيءٍ مَخْوفٍ . ويجوزُ على كلٍ من التقديرَيْن أَنْ يرتفعَ « سلامٌ » على أنه خبرٌ مقدمٌ ، و « هي » مبتدأٌ مؤخرٌ ، وهذا هو المشهورُ ، وأنْ يرتفع بالابتداء و « هي » فاعلٌ به عند الأخفشِ ، لأنه لا يَشْتَرِطُ الاعتمادَ في عَمَلِ الوصفِ . وقد تقدَّم أَنْ بعضَهم يجعلُ الكلامُ تامَّاً على قولِه { بِإِذْنِ رَبِّهِم } ويُعَلِّقُ « مِنْ كلِّ أمرٍ » بما بعدَه ، وتقدَّم تأويلُه .
وقال أبو الفضل : « وقيل : معناه : هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ أو امرئٍ ، أي : سالمةٌ أو مُسَلَّمةٌ منه . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ » سلامٌ « - هذه اللفظةُ الظاهرةُ التي هي المصدر - عاملاً فيما قبله لامتناع تقدُّمِ معمولِ المصدرِ على المصدرِ ، كما أنَّ الصلةَ كذلك ، لا يجوزُ تقديمُها على الموصول » انتهى . وقد تقدَّم أنَّ معنى ذلك عند هذا القائلِ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ مَدْلولٍ عليه ب « سَلام » فهو تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ . وما يروى عن ابنِ عباس أنَّ الكلامَ تَمَّ على قولِه تعالى { سلامٌ } ويُبْتدأ ب « هي » على أنَّها خبرُ مبتدأ ، والإِشارةُ ب « ذلك » إلى أنها ليلةُ السابعِ والعشرين ، لأن لفظةَ « هي » سابعةٌ وعشرون مِنْ كَلِمِ هذه السورةِ ، وكأنَّه قيل : ليلةُ القدر الموافقةُ في العددِ لفظةَ « هي » مِنْ كِلَمِ هذه السورةِ ، فلا ينبغي أن يُعْتَقَدَ صحتُه لأنه إلغازٌ وتبتيرٌ لنَظْم فصيحِ الكلامِ .
قوله : { هِيَ حتى مَطْلَعِ } متعلِّقٌ ب « تَنَزَّلُ » أو ب « سَلامٌ » وفيه إشكالٌ للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ ، إلاَّ يُتَوَسَّعَ في الجارِّ . وفي التفسير : أنهم لا يَزالون يُحَيُّون الناس المؤمنين حتى يَطْلُعَ الفجرُ . وقرأ الكسائي « مَطْلِعِ » بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، والفتح هو القِياسُ والكسرُ سماعٌ ، وله أخوات يُحْفَظُ فيها الكسرُ ممَّا ضُمَّ مضارعُه أو فُتح نحو : المَشْرِق والمَجْزِر . وهل هما مصدران أو المفتوحُ مصدرٌ والمكسور مكانٌ؟ خِلافٌ . وعلى كلِّ تقديرٍ فالقياسُ في المَفْعِل مطلقاً مِمَّا ضُمَّتْ عينُ مضارعِه أو فُتِحَتْ فَتْحُ العينِ ، وإنما يقعُ الفرقُ في المكسور العينِ الصحيح نحو : يَضْرِب .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)

قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } : متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ مِنْ فاعل « كفروا » .
قوله : { والمشركين } : العامَّةُ على قراءةِ « المشركين » بالياء عطفاً على « أهل » قَسَّمَ الكافرين إلى صِنْفَيْن : أهلِ كتابٍ ومشركين . وقرئ « والمشركون » بالواو نَسَقاً على « الذين كفروا » .
قوله : { مُنفَكِّينَ } خبرُ يكون . ومُنْفَكِّينَ اسمُ فاعلٍ مِنْ انْفَكَّ . وهي هنا التامَّةُ ، فلذلك لم يَحْتَجْ إلى خبرٍ . وزعم بعضُهم أنها هنا ناقصةٌ وأنَّ الخبرَ مقدرٌ تقديره : منفكِّين عارفين أَمْرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم . قال الشيخ : « وحَذْفُ خبرِ كان [ وأخواتِها ] لا يجوزُ اقتصاراً ولا اختصاراً ، وجعلوا قولَه :
4612- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَبْغي جِوارَكِ حينَ ليسَ مُجِيرُ
أي : في الدنيا ضرورةً » قلت : وَجْهُ مَنْ منع ذلك أنه قال : صار الخبرُ مطلوباً من جهتَيْن : مِنْ جهة كونِه مُخْبَراً به فهو أحدُ جُزْأي الإِسناد ، ومِنْ حيث كونُه منصوباً بالفعلِ . وهذا مُنْتَقَضٌ بمعفولَيْ « ظنَّ » فإنَّ كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ، ومع ذلك يُحْذَ‍فان - أو أحدُهما - اختصاراً ، وأمَّا الاقْتصارُ ففيه خِلافٌ وتفصيلٌ مر‍َّ تفصيلُه في غضونِ هذا التصنيفِ .
قوله : { حتى تَأْتِيَهُمُ } : متعلقةٌ ب « لم يكنْ » أو ب « مُنْفَكِّين » .

رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)

قوله : { رَسُولٌ } : العامَّةُ على رفعِه بدلاً من « البيِّنة » : إمَّا بدلَ اشتمالٍ ، وإمَّا كلٍ مِنْ كل على سبيلِ المبالغة ، جَعَلَ الرسولَ نفسَ البيِّنة ، أو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بَيِّنَةُ رسولٍ . ويجوزُ رَفْعُه على خبرِ ابتداء مضمرٍ ، أي : هي رسولٌ . وقرأ عبد الله وأُبَيّ « رسولاً » على الحالِ من البيِّنة . والكلامُ فيها على ما تقدَّم من المبالغة أو حذف المضافِ .
قوله : { مِّنَ الله } يجوزُ تعلُّقُه بنفس « رسولٌ » أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « رسول » وجَوَّز أبو البقاء وجهاً ثالثاً وهو : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « صُحُفاً » والتقدير : يتلُو صُحُفاً مطهَّرة منزَّلةً مِنْ الله ، يعني كانت في الأصل صفةً للنكرة فلَّما تقدَّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً .
قوله : { يَتْلُو } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل « رسول » ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضمير في الجارِّ قبلَه إذا جَعَلْتَه صفةً ل « رسول » .

فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

قوله : { فِيهَا كُتُبٌ } : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً صفةً ل « صُحُفاً » ، أو حالاً مِنْ ضمير « مُطَهَّرَة » وأَنْ يكونَ الوصفُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فقط ، و « كُتُبٌ » فاعلٌ به ، وهو الأحسنُ .

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)

قوله : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } : العامَّةُ على كَسْرِ اللامِ اسمَ فاعلٍ ، وانتصب به « الدّينَ » والحسن بفتحِها على معنى : أنهم يُخْلِصون هم أنفسهم في نياتهم ، وانتصب « الدينَ » على أحدِ وجهَيْن : إمَّا إسقاطِ الخافضِ ، أي : في الدين ، وإمَّا على المصدر من معنى : ليَعْبُدوا ، كأنه قيل : ليَدينوا الدينَ ، أو ليعبدوا العبادةَ ، فالتجوُّز : إمَّا من الفعلِ ، وإمَّا في المصدر ، وانتصابُ « مُخْلِصِين » على الحال مِنْ فاعل « يعبدون » .
قوله : { حُنَفَآءَ } حالٌ ثانيةٌ أو حال من الحالِ قبلَها ، أي : من الضمير المستكنِّ فيها . وقوله : { وَمَآ أمروا } ، أي : وما أُمِروا بما أُمِروا به إلاَّ لكذا وقرأ عبد الله « وما أُمِروا إلاَّ أَنْ يَعْبُدوا » أي : بأَنْ يَعْبدوا . وتحريرُ مثلِها في قوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين } [ الآية : 71 ] في الأنعام .
وقوله : { وَذَلِكَ دِينُ القيمة } أي : الأمَّةُ أو المِلَّةُ القيمةُ ، أي : المستقيمة . وقيل : الكتبُ القَيِّمة؛ لأنها قد تقدَّمَتْ في الذِّكْرِ ، قال تعالى : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } [ البينة : 3 ] ، فلَّما أعادها أعادَها مع أل العهديةِ كقوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 16 ] وهو حسنٌ ، قاله محمد بن الأشعت الطالقاني وقرأ عبد الله : « وذلك الدِّين القيمةِ » ، والتأنيثُ حينئذٍ : إمَّا على تأويلِ الدٍّين بالمِلة كقوله :
4613 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أسدٍ ما هذه الصَوْتُ
بتأويل الصيحة ، وإمَّا على أنها تاءُ المبالغةِ كعَلاَّمة .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)

قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } : كما مَرَّ في أول السورة . وقولُه : « في نارِ » هذا هو الخبرُ ، و « خالدين » حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)

قوله : { البرية } : قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان « البَريئة » بالهمزِ في الحرفَيْن ، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ . واخْتُلِف في ذلك الهمز ، فقيل : هو الأصلُ ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ ، وإنما خُفِّفَتْ ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ . وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها : النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة . وقيل : بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا ، وهو الترابُ ، فهي أصلٌ بنفسِها ، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال : « وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ » انتهى . يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان ، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ ، فقيل : مِنْ بَرَأَ ، أي : خَلَق ، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه ، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ ، وهو جميعُ الخَلْقِ . ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً .
وقرأ العامَّةُ « خيرُ البَرِيَّة » مقابلاً لشَرّ . وعامر بن عبد الواحد « خِيارُ » وهو جمع خَيِّر نحو : جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب ، قاله الزمخشري .

جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

قوله : { خَالِدِينَ } : حالٌ عاملُه محذوفٌ ، أي : دَخَلوها أو أُعْطُوها . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « هم » في « جزاؤهم » لئلا يلزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بأجنبي . على أنَّ بعضَهم أجازه منهم ، واعتذروا : بأن المصدرَ هنا غيرُ مقدَّرٍ بحرفٍ مصدري . قال أبو البقاء : « وهو بعيد » وأمَّا « عند » فيجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « جزاؤهم » ، وأَنْ يكونَ ظرفاً له . و « أبداً » ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بخالدين .
قوله { رِّضِىَ الله عَنْهُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ دعاءً مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ حالاً بإضمار « قد » عند مَنْ يلتزمُ ذلك .
قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ } : أي : ذلك المذكورُ مِنْ استقرارِ الجنةِ مع الخلودِ ورِضا الله عنه لِمَنْ خَشِيَ به .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)

قوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ } : « إذا » شرطٌ ، وجوابُها « تُحَدِّثُ » وهو الناصبُ لها عند الجُمهورِ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ العاملُ فيها « يَصْدُرُ » وغيرُهم يجعلُ العاملَ فيها ما بعدَها ويَليها ، وإنْ كان معمولاً لها بالإِضافةِ تقديراً ، واختاره مكي ، وجَعَلَ ذلك نظيرَ « مَنْ » و « ما » يعني أنَّهما يَعْملان فيما بعدَهما الجزمَ ، وما بعدَهما يعملُ فيهما النصبَ ، ولو مثَّل بأَيّ لكان أوضحَ . وقيل : العاملُ فيها مقدَّرٌ ، أي : يُحْشَرون . وقيل : اذكُرْ ، وحينئذٍ تَخْرُج عن الظرفية والشرط .
قوله : { زِلْزَالَهَا } مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . والمعنى : زِلْزالَها الذي تَسْتَحقه ويَقْتضيه جِرْمُها وعِظَمُها . قال الزمخشري : « ونحُوه : أكرِمِ التقيَّ إكرامَه ، وأَهِنِ الفاسِقَ إهانتَه ، أو زِلْزالَها كلَّه » والعامَّةُ بكسر الزايِ .
والجحدريُّ وعيسى بفتحِها . فقيل : هما مصدران بمعنى . وقيل : المكسورُ مصدرٌ ، والمفتوحُ اسمٌ . قال الزمخشري : « وليس في الأبنية فَعْلال بالفتح إلاَّ في المضاعَفِ » قلت : وقد جَعَلَ بعضُهم المفتوحَ بمعنى اسمِ الفاعل نحو : صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِل ، وقد تقدَّم ذلك . وقوله : « ليس في الأبنية فَعْلال » يعني غالباً ، وإلاَّ فقد وَرَدَ : « ناقةٌ خَزْعال » .

وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)

قوله : { مَا لَهَا } : ابتداءٌ وخبرٌ ، وهذا يَرُدُّ قول مَنْ قال : إنَّ الحالَ في نحو { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] لازِمَةٌ لئلا يصيرَ الكلامُ غير مفيدٍ ، فإنه لا حالَ هنا .

يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } : أي : يومَ إذ زُلْزِلَتْ . والعاملُ في « يومئذٍ » « تُحَدِّثُ » إنْ جَعَلَتْ « إذا » منصوبةٌ بما بعدها أو بمحذوفٍ ، وإن جَعَلْتَ العاملَ فيها « تُحَدِّثُ » كان « يومئذٍ » بدلاً منها ، فالعاملُ فيه العاملُ فيها ، أو شيءٌ آخرُ لأنه على نيةِ تكرارِ العاملِ . خلافٌ مشهورٌ .

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)

قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ } : متعلِّقٌ ب « تُحَدِّثُ » أي : تُحَدِّثُ . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ « أخبارَها » وقيل : الباءُ زائدةٌ ، وأنَّ وما في حَيِّزها بدلٌ من « أخبارَها » وقيل : الباءُ سببيةٌ ، أي : بسبب إيحاءِ اللَّهِ تعالى إليها . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : أين مفعولاً » تُحَدِّثُ «؟ قلت : حُذِفَ أَوَّلُهما ، والثاني : » أخبارَها « ، وأصله : تُحَدِّث الخلقَ أخبارَها . إلاَّ أنَّ المقصودَ ذِكْرٌ تَحْديثِها الأخبارَ لا ذِكْرُ الخَلْقِ تعظيماً لليوم . فإنْ قلت : بمَ تَعَلَّقَتِ الباءُ في قولِه » بأنَّ ربَّك «؟ قلت : بتُحَدِّثُ؛ لأنَّ معناه : تُحَدِّثُ أخبارَها بسببِ إيحاءِ رَبِّك . ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى : تُحَدِّثُ ربَّك بتحديثِ أنَّ ربَّك أوحى لها أخبارَها ، على أنَّ تَحْديثَها بأنَّ ربَّك أوحى لها تَحْديثٌ بأخبارِها ، كما تقول : نَصَحْتَني كلَّ نصيحة بأَنْ نَصَحْتَني في الدين » قال الشيخ : « وهو كلامٌ فيه عَفْشٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه » . قلت : وأيُّ عَفْشٍ فيه مع صِحَّته وفصاحتِه؟ ولكنْ لَمَّا طالَ تقديرُه مِنْ جهةِ إفادتِه هذا المعنى الحسنَ جَعَله عَفْشاً وحاشاه .
ثم قال الزمخشريُّ : « ويجوزُ أَنْ يكونَ » بأنَّ ربَّك « بدلاً مِنْ » أخبارَها « كأنه قيل : يومئذٍ تُحَدِّثُ بأخبارِها بأنَّ ربَّك أوحى لها؛ لأنَّك تقول : حَدَّثْتُه كذا ، وحَدَّثْتُه بكذا » قال الشيخ : « وإذا كان الفعلُ يتعدَّى تارةً بحرفِ جرٍّ ، وتارةً يتعدى بنفسِه ، وحرفُ الجرِّ ليس بزائدٍ ، فلا يجوزُ في تابِعه إلاَّ الموافقةُ في الإِعرابِ فلا يجوز : » استغفَرْتُ الذنبَ العظيمِ « بنصبِ » الذنبَ « وجَرِّ » العظيم « لجواز أنَّك تقولُ » من الذنب « ، ولا » اخْتَرْتُ زيداً الرجالَ الكرامِ « بنصبِ الرجالَ » وخَفْضِ الكرامِ « ، وكذلك لا يجوزُ اَنْ تقولَ : » استغفرتُ من الذنبِ العظيمَ « بنصبِ » العظيمَ « وكذلك في » اخْتَرْتُ « فلو كان حرفُ الجر زائداً جاز الإِتباعُ على موضعِ الاسمِ بشروطهِ المحررةِ في علمِ النحوِ تقول : » ما رأيتُ مِنْ رجلٍ عاقلاً « لأنَّ » مِنْ « زائدةٌ ، » ومِنْ رجل عاقلٍ « على اللفظِ ، ولا يجوز نَصْبُ » رجل « وجَرُّ » عاقل « على جوازِ مراعاةِ دخولِ » مِنْ « ، وإنْ وَرَدَ شيءٌ مِنْ ذلك فبابُه الشِّعْرُ » انتهى . ولا أَدْري كيف يُلْزِمُ الزمخشريَّ ما أَلْزَمَه به من جميعِ ِالمسائلِ التي ذكَرَها ، فإنَّ الزمخشريِّ يقول : إنَّ هذا بدلٌ مِمَّا قبلَه ، ثم ذَكَرَ مُسَوِّغَ دخولِ الباءِ في البدلِ : وهو أنَّ المُبْدَلَ منه يجوزُ دخولُ الباءِ عليه ، فلو حَلَّ البدلُ مَحَلَّ المبدلِ منه ومعه الباءُ ، لكان جائزاً؛ لأنَّ العاملَ يتعَدَّى به ، وذَكَرَ مُسَوِّغاً لخُلُوِّ المبدلِ منه من الباءِ فقال : « لأنَّك تقول : حَدَّثْتُه كذا وحَدَّثْتُه بكذا » وأمَّا كَوْنُه يَمْتنعُ أَنْ تقولَ : « استغفَرتُ الذنبَ العظيمِ » بنَصْبِ « الذنبَ » وجرِّ « العظيمِ » إلى آخرِه ، فليس في كلامِ الزمخشريِّ شيءٌ منه البتةَ .

ونظيرُ ما قاله الزمخشريُّ في بابِ « استغفر » أَنْ تقولَ « استغفرْتُ اللَّهَ ذنباً مِنْ شَتْمي زيداً » فقولك : « مِنْ شَتْمي » بدلٌ مِنْ « الذنب » وهذا جائزٌ لا مَحالةَ .
قوله : { أوحى لَهَا } في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها بمعنى إلى ، وإنما أُوْثِرَتْ على « إلى » لموافقةِ الفواصلِ . وقال العجَّاج في وَصْف الأرض :
4614 أَوْحَى لها القرارَ فاستقرَّتِ ... وشَدَّها بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ
الثاني : أنَّها على أصلِها ، و « أوحى » يتعدَّى باللامِ تارةً وب « إلى » أخرى ، ومنه البيتُ المتقدمُ ، الثالث : أنَّ اللامَ على بابها من العلةِ ، والموحى إليه محذوفٌ ، وهو الملائكةُ ، تقديرُه : أوحى إلى الملائكةِ لأجلِ الأرضِ ، أي : لأَجْلِ ما يَفْعَلون فيها .

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } : إمَّا بدلٌ مِنْ يومئذٍ « قبلَه ، وإمَّا منصوبٌ ب » يَصْدُرُ « وإمَّا منصوبٌ ب » اذْكُرْ « مقدراً .
قوله : { أَشْتَاتاً } حالٌ مِنْ » الناس « وهو جمع شَتَّ ، أي : متفرِّقين في الأمنِ والخوفِ والبياضِ والسوادِ .
قوله : { لِّيُرَوْاْ } متعلِّقٌ ب » يَصْدُرُ « وقيل : ب » أوحى « وما بينهما اعتراضٌ . والعامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وهو مِنْ رؤيةِ البصرِ فتعدَّى بالهمزِة إلى ثانٍ ، وهو » أعمالَهم « وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحمادة بن سَلَمة - وتروى عن نافع ، قال الزمخشري : » وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم « - مبنياً للفاعل والمعنى : جزاءَ أعمالِهم .

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

قوله : { خَيْراً } ، { شَرّاً } : في نصبِهما وجهان ، أظهرهما : أنهما تمييز للمِثْقال فإنه مقدارٌ . والثاني : أنهما بدلان مِنْ « مثقالَ »
قوله : { يَرَهُ } جوابُ الشرط في الموضعين . وقرأ هشام بسكونِ هاء « يَرَهْ » وَصْلاً في الحرفَيْن . وباقي السبعةِ بضمِّها موصولةً بواوٍ وَصْلاً ، وساكنةً وَقْفاً كسائرِ هاءِ الكنايةِ ، هذا ما قرَأْتُ به . ونَقَل الشيخُ عن هشام وأبي بكر سكونَها ، وعن أبي عمرو ضمُّها مُشْبعة ، وباقي السبعةِ بإشباعِ الأولى وسكونِ الثانية . انتهى . وكان ذلك لأجلِ الوقفِ على آخرِ السورةِ غالباً . أمَّا لو وَصَلوا آخرَها بأولِ « العادِيات » كان الحكمُ الإِشباعَ هذا مقتضى أصولِهم كما قَدَّمْتُه وهو المنقولُ .
وقرأ العامَّةُ « يَرَهُ » مبنياً للفاعلِ . وقرأ ابن عباس والحسين بن علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية « يُرَه » مبنياً للمفعول . وعكرمة « يَراه » بالألفِ : إمَّا على تقديرِ الجزمِ بحَذْفِ الحركةِ المقدرة ، وإمَّا على تَوَهُّمِ أنَّ « مَنْ » موصولةٌ ، وتحقيق هذا مذكورٌ في أواخِر يوسف . وحكى الزمخشري أن أعرابياً أَخَّر « خيراً يَرَهُ » فقيل له : قَدَّمْتُ وأَخَّرْتَ ، فأنشد :
4615 خذا بَطْنَ هرشى أوقَفاها فإنَّه ... كِلا جانِبَيْ هرشى لَهُنَّ طريقُ
انتهى . يريدُ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ سواءٌ ، وهذا لا يجوزُ البتةَ فإنه خطأٌ لا يُعْتَقَدُ به قراءةً .
والذَّرَّة قيل : النملةُ الصغيرةُ . وأصغرُ ما تكونُ قضى عليها حَوْلٌ قال امرؤ القيس :
4616 من القاصراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)

قوله : { والعاديات } : جمعُ « عادِيَة » وهي الجاريَةُ بسُرعةٍ ، من العَدْوِ ، وهو المَشْيُ بسُرْعةٍ . والياءُ عن واوٍ لكَسْرِ ما قبلها نحو : الغازِيات من الغَزْوِ . يُقال : عَدا يَعْدُوا عَدْواً ، فهو عادٍ وهي عادِيَةٌ ، وقد تقدَّمَ هذا في المؤمنين .
قوله : { ضَبْحاً } فيه أوجهٌ . أحدُها : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ؛ فإنَّ الضَّبْحَ نوعٌ من السيرِ والعَدْوِ كالضَّبْع . يقال : ضَبَحَ الفَرَسُ وضَبَعَ ، إذا عدا بشدةٍ ، أَخْذاً مِن الضَّبْع ، وهو الذِّرَاع لأنه يَمُدُّه عند العَدْوِ ، وكأنَّ الحاءَ بدلٌ من العين . وإلى هذا ذهب أبو عبيدةَ . والمبردُ . قالا الضَّبْحُ مِنْ إضباعِها في السَّيْرِ . وقال عنترةُ :
4617 والخيلُ تعلَمُ حين تَضْ ... بَحُ في حِياضِ المَوْتِ ضَبْحاً
الثاني : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، أي : ضابحاتٍ ، أو ذوي ضَبْح . والضَّبْحُ : صوتٌ يُسْمَعُ مِنْ صدورِ الخيلِ عند العَدْوِ ، ليس بصَهيلٍ . وعن ابن عباس : انه حكاه فقال : أحْ أحْ . ونُقل عنه : أنه لم يَضْبَحْ من الحيوان غيرُ الخيلِ والكَلْبِ والثعلبِ . وهذا يَنْبغي أَنْ لا يَصِحَّ عنه ، فإنه رُوي أنه قال : سُئِلْتُ عنها ففَسَّرْتُها بالخيل . وكان عليٌّ رضي الله عنه تحت سِقايةِ زمزم فسأله ، وذَكَر له ما قلتُ . فدعاني فلمَّا وقفْتُ على رأسِه قال : « تُفْتي الناسَ بغيرِ علمٍ ، إنَّها لأولُ غزوةٍ في الإِسلام وهي بدرٌ ، ولم يكنْ معنا إلاَّ فَرَسان : فرسٌ للمِقْداد ، وفرسٌ للزُّبَيْر ، والعادياتِ ضَبحْاً : الإِبلُ مِنْ عرفَةَ إلى المزدلفةِ ، ومن المزدلفةِ إلى مِنى » إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال بعد ذلك : « فإنْ صَحَّتِ الروايةُ فقد اسْتُعير الضَّبْحُ للإِبِل ، كما اسْتُعير المَشافِرُ والحافِرُ للإِنسان ، والشَّفتان للمُهْر » ونَقَل غيرُه أن الضَّبْحَ يكونُ في الإِبلِ والأسْوَدِ من الحَيَّاتِ والبُومِ والصدى والأرنبِ والثعلبِ والقوسِ . وأنشد أبو حنيفةَ في صفةِ قَوْس .
4618 حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أو تالبِ ... تَضْبَحُ في الكَفِّ ضُباحَ الثعلبِ
وعندي أنَّ هذا مِن الاستعارةِ . ونَقَلَ أهلُ اللغةِ أنَّ أصلَ الضَّبْحِ في الثعلبِ فاسْتُعير للخيلِ ، وهو مِنْ ضَبَحَتْه النارُ : أي غَيَّرت لونَه ولم تُبالغْ فيه . والضَّبْحُ لونٌ يُغَيِّرُ إلى السواد قليلاً .
الثالث : من الأوجه : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تَضْبَحُ ضَبْحاً . وهذا الفعلُ حالٌ من « العاديات » .
الرابع : أنَّه منصوبٌ بالعادِيات ، وإنْ كان المرادُ به الصوتَ . قال الزمخشري : « كأنَّه قيل : والضَّابحاتِ لأنَّ الضَّبْحَ يكون مع العَدْوِ » . قال الشيخ : « وإذا كان الضَّبْحُ مع العَدْوِ فلا يكون معنى » والعادياتِ « : والضَّابحاتِ فلا ينبغي أن يُفَسَّرَ به » . قلت : لم يَقُلْ الزمشخريُّ أنه بمعناه ، وإنما جعله منصوباً به؛ لأنه لازمٌ له لا يُفارِقُه فكأنَّه ملفوظٌ به . وقوله : « كأنه قيل » تفسيرٌ للتلازُمِ ، لا أنه هو هو .

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)

قوله : { قَدْحاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ الإِيراء من القَدْح يقال : قَدَحَ فَأَوْرَى وقَدَح فأَصْلَدَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فالمعنى : قادحاتٍ ، أي : صاكَّاتٍ بحوافِرها ما يُوْرِي النارَ يُقال : « قَدَحْتُ الحجرَ بالحجرِ » أي : صَكَكْتُه به . وقال الزمخشري : « انتصَبَ بما انتصَبَ به ضَبْحاً » . وكان جَوَّزَ في نَصْبِه ثلاثةَ أوجهٍ : النصبَ بإضمارِ فعلٍ ، والنصبَ باسمِ الفاعلِ قبلَه ، لأنه مُلازِمُه ، والنصبَ على الحال . وتُسَمَى تلك النارُ التي تَخْرُج من الحوافرِ نارَ الحُباحِب . قال :
4619 تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ... وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ

فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)

قوله : { فالمغيرات صُبْحاً } : صُبْحاً : ظرفٌ ، أي : التي تُغير وقتَ الصبح يقال : أغارَ يُغير إغارةً باغَتَ عَدُوَّه لنَهْبٍ أو قَتْلٍ أو أَسْرٍ قال :
4620 فلَيْتَ لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا
و « غار » لُغَيَّةٌ ، وأغار وغارَ أيضاً : نَزَل الغَوْرَ وهو المُنْهَبَطُ من الأرض . واختلف الناسُ في موصوفاتِ هذه الصفاتِ أعني العاديات وما بعدها فقيل : الخيلُ ، أي والخيلِ العادياتِ ، فالمُورياتِ ، فالمُغيراتِ . ونظيرُ العطفِ هنا كالعطفِ في قولِه :
4621 يا لَهْفَ زيَّابةَ لِلحارِث ال ... صابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
وتقدَّم تقريرُه أولَ البقرة . وقيل : التقديرُ : والإِبلِ العادياتِ مِنْ عرفةَ إلى مزدلفةَ ، ومِنْ مزدلفةَ إلى مِنى ، كما تقدَّم عن أمير المؤمنين . ويَدُلُّ له قولُ صفيَّةَ بنتِ عبد المطلب :
4622 أمَا والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... بأَيْديها إذا سَطَع الغُبارُ
وقيل : « فالموريات » أي : الجماعةُ التي تَمْكُرُ في الحرب . تقول العرب : لأُوْرِيَنَّ لك ، لأَمْكُرَنَّ بك .

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)

قوله : { فَأَثَرْنَ } : عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً ل أل . قال الزمخشري : « معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه » يعني في الأصل ، إذ الأصلُ : واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ .
قوله : { بِهِ } : في الهاء أوجهٌ . أحدُهما : أنها ضميرُ الصُّبح ، أي : فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُباراً . وهذا حَسَنٌّ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح . الثاني : أنه عائدٌ على المكانِ ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الإِثارةَ لا بُدَّ لها من مكان ، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلاَّن عليه . وفي عبارةِ الزمخشريِّ : « وقيل : الضمير لمكان الغارة » هذا على تلك اللُّغَيَّةِ ، وإلاَّ فالفصيحُ أَنْ يقولَ : الإِغارة الثالث : أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه « والعادياتِ » .
وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ ، مِنْ أثار كذا : إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ . وقرأ أبو حَيْوَةَ وابن أبي عبلة بتشديدها ، وخَرَّجه الزمخشريُّ على وجهَيْن : الأولُ بمعنى فأَظْهَرْنَ به غباراً؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإِظهارِ . والثاني : أنه قَلَبَ « ثَوَّرْنَ » إلى « وَثَّرْنَ » وقَلَبَ الواوَ همزةً . انتهى . قلت : يعني أنَّ الأصلَ : ثَوَّرْنَ ، مِنْ ثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف كما يُعَدَّى بالهمزة في قولِك : أثاره ، ثم قَلَبَ الكلمةَ : بأنْ جَعَلَ العينَ وهي الواوُ موضعَ الفاء ، وهي الثاءُ ، فصارت وَثَّرْنَ ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً ، فصار « أَثَرْنَ » وهذا بعيدٌ جداً . وعلى تقديرِ التسليمِ فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأَحَدٍ وأَناةٍ . والنَّقْعُ : الغبار وأُنْشِد :
4623 يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتطارِ النَّقْعِ داميةً ... كأنَّ آذانَها أطرافُ أَقْلامِ
وقال ابن رَواحة :
4624 عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْها ... تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ
وقال أبو عبيد : « النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ » وأَنْشَد :
4625 فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... يُحْلِبُوْها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ
قال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ ، من قولِه عليه السلام : » ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ « وقولُ لبيد :
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : هَيَّجْنَ في المَغارِ عليهم صَباحاً » انتهى . فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى « في » ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإِغارةُ كما تقدَّمَ .

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)

قوله : { فَوَسَطْنَ } : العامَّةُ على تخفيفِ السينِ ، أي : تَوَسَّطْنَ . وفي الهاءِ في « به » أوجهٌ ، أحدُها : أنها للصبح ، كما تقدَّم . والثاني : أنها للنَّقْعِ ، أي : وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ ، أي : جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع ، فالباءُ للتعدية ، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ ، الثالث : أنَّ الباءَ للحاليةِ ، أي : فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع ، أي : بالغبار جمعاً من جموع الأعداء . وقيل : الباءُ مزيدةٌ ، نقله أبو البقاء و « جَمْعاً » على هذه الأوجهِ مفعولٌ به . الرابع : أنَّ المرادَ ب جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً . والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعاً الذي هو المزدلفةُ ، كما مرَّ عن أميرِ المؤمنين رضي الله عنه ، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ ، كقولِ صفية :
4626 . . . . . . . . . . . والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِ بشرِ بنِ أبي خازم :
4627 فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ ... تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ
و « جَمْعاً » على هذا منصوبٌ على الظرف ، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في « به » : « إمَّا للوقتِ ، أي : في وقت الصبح ، وإمَّا للنَّقْع ، وتكونُ الباءُ للحال ، أي : مُلْتبساتٍ بالنَّقْع . إلاَّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه ب » في « وقال أبو البقاء : » إنَّ جَمْعاً حالٌ « وسبقه إليه مكي . وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى : على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ .
وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ . وقال الزمخشري : » التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] وهي مبالَغَةٌ في « وَسَطْن » انتهى . وقولُه : « وهي مبالَغَةٌ » يناقِضُ قولَه أولاً « للتعدية »؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً آخر تقول : « ذَبَحْتُ الغنم » مخففاً ثم تبالِغُ فتقول : « ذَبَّحْتها » مثقلاً ، وهذا على رأيِه قد جَعَله متعدياً بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة .

إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)

قوله : { إِنَّ الإنسان } : هذا هو المُقْسَم عليه و « لرَبَّه » متعلِّقٌ بالخبرِ ، وقُدِّمَ للفواصلِ . والكَنُوْدُ : الجَحُوْد . وقيل : الكَفورُ النعمةِ وأُنْشِد :
4628 كَنُوْدٌ لِنَعْماءِ الرجالِ ومَنْ يَكُنْ ... كَنُوْداً لِنَعْماءِ الرجالِ يُبَعَّدِ
وعن ابن عباس : هو بلسانِ كِنْدَةَ وحَضْرَمَوْتَ العاصي ، وبلسان ربيعةَ ومُضَرَ الكَفورُ ، وبلسانِ كِنانةَ البخيل . وأنشد أبو زيد :
4629 إنْ تَفْتْني فلم أَطِبْ عنك نَفْساً ... غيرَ أنِّي أمنى بدَيْنٍ كَنُودِ

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)

قوله : { لِحُبِّ } : اللامُ متعلِّقَةٌ ب « شديدٌ » وفيه وجهان ، أحدهما : أنها المعدِّيةُ . والمعنى : وإنَّه لقَويٌّ مُطيقٌ لِحُبِّ الخير يقال : هو شديدٌ لهذا الأمرِ ، أي : مُطيقٌ له والثاني : أنها للعلةِ ، أي : وإنَّه لأجلِ حبِّ المالِ لَبخيلٌ . وقيل : اللامُ بمعنى « على » . ولا حاجةَ إليه ، وقد يُعَبَّرُ بالشديدِ والمتشدِّدِ عن البخيل قال :
4630 [ أرى ] الموتَ يَعْتامُ الكرامَ ويَصْطَفي ... عَقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ
وقال الفراء : « أصلُ نَظْمِ الآية أَنْ يقالَ : وإنه لشديدُ الحُبِّ للخير ، فلما قَدَّم » الحُبّ « قال : لشديد ، وحَذَفَ مِنْ آخرِه ذِكْرَ » الحُبِّ «؛ لأنه قد جرى ذِكْرُه ، ولرؤوسِ الآي كقولِه : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] والعُصُوف للريح لا لليوم ، كأنه قال : في يومٍ عاصفِ الريحِ » .

أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)

قوله : { إِذَا بُعْثِرَ } : في العاملِ فيها أوجهٌ أحدُها : « بُعْثِرَ » نقله مكي عن المبرد وتقدَّم تحريرُ هذا قريباً في السورةِ قبلَها . والثاني : أنه ما دَلَّ عليه خبرُ « إنَّ » أي : إذا بُعْثر جُوزوا . والثالث : أنه « يَعْلَمُ » ، وإليه ذهب الحوفيُّ وأبو البقاء . ورَدَّه مكيُّ قال : « لأنَّ الإِنسانَ لا يُرادُ منه العِلْمُ والاعتبارُ ذلك الوقتَ ، وإنما يَعْتَبِرُ في الدنيا ويعلَمُ » وقال الشيخ : « وليس بمتَّضِحٍ لأنَّ المعنى : أفلا يعلَمُ الآن .
وكان قد قال قبل ذلك : » ومفعولُ يَعْلَمُ محذوفٌ وهو العاملُ في الظرفِ ، أي : أفلا يعلم مآلَه إذا بُعْثِرَ « انتهى . فجَعَلَها متعديةً في ظاهرِ قولِه إلى واحدٍ ، وعلى هذا فقد يُقال : إنها عاملةٌ في » إذا « على سبيلِ أنَّ » إذا « مفعولٌ به لا ظرفٌ إذ التقديرُ : أفلا يَعْرِفُ وقتَ بَعْثَرَةِ القبورِ . يعني أَنْ يُقِرَّ بالبعثِ ووقتِه ، و » إذا « قد تصر‍َّفَتْ وخَرَجَتْ عن الظرفيةِ ، ولذلك شواهدُ تقدَّم ذِكْرُها في غضونِ هذا التصنيفِ . الرابع : أنَّ العاملَ فيها محذوفٌ ، وهو مفعولٌ » يَعْلَمُ « كما تقدَّم تقريرُه ، أي : يعلمُ مآلَه إذا بُعْثِرَ . ولا يجوزُ أن يعملَ فيه » لَخبيرٌ « لأنَّ ما في حَيِّز » إنَّ « لا يتقدَّمُ عليها .
وقرأ العامَّةُ » بُعْثِرَ « بالعين مبنياً للمفعولِ . والموصولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ . وابن مسعودٍ بالحاء . وقرأ الأسود بن يزيد ومحمد بن معدان » بُحِثَ « من البحث . ونصر بن عاصم » بَعْثَرَ « مبنياً للفاعل وهواللَّهُ تعالى أو المَلَكُ . والعامَّةُ » حُصِّل « مبنياً للمفعولِ كالذي قبلَه . ويحيى بن يعمر ونصرُ بن عاصم وابن معدان » حَصَّلَ « مبنياً للفاعلِ . ورُوِي عن ابن يعمرَ ونصرٍ أيضاً » حَصَلَ « خفيفةَ الصادِ مبنياً للفاعل بمعنى : جَمَعَ ما في الصحفِ تَحَصُّلاً ، والتحصيلُ : جَمْعُ الشيء ، والحُصولُ اجتماعُه . وقيل : التحصيلُ التمييزُ . ومنه قيل للمُنْخُل : مُحَصِّل . وحَصَل الشيءُ مخفَّفاً : ظَهَر واستبانَ ، وعليه القراءةُ الأخيرةُ .

إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

قوله : { إِنَّ رَبَّهُم } : العامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ لوجودِ اللامِ في خبرِها . والظاهرُ أنَّها معلِّقَةٌ ل « يَعْلَمُ » فهي في محلِّ نصب ، ولكن لا يَعْمَلُ في « إذا » خبرُها لِما تقدَّم؛ بل يُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ معناه كما تقدَّم . ويدلُّ على أنها مُعَلِّقَةٌ للعِلْمِ لا مستأنفةٌ قراءةُ أبي السَّمَّال وغيرِه « أنَّ ربَّهم بهم يؤمئذٍ خبيرٌ » بالفتح وإساقطِ اللامِ ، فإنَّها في هذه القراءةِ سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها . ويُحْكَى عن الخبيثِ الروحِ الحَجَّاج أنه لما فَتَح همزةَ « أنَّ » استدرك على نفسِه فتعمَّد سقوطَ اللامِ . وهذا إنْ صَحَّ كُفْرٌ . ولا يُقالُ : إنها قراءةٌ ثابتةٌ ، كما نَقَلْتُها عن أبي السَّمَّال ، فلا يكفرُ ، لأنه لو قرأها كذلك ناقِلاً لها لم يُمْنَعْ منه ، ولكنه أسقطَ اللامَ عَمْداً إصلاحاً للِسانِه . وأجمعَ الأمةُ على أنَّ مَنْ زاد حرفاً في القرآن أو نَقَصَه عَمْداً فهو كافِرٌ ، وإنما قلتُ ذلك لأنِّي رأيتُ الشيخَ قال : « وقرأ أبو السَّمَّال والحجَّاج » ولا يُحْفَظُ عن الحجَّاجِ إلاَّ هذا الأثرُ السَّوْءُ ، والناسُ يَنْقُلونه عنه كذلك ، وهو أقلُّ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عنه .
و « بهم » و « يومئذٍ » متعلِّقان بالخبرِ ، واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلك ، وقُدِّما لأَجْلِ الفاصلةِ .

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)

قوله : { القارعة مَا القارعة } كقولِه تعالى : { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 12 ] وكقولِه : { وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين } [ الواقعة : 27 ] وقد تقدَّما وقد عَرَفْتَ مِمَّا نقله مكي أنه يجوزُ رَفْعُ « القارعة » بفعلٍ مضمرٍ ناصبٍ ل « يومَ » وقيل : معنى الكلامِ على التحذير . قال الزجاج : « والعرب تُحَذِّر وتُغْري بالرفع كالنصبِ . وأنشد :
4631 لَجَديرون بالوفاءِ إذا ق ... لَ أخو النجدةِ السِّلاحُ السِّلاحُ
قلت : وقد تقدَّم ذلك في قوله : { نَاقَةَ الله } [ الشمس : 13 ] فيمَنْ رفعَه . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عيسى { القارعةَ ما القارعةَ } بالنصب ، وهو بإضمارِ فعلٍ ، أي : احذروا القارعةَ و » ما « زائدةٌ . والقارعةُ الثانيةُ تأكيدٌ للأولى تأكيداً لفظياً .

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)

قوله : { يَوْمَ يَكُونُ } : في ناصبِه أوجهٌ ، أحدُها : مضمرٌ يَدُلُّ عليه « القارعةُ ، أي : تَقْرَعُهم يومَ يكون . وقيل : تقديرُه : تأتي القارعةُ يومَ . الثاني : أنَّه » اذْكُرْ « مقدَّراً فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ . الثالث : أنَّه » القارعة « قاله ابنُ عطية وأبو البقاء ومكي . قال الشيخ : » فإنْ كان يعني ابنُ عطيةَ عني اللفظَ الأولَ فلا يجوزُ للفَصْلِ بين العاملِ ، وهو في صلةِ أل ، والمعمولِ بأجنبيٍ وهو الخبرُ ، وإن جَعَلَ القارعةَ عَلَماً للقيامة فلا يعملُ أيضاً ، وإنْ عنى الثاني والثالثَ فلا يَلْتَئِمُ معنى الظرفيةِ معه « . الرابع : أنه فعلٌ مقدرٌ رافعٌ للقارعةِ الأولى ، كأنه قيل : تأتي القارعةُ يومَ يكون ، قال مكيٌّ . وعلى هذا فيكونُ ما بينهما اعتراضاً وهو بعيدٌ جداً منافرٌ لنَظْم الكلام . وقرأ زيد بن علي » يومُ « بالرفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وقتُها يومُ يكونُ .
قوله : { كالفراش } يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً للناقصةِ ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ التامَّةِ ، أي : يُوْجَدُون ويُحْشَرونَ شِبْهَ الفَراشَ ، وهو طائرٌ معروفٌ وقيل : هو الهَمَجُ من البعوضِ والجَرادِ وغيرهما ، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في الطَّيْشِ والهَوَجِ يقال : » أَطَيْشُ مِنْ فَراشة « وأُنْشد :
4632 فَراشَةُ الحُلْمِ فِرْعَوْنُ العذابِ وإنْ ... يُطْلَبُ نَداه فكَلْبٌ دونَه كَلْبُ
وقال آخر :
4633 وقد كانَ أقوامٌ رَدَدْتُ قلوبَهُمْ ... عليهم وكانوا كالفَراشِ من الجهلِ
والفَراشةُ : الماءُ القليل في الإِناءِ ، وفَراشة القُفْلِ لشَبَهها بالفَراشة . وفي تشبيه الناسِ بالفَراشِ مبالغاتٌ شتى منها : الطيشُ الذي يلْحَقُهم ، وانتشارُهم في الأرض ، ورُكوبُ بعضِهم بعضاً ، والكثرةُ والضَّعْفُ والذِّلَّةُ والمجيءُ مِنْ غيرِ ذَهابٍ . والقَصْدُ إلى الداعي من كل جهةٍ ، والتطايرُ إلى النار . قال جرير :
4634 إنَّ الفرزدقَ ما عَلِمْتَ وقومَه ... مثلُ الفَراشِ غَشِيْنَ نارَ المُصْطَلي
والعِهْنُ تقدَّم في سأل .

فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)

قوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } : أي : هالكةٌ ، وهذا مَثَلٌ . يقولون لمَنْ هَلَكَ : « هَوَتْ أمُّه » لأنه إذا هَلَكَ سَقَطَتْ أمُّه ثُكْلاً وحُزْناً . وعليه قولُ الشاعر :
4635- هَوَتْ أمُّه ما يَبْعَثُ الصبحُ غادياً ... وماذا يَرُدُّ الليلُ حين يَؤُوْبُ
وقرأ طلحة « فإمُّه » بكسرِ الهمزة . نَقَل ابنُ خالَوَيْه عن ابنِ دريد أنها لغةٌ . والنحويون لا يُجيزون ذلك إلاَّ إذا تقدَّمها كسرةٌ أو ياءٌ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورةِ النساء ، واختلافُ القُرَّاء فيه .

وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)

قوله : { مَا هِيَهْ } : مبتدأ وخبرٌ سادَّان مَسَدَّ المفعولَيْن ل « أَدْراك » وهو من التعليقِ و « هي » ضميرُ الهاويةِ ، إنْ كانت الهاويةَُ كما قيل اسماً ل دَرَكَةٍ مِنْ دَرَكاتِ النار ، وإلاَّ عادَتْ على الداهية المفهومةِ من الهاويةِ . وأسقط هاءَ السكتِ حمزةُ وَصْلاً . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الحاقة . و « نارٌ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نارٌ .

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)

قوله : { حتى زُرْتُمُ } : « حتى » : غايةٌ لقولِه « أَلْهاكم » وهو عطفٌ عليه .

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

قوله : { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } : جعله الشيخُ جمالُ الدينُ بنُ مالك من التوكيدِ اللفظي مع توسُّط حرفِ العطفِ . وقال الزمخشري : « والتكريرُ تأكيدٌ للرَّدْعِ والردِّ عليهم ، و » ثم « دالَّةٌ على أنَّ الإِنذارَ الثاني أبلغُ من الأولِ وأشدُّ ، كما تقولُ للمنصوح : أقولُ لك ثم أقولُ لك لا تفعَلْ » انتهى . ونُقِل عن عليّ كرَّمَ اللَّهُ وجهَه : « كلاَّ سوف تعلمون في الدنيا ، ثم كلاًّ سوف تعلمون في الآخرة » فعلى هذا يكونُ غيرَ مكرَّرٍ لحصولِ التغايُرِ بينهما لأجل تغايُرِ المتعلِّقَيْنِ . و « ثُمَّ » على بابها من المُهْلة . وحُذِفَ متعلَّقُ العِلْمِ في الأفعالِ الثلاثةِ لأنَّ الغَرَضَ الفِعْلُ لا متعلَّقُه . وقال الزمخشري : « والمعنى : لو تعلمون الخطأَ فيما أنتم عليه إذا عانَيْتُمْ ما تَنْقَلبون إليه » فقَدَّر له مفعولاً واحداً كأنه جَعَله بمعنى عَرَفَ .

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)

قوله : { لَوْ تَعْلَمُونَ } جوابُه محذوفٌ . أي : لَفَعَلْتُم ما لا يُوصف . وقيل : التقديرُ : لرَجَعْتُمْ عن كُفْرِكم . وعلم اليقين : مصدرٌ . قيل : وأصلُه : العلمَ اليقينَ ، فأُضِيِف الموصوفُ إلى صفتِه . وقيلَ : لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ العِلْمَ يكونُ يقيناً وغيرَ يقينٍ ، فأُضِيفَ إليه إضافةُ العامِّ للخاصِّ . وهذا يَدُلُّ على أنَّ اليقينَ أخصُّ .
وقرأ ابن عباس « أأَلْهاكم » على استفهام التقريرِ والإِنكارِ . ونُقِل في هذا : المدُّ مع التسهيل ، ونُقِلَ فيه تحقيقُ الهمزتَيْن من غيرِ مَدّ .

لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

قوله : { لَتَرَوُنَّ } هذا جوابُ قَسَم مقدَّرٍ . وقرأ ابن عامر والكسائي « لتُرَوْنَّ » مبنياً للمفعول . وهو منقولٌ مِنْ « رأى » الثلاثي إلى « أرى » فاكتسَبَ مفعولاً آخر فقام الأولُ مقامَ الفاعلِ . وبقي الثاني منصوباً . والباقون مبنياً للفاعلِ جعلوه غيرَ منقولٍ ، فتعدى لواحدٍ فقط ، فإنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةِ . وأمير المؤمنين ، وعاصم وابن كثير في روايةٍ عنهما بالفتح في الأولى والضمِّ في الثانية ، يعني « لَتُرَوُنَّها » ومجاهد وابن أبي عبلة والأشهب بضمها فيهما . والعامَّةُ على أن الواوَيْن لا يُهْمزان؛ لأنَّ حركتَهما عارضةٌ ، نَصَّ على عدمِ جوازِه مكيُّ وأبو البقاء ، وعَلَّلا بعُروضِ الحركةِ .
وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلافٍ عنهما بهمزِ الواوَيْن استثقالاً لضمةِ الواوِ . قال الزمشخري : « وهي مستكرهَةٌ » يعني لِعُروض الحركةِ عليها إلاَّ أنَّهم قد هَمَزوا ما هو أَوْلى بعَدَمِ الهمزِ من هذه الواوِ نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، هَمَزَ واوَ « اشتَروْا » بعضُهم ، مع أنها حركةٌ عارضةٌ وتزولُ في الوَقْفِ ، وحركةُ هذه الواوِ ، وإنْ كانت عارضةً ، إلاَّ أنها غيرُ زائلةٍ في الوقفِ فهي أولى بَهْمزِها .

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)

قوله : { عَيْنَ اليقين } : مصدرٌ مؤكِّدٌ . كأنه قيل : رؤيةَ العين ، نفياً لتوَهُّمِ المجازِ في الرؤيةِ الأولى . وقال أبو البقاء : « لأنَّ رأى وعايَنَ بمعنىً » .

وَالْعَصْرِ (1)

قوله : { والعصر } : العامَّةُ على سكونِ الصادِ . وسلام « والعَصِرْ » والصَّبِرْ « بكسرِ الصادِ والباء . قال ابنُ عطية : ولا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ على نَقْلِ الحركةِ . ورُوِيَ عن أبي عمروٍ » بالصَّبِر « بكسرِ الباء إشماماً . وهذا أيضاً لا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ » انتهى . ونَقَل هذه القراءةَ جماعةٌ كالهُذَليِّ وأبي الفضل الرازيِّ وابنِ خالويه . قال الهُذَليُّ : « والعَصِرْ والصَّبِرْ ، والفَجِرْ ، والوَتِرْ ، بكسرِ ما قبل الساكنِ في هذه كلِّها هارونُ وابنُ موسى عن أبي عمروٍ والباقون بالإِسكانِ كالجماعةِ » انتهى . فهذا إطْلاقٌ منه لهذه القراءةِ في حالتي الوقفِ والوصلِ . وقال ابن خالويه : « والصَّبِرْ » بنَقْل الحركةِ عن أبي عمرو « فأطْلَقَ ايضاً . وقال أبو الفضل : » عيسى البصرة بالصَّبِرْ « بنَقْلِ حركةِ الراءِ إلى الباءِ يُحتاجَ إلى أَنْ يأتيَ ببعضِ الحركةِ في الوقفِ ، ولا إلى أَنْ يُسَكَّنَ فيُجْمَعَ بين ساكنَيْن ، وذلك لغةٌ شائعةٌ وليسَتْ بشاذةٍ ، بل مُسْتفيضةٌ ، وذلك دَلالةٌ على الإِعرابِ ، وانفصالٌ من التقاءِ الساكنَيْن ، وتأديةُ حقِّ الموقوفِ عليه من السكونِ » انتهى . فهذا يُؤْذِنُ بما ذَكَرَ ابنُ عطيةَ أنه كان ينبغي . وأنشدوا على ذلك :
4636 . . . . . . واصْطِفاقاً بالرِّجِلْ ... يريد بالرِّجْلِ . وقال آخر :
4637 أنا جريرٌ كُنْيتي أبو عَمِرْ ... أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ
والنقلُ جائزٌ في الضمة أيضاً كقوله :
4638 . . . . . . . . . . . . . إذْ جَدَّ النُّقُرْ ... والعَصْرُ : الليلةُ واليومُ قال :
4639 ولن يَلْبَثَ العَصْرانِ يَوْمٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)

قوله : { إِنَّ الإنسان } : المرادُ به العمومُ بدليلِ الاستثناءِ منه ، وهو مِنْ جملةِ أدلة العمومِ . وقرأ العامَّةُ « لَفي خُسْرٍ » بسكونِ السينِ . وزيد بن علي وابنُ هرمز وعاصم في روايةٍ بضمِّها ، وهي كالعُسْرِ واليُسْرٍِ ، وقد تقدَّما أولَ هذا التصنيفِ في البقرة .

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)

قوله : { هُمَزَةٍ } : أي : كثيرُ الهَمْزِ ، وكذلك « اللُّمَزَة » الكثيرُ اللَّمْزِ . وتقدَّم معنى الهَمْزِ في ن ، واللَّمْزِ في براءة . والعامَّةُ على فتحِ ميمِها على أنَّ المرادَ الشخصُ الذي كَثُرَ منه ذلك الفعلُ . قال زياد الأعجم :
4640 تُدْلِي بِوْدِّيْ إذا لا قَيْتَني كَذِباً ... وإنْ أُغَيَّبْ فأنتَ الهامِزُ اللُّمَزَةْ
وقرأ الباقر بالسكون ، وهو الذي يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ ، أي : يأتي بما يَهْمِزُ به ويَلْمِزُ كالضُّحَكَة لِمَنْ يَكْثُرُ ضَحِكُه ، والضُّحْكة لِمَنْ يأتي بما يُضْحَكُ منه . وهو مُطَّرِدٌ ، أعني أنَّ فُعَلَة بفتح العين لمَنْ يَكْثُرُ منه الفِعْلُ ، وبسكونِها لمَنْ يكونُ الفعلُ بسببه .

الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)

قوله : { الذى جَمَعَ } : يجوزُ جرُّه بدلاً ، ونصبُه ورفعُه على القطع . ولا يجوزُ جَرُّه نعتاً ولا بياناً لتغايُرِهما تعريفاً وتنكيراً . وقولُه : « جَمَعَ » قرأ الأخَوان وابن عامر بتشديدِ الميم على المبالغةِ والتكثيرِ ، ولأنَّه يوافِقُ « عَدَّدَه » والباقون « جمَعَ » مخففاً وهي محتمِلَةٌ للتكثيرِ وعدمِه .
قوله : « وعَدَّدَه » العامَّةُ على تثقيل الدالِ الأول ، وهو أيضاً للمبالغةِ . وقرأ الحسن والكلبُّي بتخفيفِها . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ المعنى : جَمَعَ مالاً وعَدَدَ ذلك المالَ ، أي : وجَمَعَ عَدَدَه ، أي : أحصاه . والثاني : أنَّ المعنى : وجَمَعَ عَدَدَ نفسِه مِنْ عَشِيرَتِهِ وأقاربِه ، و « عَدَدَه » على هَذَيْنِ التأويلَيْنِ اسمٌ معطوفٌ على « مالاً » أي : وجَمَعَ عَدَدَ المالِ أو عَدَدَ نفسِه . الثالث : أنَّ « عَدَدَه » فعلٌ ماضٍ بمعنى عَدَّه ، إلاَّ أنَّه شَذَّ في إظهارِه كما شَذَّ في قولِه :
4641 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إني أَجُوْدُ لأَِقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا

يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)

قوله : { يَحْسَبُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل « جَمَعَ » و « أَخْلَدَه » يعني يُخْلِدُه ، فأوقع الماضيَ موقعَ المضارعِ . وقيل : هو على أصلِه ، أي : أطال عُمْرَه .

كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

قوله : { لَيُنبَذَنَّ } : جوابُ قسمٍ مقدرٍ . وقرأ عليُّ رضي الله عنه والحسن بخلافٍ عنه وابنُ محيصن وأبو عمروٍ في روايةٍ « ليُنْبَذانِّ » بألفِ التثنيةِ ، أي : ليُنْبَذانِّ ، أي : هو ومالُه . وعن الحسن أيضاً : « لَيُنْبَذُنَّ » بضمِّ الذالِ ، وهو مُسْنَدٌ لضميرِ جماعةٍ ، أي : لنَطْرَحَنَّ الهُمَزَةَ وأنصارَه .
والحُطَمَةُ : الكثيرُ الحَطْمِ . يقال : رجلٌ حُطَمَةٌ ، أي : أَكُولٌ وحَطَمْتُه : كَسَرْتُه . والحُطام منه قال :
4642 قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ... وقال آخر :
4643 إنَّا حَطَمْنا بالقضيبِ مُصْعَباً ... يومَ كسَرْنا أَنْفَه لِيَغْضَبا
قوله : « نارُ الله » ، أي : هي نارُ الله .

الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)

قوله : { التي تَطَّلِعُ } يجوزَ أَنْ تكونَ تابعةً ل « نارُ الله » ، وأَنْ تكونَ مقطوعةً . . .

فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

قوله : { فِي عَمَدٍ } : قرأ الأخَوان وأبو بكر بضمتين جمعَ « عَمُود » نحو : « رَسُول ورُسُل » . وقيل : جمعُ عِماد نحو : كِتاب وكُتُب . ورُوي عن أبي عمروٍ الضمُّ والسكونُ ، وهو تخفيفٌ لهذهِ القراءةِ . والباقون « عَمَد » بفتحتَيْن . فقيل : اسمُ جَمْعٍ لعَمود . وقيل : بل هو جمعٌ له ، قال الفراء : كأَدِيْم وأَدَم « وقال ابو عبيدة : » هو جمعُ عِماد « و » في عَمَدٍ « يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضميرِ في » عليهم « ، أي : مُوْثَقِين ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ مُضمرٍ ، أي : هم في عَمَدٍ ، وأَنْ يكونَ صفةٌ لمُؤْصَدَة ، قال أبو البقاء » يعني : فتكون النارُ داخلَ العَمَدِ « .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)

يُجْمع على فُيول وفِيَلَة في الكثرة ، وأَفْيال في القلة .
قوله : { أَلَمْ تَرَ } : هذه قراءةُ الجمهورِ ، أعني فتحَ الراءِ ، وحَذْفُ الألفِ للجزم . وقرأ « السُّلَمِيُّ » تَرْ « بسكونِ الراءِ كأنه لم يَعْتَدَّ بحَذْفِ الألفِ كقولِهم : » لم أُبَلْهُ « وقرأ أيضاً » تَرْءَ « بسكونِ الراءِ وهمزةٍ مفتوحةٍ وهو الأصلُ و » كيف « مُعَلِّقَةٌ للرؤيةِ ، وهي منصوبةٌ بفعلٍ بعدها .

وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)

قوله : { أَبَابِيلَ } : نعتٌ لطير ، لأنَّه اسمُ جمعٍ . وأبابيل قيل : لا واحدَ له كأساطير وعَباديد ، وقيل : واحدُهُ إبَّوْل كعِجَّوْل . وقيل : إبَّال وقيل : إبِّيْل مثلَ سِكِّين . وحكى الرقاشي أنه سُمع إبَّالة بالتشديد . وحكى الفراء إبالة مخففة . والأبابيل : الجماعات شيئاً بعد شيء . وقال الشاعر :
4644 طريقٌ وَجبَّارٌ رِواءٌ أصولُهُ ... عليه أبابيلٌ من الطيرِ تَنْعَبُ
وقد يُسْتعارُ لغيرِ الطَيْرِ كقولِه :
4645 كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصوات راحلتي ... إذ سالَتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ

تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

قوله : { تَرْمِيهِم } : صفةٌ لطير . والعامَّةُ « تَرْميهم » بالتأنيثِ . وأبو حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحةُ بالياءِ مِنْ أسفلُ ، وهما واضحتان؛ لأنَّ اسمَ الجمعِ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ ومِنَ التأنيث قولُه :
4646 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كالطَّيْرِ تَنْجو مِنْ الشُّؤْبوب ذي البَرَدِ
وقيل : الضميرُ ل « ربُّك » أي : يَرْميهم رَبُّك . و « مِنْ سِجِّيل » صفةٌ لحِجارة . « وكعَصْفٍ » هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ معنى التَّصييرِ . وفيه مبالغةٌ حسنة . لم يَكْفِه أَنْ جَعَله أهونَ شيءٍ في الزَّرْع ، وهو ما لا يُجْدي طائلاً ، حتى جَعَله رَجيعاً .

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)

قوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } : في متعلَّقِ هذه اللامِ ، أوجهٌ ، أحدُها : أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ } [ قريش : 5 ] . قال الزمخشري : « وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ » وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلا‍َّ به ، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ . وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ « والتين » انتهى . وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال : « ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ : بأنَّه لو كان كذا لكان » لإِيلافِ « بعضَ سورةِ » ألم تَرَ « وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك »
الثاني : أنَّه مضمرٌ تقديرُه : فَعَلْنا ذلك ، أي : إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش . وقيل : تقديرُه اعْجَبوا . الثالث : أنه قولُه « فَلْيَعْبُدوا » .
وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ ، أي : فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم ، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه .
وقرأ ابن عامر « لإِلافِ » دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ ، والباقون « لإِيلافِ » بياءٍ قبلَها ، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني ، وهو « إيلافِهِمْ » ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً ، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً ، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ .
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال : أَلِفْتُه إلافاً ، نحو : كتبتُه كِتاباً ، يُقال : أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً . وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه :
4647 زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ
والثاني : أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو : قاتَلَ قِتالاً . وقال الزمخشري : « أي : لمُؤالَفَةِ قريشٍ » .
وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال : آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً . قال الشاعر :
4648 مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ ... شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ
وقرأ عاصمٌ في روايةٍ « إإْلافِهم » بمهزتين : الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ ، وهي شاذَّةٌ ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان . ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ . وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال : « بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ ، وهو بعيدٌ . ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في

{ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] .
وقرأ أبو جعفر « لإِلْفِ قُرَيْشٍ » بزنة قِرْد . وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله :
4649 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ
وعنه أيضاً وعن ابن كثير « إلْفِهم » وعنه أيضاً وعن ابن عامر « إلا فِهِمْ » مثل : كِتابهم . وعنه أيضاً « لِيْلافِ » بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ . وقرأ عكرمةُ « لِتَأْلَفْ قُرَيْش » فعلاً مضارعاً وعنه « لِيَأْلَفْ على الأمر ، واللامُ مكسورةٌ ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ .
وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ . قيل : هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ ، وهو الصحيحُ وقيل : هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ . فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون . وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين . ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ .
واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه ، أحدها : أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم . قال الشاعر :
4650 أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً ... به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ
والثاني : أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ . وكانت قريشٌ تُجَّاراً . يقال : قَرَشَ يَقْرِشُ أي : اكتسب . والثالث : أنه مِنْ التفتيش . يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني ، أي : فَتَّش . وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم . قال الشاعر :
4651 أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا ... عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ
وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس . فقال : سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها : القِرْش ، تأكلُ ولا تُؤكَل ، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ :
4652 وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ ... رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ ... رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا
هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا
ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ ... يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا
ثم قريشٌ : إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ . فقيل : الأصلُ : مُقْرِش . وقيل : قارِش ، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ . وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر :
4653- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً ... وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها
قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ : » هذه للأحياءِ « وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ » .
قوله : { إِيلاَفِهِمْ } مُؤَكِّدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً؛ ولذلك اتّصَلَ بضميرِ ما أُضيف إليه الأولُ كما تقولَ : لِقيامِ زيدٍ لقيامِه أكرمْتُه « وأعربه أبو البقاء بدلاً والأول أولى .
قوله : { رِحْلَةَ } معفولٌ به بالمصدرِ ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِله ، أي : لأَنْ أَلِفوا رحلةَ . والأصلُ : رحلَتْي الشتاءِ والصيفِ ، ولكنه أُفْرِدَ لأَمْنِ اللَّبْسِ كقولِه :
4654 كُلوا في بَعْضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قاله الزمخشري وفيه نظرٌ؛ لأنَّ سيبويهِ يجعلُ هذا ضرورةً كقولِه :
4655 حَمامةً بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : » رِحْلة « اسمُ جنسٍ . وكانت لهم أربعُ رِحَلٍ . وجعلَه بعضُهم غَلَطاً وليس كذلكَ . وقرأ العامَّةُ بكسرِ الراءِ وهي مصدرٌ . وأبو السَّمَّال بضمِّها وهي الجهةُ التي يُرْحَلُ إليها .
والشتاءُ لامُه واوٌ لقولِهم : الشَّتْوَةُ وشتا يَشْتُو . وشَذُّوا في النسبِ إليه فقالوا فيه : شَتَوِيّ . والقياس : شِتائيّ أو شِتاويّ ككِسائيّ وكِساوِيّ .

الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

قوله : { مِّن جُوعٍ } : و { مِّنْ خَوْفٍ } : للتعليلِ ، أي : مِنْ أجلِ جوعٍ وخوفٍ ، والتنكيرُ للتعظيمِ . أي : مِنْ جوعٍ عظيمٍ وخوفٍ عظيمٍ . وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ مفعولِ أَطْعَمهم » وأخفى نونَ « مِنْ » في الخاء نافعٌ في روايةٍ ، وكذلك في الغينِ ، وهي لغةٌ حكاها سيبويه .

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)

قرأ الكسائي { أرَيْتَ } بسقوطِ الهمزةِ . وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام . وقال الزمخشري : « وليس بالاختيارِ؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌّ بالمضارعِ ، ولم يَصِحَّ عن العرب » رَيْتَ « . والذي سَهَّلَ مِنْ أمرِها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أولِ الكلامِ ونحوُه :
4656 صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ ... رَدَّ في الضَّرْعِ ما قرى في العِلابِ
وفي » أَرَأَيْتَ « هذه وجهان ، أحدهما : أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدى لواحدٍ وهو الموصولُ ، كأنه [ قال ] : أبْصَرْتَ المكذِّبَ . والثاني : أنَّها بمعنى : أَخْبِرْني ، فتتعدى لاثنينِ ، فقدَّره الحوفيُّ : » أليس مُسْتَحِقَّاً للعذابِ « . والزمخشريُّ » مَنْ هو « . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبدِ الله » أَرَأَيْتَك « بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ .

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)

قوله : { فَذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ ، أي : إن تأمَّلْتَه ، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك . والثاني : أنَّها عاطفةٌ « فذلك » على « الذي يَكَذِّبُ » إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ ، أو صفةٍ على صفةٍ . ويكونُ جوابُ أَرَأَيْتَ « محذوفاً لدلالةِ ما بعدَه عليه . كأنه قيل : أَخْبِرْني ، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ ، والخبرُ الموصولُ بعده ، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : فهو ذاك والموصولُ نعتُه . وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ .
إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال : » فجعل ذلك « في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولِك : » أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا « فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ » فذلك « مرفوعٌ بالابتداء . وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ : أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا . فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ : أَكرَمْتُ الذي يزورُنا ، فالذي يُحْسِن إلينا ، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا . وأمَّا قولُه » إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ « فلا يَصِحُّ لأنَّ » فذلك « إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ فليسا بذاتَيْنِ؛ لأنَّ المشارَ إليه ب » ذلك « واحدٌ . وأمَّا قولُه : » ويكونُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً « فهذا لا يُسَمَّى جواباً بل هو في موضع المفعولِ الثاني ل » أرَأيْتَ « وأمَّا تقديرُه » أنِعْمَ ما يصنعُ «؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَّ على الخبر » انتهى .
والجوابُ عن قولِه : « فاسمُ الإِشارةِ غيرُ ممتكِّنٍ » إلى آخره : أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهاماً وهو « أرأيْتَ » فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه ، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به ، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قولِه : « لأنَّ » فذلك « إشارةٌ إلى » الذي يُكَذِّب « بالمنعِ » بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولِك : « اضْرِبْ زيداً ، فذلك القائمُ » إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد ، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه . وعن قولِه « فلا يسمى جواباً » أنَّ النحاةَ يقولون : جوابُ الاستفهام ، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك . وعن قولِه : « والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر »؛ بالمعارضةِ بقولِه تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] فإنَّ « عسى » إنشاءٌ ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا .
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه ، أي : دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء « يَدَعُ » بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين ، أي : يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ بن علي « ولا يُحاضُّ » مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر .

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

قوله : { لِّلْمُصَلِّينَ } خبرٌ لقولِه : « فوَيْلٌ » والفاءُ للتسَبُّبِ ، أي : تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمةِ الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم . قال الزمخشري بعد قولِه : « كأنَّه قيل : أخْبِرْني ، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله : أنِعْمَ ما يصنعُ » ثم قال الله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } ، أي : إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيْءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم ، إلاَّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم ، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أُضيفَ إليه ساهين عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم . فإنْ قلتَ : كيف جَعَلْتَ المُصَلِّين قائماً مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحدٌ؟ قلت : لأنَّ معناه الجمعُ ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ « .
قال الشيخ : » وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ . ولا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ إلاَّ على ما عليه الظاهرُ ، وعادةُ هذا الرجلِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهْمِ القرآنِ ليسَتْ بواضحةٍ « انتهى . قلت : وعادةُ شيخِنا - رحمه الله - التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعلَ حسَنَه قبيحاً . وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ ، وجَعْلُه شيئاً واحداً ، وما تضمَّنه من المبالغةِ في الوعيدِ في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيعِ؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن السورةَ كلَّها في وصفِ قومٍ جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها : من التكذيبِ بالدِّين ودَفْعِ اليتيمِ وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه ، والسَّهْوِ في الصلاة ، والمُراءاةِ ومَنْعِ الخيرِ .

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)

قوله : { الذين هُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ ، وأَنْ يكونَ منصوبَه ، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعاً . نعتاً أو بدلاً أو بياناً ، وكذلك الموصولُ الثاني ، إلاَّ أنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعاً للمُصَلِّيْنَ ، وأَنْ يكونَ تابعاً للموصولِ الأولِ . وقوله : « يُراؤُون » أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون . ومعنى المُراءاة ، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه ، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه ، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .

وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

قوله : { الماعون } : أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل . يُقال : « مالُه مَعْنَةٌ » أي : قليلٌ ، قاله قطرب . الثاني : أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه . والأصلُ : مَعْوُوْن . وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال : مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان ، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ : بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن ، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم « تابَةٌ » و « صامَةٌ » في تَوْبة وصَوْمَة ، فوزنُه الآن مَعْفُوْل . وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ ، أوَّلُها : كَوْنُ مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال : مُعان كمُقام . وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي . الثاني : القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ : الثالث : قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً ، وإنْ لم يتحرَّكْ ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه . وقد يُجاب عن الثالث : بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن .
الثالث : من الأوجه الأُوَل : أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء ، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة : ما فُعْل . واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه ، وأحسنُها : أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى :
4657 بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه ... إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ
ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع : إمَّا للعِلْمِ به ، أي : يَمْنعون الناسَ أو الطالبين ، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون ، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ .

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)

قوله : { أَعْطَيْنَاكَ } : قرأ الحسن وابنُ محيصن وطلحة والزعفراني « اَنْطَيْناك » قال الرازيُّ والتبريزيُ : « أبدلَ من العين نوناً ، فإنْ عَنَيا البدلَ الصناعيَّ فليس بمُسَلَّمٍ؛ لأنَّ كلاً من المادتَيْنِ مستقلةٌ بنفسِها بدليلِ كمال تَصْريفِهما ، وإنْ عَنَيا بالبدلِ أنَّ هذه وقعَتْ موقعَ هذه لغةً فقريبٌ ، ولا شك أنها لغةٌ ثابتةٌ . قال التبريزي : » هي لغةُ العربِ العاربةِ مِنْ أُوْلي قُرَيْشٍ « وفي الحديث عنه صلَّى الله عليه وسلَّم : » اليدُ العليا المُنْطِيَةُ ، واليدُ السفلى المُنْطاة « وقال الشاعر - هو الأعشى- :
4658 جِيادُك خيرُ جيادِ الملُوك ... تُصان الجِلالَ وتُنْطِي الشَّعيرا
والكَوْثر : فَوْعَل من الكَثْرَةِ ، وصفُ مبالغةٍ في المُفْرِطِ الكثرةِ . قال الشاعر :
4659 وأنت كثيرُ با بنَ مروانَ طَيِّبٌ ... وكان ابوكَ ابنَ العَقائلِ كَوْثَرا
وسُئِلَتْ أعرابيَّةٌ عن ابنها : بمَ آبَ ابْنُكِ؟ فقالت : » آب بكَوْثَرٍ « أي : بخيرٍ كثيرٍ .

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)

قوله : { وانحر } : أمرٌ من النَّحْر وهو الإِبِلِ بمنزلة الذَّبْحِ في البقر والغنم . وقيل : اجعَلْ يديك عند نَحْرِك أو تحت نَحْرِك في الصلاة والشانِئُ : المُبْغِضُ . يُقال : شَنَأه يَشْنَؤُه ، أي : أَبْغَضَه . وقد تقدَّم في المائدة .

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

قوله : { هُوَ الأبتر } : يجوزُ أَنْ يكونَ « هو » مبتدأً ، و « الأبترُ » خبرُه والجملةُ خبرُ « إنَّ » ، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء : « أو توكيدٌ » وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر . والأبترُ : الذي لا عَقِبَ له ، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع ، مِنْ بَتَرَه ، أي : قطعه . وحمارٌ ابترُ : لا ذَنَبَ له . ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة : قاطعُ رَحِمِه قال :
4660 لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ ... على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ
وبَتِر هو بالكسرِ : انقطعَ ذَنَبُه .
وقرأ العامة « شانِئَك » بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي . وقرأ ابن عباس « شَنِئَك » بغيرِ ألفٍ . فقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال . وقد أثبته سيبويهِ ، وأنشد :
4661 حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ ... ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ
وقال زيد الخيل :
4662 أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي ... جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ
فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ . وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ . وقيل : يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم : « بَرُّ وبارٌّ ، وبَرِدٌ وبارِدٌ .
قوله : { فَصَلِّ } الفاء للتعقيب والتسبيبِ ، أي : تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها .
وقال أهل العلم : قد احتوَتْ هذه السورةُ ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن ، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ وهي اثنان وعشرون . الأول : دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير . الثاني : إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه . الثالث : إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه ك { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] . الرابع : تأكيدُ الجملةِ ب إنَّ . الخامس : بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين . السادس : الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ . السابع : حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه . الثامن : تعريفُه بأل الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق . التاسع : فاءُ التَّعْقيب ، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب ، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ . العاشر : التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى . الحادي عشر : أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها ، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها . الثاني عشر : حَذْفُ متعلَّقِ » انحَرْ « إذ التقديرُ : فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له . الثالثَ عشرَ : مراعاةُ السَّجْعِ فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ . الرابعَ عشرَ قوله : { رَبِّك } في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحسنى دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه . الخامسَ عشرَ : الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه : » لربِّك « السادسَ عشرَ : جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف ، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة ، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً .

السابعَ عشرَ : التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفةِ القبيحةِ على أنه لم يَتَّصِفْ إلاَّ بمجرَّدِ قيامِ الصفةِ به ، مِنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتةَ؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً . الثامنَ عشرَ : تأكيدُ الجملةِ ب « إنَّ » المُؤْذِنَةِ بتأكيدِ الخبرِ ، ولذلك يتلقى بها القسمُ ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا ، التاسعَ عشرَ : الإِتيانُ بضميرِ الفَصْلِ المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيدِ إنْ جَعَلْنا « هو » فصلاً ، وإنْ جَعَلْناه مبتدأً فكذلك يُفيد التأكيدَ إذ يصيرُ الإِسنادُ مَرَّتَيْن العشرون : تعريفُ الأبترِ ب أل المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّةِ بهذه الصفةِ ، كأنه قيل : الكامِلُ في هذه الصفةِ الحادي والعشرون : الإِتيانُ بصيغة أَفْعَل الدالَّةِ على التناهي في هذه الصفةِ . الثاني والعشرون : إقبالُه على رسولِه عليه السلام بالخطاب مِنْ أول السورةِ إلى آخرها .

لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)

[ قوله ] : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } : « ما » في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنها بمعنى الذي . فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ . و « ما » أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ . وإذا أُريد بها الباري تعالى ، كما في الثانيةِ والرابعةِ ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ . ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً . والتقديرُ : ولا أنتم عابدون عبادتي ، أي : مثلَ عبادتي . وقال أبو مسلم : « ما » في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي ، والمقصودُ المعبودُ و « ما » في الأخيرَيْن مصدريةٌ ، أي : لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين . فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ : أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي ، والأَخيرتان مصدريَّتان ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : لو قيل : بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي ، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ ، لكان حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ « ما » على أولي العلمِ ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم .
واختلف الناسُ : هل التَّكرارُ في هذه السورةِ للتأكيد أم لا؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك فقال جماعة : هو للتوكيدِ . فقولُه { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيدٌ لقولِه { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ثانياً توكيدٌ لقولِه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أولاً ، ومثلُه قولُه { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] و { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] في سورتَيْهما ، و { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 34 ] و { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [ النبأ : 45 ] . وفي الحديث : « فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني » قال الشاعر :
4663 هَلاَّ سَأَلْتَ جنودَ كِنْ ... دَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا
وقال آخر :
4664 يا علقمَهْ يا عَلْقَمَهْ يا علقَمَهْ ... خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ
وقال آخر :
4665 يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ ... إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
وقال آخر :
4666 ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي ... ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ
وقال آخر :
4667 يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً ... يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ
قالوا : والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ . وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفارِ وتحقيقُ الإِخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً .
وقال جماعةٌ : ليس للتوكيدِ فقال الأخفش : « لا أعبد الساعةَ ما تعبدون ، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ ما عَبَدْتُمْ ، ولا أنتم عابدون في المستقبلِ ما أعبد ، فزال التوكيدُ ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِ الزمانِ الآخر » انتهى .

وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبُدون بزمانٍ ، هذا لا يَصِحُّ . وفي الأسبابِ : أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدون إلهَه سنةً ، فنزَلَتْ فكيف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه : وهو كونُ « ما » في الأوَّلَيْن بمعنى الذي ، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً . وفيه نظرٌ أيضاً : مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ « ما » وقال ابن عطية : « لَمَّا كان قولُه » لا أَعْبُدُ « محتمِلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقولِه { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : أبداً وما حَيِيْتُ ، ثم جاء قولُه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ ، كما قيل لنوح عليه السلام : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] فهذا معنى الترديدِ في هذه السورةِ وهو بارعُ الفصاحةِ ، وليس بتَكْرارٍ فقط ، بل فيه ما ذكْرَتُه » .
وقال الزمخشريُّ : « لا أعبدُ أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل؛ لأنَّ » لا « لا تدخُلُ إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أنَّ » ما « لا تدخُلُ إلاَّ على مضارعٍ في معنى الحال . والمعنى : لا أفعلُ في المستقبل ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتِكم ، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي ، ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ ، أي : وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سَلَفَ ما عبدتُمْ فيه ، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صنم في الجاهلية . فكيف ترجى مني في الإِسلامِ؟ ولا أنتم عبادون ما أعبدُ ، أي : وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه . فإنْ قلتَ : فهلاَّ قيل : ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ . قلت : لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ . فإن قلت : فلِمَ جاء على » ما « دونَ مَنْ؟ قلت : لأنَّ المرادَ الصفةُ كأنه قيل : لا أعبدُ الباطلَ ، ولا تعبدون الحقَّ . وقيل : إن » ما « مصدريةٌ ، أي : لا أعبد عبادتَكم ولا تعبُدون عبادتي » انتهى . يعني بقولِه « لأن المرادَ الصفةُ » يعني أنه أريدُ ب « ما » الوصفُ ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها ، واعتراضَ الشيخِ عليه ، والجوابَ عنه ، وأصلُه في سورة النساء عند قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
وناقشه الشيخ هنا فقال : « أمَّا حَصْرُه في قولِه : » لأن « لا » لا تَدْخُل « إلى آخره . وفي قوله : » كما أن « ما » لا تَدْخُلُ « إلى آخرِه؛ فليس بصحيحٍ ، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ .

وقد ذكر النحاةُ دخولَ « لا » على المضارع يُرادُ به الحالُ ، ودخول « ما » على المضارع يُراد به الاستقبالُ . وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال : « وتَكونُ » لا « نفياً لقولِه يَفْعَلُ ولم يقع الفعلُ » وقال : « وأمَّا » ما « فهي نفيٌ لقولِه : هو يفعلُ إذا كان في حالِ الفعل » فذكر الغالبَ فيهما . وأمَّا قولُه ، في قولِه : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه ، فلا يَسْتقيم لأنَّ عباداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في « ما عَبَدْتُمْ » فلا يُفَسَّر بالماضي إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً . وأمَّا قولُه : « ولا أنتم عابدون ما أعبدُ » ، أي : وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه فعابِدون قد أعملَه في « ما أعبد » فلا يُفَسَّر بالماضي .
وأمَّا قولُه « وهو لم يكن » إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ ، وغيرُ صحيح ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى ، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه ، مُجْتنباً لأصنامِهم ، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ ، وهذه عبادةٌ ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّهِ تعالى ونَبْذِ أصنامِهم؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العباداتِ . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قال المفسِّرون : إلاَّ ليَعْرِفونِ ، فسمى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً « انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه .
ويُجابُ عن الأولِ : أنه بنى أمرَه على الغالبِ فلذلك أتى بالحَصْرِ وأمَّا ما حكاه عن سيبويهِ فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه . وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وقوله : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 72 ] نحوهُ .
وأمَّا قولُه : » كان مُوَحِّداً مُنَزِّهاً « فمُسَلَّمٌ . وقوله : » وهذه أعظمُ العباداتِ « مُسَلَّم أيضاً . ولكنَّ المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجودِهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها ، فقابَلَ هذا صلى الله عليه وسلم بصَلاتِه للهِ تباركَ تعالى . ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة تَرُدُّه وهي : كان يتحنَّث ، كان يتعبَّدُ ، كان يصومُ ، كان يطوفُ كان يَقفُ ، ولم يقُلْ بخلافه إلاَّ شذوذٌ مِنْ الناسِ . وفي الجملةِ فالمسألةٌ خلافيةٌ . وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد؟ قيل : بشرعِ نوحٍ : وقيل : إبراهيم . وقيل : موسى . وقيل : عيسى ، ودلائلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها .

ثم قال الشيخ : « والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل؛ لأن الغالِبَ في » لا « أَنْ تنفي المستقبلَ ، ثم عَطَفَ عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نَفْياً للمستقبلِ ، على سبيل المقابلةِ . ثم قال : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نَفْياً للحال؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ ، ثم عَطَفَ عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون حالاً ولا مستقبلاً . وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر . ولَمَّا قال : » لا أعبدُ ما تبعدون « فأطلق » ما « على الأصنامِ قابلَ الكلام ب » ما « في قولِه » ما أعبد « وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ . وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : إنَّ » ما « لا تقع على آحادِ أولي العلمِ . أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ » .

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

قوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } أتى بهاتَيْنِ الجملتين الإِثباتِيَّتَيْن بعد جملٍ منفيةٍ؛ لأنه لَمَّا كان الأهمُّ انتفاءَه عليه السلام مِنْ دينهم بدأ بالنفي في الجملِ السابقةِ بالمنسوبِ إليه ، فلمَّا تحقَّقَ النفيُ رَجَعَ إلى خطابِهم بقولِه { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } مهادنةً لهم ، ثم نَسَخَ ذلك بالأمرِ بالقتال .
وفتح الياءَ مِنْ « لي » نافعٌ وهشامٌ وحفصٌ والبزيُّ بخلافٍ عنه ، وأسكنها الباقون ، وحَذَفَ ياءَ الإِضافةِ مِنْ « ديني » وقفاً ووَصْلاً السبعةُ وجمهور القراء ، وأثبتها في الحالَيْن سلامٌ ويعقوب ، وأمرُها واضحٌ ممَّا تقدَّم .

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)

قوله : { نَصْرُ الله } : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه ، ومفعولُه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى ، أي : نَصْرُ اللَّهِ إياك والمؤمنين . وكذلك مفعولَيْ « الفتح » ومُتَعَلَّقَهُ . والفتح ، أي : فَتْحُ البلادِ عليك وعلى أمتِك . أو المقصود : إذ جاء هذان الفعلان ، مِنْ غير نظرٍ إلى متعلَّقَيْهما كقوله : { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] . وأل في الفتح عِوَضٌ مِنْ الإِضافة ، أي : وفَتْحُه ، عند الكوفيين ، والعائدُ محذوفٌ عند البصريين ، أي : والفتحُ مِنْه ، للدلالةِ على ذلك . والعاملُ في « إذا » : إمَّا « جاء » وهو قولُ مكي ، وإليه نحا الشيخ ونَضَرَه في مواضعَ وقد تقدَّم ذلك كما نَقَلْتُه عن مكيّ وعنه . والثاني : أنه « فَسَبِّحْ » وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفيُّ . وقد رَدَّ الشيخُ عليهما : بأنَّ ما بعد فاءِ الجواب لا يعملُ فيما قبلَها . وفيه بحثٌ تقدَّم بعضُه في سورةِ « والضُّحى » .

وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)

قوله : { يَدْخُلُونَ } إمَّا حالٌ إنْ كان « رَأَيْتَ » بَصَريةً وفي عبارة الزمخشري : « إنْ كانَتْ بمعنى أبَصَرْتَ أو عَرَفْتَ » وناقشه الشيخُ : بأنَّ رَأَيْتَ لا يُعْرَفُ كونُها بمعنى عَرَفْتَ . قال : « فيَحْتاج في ذلك إلى استثباتٍ . وإمَّا مفعولٌ ثانٍ إن كانت بمعنى عَلِمْتَ المتعدية لاثنين . وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني : يَدْخُلون مبنياً للفاعل . وابن كثير في روايةٍ » يُدْخَلون « مبنياً للمفعول و » في دين « ظرفٌ مجازيٌّ ، وهو مجازٌ فصيحٌ بليغٌ هنا .
قوله : { أَفْوَاجاً } حالٌ مِنْ فاعل » يَدْخُلون « قال مكي : » وقياسُه أفْوُج . إلاَّ أنَّ الضمةَ تُسْتثقلُ في الواوِ ، فشَبَّهوا فَعْلاً يعني بالسكون بفَعَل يعني بالفتح ، فجمعوه جَمْعَه « انتهى . أي : إنَّ فَعْلاً بالسكون قياسُه أَفْعُل كفَلْس وأَفْلُس ، إلاَّ أنه اسْتُثْقِلت الضمةُ على الواو فجمعوه جَمْعَ فَعَل بالتحريكِ نحو : جَمَل وأَجْمال؛ لأنَّ فَعْلاً بالسُّكون على أَفْعال ليس بقياسٍ إذا كان فَعْلٌ صحيحاً نحو : فَرْخ وأفراخ ، وزَنْد وأزناد ، ووردَتْ منه ألفاظٌ كثيرةٌ ، ومع ذلك فلم يَقيسوه ، وقد قال الحوفيُّ شيئاً مِنْ هذا .
قوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } حالٌ ، أي : مُلْتبساً بحمده ، وتقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] .

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

قوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } : أي : خَسِرَتْ ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه : { إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما ، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه . وقوله : « تَبَّتْ » دعاءٌ ، و « تَبَّ » إخبارٌ ، أي : قد وقع ما دُعِيَ به عليه . كقول الشاعر :
4668 جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه ... جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله « وقد تَبَّ » والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما .
وقرأ العامة « لَهَبٍ » بفتح الهاء . وابنُ كثيرٍ بإسكانِها . فقيل : لغتان بمعنىً ، نحو النَّهْر والنَّهَر ، والشَّعْر والشَّعَر ، والنَّفَر والنَّفْر ، والضَّجَر والضَّجْر . وقال الزمخشري : « وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله : » شُمْس ابن مالك « بالضم ، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر :
4669 وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ ... لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في » شُمْس « أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ » شُمْس « الجمع مِنْ قولِه : » أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ « فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ . وكنى بذلك : إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه ، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه ، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ ، كقولِهم : أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه . وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم ، أو لأنَّها أَنْقصُ منه ، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم ، أو لُقْبحْ اسمِه ، فإنَّ اسمَهِ » عبد العزى « فعَدَلَ إلى الكُنْية ، وقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ : إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته ، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ « . انتهى . وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً .
وقُرئ : » يدا أبو لَهَبٍ « بالواوِ في مكانِ الجرِّ . قال الزمخشري : » كما قيل : عليُّ بن أبو طالب ، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان ، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان ، أحدُهما : عبدِ الله بالجرِّ ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب « ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه : { ذاتَ لَهَب } أنها بالفتح . والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ .

مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)

قوله : { مَآ أغنى } : يجوزُ في « ما » النفيُ والاستفهامُ ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير : أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ .
قوله : { وَمَا كَسَبَ } يجوز في « ما » هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، فالعائد محذوفٌ ، وأَنْ تكونَ مصدريةً ، أي : وكَسْبُه ، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني : وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي : لم يَكْسَبْ شيئاً ، قاله الشيخُ ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً ، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله : « وما اكْتَسَبَ » .

سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)

قوله : { سيصلى } العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ ، أي : يصلى هو بنفسِه . وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ . والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون .

وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

قوله : { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب } : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك . وقيل : « وامرأتُه » عطفٌ على الضميرِ في « سَيَصْلى » ، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ . و « حَمَّالةُ الحطبِ » على هذا فيه أوجهٌ : كونُها نعتاً ل « امرأتهُ » . وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها ، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي حَمَّالةُ . وقرأ ابنُ عباس « ومُرَيَّتُهُ » و « مْرَيْئَتُهُ » على التصغير ، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً ، وأدغم فيها أخرى .
وقرأ العامةُ { حَمَّالَةُ } بالرفع . وعاصمٌ بالنصبِ فقيل : على الشَّتْم ، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل . قاله الزمخشري ، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل . وقيل : نصبٌ على الحالِ مِنْ « أمرأتُه » إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ . ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل « امرأتُه » لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ . واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير : أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار ، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا .
وفي قوله : { حَمَّالَةَ الحطب } قولان . أحدُهما : هو حقيقةُ . والثاني : أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس . قال الشاعر :
4670 إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ ... هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ
وقال آخر :
4671 مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ ... ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ
جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه ، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ . وقرأ أبو قلابة { حاملةَ الحطبِ } على وزن فاعِلَة . وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ . وعباس « حَمَّالة للحطَبِ » بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ ، كقولِه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وأبو عمروٍ في روايةٍ « وامرأتُه » باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ .

فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

قوله : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « في جيدِها » خبراً ل « امرأتُه » و « حبلٌ » فاعلٌ به ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ « امرأتُه » على كونِها فاعلة . و « حبلٌ » مرفوعٌ به أيضاً ، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً . و « حَبْلٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ . والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ ، والجِيْدُ : العُنُق ، ويُجْمع على أجيادُ . قال امرؤ القيس :
4672 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ
و { مِّن مَّسَدٍ } صفةٌ ل « حَبْل » والمَسَدُ : لِيْفُ المُقْلِ : وقيل : اللِّيفُ مطلقاً . وقيل : هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن . قال النابغة :
4673 مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها ... له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها . وأنشد :
4647 ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ ... ويقال : رجلٌ مَمْسود الخَلْق ، أي : شديدُه .

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)

قوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } : في « هو » وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ ، فإنه يُرْوى في الأسباب : أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم : صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه . وقيل : قالوا له : أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ . وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ « الله » مبتدأً ، و « أَحَدٌ » خبرُه . والجملةُ خبرُ الأولُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اللَّهُ » بدلاً ، و « أحدٌ » الخبرَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اللَّهُ » خبراً أوَّلَ ، و « أحدٌ » خبراً ثانياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ « أحدٌ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أحدٌ . والثاني : أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ .
وهمزةُ « أحد » بدلٌ من واوٍ ، لأنَّه من الوَحْدة ، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ . وقيل : منه « امرأةٌ أناة » من الونى وهو الفُتورُ . وتقدَّم الفرقُ بين « أحد » هذا و « أحد » المرادِ به العمومُ ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها . ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ « أحد » هذا غيرُ مقلوبةٍ ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ ، والمعروفُ الأولُ . وفَرَّق ثعلب بين « واحد » وبين « أحد » بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان ، و « أحَد » لا يَدْخُلُه ذلك . ويقال : اللَّهُ أحدٌ ، ولا يقال : زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه يُقال : أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ « أنتهى . وقال مكي : » إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان ، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً « .
وقرأ عبد الله وأُبَيُّ { اللَّهُ أحدٌ } دونَ » قُلْ « وقرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم » أحدٌ « بغيرِ » قل هو « وقرأ الأعمش : » قل هو اللَّهُ الواحد « .
وقرأ العامَّةُ بتنوين » أحدٌ « وهو الأصلُ . وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقولِه :
4675 عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ
وقال آخر :
4676 فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا

اللَّهُ الصَّمَدُ (2)

قوله : { الصمد } : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ . وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ ، أي : يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو . وأنشد :
4677 ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ ... بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ
وقال الآخر :
4678 عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له ... خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقيل : الصَّمَدُ : هو الذي لا جَوْفَ له ، ومنه قوله :
4679 شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه ... عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا
وقال ابن كعب : تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه : « لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ » وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع . والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ . ويجوز أنْ يكونَ « الصَّمَدُ » صفةً . والخبرُ في الجملةِ بعده ، كذا قيل : وهو ضعيفٌ ، من حيث السِّياقُ ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ .

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

قوله : { كُفُواً أَحَدٌ } : في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ « يكنْ » و « أحدٌ » اسمُها و « له » متعلِّقٌ بالخبر ، اي : ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له . وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه .
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه . والثاني : أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ ، ونصبُ « كُفُواً » على الحال على ما سيأتي بيانُه . وقال الزمخشري : « الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ . وقد نَصَّ سيبويه في » كتابِه « على ذلك ، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت : هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى ، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه » .
والثاني : أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ « أحد » لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً ، و « له » هو الخبر . قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي : « وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قولَه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً ، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل » كان « بل هو متعلِّقٌ ب » كُفُواً « وقُدِّمَ عليه . التقدير : ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له ، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب » كُفُواً « وتَقَدَّم على » كُفُواً « للاهتمامِ به ، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى ، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك .
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ » له « الخبرُ ، و » كُفُواً « حالٌ مِنْ » أحد « لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه . وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون . قال سيبويه : » وتقول : ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك ، وما كان [ أحدٌ ] مثلُك فيها ، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك ، إذا جعلت « فيها » : مستقراً ، ولم تجعَلْه على قولك : فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم . فإن جَعَلْتَه على « فيها زيدٌ قائمٌ » نَصَبْتَ فتقول : ما كان فيها أحدٌ خيراً منك ، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها ، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقال الشاعر :

4680 ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً ... انتهى كلامُ سيبويه . قال الشيخ : « فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . ومعنى قولِه » مستقرَّاً « أي : خبراً للمبتدأ أو لكان . فإن قلتَ : فقد مَثَّل بالآية . قلت : هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه :
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً ... أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ » له « في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً . ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ » له أحد « بل لو تأخَّرَ » كُفُو « وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل » له « خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ . بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو » كُفُواً « والمعنى : لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه » انتهى ما قاله الشيخ .
وقوله : « ولا يَشُكُّ أحدٌ » إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ . وإلاَّ فقولُه : « هذا الظرفُ ناقصٌ » ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ ، كالمقطوعِ عن الإِضافة ، ونحوِ « في دارٍ رجلٌ » وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو : « ما كان فيها أحدٌ خيراً منك » ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ : « والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ »؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء . وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ . وأسكنَ الفاءَ حمزةُ ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة . وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً . والباقون بالهمزِ مطلقاً . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ] .
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس « كِفاءٌ » بالكسر والمدِّ ، أي : لا مِثْلَ له . وأُنْشِدَ للنابغة :
4681 لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونافعٌ في رواية « كِفا » بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها . والكُفْءُ : النظيرُ . وهذا كفْءٌ لك ، أي : نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح .

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)

قوله : { الفلق } : هو الصُّبْحُ . وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ ، اي : مَفْلوق . وفي الحديث : « الرُّؤْيا مِثْلُ فَلَقِ الصُّبح » قال الشاعر :
4682 يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتَقِباً ... أَرْعَى النجومَ إلى أنْ نَوَّرَ الفَلَقُ
وقال ذو الرمة :
4683 حتى إذا ما انجلى عن وَجْهِه فَلَقٌ ... هادِيْهِ في أُخْرَياتِ الليلِ مُنْتَصِبُ
وقيل : هو جُبُّ في جهنَّمَ . وقيل : المطمئِنُّ من الأرض . وجمعُه فُلْقان . وقيل : كلُّ ما فُلِقَ كالحَبِّ والأرضِ عن النبات .

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)

قوله : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } : متعلقٌ ب « أعوذُ » والعامَّةُ على إضافةِ « شَرِّ » إلى « ما » وقرأ عمرو بن فائد بتنوينه . وقال ابنُ عطية : « عمروُ بن عبيد وبعضُ المعتزلة الذين يَرَوْن أنَّ اللَّهَ لم يَخْلُقِ الشرَّ : » مِنْ شَرٍ « بالتنوين » ما خلقَ « على النفي ، وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيَّةٌ على مذهبٍ باطلٍ » انتهى ولا يتعيَّن أَنْ تكونَ « ما » نافيةً ، بل يجوزُ أن تكونَ موصولةً بدلاً مِنْ « شر » على حذفِ مضافٍ ، أي : من شَرٍ شَرِّ ما خَلَقَ . عَمَّم أولاً [ ثم خَصَّص ثانياً ] وقال ابو البقاء : « وما على هذا بدلٌ مِنْ » شرّ « أو زائدةٌ . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةٌ؛ لأنَّ النافيةَ لا يتقدَّمُ عليها ما في حَيِّزِها . فلذلك لم يَجُزْ أَنْ يكونَ التقدير : ما خَلَقَ مِنْ شر ، ثم هو فاسِدُ المعنى » قلت : وهو رَدٌّ حسنٌ صناعيٌّ . ولا يقال : إنَّ « مِنْ شرّ » متعلقٌ ب « أعوذُ » وحُذِفَ مفعولُ « خَلَق » لأنه خلافُ الأصلِ . وقد أَنْحى مكيُّ على هذا القائلِ ، ورَدَّه بما تقدَّم أقبحَ رَدّ . [ و « ما » مصدريةٌ ، أو بمعنى الذي ] .

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)

قوله : { وَقَبَ } : وَقَبَ الليلُ : أظلم ، والعذابُ : حَلَّ ، والشمسُ : [ غَرَبَتْ : وقيل : وَقَبَ ، أي : دَخَلَ ] قال الشاعر :
4684 وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكأنَّهمْ ... لَحِقَتْهُمُ نارُ الس‍َّمومِ فأُحْصِدوا
والغاسِقُ قيل : الليلُ . وقيل : القمر . سُمِّي الليلُ غاسِقاً لبُرودته . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة ص . واسْتُعيذ من الليل لِما يبيتُ فيه من الآفاتِ . قال الشاعر :
4685 يا طيفَ هندٍ لقد أَبْقَيْتَ لي أَرَقا ... إذ جِئْتَنا طارقاً والليلُ قد غَسَقا
أي : أظلمَ واعْتَكَرَ . و « إذا » منصوب ب « أعوذُ » ، أي : أعوذُ باللَّهِ مِنْ هذا في وقتِ كذا .

وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

قوله : { النفاثات } : جمع نَفَّاثَة مثالُ مبالغةٍ . من نَفَثَ ، أي : نَفَخَ . واخْتُلِفَ فيه فقال أبو الفضل : شَبَّه النَّفْخَ من الفمِ في الرُّقْيَةِ ولا شيءَ معه . فإذا كان بِرِيْقٍ فهو التَّفْلُ وأنشد :
4686 فإنْ يَبْرَأْ فلم أَنْفُِثْ عليهِ ... وإنْ يَفْقَدْ فَحَقَّ له الفُقُودُ
وقال الزمخشري : « نَفْخٌ معه رِيْقٌ » وقرأ الحسن « النُّفَّاثات » بضم النون ، وهي اسم كالنُّفَّاخَة . ويعقوب وعبدُ الله بن القاسم « النافِثات » وهي محتملةٌ لقراءةِ العامة ، والحسن ايضاً وأبو الرَّبيع « النَّفِثات » دونَ ألفٍ كحاذِر وحَذِر . ونَكِّر غاسِقاً وحاسداً لأنه قد يَتَخَلَّفُ الضَّرَرُ فيهما . فالتنكيرُ يفيد التبعيضَ . وعَرَّفَ « النفَّاثات » : إمَّا للعَهْدِ كما يروى في التفسير ، وإمَّا للمبالغةِ في الشَّرِّ .

مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)

قوله : { مَلِكِ الناس إله الناس } : يجوزُ أَنْ يكونا وصفَيْنِ ل « ربِّ الناسِ » وأَنْ يكونا بَدَلَيْنِ ، وأَ‍نْ يكونا عطفَ بيانٍ . قال الزمخشري : « فإنْ قلَتَ : مَلِكِ الناسِ ، إلهِ الناس ، ما هما مَنْ ربُّ الناسِ؟ قلت : عطفُ بيانٍ كقولك : سيرةُ أبي حفصٍ عمرَ الفاروقِ ، بُيِّنَ بمَلِكِ الناس ، ثم زِيْدَ بياناً؛ لأنه قد يُقال لغيره » رَبُّ الناسِ « كقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] . وقد يُقال : مَلِكُ الناس ، وأمَّا إلهُ الناس فخاصٌّ لا شِرْكَةَ فيه ، فَجُعِل غايةَ البيان » واعترض الشيخُ بأنَّ البيانَ بالجوامدِ . ويُجابُ عنه : بأنَّ هذا جارٍ مجرى الجوامِدِ . وقد تقدَّم في « الرحمن الرحيم » أولَ الفاتحةِ تقريرُه .
وقال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ لِمَ قيل : » برَبِّ الناسِ « مضافاً إليهم خاصةً؟ قلت : لأنَّ الاستعاذةَ وقعَتْ مِنْ شرِّ المُوَسُوِسِ في صدورِ الناسِ فكأنه قيل : أعوذُ مِنْ شَرِّ المُوَسْوِسِ إلى الناس بربِّهم الذي يملكُ أمْرَهم » ثم قال : « فإنْ قلتَ : فهلاَّ اكتُفِي بإظهارِ المضافِ إليه مرةً واحدة . قلت : لأنَّ عطفَ البيانِ فكان مَظِنَّةً للإِظهار » .

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)

قوله : { الوسواس } : قال الزمخشري : « اسمٌ بمعنى الوَسْوَسَةِ كالزَّلْزال بمعنى الزَّلْزَلة ، وأمَّا المصدرُ فوِسْواسٌ بالكسرِ ، كالزِّلْزال ، والمرادُ به الشيطانُ سُمِّي بالمصدرِ كأنه وَسْوَسَةٌ في نفسِه ، لأنها صَنْعَتُه وشُغْلُه . أو أُريد ذو الوَسْواس » انتهى . وقد مَضَى الكلامُ معه في أنَّ المكسورَ مصدرٌ ، والمفتوحَ اسمٌ في الزلزلة فليُراجَعْ .
قوله { الخناس } ، أي : الرَّجَّاع ، لأنه إذا ذُكِرَ اللَّهُ تعالى خَنَسَ وهو مثالُ مبالغةٍ من الخُنُوس . وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ في سورةِ التكوير .

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)

قوله : { الذى يُوَسْوِسُ } : يجوز جَرُّه نعتاً وبدلاً وبياناً لجَريانه مَجْرى الجوامِد ، ونصبُه ورفعُه على القطع .

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

قوله : { مِنَ الجنة } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ من « شَرِّ » بإعادة العاملِ ، أي : مِنْ شَرِّ الجِنة . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ ذي الوَسواس؛ لأنَّ المُوَسْوِسَ من الجنِّ والإِنس . الثالث : أنَّه حالٌ من الضمير في « يُوَسْوِسُ » أي : يُوَسْوِس حالَ كونِه مِنْ هذين الجنسَيْنِ . الرابع : أنه بدلٌ من « الناس » وجَعَلَ « مِنْ » تَبْييناً . وأَطْلَقَ على الجِنِّ اسمَ الناس؛ لأنهم يتحرَّكون في مُراداتهم ، قاله أبو البقاء . إلاَّ أنَّ الزمخشري أبطلَ فقال بعد أَنْ حكاه : « واسْتَدَلُّوا ب { نَفَرٌ } [ الجن : 1 ] و { رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] ما أحقَّه؛ لأن الجنَّ سُمُّوا جِنَّاً لاجتنانِهم والناسَ ناساً لظهورِهم ، من الإِيناس وهو الإِبصار ، كما سُمُّوا بَشَراً . ولو كان يقع الناسُ على القبيلَيْنِ وصَحَّ وثَبَتَ لم يكن مناسِباً لفصاحةِ القرآن وبعده مِنَ التَصَنُّع ، وأَجْوَدَ من أن يرادَ بالناس الناسي كقولِه : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } القمر : 6 ] وكما قرئ { مِنْ حيث أفاضَ الناسي } ثم بُيِّنَ بالجِنة والناس؛ لأنَّ الثَّقَلَيْن هما النوعان الموصوفانِ بنِسْيان حَقِّ اللَّهِ تعالى » قلت : يعني أنه اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء ، والمرادُ اسمُ الفاعلِ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة ، وأَنْشَدْتُ عليه هناك شيئاً من الشواهد .
الخامس : أنه بيانٌ للذي يوسوِسُ ، على أن الشيطان ضربان : إنسِيُّ وجنيُّ ، كما قال { شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] . وعن أبي ذر : أنه قال لرجل : هل اسْتَعَذْتَ من شياطينِ الإِنس؟ السادس : أنَّه يتعلَّق ب « يُوَسْوِس » و « مِنْ » لابتداءِ الغاية ، أي : يُوَسْوِسُ في صدورِهم من جهة الجنِّ ومِنْ جهة الإِنس . السابع : أنَّ « والناس » عطفٌ على « الوَسْواس » أي : مِنْ شَرِّ الوَسْواس والناس . ولا يجوزُ عطفُه على الجِنَّةِ؛ لأنَّ الناسَ لا يُوَسْوِسُوْنَ في صدورِ الناس إنما يُوَسْوِس الجنُّ ، فلمَّا استحالَ المعنى حُمِل على العطف على الوَسْواس ، قاله مكي وفيه بُعْدٌ كبيرٌ لِلَّبْسِ الحاصلِ . وقد تقدَّم أنَّ الناسَ يُوَسْوِسون أيضاً بمعنىً يليقُ بهم .
الثامن : أنَّ { مِنَ الجنة } حالٌ من « الناس » ، أي : كائنين من القبيلين ، قاله أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ : أيُّ الناسِ المتقدمُ أنه صاحبُ الحالِ؟ وعلى كلِّ تقديرٍ فلا يَصِحُّ معنى الحاليةِ [ في شيءٍ منها ] ، لا الأولُ ولا ما بعدَه . ثم قال : « وقيل : هو معطوف على الجِنَّة » يريد « والناسِ » الأخيرَ معطوفٌ على « الجِنة » وهذا الكلامُ يَسْتدعي تقدُّمَ شيءٍ قبلَه : وهو أَنْ يكونَ « الناس » عطفاً على غير الجِنة كما قال به مكي ثم يقول : « وقيل هو معطوفٌ على » الجِنة « وفي الجملة فهو كلامٌ متسامَحٌ فيه [ سامَحَنا الله ] وإياه وجميعَ خلقِه بمنِّة وكَرَمِه وخَتَمَ لنا منه بخيرٍ ، وخَتَم لنا رِضاه عنَّا وعن جميع المسلمين .
وهذا آخِرُ ما تَيَسَّر لي من إملاءِ هذا الموضوعِ وحَصْرِ ما في هذا المجموعِ متوسِّلاً إليه بكلامِه متشفِّعاً لديه برسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في أن يجعلَه خالصاً لوجهِه مُوْجِباً للفوز لديه ، فإنه حسبي ونِعْمَ الوكيلُ . ووافق الفراغُ منه تصنيفاً وكتابة في العُشْرِ الأوسط من شهر رجبٍ الفردِ من شهورِ سنةِ أربعٍ وثلاثين وسبعمئة أحسنَ الله تقضِّيَها بمَنِّه وكَرَمِه . قاله وكتبه افقرُ عبيدِه إليه أحمدُ بنُ يوسفَ بنِ محمدِ مسعودٍ الشافعيُّ الحلبيُّ حامداً لله ربِّ العالمين ومُصَلِّياً على رسولِه الأمين وآلهِ وصحبِه أجمعين وسلَّم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...