الأحد، 14 مايو 2023

ج1وج2. الدر المصون في علم الكتاب المكنون السمين الحلبي

ج1 الكتاب الدر المصون في علم الكتاب المكنون السمين الحلبي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

مصدر بَسْمَلَ ، أي قال : بسم الله ، نحو : حَوْقَلَ وهيْلَلَ وحَمْدَلَ ، أي : قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله . وهذا شَبيه بباب النحت في النسب ، أي إنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً ، فينسِبون إليه كقولهم : حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس . قال :
6 وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة ... كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً
وهو غيرُ مقيس ، فلا جرم أن بعضهم قال في : بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة ، [ قال الماوردي : يقال لمَنْ قال : بسم الله : مُبَسْمِل وهي ] لغةٌ مُوَلَّدة وقد جاءَتْ في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :
7 لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها ... ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ
وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة ك ثعلب والمطرِّز .
وبِسْم : جارٌّ ومجرور ، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم ، لأنَّ المعنى : أقرأ مستعيناً بالله ، ولها معانٍ أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها ، وهي : الإِلصاقُ حقيقةً أو مجازاً ، نحو : مَسَحْتُ برأسي ، مررْتُ بزيدٍ ، والسببية : [ نحو ] { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء : 160 ] ، أي بسببِ ظلمهم ، والمصاحبة نحو : خرج زيدٌ بثيابه ، أي مصاحباً لها ، والبدلُ كقوله عليه السلام : « ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم » أي بدلها ، وكقول الآخر :
8 فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا
أي : بَدَلَهم ، والقسم : أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ ، والظرفية نحو : زيد بمكة أي فيها ، والتعدية نحو : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، والتبعيض كقول الشاعر :
9 شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
أي من مائه ، والمقابلة : « اشتريتهُ بألف » أي : قابلتُه بهذا الثمنِ ، والمجاوزة مثلُ قولِه تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] أي عن الغمام ، ومنهم مَنْ قال : لا تكون كذلك إلا مع السؤال خاصة نحو : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي عنه ، وقول علقمة :
10 فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني ... خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه ... فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ
والاستعلاء كقوله تعالى : { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } [ آل عمران : 75 ] . والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإِلصاق أو التعديةِ ، ويَرُدُّون جميعَ المواضعِ المذكورةِ إليهما ، وليس هذا موضعَ استدلال وانفصال .
وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة ، فالمطَّردةُ في فاعل « كفى » نحو : { وكفى بالله } [ النساء : 6 ] / أي : كفى اللهُ ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر :
11 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كفى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً
وفي خبرِ ليس و « ما » أختِها غيرَ موجَبٍ ب إلاَّ ، كقوله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ [ عَبْدَهُ ] } [ الزمر : 36 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ } [ الأنعام : 132 ] وفي : بحَسْبكِ زيدٌ . وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ « كفَى » ، كقوله :
12 فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا ... حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا
أي : كَفانا ، وفي البيت كلامٌ آخرُ ، وفي المبتدأ غيرَ « حَسْب » ومنه في أحدِ القولين :

{ بِأَييِّكُمُ المفتون } [ القلم : 6 ] وقيل : المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور ، فعلى هذا ليست زائدةً ، وفي خبر « لا » أختِ ليس ، كقوله :
13 فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ
أي : مُغْنياً ، وفى خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو :
14 وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ ... بِأعجلِهم ، إذْ أَجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ
أي : لم أكنْ أعجلَهم ، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيَّيْنِ أيضاً كقوله :
15 فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ ... حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها
وقولِ الآخر :
16 دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه ... فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ
أي : ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً ، ولم يَجِدْني قُعْدَداً ، وفي خبر « إنَّ » كقول امرئ القيس :
17 فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها ... فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي : فإنك المجرِّب ، وفي : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله } [ الأحقاف : 33 ] وشبهه .
والاسمُ لغةً : ما أبانَ عن مُسَمَّى ، واصطلاحاً : ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه ، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ ، والتسميةُ : جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى .
واختلف الناسُ : هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ ، تكلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه ، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه ، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة ، أجودُها : أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية ، والتسميةُ غيرُ الاسم ، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم ، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : باسم مُسَمَّى اللهِ . الثالث : أن لفظَ « اسم » زائدٌ كقولِه :
18 إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ
أي : السلام عليكما ، وقول ذي الرمة :
19 لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ ... داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ
وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب .
واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش : ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك « . وقال قطرب : » زيد للإِجلال والتعظيم « ، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما .
ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ ، نحو : سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ ، فتقديرُه : جاءني مسمَّى هذا اللفظِ ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ : بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ ، ومسجدُ الجامعِ : مسجدُ المكانِ الجامعِ .
واختلف النحويون في اشتقاقه : فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو الارتِفاعُ ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ ، وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ .

استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على « أَسْماء » وتصغيرهم له على سُمَيّ ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها ، وتقولُ العَربُ : فلانٌ سَمِيُّك ، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا ، وأَسْمَيْتُه بكذا ، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير : أَوْسام ، وفي التصغير : وُسَيْم ، ولقالوا : وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا ، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك . وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كَوْنِها عوضاً من الفاء . فإن قيل : قولُهم « أسماء » في التكسير و « سُمَيّ » في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ : أَوْسَاماً ووُسَيْماً ، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام : أَسْماواً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء ، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ تصغير جَرْو . فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ . وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا؟ والجوابُ أن له فائدةً ، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول : إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم وعند فَنائِهم ، لا تأثيرَ لهم في أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ . وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءً وصفاتٍ وهو قول المعتزلة ، وهذا أشدُّ خطأً من قولِهم بخلق القرآن وعلى هذا الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى .
وفي الاسم خمسُ لغاتٍ : « اسم » بضم الهمزة وكسرها ، و « سُِم » بكسر السين وضمها . وقال أحمد بن يحيى : « سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو ، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي ، وعلى اللغتين قوله :
20 وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ ... يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ
مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ ... يُنْشَدُ بالوجهين ، وأنشدوا على الكسر :
21 باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ ... [ فعلى هذا يكون في لام » اسم « وجهان ، أحدُهما : أنها واو ، والثاني : أنها ياء وهو غريبٌ ، ولكنَّ ] أحمد بن يحيى جليلُ القدر ثقةٌ فيما ينقل . و » سُمَىً « مثل هُدَىً . واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر :
22 واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً ... آثرك اللهُ به إيثارَكَا
ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء به منصوباً ، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل : سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ .

وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً ، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله :
23 وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ ... ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما
وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي : اسم واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم . والأصل في هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل ، وإنما حَذَفوها حين يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال . وقيل : ليوافقَ الخطُّ اللفظَ . وقيل لا حذفَ أصلاً ، وذلك لأن الأصل : « سِمٌ » أو « سُم » بكسر السين أو ضمها فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً ، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ ، [ وهذا حكاه النحاس وهو حسن ] ، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ ، نحو : باسم الرحمن ، هذا هو المشهور ، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو : بسمِ ربِّك ، بسمِ الخالق .
واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به ، فعلٍ أو ما في معناه ، إلا في ثلاثِ صور : حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما ، وزاد الاستاذ ابن عصفور كافَ التشبيه ، وليس بشيء فإنها تتعلَّق . إذا تقرر ذلك ف « بسم الله » لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف .
واختلف النحويون في ذلك ، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ ، وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين : فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه ، تقديره : ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة . وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ . وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه ، والتقدير : ابتدائي كائنٌ باسمِ الله ، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو : زيدٌ بمكةَ ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه لقيامِهِ مقامَ الخبر . وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله ، قال : لأنَّ الأصلَ التقديمُ ، والتقدير : أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله . ومنهم مَنْ قدَّر بعده : والتقدير : باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو ، وإلى هذا نحا الزمخشري قال : « ليفيدَ التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّاً على الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم : باسم اللات ، باسم العُزَّى » وهذا حسنٌ جداً ، ثم اعترض على نفسِه بقولِه تعالى : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ القلم : 1 ] ، حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه ، ثم أجاب بأنَّ تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة أهمَّ « . وأجاب غيرُه بأنَّ ب » اسم ربك « ليس متعلقاً ب » اقرأ « الذي قبله ، بل ب » اقرأ « الذي بعده ، فجاء على القاعدة المتقدمة .

وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون « اقرأ » الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل .
واختلفوا أيضاً : هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه : اقرأ أنت باسم الله ، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره : اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ .
و « الله » في « بسم الله » مضافٌ إليه ، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها . وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق ، لاَ يُطلق على غيره ، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به ، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ . قال الزمخشري : « كأنه صار عَلَماً بالغلَبة » ، وأمّا « إله » المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره ، قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، { [ أَرَأَيْتَ ] مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق؟ ، والصوابُ الأولُ ، وهو أعرفُ المعارف . يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [ له ] : ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال : خيراً كثيراً ، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ .
ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع ، ومنه قيل للشمس : إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها ، وقيل : لاتخاذِهِم إياها معبوداً ، وعلى هذا قيل : « لَهْيَ أبوك » يريدونَ : للهِ أبوك ، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام . وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ . وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر :
24 ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى ... لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ
قال : الأصلُ : لله إنك كريمٌ عليَّ ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة ، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف ، فصار اللفظ : لَهْ ، ثم أَلقى حركة همزة « إنَّ » على الهاء فبقي : لَهِنَّك كما ترى ، وهذا سماجَةٌ من قائلِه . وفي البيت قولان أيسرُ من هذا .
ومنهمَ مَنْ قال : « هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً . أي احتجَبَ ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه ، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام ، وفُخِّمت لامُه . ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا : فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها ، وعلى كل تقدير : فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً ، وكان الأصلَ : لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً .

ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه ، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي : العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع ، فمعنى « إله » أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه . ومنه قولُ رؤبة :
25 لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي
أي : من عبادتِه ، ومنه { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] أي عبادتك . وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله : « كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات » وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر ، ولهذا/ رُوي : « تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله » وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ قبل الهاء زائدةٌ ، فأصلُ الجلالة الكريمة : الإِله ، كقولِ الشاعر :
26 معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ ... ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ
ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس ، والأصل أُناس كقوله :
27 إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ ... نَ على الأُناس الآمِنينا
فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم . أو نقول : إن الهمزة من الإِله حُذِفت للنقل ، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل ، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم ، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال .
ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه ، وعلى ذلك قال بعض الحكماء : « الله محبوب للأشياءِ كلها ، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] ، فأصله : وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء ، والأصلُ : وِشاح ووِعاء ، فصار الفظُ به : إلاهاً ، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام ، ويُعْزَى هذا القول للخليل ، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه : فِعال ، وهو بمعنى مَفْعول أي : مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب .
وُردَّ قولُ الخليل بوجهين ، أحدهما : أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ ، ولم يَقُلْه أحد ، ويقولون : إشاح ووشاح وإعاء ووعاء . والثاني : أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها ، ولم يُجْمع » إله « إلا على آلهة .
وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه ، كما ستقف عليه ، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل .
وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً ، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً . وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم » لاهِ أبوك « ، والأصل : للهِ أبوك كما تقدم ، قالوا : وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط » اللات « اسم الصنم ، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه .

وقيل : لئلا يُشَبَّه بخط « اللاه » اسمَ فاعل من لها يلهو ، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه ، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ . وقيل : حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها ، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله ، قال الشاعر :
28 أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ
وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ ، ولكنه يريد ما قلته . ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال . وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري . ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة : فمنهم مَنْ يُرَقِّقها ، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها ، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه : « حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً » .
ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال ، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف ، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو : لآَّل وسَآَّل ، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ .
ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب ، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله : « لاها » فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا : الله ، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر :
29 كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ ... يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ
فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي .
[ ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب ] قالوا : وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير ، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك ، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ : « لَهُ » ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً ، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين ، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة .
ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم ، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه ، إنما تُعَرِّفه صفاتُه ، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة ، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه . وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به ، فتقول : إله عظيم واحد ، كما تقول : شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم ، ولا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل ، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً ، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه ، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها ، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً .

والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك ، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب .
الرحمن الرحيم : صفتان مشتقتان من الرحمة ، وقيل : الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم : { وَمَا الرحمن } [ الفرقان : 60 ] وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ ، ولذلك لم يقولوا : وَمَنْ الرحمن؟ وقد تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة .
وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن « الرحمن » بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له ، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة . واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ ، كقوله تعالى : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ] { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] . وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله ، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ ، ألا تراهم قالوا : { وَمَا الرحمن } [ الفرقان : 60 ] ولم يقولوا : وما اللهُ . انتهى . أمَّا قوله : « جاء غيرَ تابع » فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً ، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه ، كقولِه تعالى : { وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [ فاطر : 28 ] أي نوع مختلف ، وكقول الشاعر :
30 كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها ... فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ
أي : كوعلٍ ناطح ، وهو كثير .
والرحمة لغةً : الرقةُ والانعطافُ ، ومنه اشتقاق الرَّحِم ، وهي الابطنُ لانعطافِها على الجنين ، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه . هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري . ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ ، وقيل : الرحمة إرادةُ الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك ، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ ، وهي حينئذ صفةُ ذاتٍ ، وهذا القولُ هو الظاهرُ .
وقيل : الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد ، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ ، وعلى هذا رُوي : « الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف » .
[ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : « وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي : أكثرُ رحمة » . قال الخطَّابي : وهو مُشْكِلٌ؛ لأن الرقة ] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ . وقال الحسين بن الفضل : « هذا وَهْمٌ من الراوي ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته » وقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي على العنف » ، ويؤيِّده الحديثُ ، وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة .
واختلف أهلُ العلمِ في « الرحمن الرحيم » بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين .

فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم ، ثم اختلف هؤلاء على قولين ، فمنهم مَنْ قال : جُمِع بينهما تأكيداً ، ومنهم مَنْ قال : لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه : الرحمنُ الرحيم ، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط . وهذا ضعيفٌ جداً ، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة ، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ .
ومنهم مَنْ قال : لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر ، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال : « رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة » ، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم ، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط ، ويُروَى : رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة ، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى .
وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان ، ثم اختلف هؤلاء أيضاً : فمنهم مَنْ قال : الرحمن أبلغُ ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى ، واختاره الزمخشري ، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً ، ولذلك يقال : رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط ، قال الزمخشري : « فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى ، إلى الأعلى ، كما يُقال : شُجاع باسل ولا يقال : باسِلٌ شجاع . ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ والرديف ليتناولَ ما دَقَّ منها ولَطَف .
ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال : » رحيم الدنيا وحمان الآخرة « لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن . لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ ، وأثرُها فيها أظهرُ ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة . والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ ، فمبالغةُ » فَعْلان « من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ » فعيل « من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة . وقال أبو عبيدة : » وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل ، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل ، نحو : رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً ، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول ، قال :
31 فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً ... فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ
فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل . والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ ، ولذلك لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل . حكى ابنُ سِيده : « زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ غيرك » .
والألفُ واللام في « الرحمن » للغلَبة كهي في « الصَّعِق » ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى عند أكثر العلماء ، لقوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] ، فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه ، بخلاف « رحيم » فإنه يُطلق على غيره تعالى ، قال [ تعالى ] في حَقَّه عليه السلام :

{ بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى- :
32 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا
فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم ، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ واللامِ أو مضافاً ، ولا يُلتفت لقوله : « لا زِلْتَ رَحْمانا » لشذوذه .
ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب ، ليس بعربيِّ الأصل ، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [ والمبرد وأنشد ] :
33 لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ ... بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا
أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ ... ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا
وفي وصل الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ ، الذي عليه الجمهور : الرحيمِ بكسر الميم موصولةً بالحمد . وفي هذه الكسرة احتمالان : أحدهما - وهو الأصحُّ - أنها حركةُ إعرابٍ ، وقيل : يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف ، فلمَّا وقع بعدها ساكن حُرِّكت بالكسر . والثاني من وَجْهَي الوصل : سكونُ الميمِ والوقفُ عليها ، والابتداءُ بقطع ألف « الحمد » ، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه عليه السلام . الثالث : حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : الرحيمَ الحمدُ « بفتح الميم ووصل ألف الحمد ، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل ، فألقَتْ حركة همزة الوصل على الميم الساكنة . قال ابن عطية : » ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [ فيما علمت ، « وهذا فيه نظرٌ يجيئ في : { الم الله } [ آل عمران : 1-2 ] قلت : يأتي تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى ، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع ] ، وهو أَوْلى من هذا التكلُّف .

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)

الحمدُ : الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا ، يقال : حَمِدْتُ الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته ، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ الجَواح ، إذ لا يقال : حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً ، بخلافِ الشكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ ، يقال : شكرتُه على ما أعطاني ، ولا يقال : شكرتُه على شجاعته ، ويكون بالقلب واللسان والجوارح ، قال تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] وقال الشاعر :
34 أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً ... يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا
فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ . وقيل : الحمدُ هو الشكرُ بدليل قولهم : « الحمدُ لله شكراً » . وقيل : بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ من الشكرِ ، وقيل : الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه ، والشكرُ الثناءُ عليه بأفعالِه ، فالحامدُ قسمان : شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة . وقيل : الحمدُ مقلوبٌ من المدحِ ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب ، لأن المقلوبَ أقلُّ استعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مستويان في الاستعمال ، فليس ادِّعاءُ قلبِ أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس ، فكانا مادتين مستقلتين ، وأيضاً فإنه يَمْتنع إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ ، فإنه يقال : « حَمِدْتُ الله » ولا يقال مَدَحْته ، ولو كان مقلوباً لَما امتنع ذلك . ولقائلٍ أن يقول : مَنَعَ من ذلك مانعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .
وقال الراغب : « الحمدُ لله الثناء [ عليه ] بالفضيلة ، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر ، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير ، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول ، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة ، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً ، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمود إذا حُمِد ، ومُحْمَدٌ [ وُجد محموداً ] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة ، وأحْمَدُ أي : إنه يفوق غيرَه في الحمد » .
والألفَ واللامُ في « الحَمْد » قيل : للاستغراقِ وقيل : لتعريفِ الجنسِ ، واختاره الزمخشري ، قال الشاعر :
35 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ
وقيل : للعَهْدِ . وَمَنع الزمخشري كونَها للاستغراق ، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك ، ويُشْبِه أن يقال : إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإِخبارُ به وحينئذ يستحيلُ كونُها للاستغراقِ ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه ومن غيرِه بخلافِ كونِها للجنسِ .
والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه على أَفْعُل وأنشد :
36 وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه ... بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي
وقرأ الجمهور : « الحمدُ لِلَّه » برفع الدال وكسر لام الجر ، ورفعُه على الابتداء ، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة .

ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار ، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً ، أي : الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله . والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها ، وذلك أنك إذا قلت : « خرجت فإذا في الدار زيدٌ » ، و « أمَّا في الدار فزيدٌ » ، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم ، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ . وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في بعضِ الصور ، وهو ما إذا ما وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ ، نحو : « الذي في الدار » فليكنْ راجحاً في غيره . والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان اعتباره أولى ، بخلاف وقوعه صلةً ، والأولُ غيرُ أجنبي .
ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها ، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً ، فأمَّا قول الشاعر :
37 لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ ... فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ
فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه . وأمَّا قوله تعالى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ المتعلِّقَ به . ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه يتعيَّن أن يكون فعلاً ، وإلاَّ في الصورتين المذكورتين فإنه يتعيَّنُ أَنْ يكونَ اسماً . واختلفوا : أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ؟ فقوم رجَّحوا تقديرَ الاسمِ ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين .
وقرئ شاذاً بنصب الدال من « الحمد » ، وفيه وجهان : أظهرهُما أنه منصوبٌ على المصدرية ، ثم حُذِف العاملُ ، وناب المصدرُ مَنَابَه ، كقولهم في الإِخبار : « حمداً وشكراً لا كُفْراً » ، والتقدير : أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن جملة خبرية . وقال الطبري : إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمدَ لله ، وعلى هذا يجييء « قولوا إياك » فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر ، وهو محتملٌ للوجهين ، ولكنَّ كونَه خبرياً أَوْلَى من كونه طلبياً؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ والمُبْدلِ منه . والثاني : أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ ، أو اتلوا الحمدَ ، كقولهم : « اللهم ضَبُعاً وذئْباً » ، أي اجمَعْ ضبُعاً ، والأولُ أحسن للدلالةِ اللفظيةِ .
وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب ، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ ، ولذلك قال العلماء : إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه :

{ قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أحسنُ مِنْ قول الملائكة « قالوا سلاماً » ، امتثالاً لقوله تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ النساء : 86 ] .
و « لله » على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره : أَعْنِي لله ، كقولهم : سُقْياً له وَرَعْياً لك ، تقديرهُ : أعني له ولك ، ويدلُّ على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا : / سُقياً زيداً ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] من باب الاشتغالِ لأنَّ « لهم » لم يتعلَّق بِتَعْساً كما مَرَّ . ويحتمل أن يقال : إنَّ اللام في « سُقياً لك » ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه .
وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال ، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها ، وهي لغة تميم وبعض غطفان ، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس ، ومنه : « اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ » ، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة . ومثله :
38 وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ
الأصل : ويلٌ لأُِمها ، فَحَذَفَ اللامَ الأولى ، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة ، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها ، وحَذَفَ الهمزةَ ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ ، فصار اللفظ : وَيْلِمِّها ، ومنهم مَنْ لا يُتبع ، فيقول : وَيْلُمِّها بضم اللام ، قال :
39 وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ [ وإخلافٌ وتَبِدِيلُ ]
ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ ، لأنَّ الإِعرابَ مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإِتباعِ .
وقُرئ أيضاً : « لُلَّهِ » بضمِّ لامِ الجرِّ ، قالوا : وهي إتباعٌ لحركة الدالِ ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس ، يُتْبعون الثاني للأول نحو : مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين ، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم ، وعليه قُرئ : { مُرْدِفين } [ الأنفال : 9 ] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في « الحمدُ لله » وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها .
ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ ، أي الحمدُ مستحقٌ لله ، ولها معانٍ أُخَرُ ، نذكرها الآن ، وهي الملك والاستحقاق [ نحو : ] المالُ لزيد ، الجُلُّ للفرس ، والتمليك نحو : وَهَبْتُ لك وشبهِه ، نحو : { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] ، والنسب نحو : لزيد عَمُّ « والتعليلُ نحو : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس } [ النساء : 105 ] والتبليغ نحو : قلتُ لك ، والتعجبُ في القسم خاصة ، كقوله :
40 للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ ... بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ
والتبيين نحو : قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، والصيرورةُ نحو قوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، والظرفية : إمَّا بمعنى في ، كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أو بمعنى عِنْد ، كقولهم : » كتبتُه لخمسٍ « أي عند خمس ، أو بمعنى بَعْدَ ، كقوله تعالى :

{ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : بعد دلوكها ، والانتهاء ، كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ } [ فاطر : 13 ] ، والاستعلاء نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] أي على الأذقان ، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أو كان العاملُ فَرْعاً ، نحوُ قولِه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله :
41 ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً ... أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا
وأمَّا قوله تعالى : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فقيلَ : على التضمين . وقيل هي زائدة .
قوله { رَبِّ العالمين } : الربُّ لغةً : السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود ، ومنه :
42 أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه ... لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ
والمُصْلِح . وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد :
43 قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه ... بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ
والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك ، فليس هو معنى زائداً ، وقيل : يكون بمعنى الخالق .
واختلف فيه : هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ؟ فمنهم مَنْ قال : هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه ، فقيل : هو على وزن فَعَل كقولك : نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ ، وقيل : وزنه فاعِل ، وأصله رابٌّ ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال ، كقولهم : رجل بارٌّ وبَرٌّ . ولِقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ . ومنهم من قال : هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه ، قال : « لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن » ، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل ، نحو : رجل عَدْلٌ وصَوم ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة ، نحو قوله تعالى : { ارجع إلى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : « هو ربُّ الدار وربُّ البعير » وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الناس من غير قَيْدٍ ، قال الحارث بن حلزة :
44 وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ ... مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ
وهذا من كفرهم .
وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه ، وقُرئ منصوباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه : إمَّا [ منصوبٌ ] بما دَلَّ عليه الحمدُ ، تقديره : أَحْمَدُ ربِّ العالمين ، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف . وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ .
وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك : اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً ، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [ التابع ] الإِتباعُ والقطعُ ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف ، ولا يَجُوز إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ ، نحو قَولِهم : « الحمدُ لله أهلَ الحمدِ » رُوِي بنصب « أهل » ورفعِه ، أي : أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد .

وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ : إمّا إتْباعِ الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع ، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ ، نحو : مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة .
والعالمين : خفضٌ بالإِضافةِ ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه ، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم ، لأنَّ الصحيحَ في « عالَم » أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى ، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه ، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم ، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد ، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ « أعراباً » ليس جمعاً لِ « عَرَب » لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي . فإنْ قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون « عالَمون » جمعاً ل « عالَم » مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ؟ أُجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال : شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره ، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك . وفي الجواب نظرٌ ، إذ لقائلٍ أن يقول : شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً ، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ « عالَمين » مراداً به العاقلُ ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن « عالَمين » إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به الملائِكةُ والجنُّ والإِنسُ ، وقال الراغبُ أيضاً : « إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به ، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة ، فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ » ، وقال الراغب أيضاً : « وأمَّا جَمْعُه جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتِهم ، والإِنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ غَلَب حكمُه » ، وظَاهرُ هذا أن « عالَمين » يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم ، وهو مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ ، كما زَعَم بعضُهم ، وكلامُ الراغبِ هو الأصحُّ الظاهرُ .

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)

نعت أو بدل ، وقُرئا منصوبَيْنِ مرفوعَيْنِ ، وتوجيه ذلك ما ذكر في { رَبِّ العالمين } ، وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقهِما في البسملة/ فأغنى عن إعادته .

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

يجوز أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مشتقٌّ من المَلْك بفتح الميم ، وهو الشدُّ والربط ، قال الشاعر :
45 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها
ومنه : « إملاكُ العَروسِ » ، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح .
وقُرئ « مالِك » بالألف ، قال الأخفش : « يقال : مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ بضم الميم ، ومالكٌ بيِِّنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها » ، ورُوِي ضَمُّها أيضاً بهذا المعنى . ورُوي عن العربِ : « لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك » مثلثةَ الفاء ، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة ، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ ، والمضمومُ هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره ، والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه ، ولا يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه . وقال الراغب : « والمِلْك - أي بالكسر - كالجنس للمُلْك - أي بالضم - فكل مِلْك - بالكسر - مُلك ، وليس كل مُلك مِلكاً » ، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ ، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك ، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك - بالضم ، ومالِكاً مأخوذ من المِلْك بالكسر . وقيل : الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل مَنْ يَمْلِكُ السياسة : إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ هواها ، وإمَّا في نفسه وفي غيره ، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ .
وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى ، وهذا غير مَرْضِيٍّ ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال : [ « إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن ] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن ، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى » نقله أبو عمر الزاهد في « اليواقيت » . وقال الشيخ شهابُ الدين أبو شامةَ : « وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين ، حتى إنَّ بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى ، وليس هذا بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما ، ثم قال : » حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ « ذكر ذلك عند قوله : » مَلِك يوم الدين ومالِك « .
وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه . فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ » مالك « أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه ، إذ يقال : » مالِكُ الجِّن والإِنس والطير « ، وأنشدوا على ذلك :
46 سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه ... مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ

وقالوا : « فلانٌ مالكُ كذا » لمَنْ يملكه ، بخلاف « مِلك » فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو : « مَلِك العرب والعجم » ، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في « الرحمن » ، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي « مَلِك » .
وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ « مَلِك » ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله : { رَبِّ العالمين } فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ : « مالك » لأنها تكرارٌ ، قال أبو عليّ : « ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً ، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ ، نحو : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } [ الحشر : 24 ] . وقال أبو حاتم : » مالِك « أَبْلَغُ في مدح الخالق ، و » مَلِك « أبلغُ في مدحِ المخلوقِ ، والفرقُ بينهما أن المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك ، وإذا كان الله تعالَى مَلِكاً كان مالكاً . واختاره ابن العربي . ومنها : أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك ، بخلافِ » مالك « فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم ، ولإِشعارِه بالكثرةِ ، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك ، بقوله تعالى : » قل اللَّهُمَّ مالكَ المُلْكِ « ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم ، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم- الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه .
وقُرئَ مَلْك بسكون اللام ، ومنه :
47 وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا
ومَليك . ومنه :
48 فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما ... قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها
ومَلِكي ، وتُرْوَى عن نافع .
إذا عُرف هذا فكونُ » مَلِك « نعتاً لله تعالى ظاهر ، فإنه معرفةٌ بالإِضافة ، وأمَّا » مالك « فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً ، لأنَّ إضافته محضة فَيَتعرَّف بها ، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ : » مَلَكَ يومَ الدين « ، فجعل » مَلَك « فعلاً ماضياً ، وإن أُريد به الحالُ أو الاستقبال فَيُشْكِلُ ، لأنه : إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف ، وإذا لم يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً ، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم . والذي ينبغي أن يُقالَ : إنه نعتٌ على معنى أنَّ تقييدَه بالزمانِ غيرُ معتَبَرٍ ، لأنَّ الموصوفَ إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غيرَ معتبرٍ ، فكأنَّ المعنى - والله أعلم - أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ مطلقاً ، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ ، وهذا ما مالَ إليه أبو القاسم الزمخشري .
وإضافةُ مالك ومَلِك إلى » يوم الدين « من باب الاتِّساع ، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم ، والتقدير : مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين .

ونظيرُ إضافة « مالك » إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة « طَبَّاخ » إلى « ساعات » من قول الشاعر :
49 رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ
إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو « زادَ الكَسِل » ، وفي الآيةِ الكريمةِ غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه . ويجوز أن يكونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ حَذْفٍ .
ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ ، ويؤيِّدُه ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ : « مَلَكَ يومَ الدينِ » فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها كونُ « يوم » مفعولاً به . والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل ، ومنهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى « في » مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] ، قال : « المعنى مَكْرٌ في الليل ، إذ الليل لا يُوصَف بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ ، فالمكرُ واقعٌ فيه » . والمشهورُ أن الإِضافةَ : إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى « مَنْ » ، وكونها بمعنى « في » غيرُ صحيح . وأمَّا قولُه تعالى : { مَكْرُ اليل } فلا دَلالةَ فيه ، لأن هذا من باب البلاغة ، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما ، فهو نظيرُ قولهم : نهارُه صائمٌ وليلُه قائم ، وقولِ الشاعر :
50 أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ ... والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ
لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في ذلك ، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم .
واليومُ لغةً : القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار ، قال تعالى : { والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } [ القيامة : 29-30 ] ، وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى ، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار ، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس . وقال الراغب : « اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ الشمس إلى غروبها » ، قلت : وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك .
والدِّيْنِ : مضافٌ إليه أيضاً ، والمرادُ به هنا : الجزاءُ ، ومنه قول الشاعر :
51 ولم يَبْقَ سوى العُدْوا ... نِ دِنَّاهم كما دَانُوا
أي جازَيْناهم كما جازونا ، وقال آخر :
52 واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ ... واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ
ومثله :
53 إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم ... ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا
ومثله :
54 حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما ... يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ
وله معانٍ أُخَرُ : العادَة ، كقوله :
55 كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها ... وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ
أي : كعادتك : ومثلُه :
56- تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني ... أهذا دِينُه أبداً ودِينِي
ودانَ عصى وأطاع ، وذلَّ وعزَّ ، فهو من الأضداد . والقضاءُ ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] أي في قضائِه وحكمه ، والحالُ ، سُئل بعضُ الأعراب فقال : « لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه لأَجَبْتُكَ » أي : على حالة .

والداءُ : ومنه قول الشاعر :
57 يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال : دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً - بفتح الدال وكسرها في المصدر - أي جازَيْتُه . والدِّينُ أيضاً : الطاعةُ ، ومنه : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً } [ النساء : 125 ] أي : طاعةً ، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً ، قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } [ آل عمران : 83 ] يعني الإِسلام ، بدليل قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] . والدِّينُ : سيرة المَلِك ، قال زهير :
58 لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ ... في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ
يقال : دِينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ ، ومنه قيل للعبدِ ، مَدين ولِلأمَةِ مَدِينة . وقيل : هو من دِنْتُه إذا جازيته بطاعته ، وجَعَل بعضُهم المدينةَ من هذا الباب ، قاله الراغب . وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها .

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

« إياك » مفعولٌ مُقدَّمٌ على « نَعْبُدُ » ، قُدِّم للاختصاصِ ، وهو واجبُ الانفصالِ . واختلفوا فيه : هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ ، وقال الزجاج : « هو اسم ظاهر » ، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو .
والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال ، أحدُها : أنه كلَّه ضميرٌ . والثاني : أن : « إيَّا » وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب ، وثالثُها : أن « إيَّا » وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به . ورابعها : أنَّ « إيَّا » عمادٌ وما بعده هو الضمير ، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم : « إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ » بإضافة « إيا » إلى الشَوابِّ ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت : إياك إياه إياي .
وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً ، ثم قال : هل هو مشتقٌ من « أَوّ » كقول الشاعر :
59 فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو من « آية » كقوله :
60 لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء .
وفيه لغاتٌ : أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها . قال الشاعر :
61 فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ ... مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ
[ وقال بعضهم : إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه ] ، لأنه يصير « شمسَك نعبد ، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة ، وقد تُفتح ، وقيل : هي لها بمنزلة الهالة للقمر ، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ ، قال :
62 سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه ... أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ
وقد قُرئ ببعضها شاذاً ، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به .
ونعبُدُ : فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم ، وقيل : لوقوعِه موقعَ الاسم ، وهذا رأيُ البصريين ، ومعنى المضارعِ المشابِهُ ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان ، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة .
والعِبادة غاية التذلل ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى ، فهي أبلغُ من العبودية ، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل ، ويقال : طريق مُعَبَّد ، أي مذلَّل بالوطء ، قال طرفة :
63 تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ ... وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
ومنه : العبدُ لذلَّته ، وبعيرٌ مُعَبَّد : أي مُذَلَّل بالقَطِران .

وقيل : العبادةُ التجرُّدُ ، ويُقال : عَبَدْت الله بالتخفيف فقط ، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط : أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً .
وفي قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل : الحمد الله ، ثم قيل : إياه نعبدُ ، والالتفاتُ : نوع من البلاغة . ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، ولم يقل : بكم . وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله :
64 تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِ ... وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ
وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ ... كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ
وذلك من نبأٍ جاءني ... وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ
وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات ، وقال : بل هما التفاتان ، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله : « ليلُك » إلى الغيبة في قوله : « وباتَتْ له ليلةٌ » ، والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله : « من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه » . والجواب أن قوله أولاً : « تطاول ليلُك » فيه التفاتٌ ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ : تطاول ليلي ، لأنه هو المقصودُ ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ .
وقُرئ شاذاً : « إِيَّاكَ يُعْبَدُ » على بنائِه للمفعول الغائبِ ، ووجهُها على إشكالها : أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً ، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع ، والأصل : أنت تُعْبَدُ ، وهو شائعٌ كقولهم : عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال ، وقول الآخر :
65 يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا ... وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا
فالكاف في « عَصَيْكا » نائِبةٌ عن التاء ، والأصل : عَصَيْتَ . وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ : إياك تُعْبَدُ بالخطابِ ، ولكنه التفتَ من الخطاب في « إيَّاك » إلى الغيبة في « يُعْبَدُ » ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب ، لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم . ونظيرُ هذا الالتفات قوله :
66 أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً ... سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال : « به » بعد قوله : « أنت وكنت » .
و « إيَّاك » واجبُ التقديمِ على عاملهِ ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه ، وتحرَّزوا بقولهم : « لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ » من نحو : « الدرهمَ إياه أعطيتُك » لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت : « الدرهمَ أعطيتُك إياه » لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي ، بل يجوز : أعطيتُكه .
والكلام في « إياك نَسْتعين » كالكلام في « إياك نعبدُ » والواو عاطفة ، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى ، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين . ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى .

وأصل نَسْتعين : نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ ، لأنه من العَوْنِ ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها ، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً . وهذه قاعدةٌ مطردَة ، نحو : ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت .
والسينُ فيه معناها الطلبُ ، أي : نطلب منك العَوْنَ على العبادة ، وهو أحدُ المعاني التي ل استفعل ، وله معانٍ أُخَرُ : الاتخاذُ نحو : استعْبَدَه أي : اتخذه عبداً ، والتحول نحو : استحْجَرَ الطين أي : صار حَجَراً ، ومنه قوله : « إن البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر » ، أي : تتحوَّل إلى صفة النسور ، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه ، نحو : استعظَمه أي وجدَه عظيماً ، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ ، نحو : استحسنه ، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو : أَشْلاه فاستشلى ، وموافقتُه له أيضاً نحو : أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ ، وموافقةُ تفعَّل ، نجو : استكبرَ بمعنى تكبَّر ، وموافقةُ افتَعَلَ نحو : استعصمَ بمعنى اعتصم ، والإِغناءُ عن المجردِ نحو : استكفَّ واستحيى ، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه ، وللإِغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو : استرجع واستعانَ ، أي : رَجَع وحَلَق عانَتَه .
وقرئ « نِسْتعين » بكسر حرفِ المضارعةِ ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة ، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء ، لثقلِ ذلك . على أن بعضهم قال : يِيجَل مضارع وَجِلَ ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ ، وقد قرئ : { فإنهم يِيْلمونَ } [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو : تِعْلم من عَلِمَ ، أو في أوله همزة وصل نحو : نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو : نِتَعلَّم من تَعَلَّم ، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة . ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها ، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد : فكيف تصنعون؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد ، فقالت : بلى ، نِكْتَني ، وكَسَرتِ النونَ ، فقال : لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى .
والاستعانة : طلبُ العَوْن ، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة ، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ ، عليه ، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو : { كُلوا واشربوا } [ البقرة : 60 ] ، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ .

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

قوله تعالى : { اهدنا الصراط } : إلى آخرها : اهْدِ : صيغةُ أمرٍ ومعناها الدعاءُ . وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون . وقال بعضهم : إنْ وَرَدَتْ صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ ، وبالعكس دعاءٌ ، ومن المساوي التماسٌ . وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ ، أي : اهدِ أنت ، ون مفعول أول ، وهو ضميرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه ، ويستعملُ في موضع الرفع والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ : نحو : قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر . وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك . تقول : أكرمَنَي وَمرِّ بي ، وأنت تقومين يا هند ، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورتُه ، وفي الثالث مرفوعتُه . وهذا ليس بشيء ، لأن الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر ، لأن الأولى للمتكلمِ ، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ . وقيل : بل يشاركه لفظُ « هُمْ » ، تقول : هم نائمون وضربَهم ومررت بهم ، ف « هم » مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ ، وهو للغائِبِين في كل حال ، وهذا وإن كان أقربَ من الأول ، إلا أنه في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ ، فافترقا ، بخلاف « ن » فإن معناها لا يختلف ، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة .
والصراطَ : مفعول ثان ، والمستقيمَ : صفتُه ، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة .
وأصل « هَدَى » أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا : إلى أو اللام ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، ثم يُتَّسَعُ فيه ، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه ، فأصلُ اهدِنا الصراط : اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ ، ثم حُذِف .
والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب ، وَيدَّعون في نحو : « اضرب » أنَّ أصله : لِتَضْرِب بلام الأمر ، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن ، وهذا ما لا حاجة إليه ، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به .
ووزن اهْدِ : افْعِ ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ .
والهدايةُ : الإِرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها قال امرؤ القيس :
67 فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه ... جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ
أو التبيينُ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] . أي بَيَّنَّا لهم ، أو الإِلهامُ ، نحو : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] أي ألهمه لمصالِحه ، أو الدعاءُ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] أي داعٍ . وقيل هو المَيلُ ، ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 56 ] ، والمعنى : مِلْ بقلوبنا إليك ، وهذا غَلَطٌ ، فإنَّ تَيْكَ مادة أخرى من هادَ يَهُود . وقال الراغب : « الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها ، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ ، وما كان إعطاءً بأَهْديت .

والصراطُ : الطريقُ المُسْتَسْهَل ، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ ، قال :
68 فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ ... ومثله :
69 أميرُ المؤمنين على صِراطٍ ... إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ
وقال آخر :
70 شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى ... تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ
أي الطريق ، وهو مشتق من السِّرْطِ ، وهو الابتلاعُ : إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه ، ألا ترى إلى قولهم : « قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت أرضٌ جاهلَهَا » ، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام :
71 رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً ... رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ
وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه سَالِكُه .
وأصلُه السينُ ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو : صَقَر في سَقَر ، وصُلْح في سُلْح ، وإصْبَع في اسبَع ، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر ، لما بينهما من التقارب .
وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً ، وقرأ به خلف حيث وَرَد ، وخلاَّد الأول فقط ، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً ، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم .
والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث ، فالتذكيرُ لغة تميم ، وبالتأنيث لغة الحجاز ، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة ، وفي الكثرة على فُعُل ، نحو : حِمار وأَحْمِرة وحُمُر ، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو : ذِراع وأَذْرُع . والمستقيم : اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد ، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله : مُسْتَقْوِم ، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين ، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى : { يُقِيمُونَ الصلاة } .

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين } : بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل ، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة ، والبدلُ سبعة أقسام ، على خلافٍ في بعضها ، بدلُ كلٍ من كل ، بدلُ بعض من كل ، بدلُ اشتمال ، بدل غلط ، بدل نسيان ، بدل بَداء ، بدل كل من بعض . أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها ، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام : « إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر » ، ولا يَرِدُ هذا في القرآن ، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة :
72 لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
قال : لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص ، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة . ولا يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله :
73 رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها ... بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ
وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ « طلحة » قال : لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة ، وطلحة كلٌ ، وقد أُبْدِل منها ، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس :
74 كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا ... لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
فغذاةَ بعضُ اليوم ، وقَد أبدل « اليومَ » منها . ولا حُجَّة في البيتين ، أمَّا الأولُ : فإن الأصل : أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه ، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر « طلحة » ، على أن الأصل : أعظُمَ طلحة ، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف ، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم . ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ ، موضوعُها كتب النحو .
وقيل : إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى ، قاله جعفر بن محمد ، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ .
والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة ، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر . وفائدةُ البدلِ : الإِيضاحُ بعد الإِبهام ، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ .
و « الذين » في محلِّ جرٍّ بالإِضافة ، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع « الذي » في المعنى ، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً ، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه :
75 نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا ... يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا
وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه ، كقوله :
76 وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، بخلاف مفرده ، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم .

وأَنْعَمْتَ : فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول ، والتاءُ في « أنعمتَ » ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ . و « عليهم » جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت ، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ .
والهمزة في « أَنْعمت » لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه . ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى ، تقدَّم واحدٌ ، والباقي : التعديةُ نحو : أخرجته ، والكثرة نحو : أظبى المكان أي كَثُر ظِباؤه ، والصيرورة نحو : أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة ، والإِعانة نحو : أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب ، والسَّلْب نحو : أَشْكَيْتُه أي : أَزَلْتُ شِكايته ، والتعريض نحو : أَبَعْتُ المتاعَ أي : عَرَضْتُه للبيع ، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو : أَحْمدته أي وجدتُه محموداً ، وبلوغُ عدد نحو : أَعْشَرَتِ الدراهم ، أي : بَلَغَتْ عشرةً ، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح ، أو مكان نحو : أَشْأَمَ ، وموافقهُ الثلاثي نحو : أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته ، أو أغنى عن الثلاثي نحو : أَرْقَلَ البعير ، ومطاوعة فَعَل نحو : قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ ، ومطاوعة فَعَّل نحو : قَطَّرْته فَأَقْطَرَ ، ونفي الغزيرة نحو : أَسْرع ، والتسمية نحو : أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً ، والدعاء نحو : أَسْقيته أي قلت له : سَقاك الله ، والاستحقاق نحو : أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد ، والوصولُ نحو : أَعْقَلْته ، أي : وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه ، والاستقبال نحو/ : أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ ، والمجيء بالشيء نحو : أكثرتُ أي جئتُ بالكثير ، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو : أشرقت الشمس أضاءت ، وشَرَقَتْ : طَلَعت ، والهجومُ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم أي : اطَّلَعْتُ عليهم .
و « على » حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً ، نحو : عليه دَيْنٌ ، ولها معانٍ أُخَرُ ، منها : المجاوزة كقوله :
77 إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها
أي : عني ، وبمعنى الباء : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] أي بأَنْ ، وبمعنى في : { مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أي : في ملك ، والمصاحبة نحو : { وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى } [ البقرة : 177 ] والتعليل نحو : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، أي : لأجل هدايته إياكم ، وبمعنى مِنْ : { حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 - 6 ] أي : إلا من أزواجهم ، والزيادة كقوله :
78 أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
لأن « تروق » يتعدَّى بنفسه ، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر .
وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية ، فتكونُ اسماً في موضعين ، أحدُهما : أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله :
79 غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها ... تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ
ومعناها معنى فوق ، أي من فوقه ، والثاني : أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله :
80 هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها
ومثلُها في هذين الحكمين : عَنْ ، وستأتي إن شاء الله تعالى .

وزعم بعضُهم أنَّ « على » مترددة بين الاسم والفعل والحرف : أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما ، وأمَّا الفعلُ قال : فإنك تقول : « علا زيدٌ » أي ارتفع وفي هذا نظرٌ ، لأنَّ « على » إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك ، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم : إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر .
والأصل في هاء الكناية الضمُّ ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين ، نحو : عَلَيْهِم وفيهم وبهم ، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله : « وفيهُمِ الحكام » بكسر الميم .
وفي « عليهم » عشر لغات قُرئ ببعضها : عليهِمْ الهاء وضمِّها مع سكون الميم ، عليهِمي ، عَلَيْهُمُ ، عليهِمُو : بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو ، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط ، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم ، ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري .
و « غيرِ » بدلٌ من « الذين » بدلُ نكرة من معرفة ، وقيل : نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن « غير » نكرةٌ و « الذين » معرفةٌ ، وأجابوا عنه بجوابين : أحدهما : أن « غير » إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين ، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ « غير » حينئذٍ بالإِضافة ، تقول : مررتُ بالحركة غير « السكون » والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح . والثاني : أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ ، وقيل : إنَّ « غير » بدلٌ من الضمير المجرور في « عليهم » ، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، ويُنوَى بالأول الطرحُ ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير : صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم .
و « المغضوب » : خفضٌ بالإِضافةِ ، وهو اسمُ مفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور ، ف « عَليهم » الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه ، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ : غيرِ الذين غُضِبَ عليهم . والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ .
واعلَمْ أنَّ لفظَ « غير » مفردٌ مذكرٌ أبداً ، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه ، تقول : قامت غيرُك ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة ، وكذلك أخواتُها ، أعني نحوَ : مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب ، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على « إلاّ » ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها ، وقد يُرَاد بها النفيُ ك لا ، فيجوز تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في « لا » تقول : أنا زيداً غيرُ ضاربٍ ، أي غير ضاربٍ زيداً ، ومنه قول الشاعر :

81 إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
تقديرُه : لغيرُ مكفورٍ عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي ، لو قلت : جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ ، تريد : غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ ، لأنها ليست بمعنى « لا » التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في « لا » . وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً ، وقولٌ ثالثٌ : مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ .
وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً ، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ .
وقرئ « غيرَ » نصباً ، فقيل : حالٌ من « الذين » وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك ، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى ، وقيل : من الضمير في « عليهم » وقيل : على الاستثناءِ المنقطعِ ، ومنعه الفراء قال : لأن « لا » لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ ، كقوله :
82 ما كان يرضى رسولُ الله فِعْلَهما ... والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ
وأجابوا بأنَّ « لا » صلةٌ زائدةٌ ، مِثْلُها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] وقول الشاعر :
83 وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
84 وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه ... وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ
وقول الآخر :
85 أبى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه
ف « لا » في هذه المواضع صلةٌ . وفي هذا الجواب نظرٌ ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة ، فقولُهم : إن « لا » زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المتقدمة لا يفيد/ ، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا : وُجِدَتْ « لا » زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة . وتحتملُ أن تكونَ « لا » في قوله : « لا البخلَ » مفعولاً به ل « أبى » ، ويكونَ نصبُ « البخلَ » على أنه بدلٌ من « لا » ، أي أبى جودُه قولَ لا ، وقولُ لا هو البخلُ ، ويؤيِّدُ هذا قولُه : « واستعجَلَتْ به نَعَمْ » فَجَعَلَ « نَعَم » فاعلَ « استعجَلَتْ » ، فهو من الإِسناد اللفظي ، أي أبى جودُه هذا اللفظ ، واستعجل به هذا اللفظُ .
وقيل : إنَّ نَصْبَ « غيرَ » بإضمار أعني ، ويُحكى عن الخليل . وقدَّر بعضُهم بعد « غير » محذوفاً ، قال : التقديرُ : غيرَ صراطِ المغضوبِ ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ ، فلم يقيِّدْه بجرِّ « غير » ولا نصبِه ، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله : { الصراط المستقيم } ، وهذا ضعيفٌ ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ ، فالأولى أن يكون صفةً ل « صراطَ الذين » ويجوز أن تكونَ بدلاً من { الصراط المستقيم } أو من { صِرَاطَ الذين } إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل ، وفي جوازِه نظرٌ ، وليس في المسألة نقلٌ ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة ، أو حالاً من « الصراط » الأول أو الثاني .

. . واعلم أنه حيث جَعَلْنَا « غير » صفةً فلا بد من القول بتعريف « غير » أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ « غير » .
و « لا » في قوله : { وَلاَ الضآلين } زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من « غير » لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ « الضالِّين » على { الذين أَنْعَمْتَ } وقال الكوفيون : هي بمعنى « غير » ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صُرِّح ب « غير » كانَتْ للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب .
و « الضَّالين » مجرورٌ عطفاً على « المغضوب » ، وقُرِئَ شاذاً : الضَّأَلِّين بهمز الألف ، وأنشدوا :
86 وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ ... بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ
قال أبو القاسم الزمخشري : « فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين » انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان ، قال الشاعر :
87 فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهمز « العَأْلَمِ » وقال آخر :
88 ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهمز ألف « زَوْزأة » ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان : « مِنْسَأْتَه » بهمزة ساكنة : إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً .
فإن قيل : لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً؟ قيلٍ : لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه ، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام .
والإِنعام : إيصالُ الإِحسان إلى الغير ، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ ، فلا يقال : أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره .
والغضبُ : ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ ، ومنه قولُه عليه السلام : « اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم ، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه » ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره ، ويقال : فلانٌ غَضَبة « إذا كان سريعَ الغضبِ .
ويقال : غضِبت لفلانٍ [ إذا كان حَيًّا ] ، وغضبت به إذا كان ميتاً ، وقيل : الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ ، وقيل : إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ .
والضَّلال : الخَفاءُ والغَيْبوبةُ ، وقيل : الهَلاك ، فمِن الأول قولُهم : ضَلَّ الماءُ في اللبن ، وقوله :

89 ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ ... عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا
والضَّلْضَلَةُ : حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي . ومن الثاني : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضلالُ : العُدول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليلِ قوله : { فَتُذَكِّرَ } .
القول في « آمين » : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : استجِبْ ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ ، وقيل : ليس باسم فِعْل ، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير : يا آمين ، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ ، والثاني : أن أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ . ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى : لأنه اسمُ فعلٍ ، وهو توجيهٌ حسنٌ ، نقله صاحب « المُغْرِب » .
وفي آمين لغتان : المدُّ والقصرُ ، فمن الأول قوله :
90 آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا
وقال الآخر :
91 يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً ... ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا
ومن الثاني قوله :
92 تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه ... آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا
وقيل : الممدودُ اسمٌ أعجمي ، لأنه بزنة قابيل وهابيل . وهل يجوز تشديدُ الميم؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ، ومنه { ولا آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] .

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

إنْ قيل : إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ التهجِّي ، بمعنى أن الميم اسْمٌ لمَهْ ، والعينَ اسمٌ لعَهْ ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم ولكن عَجَزْتُمْ عنه ، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلقيت كأسماءِ الأعدادِ نحو : واحد اثنان ، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة ، أعني أنَّ في الأسماء التي لم يُقْصَدِ الإِخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ ، أحدها : ما تقدَّم . والثاني : أنها مُعْرَبَةٌ ، بمعنى أنها صالحة للإِعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ ، وإليه مالَ الزمخشري . والثالث : أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ . أو إنْ قيل : إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها ، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها ، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس ، كقوله : الميم من عليهم والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/ ، فالرفعُ على أحد وجهين : إمَّا بكونها مبتدأ ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه مفصَّلاً . والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً : إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه : اقرَؤوا : ألم ، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر :
93 إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ ... فذاك أمانةَ الله الثريدُ
يريد : وأمانةِ الله ، وكذلك هذه الحروفُ ، أقسم الله تعالى بها ، وقد ردَّ الزمخشري هذا الوجه بما معناه : أنَّ « القرآن » في { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] و « القلم » في : { ن والقلم } [ القلم : 1 ] محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف ، والأول يلزم منه محذورٌ ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم ، قال : « وهم يستكرهون ذلك » ، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعدها ، والفرضُ أنك قدَّرْتَ المعطوفَ عليه في محلِّ نصب . وهو ردٌّ واضح ، إلا أَنْ يقال : هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و { حموالكتاب } [ الزخرف : 1-2 ] و { ق والقرآن } [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له .
والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها ، حُذِف حرف القسم ، وبقي عملُه كقولهم : « واللهِ لأفعلنَّ » ، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء . وهذا صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها .
فتلخَّص ممَّا تقدم : أن في « الم » ونحوها ستةَ أوجه وهي : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، أو لها محلٌّ ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر ، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم ، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم .
وأمَّا « ذلك الكتاب » فيجوز في « ذلك » أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه ، والجملةُ خبرُ « ألم » ، وأغنى الربطُ باسمِ الإِشارة ، ويجوز أن يكونَ « الم » مبتدأً و « ذلك » خبره و « الكتاب » صفةٌ ل « ذلك » أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان ، وأن يكونَ « ألم » مبتدأً و « ذلك » مبتدأ ثان ، و « الكتاب » : إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له .

و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ عن المبتدأ الثاني ، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول ، ويجوز أن يكونَ « ألم » خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، تقديرُه : هذه ألم ، فتكونُ جملةً مستقلةً بنفسها ، ويكونُ « ذلك » مبتدأ ثانياً ، و « الكتابُ » خبرُه ، ويجوز أن يكونَ صفةً له أو بدلاً أو بياناً و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } هو الخبرُ عن « ذلك » ، أو يكون « الكتابُ » خبراً ل « ذلك » و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ ثانٍ ، وفيه نظرٌ من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 20 ] إذا قيل إنَّ « تَسْعَى » خبرٌ ، وأمَّا إن جُعِل صفةً فلا .
وقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه ، ويجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعاملُ فيه معنى الإِشارة ، و « لا » نافيةٌ للجنس محمولةٌ في العمل على نقيضتها « إنَّ » ، واسمُها معربٌ ومبنيٌّ ، فيُبْنَى إذا كان مفرداً نكرةً على ما كان يُنْصَبُ به ، وسببُ بنائِه تضمُّنُهُ معنى الحرفِ ، وهو « مِنْ » الاستغراقية يدلُّ على ذلك ظهورُها في قول الشاعر :
94 فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسيفِه ... فقال : ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ
وقيل : بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ ، وبيانُه في غير هذا الكتابِ .
وزعم الزجاج أنَّ حركةَ « لا رجلَ » ونحوِه حركةُ إعراب ، وإنما حُذِف التنوين تخفيفاً ، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ ، كقوله :
95 ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً ... يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ
ولا دليلَ له لأنَّ التقديرَ : ألا تَرَوْنني رجلاً؟ .
فإن لم يكن مفرداً - وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو : « لا خيراً من زيد » ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة ، وأمًّا نحوُ :
96 تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ ... بريءٌ من الحُمَّى سليمُ الجوانِحِ
وقول الآخر :
97 أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ
وقول الآخر :
98 لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي ... وقولِه عليه السلام : « لا قريشَ بعد اليوم ، إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه » فمؤولٌ .
و « ريبَ » اسمُها ، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو « فيه » ، إلا أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريبَ كائنٌ ، ويكون الوقف على « ريب » حينئذ تاماً ، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها ، قالوا : لا عليك ، أي لا بأسَ عليك ، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر ، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي عاملةٌ في الخبر .

ولها أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو .
واعلم أن « لا » لفظٌ مشتركٌ بين النفي ، وهي فيه على قسمين : قسمٌ تنفي فيه الجنسَ فتعملُ عمَل « إنَّ » كما تقدم ، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ عملَ ليس ، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً ، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] .
و « ذلك » اسمُ إشارةٍ : الاسمُ منه « ذا » ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطاب وله ثلاثُ رتبٍ : دنيا ولها المجردُ من اللام والكاف نحو : ذا وذي وهذا وهذي ، ووسطى ولها المتصلُ بحرفِ الخطابِ نحو : ذاك وذَيْكَ وتَيْكَ ، وقصوى ولها/ المتصلُ باللام والكاف نحو : ذلك وتلك ، لا يجوز أن يُؤتى باللام إلا مع الكاف ، ويجوز دخولُ حرفِ التنبيه على سائر أسماء الإِشارة إلا مع اللام فيمتنعُ للطول ، وبعضُ النحويين لم يَذْكرْ له إلا رتبتين : دنيا وغيرَها .
واختلف النحويون في ذا : هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ البصريين . ثم اختلفوا : هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت ، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً ، وقُلبت العينُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها ، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ ، والمبني لا يدخله تصريف .
وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه ، ومنه :
99 أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه ... تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا
أو لأنه لمَّا نَزَل من السماء إلى الأرض أُشير بإشارة البعيد [ أو لأنه كان موعوداً به نبيُّه عليه السلام ، أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدَّره في اللوحِ المحفوظِ ، وفي عبارة المفسرين أُشير بذلك للغائب يَعْنُون البعيد ، وإلاَّ فالمشارُ إليه لا يكون إلا حاضراً ذهناً أو حساً ، فعبَّروا عن الحاضرِ ذهناً بالغائبِ أي حساً ، وتحريرُ القولِ ما ذكرته لك ] .
والكتابُ في الأصل مصدرٌ ، قال تعالى : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] وقد يُراد به المكتوبُ ، قال :
100 بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
ومثله :
101 تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها ... كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ
وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الجمع ، ومنه كتيبةُ الجيش ، وكَتَبْتُ القِرْبَةَ : خَرَزْتُها ، والكُتْبَةُ -بضم الكاف- الخُرْزَةُ ، والجمع كُتَبٌ ، قال :
102 وَفْراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدابَّةَ : [ إذا جمعتَ بين شُفْرَي رَحِمها بحلَقةٍ أو سَيْر ] ، قال :
103 لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به ... على قُلوصِك واكتبْها بأَسْيارِ
والكتابةُ عُرْفاً : ضمُّ بعضِ حروفِ الهجاءِ إلى بعضٍ .
والرَّيْبُ : الشكُّ مع تهمة ، قال :

104 ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ ... إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ
وحقيقته على ما قال الزمخشري : قَلَقُ النفس واضطرابُها ، ومنه الحديث : « دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك » ، وأنه مَرَّ بظبي خائف فقال : « لا يُرِبْهُ أحد » فليس قول من قال : « الريبُ الشكُّ مطلقاً » بجيدٍ ، بل هو أخصُّ من الشكِّ ، كما تقدَّم .
وقال بعضهم : في الريب ثلاثةُ معانٍ ، أحدُها : الشكُّ . قال ابن الزبعرى :
105 ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ ... وثانيها التهمةُ : قال جميل بثينة :
106 بُثَيْنَةُ قالت : يا جميلُ أَرَبْتَني ... فقلت : كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ
وثالثها الحاجةُ ، قال :
107 قََضَيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ ... وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا
وقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يجوز فيه عدةُ أوجهٍ ، أن يكونَ مبتدأ وخبرُه « فيه » متقدماً عليه إذا قلنا : إنَّ خبرَ « لا » محذوف ، وإنْ قلنا « فيه » خبرُها كان خبرُه محذوفاً مدلولاً عليه بخبر « لا » تقديره : لا ريبَ فيه ، فيه هدىً ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه هو هُدَىً ، وأن يكونَ خبراً ثانياً ل « ذلك » ، على أن « الكتاب » صفة أو بدلٌ أو بيان ، و « لا ريب » خبرٌ أول ، وأن يكون خبراً ثالثاً ل « ذلك » ، على أن يكون « الكتاب » خبراً أول و « لا ريبَ » خبراً ثانياً ، وأن يكونَ منصوباً على الحال من « ذلك » أو من « الكتاب » والعاملُ « فيه » ، على كلا التقديرين اسمُ الإِشارةِ ، وأن يكونَ حالاً ومن الضمير في « فيه » ، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل ، وجَعْلُه حالاً ممَّا تقدَّم : إمَّا على المبالغة ، كأنه نفس الهدى ، أو على حذف مضاف أي : ذا هدى أو على وقوعِ المصدر موقعَ اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدرٍ وقع خبراً أو صفة أو حالاً فيه الأقوالُ الثلاثةُ أرجحُها الأولُ . وأجازوا أن يكونَ « فيه » صفةً لريب فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، وأن يكونَ متعلقاً بريب ، وفيه إشكالٌ ، لأنه يَصير مُطَوَّلاً ، واسمُ « لا » إذا كان مطولاً أُعرِب ، إلا أَنْ يكونَ مُرادُهم أنه معمولٌ لِما دَلَّ عليه « ريبَ » لا لنفس « ريب » .
وقد تقدَّم معنى « الهدى » عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] ، و « هُدَى » مصدرٌ على فُعَل ، قالوا : ولم يَجىءْ من هذا الوزن في المصادر إلا : سُرى وبُكى وهُدى ، وقد جاء غيرُها ، وهو : لَقِيْتُه لُقَى ، قال :
108 وقد زعموا حِلْماً لُقاك ولم أَزِدْ ... بحمدِ الذي أَعْطَاك حِلْماً ولا عَقْلا
والهُدى فيه لغتان : التذكير ، ولم يَذْكُرِ اللِّحياني غيرَه ، وقال الفراء : « بعضُ بني أسد يؤنِّثُه فيقولون : هذه هدىً » .
و « في » معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : زيدٌ في الدار ،

{ وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 197 ] ، ولها معانٍ أُخَرُ : المصاحَبَةَ نحو : { ادخلوا في أُمَمٍ } [ الأعراف : 38 ] ، والتعليلُ : « إنَّ امرأةً دخلتِ النارَ في هرة » ، وموافقةُ « على » : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ، والباء : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] أي بسببه ، والمقايَسَةُ : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
والهاءُ في « فيه » أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ ، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين ، وقد قرأ حمزة : « لأهلهُ امكثوا » وحفص في « عاهد عليهُ الله » ، « وما أنسانيهُ إلا » بلغةِ الحجاز ، والمشهورُ فيها - إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو : فيه ومنه - الاختلاسُ ، ويجوز الإِشباعُ ، وبه قرأ ابن كثير ، فإنْ تحرَّك ما قبلها أُشْبِعَتْ ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن ، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً .
و « للمتقين » جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ ب « هُدَى » . وقيل : صفةٌ لهدى ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ومحلُّه حينئذٍ : إمَّا الرفعُ أو النصبُ بحسَبِ ما تقدم في موصوفه ، أي : هدىً كائنٌ أو كائناً للمتقين . والأحسنُ من هذه الوجوه المتقدمة كلِّها أن تكونَ كلُّ جملةٍ مستقلةً بنفسها ، ف « ألم » جملةٌ إنْ قيلَ إنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، و « ذلك الكتاب » جملةٌ ، و « لا ريبَ » جملةٌ ، و « فيه هدى » جملةٌ ، وإنما تُرِكَ العاطفُ لشدةِ الوَصْلِ ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها آخذةٌ بعُنُقِها تعلُّقاً لا يجوزُ معه الفصلُ بالعطفِ . قال الزمخشري ما معناه : فإن قلت : لِمَ لَمْ يتقدَّمِ الظرفُ على الريب كما قُدِّم على « الغَوْل » في قوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] قلت : لأنَّ تقديمَ الظرفِ ثَمَّ يُشْعِرُ بأنَّ غيرَها ما نُفِيَ عنها ، فالمعنى : ليس فيها غَوْلٌ كما في خُمور الدنيا ، فلَو قُدِّم الظرفُ هنا لأَفهمَ هذا المعنى ، وهو أنَّ غيرَه من الكتبِ السماويةِ فيه ريبٌ ، وليس ذلك مقصوداً ، وكأنَّ هذا الذي ذكره أبو القاسم الزمخشري بناءً منه على أن التقديمَ يُفيد الاختصاصَ ، وكأنَّ المعنى أنَّ خمرة الآخرة اختصَّتْ بنفي الغَوْلِ عنها بخلافِ غيرِها ، وللمنازَعةِ فيه مجالٌ .
وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ ، قال علقمة :
109 تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها ... وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ تَدْويمُ
وما أبعد هذا من الردِّ عليه ، إذ لا اعتبارَ بوَصْفِ هذا القائلِ .
فإن قيل : قد وُجِدَ الريبُ من كثيرٍ من الناس في القرآن ، وقولُه تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ينفي ذلكَ . فالجوابُ من ثلاثة أوجه ، أحدُهما : أنَّ المنفيَّ كونُه متعلقاً للريبِ ، بمعنى أنَّ معه من الأدلَّة ما إنْ تأمَّله المنصِفُ المُحِقُّ لم يَرْتَبْ فيه ، ولا اعتبارَ بريبٍ مَنْ وُجِدَ منه الريبُ ، لأنه لم ينظرْ حقَّ النظرِ ، فَرَيْبُه غَيرُ مُعْتَدٍّ به .

والثاني : أنه مخصوصٌ ، والمعنى : لا ريبَ فيه عند المؤمنين ، والثالث : أنه خبرٌ معناه النهيُ ، أي لا تَرْتابوا فيه . والأول أحسنُ .
و « المتقين » جمعُ مُتَّقٍ ، وأصلُهُ مُتَّقْيِيْن بياءين ، الأولى لامُ الكلمة والثانيةُ علامةُ الجمع ، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان ، فحُذِف إحداهما ، وهي الأولى ، ومتَّقٍ من اتَّقَى يتَّقِي وهو مُفْتَعِل من الوقاية ، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تاءً نحو : اتَّعَدَ من الوَعْد ، واتَّسَرَ من اليُسْر ، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ ، قالوا : اتَّزر واتَّكل من الإِزار والأكل .
ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً : الاتخاذ نحو : اتَّقى ، والتَّسَبُّب نحو : اعْتَمَلَ ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو : اضطرب ، والتخيُّر نحو : انتخب ، والخطف نحو : اسْتَلَبَ ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو : انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ ، ومطاوعةُ فَعَّل نحو : عَمَّمْتُه فاعتمَّ ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو : اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ ، وموافقةُ المجرد نحو : اقتَدَرَ بمعنى قَدَر ، والإِغناءُ عنه نحو : استلم الحجرَ ، لم يُلفظ له بمجردٍ .
والوِقايةُ : فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه ، ومنه : فرسٌ واقٍ إذا كان يقي حافرُه أدنى شيءٍ يُصيبه . وقيل : هي في أصل اللغة قلةُ الكلام ، وفي الحديث : « التقيُّ مُلْجَمٌ » ومن الصيانة قوله :
110 سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ
وقال آخر :
111 فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ ... بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ ومِعْصَمِ

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

{ الذين يُؤْمِنُونَ } : « الذين » يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ ، والظاهرُ الجرُّ ، وهو من ثلاثة أوجه ، أظهرُها : أنه نعتٌ للمتقين ، والثاني : بدلٌ ، والثالث : عطفُ بيان ، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ على معنى القطع ، وقد تقدَّم . والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان : أحدهما : أولئك الأولى ، والثاني : أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ . وهذان القولان رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه : « والذين يؤمنون » يمنع كونَ « أولئك » الأولى خبراً ، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ « أولئك » الثانية خبراً أيضاً ، وقولُهم الواوُ زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه . والنصبُ على القطع ، و « يؤمنون » صلةٌ وعائدٌ ، وهو مضارعٌ ، علامةُ رفعهِ النونُ ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ . والأمثلةُ الخمسةُ عبارةٌ عن كل فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ ، نحو : يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين . والمضارعُ معربٌ أبداً ، إلا أن يباشرَ نونَ توكيدٍ أو إناثٍ ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب .
وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي ، فالهمزة في « أَمِنَ » للصيرورة نحو : أَعْشَبَ المكانُ أي : صار ذا عشبٍ ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ نحو : كَبَّ فَأَكَبَّ ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف ، وقد يتعدَّى باللام كقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] { فَمَآ آمَنَ لموسى } [ يونس : 83 ] إلا أنَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ بالباء ، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين .
وأصلُ « يُؤْمِنون » : يُؤَأْمِنُون بهمزتين ، الأولى : همزةُ أَفْعَل ، والثانيةُ : فاء الكلمةِ ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية ، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو : أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم ، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو : أنا أُكرم . الأصل : أُأَكْرِمُ بهمزتين ، الأولى : للمضارَعةِ ، والثانيةُ : هَمزَةُ أَفْعل ، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أولى بالمحافظةِ عليه ، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك ، إلا في ضرورة كقوله :
112 فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « بالغيبِ » متعلِّق بيؤمنون ، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ . وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعولِ من فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ . وقال الزمخشري : « يجوز أن يكون مخفَّفاً من فَيْعِل نحو : هَيْن من هيِّنٍ ، ومَيْت من مَيِّت » ، وفيه نظرٌ لأنه لا ينبغي أن يُدَّعى ذلك فيه حتى يُسمَعَ مثقلاً كنظائره ، فإنها سُمِعَتْ مخفَّفةً ومثقَّلةً ، ويَبْعُد أن يقالَ : التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً .

ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي : يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه .
وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبْدَلَ حرفاً/ مجانساً نحو : راس وبير ويُؤمن ، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرى وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن .
و « يُقيمون » عطفٌ على « يُؤمنون » فهو صلةٌ وعائدٌ . وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون ، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في « مستقيم » ، وقد تقدَّم في الفاتحة . ومعنى يُقيمون : يُدِيمون أو يُظْهِرون ، قال الشاعر :
113 أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ ال ... طِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً
وقال آخر :
114 وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا ... حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ
و « الصلاةَ » مفعول به ووزنُها : فَعَلَة ، ولامها واو لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً ، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما : عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب ، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه ، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق . والصلاةُ لغةً : الدعاءُ ، قال :
115 تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا ... يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي ... يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا
أي : مثلُ الذي دَعَوْتِ ، ومثلُه :
116 لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها ... وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما
وفي الشرع : هذه العبادةُ المعروفة ، وقيل : هي مأخوذةٌ من اللزوم ، ومنه : « صَلِيَ بالنار » أي لَزِمَها ، [ قال ] :
117 لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ الل ... هُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه ، قال :
118 فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ ... فما صلى عَصاكَ كمُسْتديمِ
ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء .
و { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } جارٌّ ومجرور متعلِّق ب « يُنْفِقون » ، و « ينفقون » معطوفٌ على الصلة قبله ، و « ما » المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي ، ورزقناهم صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، قال أبو البقاء : « تقديره : رزقناهموه أو رزقناهم إياه » ، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ ، لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة ، وهو واجبُ الانفصال ، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه ، نصُّوا عليه ، وعَلَّلوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ الدلالةُ على ذلك الغرضِ . ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه ، ويكون كقوله :

119 وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ ... لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها
وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ القُبْح اللفظي . وعن الثاني بأنه إنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ هنا . الثاني : يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً ، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً . الثالث : أن تكونَ مصدريةً ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي : مرزوقاً ، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال : « لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفَقُ » من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ .
والرزقُ لغةً : العطاءُ ، وهو مصدرٌ ، قال تعالى : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] ، وقال الشاعر :
120 رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه ... إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا
وقيل : يجوز أن يكونَ « فِعلاً » بمعنى مَفْعول نحو : ذِبْح ورِعْي ، بمعنى مذبوح وَمَرْعِيّ . وقيل : الرزق بالفتح مصدرٌ ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] وسيأتي في موضعه ] ، ونفق الشيء نَفِد ، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت ، قال الزمخشري ، وهو كما قال نحو : نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل ، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ : ماتَتْ نُفوقاً : والنفقَةُ : اسمُ المُنْفَق .
و « مِنْ » هنا لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أُخر : بيانُ الجنس : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، والتعليل : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } [ البقرة : 19 ] ، والبدلُ : { بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] ، والمجاوزةُ : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] ، وانتهاء الغاية قريبٌ منه ، والاستعلاءُ : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] ، والفصلُ : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } [ البقرة : 220 ] ، وموافقةُ الباءِ وفي : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] ، والزيادةُ باطِّراد ، وذلك بشرطين : كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط ، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً .
والهمزةُ في « أَنْفَقَ » للتعدية ، وحُذِفَتْ من « ينفقون » لِما تقدَّم في { يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 3 ] .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

قوله تعالى : { والذين يُؤْمِنُونَ } : الذين عطفٌ على « الذين » قبلَها ، ثم لك اعتباران : أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله :
121 إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله :
122 يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال ... صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ
يعني : أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ .
والثاني : أن يكونوا غيرهم . وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ « الذين » المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً ، كما مرَّ تفصيله ، ويجوز أن يكونَ عطفاً على « المتقين » ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه « أولئك » وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ « الذين » الأولى ، و « يؤمنون » صلةٌ وعائدٌ .
و « بما أُنْزِلَ » متعلِّقٌ به و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، و « أُنْزِلَ » صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول ، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً ، وقد منع أبو البقاء من ذلك ، قال : « لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها ، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل » .
و « إليك » متعلِّقٌ ب « أُنزل » ، ومعنى « إلى » انتهاءُ الغاية ، ولها معانٍ أُخَرُ : المصاحَبَةُ : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، والتبيين : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] ، وموافقة اللام وفي ومِنْ : { والأمر إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي لك : وقال النابغة :
123 فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني ... إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ
أي في الناس ، وقال الآخر :
124 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا
أي : لا يُرْوى مني ، وقد تُزَادُ ، قُرئ : « تهوى إليهم » بفتح الواو .
والكافُ في محلِّ جرٍّ ، وهي ضميرُ المخاطبِ ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب . والنزولُ : الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ ، قال تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [ الصافات : 177 ] أي حلَّ ووَصَل ، و « ما » الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على « ما » الأولى قَبلَها ، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على « ما » التي قبلَها ، فَلْيُتأمَّلْ .
و « مِنْ قبلِك » متعلِّقٌ ب « أُنْزِلَ » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، و « قبل » ظرف زمان يقتضي التقدُّم ، وهو نقيضٌ « بعد » ، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم ، فمِن الإِعرابِ قولُه :
125 فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً ... أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وقال آخر :
126 ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا
ومن البناء قولُه تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] ، وزعم بعضُهم أن « قبل » في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً ، فإذا قلت : « قمتُ قبلَ زيد » فالتقدير : قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ ، فحُذِف هذا كلُّه ، ونَاب عنه « قبل زيد » وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله .

واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم ، وقرئ : « بما أَنْزَلَ إليك » مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ ، وقُرئ أيضاً : أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله :
127 إنما شِعْريَ مِلْحٌ ... قد خُلْط بجُلْجُلانْ
بتسكين « خُلْط » ثم حَذَف همزةَ « إليك » ، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ .
و « بالآخرةِ » متعلِّقٌ بيوقنون ، و « يُوقنون » خبرٌ عن « هم » وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] لذلك ، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ : ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون .
والإِيقانُ : تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال : يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته ، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف ، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن ، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل .
والآخرة : تأنيث آخِر المقابل لأوَّل ، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ والتقديرُ : الدار الآخرة أو النشأة الآخرة ، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] ، وقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو ، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط : منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً ، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها ، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها ، وألاّ تكونَ زائدةً ، على خلافٍ في هذا الأخير ، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } [ آل عمران : 153 ] ، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لِما ذكرت ذلك ، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل « بالسُّؤْقِ » [ ص : 33 ] ، و « على سُؤْقِه » [ الفتح : 29 ] ، وقال الشاعر :
128 أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى ... وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ
بهمز « المُؤْقدين » . وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك . وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل ، فهو من باب قولهِ : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ .

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

قوله تعالى : { أولئك } : مبتدأٌ ، خبرهُ الجارُّ والمجرورُ بعده أي كائنون على هدى ، وهذه الجملة : إمَّا مستأنفةٌ وإمّا خبرٌ عن قوله : { الذين يُؤْمِنُونَ } إمَّا الأولى وإمَّا الثانية ، ويجوز أن يكون « أولئك » وحدَه خبراً عن { الذين يُؤْمِنُونَ } أيضاً إمَّا الأولى أو الثانية ، ويكون « على هدى » في هذا الوجهِ في محلِّ نصب على الحالِ ، هذا كلُّه إذا أعربنا { الذين يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، أمَّا إذا جعلناه غيرَ مبتدأ فلا يَخْفَى حكمه مِمّا تقدم . ويجوز أن يكونَ { الذين يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، و « أولئك » بدلٌ أو بيانٌ ، و « على هدى » الخبرُ ، و « مِنْ ربهم » في محلِّ جرٍّ صفةً لهُدى ، ومِنْ لابتداء الغاية . ونَكَّر « هُدَى » ليفيدَ إبهامُه التعظيم كقوله :
129 فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى ... على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ
ورُوِيَ « مِنْ ربهم » بغير غُنَّة وهو المشهورُ ، وبغنَّة ويُروى عن أبي عمرو .
و « أولئك » : اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإِناث ، وهو مبنيٌّ على الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار ، وفيه لغتان : المدُّ والقَصْر ، ولكنَّ الممدود للبعيد ، وقد يقال : أولا لِك ، قال :
130 أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً ... وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أُولا لِكَا
وعند بعضهم : المقصودُ للقريب والممدودُ للمتوسط وأولا لك للبعيد ، وفيه لغاتٌ كثيرة . وكتبوا « أولئك » بزيادةِ واو قبل اللام ، قيل للفرقِ بينها وبين « إليك » .
{ وأولئك هُمُ المفلحون } : « أولئك » مبتدأ و « هم » مبتدأ ثانٍ ، و « المفلحون » خبره ، والجملةُ خبر الأول ، ويجوز أن يكونَ « هم » فصلاً أو بدلاً ، والمفلحون : الخبر . وفائدةُ الفصل : الفرقُ بين الخبرِ والتابعِ ، ولهذا سُمِّيَ فَصْلاً ، ويفيدُ أيضاً التوكيدَ ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون « أولئك » الأولى أو الثانية خبراً عن « الذين يؤمنون » ، وتقدَّم تضعيفُ هذين القولين . وكَرَّرَ « أولئك » تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح ، فجُعِلت كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها .
وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرَيْن هنا متغايران فاقتضى ذلك العطفَ ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبريْن فيها شيءٌ واحدٌ ، لأن التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بِمَعْزِل ، قال الزمخشري : « وفي اسم الإِشارة الذي هو » أولئك « إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابِه من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم ، كقول حاتم : » وللهِ صعلوكٌ « ، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة ، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله :

131 فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه ... وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً
والفلاحُ أصله الشَّقُّ ، ومنه قوله : « إن الحديد بالحديد يفلح » ومنه قول بكر بن النطاح :
132 لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها ... إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح
ويُعَبَّرُ به عن الفوز والظفر بالبُغْيَة وهو مقصودُ الآيةِ ، ويُراد به البَقاءُ ، قال :
133 لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ ... أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ
وقال آخر :
134 نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا ... ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ
وقال :
135 لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه
وقال آخر :
136 أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بال ... ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } : الآية ، « إنَّ » حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع الخبرَ خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ ، لكن النواسخَ غالباً ، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه المقدَّمِ أو اسمِها المؤخر ، ولا يتقدَّم خبرُها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختصُّ أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها . ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها بهذا الكتابِ .
و { الذين كَفَرُواْ } اسمُها ، و « كفروا » صلةٌ وعائدٌ و « لا يؤمنون » خبرُها ، وما بينهما اعتراضٌ ، و « سواءٌ » مبتدأ ، و « أأنذرتهم » وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ ، والتقدير : سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ . ويجوز أن يكون سواءٌ « خبراً مقدماً ، و » أنذرتهم « بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه : الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ . وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو » لا يؤمنون « كما تقدَّم ، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن ، وجملة » لا يؤمنون « في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك ، ويجوز أن يكونَ » سواءٌ « وحده خبرَ إنَّ ، و » أأنذرتَهُم « وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له : والتقديرُ : استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه ، و » لا يؤمنون « على ما تقدَّم من الأوجه ، أعنى الحالَ والاستئناف ، والدعاءَ والخبريةَ .
والهمزةُ في » أأنذرتَهُمْ « الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ ، إذ المرادُ التسويةُ ، و » أأنْذَرْتَهم « فعل وفاعل ومفعول .
و » أم « هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً ، ولكونها متصلةٌ شرطان ، أحدُهما : أن يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً ، والثاني : أن يكونَ ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية ، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء ، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا ب » لا « . فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيتْ منقطعةً ومنفصلةً . وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، وجوابُها نعم أَوْلا ، ولها أحكامٌ أُخَرُ .
و » لم « حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع ، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] ، وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم ، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى ، أم المعنى دونَ اللفظ؟ قولان أظهرهُما الثاني ، وقد يُحْذَفُ مجزومُها .

والكَفْر : السِّتْر ، ومنه سُمِّي الليل كافراً ، قال :
137 فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ ... وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ
وقال آخر :
138 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِر
وقال آخر :
139 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها
و « سواء » اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي ، فيتحمَّل حينئذ ضميراً ، ويَرْفع الظاهرَ ، ومنه قولُهم : مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ « برفع » العَدَم « على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في » سواء « ، وشذَّ عدمُ الفصل ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع : إمَّا لكونِه في الأصل مصدراً ، وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو » سِيّ « بمعنى مِثْلَ ، تقول : » هما سِيَّان « أي مِثْلان ، قال :
140 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها ... والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
على أنه قد حُكي » سواءان « وقال الشاعر :
141 وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها
فسواءٌ خبر عن جمع وهو » صحيحات « . وأصله العَدْل . قال زهير :
142 أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ
أي : يَعْدِل بيننا العَدْلُ ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك : قاموا سَواءَ زيد ، وإنْ شاركه لفظاً . ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ في » سواء « المستثنى به ، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في » سواء « الذي بمعنى الاستواء . وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة بأم كهذه الآية ، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى : { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعده كقولِ علقمة :
143 سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه ... أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ
فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه ، وقد يُعَرَّى عن الاستفهام وهو الأصلُ نحو :
144 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سواءٌ صحيحاتُ العيون وعُورُها
والإِنذار : التخويفُ . وقال بعضهم : هو الإِبلاغ ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف يَسَعُ زمانُه الاحترازَ ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ قال :
145 أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل ... قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو
ويتعدَّى لاثنين ، قال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً } [ النبأ : 40 ] { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديرُه : أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم لم تُنْذِرْهم إياه ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره .
والهمزةُ في » أَنْذَرَ « للتعدية ، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ ، فقال ابن عطية : » لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ ، وإنما جرى عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ ، ألا ترى أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً : « سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ » ، وإذا قلتَ مستفهماً : « أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ »؟ فقد استوى الأمران عندكَ ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام ، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه ، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام ، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً « وهو كلامٌ حسنٌ .

إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله : « أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر » بما معناه : أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم ، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ .
ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ « أم لم تُنذِرْهم » والابتداء بقوله : « لا يؤمنون » على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه ، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في « الوقف والابتداء » له .
وقرئ « أَأَنْذَرْتَهُمْ » بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ ، وبتخفيف الثانية بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً ، ومنه :
146 أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ ... وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ
وقال آخر :
147 تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ ... فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ
وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة ، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ ، قال : « لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما ، ولأن تخفيفَ مثلِ هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ » وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة تواتراً ، وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر .

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } . . الآية { على قُلُوبِهمْ } : متعلّق بخَتَم ، و « على سمعهم » يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك ، أعني نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ } [ الجاثية : 23 ] ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه ، و « غِشَاوة » مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ عليها جاز الابتداء بها ، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء بالنكرة ، والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا بخلافِ قوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف على « سمعهم » ويُبتدأ بما بعده وهو « وعلى أبصارهم غشاوةٌ » فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر ، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على « قلوبهم » ، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو « على » ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك بتغايرِ الختمين ، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ . وقد فرَّق النحويون بين : « مررت بزيد وعمرو » وبين : « مررت بزيد وبعمرو » ، فقالوا : في الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران ، وهو يؤيِّد ما قلته ، إلاَّ أن التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإِعرابين ، أعني جَعْلَ « وعلى سَمْعِهم » معطوفاً على قوله « على قلوبهم » وجَعْلَه خبراً مقدماً ، وأمَّا التعليلُ بتغاير الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين ، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرُ الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمين .
وقُرئ : « غِشاوةً » نصباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، الأولُ : على إضمار فعلٍ لائق ، أي : وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً ، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى : { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] . والثاني : الانتصابُ على إِسقاط حرف الجر ، ويكون « وعلى أبصارهم » معطوفاً على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب ما بعده كقوله :
148 تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ
أي تمرون بالديارِ ، ولكنه غيرُ مقيسٍ . والثالث : أن يكونَ « غِشاوةً » اسماً وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى ، لأنَّ الخَتْمَ والتَغْشيَة يشتركانِ في معنى السَِّتر ، فكأنه قيل : « وخَتَم تغشيةً » على سبيل التأكيد ، فهو من باب « قَعَدْتُ جلوساً » وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها مُغَشَّاةً .
وقال الفارسي : « قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ : إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر ، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه » خَتَم « تقديره : وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً ، فيجيء الكلامُ من باب :

149 يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحا
وقوله :
150 عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها
ولا تكاد تجدُ هذا الاستعمالَ في حالِ سَعَةٍ ولا اختيار « . واستشكل بعضهم هذه العبارةَ ، وقال : » لا أَدْري ما معنى قوله : « لأن النصبَ إمَّا أن تحمله على خَتَم الظاهر » ، وكيف تَحْمِل « غشاوةً » المنصوبَ على « ختم » الذي هو فعل وهذا ما لا حَمْلَ فيه؟ « . ثم قال : » اللهم إلا أن يكونَ أراد أنَّ قوله تعالى { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } دعاءٌ عليهم لا خبرٌ ، ويكون غشاوةً في معنى المصدر المَدْعُوِّ به عليهم القائم مقامَ الفعلِ فكأنه قيل : وغَشَّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على « خَتَم » عَطْفَ المصدر النائبِ منابَ فعلِهِ في الدعاء ، نحو : « رَحِمَ الله زيداً وسقياً له » ، فتكونُ إذ ذاكَ قد حُلْتَ بين « غشاوة » المعطوفِ وبين « ختم » المعطوفِ عليه بالجار والمجرور « انتهى ، وهو تأويلٌ حسنٌ ، إلا أن فيه مناقشةً لفظيةً ، لأن الفارسي ما ادَّعى الفصلَ بين المعطوف والمعطوفِ عليه إنما ادَّعى الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرفِ ، فتحرير التأويلِ أنْ يقال : فيكونُ قد حُلْتَ بين غشاوة وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور .
وقُرئ » غشاوة « بفتح العين وضَمِّها ، و » عشاوة « بالمهملة . وأصوبُ القراءاتِ المشهورةُ ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة .
والخَتْمُ لغةً : الوَسْمُ بطابع وغيره و » القلبُ « أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا العضوُ ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها ، عليه ، ولهذا قال :
151 ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه ... فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْويلِ
ولمَّا سُمِّي به هذا العضو التزموا تفخيمه فَرْقاً بينه وبين أصلِه ، وكثيراً ما يراد به العقلُ ، ويُطلق أيضاً على لُبِّ كلِّ شيء وخالِصِه .
والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِع ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع ، قال :
152 وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ كَذِبُ
أي في استماعه ، والسِّمْع - بالكسر - الذِّكْرُ الجميل ، وهو أيضاً وَلَدُ الذئب من الضبُعِ ، وَوُحِّد وإن كان المرادُ به الجَمْعَ كالذين قبله وبعده لأنه مصدرٌ حقيقةً ، ولأنه على حذفِ مضافٍ ، أي مواضعِ سَمْعِهم ، أو يكونُ كَنَى به عن الأذن ، وإنما وَحَّدَه لِفَهْمِ المعنى كقوله :
153 كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم ، وَمثلُه :
154 لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي : جلودها ، ومثله :
155 لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا
وقُرِئَ شاذاً » على أسماعِهم « وهي تؤيِّد هذا .

والأَبْصار : جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ ، قالوا : وليس بمصدر لجَمْعِه ، ولقائلٍ أن يقولَ : جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما تقدَّم في قلوب جمع قَلْب ، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به ، ويجوز أن يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً كما تقدَّم .
والغِشاوى الغِطَاءُ ، قال :
156 تَبِعْتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ ... فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَلومُها
وقال :
157 هَلاَّ سألْتِ بني ذُبْيان ما حَسْبي ... إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرِمَا
وجَمْعُها غِشَاءٌ ، لمَّا حُذِفَتِ الهاءُ قُلِبَتِ الواوُ همزةٍ ، وقيل : غشاوى مثل أَداوى ، قال الفارسي : « ولم أَسمع من الغِشاوة متصرفاً بالواو ، وإذا لم يوجَدْ ذلك وكان معناها معنى ما اللامُ منه الياءُ وهو غَشِي يغشى بدليلِ قولِهم : الغِشْيان ، والغِشاوة من غَشِيَ كالجِباوَة من جَبَيْت في أنَّ الواو كأنها بدلٌ من الياء ، إذ لم يُصَرَّفْ منه فِعْلٌ كما لم يُصَرَّفْ من الجباوة » انتهى . وظاهر عبارتِه أن الواو بدلٌ من الياء ، فالياء أصل بدليلِ تصرُّف الفعلِ منها دون مادة الواو ، والذي يظهرُ أنَّ لهذا المعنى مادتين : غ ش و ، و غ ش ي ، ثم تصرَّفوا في إحدى المادتين واستغْنَوا بذلك عن التصرُّف في المادة الأخرى ، وهذا أقربُ من ادِّعاء قَلْبِ الواو ياءً من غير سببٍ ، وأيضاً فالياءُ أخفُّ من الواو فكيف يَقْلِبون الأخفَّ للأثقل؟
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } : « لهم » خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و « عذابٌ » مبتدأ مؤخر ، و « عظيمٌ » صفته ، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم ، لأنَّ للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه ، فهو نظير : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] من حيث الجوازُ .
والعَذابُ في الأصل : الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ ، وقيل : أصلُه المنعُ ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنه قيل للماء : عَذْب ، لأنه يمنع العطشَ ، والعذابُ يمنع من الجريمة . و « عظيمٌ » اسمُ فاعلٍ من عَظُم ، نحو : كَريم من كَرُم غيرَ مذهوبٍ به مذهبَ الزمان ، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ ، ثم قد توصفُ به المعاني ، وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ ، والكبيرَ يقابل الصغيرَ ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ؟ قولان .
وفعيل له معانٍ كثيرةٌ ، يكون اسماً وصفةً ، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ ، والمفردُ اسمُ معنى واسمُ عينٍ ، نحو قميص وظريف وصهيل وكلِيب جمع كَلْب ، والصفةُ مفردُ فُعَلَة كعَرِيّ يجمع على عُرَاة ، ومفرد فَعَلة كَسِريٍّ يُجْمَعُ على سَراة ، ويكون اسمَ فاعل من فَعُل نحو : عظيم مِنَ عظمُ كما تقدم ، ومبالغةً في فاعِل نحو : عليم من عالم ، وبمعنى أَفْعل كشَمِيط بمعنى أَشْمط ومفعول كجِريح بمعنى مَجْروح ، ومُفْعِل كسميع بمعنى مُسْمِع ، ومُفْعَل كوليد بمعنى مُولَد ، ومُفاعِل كجليس بمعنى مُجالِس ، ومُفْتَعِل كبديع بمعنى مُبْتدِع ، ومُتَفَعِّل كسَعِير بمعنى مُتَسَعِّر ، ومُسْتَفْعِل كمكين بمعنى مُسْتَمْكِن ، وفَعْل كرطيب بمعنى رَطِب ، وفَعَل كعَجِيب بمعنى عَجَب ، وفِعال كصحيح بمعنى صِحاح ، وبمعنى الفاعلِ والمفعول كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ ، وبمعنى الواحد والجَمْعِ نحو خليط ، وجمع فاعِل كغريب جمع غارِب .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } . . الآية { مِنَ الناس } خبر مقدم و « من يقول » مبتدأ مؤخر ، و « مَنْ » تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي : الذي يقول أو فريقٌ يقول : فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً ، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ . واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً ، قال : لأن « الذي » يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإِبهام « انتهى . وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أُبَيّ ورهطِه . وقال الأستاذ الزمخشري : » إن كانَتْ أل للجنس كانت « مَنْ » نكرةً موصوفة كقوله : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ } [ الأحزاب : 23 ] ، وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً « ، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ للعهد ، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم ، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ » مَنْ « موصولةً ، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/ . وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا في موضعٍ تختص به النكرةُ ، كقوله :
158 رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه ... قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر : إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة ، قال :
159 فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و » مَنْ « تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً ، وهل تقع نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة :
160 يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له ... حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ
ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص : إمَّا على المبالغة أو على حذف مضاف .
و » مِنْ « في » مِنَ الناس « للتبعيض ، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها . و » الناس « اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه ، ويرادفُهُ » أناسِيٌّ « جمع إنسان أو إِنْسِيّ ، وهو حقيقةٌ في الآدميين ، ويُطْلق على الجن مجازاً . واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ ونون وسين والأصل : أناس اشتقاقاً من الأنس ، قال :
161 وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه ... ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ
لأنه أَنِس بحواء ، وقيل : بل أَنس بربه ، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً ، يدلُّ على ذلك قوله :
162 إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ ... نَ على الأُناس الآمنينا
وقال آخر :
163 وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ
وقال آخر :
164 وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم ... دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين ، والأصلُ : نَوَسَ ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها ، والنَّوْس والحركةُ . وذهب بعضُهم إلى أنه من نون وسين وياء ، والأصل : نَسِي ، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار نَيَساً ، ثم قُلبت الياء ألفاً لما تقدم في نوس ، قال : سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه الإِنسان لنسيانه ، قال :

165 فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً ... فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس
ومثله :
166 لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما ... سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي
فوزنُه على القول الأول : عال ، وعلى الثاني ، فَعَل ، وعلى الثالث : فَلَع بالقلب .
و « يقول » : فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على « مَنْ » ، والقولُ حقيقةً : اللفظُ الموضوعُ لمعنىً ، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإِسناديةِ وعلى الكلام النفساني أيضاً ، قال تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] ، وتراكيبه الستة وهي : القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ ، وإنْ اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ . والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو : « قُلْتُ خطبةً » ، وتحكى بعده الجملُ ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو ، كقوله :
167 متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما ... يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما
وبغير شرط عندهم كقوله :
168 قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً ... هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا
و « آمَنَّا » : فعلٌ وفاعلٌ ، و « بالله » متعلقٌ به ، والجملةُ في محلِّ نصب بالقول ، وكُرِّرَت الباءُ في قوله « وباليومِ » للمعنى المتقدِّم في قوله : { وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ } [ البقرة : 7 ] ، وقد سأل سائل فقال : الخبرُ لا بد وأن يفيدَ غيرَ ما أفاده المبتدأ ، ومعلومٌ أن الذي يقولَ كذا هو من الناس لا من غيرهم . واُجيب عن ذلك : بأن هذا تفصيلٌ معنويٌّ لأنه تقدَّم ذِكْرُ المؤمنين ، ثم ذِكْرُ الكافرين ، ثم عَقَّبَ بذِكْر المنافقين ، فصار نَظيرَ التفصيلِ اللفظي ، نحو قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ } [ البقرة : 204 ] { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي } [ لقمان : 6 ] فهو في قوةِ تفصيلِ الناسِ إلى مؤمنٍ وكافرٍ ومنافقٍ ، وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقالَ : إن الخبرَ أفادَ التبعيضَ المقصودَ لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك . وهم غيرُ مؤمنين فصارَ التقديرُ : وبعضُ الناسِ كَيْتَ وكَيْتَ .
واعلم أن « مَنْ » وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً ، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ ، فإن أريد بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى ، فتقول : « جاء مَنْ قام وقعدوا » والآيةُ الكريمة كذلك ، روعي اللفظُ أولاً فقيل : « مَنْ يقول » ، والمعنى ثانياً في « آمَنَّا » ، وقال ابن عطية : « حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ الجمعِ في الرتبة ، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ ، لو قلت : ومن الناس مَنْ يقومون ويتكلم لم يَجُز » . وفي عبارة القاضي ابن عطية نظرٌ ، وذلك لأنه منع من مراعاة [ اللفظ بعد مراعاة ] المعنى ، وذلك جائزٌ ، إلا أنَّ مراعاةَ اللفظ أولاً أَوْلى ، ومِمَّا يَرُدُّ عليه قولُ الشاعر :

169 لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو ... ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي
وقال تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ } [ التغابن : 9 ] إلى أن قال : « خالدين » فراعى المعنى ، ثم قال : { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } فراعى اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى وكذا راعى المعنى في قوله : « أو يَستكينون » ثم راعى اللفظَ في « إذا كافحته » . وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها ، أعني مِنْ كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية/ أمَّا إذا كانَتْ موصوفةً فقال الشيخ : « ليس في مَحْفوظي من كلام العرب مراعاةُ المعنى » يعني تقول : مررت بمَنْ محسنون لك .
و « الآخِر » صفةٌ لليوم ، وهو مقابِلُ الأولِ ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات المحدودة .
و { مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ما نافية ، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ « هم » اسمَها ، وبمؤمنين خبرَها ، والباء زائدةٌ تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ ، فلا تعملَ شيئاً ، فيكونُ « هم » مبتدأ و « بمؤمنين » الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً ، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ لا تُزاد في خبر « ما » إلا إذا كانَتْ عاملةَ ، وهذا مردودٌ بقول الفرزدق ، وهو تميمي :
170 لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه ... ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
إلا أنَّ المختارَ في « ما » أن تكونَ حجازِيةً ، لأنه لمَّا سقطت الباءُ صَرَّح بالنصب قال الله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] وأكثرُ لغةِ الحجاز زيادةُ الباء في خبرها ، حتى زعم بعضُهم أنه لم يَحْفَظِ النصبَ في غير القرآن إلا في قول الشاعر :
171 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها
أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ ... حَنِقُو الصدورِ وما هُمُ أولادَها
وأتى بالضمير في قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } جمعاً اعتباراً بمعنى « مَنْ » كما تقدم في قولِه « آمنَّا » . فإنْ قيل : لِمَ أتى بخبر « ما » اسمَ فاعل غيرَ مقيَّدٍ بزمان ولم يُؤْتَ بعدها بجملةٍ فعلية حتى يطابقَ قولَهم « آمنَّا » فيقال : وما آمنوا؟ فالجوابُ : أنه عَدَلَ عن ذلك ليفيدَ أنَّ الإِيمانَ منتفٍ عنهم في جميعِ الأوقات فلو أُتِيَ به مطابقاً لقولهم « آمنَّا » فقال : وما آمنوا لكان يكونُ نفياً للإِيمان في الزمن الماضي فقط ، والمرادُ النفيُ مطلقاً ، أي : إنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإِيمان في وقتٍ من الأوقات .

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ الله } : هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر ، وهو : ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل : يُخادعون اللهَ ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً ل « مَنْ » وهي « يقولُ » ، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال ، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قوله :
172 إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا
وقول الآخر :
173 متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا
ف « تُؤْخَذَ » بدلُ اشتمالٍ من « تُبايع » وكذا « تُلْمم » بدلٌ من « تأتِنا » ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب . والجملُ التي لا محلَّ لها من الإِعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي : المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسِّرة ، وسيأتي تفصيلُها في مواضعها . ويُحْتمَل أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في « يقول » تقديرُه : ومن الناسِ مَنْ يقول حالَ كونِهم مخادِعين . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في « بمؤمنين » والعاملُ فيها اسمُ الفاعل . وقد رَدَّ عليه بعضُهم بما معناه : أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ : ما زيدٌ أقبل ضاحكاً ، قال : « وللعربِ في مثل هذا التركيبِ طريقان ، أحدُهما : نفيُ القيدِ وحدَه وإثباتُ أصلِ الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى أنَّ الإِقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ ، وهذا المعنى لا يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية ، أعني نفيَ الخِداع ، وثبوتَ الإِيمان . الطريقُ الثاني : أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق : لم يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً ، أعني نفيَ الإِيمان والخداعِ معاً ، بل المعنى على نفي الإِيمان وثبوتِ الخداع ، ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في » بمؤمنين « . والعجبُ من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإِشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين؟ قال : » لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم ، والمعنى على إثباتِ الخداعِ « ، ثم جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير » مؤمنين « ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا .
والخِداعُ أصلُه الإِخفاء ، ومنه الأَخْدَعان : عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت ، فمعنى خادع أي : مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه ، وقيل : هو الفساد ، قال الشاعر :
174 أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ
أي : فَسَد . والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء ، ومثله : الخَدِيعة . ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى ، وقيل : لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ . وقال أبو القاسم الزمخشري/ : » إنَّ اسمَ الله تعالى مُقْحَمٌ ، والمعنى : يُخادِعون الذين آمنوا ، ويكون من باب « أعجبني زيدٌ وكرمُه » .

المعنى : أعجبني كرمُ زيد ، وإنما ذُكر « زيدٌ » توطئةً لذِكْر كرمه « وجَعَل ذلك نظيرَ قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] . وهذا منه غيرُ مُرْضٍ ، لأنه إذا صَحَّ نسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المتقدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى ، وأمَّا » أعجبني زيدٌ وكرمُه « فإنَّ الإِعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه ، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ : المشاركةُ المعنويةُ نحو : » ضاربَ زيدٌ عمراً « وموافقةُ المجرد نحو : » جاوَزْتُ زيداً « أي جُزْتُه ، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو : » باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته « ، والإِغناءُ عن أَفْعل نحو : » وارَيْتُ الشيءَ « ، وعن المجردِ نحو : سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت ، والآيةُ فيها فاعَلَ يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ . أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها ، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا ، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم ، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة : » يَخْدَعون « .
وقرأ أبو عمرو والحرمِيَّان : » وما يُخَادِعون « كالأولى ، والباقون : وما يَخْدعون ، فيُحتمل أن تكونَ القراءتان بمعنىً واحد ، أي يكون فاعَلَ بمعنى فَعَل ، ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ على بابها ، أعني صدورَها من اثنين ، فهم يُخادعون أنفسَهم ، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين ، ويكون هذا قريباً من قول الآخر :
175 لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها ... عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ
ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً ... فيها وفي أختِها لم تَكَدِ
وقال آخرُ :
176 يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ ... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها
وقوله » إلا أنفسَهم « : » إلا « في الأصل حَرف استثناء ، ِ وأنفسَهم مفعول به ، وهذا الاستثناءُ مفرغٌ ، وهو عبادرةٌ عما افْتَقَر فيه ما قبلَ » إلا « لِما بعدها ، ألا ترى أن » يُخادعون « يَفْتَقِرُ إلى مفعولٍ ، ومثلُه : » ما قام إلا زيدٌ « فقام يفتقر إلى فاعل ، ٍ والتامُّ بخلافِه ، أي : ما لم يَفْتَقِرْ فيه ما قبلَ » إلاَّ « لِما بعدها ، نحو : قام القومُ إلا زيداً ، وضرْبتُ القوم إلا بكراً ، فقام قد أخذ فاعلَه ، وضرْبتُ أخذ مفعولَه ، وشرطُ الاستثناء المفرغ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهام والنفي . وأمَّا قولُهم : » قرأتُ إلا يومَ كذا « فالمعنى على نفيٍ مؤول تقديره : ما تركتُ القراءة إلا يوم كذا ، ومثلُه : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }

[ التوبة : 32 ] ، { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، وللاستثناء أحكامٌ كثيرة تأتي مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى .
وقُرئ : « وما يُخْدَعون » مبنياً للمفعول ، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم ، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ :
177 تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « يُخَدِّعون » ، مِنْ خَدَّعَ مشدداً ، و « يَخَدِّعون » بفتح الياء والتشديد والأصل : يَخْتَدِعون فأدغم .
{ وَمَا يَشْعرونَ } هذه الجملةُ الفعليةُ ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعراب ، لأنها استئنافٌ ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل « يَخْدعون » ، والمعنى : وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك . ومفعولُ « يَشْعُرون » محذوفٌ للعلم به ، تقديرُه : وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم ، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ ، والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ ، والثاني يُسَمَّى حذفَ الاقتصار ، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ .
والشعورُ : إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفى ، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته ، وقيل : هوالإِدراك بالحاسَّة مشتقٌّ من الشِّعار ، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ ، ومنه مشاعرُ الإِنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها .

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

قولُه تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } : الآية . الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله : { وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] . والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ « مَرَض » ، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها ، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض . والمرضُ : الفتورُ ، وقيل : الفساد ، ويُطلق على الظلمة ، وانشدوا :
178 في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ ... فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ
أي لظلمتها ، ويجوزُ أن يكونَ أراد بمَرِضَتْ فَسَدت ، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ بالظلمةِ .
وقوله : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } : هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها ، مُتَسَبِّبَةٌ عنها ، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم ، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى . و « زاد » يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا ، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً ، تقول : زاد المال ، فهذا لازمٌ ، وزِدْتُ زيداً خيراً ، ومنه { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } « وزدتُ زيداً » ولا تذكر ما زِدْتَه ، وزدْتُ مالاً ، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ « زاد » منقلبةٌ عن ياء لقولهم : يزيدُ .
{ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظير قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] وقد تقدَّم . وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم ، كقوله :
179 ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ
ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء ، وأَفْعال مثل : شريف وأَشْراف ، ويجوزُ أن يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين ، وعلى هذا يكون نسبةُ الألم إلى العذاب مجازاً ، لأن الألم حَلَّ بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب ، فهو نظيرُ قولهم : شِعْرٌ شاعِرٌ .
و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في « لهم » أي : استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم . و « ما » يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ ل « كان » مصدراً ، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر :
180 بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى ... وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ
فقد صرَّح بالكون . ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [ الخبر ] بعدها ، وهو : « إياه » ، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه . وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها ، لا تقول : « كان زيد قائماً كوناً » ، قالوا : لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر ، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه ، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على « ما » لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً . ويجوز أن تكونَ « ما » بمعنى الذي ، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي : بالذي كانوا يكذِّبونه ، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط ، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل ، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ .

وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ ، قال : « لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على » الذي « لا على المصدرِ » وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ ، إذ لقائلٍ أن يقولَ : لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة ، حتى يلزمَ جَعْلُ « ما » اسميةً ، بل مَنْ قرأ « يَكْذِبون » مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي : بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف . وقرأ الكوفيون : « يَكْذِبون » بالفتح والتخفيفِ ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ .
ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد ، وله معانٍ كثيرة : الرَّمْيُ بكذا ، ومنه الآيةُ الكريمةُ ، والتعديةُ نحو : فَرَّحْتُ زيداً ، والتكثير نحو : قَطَّعْتُ الأثواب ، والجَعْلُ على صفة نحو : قطَّرْتُه أي : جعلته مُقَطَّرا ، ومنه :
181 قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا
والتسميةُ نحو : فَسَّقْتُه أي سَمَّيْتُه فاسقاً ، والدعاءُ له نحو : سَقَّيْتُه أي : قلت له : سَقاك الله ، أو الدعاءُ عليه نحو : عَقَّرْته ، أي : قلت له : عَقْراً لك ، والإِقامة على شيء نحو : مَرَّضْتُه ، والإِزالة نحو : قَذَّيْتُ عينَه أي أزلْتُ قَذاها ، والتوجُّه نحو : شَرَّق وغَرَّب ، أي : تَوَجَّه نحو الشرق والغرب ، واختصارُ الحكاية نحو : أَمَّن قال : آمين ، وموافقة تَفَعَّل وفَعَل مخففَّاً نحو : ولَّى بمعنى تَوَلَّى ، وقَدَّر بمعنى قَدَر ، والإِغناء عن تَفَعَّل وفَعَل مخففاً نحو : حَمَّر أي تكلَّم بلغة حميرٍ ، قالوا : « مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّر » وعَرَّد في القتال هو بمعنى عَرِد مخففاً ، وإن لم يُلْفَظْ به .
و « الكذب » اختلف الناسُ فيه ، فقائلٌ : هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً ، وقيل : بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا . وقيل : الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا ، والصدقُ نقيضُه ، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } : الآية . « إذا » ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً ، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق أو المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط ، فإنها للأمر المحتمل ، ومن الجزم قولُه :
182 تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي ... ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ
وقال آخر :
183 واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى ... تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ
وقول الآخر :
184 إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها ... خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ
فقوله : « فَنُضَارِبِ » مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه « كان وصلُها » . وقال الفرزدق :
185 فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ ... وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ
وقد تكونُ للزمنِ الماضي ك « إذ » ، كما قد تكون إذْ للمستقبل ك « إذا » ، وتكون للمفاجأة أيضاً ، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو حرفاً؟ ثلاثةُ أقوال ، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ ، وهل تتصرَّف أم لا؟ الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها ، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة مَنْ قرأ : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } [ الواقعة : 1-4 ] بنصب { خَافِضَةً رَّافِعَةً } ، فَجَعَلَ « إذا » الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها ، التقديرُ : وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض ، وبقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا } [ الزمر : 71 ] { حتى إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] ، فجعلَ « حتى » حرفَ جر و « إذا » مجرورةً بها ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه . ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ الفعليةِ خلافاً للأخفش .
وقولُه تعالى : « قيل » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ ، وأصلُه : قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها ، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً ، وهذه أفصحُ اللغاتِ ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإِشمامُ ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم ، نحو : قُوْلَ وبُوعَ ، قال الشاعر :
186 ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ ... ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ
وقال آخر :
187 حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ ... تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ
وقال الأخفش : « ويجوزُ » قُيْل « بضم القافِ والياءُ » يعني مع الياء لا أنَّ الياءَ تضمُّ أيضاً . وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ ونحوها ، فتقول : اختير بالكسرِ والإِشمامِ واختُور ، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ ورِدَّ ، وأنشدوا :
188 وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ... ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ
بكسر حاء « حِلَّ » وقرئ : « ولو رِدُّوا » بكسر الراء ، والقاعدةُ فيما لم يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً ، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ آخرهِ لفظاً نحو : ضُرِب أو تقديراً نحو : قِيلَ واخْتِير ، وإن كان مضارعاً فُتح لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو : يُقال ويُختار ، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ وصل نحو : انطُلِق بزيدٍ .

واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس ، هكذا قال بعضُهم ، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك ، وأشمَّ الكسائي : { قيل } [ البقرة : 11 ] ، { وغيض } [ هود : 44 ] { وجيء } [ الزمر : 69 ] ، { وحيل بينهم } [ سبأ : 54 ] ، { وسيق الذين } [ الزمر : 71 ] ، { وسيىء بهم } [ هود : 77 ] ، { وسيئت وجوهُ } [ الملك : 27 ] ، وافقه هشام في الجميع ، وابنُ ذكوان في « حيل » وما بعدها ، ونافع في « سيئ » و « سيئَتْ » والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع . والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في « يوسف » إن شاء الله تعالى عند { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] فإنه أليقُ به .
و « لهم » جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل ، واللامُ للتبليغ ، و « لا » حرفُ نهي تَجْزِمُ فعلاً واحداً ، « تُفْسِدوا » مجزومٌ بها ، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ ، و « في الأرضِ » متعلّقٌ به ، والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قوله « لا تُفْسِدوا » لأنه هو المقولُ في المعنى ، واختاره أبو القاسم الزمخشري ، والتقديرُ : وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ ، فهو من باب الإِسنادِ اللفظي . وقيل : القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه : وإذا قيل لهم [ قولٌ ] هو ، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] والمعنى : « وإذا قيل لهم قولٌ سَديدٌ » فَأُضْمِر هذا القولُ الموصوفُ ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإِعراب ، قال : « فإذا أَمْكَنَ الإِسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي ، وقد أمكن ذلك بما تقدَّم » وهذا القولُ سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال : « والمفعولُ القائمُ مقامَ الفاعل مصدرٌ وهو القولُ وأُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره ، ولا يجوزُ أن يكونَ » لا تُفْسِدوا « قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا تقومُ مقامَ الفاعل » . انتهى . وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى : وإذا قيل لهم هذا اللفظُ ، ولا يجوزُ أن يكونَ « لهم » قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي الكوفيين والأخفشِ ، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه . وتلخَّص مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه : « لا تُفْسدوا » في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري ، ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ تبعه . والجملةُ من قوله : « قيل » وما في حيِّزِه في محلِّ خَفْض بإضافةِ الظرفِ إليه . والعاملُ في « إذا » جوابُها عند الجمهور وهو « قالوا » ، والتقدير : قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا تُفْسدوا ، وقال بعضهم : « والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ لها ، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإِضافةِ لأنها أداةُ شرط ، فحكمُها حكمُ الظروفِ التي يُجازى بها ، فكما أنك إذا قلتَ : » متى تقمْ أقمْ « كان » متى « منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك » إذا « .

قال هذا القائل : « والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك : » إذا قمت فعمورٌ قائمٌ « ، ووقوعُ » إذا « الفجائية جواباً لها ، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما . وهو اعتراضٌ ظاهر .
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } » إنَّ « حرفٌ مكفوفٌ ب » ما « الزائدة عن العمل ، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً ، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم . وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن » إنما « مركبة من » إنَّ « التي للإِثبات و » ما « التي للنفي ، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ . واعلم أنَّ » إنَّ « وأخواتِها إذا ولِيَتْها » ما « الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ ، إلا » ليت « فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً ، وأنشدوا قولَ النابغة :
189 قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا ... إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ
برفع » الحمام « ونصبه ، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها ، وأمَّا إهمالُها فلحَمْلِها على أخواتها ، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ على رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل » ما « موصولةً بمعنى الذي ، كالتي في قوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] و » هذا « خبرُ مبتدأ محذوف هو العائدُ ، و » الحَمام « نعتٌ ل » هذا « و » لنا « خبر لليت ، وحُذِف العائدُ وإنْ لم تَطُلْ الصلةُ ، والتقدير : ألا ليت الذي هو هذا الحمامُ كائنٌ لنا ، وهذا أَوْلى من أن يُدَّعَى إهمالُها ، لأن المقتضَى للإِعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ . وزعم بعضُهم أن » ما « الزائدةَ إذا اتصلت بإنَّ وأخواتِها جاز الإِعمالُ في الجميع .
و » نحن « مبتدأ ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم ، ومن معه ، أو المعظِّمِ نفسه ، و » مصلحون « خبرُه ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا . والجملة الشرطيةُ وهي قولُه : » وإذا قيلَ لهم « عطفٌ على صلة مَنْ ، وهي » يقولُ « ، أي : ومن الناس مَنْ يقول ، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا : . وقيل : يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإِعراب لما تقدم ، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني ، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على » يَكْذِبُون « الواقع خبراً ل » كانوا « ، فيكونَ محلُّها النصبَ . وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي » ما « مِنْ قوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } خطأٌ ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، إذ لا عائدَ فيها يعود على » ما « الموصولةِ ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج . والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما يعتقدان أن » ما « موصولةٌ حرفيةٌ ، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به ، ولكنه يُشْكِل على أبي البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ » ما « مصدريةً كما تقدم .

أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

قوله تعالى : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } : الآية . « ألا » حرف تنبيه واستفتاح ، وليست مركبةً مِنْ همزةِ الاستفهام ولا النافيةِ ، بل هي بسيطةٌ ، ولكنها لفظٌ مشتركٌ بين التنبيه والاستفتاح ، فتدخلُ على الجملة اسميةً كانت أو فعلية ، وبين العَرْض والتخصيص ، فتختصُّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً ، وتكون النافيةَ للجنس دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام ، ولها أحكامٌ تقدَّم بعضها عند قوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] ، وتكونُ للتمني فتجري مَجْرى « ليت » في بعض أحكامِها . وأجاز بعضُهم أن تكون جواباً بمعنى بلى ، يقول القائل : لم يقم زيد ، فتقول : ألا ، بمعنى بلى قد قام ، وهو غريب .
و « إنهم » « إنَّ » واسمُها ، و « هم » تَحْتمل ثلاثةَ أوجه ، أحدها : أن تكون تأكيداً لاسم « إنَّ » لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ ضروبِ الضميرِ المتصلِ ، وأن تكون فصلاً ، وأن تكونَ مبتدأ و « المفسدون » خبره ، وهما خيرٌ ل « إنَّ » ، وعلى القَولَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ « المفسدون » وحده خبراً لإِنَّ . وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد ، منها : الاستفتاحُ والتنبيه والتأكيدُ بإنَّ وبالإِتيانِ وبالتأكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعَوه من قولهم : إنما نحن مصلحون ، لأنهم أَخْرجوا الجوابَ جملةً اسمية مؤكَّدة بإنما ، لِيَدُلُّوا بذلك على ثبوتِ الوصفِ لهم فردَّ الله عليهم بأبلَغَ وآكدَ مِمَّا ادَّعَوه .
قوله تعالى : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها و « لكن » معناها الاستدراكُ ، وهو معنىً لا يفارقها ، وتكون/ عاطفةً في المفردات ، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ ، نحو : « ما قام زيدٌ لكن خرج بكر » ، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة :
190 ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ ... ولكن متى يَسْترفدِ القومُ أَرْفِدِ
فقوله : : متى يسترفدِ القوم أرفدِ « ليس ضداً ولا نقيضاً لما قبله ، ولكنه خلافُه . قال بعضهم : وهذا لا دليلَ فيه على المُدَّعَى ، لأنَّ قولَه : » لستُ بحلاَّل التِّلاعِ لبيته « كنايةٌ عن نفي البخلِ أي : لا أَحُلُّ التلاعَ لأجلِ البخلِ ، وقوله : » متى يسترفد القوم أرفد « كنايةٌ عن الكرم ، فكأنه قال : لست بخيلاً ولكن كريماً ، فهي هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ . ولا تعملُ مخفَّفةً خلافاً ليونس ، ولها أحكامٌ كثيرة .
ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر ، وذلك أنهم لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإِفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون ، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك ، ومثلُه قولك : » زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم « ، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل ، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يَعْلَمَ بهذا الوصفِ من نفسه ، لأن الإِنسانَ ينبغي له أن يعلم ما اشتملَتْ عليه نفسُه من الصفات فاستدركْتَ عليه أن هذا الوصفَ القائمَ به لا يعلمه مبالغةً في جَهْله .
ومفعول » يَشْعرون « محذوف : إمَّا حذفَ اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ، وإمَّا حذفَ اقتصار ، وهو الأحسنُ ، أي ليس لهم شعورٌ البتة .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُواْ } : الكلامُ عليها كالكلامِ على نظيرتِها قبلها . وآمِنُوا فعل وفاعل والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ الفاعلِ على ما تقدَّم في { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] ، والأقوالُ المتقدمة هناك تعودُ هنا فلا حاجة لذِكْرِها .
والكافُ في قوله : { كَمَآ آمَنَ الناس } في محلِّ نصبٍ . وأكثرُ المُعْرِبينَ يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، والتقدير : آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس ، وكذلك يقولون في : « سِرْ عليه حثيثاً » ، أي سيراً حثيثاً ، وهذا ليس من مذهب سيبويه ، إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المضمرِ المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ .
وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ ، ليس هذا منها ، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً بالموصوفِ ، نحو : مررت بكاتبٍ ، أو واقعةً خبراً نحو : زيد قائم ، أو حالاً نحو : جاء زيدٌ راكباً ، أو صفةً لظرف نحو : جلستُ قريباً منك ، أو مستعمَلةً استعمالَ الأسماء ، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه ، نحو : الأَبطح والأَبْرق ، وما عدا هذه المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : « ألا ماءَ ولو باردا » ، وإنْ تقدَّم ما يدل على الموصوف ، وأجاز : ألا ماءَ ولو بارداً لأنه نَصْبٌ على الحال .
و « ما » مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف ، و « آمَنَ الناسُ » صلتُها . واعلم أن « ما » المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف ، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ المتصرِّف في قوله :
191 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ والغَدْرِ
وهل تُوصل بالجمل الاسمية؟ خلافٌ ، واستُدِلَّ على جوازه ، بقوله :
192 واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ ... فلأَنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ
وقول الآخر :
193- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ ... كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب
وقول الآخر :
194- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا ... كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ
إلا أنَّ ذلك يكثُر فيها إذا أَفْهَمَتِ الزمانِ كقوله : « واصلْ خليلَك . البيت . وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكونَ » ما « كافةً للكاف عن العمل ، مثلُها في قولك : ربما قام زيد . ولا ضرورةَ تَدْعو إلى هذا ، لأنَّ جَعْلَها مصدريةً مُبْقٍ للكافِ على ما عُهِدَ لها من العملِ بخلافِ جَعْلِها كافةً . والألفُ واللامُ في » الناس « تحتملُ أن تكونَ جنسيةً أو عهديةً . والهمزةُ في » أنؤمن « للإِنكار أو الاستهزاءِ ، ومحلُّ » أنؤمن « النصبُ ب » قالوا « .
وقوله : { كَمَآ آمَنَ السفهآء } : القولُ في الكافِ و » ما « كالقول فيهما فيما تقدَّم ، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ ، وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق ، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم ، بحيث إذا قيل السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون ، كما يُفْهم من العيُّوق/ كوكب مخصوص .

والسَّفَهُ : الخِفَّةُ ، تقول : « ثوبٌ سفيه » أي خفيفُ النَّسْج . وقوله : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } كقولِه فيما تقدَّم : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] فلا حاجة إلى إعادتِه . ومعنى الاستدراكِ كمعناه فيما تقدَّم ، إلا أنه قال هناك : « لا يشعرون » ، لأن المثبتَ لهم هناكَ هو الإِفسادُ ، وهو ممَّا يُدْرَكُ بأدنى تأمُّلٍ لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكرٍ كبير ، فَنَفَى عنهم ما يُدْرَكُ بالمشاعرِ وهي الحواسُّ مبالغةً في تَجْهيلهم وهو أنَّ الشعور الذي قد ثَبَتَ للبهائم منفيٌّ عنهم ، والمُثْبَتُ هنا هو السَّفَهُ والمُصَدَّرُ به هو الأمرُ بالإِيمان وذلك ممَّا يَحتاج إلى إمعان فكرٍ ونظرٍ تامٍ يُفْضي إلى الإِيمانِ والتصديقِ ، ولم يَقَعْ منهم المأمورُ به وهو الإِيمانُ ، فناسَبَ ذلك نفيَ العلمِ عنهم . ووجهٌ ثان وهو أن السَّفَه هو خِفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور ، قال السمَوْءَل :
195- نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا ... فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ
والعلمُ نقيضُ الجهلِ فقابلَه بقولِه : لا يَعْلمون ، لأنَّ عدمَ العلمِ بالشيءِ جهلٌ به .

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

قوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا } : « إذا » منصوب بقالوا الذي هو جوابٌ لها ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك ، و « لَقُوا » فعلٌ وفاعل ، والجملةُ في محلِّ خفض بإضافةِ الظرفِ إليها . وأصل لَقُوا : لَقِيُوا بوزن شَرِبوا ، فاسْتُثْقِلتِ الضمةُ على الياء التي هي لام الكلمة ، فحُذِفَتِ الضمةُ فالتقى ساكنان : لامُ الكلمة وواوُ الجمع ، ولا يمكن تحريكُ أحدهما ، فَحُذِف الأول وهو الياء ، وقُلِبت الكسرةُ التي على القاف ضمةً لتجانِسَ واوَ الضمير ، فوزن « لَقُوا » : فَعُوا ، وهذه قاعدةٌ مطردةٌ نحو : خَشُوا وحَيُوا .
وقد سُمع في مصدر « لَقي » أربعة عشر وزناً : لُقْياً ولِقْيَةً بكسر الفاء وسكون العين ، ولِقاء ولِقاءة [ ولَقاءة ] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة ، ولَقَى ولُقَى بفتح القافِ وضمها ، ولُقْيا بضم الفاء وسكون العين ولِقِيَّا بكسرهما والتشديد ، ولُقِيَّا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد ، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم الفاء وكسرها ، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً ، وتِلْقاء .
و « الذين آمنوا » مفعولٌ به ، و « قالوا » جوابُ « إذا » ، و « آمنَّا » في محلِّ نَصْبٍ بالقول .
قوله تعالى : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا } تقدَّم نظيرُه ، والأكثرُ في « خلا » أن يتعدَّى بالباء ، وقد يتعدَّى بإلى ، وإنما تعدَّى في هذه الآية بإلى لمعنى بديعٍ ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما : الانفرادُ ، والثاني : السخرية والاستهزاءُ ، تقول : « خَلَوْتُ به » أي سَخِرْتُ منه ، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط ، أو تقول : ضُمِّن خَلا معنى صَرَف فتعدَّى بإلى ، والمعنى : صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم ، أو تضمَّن معنى ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق :
196 ألم تراني قالِباً مِجنِّي ... قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي
أي : صرفه بالقتل ، وقيل : هي هنا بمعنى مع ، كقوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] . وقيل : هي بمعنى الباء ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون التَجوُّز في الحروف لضَعْفِها . وقيل : المعنى وإذا خَلَوا من المؤمنين إلى شياطينهم ، ف « إلى » على بابِها ، قلت : وتقديرُ « مِن المؤمنين » لا يجعلُها على بابِها إلاَّ بالتضمينِ المتقدِّم .
والأصل في خَلَوْا : خَلَوُوْا ، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها ، فبقيَتْ ساكنةً ، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ ، فالتقَى ساكنان ، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليهَا .
و « شياطينهم » جمعُ شيطان جمعَ تكسيرٍ ، وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقه فوزن شياطين : إمَّا فعاليل أو فعالين على حَسَب القَوْلينِ المتقدِّمَيْنِ في الاستعاذة . والفصيح في « شياطين » وبابِه أن يُعْرَبَ بالحركاتِ لأنه جمعُ تكسيرٍ ، وفيه لُغَيَّةٌ رديئةٌ ، وهي إجراؤُه إجراءَ الجمعِ المذكر السالم ، سُمع منهم : « لفلانٍ بستانٌ حولَه بساتون » ، وقُرئ شاذاً : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطون } [ الشعراء : 210 ] .

قوله تعالى : { قالوا إِنَّا مَعَكُمْ } إنَّ واسمُها و « معكم » خبرُها ، والأصل في إنَّا : إنَّنا ، كقوله تعالى : { إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً } [ آل عمران : 93 ] ، وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني « إنَّ » لَمَّا اتصلت بنونِ ن ، تخفيفاً ، وقال أبو البقاء : « حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في » إنَّ « إذا خُفِّفَتْ .
و » مع « ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم ، فيتعلَّقُ بمحذوف ، وهو ظرفُ مكانٍ ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ . قالوا : لأنه يَدُلُّ على الصحبةِ ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ ، وأمَّا كونُه ظرفَ مكانٍ فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو : » زيدٌ معك « ، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه ذلك . واعلَم أنَّ » مع « لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله :
197 وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ ... وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما
وهي حينئذٍ على ظرفِيتها خلافاً لمَنْ زَعَم أنَّها حينئذٍ حرفُ جرٍّ ، وإنْ كان النحاس ادَّعَى الإِجماع في ذلك ، وهي من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ ، وقد تُقْطَعُ لفظاً فتنتصب حالاً غالِباً ، تقولُ : جاء الزيدان معاً أي مصطحِبَيْنِ ، وقد تقع خبراً ، قال الشاعر :
198 حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ ... مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما مَعَا
فَشْعباكما مبتدأ ، و » معاً « خبرُه ، على أنه يُحتمل أن يكونَ الخبرُ محذوفاً ، و » معا « حالاً . واختلفوا في » مع « حالَ قَطْعِها عن الإِضافة : هل هي من باب المقصور نحو : عصا ورحا ، أو المنقوص نحو : يد ودم؟ قولان ، الأولُ قولُ يونسَ والأخفشِ ، والثاني قولُ الخليل وسيبويه ، وتظهر فائدة ذلك إذا سَمَّيْنا به فعلى الأول تقول : جاءني معاً ورأيت معاً ومررت بمعاً ، وعلى الثاني : جاءني معٌ ورأيت معاً ومررت بمعٍ كيَدٍ ، ولا دليلَ على القولِ الأولِ في قوله : » وشَعْباكما معاً لأنَّ معاً منصوبٌ على الظرفِ النائبِ عن الخَبر ، نحو : « زيدٌ عندَك » وفيها كلامٌ أطولُ من هذا ، تَرَكْتُه إيثاراً للاختصارِ .
قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } كقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] ، وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم ، كأنهم لمَّا قالوا لهم : « إنَّا معكم » توجَّه عليهم سؤالٌ منهم ، وهو فما بالُكم مع المؤمنين تُظاهِرونهم على دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ ، وقيل : محلُّها النصب ، لأنها بدلٌ من قولِه تعالى : « إنَّا معكم » . وقياسُ تخفيفِ همزةِ « مستهزئون » ونحوِه أن تُجْعَلَ بينَ بينَ ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي منه حركتُها وهو الواو ، وهو رأيُ سيبويه ، ومذهبُ الأخفش قَلْبُها ياءً محضةً . وقد وَقَف حمزةُ على « مستهزئون » و { فَمَالِئُونَ } [ الصافات : 66 ] ونحوهِما بحَذْفِ صورة الهمزة إتْباعاً لرسمِ المصحفِ .

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

قولُه تعالى : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } : « اللهُ » رفعٌ بالابتداء و « يَسْتَهْزىء » جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خبرِه ، و « بهم » متعلقٌ به ، ولا محلَّ لهذه الجملة لاستئنافِها ، « وَيَمُدُّهم » في محلِّ رفع أيضاً لعطفِه على الخبر وهو يستهزىء ، و « يَعْمَهُوْن » في محلِّ الحالِ مِن المفعولِ في « يَمُدُّهم » أو من الضميرِ في « طغيانهم » وجاءت الحالُ من المضافِ إليه لأنَّ المضاف مصدرٌ . و « في طغيانهم » يَحتمُل أن يتعلَّقَ بيَمُدُّهم أَو بيَعْمَهون ، وقُدِّم عليه ، إلا إذا جُعِل « يَعْمَهون » حالاً من الضميرِ في « طُغْيانهم » فلا يتعلَّق به حينئذ لفسادِ المعنى .
وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ « في طُغيانهم » و « يَعْمَهون » حالَيْن من الضميرِ في « يَمُدُّهُمْ » ، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في حالين ، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك ، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ ذلك لا لِما ذكره أبو البقاء ، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ حالاً ، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ ، أعني يَمُدُّهُمْ أو يَعْمَهُونَ ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ .
والمشهورُ فتحُ الياءِ من « يَمُدُّهم » ، وقُرئ شاذاً بِضمِّها ، فقيل : الثلاثي والرباعي بِمعنى واحدٍ ، تقول : مَدَّة وأَمَدَّه بكذا ، وقيل : مَدَّه إذا زاده من جنسه ، وأَمَدَّه إذا زادَه من غير جنسِه ، وقيل : مَدَّه في الشرِّ ، كقوله تعالى : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] ، وَأَمَدَّه في الخير ، كقوله : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] ، { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ } [ الطور : 22 ] ، { أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ } [ آل عمران : 124 ] ، إلا أنَّه يُعَكِّر على هذين الفرقين أنه قرئ : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } [ الأعراف : 202 ] باللغتين ، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيهِ ضَمِّ الياء أنه بمنزلةِ قولِهِ تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } [ الليل : 10 ] ، يعني أبو علي رحمه الله تعالى بذلك أنه على سبيل التهكم .
وقال الزمخشري : « فإنْ قُلْتَ : لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في العُمْرِ والإِملاءِ والإِمهالِ؟ قلت : كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير وابنِ محيصن : » ويُمِدُّهم « وقراءةُ نافعِ » « وإخوانُهم يُمِدُّونهم » على أنَّ الذي بمعنى أمهله إنما هو « مَدَّ له » باللام كأَمْلى له « .
والاستهزاءُ لغةً : السُّخْرِيةُ واللعبُ : يقال : هَزِئَ به ، واستَهْزَأَ قال :
199 قد هَزِئَتْ مني أمُّ طَيْسَلَهْ ... قالَتْ : أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ
وقيل : أصلُه الانتقامُ ، وأنشدَ :
200- قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ جُثَّمُ
فعلى هذا القولِ الثاني نسبةُ الاستهزاءِ إليه تعالى على ظاهِرها ، وأمَّا على القولِ الأولِ فلا بُدَّ من تأويل ذلك .

فقيل : المعنى يُجازيهم على استهزائهم ، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ الكلامُ ، ومنه : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] . وقال عمرو ابن كلثوم :
201 ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا ... فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
وأصلُ المَدَدِ : الزيادةُ . والطغيانُ : مصدر طغى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْياناً بكسر الطاء وضمِّها ، ولامُ طغى قيل : ياءٌ وقيل : واو ، يقال : طَغيْتُ وطغَوْتُ ، وأصلُ المادة مجاوَزَةُ الحَدِّ ومنه : طَغَى الماءُ . والعَمَهُ : التردُّدُ والتحيُّرُ ، وهو قريبٌ من العَمَى ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، لأن العَمَى يُطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي ، والعَمَهُ لا يُطلق إلا على الخطأ في الرأي ، يقال : عَمِهَ يَعْمَهُ عَمَهاً وَعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعامِهٌ .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

قولُه تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } : « أولئك » رفعٌ بالابتداءِ والذين وصلتُه خبرُه ، وقولُه تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } هذه الجملةُ عطفٌ على الجملةِ الواقعةِ صلةً ، وهي « اشْتَرَوْا » وزعم بَعضُهم أنها خبرُ المبتدأ ، وأنَّ الفاءَ دَخَلَتْ في الخَبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ من معنى الشرط ، وجعل ذلك نظيرَ قوله : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } [ البقرة : 274 ] ثم قال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } وهذا وَهْمٌ ، لأنَّ الذين اشتروا ليس مبتدأ حتى يُدَّعَى دخولُ الفاءِ في خبره ، بل هو خبرٌ عن « أولئك » كما تقدَّم . فإنْ قيل : يكونُ الموصولُ مبتدأً ثانياً فتكونُ الفاءُ دَخَلَتْ في خبره فالجوابُ أنه يلزم مِن ذلك عدمُ الربطِ بين المبتدأ والجملة الواقعةِ خبراً عنه ، وأيضاً فإنَّ الصلَةَ ماضيةٌ معنى . فإنْ قيل : يكونُ « الذين » بدلاً من « أولئك » فالجوابُ أنه يصير الموصولُ مخصوصاً لإِبداله من مخصوصٍ ، والصلة أيضاً ماضيةٌ . فإن قيل : يكونُ « الذين » صفةً لأولئك ويصيرُ نظيرَ قولك : « الرجلُ الذي يأتيني فله درهمٌ » فالجوابُ : أنه مردودٌ بما رُدَّ به السؤالُ الثاني ، وبأنه لا يجوز أن يكونَ وصفاً له لأنه أعرفُ منه فبانَ فسادُ هذا القول .
والمشهورُ ضَمُّ واو « اشتروا » لالتقاءِ الساكنين ، وإنما ضُمَّتْ تشبيهاً بتاءِ الفاعل . وقيل : للفرقِ بين واوِ الجمع والواوِ الأصليةِ نحو : لو استطعنا . وقيل : لأن الضمة هنا أخفُّ من الكسرةِ لأنها من جنسِ الواو . وقيل حُرِّكَتْ بحركة الياءِ المحذوفةِ ، فإنَّ الأصلَ اشْتَرَيُوا كما سيأتي . وقيل هي للجمع فهي مثل : نحن . وقُرئ بكسرِها على أصلِ التقاء الساكنين ، وبفتحِها : لأنه أخفُّ . وأجاز الكسائي همزَها تشبيهاً لها بأَدْؤُر وأَثْؤُب وهو ضعيف ، لأن ضمَّها غيرُ لازمٍ ، وقال أبو البقاء : « ومِنهم مَنْ يَخْتَلِسُها ، فيحذِفُها لالتقاءِ الساكنين وهو ضعيفٌ جداً؛ لأن قبلها فتحةً والفتحةُ لا تَدُلُّ عليها » .
وأصل اشْتَرَوا : اسْتَرَيُوا ، فتحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، ثم حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليها ، وقيل : بل حُذِفَت الضمة من الياءِ فَسَكَنَتْ ، فالتقى ساكنان ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقائِهما . فإن قيل : فواوُ الجمع قد حُرِّكَت فينبغي أن يعودَ الساكنُ المحذوفُ ، فالجوابُ أن هذه الحركةَ عارضةٌ ، فهو في حكمِ الساكنِ ، ولم يجيءْ ذلك إلا في ضرورةِ شعرٍ ، أنشد الكسائي :
202 يا صَباحِ لَمْ تنامِ العَشِيَّا ... فأعاد الألفَ لمَّا حُرِّكَتِ الميمُ حَركةً عارضةً .
و « الضلالةَ » مفعولُه ، و « بالهدى » متعلِّق ب « اشتروا » ، والباءُ هنا للعِوض وهي تدخلُ على المتروكِ أبداً . فأمَّا قولُه تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة } [ النساء : 74 ] فإنَّ ظاهرَه أنَّ الآخرة هي المأخوذةُ لا المتروكةُ ، فالجوابُ ما قاله الزمخشري رحمه الله تعالى من أن المرادَ بالمُشترين المُبْطِئُون وُعِظُوا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ ويُخْلِصوا الإِيمانَ بالله تعالى وسولِه ويجاهدوا في الله حَقَّ الجهادِ ، فحينئذ إنما دخلتِ الباءُ على المتروكِ .

والشراءُ هنا مجازٌ عن الاستبدالِ بمعنى أنهم لَمَّا تَرَكوا الهدى ، وآثروا الضلالةَ ، جُعِلوا بمنزلة المشترين لها بالهدى ، ثُم رُشِّح هذا المجازُ بقولِه تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } فَأَسْنَدَ الربحَ إلى التجارةِ ، والمعنى : فما ربحوا في تجارتهم ، ونظيرُ هذا الترشيحِ قولُ الآخر :
203 بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكرَ جِلْدَه ... وَعجَّتْ عَجيجاً من جُذامَ المَطارِفُ
لمَّا أَسْنَدَ البكاءَ إلى الخَزِّ من أجل هذا الرجل وهو رَوْحٌ وإنكارِه لجِلْده مجازاَ رشَّحه بقوله : « وعَجَّت المَطارِف من جُذام » أي : استغاثت الثياب من هذه القبيلة ، وقولُ الآخر :
204 ولَمَّا رأيتُ النَّسْرَ عَزَّ ابنُ دايةٍ ... وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جاشَ له صَدْري
لمَّا جَعَلَ النَّسْرَ عبارةً عن الشيب ، وابنَ دايةَ وهو الغرابُ عبارةً/ عن الشباب مجازاً رشَّحه بقوله : « وعَشَّشَ في وَكْريه » ، وقولُ الآخر :
205 فما أُمُّ الرُّدَيْنِ وإنْ أَدَلَّتْ ... بعالمةٍ بأخلاقِ الكرامِ
إذا الشيطانٌ قصَّع في قَفاها ... تَنَقَّفْناه بالحَبْل التُّؤامِ
لمَّا قال : « قصَّع في قفاها » أي دخل من القاصعاء وهي جُحْر من جُحْرة اليَرْبوع رشَّحه بقولِه : « تَنَقَّفْناه » أي : أخرجناه من النافِقاء ، وهي أيضاً من جُحْرة اليربوع .
قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذه الجملةُ معطوفةٌ على قوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } ، والرِّبْحُ : الزيادةُ على رأس المال ، والمهتدي : اسم فاعل من اهتدى ، وافتعل هنا للمطاوعة ، ولا يكونُ افْتَعَل للمطاوعة إلا من فِعْلٍ متعدٍ . وزعم بعضُهم أنه يجيء من اللازم ، واستدلَّ على ذلك بقول الشاعر :
206 حتى إذا اشْتَال سُهَيْلٌ في السِّحَرْ ... كشُعلةِ القابِس تَرْمِي بالشَّرَرْ
قال : « فاشْتال افْتَعَل لمطاوعة » شَال « وهو لازمٌ » ، وهذا وَهْمٌ من هذا القائل ، لأن افتعلَ هنا ليس للمطاوعةِ ، بل بمعنى فَعَل المجردِ .

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)

قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } : « مثلُهم » مبتدأ و « كمثل » : جارٌّ ومجرور خبره ، فيتعلَّقُ بمحذوف على قاعدةِ الباب ، ولا مبالاة بخلافِ مَنْ يقول : إن كافَ التشبيه لا تتعلَّق بشيء ، والتقديرُ مَثَلُهم مستقر كمثل وأجاز أبو البقاء وابنُ عطية أن تكونَ الكافُ اسماً هي الخبرُ ، ونظَّره بقول الشاعر :
207 أَتَنْتَهُون ولن ينهى ذوي شَطَط ... كالطَّعْن يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُل
وهذا مذهبُ الأخفش : يُجيز أَنْ تكونَ الكافُ اسماً مطلقاً . وأمّا مذهب سيبويه فلا يُجيز ذلك إلا في شعر ، وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ فليس كما قال ، لأنَّا في البيت نضطُّر إلى جَعْلِها اسماً لكونِها فاعلةً ، بخلاف الآية . والذي ينبغي أن يقال : إنَّ كافَ التشبيه لها ثلاثةُ أحوال : حالٌ يتعيَّن فيها أَنْ تكونَ اسماً ، وهي ما إذا كانت فاعلةً أو مجرورةً بحرفٍ أو إضافةٍ . مثالُ الفاعل : « أتنتهون ولن يَنْهى » البيت ، ومثالُ جَرِّها بحرفٍ قولُ امرئ القيس :
208 وَرُحْنا بكابْنِ الماء يُجْنَبُ وَسْطَنا ... تَصَوَّبُ فيه العينُ طوراً وتَرْتقي
وقولُه :
209 وَزَعْتُ بكالهَراوةِ أَعْوَجِيٍّ ... إذا جَرَت الرياحُ لها وِثابا
ومثالُ جَرِّها بالإِضافة قولُه :
210 فَصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مأكولْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحالٌ يتعيَّن أن تكونَ فيها حرفاًَ ، وهي : الواقعةُ صلةً ، نحو : جاء الذي كزيدٍٍ ، لأنَّ جَعْلَها اسماً يستلزمُ حَذْفَ عائدِ مبتدأٍ من غير طولِ الصلةِ ، وهو ممتنعٌ عند البصريين ، وحالٌ يجوز فيها الأمران وهي ما عدا ذلك نحو : زيد كعمرو . وأَبْعَدَ مَنْ زعم أنها زائدةٌ في الآية الكريمة ، أي : مَثَلُهم مثلُ الذي ، ونظَّره بقوله : « فَصُيِّروا مثل كعصف » كأنه جعل المِثْل والمَثَل بمعنى واحدٍ ، والوجهُ أَنَّ المَثَلَ هنا بمعنى القصةِ ، والتقديرُ : صفتُهم وقصتُهم كقصةِ المستوقِدِ فليست زائدةً على هذا التأويلِ ، ولكن المَثَلَ بالفتح في الأصل بمعنى مِثْل ومثيل نحو : شِبْه وشَبَه وشَبيه . وقيل : بل هي في الأصل الصفةُ ، وأمَّا المَثَل في قوله : « ضَرَب مَثَلاً » فهو القولُ السائرُ الذي فيه غَرابةٌ من بعضِ الوجوهِ ، ولذلك حُوفظ على لفظِه فلم يُغَيَّرْ ، فيقال لكلِّ مَنْ فَرَّط في أمرٍ عَسِرْ تَدارُكُه : « الصيفَ ضَيّعْتِ اللبنَ » ، سواءٌ أكان المخاطب به مفرداً أم مثَنَّى أم مجموعاً أم مذكراً أم مؤنثاً ، ليدلَّ بذلك على قَصْدٍ عليه .
و « الذي » في محلِّ خَفْضٍ بالإِضافة ، وهو موصولٌ للمفردِ المذكرِ ، ولكن المرادَ به هنا جَمْعٌ ، ولذلك رُوعي معناه في قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } فأعاد الضمير عليه جمعاً ، والأَوْلى أن يقال إن « الذي » وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه ، والتقديرُ : مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ ، ويكون قد رُوعي الوصفُ مرةً ، فعادَ الضميرُ عليه مفرداً في قوله : « استوقد » و « حَوْلَه » ، والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليهِ مجموعاً في قوله : « بنورِهم ، وتركَهم » .

ووهِم أبو البقاء فَجَعَل هذه الآيةَ من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ تخفيفاً ، وأن الأصلَ : الذين ، ثم خُفِّف بالحذفِ ، وكأنه جَعَلَه مثلَ قولِه تعالى في الآية الأخرى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] ، وقول الشاعر :
211 وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهم ... هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
والأصل : كالذينَ خاضُوا ، وإنَّ الذين حانَتْ . وهذا وَهْمٌ فاحش ، لأنه لو كان من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ لوجَبَ مطابقةُ الضميرِ جمعاً كما في قوله : « كالذي خاضوا » و « دماؤُهُمْ » ، فلمَّا قال تعالى : « استوقد » بلفظ الإِفراد تعيَّن أحدُ الأمرين المتقدِّمين : إمَّا جَعْلُه من باب وقوعِ المفردِ موقعَ الجمعِ لأن المرادَ به الجنسُ ، أو أنه من باب ما وقع فيه صفةً لموصوف يُفْهِم الجَمْعَ .
وقال الزمخشري ما معناه : إنَّ هذه الآيةَ مثلُ قولِه تعالى : { كالذي خاضوا } / ، واعتلَّ لتسويغِ ذلك بأَمْرين : أحدُهما أنَّ « الذي » لمَّا كانَ وُصْلَةً لوصفِ المعارفِ ناسَبَ حَذْفَ بعضِه لاستطالتِه ، قال : « ولذلك نَهَكُوه بالحَذْفِ ، فحذَفوا ياءَه ثم كَسْرَتَه ثم اقتصروا منه على اللامِ في أسماء الفاعِلِين والمفعولين » . والأمرُ الثاني : أنَّ جَمْعَه ليس بمنزلةِ جَمْعِ غيرِه بالواو والنون ، إنما ذلك علامةٌ لزيادةِ الدلالةِ ، ألا ترى أن سائرَ الموصولاتِ لَفْظُ الجمع والمفردِ فيهنَّ سواءٌ . وهذا القولُ فيه نَظَرٌ مِنْ وجهين ، أحُدهما : أنَّ قول ظاهرٌ في جَعْلِ هذه الآيةِ من باب حَذْف نون « الذين » ، وفيه ما تقدَّم من أنه كان ينبغي أن يطابقَ الضميرَ جَمْعاً كما في الآية الأخرى التي نَظَّر بها . والوجهُ الثاني : أنه اعتقدَ كونَ أل الموصولةِ بقيةَ « الذي » ، وليس كذلك ، بل أل الموصولةُ اسمٌ موصولٌ مستقل ، أي : غيرُ مأخوذٍ من شيءٍ ، على أن الراجحَ من جهةِ الدليلِ كونُ أل الموصولةِ حرفاً لا اسماً كما سيأتي . وليس لمرجِّحٍ أن يرجِّح قولَ الزمخشري بأنهم قالوا : إنَّ الميمَ في قولهم : « مُ الله » بقية ايمُن ، فإذا انتهكوا ايمن بالحذف حتى صار على حرفٍ واحد فأولى أن يقال بذلك فما بقي على حرفين ، لأن أل زائدةٌ على ماهِيَّةِ « الذي » فيكونون قد حَذَفوا جميعَ الاسم ، وتركوا ذلك الزائدَ عليه بخلاف ميم ايمُن ، وأيضاً فإنَّ القولَ بأنّ الميمَ بقيةُ أيمُن قولٌ ضعيف مردودٌ يأباه قولُ الجمهور .
وفي « الذي » لغاتٌ : أشهرُها ثبوتُ الياء ساكنةً . وقد تُشَدَّد مكسورةً مطلقاً ، أو جاريةً بوجوهِ الإِعرابِ ، كقوله :
212 وليسَ المالُ فاعلَمْهُ بمالٍ ... وإنْ أرضاكَ إلا ِللَّذيِّ
يَنالُ به العَلاءَ ويَصْطَفيه ... لأقربِ أَقْرِبيه وللقَصِيِّ
فهذا يَحْتمل أنْ يكونَ مبنيًّا وأن يكونَ مُعْرباً ، وقد تُحْذف ساكناً ما قبلها ، كقولِ الآخر :

213 فلم أَرَ بيْتاً كان أكثرَ بهجةً ... مِنَ اللذْ به من آلِ عَزَّةَ عامرُ
أو مكسوراً ، كقوله :
214 واللذِ لو شاء لكانَتْ بَرّاً ... أو جبلاً أَصَمَّ مُشَمْخِراً
ومثلُ هذه اللغات في « التي » أيضاً ، قال بعضُهم : « وقولُهم هذه لغاتٌ ليس جيداً لأنَّ هذه لم تَرِدْ إلا ضرورةً ، فلا ينبغي أن تسمى لغات » .
واستوقَدَ استفْعَلَ بمعنى أفْعَلَ ، نحو : استجاب بمعنى أَجاب ، وهو رأي الأخفش ، وعليه قولُ الشاعر :
215 وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى ... فلم يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ
أي : فلم يُجِبْه ، وقيل : بل السينُ للطلب ، ورُجِّحَ قولُ الأخفش بأنَّ كونَه للطلب يستدعي حَذفَ جملةٍ ، ألا ترى أنَّ المعنى استدعَوْا ناراً فَأَوْقدوها ، فلمَّا أضاءَتْ لأنّ الإِضاءةَ لا تَتَسَبَّبُ عن الطلبِ ، إنما تُسَبَّبُ عن الإِيقاد .
والفاء في « فلمَّا » للسبب . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : « كمثل الذين » بلفظِ الجمع ، « استوقد » بالإِفراد ، وهي مُشْكِلةٌ ، وقد خَرَّجوها على أوجهٍ أضعفَ منها وهي التوهُّمُ ، أي : كانه نطق بمَنْ ، إذا أعاد ضميرَ المفرد على الجمع كقولهم : « ضربني وضربتُ قومَك » أي ضربني مَنْ ، أو يعودُ على اسمِ فاعلٍ مفهومٍ من اسْتَوْقََد ، والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ ، وإن لم يَكْمُلْ شرطُ الحذفِ ، والتقدير : استوقدها مستوقدٌ لهم ، وهذه القراءة تُقوِّي قولَ مَنْ يقولُ : إن أصلَ الذي : الذين ، فَحُذِفَتِ النونُ .
و « لَمَّا » حرفُ وجوب لوجوب هذا مذهبُ سيبويه . وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء أنها ظرفٌ بمعنى حين ، وأنَّ العاملَ فيها جوابُها ، وقد رُدَّ عليه بأنها أُجيبت ب « ما » النافية وإذا الفجائية ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] . وقال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ، وما النافيةُ وإذا الفجائية لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما فانتفى أَنْ تكونَ ظرفاً .
وتكون « لَمَّا » أيضاً جازمةً لفعلٍ واحد ، ومعناها نفيُ الماضي المتصلِ بزمنِ الحال ، ويجوزُ حَذْفُ مجزومها ، قال الشاعر :
216 فجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولَمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
وتكونُ بمعنى إلا ، قال تعالى : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] في قراءة مَنْ قرأه .
و « أضاء » يكونُ لازماً ومتعدياً ، فإن كان متعدياً ف « ما » مفعولٌ به ، وهي موصولة ، و « حولَه » ظرفُ مكانٍ ومخفوضٌ به ، صلةٌ لها ، ولا يَتَصَرَّفُ ، وبمعناه : حَوال ، قال الشاعر :
217 وأنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُثَنَّيان ، قال عليه السلام : « اللهم حوالَيْنا » ، ويُجْمَعان على أَحْوال .
ويجوز أن تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً ، و « حولَه » صفتُها ، وإن كان لازماً فالفاعلُ ضميرُ النار أيضاً ، و « ما » زائدةٌ ، و « حوله » منصوبٌ على الظرفِ العاملُ فيهِ « أضاء » . وأجاز الزمخشري أن تكون « ما » فاعلةً موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، وأُنِّثَ/ الفِعلُ على المعنى ، والتقدير : فلمَّا أضاءَتِ الجهةُ التي حولَه أو جهةٌ حولَه .

وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكونَ منصوبةً على الظرف ، وهي حينئذٍ إمَّا بمعنى الذي أو نكرة موصوفة ، التقدير : فلمَّا أضاءت النارُ المكانَ الذي حوله أو مكاناً حوله ، فإنه قال : « يُقال : ضاءَتِ النارُ وأَضاءَتْ بمعنىً ، فعلى هذا تكون » ما « ظرفاً وفي » ما « ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أن تكونَ بمعنى الذي . والثاني : هي نكرة موصوفةٌ أي : مكاناً حوله ، والثالث : هي زائدةٌ » انتهى .
وفي عبارتِه بعضُ مناقشةٍ ، فإنه بَعْدَ حُكْمِه على « ما » بأنَّها ظرفيةٌ كيف يجوزُ فيها والحالةُ هذه أن تكونَ زائدةً ، وإنما أراد : في « ما » هذه من حيث الجملةُ ثلاثةُ أوجهٍ : وقولُ الشاعر :
218 أضاءَت لهم أحسابُهم ووجُوهُهم ... دجى الليلِ حتى نَظَّم الجَزْعَ ثاقِبُهْ
يَحْتمل التعدِّيَ واللزوم كالآية الكريمة . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : ضاءَتْ ثلاثياً .
قولُه تعالى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } هذه الجملةُ الظاهرُ أنَّها جوابُ « لَمَّا » . وقال الزمخشري : « جوابُها محذوفٌ ، تقديرُه : فلمَّا أضاءَتْ خَمَدَت » ، وجَعَل هذا أبلَغَ من ذِكْرِ الجواب ، وجعلَ جملةَ قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل . وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بوجْهَيْن أحدهما : أنَّ هذا تقديرٌ مع وجودِ ما يُغْني عنه فلا حاجةَ إليه ، إذ التقديراتُ إنما تكونُ عند الضروراتِ . والثاني : أنه لا تُبْدَلُ الجملةُ الفعليةُ من الجملةِ الاسميةِ .
و « بنورهم » متعلِّقٌ ب « ذَهَبَ » ، والباءُ فيها للتعدية ، وهي مرادِفَةٌ للهمزة في التعديةِ ، هذا مذهبُ الجمهورِ ، وزَعَمَ أبو العباس أنَّ بينهما فَرْقاً ، وهو أن الباءَ يلزَمُ معها مصاحبةُ الفاعل للمفعولِ في ذلك الفعلِ الذي فَعَلَه به والهمزةُ لا يَلْزَمُ فيها ذلك . فإذا قلتَ : « ذهبْتُ بِزيد » فلا بد أن تكونَ قد صاحَبْتَه في الذهاب فذهبْتَ معه ، وإذا قلت : « أَذْهَبْتَه » جاز أن يكونَ قد صَحِبْتَه وألاَّ يكونَ . وقد رَدَّ الجمهورُ على المبرِّد بهذه الآية لأنَّ مصاحَبَتَه تعالى لهم في الذهابِ مستحيلةٌ . ولكن قد أجاب أبو الحسنِ ابنُ عصفور عن هذا بأنه يجوزُ أن يكونَ تعالى قد أَسْنَدَ إلى نفسِه ذهاباً يليقُ به كما أَسْند إلى نفسِه المجي والإِتيان على معنى يليقُ به ، وإنما يُرَدُّ عليه بقولِ الشاعر :
219 ديارُ التي كانت ونحن على مِنى ... تَحِلُّ بنا لولا نَجاءُ الرَّكائِب
أي : تَجْعلنا حلالاً بعد أن كنا مُحْرِمين بالحَجّ ، ولم تكن هي مُحْرِمةً حتى تصاحبَهم في الحِلّ ، وكذا قولُ امرئ القيس :
220 كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِه ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ
الصَّفْوُ : الصخرة ، وهي لم تصاحِبْ الذي تَزِلُّه .
والضميرُ في « بنورِهم » عائدٌ على معنى « الذي » كما تقدَّم ، وقال بعضُهم : هو عائدٌ على مضافٍ محذوفٍ تقديرُه : كمثلِ أصحابِ الذي استوقدَ ، واحتاج هذا القائلُ إلى هذا التقديرِ قال : « حتى يتطابقَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به ، لأنَّ المشبَّهَ جمعٌ ، فلو لم يُقَدَّرْ هذا المضافُ وهو » أصحاب « لَزِم أن يُشَبِّه الجمعَ بالمفردِ وهو الذي استوقد » انتهى .

ولا أدري ما الذي حَمَلَ هذا القائلَ على مَنْعِ تشبيه الجمعِ بالمفردِ في صفةٍ جامعةٍ بينهما ، وأيضاً فإنَّ المشبَّهَ المشبَّهَ به إنما هو القصتان ، فلم يقع التشبيهُ إلا بين قصتين إحداهما مضافةٌ إلى جمع والأخرى إلى مفردٍ .
قولُه تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } هذه جملةٌ معطوفةٌ على قوله « ذَهَبَ الله » . وأصل الترك : التخليةُ ، ويُراد به التصييرُ ، فيتعدَّى لاثنين على الصحيح ، كقولِ الشاعر :
221 أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ
فإن قُلْنا : هو متعدٍّ لاثنين كان المفعولُ الأول هو الضميرَ ، والمفعولُ الثاني « في ظلمات » و « لا يُبْصرون » حالٌ ، وهي حالٌ مؤكدة لأنَّ مَنْ كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ ، وصاحبُ الحالِ : إمّا الضميرُ المنصوبُ أو المرفوعُ المستكنُّ في الجارِّ والمجرورِ . ولا يجوزُ أن يكونَ « في ظلمات » حالاً ، و « لا يُبْصِرون » هو المفعولَ الثاني لأن المفعولَ الثاني خبرٌ في الأصل ، والخبرُ لا يؤتَى به للتأكيد ، وأنت إذا جعلت « في ظلمات » حالاً فُهِمَ منه عَدَمُ الإِبصارِ ، فلم يُفِدْ قولُك بعد ذلك لا « يُبْصرون » إلا التأكيدَ ، لكنَّ التأكيدَ ليس من شأن الإِخبار ، بل من شأنِ الأحوال لأنها فَضَلاتٌ . ويؤيِّد ما ذكرتُ أن النَّحْويين لَمَّا أَعربُوا قولَ امرئ القيس :
222 إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصَرفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٍّ عندنا لم يُحَوَّلِ
أعربوا « شِق » مبتدأً و « عندنا » خبرَه ، و « لم يُحَوَّل » جملةً حاليةً مؤكِّدةً ، قالوا : وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنه موضعُ تفصيل ، وأبَوْا أن يَجْعلوا « لم يُحَوَّل » خبراً ، و « عندنا » صفةً لشِق مُسَوِّغاً للابتداء به ، قالوا : لأنه فُهم معناه من قوله : « عندنا » لأنه إذا كان عندَه عُلِم منه أنه لم يُحَوَّل ، وقد أعربَه أبو البقاء كذلك ، وهو مردودٌ بما ذكرْتُ لك .
ويجوز إذا جَعَلْنا « لا يُبْصِرون » هو المفعولَ الثانيَ أن يتعلَّقَ « في ظلمات » به أو ب « تَرَكهم » ، التقدير : « وتَرَكهم لا يُبْصرون في ظلماتٍ » . وإن كان « تَرَكَ » متعدياً لواحد كان « في ظلمات » متعلَّقاً بتَرَكَ ، و « لا يُبْصرون » حالٌ مؤكِّدة ويجوز أن يكونَ « في ظلمات » حالاً من الضمير المنصوب في « تَرَكهم » ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و « لا يُبْصرون » حالٌ أيضاً : إمَّا من الضميرِ المنصوب في « تَرَكَهم » فيكونُ له حالان/ ويجري فيه الخلافُ المتقدمُ ، وإمَّا مِنَ الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في الجارِّ والمجرور قبلَه فتكونُ حالَيْنِ متداخلتين .

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

الجمهورُ على رَفْعِها على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، ويَجيء فيه الخلافُ المشهورُ في تعدُّدِ الخبرِ ، فَمَنْ أجازَ ذلك حَمَلَ الآيةَ عليه من غير تأويلٍ ، ومَنْ مَنَعَ ذلك قال : هذه الأخبارُ وإن تعدَّدَتْ لفظاً فهي متَّحِدَةٌ معنًى ، لأنَّ المعنى : هم غيرُ قائلين للحقِّ بسبب عَماهم وصَمَمِهم ، فيكون من باب : « هذا حُلوٌ حامِضٌ » أي مُزٌّ ، و « هو أَعْسَرُ يَسَرٌ » أي أَضْبَطُ ، وقول الشاعر :
223 ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْهِ ويتَّقي ... بأخرى المَنايا فهو يَقْظانُ هاجِعُ
أي : متحرِّزٌ ، أو يقدَّر لكلِّ خبرٍ مبتدأً تقديرُه : هم صُمٌّ ، هم بُكْم ، هم عُمْي ، والمعنى على أنهم جامعون لهذه الأوصافِ الثلاثة ، ولولا ذلك لجاز أن تكونَ هذه الآيةُ من باب ما تعدَّدَ فيه الخبرُ لِتعدُّدِ المبتدأ ، نحو قولِك : الزيدونَ فقهاءُ شعراءُ كاتبون ، فإنه يَحْتمل أن يكونَ المعنى أن بعضَهم فقهاءُ ، وبعضَهم شعراء وبعضَهم كاتبون ، وأنَّهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل بعضُهم اختصَّ بالفقه ، والبعضُ الآخر بالشعرِ ، والآخرُ بالكتابة .
وقُرئ بنصبها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه حالٌ ، وفيه قولان ، أحدُهما : هو حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في « تَرَكَهم » ، والثاني من المرفوع في « لا يُبْصرون » . والثاني : النَصبُ على الذَمِّ ، كقولِه : { حَمَّالَةَ الحطب } [ المسد : 4 ] . وقول الآخر :
224 سَقَوْني النَّسْءَ ثم تَكَنَّفوني ... عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ
أي : أَذُمُّ عُداةَ اللهِ . الثالث : أن يكونَ منصوباً بتَرَكَ أي : تَرَكهم صُمَّاً بُكْماً عُمْياً .
والصَّمَمُ داءٌ يمنعُ من السَّماع ، وأصلُه من الصَّلابة ، يقال : « قناةٌ صَمَّاء » أي صُلبة ، وقيل : أصلُه من الانسدادِ ، ومنه : صَمَمْتُ القارورةَ أي : سَدَدْتُها . والبَكَم داءٌ يمنع الكلامَ ، وقيل : هو عدمُ الفَهْمِ ، وقيل : الأبكم مَنْ وُلِد أخرسَ .
وقولُه : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } جملةٌ خبريةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الخبريةِ قبلها ، وقيل : بل الأُولى دعاءٌ عليهم بالصَّمَم ، ولا حاجةَ إلى ذلك . وقال أبو البقاء : « وقيل : فهم لا يَرْجِعُون حالٌ ، وهو خطأٌ ، لأن الفاء تُرَتِّبُ ، والأحوالُ لا ترتيبَ فيها » . و « رَجَعَ » يكونُ قاصراً ومتعدياً باعتبَارَيْنِ ، وهُذَيْل تقول : أَرْجَعَهُ غيرُهُ فإذا كان بمعنى « عاد » كان لازماً ، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعدياً ، والآية الكريمةُ تحتمل التقديرينِ ، فإنْ جَعَلْنَاه متعدياً فالمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : لاَ يَرْجِعُون جواباً ، مثلُ قوله : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] . وَزَعَمَ بعضُهم أنه يُضَمَّن معنى صار ، فيرفعُ الاسم وينصِبُ الخبر ، وجَعَل منه قولَه عليه السلام : « لا تَرْجِعوا بعدي كُفَّاراً يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض » ، ومَنْ مَنَعَ جريانِهِ مَجْرى « صار » جَعَلَ المنصوبَ حالاً .

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

قولُه تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } : في « أو » خمسة أقوال ، أظهرهُا : أنها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه . الثاني : أنها للإِبهام ، أي : إن الله أَبْهَم على عباده تشبيهَهم بهؤلاء أو بهؤلاء ، الثالث : أنها للشَّكِّ ، بمعنى أن الناظر يَشُكُّ في تشبيههم . الرابع : أنها للإِباحة . الخامس : أنها للتخيير ، أي : أًُبيح للناس أن يشبِّهوهم بكذا أو بكذا ، وخُيِّروا في ذلك . وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين ، أحدُهما : كونُها بمعنى الواو وأنشدوا :
225 جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والثاني : كونُها بمعنى بل ، وأنشدوا :
226 بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصورتِها أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنت .
و « كصيبٍ » معطوفٌ على « كَمَثَل » ، فهو في محلِّ رفع ، ولا بُدَّ من حذف مضافَيْنِ ، ليصِحَّ المعنى ، التقدير : أو كمثل ذَوي صَيِّب ، ولذلك رَجَعَ عليه ضميرُ الجمع في قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم } لأنَّ المعنى على تشبيهِهم بأصحاب الصيِّب لا بالصيِّب نفسِه . والصيِّبُ : المطر : سُمِّي بذلك لنزولِهِ ، يقال : صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ ، قال :
227 فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ
وقال آخر :
228 فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ ... سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ
واختُلف في وزن صَيِّب : فمذهبُ البصريين أنه « فَيْعِل » ، والأصلُ : صَيْوبٍ فَأُدْغِمَ كميِّت وهيِّن والأصلُ : مَيْوِت وهَيْوِن . وقال بعض الكوفيين : وزنه فَعِيل ، والأصل « صَويب بزنة طَويل ، قال النحاس : » وهذا خطأٌ لأنه كانَ ينبغي أن يَصِحَّ ولا يُعَلَّ كطويل « وكذا قال أبو البقاء . وقيل وزنه : فَعْيِل فقُلِب وأُدْغِم .
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملةَ من قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } استئنافيةٌ ومن قوله { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أنها من وصف المنافقين كانتا/ جملتي اعتراضٍ بين المتعاطفَين ، أعني قوله : كمثل وكصيّب ، وهي مسألةُ خلاف منعها الفارسي وقد رُدَّ عليه بقول الشاعر :
229 لَعَمْرُكَ والخُطوبُ مُغَيِّراتٌ ... وفي طولِ المُعَاشَرَةِ التَّقالي
لقد بالَيْتُ مَظْعَنَ أمِّ أَوْفَى ... ولكنْ أمُّ أَوفَى لا تُبالي
فَفَصَلَ بين القسمِ وهو قولُهُ : » لَعَمْرُك « وبين جوابِهِ وهو قولُهُ : » لقد بالَيْت « بجملتين ، إحداهما : » والخطوبُ مغيِّرات « والثانيةُ : » وفي طولِ المعاشرةِ التقالي « [ قولُه : ] » مِن السماءِ « يَحْتمل وجهينِ ، أحدُهما أَن يكونَ متعلقاً ب » صَيِّب « لأنه يعملُ عملَ الفعلِ ، التقديرُ : كمطرٍ يصوبُ من السماء ، و » مِنْ « لابتداء الغاية . والثاني : أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لصيِّب ، فيتعلَّقَ بمحذوف ، وتكونُ » مِنْ « للتبعيض ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذفِ مضافٍ ، تقديرهُ : كصيِّب كائنٍ من أمطارِ السماءِ .

والسماءُ : كلُّ ما عَلاَك من سقف ونحوه ، مشتقةٌ من السُّمُوِّ ، وهو الارتفاعُ والأصل : سَماوٌ ، وإنما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لوقوعِها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ، وهو بدلٌ مطَّرد ، نحو : كِساء ورِدَاء ، بخلافِ نحو : سِقاية وشَقاوة ، لعدم تطرُّفِ حرفِ العلة ، ولذلك لَمَّا دَخلت عليها تاءُ التأنيث صَحَّتْ نحو : سَماوة ، قال الشاعر :
230 طيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفَا ... سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفَا
والسماءُ مؤنث ، وقد تُذَكَّر ، وأنشدوا :
231 فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ
فأعاد الضميرَ مِنْ قوله : « إليه » على السماءِ مذكَّراً ، ويُجْمع على سَماوات وأَسْمِيَة وسُمِيَّ ، والأصل : فُعول ، إلا أنه أُعِلَّ إعلالَ عُصِيّ بقلب الواوين يائين وهو قلبٌ مطَّرد في الجمع ، ويَقِلُّ في المفرد نحو : عتا عُتِيَّا ، كما شَذَّ التصحيحُ في الجمع ، قالوا : « إنكم تنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ » ، وجُمِعَ أيضاً على سَمَاء ، ولكن مفردَه سَماوة ، فيكونُ من باب تَمْرة وتمر ، ويدلُّ على ذلك قولُه :
232 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . فوق سَبْعِ سَمَائِيا
ووجهُ الدلالة أنه مُيِّزَ به « سبع » ، ولا تُمَيَّز هي وأخواتُها إلا بجمعٍ مجرور .
قولهُ تعالَى : « فيه ظلماتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ » يَحْتمل أربعةَ أوجه ، أحدها : أَنْ يكونَ صفةً ل « صَيِّب » . الثاني : أن يكونَ حالاً منه ، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِهِ : إِمَّا بالعملِ في الجار بعدَه ، أو بصفةٍ بالجارِ بعده . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في « مِن السماء » إذا قيل إنه صفةٌ لصيِّب ، فيتعلَّقُ في التقادير الثلاثة بمحذوفٍ ، إلاَّ أنه على القولِ الأولِ في محلِّ جرٍّ لكونه صفةً لمجرورٍ ، وعلى القولين الأخيرين في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ . و « ظلماتٌ » على جميع هذه الأقوال فاعلٌ به لأنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ متى اعتمدا على موصوفٍ أو ذي حال أو ذي خبرٍ أو على نفي أو استفهام عمِلاَ عَمَلَ الفِعْلِ ، والأخفش يُعْمِلهما مطلقاً كالوصف ، وسيأتي تحريرُ ذلك . الرابعُ : أن يكونَ خبراً مقدَّماً و « ظلماتٌ » مبتدأ ، والجملةُ تحتمل وجهين : الجرَّ على أنها صِفَةٌ لصيِّب . والثاني : النصبُ على الحال ، وصاحِبُ الحال يُحْتمل أن يكونَ « كصيِّب » وإن كان نكرةً لتخصيصهِ بما تقدَّمه ، وأن يكونَ الضميرَ المستكنَّ في « مِنْ السماء » إذا جُعِلَ وصفاً لصيِّب ، والضمير في « فيه » ضميرُ الصَيِّب « .
واعلم أنَّ جَعْلَ الجارَّ صفةً أو حالاً ، ورفعَ » ظلماتٌ « على الفاعلية به أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِ » فيه ظلماتٌ « جملةً برأسِها في محلِّ صفةٍ أو حالٍ ، لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفردِ من الجملة ، وأصلُ الصفةِ والحال أن يكونا مفرَدَيْنِ .
» وَرَعْدٌ وبَرْقٌ « معطوفانِ على ظُلُماتٌ » بالاعتبارين المتقدمين ، وهما في الأصل مصدران تقول : رَعَدت السماء تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ بَرْقاً ، قال أبو البقاء : « وهما على ذلك [ مُوَحَّدَتان ] هنا » ، يعني على المصدريَّة ، ويجوز أن يكونا بمعنى الراعِد والبارِق نحو : رجل عَدْلٌ ، والظاهرُ أنهما في الآية ليس المرادُ بهما المصدرَ بل جُعِلاَ اسماً للهزِّ واللمعَانِ ، وهو مقصودٌ الآيةِ ، ولا حاجةَ حينئذٍ إلى جَعْلِهِمَا بمعنى اسمِ فاعل .

قولُه تعالى : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم } هذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها ، كأنه قيل : ما حالُهم؟ فقيل : يَجْعَلون . وقيل : بل لها محلٌّ ، ثم اختُلِفَ فيه ، فقيل : جَرٌّ لأنها صفةٌ للمجرور ، أي : أصحابُ صيِّب جاعلين ، والضميرُ محذوفٌ ، أو نابَتْ الألفُ واللام منابَه ، تقديرُهُ : يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعِقِه . وقيل : محلُّها نصبٌ على الحال من الضمير « فيه » . والكلامُ في العائدِ كما تَقَدَّم ، والجَعْلُ هنا بمعنى الإِلقاء ، ويكونُ بمعنى الخَلْق فيتعدَّى لواحِدٍ ، ويكون بمعنى صيَّر أو سَمَّى فيتعدَّى لاثنين ، ويكون للشروع فيعملُ عَمَلَ عسى .
وأصابِعُهم جمعُ إصْبَع ، وفيها عشرُ لغاتٍ ، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء ، والعاشرة : أُصْبوع بضمِّ الهمزة . والواوُ في « يَجْعلون » تعود للمضاف المحذوف كما تقدم إيضاحُهُ . واعلمْ أنَّه إذا حُذِفَ المضافُ جاز فيه اعتباران ، أحدهما : أن يُلْتفت إليه ، والثاني ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه ، وقد جُمِع الأمران في قوله تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، التقدير : وكم من أهل قرية فلم يُرَاعِه في قوله : { أَهْلَكْنَاهَا [ فَجَآءَهَا } ] وراعاه في قوله : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } / . و { في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } كلاهما متعلقٌ بالجَعْل ، و « مِنْ » معناها التعليل . والصواعِقُ : جمع صاعقة ، وهي الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها القطعة من النار ، ويقال : ساعِقة بالسين ، وصاقِعة بتقديمِ القاف وأنشد :
233 ألم تَرَ أنَّ المجرمين أصابَهُمْ ... صواقِعُ ، لا بل هُنَّ فوق الصواقِعِ
ومثلُه قول الآخر :
234- يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ ... تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ
وهي قراءةُ الحسن ، قالَ النحاسَ : « وهي لغةُ تميم وبعض بني ربيعة » فيُحتمل أن تكونَ صاقِعَة مقلوبةً من صاعِقَة ، ويُحْتَمَل ألاَّ تكونَ ، وهو الأظهرُ لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدَّم ، ويقال : صَعْقَة أيضاً ، وقد قَرَأَ بها الكسائي في الذاريات ، يقال : صُعِقَ زيدٌ وأَصْعَقَهُ غيرُه : قال :
235 تَرى النُّعَراتِ الزُرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ... أُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْهَا صواهِلُهْ
قولُه تعالى : « حَذَرَ الموت » فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه مفعولٌ من أجله ناصبُه « يَجْعلون » ولا يَضُرُّ تعدُّدُ المفعولِ مِنْ أجْله ، لأنَّ الفعلَ يُعَلِّل بعِلَلٍ .
الثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ : يَحْذَرُونَ حَذَراً مثلَ حَذَرِ الموت ، والحَذَرُ والحِذار مصدران لحَذرِ أي : خافَ خوفاً شديداً .
واعلم أنَّ المفعولَ مِنْ أجله بالنسبةِ إلى نَصْبِهِ وجرِّه بالحرف على ثلاثةِ أقسام : قسم يكثُر نصبُه وهو ما كان غَيْرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافٍ نحو : جِئْت إكراماً لك ، وقسم عكسُه ، وهو ما كان معرَّفاً بأل . ومِنْ مجيئه منصوباً قولُ الشاعر :
236 لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجَاءِ ... ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ

وقسم يستوي فيه الأمران وهو المضافُ كالآيةِ الكريمة ، ويكونُ معرفةً ونكرةً ، وقد جَمَعَ حاتِم الطائيُّ الأمرينِ في قوله :
237 وَأَغْفِرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخَارَهُ ... وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا
و « حَذَرَ الموت » مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول ، وفاعلُه محذوفٌ ، وهو أحدُ المواضِعِ التي يجوزُ فيها حذفُ الفاعلِ وحدَه ، [ والثاني : فِعْلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، والثالث : فاعل أَفْعَل في التعجب على الصحيح ، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذفُ الفاعلِ وحدَه ] خلافاً للكوفيين . والموتُ ضدُّ الحياة يقال : مات يموت ويَمات ، قال الشاعر :
238 بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ ... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي
وعلى هذه اللغة قُرِئَ : مِتْنَا ومِتُّ بكسر الميم كخِفْنَا وخِفْت ، فوزنُ ماتَ على اللغةِ الأولى : فَعَل بفتح العينِ ، وعلى الثانية : فَعِل بكسرِها ، والمُوات بالضمِّ الموتُ أيضاً ، وبالفتح : ما لا رُوحَ فيهِ ، والمَوَتان بالتحريك ضد الحَيَوان ، ومنه قولُهم « اشْتَرِ المَوَتانِ ولا تَشْتَرِ الحَيَوان » ، أي : اشتر الأَرَضِين ولا تَشْترِ الرقيق فإنه في مَعْرِضِ الهلاك . والمُوتان بضمِّ الميم : وقوعُ الموتِ في الماشية ، ومُوِّت فلانٌ بالتشديد للمبالغة ، قال :
239 فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً ... فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ
والمُسْتميتُ : الأمرُ المُسْتَرْسِلُ ، قال رؤبة :
240 وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ ... والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ
قولُه تعالى : « والله محيطٌ بالكافرين » جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وأصلُ مُحِيط : مُحْوِط ، لأنه من حاطَ يَحُوطُ فأُعِلَّ كإعلال نَسْتعين . والإِحاطةُ : حَصْرُ الشيء مِنْ جميعِ جهاتِهِ ، وهو هنا عبارةٌ عن كونِهِم تحت قَهْرِهِ ، ولا يَفُوتونه . وقيل : ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي عقابُهُ محيطٌ بهم . وهذه الجملةُ قال الزمخشري : « هي اعتراضٌ لا محلَّ لها من الإِعراب » . كأنه يَعْني بذلك أنَّ جملَةَ قولِه : يَجْعلون أصابِعَهم ، وجملةَ قوله : « يكاد البرق » شيءٌ واحدٌ ، لأنَّهما من قصةٍ واحدةٍ فوقَعَ ما بينهما اعتراضاً .

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

قوله تعالى : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } : « يكادُ » مضارع كَادَ ، وهي لمقاربةِ الفعل ، تعملُ عمل « كانَ » ، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً ، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً ، قال :
241 فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً ... وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ
والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من « أنْ » عَكَسَ « عسى » ، وقد شَذَّ اقترانُهُ بها ، وقال رؤبة :
242 قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا ... لأنها لمقاربةِ الفعلِ ، و « أَنْ » تُخَلِّصُ للاستقبال ، فَتَنَافَا . واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة ، فإذا قلت : « كاد زيدٌ يفعلُ » كان معناه قارَبَ الفعلَ ، إلا أنه لم يَفْعَل ، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى ، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل : لم يَرَها ، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال :
243 أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ ... جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ ... وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه :
244 إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ ... رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عِيْبَ عليه لأنه قال : لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ ، فغيَّره إلى قوله : « لم يَزَلْ » أو ما هو بمعناه ، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] قالوا : فهي هنا منفيَّةٌ وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى ، لأن الذبْحَ وقع لقوله : « فَذَبَحُوها » . والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين ، أحدُهما : أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ ، أي : ذَبَحوها في وقتٍ ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ ، والثاني : أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ .
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ ، وقالوا : هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه .
واعلم أَنَّ خَبَرَ « كاد » وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها ، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى ، فإنها للترجِّي ، تقول : « عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه » ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأمَّا قولُه :
245 وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي ... فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ
فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ ، وينبغي أن يُقال : إنما جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتى كاد يكلِّمني ، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه ، وقولُ الأخر :

246 وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ... ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر
فأتى بفاعل [ خبر ] جَعل ظاهراً ، فقد أُجيب عنه بوجهين : أحدُهما : أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديره : وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُثْقلني . والثاني : أنه من باب إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ ثوبِه إياه ، والمعنى : وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي .
ووزن كاد كَودِ بكسر العين ، وهي من ذواتِ الواو ، كخاف يَخاف ، وفيها لغةٌ أخرى : فتحُ عينها ، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها ، فتقولُ : كُدْت وكُدْنا مثل : قُلْت وقُلْنا ، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر ، كقوله :
247 وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي ... وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ ، وسيأتي هذا كلُه في « كاد » الناقصة ، أمَّا « كاد » التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء ، بدليل قوله : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 - 16 ] .
و « البرق » اسمها ، و « يخَطف » خبرُها ، ويقال : خَطِف يَخْطَفُ بكسر عين الماضي وفتح المضارع ، وخَطَف يخطِف ، عكسُ اللغة الأولى ، وفيه قراءاتٌ كثيرة ، المشهورُ منها الأولى . الثانية : يَخْطِف بكسر الطاء . الثالثة يَخَطَّفُ بفتح الياء والخاء والطاء مع تشديدِ الطاء ، والأصل : يَخْتَطِفُ ، فَأُبْدلت تاءُ الافتعال طاءً للإِدغام ، الرابعة : كذلك إلا أنَّه بكسر الخاء إتباعاً لكسرة الطاء . السادسة : كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء ، السابعة : يَخْتَطِف على الأصل . الثامنة : يَخْطِّف بفتح الياء وسكونِ الخاء وتشديد الطاء ، وهي رديئةٌ لتأديتها غلى التقاء ساكنين . التاسعة : بضم الياء وفتح الخاء وتشديدِ الطاء مكسورةً ، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية . العاشرة : يَتَخَطَّف .
والخَطْفُ : أَخْذُ شيءٍ بسرعة ، وهذه الجملةُ - أعني قولَه : يكاد البرق يَخْطَف - لا محلَّ لَها ، لأنها استئنافٌ ، كأنه قيل : كيف يكونُ حالُهم مع ذلك البرقِ؟ فقيل : يكاد يَخْطَف ، ويحتمل أن يكون في محلِّ جر صفةً لذوي المحذوفة ، التقدير : أو كذوي صيبٍ كائدٍ البرقُ يَخْطَف .
قوله تعالى : / { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } : « كل » نَصْبٌ على الظرفية ، لأنها أُضيفت إلى « ما » الظرفية ، والعاملُ فيها جوابُها ، وهو « مَشَوا » . وقيل : « ما » نكرةٌ موصوفةٌ ، ومعناها الوقتُ أيضاً ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديرُه : كلَّ وقتٍ أضاءَ لهم فيه ، فأضاءَ على الأول لا محلَّ له لكونِه صلةً ، ومحلُّه الجرُّ على الثاني . و « أضاء » يجوز أن يكون لازماً . وقال المبرد : « هو متعدٍّ ومفعولُه محذوفٌ » ، أي : أضاء لهم البرقُ الطريقَ ، فالهاء في « فيه » تعودُ على البرق في قولِ الجمهور ، وعلى الطريقِ المحذوفِ في قول المبرد .

و « فيه » متعلِّق بمَشَوا ، و « في » على بابها أي : إنه محيطٌ بهم : وقيل : هي بمعنى الباء ، ولا بدَّ من حذف على القَوْلين ، أي : مَشَوا في ضوئِه أي بضوئِه ، ولا محلَّ لجملةِ قولهِ « مَشَوا » لأنها مستأنفةٌ .
واعلم أنَّ « كُلاًّ » من ألفاظِ العموم ، وهو اسمُ جمعٍ لازمٌ للإِضافة ، وقد يُحْذَفُ ما يضاف إليه ، وهل تنوينُه حينئذٍ تنوينُ عوضٍ أو تنوينُ صَرْفٍ؟ قولان . والمضافُ إليه « كل » إن كانَ معرفةً وحُذِفَ بقيتْ على تعريفها ، فلهذا انتصَبَ عنها الحالُ ، ولا يَدْخُلها الألفُ واللامُ ، وإن وقع ذلك في عبارةِ بعضِهم ، وربما انتَصَبَتْ حالاً ، وأصلُها أن تُسْتَعْمَل توكيداً كأجمعَ ، والأحسنُ استعمالُها مبتدأً ، وليس كونُها مفعولاً بها مقصوراً على السماعِ ، ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعم ذلك . وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ أو معرفةٍ بلامِ الجنسِ حَسُنَ أن تَلِي العواملَ اللفظيةَ ، وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ تعيُّنَ اعتبارُ تلك النكرة فيما لها من ضميرٍ وغيره ، تقول : كلُّ رجال أتَوْكَ فأكرِمْهم ، ولا يجوزُ أن يراعى لفظ « كل » فتقول : كلُّ رجال أتاكَ فأكرمه ، و [ تقول : ] كلُّ رجلٍ أتاك فأكرمه ، ولا تقول : أَتَوْك فأكرِمْهم ، اعتباراً بالمعنى ، فأما قوله :
248 جادَتْ عليه كلُّ عَيْن ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حدَيقةٍ كالدرهم
فراعى المعنى فهو شاذٌّ لا يُقاس عليه ، وإذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ فوجهانِ ، سواءً كانت الإِضافة لفظاً نحو : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] فراعى لفظَ كل ، أو معنىً نحو : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] فراعى لفظَها ، وقال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ، فراعى المعنى ، وقولُ بعضهم : إن « كُلَّما » تفيدُ التكرارَ ، ليس ذلك من وَضْعها ، فإنك إذا قُلْتَ : « كلما جِئْتَني أَكْرَمْتُك » كان المعنى : أُكْرِمُكَ في كلِّ فردٍ فردٍ من جَيئاتِكَ إليَّ .
وقُرئ « ضاء » ثلاثياً ، وهي تَدُلُّ على أنَّ الرباعيَّ لازمٌ . وقرئ : « وإذا أُظْلِم » مبنياً للمفعول ، وجَعَلَه الزمخشريُّ دالاَّ على أنَّ أَظْلَمَ متعدٍ ، واستأنَسَ أيضاً بقول حبيب :
249 هما أَظْلما حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلامَيْهِما عن وجهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ
ولا دليلَ في الآيةِ لاحتمالِ أن أصلَه : وإذا أَظْلم الليلُ عليهم ، فلمَّا بُنِي للمفعولِ حُذِف « الليل » وقام « عليهم » مَقَامَه ، وأمَّا حبيبٌ فمُوَلِّدٌ .
وإنما صُدِّرت الجملةُ الأولى بكلما ، والثانيةُ بإذا ، قال الزمخشري : « لأنهم حِراصٌ على وجودِ ما هَمُّهم به معقودٌ من إمكان المشي وتأتِّيه ، فكُلَّما صادفوا منه فرصةً انتهزوها ، وليسَ كذلك التوقُّفُ والتحبُّسُ » وهذا الذي قاله هو الظاهرُ ، إلاَّ أنَّ مِن النحويين مَنْ جعلَ أنَّ « إذا » تُفيد التكرار أيضاً ، وأنشد :
250 إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي ... أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ أَبْتَرِدُ
قال : « معناها معنى كلما » .
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } « لو » حرفٌ لِما كان سيقع لوقوع غيره ، هذه عبارةُ سيبويه ، وهي أَوْلى من عبارة غيره : / حرفُ امتناع لامتناع لِصحّةِ العبارة الأولى في نحو قوله تعالى :

{ لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر } [ الكهف : 109 ] ، وفي قوله عليه السلام : « نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يُعْصِه » ، وعدم صحةِ الثانية في ذلك كما سيأتي محرِّراً ، ولفسادِ نحو قولهم : « لو كان إنساناً لكان حيواناً » إذ لا يلزم مِنْ امتناعِ الإِنسانِ امتناعُ الحيوان ، ولا يُجْزَمُ بها خلافاً لقوم ، فأمَّا قولُه :
251 لو يَشَأْ طارَ به ذو مَيْعَةٍ ... لاحِقُ الآطالِ نَهْدٌ ذو خُصَلْ
وقول الآخر :
252 تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ ... إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانا
فمِنْ تسكينِ المحرَّكِ ضرورةً ، وأكثر ما تكونُ شرطاً في الماضي ، وقد تأتي بمعنى إنْ كقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 9 ] وقولِه :
253 ولَوْ أَنَّ ليلى الأخيليَّةَ سَلَّمَتْ ... عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصَفائِحُ
لسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَوْزَقَا ... إليها صَدَىً مِنْ جانبِ القبرِ صائحُ
ولا تكونُ مصدريةً على الصحيح ، وقد تُشَرَّبُ معنى التمني فَتَنْصِبُ المضارعَ بعد الفاء جواباً لها نحو : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] ، وسيأتي تحريرُه في مَوْضِعِه .
و « شاء » أصلُه : شَيِئَ علَى فَعِلَ بكسر العين ، وإنما قُلِبت الياءُ ألفاً للقاعدةِ المُمَهَّدةِ . ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه : ولو شاء الله إذهابَ ، وكَثُر حَذْفُ مفعولِه ومفعولِ « أراد » حتى لا يَكاد يُنْطَق به إلاَّ في الشيءِ المستغرَبِ كقولِه :
254 ولو شِئْتُ أن أبكي دَماً لبكَيتُه ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ
قال تعالى : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ الزمر : 4 ] .
واللامُ في « ذهب » جوابُ لو . واعلم أنَّ جوابَها يَكْثُر دخولُ اللامِ عليه مثبتاً ، وقد تُحْذَفُ ، قال تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] ، ويَقِلُّ دخولُها عليه منفيَّاً ب « ما » ، ويَمْتَنِعُ دخولُها عليه منفيَّاً بغير « ما » نحو : لو قُمْتَ لم أَقُمْ ، لِتوالِي لامين فيثقلُ ، وقد يُحْذَفُ كقوله :
255 لا يُلْفِكَ الراجُوك إلا مُظْهِراً ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيماً
و « بسَمْعِهم » متعلِّقٌ بذَهَب . وقُرِئَ : « لأَذْهَبَ » فتكونُ الباءُ زائدةً ، أو يكونُ فَعَل وأَفْعَل بمعنىً ، ونحوهُ : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] .
قوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } هذه جملةُ مؤكِّدةٌ لمعنى ما قبلَها ، و « على كل شيء » متعلِّقٌ بقدير ، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل مشتقٌ من القُدْرَة وهي القُوة والاستطاعةُ ، وفعلُها قَدَر بفتح العين ، وله ثلاثةَ عشَرٍ مصدراً : قدرة بتثليث القاف ، ومَقْدرة بتثليث الدال ، وقَدْرَاً وقَدَراً وقُدَراً وقَداراً وقُدْراناً ومَقْدِراً ومَقْدَراً . وقدير أَبْلَغُ مِن قادر قاله الزجاج ، وقِيل : هما بمعنى ، قاله الهروي . والشيءُ : ما صَحُّ أن يُعْلَمَ من وجه ، ويُخْبَرَ عنه ، وهو في الأصل مصدرُ شاء يشاء/ ، وهل يُطْلق على المعدومِ والمستحيل؟ خلافٌ مشهور .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } . . « يا » حرف نداء وهي أم الباب ، وزعم بعضُهم أنها اسمُ فعلٍ ، وقد تُحْذَفُ نحو : { يُوسُفُ أَعْرِضْ } [ يوسف : 29 ] وينادى بها المندوبُ والمستغاثُ ، قال الشيخ : « وعلى كثرة وقوع النداءِ في القرآن لمَ يَقَعْ نداءٌ إلا بها » . قلت : زَعَمَ بعضُهم أنَّ قراءةَ { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] بتخفيف الميم أنَّ الهمزةَ فيه للنداءِ وهو غريبٌ . وقد يُراد بها مجردُّ التنبيه فيليها الجملُ الاسمية والفعلية ، قال تعالى : { أَلاَ يا اسْجُدوا } [ النمل : 25 ] بتخفيف أَلا ، وقال الشاعر :
256 ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الآخر :
257 يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهمِ ... والصالحينَ على سِمْعانَ من جارِ
و « أيّ » اسمُ منادى في محل نصب ، ولكنه بُني على الضمِّ لأنه مفردٌ معرفةٌ . وزعم الأخفشُ أنَّها هنا موصولةٌ ، وأنَّ المرفوعَ بعدها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملة صلةٌ ، والتقديرُ : يا الذين هم الناسُ ، والصحيح الأول ، والمرفوع بعدها صفةٌ لها يلزم رَفْعُه ، ولا يجوزُ نَصْبُه على المحلِّ ، خلافاً للمازني ، و « ها » زائدةٌ للتنبيه لازمةٌ لها ، والمشهورُ فتحُ هائِها . ويجوزُ ضَمُّها إتباعاً للياء ، وقد قرأ عامر بذلك في بعض المواضع نحو : { أيُّهُ المؤمنون } [ النور : 31 ] ، والمرسُوم يساعده .
ولا يجوزُ وَصْفُ « أيّ » هذه إلا بما فيه الألفُ واللامُ ، أو بموصولٍ هما فيه ، أو باسم إشارة نحو : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] ، وقال الشاعر :
258 ألا أيُّهذا النابِحُ السِّيدَ إنني ... على نَأْيها مُسْتَبْسِلٌ مِنْ ورائِها
ول « أيّ » معانٍ أُخَرُ كالاستفهام والشرطِ وكونِها موصولةً ونكرةً موصوفةً وصفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ .
و « الناسُ » صفةٌ لأي ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقدَّم من الخلاف . و « اعبدوا رَبَّكُمُ » جملةٌ أمرية لا محلَّ لها لأنها ابتدائيةٌ .
قولُه تعالى : { الذي خَلَقَكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : نصبهُ على النعتِ لِرَّبكم . الثاني : نصبُه على القَطْع . الثالثُ : رَفْعُه على القطعِ أيضاً ، وقد تقدَّم معناه .
قوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } محلُّه النصبُ لعطفِه على المنصوبِ في « خَلَقَكم » ، و « مِنْ قبلكم » صِلةُ الذين ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر ، و « مِنْ » لابتداء الغاية . واستشكلَ بعضُهم وقوعَ « مِنْ قبلكم » صلةً من حيث إنَّ كلَّ ما جاز أن يُخْبَرَ به جاز أن يَقَعَ صلةً ، و « مِنْ قبلكم » ناقصٌ ليس في الإِخبار به عن الأعيان فائدةٌ إلا بتأويل ، فكذلك الصلةُ ، قال : « وتأويلُه أنَّ ظرفَ الزمانِ إذا وُصِفَ صَحَّ الإِخبارُ والوصلُ به تقول : نحن في يومٍ طَيِّبٍ ، فيكون التقديرُ هنا والله أعلم : والذين كانوا من زمان قبلَ زمانكم » . / وقال أبو البقاء : « التقدير : والذين خَلَقَهم من قبلِ خَلْقِكم ، فَحَذَفَ الخَلْقَ وأقام الضميرَ مُقامَه » .

وقرأ زيدٌ بنُ علي : « والذين مَن قَبْلِكُمْ » بفتح الميم . قال الزمخشري : ووجهُها على إشكالِها أن يقالَ : أَقْحَمَ الموصولَ الثاني بين الأول وصلتِه تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله :
259 يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبَالكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَيْماً الثاني بين الأولِ وما أُضيفَ إليه ، وكإقحامِهم لمَ الإِضافة بين المضافِ والمضاف إليه في نحو : لا أبالكَ ، قيل : « هذا الذي قاله مذهبٌ لبعضِهم ومنه قولُه :
260 من النَفَر اللاءِ الذين إذا هُمُ ... يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ قَعْقَعُوا
فإذا وجوابُها صلةُ » اللاء « ، ولا صلة للذين لأنه توكيدٌ للأول .
إلا أنَّ بعضَهم يَرُّدُّ هذا القولَ ويجعلُه فاسداً ، مِنْ جهةِ أنه لا يُؤكَّدُ الحرفُ إلا بإعادةِ ما اتصل به فالوصولُ أَوْلَى بذلك ، وخَرَّجَ الآية والبيتَ على أنَّ » مَنْ قبلكم « صلةٌ للموصولِ الثاني ، والموصولُ الثاني وصلتُه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، والمبتدأُ وخبرُه صلةُ الأول ، والتقديرُ : والذينَ هُمْ قبلكم ، وكذا البيتُ ، تَجْعَلُ » إذا « وجوابَها صلةً للذين ، والذين خبرٌ لمبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأُ وخبرُه صلةٌ لِلاَّءِ ، ولا يَخْفَى ما في هذا من التعسُّفِ .
والخَلْق يقال باعتبارين ، وأحدهما : الإِبداع والاختراع ، وهذه الصفةُ ينفردُ بها الباري تعالى . والثاني : التقديرُ : قال زهير :
261 ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري
وقال الحَّجاج : » ما خلقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ ولا وَعَدْتُ إلا وَفَيْتُ « .
وهذه الصفةُ لا يختصُّ بها اللهُ تعالى ، وقد غَلِط أبو عبد الله البصري في أنه لا يُطْلق اسمُ الخالقِ على الله تعالى ، قال : لأنه مُحَالٌ ، وذلك أن التقدير والتسويةَ في حق الله تعالى ممتنعان ، لأنهما عبارةٌ عن التفكُّر والظنِّ ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء } [ الحشر : 24 ] { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] . وكأنه لم يعلم أنَّ الخَلْقَ يكون عبارةً عن الإِنشاءِ والاختراع .
قولُه تعالى : » لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ « لعلَّ واسمُها وخبرُها ، وإذا وَرَدَ ذلك في كلام الله تعالى ، فللناسِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّ » لَعَلَّ « على بابها من الترجِّي والإِطماع ، ولكنْ بالنسبةِ إلى المخاطَبين ، أي : لعلَّكم تتقون على رجائِِكم وطمعِكم ، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } أي : اذهبا على رجائكما . والثاني : أنها للتعليل ، أي اعبدوا ربَّكم لكي تتقوا ، وبه قال قطرب والطبري وغيرُهما وأنشدوا :
262- وقُلْتُمْ لنا كُفُّوا الحروبَ لَعَلَّنا ... نَكُفُّ ووَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ
فلمّا كَفَفْنَا الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرابٍ في المَلاَ مُتَألِّقِ
أي : لكي نَكُفَّ الحربَ ، ولو كانت » لعلَّ « للترجي لم يقلْ : وَوَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ . والثالث : أنها للتعرُّض/ للشيء ، كأنه قيل : افعلوا ذلك متعرِّضين لأَِنَّ تتَّقوا . وهذه الجملةُ على كلِّ قولٍ متعلقةٌ من جهةِ المعنى باعبُدوا ، أي : اعبدوه على رجائِكم التقوى ، أو لتتقوا ، أو متعرِّضين للتقوى ، وإليه مالَ المهدوي وأبو البقاء .

وقال ابن عطية : « يتَّجِهُ تعلًُّقُها ب » خَلَقَكم « ، أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ فهو بحيِثُ يُرْجى أَنْ يكونَ مُتَّقِياً ، إلاَّ أنَّ المهدويَّ مَنَع من ذلك ، قال : » لأنَّ مَنْ ذَرأَه الله لجهنَّم لم يَخْلُقْه ليتَّقِيَ « ولم يَذْكر الزمخشري غيرَ تعلُّقِها ب » خَلَقَكُمْ « ، ثم رتَّب على ذلك سؤالين ، أحدُهما : أنه كما خَلَقَ المخاطبين لعلهم يتقون كذلك خَلَقَ الذين مِنْ قبلهم لذلك ، فلِمَ خَصَّ المخاطبينَ بذلك دونَ مَنْ قَبلهم؟ وأجابَ عنه بأنَّه لَم يَقْصُرْه عليهم بل غلَّبَ المخاطبين على الغائبين في اللفظِ ، والمعنى على إرادةِ الجميع . السؤالُ الثانِي : هَلاَّ قيل » تعبدونَ « لأجلِ اعبدوا ، أو اتقوا لمكانِ » تَتَّقُون « ليتجاوبَ طَرفا النَّظْم ، وأجابَ بأنَّ التقوى ليست غيرَ العبادةِ ، حتى يؤدِّيَ ذلك إلى تنافُرِ النظم ، وإنما التقوى قُصارى أمرِ العابدِ وأقصى جُهْدِه . قال الشيخ : » وأمَّا قولُه : ليتجاوبَ طرفاً النَظْم فليس بشيء ، لأنه لا يمكن هنا تجاوبُ طَرَفَي النظْمِ ، إذ نَظْمُ اللفظ : اعبدوا ربَّكم لعلكم تعبدُون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيدٌ في المعنى ، إذ هو مثل : اضربْ زيداً لعلك تَضْربُه ، واقصدْ خالداً لعلك تَقْصِدُه ، ولا يَخْفَى ما في ذلك من غَثاثةِ اللفظِ وفسادِ المعنى « . والذي يظهرُ به صحتُه أن يكونَ » لعلكم تتقون « متعلقاً بقولِه : » اعبدوا « ، فالذي نُودوا لأجلهِ هو الأمرُ بالعبادة ، فناسَبَ أن يتعلَّقَ بها ذلك ، وأتى بالموصولِ وصلتِه على سبيل التوضيحِ أو المدحِ الذي تعلَّقت به العبادةُ ، فلم يُجَأ بالموصولِ لَيُحَدِّثَ عنه ، بل جاءَ في ضمنِ المقصودِ بالعبادةِ ، فلم يكُنْ يتعلَّقُ به دونَ المقصودِ . قلت : وهذا واضحٌ .
وفي » لعلَّ « لغاتٌ كثيرةٌ ، وقد يُجَرُّ بها ، قال :
263 لَعلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ علينا ... بشيء أنَّ أمَّكُمُ شَرِيمُ
ولا تنصِبُ الاسمين على الصحيح ، وقد تَدْخُلُ » أَنْ « في خبرها حَمْلاً على » عسى « ، قال :
264 لَعَلَّكَ يوماً أن تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تأتي للاستفهامِ والتعليلِ كما تقدَّم ، ولكنَّ أصلَها أن تكونَ للترجِّي والطمعِ في المحبوباتِ والإِشفاق في المكروهات كعسى ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا يأتي مفصَّلاً في غضونِ هذا الكتابِ إنْ شاء الله تعالى .
وأصلُ تَتَّقُون : تَوْتَقِيُون لأنه من الوقاية ، فأُبْدِلَتْ الواوُ تاء قبل تاء الافتعالِ ، وأُدْغِمَتْ فيها ، وقد تقدَّم ذلك في { لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، ثم اسْتُثْقِلَت الضمةُ على الياء فَقُدِّرَتْ ، فَسَكَنَتْ الياءُ والواوُ بعدَها ، فحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين ، وضُمَّت القافُ لتجانِسَها ، فوزنُه الآن : تَفْتَعُونَ . وهذه الجملةُ أعني » لعلكم تتقونَ « لا يجوزُ أن تكونَ حَالاً لأنها طلبيةٌ ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهم ذلك . ومفعولُ تَتَّقون محذوفٌ أي » تَتَّقون « الشِرْك أو النارَ .

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

قوله تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } : « الذي » تحتملُ النصبَ والرفعَ . فالنصبُ من خمسةِ أوجهٍ ، أظهرُها : أن يكونَ نصبُه على القطع . الثاني : أنه نعتٌ لربكم . الثالث : أنه بدلٌ منه . الرابع : أنه مفعول « تتقون » وبه بدأ أبو البقاء . الخامس : أنه نعتُ النعت أي : الموصولُ الأول ، لكن المختارَ أن النعتَ لا يُنْعَتُ/ بل إنْ جاء ما يُوهم ذلك جُعِلَ نعتاً للأول ، إلا أَنْ يمنَع مانعٌ فيكونَ نعتاً للنعت نحو قولهم : « يا أيُّها الفارسُ ذو الجُمَّة » ، فذو الجُمَّة نعتٌ للفارس لا ل « أيّ » لأنها لا تُنْعَتُ إلاَّ بما تقدَّم ذِكْرُه . والرفعُ من وجهين : أحدهما وهو الأصح أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو الذي جَعَلَ . والثاني أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه بعد ذلك : « فلا تَجْعَلُوا » وهذا فيه نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنَّ صلتَه ماضِيةٌ فلم يُشْبِهِ الشرطَ فلا تُزَادُ في خبرِهِ الفاءُ ، الثاني : عدمُ الرابط إلا أن يقالَ بمذهبِ الأَخفش وهو أَنْ يُجْعَلَ الربطُ مكرَّرَ الاسم الظاهر إذا كان بمعناه نحو : « زيدٌ قام أبو عبد الله » ، إذا كان أبو عبد الله كنيةً لزيد ، وكذلك هنا أقامَ الجلالة مُقامَ الضميرِ كأنه قال : الذي جعل لكم فلا تَجْعلوا له أنداداً .
و « جَعَل » فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لمفعولين فيكونُ « الأرضُ » مفعولاً أولَ ، و « فراشاً » مفعولاً ثانياً . الثاني : أن تكونَ بمعنى « خَلَقَ » فتتعدَّى لواحد وهو « الأرضَ » ويكونُ « فراشاً » حالاً .
« والسماء بِنَآءً » عطف على « الأرض فراشاً » على التقديرين المتقددِّمين ، و « لكم » متعلِّق بالجَعْل أي لأجلكم . والفراشُ ما يُوْطَأُ ويُقْعَدُ عليه . والبِنَاءُ مصدرُ بَنَيْتُ ، وإنما قُلِبت الياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ ، وقد يُرادُ به المفعولُ . و « أَنْزل » عطفٌ على « جَعَلَ » ، و « من السماء » متعلِّقٌ به ، وهي لابتداءِ الغاية . ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن يكونَ حالاً مِنْ « ما » لأنَّ صفة النكرة إذا قُدِّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً ، وحينئذٍ معناها التبعيضُ ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من مِياه السماءِ ماءً .
وأصل ماء مَوَه بدليل قولهم : « ماهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوه » وفي جَمْعه : مياه وأَمْواه ، وفي تصغيرِه : مُوَيْه ، فتحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها فقُلبت ألفاً ، فاجتمع حرفان خَفِيَّان : الألفُ والهاءُ ، فَأَبْدَلوا من الهاءِ أختَها وهي الهمزةُ لأنها أَجْلَدُ منها .
وقوله : « فَأَخْرَجَ » عطفٌ على « أَنْزَل » مُرَتَّبٌ عليه ، و « به » متعلِّقٌ بِه ، والباءُ فيه للسببية . و « من الثمرات » متعلقٌ به أيضاً ، ومِنْ هنا للتبعيضِ .

وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها زائدةً لوجهين ، أحدُهما : زيادتُها في الواجبِ ، وكَونُ المجرور بها معرفةً ، وهذا لا يقولُ به بصريٌّ ولا كوفيٌّ إلا أبا الحسن الأخفش . والثاني : أن يكونَ جميعُ الثمراتِ رزقاً لنا ، وهذا يخالف الواقعَ ، إذ كثيرٌ من الثمرات ليس رزقاً . وجعلها الزمخشري لبيانِ الجنسِ ، وفيه نظرٌ ، إذ لم يتقدَّمْ ما يُبَيِّنُ هذا ، وكأنه يعني أنه بيانٌ لرزقاً من حيث المعنى ، و « رزقاً » ظاهرُه أنه مفعولٌ به ، ناصبُه « أَخْرَجَ » . ويجوز أن يكونَ « من الثمرات » في موضع المفعول به ، والتقديرُ : فأخرجَ ببعض الماء بعضَ الثمرات . وفي « رزقاً » حينئذ وجهان أحدُهما : أن يكونَ حالاً على أنَّ الرزقَ بمعنى المرزوقِ ، كالطِّحْنِ والرِّعْي . والثاني : أن يكونَ مصدراً مَنْصُوباً على المفعولِ مِنْ أجلِه ، وفيه شروطُ النصبِ موجودةٌ . وإنما نَكَّر « ماء » و « رزقاً » ليفيدَ التبعيضَ ، لأنَّ المعنى : وأنزل من السماءِ بعض ماءٍ فَاَخْرَجَ به بعضَ الثمراتِ بعضَ رزقٍ لكم ، إذ ليس جميعُ رزقِهم هو بعضَ الثمراتِ ، إنَّما ذلك بعضُ رزقِهم .
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « من الثمراتِ » حالاً مِنْ « رزقاً » لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً ، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وجعلَ الزمخشري « من الثمرات » واقعاً موقعَ الثمر أو الثمار ، يَعْني مِمَّا نابَ جمعُ قلةٍ عن جمعِ الكثرة ، نحو : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] و { ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] . ولا حاجةَ تدعو إلى هذا لأنَّ جَمْعَ السلامةِ المحلَّى بأَلْ التي للعمومِ يقعُ للكثرةِ ، فلا فرقَ إذاً بين الثمراتِ والثمار ، ولذلكَ ردَّ المحققونَ قولَ مَنْ ردَّ على حسان بن ثابت رضي الله عنه :
265 لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَما
قالوا : كان ينبغي أن يقولَ : الجِفان : وسيوفُنا ، لأنه أمدحُ ، وليس بصحيحٍ لما ذَكَرْتُ لك .
و « لكم » يَحْتملُ التعلُّقَ ب « أَخْرَج » ، ويَحْتملُ التعلُّقَ بمحذوفٍ ، على أن يكونَ صفةً ل « رِزْقاً » ، هذا إنْ أريد بالرزقِ المرزوقُ ، وإنْ أُريد به المصدرُ فيحتملُ أن تكونَ الكافُ في « لكم » مفعولاً بالمصدرِ واللامُ مقويةً له ، نحو : « ضربت ابني تأديباً له » أي : تأديبَه .
قولُه تعالى : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } الفاءُ للتسبُّب ، تَسَبَّبَ عن إيجادِ هذه الآياتِ الباهرة النهيُ عن اتخاذِكم الأندادَ . و « لا » ناهية و « تَجْعلوا » مجزومٌ بها ، علامةُ جَزْمِه حَذْفُ النونِ ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّروا . وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ بمعنى تُسَمُّوا . وعلى القولين فيتعدَّى لاثنين أولُهما : أنداداً ، وثانيهما : الجارُّ والمجرورُ قبلَه ، وهو واجبُ التقديمِ . و « أنداداً » جمع نِدّ ، وقال أبو البقاء : « أَنْدَاداً جمعُ نِد ونَديد » وفي جَعْلَه جمعَ نديد نظرٌ ، لأن أَفْعالاً لا يُحْفظ في فَعيل بمعنى فاعل ، نحو : شَريف وأَشَرْاف ولا يُقاسُ عليه .

والنِّدُّ : المقاوِمُ المضاهي ، سواء كان [ مثلاً ] أو ضِدَّاً أو خلافاً وقيل : هو/ الضدُّ عن أبي عبيدة ، وقيل : الكُفْء والمِثْل ، قال حسان :
266 أَتَهْجُوه ولستَ له بِنِدٍّ ... فشرُّكما لخيركما الفِداءُ
أي : لستَ له بكُفْءٍ ، وقد رُوِي ذلك ، وقال آخر :
267 نَحْمَدُ الله ولا نِدَّ له ... عندَه الخيرُ وما شاءَ فَعَلْ
وقال الزمخشري : « النِّدُ المِثْل ، ولا يُقال إلا للنِّدِّ المخالف ، قال جرير :
268 أَتَيْماً تَجْعَلونَ إليَّ نِدَّاً ... وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نَدِيدُ
ونادَدْتُ الرجلَ خالَفْتُه ونافَرْتُه مِنْ : نَدَّ يَنِدُّ نُدُوداً أي نَفَر » . انتهى ، ويقال « نَديدة » على المبالغة ، قال لبيد :
269 لِكيلا يكونَ السَّنْدَرِيُّ نديدتي ... وأَجْعَلُ أَقْواماً عُموماً عَماعِمَا
وأمَّا النَّدُّ بفتح النون فهو التل المرتفعُ ، والنَّدُّ الطِّيب أيضاً ، ليس بعربي . وهذه الجملةُ متعلقةٌ من حيث المعنى بقوله : « اعبدُوا » ، لأنَّ أصلَ العبادةِ التوحيدُ ، ويجوز أن يتعلَّقَ ب « الذي » إذا جعلتَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآياتِ العظيمةَ والدلائلَ النَّيِّرة الشاهدَةَ بالوَحْدانية فلا تَجْعلوا له أنداداً . وقال الزمخشري : « يتعلَّق ب » لعلَّكم « على أن ينتصِبَ » تجعلوا « انتصابَ { فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 37 ] في قراءةِ حَفْص ، أي : خلقكم لكي تَتَّقوا وتخافوا عقابَه فلا تُشَبِّهوه بخَلْقه ، فعلى قولِه : تكون » لا « نافيةً ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمارِ » أَنْ « في جوابِ الترجِّي ، وهذا لا يُجيزه البصريون ، وسيأتي تأويلُ » فأطَّلِع « ونظائِرِه في موضعِه إنْ شاء الله تعالى .
قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب على الحال ، ومفعولُ العِلْم متروكٌ لأنَّ المعنى : وأنتم من أهلِ العِلم ، أو حُذِف اختصاراً أي : وأنتم تعلمونَ بُطْلانَ ذلك . والاسمُ من » أنتم « قيلَ : أَنْ ، والتاءُ حرفُ خطاب يتغيَّرُ بحَسبِ المخاطب . وقيل : بل التاءُ هي الاسمُ وأَنْ عمادٌ قبلها . وقيل : بل هو ضميرٌ برُمَّتِه وهو ضميرُ رفعٍ منفصلٌ ، وحكمُ ميمِه بالنسبة إلى السكونِ والحركةِ والإِشباعِ والاختلاسِ حكمُ ميم هم ، وقد تقدَّم جميعُ ذلكَ .

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)

قولُه تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ } : إنْ حرف شرطٍ يَجْزِم فعلينِ شرطاً وجزاءً ، ولا يكونُ إلا في المحتملِ وقوعُه ، وهي أمُّ ألبابِ ، فلذلك يُحْذَفُ مجزومُها كثيراً ، وقد يُحْذَفُ الشرطُ والجزاءِ معاً ، قال :
270 قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ... كانَ فقيراً مُعْدِماً قالَتْ : وإنْ
أي : وإن كان فقيراً تزوجتُه ، وتكونُ « إنْ » نافيةً لتعملُ وتُهْمَلُ ، وتكون مخففةً وزائدةً باطِّراد وعدمِه ، وأجاز بعضُهم أن تكونَ بمعنى إذْ ، وبعضُهم أن تكونَ بمعنى قد ، ولها أحكامٌ كثيرة . و « في ريب » خبر كان ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ومحلُّ « كان » الجزمُ ، وهي وإن كانَتْ ماضيةً لفظاً فهي مستقبلةٌ معنى .
وزعم المبردُ أنَّ ل « كان » الناقصةِ حكماً مع « إنْ » ليس لغيرها من الأفعالِ الناقصةِ فزعم أن لقوةِ « كان » أنَّ « إنْ » الشرطية لا تَقْلِبُ معناها إلى الاستقبال ، بل تكونُ على معناها من المضيِّ ، وتبعه في ذلك أبو البقاء ، وعَلَّلَ ذلك بأنه كثُر استعمالُها غيرَ دالَّةٍ على حَدَثٍ . وهذا مردودٌ عند الجمهورِ لأن التعليقَ إنما يكون في المستقبلِ ، وتأوَّلوا ما ظاهرُه غيرُ ذلك ، نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } [ يوسف : 26 ] : إمَّا بإضمار « يَكُنْ » بعد « إنْ » ، وإمَّا على التبيين ، والتقديرُ : إنْ يكُنْ قميصُه أو إن يَتبيَّنْ كونُ قميصِه ، ولمَّا خَفِيَ هذا المعنى على بعضهم جَعَل « إنْ » هنا بمنزلة « إذْ » .
وقوله : « في ريبٍ » مجازٌ من حيث إنه جَعَلَ الريبَ ظرفاً محيطاً بهم ، بمنزلةِ المكانِ لكثرةِ وقوعِه منهم . و « مِمَّا » يتعلقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لريب فهو في محلِّ جَرٍّ . و « مِنْ » للسببية أو ابتداءِ الغاية ، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ ، ويجوز أن تتعلَّق بريب ، أي : إن ارتَبْتُمْ من أجل ، ف « مِنْ » هنا للسببيةِ « وما » موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كلا القولين محذوفٌ أي : نَزَّلناه . والتضعيفُ في « نزَّلنا » هنا للتعدية مرادفاً لهمزةِ التعدِّي ، ويَدُلُّ عليه قراءةُ « أنْزَلْنا » بالهمز ، وجَعَلَ الزمخشري التضعيفَ هنا دالاًّ على نزولِه مُنَجَّماً في أوقاتٍ مختلفة . قال بعضُهم : « وهذا الذي ذهبَ إليه في تضعيفِ الكلمة هنا هو الذي يُعَبَّر عنه بالتكثير ، أي يَفْعَلُ [ ذلك ] مرةً بعد مرةٍ ، فَيُدَلُّ على ذلك بالتضعيفِ ، ويُعَبَّرُ عنه بالكثرةِ » . قال : « وذَهَلَ عن قاعدةٍ وهي أن التضعيفَ الدالَّ على ذلك من شرطه أن يكونَ في الأفعال المتعديةِ قبل التضعيفِ غالباً نحو : جَرَّحْتُ زيداً وفتَّحْتُ الباب ، ولا يُقال : جَلَّس زيدٌ ، ونَزَّل لم يكن متعدياً قبلَ التضعيفِ ، وإنَّ ما جَعَلَه متعدياً تضعيفُه .

وقولُه « غالباً » لأنه قد جاء التضعيفُ دالاًّ على الكثرة في اللازم قليلاً نحو : « مَوَّت المالُ » وأيضاً فالتضعيفُ الدالُّ على الكثرةِ لاَ يَجْعَلُ القاصرَ متعدياً كما تقدَّم في موَّت المال ، ونَزَّل كان قاصراً فصار بالتضعيفِ متعدِّياً ، فدلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير ، وأيضاً كان يَحْتاج قولُه/ تعالى : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] إلى تأويل ، وأيضاً فقد جاء التضعيفُ حيث لا يمكنُ فيه التكثيرُ نحو قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ } [ الأنعام : 37 ] { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] إلا بتأويل بعيدٍ جداً ، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آيةٍ ، ولا أنه عَلَّق تكريرَ نزولِ مَلَكٍ رسولٍ على تقديرِ كونِ ملائكةٍ في الأرض .
وفي قوله : « نَزَّلْنا » التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلُّمِ لأنَّ قبلَه : { اعبدوا رَبَّكُمُ } ، فلو جاء الكلامُ عليه لقيل : ممَّا نَزَّلَ على عبدِه ، ولكنه التفت للتفخيمِ . و « على عبدنا » متعلِّقٌ بنزَّلنا ، وعُدِّي ب « على » لإفادتها الاستعلاءَ ، كأنَّ المُنَزَّل تَمَكَّنَ من المنزولِ عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثرُ القرآن بالتعدِّي بها ، دونَ « إلى » ، فإنها تفيدُ الانتهاء والوصولَ فقط ، والإِضافة في « عبدِنا » تفيدُ التشريف كقوله :
271 يا قومِ قلبي عندَ زهْراءِ ... يَعْرِفُه السامعُ والرائي
لا تَدْعُني إلاَّ بيا عبدَها ... فإنه أَشْرَفُ أسمائي
وقُرئ : « عبادِنا » ، فقيل : المرادُ النبيُّ عليه السلام وأمته ، لأنَّ جَدْوَى المنزَّلِ حاصلٌ لهم . وقيل : المرادُ بهم جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام .
قوله تعالى : « فَأْتُواْ » جوابُ الشرط ، والفاءُ هنا واجبةٌ لأنَّ ما بعدها لا يَصِحُّ أن يكونَ شرطاً بنفسِه ، وأصلُ فأْتُوا : اإْتِيُوا مثل : اضْربوا فالهمزة الأولى همزةُ وصلٍ أُتي بها للابتداءِ بالساكنِ ، والثانيةُ فاءُ الكلمةِ ، اجتمع همزتان ، وَجَبَ قَلْبُ ثانيهما ياءً على حدِّ « إيمان » وبابِه ، واستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ التي هي لامُ الكلمةِ فَقُدِّرَتْ ، فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدها واوُ الضميرِ ساكنةٌ فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ ، وضُمَّتِ التاءُ للتجانُسِ فوزنُ ايتوا : افْعُوا ، وهذه الهمزةُ إنما يُحتاجُ إليها ابتداءً ، أمَّا في الدَّرْجِ فإنه يُسْتَغْنى عنها وتعودُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ لأنها إنما قُلِبَت ياءً للكسر الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : « فَأْتوا » وبابِه وقد تُحْذَفُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ في الأمرِ كقوله :
272 فإنْ نحنُ نَنْهَضْ لكم فَنَبُرَّكُمْ ... فَتُونا فعادُونا إذاً بالجرائمِ
يريد : فَأْتونا كقوله : فَأْتوا . وبسورة متعلق ب أتوا « .
قوله تعالى : { مِّن مِّثْلِهِ } في الهاء ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها تعودُ على ما نَزَّلنا ، فيكون مِنْ مثله صفةً لسورة ، ويتعلّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر ، أي : بسورةٍ كائنةٍ من مثلِ المنزَّل في فصاحتِه وإخبارِه بالغُيوبِ وغيرِ ذلك ، ويكونُ معنى » مِنْ « التبعيضَ ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان ، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدةً ، ولا تجيء إلا على قول الأخفش .

الثاني : أنها تعودُ على « عبدِنا » فيتعلَّقُ « من مثله » بأْتُوا ، ويكون معنى « مِنْ » ابتداءَ الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكونَ صفةً لسورة ، أي : بسورةٍ كائنة من رجلٍ مثلِ عبدِنا . الثالث : قال أبو البقاء : « إنها تعود على الأنداد بلفظِ المفرد كقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] قلت : ولا حاجةَ تَدْعو إلى ذلك ، والمعنى يَأْباه أيضاً .
والسُّورة : الدرجةُ الرفيعة ، قال النابغة :
273 ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سُورةً ... ترى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ
وسُمِّيَتْ سورةُ القرآنِ بذلك لأنَّ صاحبَها يَشْرُفُ بها وَترْفَعُه . وقيل : اشتقاقُها من السُّؤْر وهو البَقِيَّة ، ومنه » أَسْأَروا في الإِناء « قال الأعشى :
274 فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا ... دِ صَدْعاً على نَأَيِها مُسْتطيرا
أي : أَبْقَتْ ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ تميماً وغيرَها يهمزون فيقولون : سُؤْرة بالهمز ، وسُمِّيت سورةُ القرآن بذلك لأنها قطعةٌ منه ، وهي على هذا مخففةٌ من الهمزة ، وقيل : اشتقاقُها من سُورِ البِناءِ لأنها تُحيط بقارئها وتحفظُه كسُورِ المدينة ، ولكنَّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الواو ، وجَمْعَ سُورةِ البِناء سُوْر بسكونِها فَفرَّقوا بينها في الجمعِ .
قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَآءَكُم } هذه جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها ، فهي في محلِّ جَزْم أيضاً . ووزنُ ادْعُوا : افْعُوا لأن لام الكلمةِ محذوفٌ دلالةً على السكونِ في الأمر/ الذي هو جَزْم في المضارع ، والواوُ ضميرُ الفاعِلِين و » شهداءَكم « مفعولٌ به جمعُ شهيد كظريف ، وقيل : بل جمعُ شاهد كشاعر والأولُ أَوْلى لاطِّراد فُعَلاء في فَعِيل دونَ فاعلِ والشهادةُ : الحضور .
و { مِّن دُونِ الله } متعلقٌ بادْعُوا ، أي : ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم ، فلا تستشهدوا بالله ، فكأنه قال : وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم ، ويُحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ ب » شهداءَكم « ، والمعنى : ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم ، أو أعوانكم مِنْ دون أولياء الله ، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله . أو يكونُ معنى » مِنْ دونِ الله « بين يدي الله كقوله :
275 تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه ... لوجهِ أخيها في الإِناءِ قُطُوبُ
أي : تريكَ القذى قُدَّامها وهي قُدَّامه لرقتِها وصفائها .
واختار أبو البقاء أن يكون { مِّن دُونِ الله } حالاً من » شهداءكم « ، والعاملُ فيه محذوفٌ ، قال : » تقديرُه : شهداءَكم منفردين عنِ الله أو عن أنصارِ الله « .
و » دونَ « مْنِ ظروف الأمكنة ، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ ب » مِنْ « ، وزعم الأخفش أنها متصرِّفة ، وجَعَل من ذلك قولَه تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] قال : » دونَ « مبتدأ ، و » منَّا « خبرُه ، وإنما بُني لإِضافتِه إلى مبني ، وقد شَذَّ رفعُه خبراً في قولِ الشاعر :

276 ألم تَرَ أنِّي قد حَمَيْتُ حقيقتي ... وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها
وهو من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنىً . وأمّا « دون » التي بمعنى رديء فتلك صفةٌ كسائرِ الصفات ، تقول : هذا ثوبٌ دونٌ ، ورأيت ثوباً دوناً ، أي : رديئاً ، وليستْ ممَّا نحن فيه .
قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } هذا شرطٌ حُذِفَ جوابُه للدلالة عليه ، تقديره : إنْ كنتم صادِقين فافعلوا ، ومتعلَّقُ الصدقِ محذوفٌ ، والظاهرُ تقديرُه هكذا : إنْ كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزَّل على عبدِنا أنه من عندنا . وقيل : فيما تَقْدِرون عليه من المعارضة ، وقد صَرَّح بذلك عنهم في آية أخرى حيث قال تعالى حاكياً عنهم : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ] . والصدقُ ضدُّ الكذبِ ، وقد تقدَّم فَيُعْرَفُ مِنْ هناك ، والصديقُ مشتقٌّ منه لصِدْقِه في الودِّ والنصحِ ، والصِّدْقُ من الرماح : الصُّلبة .

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } : « إنْ » الشرطيةُ داخلةٌ على جملة « لم تفعلوا » وتفعلوا مجزومٌ بلم ، كما تدخل إنْ الشرطيةُ على فعلٍ منفي بلا نحو : { إنْ لا تفعلوه } [ الأنفال : 73 ] فيكون « لم تفعلوا » في محلِّ جزم بها .
وقوله : « فاتَّقوا » جوابُ الشرطِ ، ويكونُ قولُه : « ولَنْ تفعلوا » جملةً معترضةً بين الشرطِ وجزائه . وقال جماعةٌ من المفسرين : معنى الآيةِ : وادعوا شهداءَكم مِنْ دونِ اللهِ إنْ كنتم صادِقين ، ولَنْ تَفْعلوا فإنْ لم تَفْعلوا فاتَّقوا النار . وفيه نظرٌ لا يَخْفى . وإنما قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } فَعَبَّر بالفعلِ عن الإِتْيانِ لأن الفعلَ يجري مَجْرى الكناية ، فيُعَبَّر به عن كلِّ فعلٍ ويُغْني عن طول ما تَكْني به . وقال الزمخشري : « لو لم يَعْدِلْ من لفظِ الإِتيانِ إلى لفظِ الفعلِ لاسْتُطِيل أن يقال : فإنْ لم تأتوا بسورةٍ من مثله ولَنْ تأتوا بسورةٍ مِنْ مثلِه » . قال الشيخ : « ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه لو قال : » فإنْ لم تأتوا ولَنْ تأتوا « كان المعنى على ما ذَكَر ، ويكونُ قد حَذَفَ ذلك اختصاراً ، كما حَذَف اختصاراً مفعولَ { لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } ، ألا ترى أنَّ التقدير : فإنْ لم تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مِثله ، ولن تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مثله » .
و « لَنْ » حرفُ نَصْبٍ معناه نَفْيُ المستقبل ، ويختصُّ بصيغةِ المضارع ك « لم » ، ولا يقتضي نََفْيُه التأبيدَ ، وليس أقلَّ مدةً مِنْ نفي لا ، ولا نونُه بدلاً من ألفِ لا ، ولا هو مركباً من « لا أَنْ » خلافاً للخليلِ ، وزَعَم قومٌ أنها قد تَجْزِمُ ، منهم أبو عبيدةَ وأنشدوا :
277 لن يَخِبْ لانَ مِنْ رجائِك مَنْ حَرْ ... رَكِ مِنْ دونِ بابِك الحَلَقَهْ
وقال النابغة :
278 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلن أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ
ويُمكِنُ تأويلُ ذلك بأنه مِمَّا سُكِّنَ فيه للضرورةِ .
قوله تعالى : { فاتقوا النار } هذا جوابُ الشرطِ كما تقدم ، والكثير في لغة العرب : « اتقى يتَّقي » على افْتَعَل يَفْتَعِلُ ، ولغة تميم وأسد : تَقَى يَتْقي مثل : رَمَى يَرْمي ، فيُسكِّنون ما بعد حرفِ المضارعة ، حكى هذه اللغة سيبويه ، ومنهم مَنْ يُحَرِّكُ ما بعد حرف المضارعة ، وأنشدوا :
279 تَقُوه أيُّها الفِتْيانُ إنّي ... رأيتُ الله قد غَلَبَ الجُدودا
وقال آخر :
280 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَقِ الله فينا والكتابَ الذي تتلو
قوله تعالى : { النار } مفعول به ، و « التي » صفتُها ، وفيها أربع اللغاتِ المتقدمةِ ، كقوله :
281 شُغِفَتْ بك اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمثلُ ما ... بك ما بها مِنْ لَوْعةٍ وغَرامِ
وقال آخر :
282- فقلْ لِلَّتْ تَلُومُك إنَّ نَفْسي ... أراها لا تُعَوَّذُ بالتَّميمِ
وقوله : { وَقُودُهَا الناس } جملةٌ من مبتدأ وخبر صلةٌ وعائدٌ ، والألفُ واللامُ في « النار » للعهدِ لتقدُّمِ ذكرها في سورة التحريم وهي مكية عند قوله تعالى :

{ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] .
والمشهورُ فتحُ واوِ الوَقود ، وهو اسمُ ما يُوقَدُ به ، وقيل : هو مصدر كالوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور . ولم يجىءْ مصدرٌ على فَعُول غيرُ هذه الألفاظِ فيما حكاه سيبويه . وزاد الكسائي : الوَزُوع ، وقُرئ شاذاً في سورة ( ق ) { وما مسَّنا من لَغوب } [ الآية : 38 ] ، فتصير سبعةً ، وهناك ذَكرْتُ هذه القراءةَ ، ولكن المشهور أن الوقود والوَضوءَ والطَهور بالفتح اسمٌ وبالضم مصدرٌ ، وقرئ شاذاً بضمها وهو مصدرٌ . وقال ابن عطية : « وقد حُكيا جميعاً في الحَطَب ، وقد حُكيا في المصدر » انتهى . فإن أريدَ اسمُ ما يُوقد به فلا حاجةَ إلى تأويل ، وإنْ أَريد بهما المصدرُ فلا بدَّ من تأويلٍ وهو : إمَّا المبالغة أي جُعلوا نفس التوقُّدِ مبالغةً في وصفهم بالعذاب ، وإمّا حذفُ مضافٍ : إمَّا من الأولِ أي أصحابُ توقدِها ، وإمَّا من الثاني أي : يُوقِدُها إحراقُ الناس ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه .
والهاءُ في الحجارةِ لتأنيثِ الجمع .
قوله تعالى : { أُعِدَّتْ } فعلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، والقائمُ مَقَامَ الفاعلِ ضميرُ « النار » والتاء واجبة ، لأن الفعلَ أُسْنِدَ إلى ضمير المؤنث ، ولا يُلتفت إلى قوله :
283 فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
لأنه ضرورةٌ خلافاً لابن كيسان . و « للكافرين » متعلقٌ به ، ومعنى أُعِدَّت : هُيِّئَتْ ، قال :
284 أَعْدَدْتَ للحَدَثان سا ... بِغَةً وعَدَّاءً عَلَنْدى
وقرئ : « أُعْتِدَتْ » من العَتاد بمعنى العُدَّة . وهذه الجملةُ الظاهر أنها لا محلَّ لكونِها مستأنفةً جواباً لمَنْ قال : لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ وقال أبو البقاء : « محلُّها النصبُ على الحالِ من » النار « ، والعامِلُ فيها اتقوا » . قيل : وفيه نظرٌ فإنها مُعَدَّةٌ للكافرين اتَّقَوْا أم لم يَتَّقُوا ، فتكونُ حالاً لازمةً ، لكن الأصل في الحال التي ليسَتْ للتوكيدِ أن تكونَ منتقلةً ، فالأَوْلَى أن تكونَ استئنافاً . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُُ أن تكون حالاً من الضمير في » وَقُودُها « لثلاثة أشياء أحدها : أنها مضافا إليها . الثاني : أنَّ الحَطَب لا يعمل ، يعني أنه اسمٌ جامدٌ . الثالث : الفصلُ بين المصدرِ أو ما يَعْمَلُ عَمَلَهُ وبين مَا يَعْمَلُ فيه بالخبر وهو » الناسُ « ، يعني أنَّ الوُقودَ بالضمِّ وإن كان مصدراً صالحاً للعملِ فلا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنه عاملٌ في الحالِ وقد فَصَلْتَ بينه وبينها بأجنبي وهو » الناسُ « . وقال السجستاني : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } من صلة » التي « كقوله : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] ، قال ابن الأنباري : » وهذا غَلَطٌ لأن « التي » هُنا وُصِلَتْ بقوله : { وَقُودُهَا الناس } فلا يجوز أن تُوصل بصلةٍ ثانية ، بخلافِ التي في آل عمران . قلت : ويمكن ألاَّ يكون غَلطاً ، لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ { وَقُودُهَا الناس } والحالةُ هذه صلةٌ ، بل إمَّا معترضةً لأنَّ فيها تأكيداً وإمَّا حالاً ، وهذان الوجهان لا يَمْنَعهُما معنىً ولا صناعةً .

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

قولُه تعالى : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ } : هذه الجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها ، عَطَفَ جملةَ ثوابِ المؤمنين على جملةِ عقابِ الكافرين ، وجاز ذلك لأنَّ مذهبَ سيبويه وهو الصحيح أنه لا يُشْتَرَطُ في عطفِ الجملِ التوافُقُ معنىً ، بل تُعْطَفُ الطلبيةُ على الخبريةِ وبالعكس ، بدليلِ قولِهِ :
285 تُناغي غَزالاً عند بابِ ابنِ عامرٍ ... وَكَحِّلْ أماقِيكَ الحسانَ بإِثْمِدِ
وقول امرئ القيس :
286- وإنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ ... وهل عند رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكونَ عطفاً على « فاتقوا » ليَعْطِفَ أمراً على أمر . وهذا قد رَدَّهُ الشيخ بأنَّ « فاتَّقُوا » جوابُ الشرط ، فالمعطوفُ يكون جواباً لأنَّ حكمَه حكمُه ، ولكنه لا يَصِحُّ لأنَّ تبشيرَه للمؤمنين لا يترتَّبُ على قولِهِ : فإنْ لَمْ تَفْعَلوا .
وقرئ : « وبُشِّرَ » ماضياً مبنياً للمفعولِ . وقال الزمخشري : « وهو عطف على أُعِدَّت » . قيل : « وهذا لا يتأتَّى على إعرابِ » أُعِدَّتْ « حالاً لأنها لا تَصْلُحُ للحاليَّةِ » .
والبِشارةُ : أولُ خبرٍ من خيرٍ أو شرٍّ ، قالوا : لأنَّ أثرَها يَظْهَرُ في البَشَرة وهي ظاهِرُ جلدِ الإِنسان ، وأنشدوا :
287 يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أهلي ... فقُلْتُ له : ثَكِلْتُكَ مِنْ بشيرِ
وقال آخر :
288 وبَشَّرْتَنِي يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي ... جَفَوْنِي وأنَّ الوُدَّ موعدُهُ الحَشْرُ
وهذا رأي سيبويه ، إلا أن الأكثرَ استعمالُها في الخير ، وإن اسْتُعْمِلَتْ في الشرِّ فبقَيْدٍ ، كقولِهِ تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] وإن أُطْلِقَتْ كانت للخير ، وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنها تختصُّ بالخَيْرِ ، لأنه تَأَوَّلَ مثلَ : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } على العكسِ في الكلامِ الذي يُقْصَدُ به الزيادةُ في غَيْظِ المُسْتَهْزَأ به وتألُّمِهِ . والفعلُ منها : بَشَرَ وبَشَّر مخففاً ومثقلاً ، كقولَه : « بَشَرْتُ عيالي » البيت ، والتثقيلُ للتكثيرِ بالنسبة إلى المُبَشِّرِ به . وقد قرئ المضارعُ مخففاً ومشدداً ، وأمَّا الماضي فَلَمْ يُقْرَأْ به إلا مثقَّلاً نحو : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] وفيه لغةٌ أخرى : أَبْشَرَ مثل أَكْرَمَ ، وأنكر أبو حاتم التخفيفَ ، وليس بصوابٍ لمجيء مضارعِهِ . وبمعنى البِشارة : البُشور والتَبْشير والإِبْشَار ، وإن اختَلَفَتْ أفعالُها ، والبِشارَةُ أيضاً الجَمالُ ، والبَشير : الجميلُ ، وتباشير الفجرِ أوائلُهُ .
[ وقرأ زيدٌ بنُ علي رضي الله عنهما « وبُشِّرَ » : ماضياً مبنياً للمفعول قال الزمخشري : « عطفاً على » أُعِدَّت « انتهى . وهو غلط لأن المعطوف عليه [ مِن ] الصلة ، ولا راجعَ على الموصولِ من هذه الجملةِ فلا يَصِحُّ أن يكونَ عطفاً على أُعِدَّت ] .
وفاعلُ » بَشِّرْ « : إِمَّا ضميرُ الرسولِ عليه السلام ، وهو الواضحُ ، وإمَّا كلُّ مَنْ تَصِحُّ منه البشارةُ . وكونُ صلةِ » الذين « فعلاً ماضياً دونَ كونِهِ اسمَ فاعلٍ دليلٌ على أَنْ يستحقَّ التبشيرَ بفضلِ الله مَنْ وَقَعَ منه الإِيمانُ وتَحَقَّقَ به وبالأعمالِ الصالحةِ .
والصالحاتُ جمعُ صالحة وهي من الصفاتِ التي جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ في إيلائِها العواملَ ، قال :

289 كيفَ الهجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لأَْمٍ بظهرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي
وعلامةُ نصبِه الكسرةُ لأنه من بابِ جَمْعِ المؤنث السالم نيابةً عن الفتحةِ التي هي أصلُ النصبِ .
قولُه تعالى : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } جناتٍ اسمُ أنَّ ، و « لهم » خبرٌ مقدمٌ ، ولا يجوز تقديمُ خبرِ « أنَّ » وأخواتِها إلا ظرفاً أو حرفَ جَرٍّ ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جَرّ عند الخليل والكسائي ونصبٍ عند سيبويهِ والفراء ، لأن الأصلَ « : وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم ، فحُذِفَ حرفُ الجر مع أَنَّ ، وهو حَذْفٌ مُطَّردٌ معها ومع » أَنْ « الناصبة للمضارعِ ، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ ، بسبب طولهما بالصلة ، فلما حُذِفَ حرفُ الجرّ جرى الخلافُ المذكورُ ، فالخليل والكسائي يقولان : كأنَّ الحرفَ موجودٌ فالجرُّ باقٍ ، واستدلَّ الأخفشُ لهما بقولِ الشاعر :
290 وما زُرْتُ ليلى أنْ تَكُونَ حبيبةً ... إليَّ لا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ
فَعَطْفُ » دَيْنٍ « بالجرِّ على محلِّ » أن تكون « يبيِّنُ كونَها مجرورةً ، قيل : ويَحْتملُ أن يكونَ من بابِ عَطْفِ التوهُّم فلا دليلَ فيه . والفراء وسيبويه يقولان : وَجَدْناهم إذا حذفوا حرفَ الجر نَصَبُوا ، كقولِهِ :
291 تَمُرُّونَ الديارَ وَلَمْ تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرَامُ
أي بالديار ، ولا يجوزُ الجرُّ إلا في نادرِ شعرٍ ، كقولِهِ :
292 إذا قيلَ : أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ... أَشَارتْ كليبٍ بالأَكفِّ الأصابعُ
أي : إلى كُلَيْبٍ ، وقولِ الآخر :
293 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأَعْلامِ
أي : إلى الأعلام .
والجَنَّةُ : البُسْتَانُ ، وقيل : الأرضُ ذاتُ الشجرِ ، سُمِّيَتْ بذلك لسَتْرِها مَنْ فيها ، ومنه : الجنين لاستتارِه ، والمِجَنُّ : التُرْس ، وكذلك » الجُنَّة « لأنه يَسْتُر صاحبَه ، والجِنَّة لاستتارِهم عن أعينِ الناسِ .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ لأنها صفةٌ لجنَّات ، و » تَجْرِي « مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ ، وعلامةُ رفعِه ضمةٌ مقدرةٌ في الياءِ استثقالاً ، وكذلك تُقَدَّرُ في كلِّ فعلٍ معتلٍ نحو : يَدْعو ويَخْشَى إلاَّ أَنَّها في الألِفِ تُقَدَّرُ تعذُّراً .
والأنهارُ جمع نَهْر بالفتح ، وهي اللغة العالية ، وفيه تسكينُ الهاءِ ، ولكن » أَفْعال « لا ينقاسُ في فَعْل الساكنِ العينِ بل يُحْفظ نحو : أَفْراخ وأَزْنَاد وأَفراد .
والنهرُ دونَ البحرِ وفوقَ الجدولِ ، وهل هو مجرى الماءِ أو الماءُ الجاري نفسُه؟ والأولُ أظهرُ ، لأنه مشتقٌّ من نَهَرْت أي : وسَّعْتُ ، قال قيس بن الخطيم يصفُ طعنةِ :
294 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي وَسَّعْتُ ، ومنه : النهارُ لاتساعِ ضوئِهِ ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماءِ مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ .
و { مِن تَحْتِهَا } متعلقٌ بتجري ، و » تحت « مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ ، وهو نقيضُ » فوق « ، إذا أُضيفا أُعْرِبَا ، وإذا قُطِعَا بُنِيَا على الضم . و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ وقيل : زائدةٌ ، وقيل : بمعنى في ، وهما ضعيفان .
واعلمْ أنه إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشجرِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ ، أي : من تحتِ عَذْقِها أو أشجارِها .

وإن قيل بأنها الشجرُ نفسَه فلا حاجةَ إلى ذلك . وإذا قيل بأنَّ الأنهارَ اسمٌ للماءِ الجاري فنسبةُ الجَرْيِ إليه حقيقةٌ . وإنْ قيلَ بأنه اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه فنسبةُ الجَرْي إليه مجازٌ كقول مهلهل :
295 نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بعدكَ أُوْقِدَتْ ... واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
قال الشيخ : « وقد ناقضَ ابنُ عطيةَ كلامَهُ هنا فإنه قال : » والأنهار : المياهُ في مجارِيها المتطاولةِ الواسعةِ « ثم قال : » نَسَبَ الجَرْيَ إلى النهر ، وإنما يَجري الماءُ وحدَه توسُّعاً وتجوُّزاً ، كما قال تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] ، وكما قال : نُبِّئْتُ أنَّ النار . البيت « .
والألف واللامُ في » الأنهار « للجنس ، وقيل : للعَهْدِ لِذِكْرِها في سورة القتال . وقال الزمخشري : » يجوزُ أَنْ تَكونَ عوضاً من الضمير كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : أنهارُها « ، بمعنى أنَّ الأصلَ : واشتعلَ رأسي ، فَعَوَّض » أل « عن ياء المتكلم ، وهذا ليس مذهب البصريين ، بل قال به بعض الكوفيين ، وهو مردودٌ بأنه لو كانت » أل « عوضاً من الضمير لَما جُمع بينهما ، وقد جُمع بينهما ، قال النابغة :
296 رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رفيقةٌ ... بجَسِّ الندامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
[ فقال : الجيبِ منها ] ، وأمَّا ما وَرَدَ وظاهرُه ذلك فيأتي تأويله في موضِعِه .
قوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ } تقدَّم الكلامُ في » كُلَّما « ، والعاملُ فيها هنا : » قالوا « ، و » منها « متعلِّق ب » رُزِقوا « ، و » مِنْ « لابتداء الغاية وكذلك » مِنْ ثمرةٍ « لأنها بَدَلٌ من قولِه » منها « بدَلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ ، وإنما قُلْنَا بدلُ اشتمالٍ ، لأنه لا يتعلَّقُ حرفان بمعنىً واحدٍ بعاملٍ واحدٍ إلا على سبيلِ البدليةِ أو العطفِ . وأجاز الزمخشري أن تكونَ » مِنْ « للبيانِ ، كقولِك : رأيت منكَ أسداً . وفيه نظرٌ ، لأنَّ مِنْ شرطِ ذلك أن يَحُلَّ مَحَلَّها موصولٌ وأن يكونَ ما قبلَها مُحَلَّى بأل الجنسية ، وأيضاً فليس قبلَها شيءٌ يَتَبَيَّنُ بها ، وكونُها بياناً لِما بعدها بعيدٌ جداً وهو غيرُ المصطلح .
و » رِزْقاً « مفعولٌ ثانٍ ل » رُزِقوا « وهو بمعنى » مَرْزوقٍ « ، وكونُه مصدراً بعيدٌ لقولِه : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } والمصدرُ لا يؤتى به متشابهاً ، وإنما يُؤْتى بالمرزوق كذلك .
قوله : » قالوا : هذا الذي رُزِقْنا مِنْ قبلُ « » قالوا « هو العاملُ في » كلما « كما تقدَّم ، و { هذا الذي رُزِقْنَا } مبتدأ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول ، وعائدُ الموصولِ محذوفٌ لاستكمالِهِ الشروطَ ، أي : رُزِقْناه . و » مِنْ قَبلُ « متعلِّقٌ به . و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ ، ولَمَّا قُطِعَتْ » قبلُ « بُنِيَتْ ، وإنما بُنِيَتْ على الضَّمةِ لأنها حركةٌ لم تكنْ لها حالَ إعرابها .

واختُلِفَ في هذه الجملةِ ، فقيل : لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ لأنَّها استئنافيةٌ ، كأن قيل لَمَّا وُصِفَت الجناتُ : ما حالُها؟ فقيل : كلما رُزِقوا قالوا . وقيل : لَهَا محلٌّ ، ثم اختُلِفَ فيه فقيل : رفعٌ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، واختُلِفَ في ذلك المبتدأ ، فقيل : ضميرُ الجنات أي هي كلما . وقيل : ضميرُ الذين آمنوا أي : هم كلما رُزقوا قالوا ذلك . وقيل : محلًّها نصبٌ على الحالِ وصاحبُها : إمَّا الذينَ آمنوا وإمَّا جنات ، وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لأنها تَخَصَّصَتْ بالصفةِ ، وعلى هذين تكونُ حالاً مقدَّرةً لأن وقتَ البشارةِ بالجناتِ لم يكونوا مرزوقينَ ذلك . وقيل : مَحَلُّهَا َنَصْبٌ على أنها صفةٌ لجنات أيضاً .
قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } الظاهرُ أنها جملةٌ مستأنفةٌ . وقال الزمخشري فيها : « هو كقولِكَ : فلانٌ أَحْسِنْ بفلان ، ونِعْمَ ما فعل ، ورأى من الرأي كذا ، وكان صواباً ، ومنه : { وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] وما أشْبَه ذلك من الجملِ التي تُساق في الكلام معترضةً فلا محلَّ لها للتقرير » . قلت : يعني بكونها معترضةً أي بين أحوالِ أهل الجنة ، فإنَّ بعدها : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } ، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها أيضاً . وقيل : هي عطفٌ على « قالوا » ، وقيل : محلُّها النصبُ على الحالِ ، وصاحبُها فاعلُ « قالوا » أي : قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ ، ولا بُدَّ من تقديرِ « قد » قبل الفعلِ أي : وقد أُتوا ، وأصلُ أُتُوا : أُتِيُوا مثل : ضُرِبوا ، فَأُعِلَّ كنظائرِه . وقرئ : وأتَوا مبنياً للفاعل ، والضميرُ للوِلْدان والخَدَمْ للتصريحِ بهم في غير موضع . والضميرُ في « به » يعودُ على المرزوق الذي هو الثمرات ، كما أنَّ « هذا » إشارةٌ إليه . وقال الزمخشري : « يعودُ إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأنَّ قولَه : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن . ونظيرُ ذلك قولُه تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] أي : بجنسَي الغنيّ والفقيرِ المدلولِ عليهما بقولِه : غنياً أو فقيراً » . انتهى .
قلت : يَعْني بقولِه : « انطوى تحتَه ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن » أنه لمَّا كان التقديرُ : مثل الذي رُزِقْناه كان قدِ انطوى على المرزوقَيْنِ معاً كما أنَّ قولَكَ : « زيدٌ مثل ُ حاتم » مُنْطَوٍ على زَيد وحاتم . قال الشيخ : « وما قالَه غيرُ ظاهر ، لأنَّ الظاهر عَوْدُه على المرزوق في الآخرةِ فقط ، لأنه هو المُحَدَّثُ عنه ، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه من قبلُ ، لا سيما إذا فسَّرْتَ القبلِيَّةَ بما في الجنة ، فإنه يتعيَّن عَوْدُه على المَرزوق في الجنةِ فقط ، وكذلك إذا أَعْرَبْتَ الجملةَ حالاً ، إذْ يَصيرُ التقديرُ : قالوا : هذا [ مثلُ ] الذي رُزقنا من قبل وقد أُتُوا به [ متشابهاً ] ، لأنَّ الحاملَ لهم على هذا القول كَونُه أُتُوا به متشابهاً وعلى تقديرِ أن يكونَ معطوفاً على » قالوا « لا يَصِحُّ عَوْدُهُ على المرزوقِ في الدارَيْنِ لأنَّ الإِتيانَ إذ ذاك يستحيل أن يكونَ ماضياً معنًى ، لأنَّ العاملَ في » كلما « وما في حَيِّزها يتعيَّنُ هنا أن يكونَ مستقبلَ المعنى ، لأنها لا تَخْلُو من معنى الشرط ، وعلى تقديرِ كونها مستأنفةً لا يظهرُ ذلك أيضاً لأنَّ هذه الجملَ مُحَدَّثٌ بها عن الجنة وأحوالِها » .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

قولُه تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } : « لا يَسْتَحْيي » جملةٌ في محل الرفع خبرٌ ل « إنَّ » ، واستفْعَلَ هنا للإِغناء عن الثلاثي المجرد ، وقال الزمخشري : « إنه موافق له » أي : قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد ، والمشهور : اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف ، وقد جاء استحى يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل : استقى يستقي ، وقُرئ به ، ويروى عن ابن كثير . واختُلف في المحذوفِ فقيل : عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل . وقيل : لامُها فوزنُه يَسْتَفِع ، ثم نُقِلت حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ ، ومن الحَذْفِ قولُه :
301 ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي ... محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ
وقال آخر :
302 إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه ... كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ
والحياءُ لغةً : تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به ، واشتقاقُه من الحياة ، ومعنا على ما قاله الزمخشري : « نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ مجازاً كما يُقال : نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه الأعضاءُ ، جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ الحياةِ ، كما قالوا : فلان هَلَك من كذا حياءً » . انتهى . يعني قوله : « نَسِيَ وَحشِيَ وشَظِيَ » أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ ، وحَشاهُ وهو ما احتوى عليه البطن ، وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك .
واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ ، وقيل : مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه ، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة ، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا : « أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ » قوبل قولُهم ذلك بقوله : « إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ » ، ونظيرُه قول أبي تمام :
303 مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها ... أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ
لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ .
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ ، تقول : اسْتَحْيَتْهُ ، وعليه : « إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ » البيت ، واستَحْيَيْتُ منه ، وعليه : « ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ » البيت ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى « أَنْ يضربَ » بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً ، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه « أنَّ لهم جناتٍ » .
و « يَضْرِبَ » معناه : يُبَيِّنَ ، فيتعدَّى لواحدٍ . وقيل : معناه التصييرُ ، فيتعدَّى لاثنين نحو : « ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً » ، وقال بعضُهم : « لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة » ، فعلى القول الأول يكونُ « مَثَلاً » مفعولاً و « ما » زائدةٌ ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً ، ونظيرُه قولُهم : « لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه » وقولُ امرئ القيس :

304 وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا ... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
وقال أبو البقاء : « وقيل » ما « نكرةٌ موصوفةٌ » ، ولم يَجْعَلْ « بعوضة » صفتَها بل جَعَلَها بدلاً منها ، وفيه نظرٌ ، إذ يَحْتَاجُ أن يُقَدَِّر صفةً محذوفةً ولا ضرورةَ إلى ذلك فكان الأَوْلى أن يَجْعَلَ « بعوضةً » صفتَها بمعنى أنه وَصَفَها بالجنسِ المُنَكَّرِ لإِبهامِه فهي في معنى « قليل » ، وإليه ذهب الفراء والزَّجاج وثعلب ، وتكون « ما » وصفتُها حينئذ بدلاً من « مثلاً » ، و « بعوضةً » بدلاً من « ما » أو عطفَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ « ما » صفةٌ ل « مثلاً » ، أو نعتٌ ل « ما » إنْ قيل : إنها بدلٌ من « مثلاً » كما تقدَّمَ في قولِ الفراء ، وبدلٌ من « مثلاً » أو عطفُ بيان له إنْ قيلَ : إنَّ « ما » زائدةٌ . وقيل : « بعوضة » هو المفعولُ و « مثلاً » نُصِبَ على الحال قُدِّم على النكرةِ . وقيل : نُصِبَ على إسقاطِ الخافض التقديرُ : ما بينَ بعوضةٍ ، فلمَّا حُذِفَتْ « بَيْنَ » أُعربت « بعوضةً » بإعرابها ، وتكونُ الفاءُ في قولِه : « فما فوقها » بمعنى إلى ، أي : إلى ما فوقها ، ويُعْزى هذا للكسائي والفراء وغيرِهم من الكوفيين وأنشدوا :
305 يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ ... ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ
أي : ما بينَ قَرْنٍ ، وحَكَوا : « له عشرون ما ناقةً فَحَمْلاً » ، وعلى القول الثاني يكونُ « مثلاً » مفعولاً أولَ ، و « ما » تحتملُ الوجهين المتقدمين و « بعوضةً » مفعولٌ ثانِ ، وقيل : بعوضةً هي المفعولُ الأولُ و « مَثَلاً » هو الثاني ولكنه قُدِّم .
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في « ما » ثلاثةَ أوجه : زائدةٌ ، صفةٌ لما قبلَها ، نكرةٌ موصوفةٌ ، وأنَّ في « مَثَلاً » ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ ، مفعولٌ ثانِ ، حالٌ مقدَّمةٌ ، وأنَّ في « بعوضة » تسعة أوجهٍ . والصوابُ من ذلك كلّهِ أن يكونَ « ضَرَبَ » متعدياً لواحدٍ بمعنى بَيَّن ، و « مثَلاً » مفعولٌ به ، بدليلِ قولِه : { ضُرِبَ مَثَلٌ } [ الحج : 73 ] ، و « ما » صفةٌ للنكرة ، و « بعوضةً » بدلٌ لا عطفُ بيان ، لأن عطفَ البَيان ممنوعٌ عند جمهور البصريين في النكراتِ .
وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع « بعوضةٌ » ، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ ، فقيل : هو « ما » على أنها استفهاميةٌ ، أي : أيُّ شيء بعوضةٌ ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه . وقيل : المبتدأ مضمرٌ تقديرُه : هو بعوضةٌ ، وفي ذلك وجهان ، أحدُهما : أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً ل « ما » لكونِها بمعنى الذي ، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا في « أيّ » خاصةً لطولِها بالإِضافة ، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو ضرورةٌ ، كقراءةِ : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ } [ الأنعام : 154 ] ، وقولِه :

306 مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ ... ولا يَحِدْ عن سَبيلِ الحَمْدِ والكَرمِ
أي : الذي هو أحسنُ ، وبما هو سَفَهٌ ، وتكونُ « ما » على هذا بدلاً من « مثلاً » ، كأنه قيل : مَثَلاً الذي هو بعوضةٌ . والثاني : أن تُجْعَلَ « ما » زائدةٌ أو صفةً وتكونَ « هو بعوضةٌ » جملةً كالمفسِّرة لِما انطوى عليه الكلامُ .
قولُه : { فَمَا فَوْقَهَا } قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى ، وهو قولٌ مرجوجٌ جداً . و « ما » في { فَمَا فَوْقَهَا } إن نَصَبْنا « بعوضةً » كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى الذي ، وصلتُها الظرفُ ، أو موصوفةً وصفتُها الظرفُ أيضاً ، وإنْ رَفَعْنَا « بعوضةٌ » ، وجَعَلْنَا « ما » الأولى موصولةً أو استفهاميةً فالثانيةُ معطوفةٌ عليها ، لكنْ في جَعْلِنا « ما » موصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ المفرداتِ ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ ، وإنْ جَعَلْنَا « ما » زائدةً أو صفةً لنكرة و « بعوضةٌ » خبراً ل « هو » مضمراً كانت « ما » معطوفةً على « بعوضة » .
والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٌ ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع ، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع ، وكذلك البَضْعُ والعَضْب ، قال :
307 لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار ... إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا
ومعنى : { فَمَا فَوْقَهَا } أي : في الكِبَر وهو الظاهرُ ، وقيل : في الصِّغَرِ .
قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ } « أمَّا » : حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ وفِعْله ، كذا قدَّره سيبويه ، قال : « أمَّا » بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ « . وقال الزمخشري : » وفائدتُه في الكلامِ أن يُعْطيه فَضْلَ توكيدٍ ، تقولُ : زيدٌ ذاهبٌ ، فإذا قَصَدْتَ توكيدَ ذلك وأنه لا محالةَ ذاهبٌ قلت : أمَّا زيدٌ فذاهبٌ « وذَكَر كلاماً حسناً بليغاً كعادتِه في ذلك . وقال بعضُهم : » أمَّا « حرفُ تفصيلٍ لِما أَجْمَلَه المتكلِّمُ وادَّعاه المخاطبُ ، ولا يليها إلا المبتدأ ، وتَلْزَمُ الفاءُ في جوابها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ أو مقدَّرٍ كقوله : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقالُ لهم : أَكَفَرْتُمْ ، وقد تُحْذَفُ حيث لا قولٌ ، كقوله :
308 فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ ... ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ
أي : فلا قتالَ ، ولا يجوزُ أن تليها الفاءُ مباشرةً ولا أن تتأخَّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ لو قلت : » أمّا زيدٌ منطلقٌ ففي الدار « لم يَجُزْ ، ويجوز أنْ يتقدَّم معمولُ ما بعد الفاءِ عليها ، متليٌّ أمّا كقوله :

{ فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ، ولا يجوز الفصلُ بين أمَّا والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد ، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء .
وإنْ وَقَعَ بعدها مصدرٌ نحو : أمَّا عِلْماً فعالمٌ « : فإنْ كان نكرةً جاز نصبُه عند التميميين برُجْحَان ، وضَعُفَ رفعُه ، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرفع . وأجاز الحجازيون فيه الرفعَ والنصْبَ ، نحو : » أمَّا العلمُ فعالمٌ « ونصبُ المنكَّرِ عند سيبويهِ على الحالِ ، والمعرَّفُ مفعولٌ له . وأمَّا الأخفشُ فنصبُهما عنده على المفعول المطلق . والنصبُ بفعلِ الشرط المقدَّر أو بما بعد الفاء ما لم يمنْع مانعٌ فيتعيَّنُ فعلُ الشرطِ نحو : أمَّا علماً فلا علَمَ له » أو : فإنَّ زيداً عالمٌ ، لأن « لا » و « إنَّ » لا يعملُ ما بعدهما فيما قبلهما ، وأمَّا الرفعُ فالظاهرُ أنه بفعلِ الشرط المقدَّر ، أي : مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالمٌ ، ويجوز أن يكونَ مبتدأ وعالمٌ خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، والجملَةُ خبرهُ ، والتقديرُ : أمَّا علمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالِمٌ به وجازَ الابتداءُ بالنكرة لأنه موضعُ تفصيلِ ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا .
و { الذين آمَنُواْ } في محلِّ رفع بالابتداء ، و { فَيَعْلَمُونَ } خبرُه . قوله : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } الفاءُ جوابُ أمَّا ، لِما تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و « أنَّه الحقُّ » سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند الجمهورِ ، ومَسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي : فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً . وقال الجمهور : لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ وجودَ النسبةِ فيما بعدَ « أنَّ » كافٍ في تَعَلُّق العلمِ أو الظنِّ به ، والضميرُ في « أنَّه » عائدٌ على المَثَل . وقيل : على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل ، وقيل : على تَرْكِ الاستحياءِ . و « الحقُّ » هو الثابتُ ، ومنه « حَقَّ الأمرُ » أي : ثَبَتَ ، ويقابِلُه الباطلُ .
وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن « الحق » أي : كائناً وصادراً مِنْ ربهم ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ . وقال أبو البقاء : « والعامل فيه معنى الحقِّ ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه » أي : في الحق ، لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً .
قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله } اعلَمْ أنَّ « ماذا صنعت » ونحوَه له في كلامِ العربِ ستةُ استعمالات : أن تكون « ما » اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ ، و « إذا » اسمُ إشارةٍ خبرهُ . والثاني : أن تكونَ « ما » استفهاميةً وذا بمعنى الذي ، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله :
209 ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ ... أَنَحْبٌ فيقضى أم ضَلالٌ وباطِلُ
ف « ذا » هنا بمعنى الذي لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ وهو « أَنَحْبٌ » ، وكذا { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] في قراءة أبي عمرو .

والثالث : أن يُغَلَّبَ حكمُ « ما » على « ذا » ، فَيُتْرَكا ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ منه كقولِه : { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } في قراءة غير أبي عمروٍ ، و « ماذا أَنْزَلَ ربُّكم ، قالوا : خيراً : عند الجميع ، ومنه قوله :
310 يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم ... لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنانَا
ف » ماذا « مبتدأ ، و » بالُ نسوتكم « خبرُه . الرابع : أن يُجْعَلَ » ماذا « بمنزلةِ الموصول تغليباً ل » ذا « على » ما « ، عكسَ ما تقدَّم في الصورة قبلَه ، وهو قليلٌ جداً ، ومنه قولُ الشاعر :
311 دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه ... ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئِيني
فماذا بمعنى الذي لأنَّ ما قبله لا يُعَلَّقُ . الخامسُ : زعم الفارسي أن » ماذا « كلَه يكونُ نكرةً موصوفةً وأنشد : » دَعي ماذا عَلِمْتِ « أي : دَعي شيئاً معلوماً وقد تقدَّم تأويلُه . السادس : وهو أضعفُها أن تكونَ » ما « استفهاماً و » ذا « زائدةً وجميعُ ما تقدَّم يصلُح أن يكون مثالاً له ، ولكنَّ زيادةَ الأسماءِ ممنوعةٌ أو قليلةٌ جداً .
إذا عُرِفَ ذلك فقولُُه : { مَاذَآ أَرَادَ الله } يجوزُ فيه وجهان دونَ الأربعةِ الباقيةِ ، أحَدُهما : أن تكونَ » ما « استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وذا بمعنى الذي ، و » أراد الله « صلةٌ والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ شروطِه ، تقديره : أرادَه اللهُ ، والموصولُ خبرُ » ما « الاستفهاميةِ . والثاني : أن تكونَ » ماذا « بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ في محلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعد تقديرُه : أيَّ شيء أرادَ الله ، ومحلٌّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ .
[ والإِرادةُ لغةً : طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه ، وقد تتجرَّدُ للطلبِ ، وهي التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي : طَلَب ، فأصلُ أراد أَرْوَدَ مثل أَقام ، والمصدرُ الإِرادةُ مثلُ الإِقامةِ ، وأصلُها : إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث ] .
قوله : » مَثَلاً « نصبٌ على التمييزِ ، قيل : جاءَ على معنى التوكيدِ ، لأنه من حيث أُشير إليه ب » هذا « عُلِم أنه مثلٌ ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم الذي أُشير إليه . وقيل : نصبٌ على الحال ، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل : اسمُ الإِشارةِ ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ ، وقيل : اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً بذلك ، وقيل : على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين ، ومعناه عندهم : أنه كان أصلُه أَنْ يَتْبَعَ ما قبلَه والأصلُ : بهذا المثلِ ، فلمَّا قُطِع عن التبعيةِ انتصبَ ، وعلى ذلك قولُ امرئ القيس :
312 سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ ... وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ أَحْمَرَا
أصله : من البسر الأحمر .
قوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } » الباء « للسببيةِ ، وكذلك في { يَهْدِي بِهِ } وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ ب » أمَّا « ، وهما من كلام الله تعالى ، وقيل : في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً ، أي : مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به ، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين ، وهما على هذا من كلامِ الكفار وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي : مُضِلاً به كثيراً وهادياً به كثيراً .

وجَوَّزَ ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } من كلام الكفار ، وجملةُ قوله : { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من كلام الباري تعالى . وهذا ليس بظاهرٍ ، لأنه إلباسٌ في التركيب . والضميرُ في « به » عائدٌ على « ضَرْب » المضاف تقديراً إلى المثل ، أي : بِضَرْب المَثَل ، وقيل : الضمير الأول للتكذيبِ ، والثاني للتصديق ، ودلَّ على ذلك قُوَّةُ الكلام .
وقُرئَ : { يُضِلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثيرٌ ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون } بالبناء للمفعول ، وقُرئَ أيضاً : { يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ ، وما يَضِلُّ بِه إلا الفاسقون } بالبناء للفاعل ، قال بعضهم : « وهي قراءة القَدَرِيَّة » قلت : نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة ، ثم قال : « وابنُ أبي عَبْلة مِنْ ثِقات الشاميّين » يعني قارئها ، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف . فإن قيل : كيف وَصَف المهتدين هنا بالكثرةِ وهم قليلون ، لقوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ؟ فالجوابُ أنهم وإن كانوا قليلين في الصورة فهم كثيرون في الحقيقةِ كقولِهِ :
313 إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ ... قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ كَثُروا
فصار ذلك باعتبارَيْن .
قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } . الفاسقين : مفعولٌ ل « يُضِلُّ » وهو استثناءٌ مفرغٌ ، وقد تقدَّم معناه ، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على الاستثناء ، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه : وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين كقوله :
314 نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه ... ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومِئْزَرا
أي : لم ينجُ بشيء ، ومنعَ أبو البقاء نصبَه على الاستثناءِ ، كأنه اعتبرَ مذهبَ جمهورِ البصريين .
والفِسْقُ لغةً : الخروجُ ، يقال : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها ، أي : خَرَجَتْ ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى ، يقال : فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ . وزعم ابن الأنباري أنه لم يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ ، وهذا عجيب ، قال رؤبة :
315 يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً ... فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

قوله تعالى : { الذين يَنقُضُونَ } . . فيه أربعة أوجهٍ ، أحدُها : أنْ يكونَ نعتاً للفاسِقين . والثاني : أنه منصوبٌ على الذمِّ . والثالث أنه مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه الجملةُ من قوله : { أولئك هُمُ الخاسرون } . والرابع : أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : هم الفاسقون .
والنَّقْضُ : حَلُّ تركيب الشيءِ والرجوعُ به إلى الحالة الأولى . والعهدُ في كلامِهم على معانٍ منها : الوصيةُ والضمانُ والاكتفاءُ والأمرُ . والخَسار : النقصانُ في ميزان أو غيره ، قال جرير :
316 إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ ... أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ
وخَسَرْتُ الشيء بالفتح وأَخَسَرْتُه نَقَصْتُه ، والخُسْران والخَسار والخيسرى كلُّه بمعنى الهلاك .
و « مِنْ بعد » متعلقٌ ب « يَنْقْضُون » ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وقيل : زائدةٌ وليس بشيء . و « ميثاقَه » الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ ، وأن يعودَ على اسم الله تعالى ، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ ، وعلى الثاني مضافٌ للفاعل ، والميثاقُ مصدرٌ كالميلادِ والميعادِ بمعنى الولادةِ والوَعْد ، وقال ابنُ عطية : « وهو اسمٌ في موضعِ المصدرِ كقولِهِ :
317 أكُفْراً بعدَ رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عطائِك المئةَ الرِّتاعا
أي : إعطائك » ، ولا حاجة تدعُو إلى ذلك . والمادةُ تَدُلُّ على الشَدِّ والربطِ وجمعُه مواثيق ومياثِق وأنشد ابن الأعرابي :
318 حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإذنِنا ... ولا نَسْأَل الأقوامَ عهدَ المَيَاثِقِ
و « يقطعونَ » عطف على « ينقصون » فهي صلةٌ أيضاً ، و « ما » موصولةٌ ، و { أَمَرَ الله بِهِ } صلتُها وعائدُها . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً ، ولا يجوز أن تكونَ مصدرِيَّةً لعَوْدِ الضميرِ عليها إلا عند أَبي الحسن وابن السراج ، وهي مفعولةٌ بيَقْطَعون .
قوله : { أَن يُوصَلَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : الجرُّ على البدلِ من الضمير في « به » أي : ما أمرَ اللهُ بوَصْلِهِ ، كقول امرئ القيس :
319 أمِنْ ذِكْرِ ليلى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرُ عنها خَطْوَةً وتَبُوصُ
أي : أمِنْ نَأْيِها . والنصبُ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ من ما أمر اللهُ بدلُ اشتمالٍ . والثاني : أنه مفعولٌ من أجله ، فقدَّره المهدوي : كراهةَ أن يُوصل ، وقدَّرَهُ غيرُه : أن لا يُوصلَ . والرفع [ على ] أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي هو أن يُوصلَ ، وهذا بعيدٌ جداً ، وإنْ كان أبو البقاء ذَكَرَهُ .
و { يُفْسِدُونَ } عطفٌ على الصلةِ أيضاً و { فِي الأرض } متعلِّقٌ به . وقولُه { أولئك هُمُ الخاسرون } كقولِهِ : { وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] . وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ خبراً عن { الذين يَنقُضُونَ } إذا جُعِلَ مبتدأً ، وإنْ لم يُجْعَلْ مبتدأ فهي مستأنفةٌ فلا محلَّ لها حينئذٍ . وتقدم معنى الخَسار ، والأمرُ : طلبُ الأعلى من الأدنى .

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } : « كيف » اسمُ استفهامٍ يُسْأَلُ بِهِ عن الأحوالِ ، وبُنِيَ لتضمُّنِهِ معنى الهمزة ، وبُنِيَ على أخفِّ الحركات ، وشَذَّ دخولُ حرفِ الجرِّ عليها ، قالوا : « على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ » ، وكونهُا شرطاً قليلٌ ، ولا يُجزْم بها خلافاً للكوفيين ، وإذا أُبْدِل منها اسمٌ أو وَقَعَ جواباً لها فهو منصوبٌ إن كان بعدها فعلٌ متسلِّطٌ عليها نحو : كيف قمت؟ أصحيحاً أم سقيماً ، وكيف سِرْت؟ فتقول : راشداً ، وإلاَّ فمرفوعان : نحو : كيف زيدٌ؟ أصحيحٌ أم سقيمٌ . وإنْ وقعَ بعدَها اسمٌ مسؤولٌ عنه بها فهو مبتدأٌ وهي خبرٌ مقدَّمٌ ، نحو : كيف زيدٌ؟ وقد يُحْذَفُ الفعلُ بعدَها ، قال تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } [ التوبة : 8 ] أي كيف تُوالونهم . و « كيفَ » في هذه الآيةِ منصوبةٌ على التشبيهِ بالظرف عند سيبويه ، أي : في أيِّ حالةٍ تكفُرون ، وعلى الحالِ عند الأخفشِ ، أي : على أي حالٍ تكفُرون ، والعاملُ فيها على القولين « تكفرون » وصاحبُ الحالِ الضميرُ في تكفرون ، ولم يَذْكر أبو البقاء غيرَ مذهبِ الأخفشِ ، ثم قال : « والتقدير : معانِدين تكفرون . وفي هذا التقدير نظرٌ ، إذ يذهبَ معه معنى الاستفهام المقصودِ به التعجبُ أو التوبيخُ أو الإِنكارُ ، قال الزمخشري بعد أَنْ جَعَلَ الاستفهامَ للإِنكارِ : » وتحريرهُ أنه إذا أنْكَرَ أن يكونَ لكفرهم حالٌ يُوجَدُ عليها ، وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ موجودٍ لا بُدَّ له من حالٍ ، ومُحالٌ أن يُوجَدَ بغيرِ صفةٍ من الصفاتِ كان إنكاراً لوجودِه على الطريق البرهاني « .
وفي الكلام التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قولِه : » وأمَّا الذين كفروا « إلى آخره ، إلى الخطاب في قولِهِ : » تَكْفُرون ، وكُنْتُم « . وفائدتُهُ أنَّ الإِنكارَ إذا توجَّه إلى المخاطبِ كان أبلغَ . وجاء » تكفرونَ « مضارعاً لا ماضياً لأنَّ المُنْكَرَ الدوامُ على الكفرِ ، والمضارعُ هو المُشْعِرُ بذلك ، ولئلا يكونَ ذلك تَوْبيخاً لمَنْ آمَنَ بعد كُفْر .
و » كَفَرَ « يتعدَّى بحرف الجر نحو : { تَكْفُرُونَ بالله } { تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } [ آل عمران : 70 ] { كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] ، وقد تعدَّى بنفسه في قوله تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } [ هود : 68 ] وذلك لمَّا ضُمِّن معنى جَحَدوا .
قوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } الواوُ واوُ الحالِ ، وعلامتُها أن يَصْلُح موضِعَها » إذ « ، وجملَةُ { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } في محلِّ نصبٍ على الحال ، ولا بد من إضمار » قد « ليصِحَّ وقوعُ الماضي حالاً . وقال الزمخشري : » فإن قلت « كيف صَحَّ أن يكونَ حالاً وهو ماضٍ بها؟ قُلْتُ : لَمْ تَدْخُل الواوُ على { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } وحدَه ، ولكنْ على جملة قوله : { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } إلى { تُرْجَعُونَ } ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتُكم هذه وحالُكم أنكم كنتم أمواتاً نُطَفَاً في أصْلاَبِ آبائكم فَجَعَلَكم أحياءً ، ثم يُميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يُحْييكم بعد الموتِ ثم يُحاسِبُكم » .

ثم قال : « فإنْ قلتَ : بعضُ القصةٍ ماضٍ وبعضُها مستقبلٌ ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يَصِحُّ أن يقعَ حالاً حتى يكونَ فعلاً حاضراً وقتَ وجودِهَا هو حالٌ عنه فما الحاضرُ الذي وقع حالاً؟ قلت : هو العلمُ بالقصة كأنه قيل : كيف تكفرونَ وأنتم عالمونَ بهذه القصة بأولِها وبآخرها »؟ قال الشيخُ ما معناه : هذا تَكَلُّفٌ ، يعني تأويلَه هذه الجملةَ بالجملةِ الاسمية . قال : « والذي حَمَله على ذلك اعتقادُه أنَّ الجملَ مندرجةٌ في حكمِ الجملةِ الأولى » . قال : « ولا يتعيَّن ، بل يكونُ قولُه تعالى : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } وما بعده جملاً مستأنفةً أَخْبَرَ بها تعالى لا داخلةً تحت الحالِ ، ولذلك غايَرَ بينها وبين ما قبلَها من الجملِ بحرفِ العطفِ وصيغةِ الفعل السابقَيْنِ لها في قولِهِ : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } .
والفاءُ في قولِه : » فَأَحْيَاكُمْ « على بابِها مِن التعقيبِ ، و » ثم « على بابها من التراخي ، لأنَّ المرادَ بالموتِ الأول العدَمُ السابقُ ، وبالحياةِ الأولى الخَلْقُ ، وبالموتِ الثاني الموتُ المعهودُ ، وبالحياةِ الثانية الحياةُ للبعثِ ، فجاءت الفاءُ و » ثم « على بابِهما من التعقيبِ والتراخي على هذا التفسير وهو أحسنُ الأقوالِ ، ويُعْزَى لابنِ عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوعُ إلى الجزاءِ أيضاً متراخٍ عن البعثِ . والضميرُ في » إليه « لله تعالى ، وهذا ظاهرٌ لأنه كالضمائر قبلَه وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : إلى ثوابِهِ وعقابِه . وقيل : على الجزاءِ على الأعمالِ . وقيل : على المكانِ الذي يَتَوَلَّى اللهُ فيه الحكمَ بينكم . وقيل : على الإِحياء المدلولِ عليه بأَحْياكم ، يعني أنكم تُرْجَعُون إلى الحالِ الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياةِ الأولى من كونِكم لا تَمْلِكُون لأنفسِكم شيئاً .
والجمهورُ على قراءة » تُرْجَعُون « مبنياً للمفعولِ ، وقُرِئَ مبنيّاً للفاعل حيث جاء ، ووجهُ القراءتين أنَّ » رَجَع « يكونُ قاصراً ومتعدياً ، فقراءةُ الجمهورِ من المتعدِّي وهو أرجحُ؛ لأنَّ أصلَها : » ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجِعُكُمْ « لأنَّ الإِسنادَ في الأفعالِ السابقة لله تعالى ، فيناسِبُ أن يكونَ هذا كذا ولكنه بُنِيَ للمفعول لأجل الفواصل والقواطع .
وأَمْوات جمعُ » مَيِّت « وقياسُه على فعائِلِ كسَيّد وسَيَائِدِ ، والأَوْلَى أن يكون أموات جمع مَيْت مخفَّفاً كأقوال في جمع قَيْل ، وقد تقدَّمت هذه المادةُ .

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ } : هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ المذكر ، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها ، وقد تُشَدَّد كقوله :
320 وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
وقد تُسَكَّنُ ، وقد تُحْذَفُ كقوله :
321 فَبَيْنَاهُ يَشْرِي . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه . و « لكم » متعلقٌ بَخَلَقَ ، ومعناه السببيةُ ، أي : لأجلِكم ، وقيل : للمِلْك والإِباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه ، وقيلَ : للاختصاص ، و « ما » موصولةٌ و « في الأرض » صلُتها ، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بها ، و « جميعاً » حالٌ من المفعول بمعنى كل ، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمانِ ، وهذا هو الفارقُ بين قولِك : « جاؤوا جميعاً » و « جاؤوا معاً » ، فإنَّ « مع » تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع . قيل : وهي هنا حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه : « ما في الأرضِ » عامٌّ .
قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أصل « ثُمَّ » أن تقتضيَ تراخياً زمانياً ، ولا زمانَ هنا ، فقيل : إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ . وقيل : لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ .
واستوى معناه لغةً : استقامَ واعتدلَ ، مِن استوى العُود . وقيل : عَلاَ وارتفع قال الشاعر :
322 فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ ... وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى
وقال تعالى : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } [ المؤمنون : 28 ] ، ومعناه هنا قَصَد وعَمَدَ ، وفاعل استوى ضميرٌ يعودُ على الله ، وقيل : يعودُ على الدخان نقله ابن عطية ، وهذا غلطٌ لوجهين ، أحدهُما : عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه ، والثاني : أنه يَرُدُّهُ قولُه : ثُمَّ استوى إلى السماء ، وهي « دُخانٌ » . و « إلى » حرفُ انتهاءٍ على بابها ، وقيل : هي بمعنى « على » فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر :
323 قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ ... مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
أي : استولى ، ومثلُه قول الآخر :
324 فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ
وقيل : ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ ، و { إِلَى السمآء } متعلِّقٌ ب « استوى » ، و « فَسَوَّاهُنَّ » الضميرُ يعودُ على السماءِ : إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على الجَمْعِ ، وقال الزمخشري : « هُنَّ » ضميرٌ مُبْهَمٌ ، و « سبعَ سماواتٍ » يُفَسِّرُهُ كقولِهم : « رُبَّه رَجُلاً » . وقد رُدَّ عليه هذا ، فإنَّه ليس من المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه ، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في سبعةِ مواضع : ضميرِ الشأن ، والمجرور ب « رُبَّ » ، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما جرى مَجْراهما ، وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسَّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه ، ثم قال هذا المعترض : « إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ » سبع سماواتٍ « بدلاً وهو الذي يقتضيه تشبيهُه برُبَّه رجلاً ، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه ، لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً كلياً ، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما : أنه استوى إلى السماء .

والثاني : أنه سَوَّى سبع سماوات ، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه .
قوله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } في نصبه خمسةُ أوجه ، أحسنُها : أنه بدلٌ من الضميرِ في { فَسَوَّاهُنَّ } العائدِ على السماءِ كقولِكَ : أخوك مررتُ به زيدٍ . الثاني : أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً ، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده . وهذا يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري ، وقد تقدَّم آنِفاً . الثالث : أنه مفعولٌ به ، والأصلُ : فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سماواتٍ ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [ الأعراف : 155 ] أي : مِنْ قومه ، قاله أبو البقاء وغيرُه . وهذا ضعيفٌ لوجهين ، أحدُهما بالنسبة إلى اللفظِ . والثاني بالنسبة إلى المعنى . أمَّا الأولُ : فلأنه ليس من الأفعالِ المتعديةِ لاثنينِ أحدُهما بإسقاطِ الخافضِ لأنها محصورةٌ في أمر واختار وأخواتِهما . الثاني : أنه يقتضي أن يكونَ ثَمَّ سماواتٌ كثيرةٌ ، سوَّى من جملتِها سبعاً وليس كذلك . الرابعُ : أنَّ « سَوَّى » بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين ، فيكونُ « سبع » مفعولاً ثانياً ، وهذا لم يَثْبُت أيضاً أعني جَعْلَ « سَوَّى » مثل صَيَّرَ . الخامس : أن ينتصبَ حالاً ويُعْزَى للأخفش . وفيه بُعْدٌ من وجهين : أحدُهما : أنه حالٌ مقدَّرَةٌ وهو خلافُ الأصل . والثاني : أنها مؤولةٌ بالمشتقِّ وهو خلافُ الأصلِ أيضاً .
قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } « هو » مبتدأ و « عليمٌ » خبره ، والجارُّ قبلَه يتعلَّق به .
واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء « هو » و « هي » بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم ، نحو : { فَهِيَ كالحجارة } [ البقرة : 74 ] ، { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة } [ القصص : 61 ] { لَهُوَ الغني } [ الحج : 64 ] { لَهِيَ الحيوان } [ العنكبوت : 64 ] ، تشبيهاً ل « هو » بعَضْد ، ول « هي » بكَتْف ، فكما يجوز تسكين عين عَضُد وكَتِف يجوزُ تسكينُ هاء « هو » و « هي » بعد الأحرفِ المذكورةِ ، إجراء للمنفصل مُجْرى المتصلِ لكثرةِ دَوْرِها مَعَها ، وقد تُسَكَّنُ بعد كافِ الجرِّ كقوله :
325 فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي ... سُلُوٌّ ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً مُتَيَّمَا
وبعد همزة الاستفهامِ كقوله :
326 فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي ... فقلتُ أَهْيَ سَرَتْ أم عادني حُلُمُ
وبعد « لكنَّ » في قراءة ابن حمدون : { لَّكِنَّ هْوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] وكذا من قوله : { يُمِلُّ هْوَ } [ البقرة : 282 ] .
فإن قيل : عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء ، وكان مِنْ حقِّه إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية ، وإذا تأخَّرَ أَنْ يتعدَّى إليه بنفسه فقط؟ أن أمثلةَ المبالغةِ خالفَتْ أفعالَها وأسماءَ فاعِليها لمعنى وهو شَبَهُها بأَفْعل التفضيل بجامعِ ما فيها من معنى المبالغةِ ، وأفعلُ التفضيلِ له حُكْمٌ في التعدِّي ، فأُعْطِيتَ أمثلةُ المبالغةِ ذلك الحُكْمَ : وهو أنها لا تخلُو من أن تكونَ من فِعْلٍ متعدٍّ بنفسِه أولا ، فإن كان الأول : فإمّا أن يُفْهِمَ علماً أو جهْلاً أَوْ لا ، فإن كان الأولَ تعدَّت بالباء نحو :

{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } [ النجم : 32 ] { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ الحديد : 6 ] وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به . وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو : أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب ، ومنه { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو : أنا أصبرُ على كذا ، وأنا صبورٌ عليه ، وأزهدُ فيه منك ، وزهيدٌ فيه . وهذا مقررٌ في علم النحو .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } : « إذ » ظرفُ زمانٍ ماضٍ ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار ، وتليه الجملُ مطلقاً ، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو : إذ زيدٍ قام ، ولا يتصرَّفُ إلا بإضافةِ الزمنِ إليه نحو : يومئذٍ وحينئذٍ ، ولا يكون مفعولاً به ، وإن قال به أكثرُ المُعْرِبين ، فإنهم يُقَدِّرونَ : اذكر وقتَ كذا ، ولا ظرفَ مكان ولا زائداً ولا حرفاً للتعليل ولا للمفاجأة خلافاً لزاعمي ذلك ، وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] ، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش ، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال :
327- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ... بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ
وللأخفشِ أن يقولَ : أصلُه « وأنتَ حينئذٍ » فلمّا حُذِفَ المضافُ بقي المضافُ إليه على حَالِه ولَم يَقُمْ مَقامَه ، نحو : { والله يُرِيدُ الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بالجر ، إلا أنه ضعيفٌ .
و { قَالَ رَبُّكَ } جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها .
واعلم أنَّ « إذ » فيه تسعةُ أوجه ، أحسنُها أنه منصوبٌ ب { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا } أي : قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم : إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً ، وهذا أسهلُ الأوجهِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب « اذكُرْ » مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً . الثالث : أنه منصوبٌ ب « خَلَقَكم » المتقدمِ في قولِه : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } [ النساء : 1 ] والواو زائدةٌ . وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ . الرابعُ : أنه منصوبٌ ب « قال » بعده . وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف . الخامس : أنه زائدٌ ويعزى لأبي عبيد . السادس : أنه بمعنى قد . السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك . الثامن : أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق ، تقديرُه : ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول ، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف . التاسع : أنه منصوبٌ ب « أحياكم » مقدَّراً ، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً .
و « للملائكة » متعلِّقٌ ب « قال » واللامُ للتبليغ . وملائكةٌ جمع مَلَك . واختُلِف في « مَلَك » على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه ، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا ، فقال بعضهم : مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك ، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط . وقال بعضهم : بل أصلُهُ مَلأّك ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً ، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء . والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من « أَلَك » أي : أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام ، ويدلُّ عليه قوله :

328 أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ... غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر :
329 وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه ... بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر :
330- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ... أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ : مَأْلَك ، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء ، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل ، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، فيكونُ وزنُ مَلَكَ : مَعَلاً بحَذْفِ الفاء . ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً ، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال :
331 فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ ، فوزن ملائِكَة على هذا القول : مفاعِلَة ، وعلى القولِ الذي قبلَه : معافِلَة بالقلب . وقيل : هو مشتقٌّ من : لاكَه يَلُوكه أي : أداره يُديره ، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه ، فأصل مَلَك : مَلْوَك ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها ، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام ، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً ، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل ، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا : مصائِب ومنائِر ، قُُرئ شاذاً : « معائِش » بالهمز ، فهذه خمسةُ أقوال . والسادس : قال النضر بن شميل : « لا اشتقاقَ للملك عند العرب » .
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو : صَلادِمة . وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة ، وليس بشيء ، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً ، قال الشاعر :
332 أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ... قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القولِ ، فهي في محلِّ نصبٍ به ، وكُسِرت « إنَّ » هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به ، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان : الفتحُ والكسرُ ، وأنشدوا :
333 إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ ... نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر
وكان ينبغي أن يُفَتَح ليسَ إلاَّ نظراً لمعنى الظنِّ ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاةً لصورةِ القولِ .
و « إنَّ » على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ يجب فيه كَسْرُها ، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان ، وليس هذا موضعَ تقريرِه ، بل يأتي في غضون السور ، ولكن الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو : بلغني أنك قائمٌ ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء ، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في هذا الضابطِ .

و « جاعلٌ » فيه قولان ، أحدُهما أنه بمعنى خالق ، فيكونُ « خليفةً » مفعولاً به ، و « في الأرض » فيه حينئذ قولان ، أحدُهما وهو الواضح أنه متعلقٌ بجاعلٌ . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه . القولُ الثاني : أنه بمعنى مُصَيِّر ، ولم يَذْكر الزمخشري غيرَه ، فيكونُ خليفةً « هو المفعولَ الأولَ ، و » في الأرض « هو الثانيَ قُدِّم عليه ، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر . و » خليفة « يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي : يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل : بمعنى مفعول أي : يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه ، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً . إلا أن يُقال : » إنَّ « خليفةً » جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة . وإنما وُحِّد « خليفة » وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه ، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو : مُضَر ورَبِيعة ، وقيل : المعنى على الجنس .
وقرئ : « خليقةً » بالقاف .
و « خليفةً » منصوبٌ ب « جاعل » كما تقدَّم ، لأنَّه اسمُ فاعل . واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام ، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية .
قوله : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ } قد تقدَّم أن « قالوا » عامل في « إذ قال ربُّك » وأنه المختارُ ، والهمزةُ في « أتجعل » للاستفهامِ على بابها ، وقال الزمخشري : « للتعجب » ، وقيل : للتقرير كقوله :
334 ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا ... وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ
وقال أبو البقاء : « للاستشهاد » ، أي : أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِد كَمَنْ كان قبلُ « وهي عبارةٌ غريبةٌ . و » فيها « الأولى متعلقةٌ ب » تَجْعَل « إن قيل : إنها بمعنى الخَلْق ، و » مَنْ يُفْسِدُ « مفعولٌ به ، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون » فيها « مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو » مَنْ يفسد « ، و » مَنْ « تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب ، وعلى الثاني محلُّها النصب ، و » فيها « الثانيةُ مُتَعلقةٌ ب » يُفْسِدُ « . و » يَسْفِكُ « عطفٌ على » يُفْسِدُ « بالاعتبارين .
والجمهورُ على رَفْعِهِ ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار » أَنْ « كقوله :
335 أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى ... وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ
وقال ابن عطية : » منصوبٌ بواو الصَرْف « وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب ، والمشهورُ » يَسْفِك « بكسر الفاء ، وقُرئ بضمِّها ، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير .

والسَّفْكُ : هو الصَّبُّ ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ ، وقال ابن فارس ، والجوهري : « يُستعمل أيضاً في الدمع » . وقال المَهدوي « ولا يُستعمل السفك إلا في الدَّمِ ، وقد يُستعمل في نثرِ الكلامِ ، يقال : سَفَكَ الكلامَ أي : نثره » .
والدِّماء : جمعُ دَمٍ ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين ، فلا بدَّ له من ثالث محذوفٍ هو لامُه ، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً ، لقولِهم في التثنيةِ : دَمَوان ودَمَيان ، قال الشاعر :
336- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين
وهل وزنُ دم « فَعْل » بسكون العين أو فَعَل بفتحها قولان ، وقد يُرَدُّ محذوفُه ، فَيُسْتعملُ مقصوراً كعصا وغيرِه ، وعليه قولُه :
337 كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها ... أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً
غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه ... فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً
وقد تُشَدَّدُ ميمُه أيضاً ، قال الشاعر :
338 أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه ... يا عمروُ بَغْيُكَ إصراراً على الحَسَد
وأصلُ : الدِّماء : الدِّماو أو الدِّماي ، فقُلب حرفُ العلةِ همزةً لوقوعِه طَرَفاً بعد ألفٍ زائدةً نحو : كساء ورداء .
قولُه : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } الواوُ للحال ، و { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، في محلِّ النصب على الحال ، و « بحمدك » متعلقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ أيضاً ، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين بحمدك ، نحو : « جاء زيد بثيابِه » فهما حالان متداخلتان ، أي حالٌ في حال . وقيل : الباءُ للسببية ، فتتعلَّق بالتسبيح . قال ابن عطية : « ويُحْتمل أن يكونَ قولُهم : » بحمدِكَ « اعتراضاً بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبِّح ونقدِّس ، ثم اعترضُوا على جهةِ التسليم ، أي : وأنتَ المحمودُ في الهداية إلى ذلك » قلتُ : كأنه يحاول أن تكونَ الباءُ للسببية ، ولكن يكونُ ما تعلَّقَتْ به الباءُ فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديرُه : حَصَلَ لنا التسبيحُ والتقديسُ بسببِ حمدك .
والحمدُ هنا : مصدرٌ مضاف لمفعولِه ، وفاعلُه محذوف تقديره : بحمدِنا إياك . وزعم بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه ، على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو : ضرباً زيداً ، هل يَتَحَّملُ ضميراً أم لا؟ وقد تقدَّم .
و « نُقَدِّسُ » عطف على « نُسَبِّح » فهو خبر أيضاً عن « نحن » ومفعولُه محذوفٌ أي : نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك ، و « لكم » متعلِّقٌ بِه أو ب « نُسَبِّح » ، ومعناها العلةُ ، وقيل : هي زائدةٌ ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه ، وهو ضَعيفٌ إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً ، وقيل : هي مُعَدِّيَةٌ نحو : سجدت لله ، وقيل : هي للبيان ، كهي في قولك : سُقْياً لك ، فعلى هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : تقديسُنا لك .

وهذا التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم : « أعني » لأنه أليقُ بالموضِع . وأبعدَ مَنْ زَعَم أنَّ جملةَ قولِه « ونحنُ نسبِّح » داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ تقديرُه : وأنحن نسبِّح أم نتغيَّر . واستحسنه ابن عطية مع القولِ بالاستفهام المحضِ في قولهم : « أتجعلُ » ، وهذا يَأْباه الجمهورُ ، أعني حَذْفَ همزةِ الاستفهام مِنْ غيرِ ذِكْر « أم » المعادِلةِ وهو رأيُ الأخفش ، وجَعَل مِن ذلك قَولَه تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] أي : وأتلك نعمةٌ ، وقول الآخر :
339 طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَب
أي : وأذو الشيب ، وقول الآخر :
340 أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً
أي : أأفرحُ ، فأمَّا مع « أمْ » فإنه جائزٌ لدَلالتِها عليه كقوله :
341 فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً ... بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ
أي : أبسبعٍ .
والتسبيحُ : التنزِيهُ والبَرَاءَةُ ، وأصلُه من السَّبْحِ وهو البُعْد ، ومنه السابحُ في الماء ، فمعنى « سبحان الله » أي : تنزيهاً له وبراءةً عمَّا لا يليقُ بجلالِه ومنه قولُ الشاعر :
342 أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ ... سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر
أي : تنزيهاً ، وهو مختصٌّ بالباري تعالى ، قال الراغب في قولِه سبحان مِنْ علقمة : « إن أصلَه سبحانَ علقمةَ ، على سبيل التهكُّم فزادَ فيه » مِنْ « ، وقيل : تقديرُه : سبحانَ الله مِنْ أجل عَلْقمة » ، فظاهرُ قولِه أنه يجوزُ أن يقالَ لغيرِ الباري تعالى على سبيل التهكُّم ، وفيه نظرٌ .
والتقديسُ : التَطْهير ، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ ، وبيت المَقْدِس ، وروحُ القُدُس ، وقال الشاعر :
343 فَأَدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنَّسا ... كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ المَقْدِسِ
أي : المطهَّرُ لهم . وقال الزَمخشري : « هو مِنْ قَدَّسَ في الأرضِ إذا ذهبَ فيها وأبعدَ ، فمعناه قريبٌ من معنى نُسَبِّح » . انتهى .
قوله تعالى : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أصلُ إنِّي : إنني فاجتمع ثلاثةُ أمثال ، فحذَفْنا أحدَها ، وهل هو نونُ الوقايةِ أو النونُ الوسطى؟ قولان الصحيحُ الثاني ، وهذا شبيهٌ بما تقدَّم في { إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] وبابه .
والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، و « أعلمُ » يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً وهو الظاهرُ ، و « ما » مفعولٌ به ، وهي : إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي : تعلمونَه ، وقال المهدوي ، ومكي وتبعهما أبو البقاء : « إنَّ » أعلمُ « اسمٌ بمعنى عالم » كقوله :
344 لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ ... على أيِّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ
ف « ما » يجوزُ فيها أن تكونَ في محلِّ جرٍّ بالإِضافةِ أو نصبٍ ب « أَعْلَمُ » ولم يُنوَّنْ « أعلمُ » لعدمِ انصرافِه ، نحو : « هؤلاء حَوَاجُّ بيتَ الله » وهذا مبنيٌّ على أصلَيْن ضعيفينِ ، أحدُهما : جَعْلُ أَفْعَل بمعنى فاعِل من غير تفضيلٍ ، والثاني أنَّ أفْعل إذا كانت بمعنى اسمِ الفاعل عَمِلَتْ عملَه ، والجمهورُ لا يثبتونها .

وقيل : « أعلمُ » على بابها من كونِها للتفضيلِ ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، أي : أعلمُ منكم ، و « ما » منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل ، أي : علمتُ ما لا تعلمون ، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ لأنه أضعفُ من الصفةِ التي هي أضعفُ من اسمِ الفاعلِ الذي هو أضعفُ من الفعلِ في العملِ ، وهذا يكونُ نظيرَ ما أَوَّلوه من قول الشاعر :
345 فلم أَرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبَّحاً ... ولا مثلَنا يومَ التَقَيْنَا فوارِساً
أَكَرَّ وأحمى للحقيقةِ منهمُ ... وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا
فالقوانسَ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر ، أي ب « ضَرَب » ، لا ب « أَضْرَبَ » ، وفي ادِّعاء مثلِ ذلك في الآيةِ الكريمةِ بُعْدٌ لحذفِ شيئين : المفضَّلِ عليه والناصبِ ل « ما » .

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)

قولُه تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } . . هذه الجملةُ يجوز إلاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعرابِ لاستئنافِها ، وأنْ يكونَ محلُّها الجرَّ لعطفِها على « قال ربك » . و « عَلَّم » هذه متعديةٌ إلى اثنين ، وكانت قبلَ التضعيفِ متعديةً لواحدٍ لأنها عرفانيةٌ ، فتعدَّت بالتضعيفِ لآخرَ ، وفَرَّقوا بين « عَلِم » العُرْفانيةِ واليقينيةِ في التعديةِ ، فإذا أرادوا أن يُعَدُّوا العرفانيةَ عَدَّوْها بالتضعيف ، وإذا أرادوا أن يُعَدُّوا اليقينيةَ عَدَّوْها بالهمزةِ ، ذكر ذلك أبو علي علي الشلوبين ، وفاعلُ « عَلَّم » يعودُ على الباري تعالى ، و « آدمَ » مفعولُه .
وفيه ستةُ أقوال ، أرجحُها [ أنه ] اسمٌ أعجميٌّ غيرُ مشتقٍّ ، ووزنُه فاعَل كنظائِره نحو : آزَر وشالَح ، وإنما مُنع من الصرفِ للعَلَمِيَّة والعجمةِ الشخصيةِ ، الثاني : أنه مشتقٌّ من الأُدْمَة ، وهي حُمْرَةٌ تميلُ إلى السوادِ ، الثالث : أنه مشتقٌّ من أَديمِ الأرض ، [ وهو أوجَهُها ومُنِعَ من الصَّرْف على هذين القولين للوزنِ والعلميةِ . الرابعُ : أنه مشتقٌّ من أديمِ الأرض ] أيضاً على هذا الوزنِ أعني وزنَ فاعَل وهذا خطأ ، لأنه كان ينبغي أن يَنْصَرِفَ . الخامس : أنه عِبْرِيٌّ من الإِدام وهو الترابُ . السادس : قال الطبري : « إنه في الأصل فِعْلٌ رباعي مثل : أَكْرَم ، وسُمِّي به لغرضِ إظهارِ الشيء حتى تُعْرَفَ جِهتُه » والحاصلُ أنَّ ادِّعاءَ الاشتقاق فيه بعيدٌ ، لأنَّ الأسماءَ الأعجميةَ لا يَدْخُلُها اشتقاقٌ ولا تصريفٌ ، وآدمُ وإن كانَ مفعولاً لفظاً فهو فاعِلٌ معنى ، و « الأسماءَ » مفعولٌ ثانٍ ، والمسألةُ من باب أعطى وكسا ، وله أحكامٌ تأتي إن شاء الله تعالى .
وقُرئ : « عُلِّم » مبنياً للمفعول ، و « آدمُ » رفعا لقيامهِ مَقامَ الفاعلِ . و « كلَّها » تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً ، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم . وقولُه « الأسماء كلَّها » الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ ، لأنَّ المعنى : وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ ، [ ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً ، بل دَلَّ كلُّها على الشمولِ ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ ] ، وإنْ لم يَعْلَمْ مُسَمَّياتِها ، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات ، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ . وقيل : لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه ، فقيل : تقديرُه : أسماءَ المسمَّيات ، فَحُذِفَ المضافُ إليه للعلم . قال الزمخشري : « وعُوَِّض منه اللامُ ، كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ورُجِّح هذا القول بقولِه تعالى : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء . . . فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [ البقرة : 31-33 ] ولم يَقُل : أنبئوني بهؤلاءِ فلمَّا أنبأهم بهم . ولكن في قوله : وعُوَّض منه اللام » نظرٌ ، لأن الألف واللام لا يَقُومان مقامَ الإِضافةِ عند البصريين . وقيل : تقديرُه مُسَمَّياتِ الأسماء ، فَحُذِف المضافُ ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه ، ورُجِّح هذا القولُ بقولِه تعالى : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } لأن الأسماءَ لا تُجْمَع كذلك ، فدلَّ عَوْدَه على المسميَّاتِ .

ونحوُ هذه الآيةِ قولُه تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُمات ، فالهاءُ في « يَغْشَاه » تعودُ على « ذي » المحذوفِ .
قوله : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } « ثم » حرفٌ للتراخي كما تقدَّم ، والضميرُ في « عَرَضَهُمْ » للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإِطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ المسمَّيات ، كما تقدَّم . وقيل : يعودُ على الأسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ : « عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ » إلا أنَّ في هذا القول جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ ، أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناءً منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ . و « على الملائكة » متعلق ب « عرضهم » .
قوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء } الإِنباءُ : الإِخبارُ ، وأَصلُ « أنبأ » أن يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر كهذه الآية ، وقد يُحْذَفُ الحرفُ ، قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] أي : بهذا وقد يتضمَّن معنى « أَعْلَم » اليقينية ، فيتعدَّى تعديتَهَا إلى ثلاثةِ مفاعيل ، ومثلُ أنبأ : نَبَّأ وأخبر ، وخبَّر وحدَّث . و « هؤلاء » في محلِّ خفضٍ بالإِضافة وهو اسمُ إشارة ورتبتُه دنيا ، ويُمَدُّ ويُقْصَرُ ، كقولِه :
346 هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْ ... تَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ
والمشهورُ بناؤُه على الكسرِ ، وقد يُضَمُّ وقد يُنَوَّنُ مكسوراً ، وقد تُبْدَلُ همزتُه هاءً ، فتقولُ : هَؤُلاه ، وقد يقال : هَوْلا ، كقوله :
347 تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا ... بكَى لَمَّا بكى أَسَفا عليكما
ولامُه عند الفارسي همزةٌ فتكونُ فاؤُه ولامُه من مادةٍ واحدةٍ ، وعند المبرِّد أصلُها ياءٌ وإنما قُلِبَتْ همزةً لتطرُّفها بعد الألفِ الزائدة .
قوله : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قد تقدَّم نظيره ، وجوابُه محذوف أي : إنْ كنتمْ صادقين فأنبئوني ، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ ، وهو مردودٌ بقولِهِم : « أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ » لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت الفاءُ معه ، كما تَجِبُ متأخراً ، وقال ابن عطية : « إنَّ كونَ الجوابِ محذوفاً وهو رأيُ المبرد وكونَه متقدِّماً هو رأيُ سيبويه » وهو وَهْمٌ .

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

قوله تعالى : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ } . . « سُبْحان » اسمُ مصدرٍ وهو التسبيح ، وقيل : بل هو مصدرٌ لأنه سُمِعَ له فعلٌ ثلاثي ، وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافة وقد يُفْرَدُ ، وإذا أُفْرِد مُنِعَ الصرفَ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنونِ كقوله :
348 أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه ... سُبْحَانَ مِنْ علقَمَةَ الفاخِرِ
وقد جاء منوَّناً كقوله :
349 سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به ... وقبلَنَا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
فقيل : صُرِف ضرورةً ، وقيل : هو بمنزلة قبلُ وبعدُ ، إن نُوي تعريفُه بقي على حالِه ، وإن نُكِّر أُعْرِبَ منصرفاً ، وهذا البيتُ يساعِدُ على كونِهِ مصدراً [ لا اسمَ مصدرٍ ] لورودِه منصرفاً . ولقائلِ القولِ الأولِ أن يُجيبَ عنه بأنّ هذا نكرةٌ لا معرفةٌ ، وهو من الأسماءِ اللازمةِ النصبَ على المصدريةِ فلا يتصرَّفُ ، والناصبُ له فعلٌ مقدرٌ لا يجوزُ إظهارُه ، وقد رُوي عن الكسائي أنه جَعَلَه منادى تقديرُه : يا سبحانَك ، وأباه الجمهورُ من النحاةِ ، وإضافتُه [ هنا ] إلى المفعولِ لأنَّ المعنى : نُسَبِّحُك نحنُ . وقيل : بل إضافتُه للفاعل ، والمعنى : تنزَّهْتَ وتباعَدْتَ من السوء وسبحانَك ، والعاملُ فيه في محلِّ نصبٍ بالقول .
قوله : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } كقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] و « إلاَّ » حرفُ استثناء ، و « ما » موصولةٌ ، و « علَّمتنا » صلتُها ، وعائدُها محذوفٌ ، على أن يكونَ « عِلْم » بمعنى مَعْلُوم ، ويجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً وهي في محلِّ نصب على الاستثناءِ ، [ ولا يجوزُ أن تكونَ منصوبةً بالعِلْم الذي هو اسمُ لا لأنه إذا عَمِل كان مُعْرباً ] ، وقيل : في محلِّ رفعٍ على البدلِ من اسم « لا » على الموضع . وقال ابن عطية : « هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم : » لا إلهَ إلا اللهُ « وفيهِ نظرٌ ، لأن الاستثناءَ إنما هو من المحكومِ عليه بقيدِ الحكم لا مِن المحكومِ به . وَنقَل هو عن الزهراوي أنَّ » ما « منصوبَةٌ بعلَّمْتَنَا بعدَها ، وهذا غيرُ معقولٍ لأنه كيف ينتصِبُ الموصولُ بصلتِه وتَعْمَلُ فيه؟ قال الشيخُ : » إلا أَنْ يُتَكَلَّف لَه وجهٌ بعيدٌ ، وهو أن يكونَ استثناءً منقطعاً بمعنى لكنْ ، وتكونُ « ما » شرطيةً ، و « علَّمتنَا » ناصبٌ لها وهو في محلِّ جَزْمٍ بها والجوابُ محذوفٌ ، والتقديرُ : لكنْ ما علَّمْتنا عَلِمناه .
قولُه : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } أنتَ يَحتمِلُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ فيكونَ منصوبَ المحلِّ ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه ما بعده والجملةُ خبرُ إنَّ ، وأن يكونَ فَصْلاً ، وفيه الخلافُ المشهورُِ ، وهل له محلُّ إعرابٍ أم لا؟ وإذا قيل : إنَّ له محلاًّ ، فهل بإعرابِ ما قبلَه كقولِ الفراء فيكونُ في محلِّ نصبٍ ، أو بإعراب ما بعده ، فيكونُ في محلِّ رَفعٍ كقول الكسائي؟ و « الحكيمُ » خبَرٌ ثانٍ أو صفةٌ للعليم ، وهما فَعِيل بمعنى فاعِل ، وفيهما من المبالغةِ ما ليس فيه .
والحُكْم لغةً : الإِتقانُ والمَنْع من الخروجِ عن الإِرادة ، ومنه حَكَمَةُ الدابَّة وقال جرير :
350 أبني حَنِيفَةَ أحْكِموا سفهاءَكُمْ ... إني أخافُ عليكُمُ أَنْ أغْضَبَا
وقَدَّم « العليم » على « الحكيم » لأنه هو المتصلُ به في قولِه : « عَلَّم » وقولِه : « لا عِلْمَ لنا » ، فناسَبَ اتَّصالَه به ، ولأنَّ الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العِلْمِ وأثرٌ له ، وكثيراً ما تُقَدَّمُ صفةُ العِلْم عليها ، والحكيمُ صفةُ ذاتٍ إنْ فُسِّر بذي الحكمةِ ، وصفةُ فِعْلٍ إنْ فُسِّر بأنه المُحْكِمُ لصَنْعَتِه .

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

قوله تعالى : { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } . . « آدَمُ » مبنيٌّ على الضم لأنه مفردٌ معرفةٌ ، وكلُّ ما كان كذلكُ بني على ما كان يُرْفع به ، وهو في مَحلِّ نصبٍ لوقوعه موقعَ [ المفعولِ به فإنَّ تقديره : أدعو آدمَ ، وبُنِي لوقوعِه موقعَ ] المضمرِ ، والأصلُ : يا إياك ، كقولهم : « يا إياك قد كُفِيْتُكَ » ويا أنتَ كقوله :
351 يَا أبْجَرَ بنَ أَبْجَرٍ يا أَنْتا ... أنتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جُعْتَا
قد أحسنَ اللهُ وقد أَسَأْتَا ... و « يا إياك » أقيسُ من « يا أنت » لأنَّ الموضعَ موضعُ نَصْبٍ ، فإياك لائقٌ به ، وتحرَّزْتُ بالمفردِ من المضافِ نحو : يا عبدَ الله ، ومن الشبيهِ به وهو عبارةٌ عَمَّا كان الثاني فيه من تمامِ معنى الأول نحو : يا خيراً من زيدٍ ويا ثلاثةً وثلاثين ، وبالمعرفة من النكرةِ غيرِ المقصودة نحو قوله :
352 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... ندامَاي مِنْ نجرانَ ألاَّ تلاقِيا
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربةٌ نصباً .
و « أَنْبِئْهُمْ » فعلُ أمر وفاعلٌ ومفعولٌ ، والمشهورُ : أَنْبِئْهُمْ مهموزاً مضمومَ الهاء ، وقُرئ بكسر الهاءِ وتُرْْوى عن ابنِ عامر ، كأنه أَتْبَعَ الهاءَ لحركةِ الباء ولم يَعْتَدَّ بالهمزةِ لأنها ساكنةٌ ، فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ ، وقُرِئ بحَذْفِ الهمزةِ ورُوِيَتْ عن ابنِ كثير ، قال ابن جني : « هذا على إبدالِ الهمزةِ ياءً كَمَا تقولَ : أَنْبَيْتُ بزنة أَعْطَيْت . قال : » وهذا ضعيفٌ في اللغة لأنه بدلٌ لا تخفيف ، والبَدلُ عندنا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ « ، وهذا من أبي الفتح غيرُ مُرْضٍ لأن البدَل جاء في سَعَةِ الكلام ، حكى الأخفشُ في » الأوسط « له أنهم يقولون في أَخْطَأْت : أَخْطَيْتُ ، وفي توضَّأْت : توضَّيْتُ ، قال : » وربما حَوَّلوه إلى الواو ، وهو قليلٌ ، قالوا : رَفَوْتُ في رَفَأْتُ ولم يُسْمع رَفَيْتُ « .
إذا تقرَّر ذلك فللنَّحْويين في حرف العلة المبدلِ من الهمزةِ نظرٌ في أنه هل يجري مَجْرى حرفِ العلةِ الأصلي أم يُنْظرُ أصله؟ ورتَّبوا على ذلك أحكاماً ومِن جملتها : هل يُحْذَفُ جَزْماً كالحرف غيرِ المُبْدل [ أم لا ] نظراً إلى أصلِه ، واستدلَّ بعضُهم على حَذْفِه جَزْماً بقول زهير :
353 جريءٍ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بظُلْمِه ... سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
لأنَّ أصله » يُبْدَأ « بالهمزةِ فكذلك هذه الآيةُ أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً ثم حُذِفَتَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ . وقُرئ » أنبيهم « بإثباتِ الياء نظراً إلى الهمزةِ وهل تُضَمُّ الهاءُ نظراً للأصلِ أم تُكْسَرُ نظراً للصورة؟ وجهان مَنْقولان عن حمزةَ عند الوقفِ عليه .
و » بأسمائِهم « متعلِّق بأَنْبِئْهُمْ ، وهو المفعولُ الثاني كما تقدَّم ، وقد يتعدَّى ب » عن « نحو : أنبأْتُه عن حالِه ، وأمَّا تعديتُه ب » مِنْ « في قوله تعالى :

{ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [ التوبة : 94 ] فسيأتي في موضعه إنْ شاءَ اللهُ تعالى .
قوله : { قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ } الأية . « قال » جوابُ « فلمَّا » والهمزةُ للتقرير إذا دَخَلَتْ على نفي قَرَّرَتْهُ فيَصيرُ إثباتاً نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ } [ الانشراح : 1 ] أي : قد شرحنا و « لم » حرفُ جزمٍ وقد تَقَدَّمَ أحكامُها ، و « أَقُلْ » مجزومٌ بها حُذِفَتْ عينُه وهي الواوُ لالتقاءِ الساكنين . و « لكم » متعلقٌ به ، واللامُ للتبليغِ . والجملةُ من قوله : « إني أَعْلَمُ » في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ . وقد تقدَّم نظائرُ هذا التركيبِ فلا حاجةَ إلى إعادتِه .
قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } كقولِه : { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من كونِ « أَعْلَمُ » فعلاً مضارعاً أو أفْعَل بمعنى فاعِل أو أَفْعَل تفضيل ، وكونِ « ما » في محل نصبٍ أو جرٍ وقد تقدَّم . والظاهرُ : أن جملةَ قولِه : « وأعلمُ » معطوفةٌ على قولِه : { إني أَعْلَمُ غَيْبَ } ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وقال أبو البقاء : « إنه مستأنفٌ وليسَ محكيَّاً بالقولِ » ، ثم جَوَّزَ فيه ذلك .
و « تُبْدُون » وزنه : تُفْعون لأن أصله تُبْدِوُونَ مثل تُخْرِجون ، فَأُعِلَّ بحذْفِ الواو بعد سكونها . والإِبداءُ : الإِظهارُ . والكَتْمُ : الإِخفاءُ ، يقال : بَدا يَبْدُو بَداءً ، قال :
354 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَدا لَكَ في تلك القَلوصِ بَداءُ
قوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } : « ما » عطفٌ على « ما » الأولى بحسَبِ ما تكونُ عليه من الإِعرابِ .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ } : العاملُ في « إذ » محذوفٌ دلَّ عليه قولُه : « فَسَجَدوا » تقديرُه : « فَسَجَدوا » تقديرُه : أطاعوا وانقادُوا فسجدوا ، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ ، وقيل : العاملُ « اذكُرْ » مقدرةً ، وقيل : [ إذ ] زائدةٌ ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذين القولين . وقال ابنُ عطية : « وإذ قلنا معطوفٌ على » إذ « المتقدمةِ » لا يَصِحُّ هذا لاختلافِ الوقتين ، وقيل : « إذ » بدلٌ من « إذ » الأولى ، ولا يَصِحُّ لِمَا تقدَّم ولتوسُّطِ حرفِ العطفِ ، وجملةُ « قلنا » في محلِّ خفضٍ بالظرفِ ، وفيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التكلمِ للعظمة ، واللامُ للتبليغ كنظائِرها .
والمشهورُ جَرُّ تاءِ « الملائكة » بالحرفِ ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاً لضمةِ الجيم ، ولم يَعْتَدَّ بالساكن ، وغَلَّطه الزجَّاج ، وخطّأه الفارسي ، وشَبَّهه بعضُهم بقولِه تعالى : { وَقَالَتِ اخرج } [ يوسف : 31 ] بضم تاء التأنيث ، وليس بصحيح لأنَّ تلك حركةُ التقاءِ الساكنين وهذه حركةُ إعرابٍ فلا يُتلاعَبُ بها ، والمقصودُ هناك يحصُلُ بأيِّ حركةٍ كانَتْ . وقال الزمخشري : « لا يجوزُ استهلاكُ الحركةِ الإِعرابيةِ إلا في لغةٍ ضعيفةٍ كقراءةِ : { الحمد للَّهِ } [ الفاتحة : 1 ] يعني بكسر الدال » ، قلتُ : وهذا أكثرُ شذوذاً ، وأضعفُ من ذاك مع ما في ذاك من الضعفِ المتقدِّم ، لأنَّ هناك فاصلاً وإنْ كان ساكناً ، وقال أبو البقاء : « وهي قراءةٌ ضعيفةٌ جداً ، وأحسنُ ما تُحْمَلُ عليه أن يكون الراوي لم يَضْبِطْ عن القارئ وذلك أن القارئ أشارَ إلى الضمِّ تنبيهاً على أنَّ الهمزةَ المحذوفةَ مضمومةٌ في الابتداءِ فلم يُدْرِك الراوي هذه الإِشارَةَ . وقيل : إنه نوى الوقفَ على التاءِ ساكنةً ثم حَرَّكها بالضم إتباعاً لحركةِ الجيم ، وهذا من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقفِ . ومثلُه : ما رُوِيَ عن امرأةٍ رأت رجلاً مع نساءٍ فقالت : » أفي سَوْءَةَ أنْتُنَّه « نوتِ الوقف على » سَوْءَة « فسكَّنَتِ التاءَ ثم ألقَتْ عليها حركةُ همزةِ » أنتنَّ « . قلت » فعلى هذا تكونُ هذه الحركةُ حركةَ التقاءِ ساكنين ، وحينئذٍ يكونُ كقوله : { قَالَتِ اخرج } [ يوسف : 31 ] وبابه ، وإنما أكثرَ الناسُ توجيهَ هذه القراءةِ لجلالةِ قارِئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخِ نافعٍ شيخِ أهل المدينةِ ، وترجمتُهما مشهورةٌ .
و « اسجُدوا » في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، واللامُ في « لآدمَ » الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا ، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل : بمعنى إلى ، أي : إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم ، والسجودُ لله . وقيل : بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ ، وقيل : اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك .
و « فسجدوا » الفاءُ للتعقيبِ ، والتقديرُ : فسَجدوا له ، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ به . قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ إلا ] حرفُ استثناءٍ ، و « إبليس » نصبٌ على الاستثناء .

وهل نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا ، أو بفعلٍ محذوف أو ب « أنَّ »؟ أقوالٌ ، وهل هو استثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ؟ خلافٌ مشهورٌ ، والأصحُّ أنه متصلٌ . وأمَّا قولُه تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] فلا يَرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِنانِهم قال :
355 وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً ... قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ
وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] يعني الملائكةَ .
واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ : قسمٍ واجبِ النصبِ ، وقسم واجبِ الجرِّ ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله والرجحُ البدلُ . القسم الأول : المستثنى من الموجبِ والمقدَّمُ والمكررُ والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً ، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ الجرميّ ، نحو : قام القومُ إلا زيداً ، ما قَام إلا زيداً القومُ ، وما قام أحد إلا زيداً إلا عَمْراً ، وقاموا إلا حماراً ، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما خلا زيداً وما عدا زيداً . القسم الثاني : المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء . القسم الثالث : المستثنى بعدا وخلا وحاشا . القسمُ الرابع : المستثنى من غيرِ الموجب نحو : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
والسجودُ لغةً : التذلُّلُ والخضوعُ ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ على الأرضِ ، وقال ابن السكيت : « هو المَيْلُ » قال زيدٌ الخيل :
356 بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته ... ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ
[ يريد أنَّ الحوافِرَ تطأُ الأرضَ فتجعلُ تأثُّرَ الأكْمِ للحوافرِ سُجودا ] ، وقال آخر :
357 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُجودَ النصارى لأَِحْبارِها
وفَرَّقَ بعضُهم بين سَجَد وأَسْجد ، فسجد : وََضَعَ جَبْهَتَه ، وأَسْجَدَ : أمال رأسَه وطأطأها ، قال الشاعر :
358 فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ ... سُجودَ النَّصارى لأرْبابها
وقال آخر :
359 وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني : أنَّ البعيرَ طأطأ رأسَه لأجلها ، ودراهمُ الأسجادِ دراهمُ عليها صُوَرٌ كانوا يَسْجُدون لها ، قال الشاعر :
360 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وافى بها كدَراهمِ الأَسْجادِ ... وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل : [ إنه ] اسمٌ أعجمي مُنِعَ من الصَّرْفِ للعلَمِيَّة والعَجْمةِ ، وهذا هو الصحيحُ ، وقيل : إنه مشتقٌّ من الإِبْلاسِ وهو اليأسُ من رحمة اللهِ تعالى والبُعْدُ عنها ، قال :
361 وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
362 يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا
أي : بَعُد عن العِمارةِ والأُنْسِ به ، ووزنُه عند هؤلاء : إِفْعِيل ، واعتُرِضَ عليهم بأنه كان ينبغي أن يكونَ منصرفاً ، وأجابوا بأنه أَشْبَهَ الأسماءَ الأعجميةَ لعَدمِ نظيرِه في الأسماء العربية ، ورُدَّ عليهم بأنَّ مُثُلَه في العربية كثيرٌ ، نحو : إزْميل وإكليل وإغْريض وإخْريط وإحْليل . وقيل : لمَّا لم يَتَسَمَّ به أحدٌ من العرب صار كأنه دخيلٌ في لسانِهم فأشبهَ الأعجميةَ وفيه بُعْدٌ .
قوله : { أبى واستكبر } الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال : فما فعلَ؟ والوقفُ على قولِه : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } تامٌّ . وقال أبو البقاء : « في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه : تَرَك السجودَ كارهاً ومستكبراً عنه فالوقفُ عنده على » واستكبر « ، وجَوَّز في قولِه تعالى : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أَنْ يكونَ مستأنفاً وأن يكونَ حالاً أيضاً .

والإِباء : الامتناعُ ، قالَ الشاعر :
363 وإما أَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا ... وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ
وهو من الأفعال المفيدةِ للنفي ، ولذلك وَقَعَ بعده الاستثناءُ المفرَّغُ ، قال الله تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ] والمشهورُ أبى يأبى بالفتحِ فيهما ، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال : تِئْبى ونِئْبى . وقيل : لمَّا كانت الألفُ تشبه حروفَ الحَلْقِ فُتِح لأجلِها عينُ المضارعِ . وقيل : أَبى يأبى بالفتحِ فيهما ، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال : تئبى ونئبى . وقيل : لَمَّا كانت الألف تشبه حروف الحلق فُتح لأجلها عين المضارع . وقيل : أَبِيَ يأبى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع ، وهذا قياسٌ فيُحتمل أنْ يكونَ مَنْ قال : أبى يأبى بالفتح فيهما استغنى بمضارع مَنْ قال : أبِيَ بالكسر ويكونُ من التداخُلِ نحو : ركَن يركَنُ وبابِه .
واستكبر بمعنى تكبَّر وإنما قدَّم الإِباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في الترتيبِ لأنه من الأفعالِ الظاهرةِ بخلافِ الاستكبارِ فإنه من أفعال القلوب . وقوله « وكان » قيل : هي بمعنى صار كقوله :
364 بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها
أي : قد صارَتْ ، ورَدَّ هذا ابنُ فُوْركَ وقال : « تَرُدُّه الأصولُ » والأظهر أنها على بابها ، والمعنى : وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خَلْقِ آدمَ ما رُوي ، أو : وكانَ في عِلْم الله .

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

قوله تعالى : { وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } : هذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ : « إذْ قلنا » لا على « قُلْنا » وحدَه لاختلافِ زمنَيْهِما ، و « أنت » توكيدٌ للضميرِ المستكنِّ في « اسكُن » ليصِحَّ العطفُ عليه ، و « زوجُك » عَطْفٌ عليه ، هذا مذهبِ البصريين ، أعني : اشتراط الفصلِ بين المتعاطِفَيْن إذا كان المعطوفُ عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً ، ولا يُشْترط أن يكونَ الفاصلُ توكيداً ، [ بل ] أيَّ فصلٍ كان ، نحو : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك من غير فاصل وأنشدوا :
365 قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزهرٌ تَهادى ... كنعاجِ الفَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريينَ ضرورةً لا يُقاسُ عليه . وقد مَنَعَ بعضَهُم أن يكونَ « زوجُك » عطفاً على الضميرِ المستكنِّ في « اسكُنْ » وجعله من عطفِ الجملِ ، بمعنى أن يكونَ « زوجُك » مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : وَلْتَسْكُنْ زوجك ، فحُذِف لدلالة « اسكنْ » عليه ، ونَظَّره بقولِه تعالى : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [ طه : 58 ] وزعم أنه مذهبُ سيبويهِ ، وكأن شُبْهَتَه في ذلك أنَّ مِنْ حقِّ المعطوفِ حُلولَه مَحَلَّ المعطوفِ عليه ، ولا يَصِحُّ هنا حلولُ « زوجُك » محلَّ الضميرِ ، لأنَّ فاعلَ فِعْلِ الأمر الواحدِ المذكَّر نحو : قُمْ واسكُنْ لا يكونُ إلاَّ ضميراً مستتراً ، وكذلك فاعل نفعلُ ، فكيف يَصِحُّ وقوعُ الظاهرِ موقَع المضمرِ الذي قبله؟ وهذا الذي زعمه ليس بشيءٍ لأنَّ مذهبَ سيبويهِ بنصِّه يخالِفُه ، ولأنَّه لا خلافَ في صِحَّةِ : « تقوم هندٌ وزيدٌ » ، ولا يَصِحُّ مباشرةُ زيدٍ ل « تقوم » لتأنيثه .
والسكونُ والسُّكْنى : الاستقرارُ . ومنه : المِسْكينُ لعدَمِ استقراره وحركتِه وتصرُّفِه ، والسِّكِّينُ لأنها تَقْطَعُ حركةَ المذبوحِ ، والسَّكِينة لأنَّ بها يَذْهَبُ القلقُ .
و « الجَنَّةَ » مفعولٌ به لا ظرفٌ ، نحو : سَكَنْتُ الدارَ . وقيل : هي ظرفٌ على الاتساعِ ، وكان الأصلُ تعديتَه إليها ب « في » ، لكونها ظرفَ مكان مختصٍّ ، وما بعد القولِ منصوبٌ به .
قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } هذه الجملةُ عَطْفٌ على « اسكُنْ » فهي في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، وأصلُ كُلْ : أُأْكُلْ بهمزتين : الأولى همزةُ وصلٍ ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل : اُوكُلْ بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مجانساً لحركةِ ما قبلَها ، إلا أنَّ العربَ حَذَفَتْ فاءَه في الأمرِ تخفيفاً فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوزنُه عُلْ ، ومثلُه : خُذْ ومُرْ ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها لا تقول من أَجَر : جُرْ . ولا تَرُدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول : قم وخذ وكُلْ ، إلا « مُرْ » فإنَّ الكثيرَ رَدُّ فائِه بعد الواوِ والفاءِ قال تعالى : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ } [ الأعراف : 145 ] و { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } [ طه : 132 ] ، وعدمُ الردِّ قليلٌ ، وقد حَكَى سيبويه : « اؤْكُلْ » على الأصلِ وهو شاذٌّ .

وقال ابن عطية : « حُذِفَتِ النونُ من » كُلا « [ للأمر ] » وهذه العبارةُ مُوهِمةٌ لمذهبِ الكوفيين من أنَّ الأمرَ عندهم مُعْربٌ على التدريجِ كما تقدَّم ، وهو عند البصريين محمولٌ على المجزومِ ، فإن سُكِّنَ المجزومُ سُكِّن الأمرُ منه ، وإنْ حُذِفَ منه حرفٌ حُذِفَ من الأمر .
و « منها » متعلِّقٌ به ، و « مِنْ » للتبعيضِ ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ ، أي : مِنْ ثمارِها ، ويجوز أن تكونَ « مِنْ » لابتداءِ الغاية وهو أَحْسَنُ ، و « رَغَداً » نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ . وقد تقدَّم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوِه أن ينتصبَ حالاً ، وقيل هو مصدر في موضع الحال أي : كُلا طيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ .
وقُرئ : « رَغْداً » بسكون الغينِ وهي لغةُ تميمٍ . وقال بعضُهم : كل فعلٍ حلقيٍّ العين صحيحِ اللامِ يجوزُ فتحُ عينِه وتسكينها نحو : نهر وبحر . وهذا فيه نظرٌ بل المنقولُ أنَّ فعْلاً بسكونِ العينِ إذا كانت عينُه حلقيةً لا يجوزُ فتحُها عند البصريين إلا أَنْ يُسَمَعَ فَيُقْتَصَرَ عليه ، ويكون ذلك على لغتين لأنَّ إحداهما مأخوذةٌ من الأخرى . وأمَّا الكوفيون فبعضُ هذا عندهم ذو لغتين ، وبعضُه أصلُه السكونُ ويجوز فتحُه قياساً ، أمَّا أنَّ فعَلاً المفتوحَ العينِ الحلقِيَّها يجوزُ فيه التسكينُ فيجوز في السَّحَر : السَّحْر فهذا لا يُجيزه أحد . والرغَدُ : الواسِعُ الهنيءُ ، قال امرؤ القيس :
366 بينما المرءُ تراهُ ناعماً ... يَأْمَنُ الأحداثَ في عيشٍ رَغَدْ
ويقال : رَغُِدَ عيشُهم بضم الغين وكسرها وأَرْغَدَ القومُ : صاروا في رَغَد .
قوله : { حَيْثُ شِئْتُمَا } حيث : ظرفُ مكانٍ ، والمشهور بناؤُها على الضم لشَبَهِها بالحرفِ في الافتقارِ إلى جملةٍ ، وكانت حركتُها ضمةً تشبيهاً ب « قبل » و « بعد » . ونقل الكسائي إعرابَها عن فَقْعَس ، وفيها لغاتٌ : حيث بتثليث الثاء وحَوْث بتثليثها أيضاً ، ونُقل : حاث بالألف ، وهي لازمةُ [ الظرفيةِ لا تتصرفُ ، وقد تُجَرُّ بمِنْ كقوله تعالى : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ } [ البقرة : 222 ] { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ] ، وهي لازمةٌ ] للإِضافة إلى جملةٍ مطلقاً ولا تُضاف إلى المفرد إلا نادراً ، قال :
367 أَمَا تَرى حيثُ سهيلٍ طالِعا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
368 وَنَطْعَنُهم تحت الحُبَى بعد ضَرْبهم ... ببيضِ المواضي حيثُ لَيِّ العَمائم
وقد تُزاد عليها « ما » فتجزمُ فعلين شرطاً وجزاء كإنْ ، ولا يُجْزَمُ بها دونَ « ما » خلافاً لقوم ، وقد تُشَرَّبُ معنَى التعليلِ ، وزعم الأخفش أنها تكونُ ظرفَ زمانٍ وأنشد :
369 للفتى عَقْلٌ يَعيشُ به ... حيث تَهْدي ساقَهُ قَدَمُهْ
ولا دليلَ فيه لأنها على بابِها .
والعامِلُ فيها هنا « كُلا » أي : كُلا أيَّ مكانٍ شِئْتُما تَوْسِعَةً عليهما . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ بدلاً من « الجنَّة » ، قال : « لأنَّ الجنةَ مفعولٌ بها ، فيكون » حيث « مفعولاً به » وفيه نظرٌ لأنها لا تتصرَّف كما تقدَّم إلا بالجرِّ ب « مِنْ » .

قوله : « شِئْتُمَا » : الجملةُ في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها . وهل الكسرةُ التي على الشين أصلٌ كقولِك : جِئْتُما وخِفْتُما ، أو مُحَوَّلة من فتحة لتدلَّ على ذواتِ الياءِ نحو : بِعْتما؟ قولان مبنيَّان على وزنِ شَاءَ ما هو؟ فمذهب المبرد أنه : فَعَل بفتحِ العينِ ، ومذهبُ سيبويه فَعِل بكسرِها ولا يخفى تصريفُهما .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } لا ناهيةٌ ، و « تَقْرَبا » مجزومٌ بها حُذِفَتْ نونُه . وقُرئ : « تِقْرَبا » بكسر حرف المضارعة ، والألفُ فاعلٌ ، و « هذه » مفعولٌ به اسمُ إشارةِ المؤنث ، وفيها لغاتٌ : هذي وهذهِ [ وهذهِ ] بكسرِ الهاء بإشباعٍ ودونِهِ ، وهذهْ بسكونِه ، وذِهْ بكسر الذالِ فقط ، والهاءُ بدلٌ من الياءِ لقُرْبِهَا منها في الخَفَاءِ . قال ابنُ عطية ونُقِلَ أيضاً عن النحاس « وليس في الكلام هاءُ تأنيثٍ مكسورٌ ما قبلَها غيرُ » هذه « . وفيه نظرٌ ، لأن تلك الهاء التي تَدُلُّ على التأنيث ليستْ هذه ، لأن تيكَ بدلٌ من تاءِ التأنيث في الوقف ، وأمَّا هذه الهاءُ فلا دلالةَ لها على التأنيثِ بل الدالُّ عليه مجموعُ الكلمةِ ، كما تقول : الياءُ في » هذي « للتأنيثِ . وحكمُها في القُرْبِ والبُعْدِ والتوسط ودخولِ هاءِ التنبيه وكافِ الخطاب حكمُ » ذا « وقد تقدَّم . ويُقال فيها أيضاً : تَيْك وتَيْلَكَ وتِلْكَ وتالِك ، قال الشاعر :
370 تعلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْدا ... وأنَّ لتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَاراً
قال هشام : » ويقال : تافَعَلَتْ « ، وأنشدوا :
371 خَليليَّ لولا ساكنُ الدارِ لم أُقِمْ ... بتا الدارِ إلاَّ عابرَ ابنِ سبيلٍ
و » الشجرةِ « بدل من » هذه « ، وقيل : نعتٌ لها لتأويلِها بمشتق ، أي : هذه الحاضرةَ من الشجر . والمشهورُ أن اسمَ الإِشارةِ إذا وقع بعده مشتقٌّ كان نعتاً له ، وإن كان جامداً كان بدلاً منه . والشجَرةُ واحدة الشَّجَر ، اسم جنس ، وهو ما كان على ساقٍ بخلاف النجم ، وسيأتي تحقيقُهما في سورة » الرحمن « إن شاء الله تعالى . وقرئ : » الشجرة « بكسر الشينِ والجيمِ وسكونِ الجيمِ ، وبإبدالها ياءً مع فتحِ الشين وكسرِها لقُرْبِها منها مَخْرجاً ، كما أُبْدِلَتِ الجيمُ منها في قوله :
372 يا رَبِّ إنْ كنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتِجْ ... فلا يَزالُ شاحِجٌ يأتيكَ بِجْ
يريد بذلك حَجَّتي وبي ، وقال آخر :
373 إذا لم يكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ من شِيَرَاتِ
وقال أبو عمرو : » إنما يقرأ بها برابِرُ مكةَ وسُودانُها « . وجُمعت الشجرُ أيضاً على شَجْراء ، ولم يأتِ جمعٌ على هذه الزِنة إلا قَصَبَة وَقَصْباء ، وطَرَفَة وطَرْفاء وحَلَفة وحَلْفاء ، وكان الأصمعي يقول : » حَلِفة بكسر اللام « وعند سيبويه أنَّ هذه الألفاظَ واحدةٌ وجمعٌ .
وتقول : قَرِبْتُ الأمرَ أقرَبه بكسرِ العين في الماضي ، وفتحِها في المضارع أي : التبَسْتُ به ، وقال الجوهري : » قَرُب بالضمِّ يقرُبُ قُرْباً أي : دَنَا ، وقَرِبْتُهُ بالكسر قُرْبَاناً دَنَوْتُ [ منه ] ، وقَرَبْتُ أقرُبُ قِرابَةً مثل : كَتَبْتُ أكتُبُ كِتابة إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه لَيْلَةٌ .

وقيل : إذا قيل : لا تَقْرَبْ بفتح الراء كان معناه لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ وإذا قيل : لا تَقْرُب بالضمِّ كان معناه : لاَ تَدْنُ منه « .
قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } فيه وجهان : أحدُهما : أَنْ يكونَ مجزوماً عطفاً على » تَقْرَبَا « كقولِهِ :
374 فقلت له : صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيُذْرِكَ من أُخرى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
والثاني : أنه منصوبٌ على جوابِ النهي كقولِهِ تعالى : { لاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ } [ طه : 81 ] والنصبُ بإضمارِ » أَنْ « عند البصريينَ ، وبالفاءِ نفسِها عند الجَرْمي ، وبالخلافِ عند الكوفيين ، وهكذا كلُّ ما يأتي مثلَ هذا .
و { مِنَ الظالمين } خبرُ كان . والظُلْمُ : وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه ومنه قيل للأرضِ التي لم تستحقَّ الحفرَ فتُحْفَر : مظلومةٌ ، وقال النابغة الذبياني :
375 إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا ... والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ
وقيل : سُمِّيَتْ مَظلومةً لأنَّ المطرَ لا يأتيها ، قال عمرو بن قَمِيئَةَ :
376 ظَلَمَ البطاحَ له انهِلاَلُ حَرِيصةٍ ... فصفَا النِّطافُ له بُعَيْدَ المُقْلَعِ
وقالوا : » مَنْ أشبه أباهَ فما ظَلَمْ « ، قال :
377 بأبِهِ اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَمْ ... ومَنْ يشابِهْ أَبَه فما ظَلَمْ

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

قوله : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } : المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ متصلٌ ، والفاعلُ ظاهرٌ ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه . قرأ حمزة : « فَأَزَالهما » والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ « أَزَلَّهما » يجوز أَنْ تكونَ مِنْ « زَلَّ عن المكان » إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة ، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس :
378 كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ
وقال أيضاً :
379 يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ ... ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ
فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة ، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول : معنى أزالَهما أي : صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ . ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً ، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ ، فيكونُ زلَّ استنزل ، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما ، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [ أصلُه ] في زَلَّة القَدَمِ ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي ، والتنحيةُ لا يَقْدِر عليها الشيطانُ ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي ، والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ . و « عنها » متعلقٌ بالفعلِ قبلَه . ومعنى « عَنْ » هنا السببيَّةُ إن أَعَدْنَا الضميرَ على « الشجرة » أي : أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة . ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [ عاد ] الضميرُ على « الجَنَّةِ » ، وهو الأظهرُ ، لتقدُّمِ ذِكْرِها ، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً ، ولا تظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة ، قال ابن عطية : « وأمَّا مَنْ قرأ » أَزَالهما « فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط » ، وقيل : الضميرُ للطاعةِ أو للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ جداً .
قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } الفاءُ هنا واضحةُ السببية . وقال المهدويُّ : « إذا جُعِلَ » فَأَزَلَّهما « بمعنَى زلَّ عن المكان كان قولُه تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيداً ، إذ قد يمكنُ أن يزولا عن مكانٍ كانا فيه إلى مكان آخرَ » ، وهذا الذي قاله المهدوي أَشْبَهُ شيءٍ بالتأسيسِ لا التأكيدِ ، لإِفادتِهِ معنىً جديداً ، قال ابن عطية : « وهنا محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهرُ تقديرُهُ : فأكلا من الشجَرَةِ » ، يعني بذلك أنَّ المحذوفَ يُقَدِّرُ قبلَ قولِهِ « فَأزَلَّهما » .
و { مِمَّا كَانَا } متعلِّقٌ بأَخْرَجَ ، و « ما » يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، أي : من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه ، أو من مكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه ، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ .

وقوله : « اهبِطوا » جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [ قبلها ] . وقُرئ : « اهبُطوا » بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي ، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط ، وجاء في مضارعِهِ اللغتان ، والمصدرُ : الهُبوط بالضم ، وهو النزولُ . وقيلَ : الانتقال مطلقاً . وقال المفضل : « الهبوطُ : الخروجُ من البلد ، وهو أيضاً الدخولُ فيها فهو من الأضداد » . والضمير في « اهبطوا » الظاهرُ أنه لجماعةٍ ، فقيل : لآدَمَ وحوَّاءَ والجنةِ وإبليسَ ، [ وقيلَ : لهما وللجنة ] ، وقيل : لهما وللوسوسةِ ، وفيه بُعْدٌ . وقيل : لبني آدمَ وبني إبليس ، وهذا وإنْ نُقِلَ عن مجاهد والحسن لا ينبغي أَنْ يُقالُ ، لأنه لم يُوْلَدْ لهما في الجنة بالاتفاق . وقال الزمخشري : « إنه يعودُ لآدمَ وحواء ، والمرادُ هما وذريتُهما ، لأنهما لمَّا كانا أصلَ الإِنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنهما الإِنسُ كلُّهم ، ويَدُلُّ عليه » قال اهبِطوا منها جميعاً « .
قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ، وفيها قولان ، أَصَحُّهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : اهبِطوا مُتعادِيْن . والثاني : أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة . وأُفْرِدَ لفظُ » عدو « وإِنْ كان المرادُ به جَمْعَاً لأحدِ وجهَيْنِ : إِمَّا اعتباراً بلفظِ » بعض « فإنه مفردٌ ، وإِمَّا لأن » عَدُوَّاً « أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ كالقَبول ونحوِهِ . وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً ، قال في سورة النساء : » وقيلَ : عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ « ، وعبارةُ مكي قريبةٌ من هذا فإنَّه قال : » وإنما وُحِّدَ وقبلَه جمعٌ لأنه بمعنى المصدرِ تقديرُهُ : ذوي عَداوة « . [ ونحوُه : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] ، وقولُه : { هُمُ العدو فاحذرهم } [ المنافقون : 4 ] . واشتقاقُ العدوّ من عَدا يعدُو : إذا ظَلَمَ . وقيل : من عَدَا يعدُو إذا جاوَزَ الحقَّ ، وهما متقاربان . وقيل : من عُدْوَتَي الجبل وهما طرفاه فاعتَبروا بُعْدَ ما بينهما ، ويقال : عُدْوَةَ ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء . ] .
واللامُ في » لِبعض « متعلقةٌ ب » عَدُوّ « ومقوِّيةٌ له ، ويجوزُ أن تكونَ في الأصلِ صفةً ل » عدُوّ « ، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً ، فتتعلَّقُ اللامُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ منها ، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ .
والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ من الناسِ لأنها قطعةٌ منه ، وهو يقابِلُ » كُلاًّ « ، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإِضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل وينتصِبُ عنه الحال . تقول : » مررت ببعضٍ جالساً « وله لفظٌ ومعنًى ، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ » كُل « .

قوله : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدِّمان في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ ، كأنه قيل : اهبِطوا مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ الاستقرارَ . و « لكم » خبرٌ مقدمٌ . و { فِي الأرض } متعلقٌ بما تعَلَّقَ به الخبرُ من الاستقرار . وتعلُّقُه به على وجهين أحدُهما : أنه حالٌ ، والثاني : أنه غيرُ حالٍ بل كسائرِ الظروفِ ، ويجوزُ أن يكونَ { فِي الأرض } هو الخبرَ ، و « لكم » متعلقٌ بما تَعَلَّقَ به هو من الاستقرارِ ، لكن على أنه غيرُ حالٍ ، لئلا يلزَمَ تقديمُ الحالِ على عامِلِها المعنوي ، على أنّ بعضَ النَّحويين أجاز ذلك إذا كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ كهذه الآية ، فيكونَ في « لكم » أيضاً الوجهان ، قال بعضُهم : « ولا يجوز أن يكونَ { فِي الأرض } متعلقاً بمستقرّ سواءً جُعل مكاناً أو مصدراً ، أمّا كونُهُ مكاناً فلأنَّ أسماءَ الأمكنةِ لا تعملُ ، وأمَّا كونُه مصدراً فإن المصدرَ الموصولَ لا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ عليه » . ولِقائلٍ أن يقول : هو متعلِّقٌ به على أنه مصدرٌ ، لكنه غيرُ مؤولٍ بحرفٍ مصدري بل بمنزلةِ المصدر في قولِهم : « له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ » . وقد اعتذر صاحبُُ هذا القولِ بهذا العُذْرِ نفسِه في موضعٍ آخرَ مثلِ هذا .
قوله : { إلى حِينٍ } الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع ، وأنَّ المسألة من بابِ الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ : { مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ } يَطْلُبُ قولَه « { إلى حِينٍ } من جهةِ المعنى . وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه ، والتقديرُ : ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه ومتاعٌ إلى حين ، ولو جاءَ على إعمالِ الأولِ لأضمَرَ في الثاني ، فإن قيل : مِنْ شرطِ الإِعمالِ أن يَصِحَّ تَسَلُّطُ كلٍّ من العامِلَيْنِ على المعمولِ ، و » مستقرٌ « لا يَصِحُّ تَسَلُّطُه عليه لِئَلاَّ يلزَمَ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ والمصدر بتقديرِ الموصول . فالجوابُ : أنَّ المحذورَ في المصدرِ الذي يُرادُ به الحَدَثُ وهذا لَمْ يُرَدْ به حَدَثٌ ، فلا يُؤَول بموصولٍ ، وأيضاً فإنَّ الظرفَ وشبهَه تَعْمَلُ فيه روائِحُ الفعل حتى الأعلامُ كقوله :
380 أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ ... و » مستقر « يجوز أن يكونَ اسمَ مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ ، ولذلك سُمِّيَتِ الأرضُ قَرارَةٌ ، قال الشاعر :
381 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَتَرَكْنَ كلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ
ويقال : استقرَّ وقرَّ بمعنًى . والمَتاعُ : البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَع النهار أي : ارتفع . واختار أبو البقاء أن يكونَ » إلى حين « في محلِّ رفعٍ صفةً لمَتاع .
والحينُ : القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً ، وهذا هو المشهورُ ، وقيل : الوقتُ البعيدُ . ويُقال : عامَلَتْهُ محايَنَةً ، وَأَحْيَنْتُ بالمكانِ أقمت به حِيناً ، وحانَ حينُ كذا : قَرُبَ ، قالت بثينة :
382 وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ ... من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها
وقال بعضُهم : » إنه يُزادُ عليه التاءُ فيقال : تحينَ قُمْتَ « وأنشد :
383 العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ
وليس كذلكَ ، وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء الله تعالى .

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

قوله : { فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } : الفارُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلَها ، و « تلقَّى » تفعَّل بمعنى المجرد ، وله معانٍ أُخَرُ : مطاوعة فَعَّلَ نحو : كسَّرته فتكسَّرَ ، والتجنُّب نحو : تجنَّب أي جانَبَ الجَنْبَ ، والتكلُّف نحو : تحلَّم ، والصيرورةُ نحو : تَأثَّم ، والاتخاذُ نحو : تَبَنَّيْتُ الصبيَّ أي : اتخذتُه ابناً ، ومواصلةُ العمل في مُهْلَة نحو : تَجَرَّع وتَفَهَّمَ ، وموافقةُ استَفْعَل نحو : تكبَّر ، والتوقُّع نحو : تَخَوَّف ، والطلبُ نحو : تَنَجَّز حاجَته ، والتكثير نحو : تَغَطَّيت بالثياب ، والتلبُّس بالمُسَمَّى المشتقِّ منه نحو : تَقَمَّص ، أو العملُ فيه نحو : تَسَحَّر ، والخَتْلُ نحو : تَغَفَّلْتُه . وزعم بعضُهم أن أصل تلقَّى تلقَّن بالنون فأُبْدِلَتِ النونُ ألفاً ، وهذا غَلَطٌ لأن ذلك إنما ورد في المضعَّف نحوَ : قَصَّيْتُ أظفاري وَتَظَنَّيْتُ وأَمْلَيْتُ الكتابَ ، في : قَصَصْتُ وتَظَنَّنْتُ وَأَمْلَلْتُ .
و { مِن رَّبِّهِ } متعلِّقٌ به ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ مجازاً ، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ في الأصلِ صفةً لكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، و « كلماتٍ » مفعول به .
وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ « آدم » ورفعِ « كلمات » ، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه ، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ . وقيل : لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً . ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مؤنثاً [ لأنه غيرُ حقيقي ، وللفصلِ أيضاً ، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً ] مجازياً .
قولُه تعالى : { فَتَابَ عَلَيْهِ } عَطْفٌ على ما قبلَه ، ولا بُدَّ من تقديرِ جملةٍ قبلَها أي : فقالَها . والكلماتُ جمع كلمة ، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله تعالى : { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ } [ آل عمران : 64 ] ثم فَسَّرها بقوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ } إلى آخره . وقال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ } [ المؤمنون : 100 ] يريدُ قولَه : { رَبِّ ارجعون } إلى آخرِه ، وقال لبيد :
384 ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
فسمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمةً ، فقال : « أصدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ » .
والتوبةُ : الرجوعُ ، ومعنى وَصْفِ اللهِ تعالى بذلك أنه عبارةٌ عن العطفِ على عبادِه وإنقاذِهم من العذابِ ، ووصفُ العبدِ بها ظاهرٌ لأنه يَرْجع عن المعصيةِ إلى الطاعةِ ، والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ ، ولا يختصَّان بالباري تعالى . قال تعالى : { يُحِبُّ التوابين } [ البقرة : 222 ] ، ولا يُطْلَقُ عليه « تائب » وإن صُرِّحَ بفعلِه مُسْنَداً إليه تعالى ، وقُدِّم التوابُ على الرحيم لمناسبةِ « فَتَاب عليه » ولأنه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم .
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } نظير قوله : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] . وأدغم أبو عمرو هاء « إنه » في هاء « هو » . واعتُرِض على هذا بأن بين المِثْلَيْنِ ما يمنع [ من ] الإِدغام وهو الواوُ ، وأُجيب بأنَّ الواوَ صلةٌ زائدةٌ لا يُعْتَدُّ بها بدليلِ سقوطِها في قوله :
385 لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّه صوتُ حادٍ ... إذا طَلَبَ الوسِيقَةَ أو زَمِيرُ
وقوله :
386 أو مُعْبَرُ الظهرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه ... ما حَجَّ في الدنيا ولا اعْتَمَرا
والمشهورُ قراءةُ : « إنَّه » بكسر إنَّ ، وقُرئ بفتحِها على تقديرِ لامِ العلة .

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

قولُه : { قُلْنَا اهبطوا } إنما كرَّر قولِه : « قُلْنا » لأنَّ الهبوطَيْنِ مختلفان باعتبارِ متعلَّقَيْهما ، فالهبوطُ الأول [ عَلَّق به العداوةَ ، والثاني علَّقَ به إتيانَ الهدى . وقيل : « لأنَّ الهبوطَ الأول ] من الجنةِ إلى السماءِ ، والثاني من السماءِ إلى الأرض » . واستَعْبَدَه بعضُهم لأجلِ قوله : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } . وقال ابن عطيةِ : « وحكى النقاش أن الهبوطَ الثاني إنما هو من الجنة إلى السماءِ ، والأولى في ترتيبِ الآيةِ إنما هو إلى الأرضِ وهو الأخيرُ في الوقوعِ » . انتهى ، وقيل : كُرِّر على سبيلِ التأكيدِ نحو قولِك : قُمْ قُمْ ، والضمير في « منها » يَعُودُ على الجنةِ أو السماء .
قوله : « جميعاً » حالٌ من فاعلِ « اهبِطوا » أي : مجتمِعِين : إمَّا في زمانٍ واحدٍ أو في أزمنةٍ متفرقة لأنَّ المرادَ الاشتراكُ في أصلِ الفعل ، وهذا [ هو ] الفرقُ بين : جاؤوا جميعاً ، وجاؤوا معاً ، فإن قولَك « معاً » يستلزمُ مجيئهم جميعاً في زمنٍ واحدٍ لِما دَلَّتْ عليه « مع » مِن الاصطحاب ، بخِلاف « جميعاً » فإنها لا تفيدُ إلا أنه لم يتخلَّفْ أحدٌ منهمْ عن المجيءِ ، من غيرِ تعرُّضٍ لاتحادِ الزمانِ . وقد جَرَتْ هذه المسألةُ بين ثعلب وغيره ، فلم يعرِفْها ذاك الرجلُ فأفادها له ثعلب .
و « جميع » في الأصل من ألفاظِ التوكيد ، نحو : « كُل » ، وبعضُهم عَدَّها معها . وقال ابنُ عطية : « وجميعاً حالٌ من الضميرِ في » اهبِطوا « وليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل ، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما ، كأنه قال : » هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً « كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ ، وأنَّ » جميعاً « تأكيدٌ له ، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه . وقال بعضُهُم : التقديرُ : قُلْنا اهبِطوا مجتمِعِين فهبطوا جميعاً ، فَحُذِفَ الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه ، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه ، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ .
قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع } . . . الآية . الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ . و » إمَّا « أصلُها : إن الشرطيةُ زِيدَتْ عليها » ما « تأكيداً ، و » يأتينَّكم « في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، لأنه بُني لاتصالِه بنونِ التوكيدِ . وقيل : بل هو مُعْرَبٌ مطلقاً . وقيل : مبنيٌّ مطلقاً . والصحيح : التفصيلُ : إنْ باشَرَتْه كهذه الآيةِ بُني ، وإلاَّ أُعْرِبَ ، نحو : هل يقومانِّ؟ وبُني على الفتحِ طلباً للخفَّة ، وقيل : بل بُني على السكونِ وحُرِّكَ بالفتحِ لالتقاءِ الساكنينِ . وذهب الزجاج والمبردُ إلى أن الفعلَ الواقعَ بعد إن الشرطية المؤكَّدة ب » ما « يجب تأكيدُه بالنون ، قالا : ولذلك لم يَأْتِ التنزيلُ إلا عليه . وذهب سيبويه إلى أنه جائزٌ لا واجبٌ ، لكثرةِ ما جاءَ به منه في الشعر غيرَ مؤكَّد ، فكثرةُ مجيئِه غيرَ مؤكَّدٍ يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ ، فمِنْ ذلك قولُه :

387 فإمَّا تَرَيْني كابنةِ الرَّمْلِ ضاحياً ... على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ
وقولُ الآخر :
388 يا صاحِ إمَّا تَجِدْني غيرَ ذي جِدَةٍ ... فما التَخلِّي عن الخُلاَّنِ من شِيَمي
وقولُ الآخر :
389- زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّني إمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوها الأَصاغِرُ خُلَّتي
وقول الآخر :
390- فإمَّا تَرَيْني ولِي لِمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أودى بِها
وقولُ الآخر :
391- فإمَّا تَرَيْني لا أُغَمِّضُ ساعةً ... مِن الدهرِ إلا أَنْ أَكِبَّ فَأَنْعَسَا
وقول الآخر :
392 إمَّا تَرَيِْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بينَ عَنَقي وجَمْزِي
وقال المهدوي : « إما » هي إنْ التي للشرطِ زِيدَتْ عليها « ما » ليصِحَّ دخولُ النون للتوكيدِ في الفعلِ ، ولو سَقَطَتْ « ما » لم تَدْخُلِ النونُ ، ف « ما » تؤكِّدُ أولَ الكلامِ ، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه « وتبعه ابنُ عطية . وقال بعضهم : » هذا الذي ذَهَبا إليه من أنَّ النونَ لازِمَةٌ لفعلِ الشرطِ إذا وُصِلَتْ « إنْ » ب « ما » هو مذهبُ المبردِ والزجاجِ « . انتهى . وليس في كلامِهما ما يدُلُّ على لزومِ النونِ كما ترى ، غايةُ ما فيه أنَّهما اشترطا في صِحَّةِ تأكيدِه بالنونِ زيادةَ » ما « على » إنْ « ، أمَّا كونُ التأكيدِ لازماً أو غيرَ لازم فلم يتعرَّضا له ، وقد جاء تأكيدُ الشرطِ بغيرِ » إنْ « كقوله :
393 مَنْ نَثْقَفَنْ منهم فليس بآئِبِ ... أبداً وقتلُ بني قُتَيْبَةَ شافي
و » مني « متعلق ب » يَأْتِيَنَّ « ، وهي لابتداءِ الغاية مَجازاً ، ويجوز أن تكون في محلِّ حالٍ من » هُدَىً « لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، وهو نظيرُ ما تَقَدَّم في قوله تعالى : { مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [ البقرة : 37 ] ، و » هُدى « فاعلٌ ، والفاءُ مع ما بعدها مِنْ قولِه : { فَمَن تَبِعَ } جوابُ الشرطِ الأولِ ، والفاءُ في قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ } جوابُ الثاني ، وقد وقع الشرطُ [ الثاني وجوابُه جوابَ الأول ، ونُقِل عن الكسائي أن قوله : { فَلاَ خَوْفٌ } جوابُ الشرطين ] معاً . قال ابن عطية بعد نَقْلِه عن الكسائي : » هكذا حُكِي وفيه نَظَرٌ ، ولا يتوجَّه أن يُخالَفَ سيبويه هنا ، وإنما الخلافُ في نحوِ قولِه : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ } [ الواقعة : 88-89 ] فيقولُ سيبويهِ : جوابُ أحدِ الشرطينِ محذوفٌ لدلالةِ قوله « فَرَوْحٌ » عليه . ويقول الكوفيون « فَرَوْح » جوابُ الشرطين . وأمَّا في هذه الآية فالمعنى يمنع أَنْ يكونَ « فلا خوف » جواباً للشرطين « . وقيل : جوابُ الشرطِ الأول محذوفٌ تقديرُه : فإمَّا يأتِيَنَّكم مني هدىً فاتَّبعوه ، وقولُه : { فَمَنْ تَبِع } جملةٌ مستقلةٌ . وهو بعيدٌ أيضاً .
و » مَنْ « يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً ، ودَخَلَت الفاءُ في خبرِها تشبيهاً لها بالشرطِ ، ولا حاجةَ إلى هذا .

فإن كانتْ شرطيةً كان « تبع » في محل جزم ، وكذا : « فلا خَوْفٌ » لكونِهما شرطاً وجزاءً ، وإنْ كانت موصولةً فلا محلَّ ل « تَبِع » . وإذا قيل بأنَّها شرطيةٌ فهي مبتدأٌ أيضاً ، ولكنْ في خبرها خلافٌ مشهور : الأصحُّ أنه فعلُ الشرطِ ، بدليل أنه يَلزُم عودُ ضميرٍ مِنْ فعلِ الشرط على اسمِ الشرط ، ولا يلزَمُ ذلك في الجوابِ ، تقول : مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً ، [ فليس في « أُكرم زيداً » ضميرٌ يعودُ على « مَنْ » ولو كان خبراً للزِمَ فيه ضميرٌ ] ، ولو قلتَ : « مَنْ يَقُمْ زيداً أُكْرِمْه » وأنت تعيدُ الهاءَ على « مَنْ » لم يَجُزْ لخلوِّ فعلِ الشرطِ من الضمير . وقيل : الخبرُ الجوابُُ ، ويلزُم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائدٍ على اسمِ الشرطِ ، فلا يَجُوزُ عندهم : « مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً » ولكنه جائز ، هذا ما أورده أبو البقاء . وسيأتي تحقيقُ القول في لزوم عَوْدِ ضميرٍِ مِنَ الجوابِ إلى اسمِ الشرطِ عند قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] . وقيل : مجموعُ الشرطِ والجزاءِ هو الخبرُ لأنَّ الفائدةَ إنما تَحْصَلُ منهما . وقيل : ما كان فيه ضميرٌ عائدٌ على المبتدأِ فهو الخبرُ .
والمشهورُ : « هُدَايَ » ، وقُرئ : هُدَيَّ ، بقلبِ الألفِ ياءً ، وإدغامها في ياء المتكلم ، وهي لغة هُذَيْل ، يقولون في عَصاي : عَصَيَّ ، وقال شاعرُهم يرثي بَنيه :
394 سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
كأنهم لمَّا لم يَصِلوا إلى ما تستحقُّه ياءُ المتكلمِ مِنْ كسرِ ما قبلَها لكونِه ألفاً أتَوا بما يُجَانِسُ الكسرةَ ، فقلبوا الألفَ ياءً ، وهذه لغةٌ مطردةٌ عندهم ، إلا أَنْ تكونَ الألفُ للتثنية فإنهم يُثْبِتُونها نحو : جاء مسلمايَ وغلامايَ .
قولُه : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ جواباً للشرطِ ، فيكونَ في محلِّ جزم ، وأن يكونَ خبراً ل « مَنْ » إذا قيل بأنها موصولةٌ ، وهو أَوْلَى لمقابلتِه بالموصولِ في قولِه : { والذين كَفَرواْ } فيكونَ في محل رفع ، و « لا » يجوز أَنْ تكونَ عاملةً عملَ ليس ، فيكونَ « خوفٌ » اسمها ، و « عليهم » في محلِّ نصبٍ خبرَها ، ويجوز أن تكونَ غيرَ عاملةٍ فيكونَ « خوفٌ » مبتدأ ، و « عليهم » في محل رفع خبرَه . وهذا أَوْلَى مِمَّا قَبْله لوجهين ، أحدُهما : أنَّ عملَها عملَ ليس قليلٌ ولم يَثْبُتْ إلا بشيءٍ محتملٍ وهو قوله :
395 تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً ... ولا وَزرٌ ممَّا قضى اللهُ واقِيَا
والثاني : أنَّ الجملة التي بعدها وهي : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تُعَيِّنُ أن تكونَ « لا » فيها غيرَ عاملةٍ لأنها لا تعملُ في المعارفِ ، فَجَعْلُها غيرَ عاملةٍ فيه مشاكلةٌ لِما بعدها ، وقد وَهِمَ بعضُهم فَجَعَلها عاملةً في المعرفة مستدلاًّ بقوله :
396 وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً ... سِواها في حُبِّها مُتَراخِيا

ف « أنا » اسمُها و « باغياً » خبرُها . قيل : ولا حُجَّةَ فيه لأنَّ « باغياً » حال عاملُها محذوفٌ هو الخبرُ في الحقيقة تقديره : ولا أنا أرى باغِياً ، أو يكونُ التقديرُ : ولا أُرَى باغيا ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ .
وقُرِئَ : « فلا خَوْفُ » بالرفعِ مِنْ غيرِ تنوين ، والأحسنُ فيه أَنْ تكونَ الإِضافةُ مقدرةً أي : خوفُ شيءٍ ، وقيلَ : لأنه على نيةِ الألفِ واللامِ ، وقيل : حَذَفَ التنوينَ تخفيفاً . وقرئ : « فلا خوفَ » مبنياً على الفتح ، لأنها لا التبرئة وهي أبلغُ في النفي ، ولكن الناسَ رجَّحوا قراءةَ الرفع ، قال أبو البقاء : « لوجهَيْنِ ، أحدُهما : أنه عُطِف عليه ما لا يجوزُ فيه إلا الرفعُ وهو قولُه : » ولا هم « لأنه معرفةٌ ، و » لا « لا تعملُ في المعارِفِ ، فالأَوْلى أن يُجْعَلَ المعطوفُ عليه كذلك لتتشاكلَ الجملتان » ، ثم نظَّره بقولِهم : « قام زيد وعمراً كلَّمْتُه » يعني في ترجيحِ النصب في جملة الاشتغالِ للتشاكل . ثم قال : « والوجهُ الثاني من جهة المعنى ، وذلك أنَّ البناءَ يَدُلُّ على نفي الخوفِ عنهم بالكُلِّيَّة ، وليس المراد ذلك ، بل المرادُ نفيُه عنهم في الآخرةِ . فإنْ قيل : لِمَ لا يكونُ وجهُ الرفعِ أنَّ هذا الكلامَ مذكورٌ في جزاءِ مَنِ اتَّبع الهدى ، ولا يَليق أن يُنْفَى عنهم الخوفُ اليسيرُ ويُتَوَهَّمَ ثَبوتُ الخوفِ الكثير؟ قيل : الرفعُ يجوزُ أَنْ يُضْمَرَ معه نفيُ الكثيرِ ، تقديرُه : لا خوفٌ كثيرٌ عليهم ، فيُتَوَهَّمَ ثبوتَ القليلِ ، وهو عكسُ ما قُدِّر في السؤال فبانَ أنَّ الوجهَ في الرفعِ ما ذكرنا » . انتهى .
قولُه تعالى : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدَّم أنه جملةٌ منفيةٌ وأنَّ الصحيحَ أنَّها غيرُ عاملةٍ ، و « يَحْزنون » في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ ، وعلى هذا القولِ الضعيفِ يكون في محل نصب .
والخوفُ : الذُّعْرُ والفَزَع ، يقال : خافَ يخاف فهو خائِفٌ والأصل : خَوِف بزون عَلِمَ ، ويتعدَّى بالهمزةِ والتضعيف . قال تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ } [ الإسراء : 60 ] ، ولا يكونُ إلا في الأمر المستقبل . والحزنُ ضدُّ السرورِ ، وهو مأخوذٌ من الحَزْن ، وهو ما غَلُظَ من الأرض فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ ، ولا يكون إلا في الأمرِ الماضي ، يقال : حَزِن يَحْزَن حُزْناً وحَزَناً . ويتعدَّى بالهمزةِ نحو : أَحْزَنْتُه ، وحَزَّنْتُه ، بمعناه ، فيكون فَعَّل وأَفْعَلَ بمعنى . وقيل : أَحْزَنَه حَصَّل له حُزْناً . وقيل : الفتحةُ مُعَدِّيةٌ للفعلِ نحو : شَتِرَتْ عينُه وشَتَرها الله ، وهذا على قولِ مَنْ يَرَى أنَّ الحركةَ تُعَدِّي الفعلَ . وقد قُرِئ باللغتين : « حَزَنَه وأَحْزَنه » وسيأتي تحقيقهما .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

قوله : { والذين كَفَرواْ ، إلى قوله : خَالِدُونَ } : « الذين » مبتدأ وما بعده صلةٌ وعائدٌ ، و « بآياتنا » متعلقٌ بكذَّبوا . ويجوز أن تكونَ الآيةُ من بابِ الإِعمال ، لأنَّ « كفروا » يَطْلُبها ، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول ، والتقديرُ : كفروا بنا وكَذَّبوا بآياتِنا . و « أولئك » مبتدأٌ ثانٍ و « أصحابُ » خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، ويجوزُ أن يكونَ « أولئك » بدلاً من الموصول أو عطفَ بيان له ، و « أصحابُ » خبرَ المبتدأ الموصول . وقوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ للتصريحِ بذلك في مواضعَ . قال تعالى : { أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ } [ التغابن : 10 ] . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من « النار » ، قال : « لأنَّ فيها ضميراً يعودُ عليها ، ويكونُ العامل فيها معنى الإِضافةِ أو اللام المقدَّرَةَ » . انتهى . وقد عُرِف ما في ذلك .
ويجوز أن تكونَ في محلِّ رفع خبراً لأولئك ، وأيضاً فيكونُ قد أُخْبِرَ عنه بخبرين ، أحدُهما مفردٌ وهو « أصحابُ » . جملةٌ ، وقد عُرَف ما فيه من الخلافِ .
و « فيها » متعلقٌ ب « خالدون » . قالوا : وحُذِف من الكلام الأول ما أُثْبِتَ في الثاني ، ومن الثاني ما أُثْبِتَ في الأول ، والتقدير : فَمَنْ تبع هُدايَ فلا خوفٌ ولا حُزْنٌ يَلْحَقُه وهو صاحبُ الجنةِ ، ومَنْ كَفَر وكَذَّب لَحِقَه الحزنُ والخوفُ وهو صاحبُ النار لأنَّ التقسيمَ يقتضي ذلك ، ونظَّروه بقولِ الشاعر :
397 وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ فَتْرَةٌ ... كما انتفَضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ
والآيَةُ [ لغةً ] : العلامةُ ، قال النابغةُ الذبياني :
398 تَوَهَمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابِعُ
وسُمِّيَتْ آيةُ القرآنِ [ آيةً ] لأنها علامةٌ لانفصالِ ما قبلَها عمَّا بعدَها . وقيل : سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْمَعُ حروفاً من القرآن فيكون مِنْ قولِهم : « خرج بنو فلان بآيتِهم » أي : بجماعتهم ، قال الشاعر :
399 خَرَجْنا مِن النَّقْبَيْنِ لا حَيَّ مِثْلُنا ... بآياتِنا نُزْجي اللِّقاحَ المَطافِلاَ
واختلف النحويون في وَزْنِها : فمذهب سيبويه والخليلِ أنها فَعَلَة ، والأصل : أَيَية بفتح العين ، تحرَّكَتِ الياء وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً ، وهذا شاذٌ ، لأنه إذا اجتمع حرفا عِلة أُعِلَّ الأخيرُ ، لأنه مَحَلُّ التغييرِ نحو : هوى وحوى ، ومثلُها في الشذوذِ : غاية وطاية وراية .
ومذهبُ الكسائي أن وَزنَها آيِيَة على وزن فاعِلة ، فكانَ القياسُ أن يُدْغَمَ فيقال : آيَّة كدابَّة إلا أنه تُرِكَ ذلك تخفيفاً ، فحذَفُوا عينَها كما خفَّفوا كَيْنونة والأصل : كيَّنونة بتشديد الياء ، وضَعَّفُوا هذا بأنَّ بناءَ كيَّنونة أثقلُ فناسَبَ التخفيفُ بخلافِ هذه .
ومذهبُ الفرَّاء أنَّها فَعْلةٌ بسكونِ العين ، واختاره أبو البقاء قال : « لأنها من تَأَيَّا القوم أي اجتمعوا ، وقالوا في الجمع : آياء ، فَظَهَرَتِ الياءُ [ الأولى ] ، والهمزةُ الأخيرةُ بدلٌ من ياء ، ووزنُه أَفْعال ، والألفُ الثانيةُ بدلٌ من همزةٍ هي فاءُ الكلمة ، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع ، آواء ، ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الساكنةَ ألفاً على غيرِ قياس » انتهى . يعني أنَّ حرفَ العلَّةِ لا يُقْلَبُ حتى يَتَحَرَّكَ وينفتحَ ما قبله .
وذهبَ بعضُ الكوفيين إلى أن وزنها أَيِيَة ، بكسر العين مثل : نَبِقَة فَأُعِلَّ ، وهو في الشذوذِ كمذهبِ سيبويه والخليل . وقيل وزنُها : فَعُلَة بضم العين ، وقيل أصلُها : أياة بإعلال الثاني ، فَقُلبت بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ وأُخِّرَتِ العينُ وهو ضعيفٌ . فهذه ستةُ مذاهبَ لا يَسْلَمُ كلُّ واحدٍ منها من شذوذٍ .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

قولُه تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } . . « بني » منادى وعلامةُ نصبِه الياءُ لأنه جمعُ مذكرٍ سالمٌ وحُذِفَتْ نونُه للإِضافةِ ، وهو شبيهٌ بجَمْعِ التكسيرِ لتغيُّرِ مفرِده ، ولذلك عامَله العربُ ببعضِ معاملةِ التكسير فَأَلْحقوا في فِعْلِه المسندِ إليه تاءَ التأنيثِ نحو : قالت بنو فلان ، وقال الشاعرَ :
400 قالَتْ بنو عامِرٍ خالُوا بني أَسَدٍ ... يا بؤسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
وأعْربوه بالحركاتِ أيضاً إلحاقاً [ له ] به ، قال الشاعر :
401 وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ ... أباً بَرًّا ونحنَ له بنينُ
برفعِ النونِ ، وهل لامُه ياءٌ لأنه مشتقٌ من البناء لأن الابنَ من فَرْعِ الأبِ ، ومبنيٌّ عليه ، أو واوٌ لقولهم : البُنُوَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة؟ قولان . الصحيحُ الأولُ ، وأمّا البُنُوّة فلا دلالَةَ فيها لأنهم قد قالوا : الفُتُوَّة ، ولا خلافَ أنها من ذوات الياء ، إلا أنَّ الأخفشَ رَجَّح الثانيَ بأنَّ حَذْفَ الواو أكثرُ . واختُلِفَ في وزنِه فقيل : بَنَي بفتح العين وقيل بَنْي بسكونها ، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرةِ التي سُكِّنَتْ فاؤها وعُوِّضَ من لامِها همزةُ الوصلِ .
وإسرائيل : خَفْضٌ بالإِضافةِ ، ولا يَنْصَرِفُ للعلَمِيَّة والعُجْمة ، وهو مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ مثل : عبد الله ، فإنَّ « إسْرا » هو العبدُ بلغتِهم ، و « إيل » هو اللهُ تعالى . وقيل : « إسْرا » مشتقٌ من الأسْرِ وهو القوة ، فكأن معناه : الذي قَوَّاه الله . وقيل لأنه أُسْرِي بالليلِ مُهاجراً إلى اللهِ تعالى . وقيل : لأنه أَسَرَ جِنِّيَّاً كان يُطْفِئُ سِراج بيتِ المَقْدِس . قال بعضُهُم : فعلى هذا يكونُ الاسمِ عربياً وبعضُه أعجمياً ، وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ بلغاتٍ كثيرةٍ أفصَحُها لغةُ القرآنِ وهي قراءةُ الجمهور . وقرأ أبو جعفر والأعمش ، « إسْرايِل » بياءٍ بعد الألف من غيرِ همزةٍ ، ورُوِي عن ورش : إسْرائِل بهمزةٍ بعد الألف دونَ ياءٍ ، واسْرَأَلَ بهمزةٍ مفتوحةٍ بين الراء واللام [ واسْرَئِل بهمزة مكسورةٍ بين الراء واللام ] وإسْرال بألفٍ محضة بين الراءِ واللامِ ، قال الشاعر :
402 لا أرى مَنْ يُعْينُني في حياتي ... غيرَ نفسي إلا بني إسْرالِ
وتُرْوى قراءةً عن نافع . و « إسرائِين » أَبْدلوا من اللامِ نوناً كأُصَيْلان في أُصَيْلال ، قال :
403 قالَتْ وكنتُ رجلاً فَطِينا ... هذا وربِّ البيتِ إسرائينا
ويُجْمَع على « أَساريل » . وأجاز الكوفيون : أَسارِلَة ، وأسارِل ، كأنهم يُجيزون التعويضَ وعدمه ، نحو : فَرازِنة وفرازين . قال الصفَّار : « لا نعلم أحداً يُجيز حذفَ الهمزةِ من أوَّلِه » .
قوله : { اذكروا نِعْمَتِيَ } اذكروا فعلٌ وفاعلٌ ، ونعمتي مفعولٌ ، وقال ابن الأنباري : « لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه : شُكْرَ نِعْمتي . والذِّكر والذُّكر بكسرِ الذال وضَمِّها بمعنىً واحدٍ ، ويكونان باللسانِ وبالجَنانِ . وقال الكسائي : » هو بالكسر لِلِّسان وبالضمّ للقلب « فضدُّ المكسور : الصمتُ ، وضدُّ المضمومِ : النِّسْيان ، وفي الجملةِ فالذكرُ الذي محلُّه القلبُ ضدُّه النسيانُ ، والذي محلُّه اللسانُ ضِدُّه الصمتُ ، سواءً قيل : إنهما بمعنىً واحدٍ أم لا .

والنِّعْمَةُ : اسمٌ لِما يُنْعَمُ به وهي شبيهةٌ بفِعْلٍ بمعنى مَفْعول نحو : ذِبْح ورِعْي ، والمرادُ بها الجمعُ لأنها اسمُ جنسٍ ، قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . و { التي أَنْعَمْتُ } صفتُها والعائدُ محذوفٌ . فإنْ قيل : مِنْ شرطِ حَذْفِ عائدِ الموصولِ إذا كان مجروراً أن يُجَرَّ الموصولُ بمثلِ ذلك الحرفِ وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقُهما ، وهنَا قد فُقِد الشرطان ، فإنَّ الأصلَ : التي أنعمتُ بها ، فالجوابُ أنه إنما حُذِف بعد أَنْ صار منصوباً بحَذْفِ حَرْفِ الجرِّ اتساعاً فبقي : أنعمتُها ، وهو نظيرُ : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] في أحدِ الأوجه ، وسيأتي تحقيقُه إنْ شاء الله تعالى .
و « عليكُمْ » متعلِّقٌ به ، وأتى ب « على » دلالةً على شمولِ النعمةِ لهم .
قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي } هذه جملةٌ أمريةٌ عطْفٌ على الأمريَّةِ قبلَها ، ويقال : أَوْفَى وَوَفَى وَوَفَّى مشدَّداً ومخففاً ، ثلاثُ لغاتٍ بمعنىً ، قال الشاعر :
404 أمَّا ابنُ طَوْقٍ فقد أَوْفَى بذِمَّتِه ... كما وَفَى بقِلاصِ النَّجْمِ حادِيها
فَجَمَع بين اللغتين . ويقال : أَوْفَيْتُ وفَيْتُ بالعهدِ وأَوْفَيت الكيلَ لا غيرُ . وعن بعضِهم أنَّ اللغاتِ الثلاثَ واردةٌ في القرآن ، أمَّا « أَوْفى » فكهذه الآية ، وأمَّا « وفَّى » بالتشديد فكقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] ، وأمَّا « وَفَى » بالتخفيف فلِم يُصَرَّح به ، وإنما أُخِذَ مِنْ قوله تعالى : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } [ التوبة : 111 ] ، وذلك أنَّ أَفْعَلَ التفضيلَ لا يُبْنَى إلا من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهورُ ، وإنْ كانَ في المسألة كلامٌ كثيرٌ ، ويُحْكى أن المستنبِطَ لذلك أبو القاسم الشاطبي ، ويجيء « أَوْفَى » بمعنى ارتفع ، قال :
405 رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ
و « بعهدي » متعلِّقٌ ب « أَوْفُوا » والعَهْدُ مصدرٌ ، ويُحتمل إضافتُه للفاعل أو المفعول . والمعنى : بما عَاهَدْتُكم عليه من قَبول الطاعة ، ونحوُه : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني آدَمَ } [ يس : 60 ] أو بما عاهَدْتموني عليه ، ونحوُه : { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] ، { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] .
قوله : « أُوْفِ » مجزومٌ على جوابِ الأمر ، وهل الجازمُ الجملةُ الطلبيةُ نفسُها لِما تضمَّنَتْه مِنْ معنى الشرط ، أو حرفُ شرطٍ مقَدَّرٌ تقديرُه : « إنْ تُوفوا بعَهْدي أُوفِ » قولان . وهكذا كلُّ ما جُزِم في جوابِ طلبٍ يَجْري [ فيه ] هذا الخلاف .
و « بعَهْدِكم » متعلِّقٌ به ، وهو محتمِلٌ للإِضافةِ إلى الفاعلِ أو المفعولِ كما تقدَّم .
قولُه : { وَإِيَّايَ فارهبون } « إيَّاي » ضميرٌ منصوبٌ منفصلٌ ، وقد عُرِفَ ما فيه من الفاتحة . ونصبُه بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ الظاهرُ بعدَه ، والتقديرُ : « وإياي ارهبوا فارهبون » وإنما قَدَّرْتُه متأخراً عنه ، لأنَّ تقديرَه متقدِّماً عليه لا يَحْسُنُ لانفصالِه ، وإن كان بعضُهم قَدَّره كذلك . والفاءُ في « فارهبون » فيها قولان للنحويين ، أحدُهما : أنها جوابُ أمر مقدَّر تقديرُه : تَنَبَّهوا فارهبون ، وهو نظيرُ قولِهم : « زيداً فاضرب » أي : تنبَّهْ فاضربْ زيداً ، ثم حُذِف : تَنَبَّه فصار : فاضْرِب زيداً ، ثم قُدِّم المفعولُ إصلاحاً للَّفْظِ ، لئلا تقعَ الفاءُ صدراً ، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لتربِطَ هاتين الجملتين .

والقولُ الثاني في هذه الفاءِ : أنها زائدةٌ . وقال الشيخ بعد أن حكى القولَ الأولَ : « فتحتملُ الآيةُ وجهين أحدُهما : أن يكونَ التقديرُ : وإياي ارهبوا تنبَّهُوا فارهبون ، فتكونُ الفاء دَخَلَتْ في جواب الأمر وليست مؤخرةً من تقديم . والوجهُ الثاني أن يكونَ التقديرُ : وتنبَّهوا فارهبون ، ثم قُدِّم المفعولُ فانفصلَ وأُتِي بالفاء حين قُدِّم المفعول ، وفعلُ الأمر الذي هو تنبَّهوا محذوفٌ ، فالتقى بحذفِه الواوُ والفاءُ ، يعني فصارَ التقديرُ : وفإياي ارهَبُوا ، فقُدِّم المفعولُ على الفاءِ إصلاحاً للفظ ، فصارَ : وإيَّاي فارهبوا ، ثم أُعيد المفعولُ على سبيل ِ التأكيد ولتكميل الفاصِلةِ ، وعلى هذا » فإيَّاي « منصوبٌ بما بَعده لا بفعلٍ محذوفٍ ، ولا يَبْعُد تأكيد المنفصل بالمتصل كما لا يمتنعُ تأكيدُ المتصلِ بالمنفصلِ ، وفيه نظرٌ .
والرَّهَبُ والرَّهْبُ والرَّهْبةُ : الخوفُ ، مأخوذٌ من الرَّهابة وهي عَظْْمٌ في الصدر يؤثِّر فيه الخوف .

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

قوله تعالى : { بِمَآ أَنزَلْتُ } . . « ما » يجوز أن تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي أَنْزَلْتُه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ أي بالمنزَّلِ . و « مصدقاً » نصبٌ على الحالِ ، وصاحبُها العائدُ المحذوفُ . وقيل : صاحبُها « ما » والعاملُ فيها « آمنوا » وأجازَ بعضُهم أن تكونَ « ما » مصدريةً من غير جَعْلِه المصدرَ واقعاً موقعَ مفعولٍ به ، وجَعَل « لِما معكم » من تمامه ، أي : بإنزالي لِما معكم ، وجَعَل « مُصَدِّقاً » حالاً من « ما » المجرورةِ باللامِ قُدِّمَتْ عليها وإن كان صاحبُها مجروراً ، لأنَّ الصحيحَ جوازُ تقديمِ حالِ المجرورِ [ بحرفِ الجر ] عليه كقولِه :
406 فإنْ تَكُ أَذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يَذْهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ
« فَرْغا » حالٌ من « بقتل » ، وأيضاً فهذه اللامُ زائدةٌ فهي في حكم المُطَّرح ، و « مصدقاً » حالٌ مؤكدة ، لأنه لا تكونُ إلا كذلك . والظاهرُ أنَّ « ما » بمعنى الذي ، وأنَّ « مصدقاً » حالٌ مِنْ عائدِ الموصولِ ، وأنَّ اللامَ في « لِما » مقويةٌ لتعدية « مصَدِّقاً » ل « ما » الموصولةِ بالظرف .
قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } « أولَ » خبرُ « كان » قبلَه ، وفيه أربعة أقوال ، أحدُها وهو مذهبُ سيبويهِ أنه أَفْعَل ، وأنَّ فاءَه وعينَه واوٌ ، وتأنيثَه أُوْلى ، وأصلُها : وُوْلى ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً وجوباً ، وليست مثلَ « وُوْرِيَ » في عَدَمِ قَلْبها لسكونِ الواوِ بعدَها ، لأنَّ واوَ « أُولَى » تَحَرَّكت في الجمعِ في قولهم « أُوَل » ، فحُمِلَ المفردُ على الجمعِ في ذلك . ولم يَتَصَرَّفْ من « أوَّل » فِعْلٌ لاستثقاله . وقيل : هو مِنْ وَأَل إذا نجا ، ففاؤُه واوٌ وعينُه همزةٌ ، وأصلُه أَوْ أَل ، فَخُفِّفَت بأَنْ قُلِبَتِ الهمزةُ واواً ، وأُدْغِم فيها الواوُ فصار : أوَّل ، وهذا ليسَ بقياس تخفيفِه ، بل قياسُه أن تلقى حركةُ الهمزةِ على الواو الساكنة وتُحْذَفُ الهمزةُ ، ولكنهم شَبَّهوه بخَطِيَّة وبرِيَّة ، وهو ضعيفٌ ، والجمع : أَوائل وأَوالي أيضاً على القلب . وقيل : هو من آل يَؤُول إذا رَجَع ، وأصلُه : أَأْوَل بِهمزتين الأولى زائدةٌ والثانيةُ فاؤُه ، ثم قُلِب فأُخِّرَتِ الفاءُ بعد العين فصار : أوْأَل بوزن أَعْفَل ، ثم فُعِلَ به ما فُعِل في الوجهِ الذي قبلَه من القلب والإِدغامِ وهو أضعفُ منه . وقيل : هو وَوَّل بوزن فَوْعَلِ ، فأُبْدِلَتِ الواوُ الأولَى همزةً ، وهذا القولُ أَضْعَفُها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرفَ ليس إلاَّ . والجمعُ : أوائل ، والأصلُ : وَواوِل ، فَقُلِبتِ الأولى همزةً لِما تقدَّم ، والثالثة أيضاً لوقوعِها بعد ألفِ الجمعِ .
واعلم أَنَّ « أَوَّل » أَفْعَلُ تفضيلٍ ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى نكرةٍ كان مفرداً مذكراً مطلقاً .

ثم النكرةُ المضافُ إليها أَفْعل : إمَّا أن تكونَ جامدةً أو مشتقةً ، فإنْ كانَتْ جامدةً طابقَتْ ما قبلها نحو : الزيدان أفضلُ رجلَيْن ، الزيدون أفضلُ رجال ، الهنداتُ أفضلُ نسوةٍ . وأجاز المبردُ إفرادَها مطلقاً ورَدَّ عليه النَّحْويون . وإن كانَتْ مشتقةً فالجمهورُ أيضاً على وجوبِ المطابقةِ نحو : « الزيدُون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين » ، وأجازَ بعضُهم المطابقةَ وعدَمَها ، أنشد الفراء :
407 وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ ... وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ
فَأَفْرَدَ في الأولِ وطابَقَ في الثاني . ومنه عندَهم : { وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } .
إذا تقرَّر هذا فكان ينبغي على قولِ الجمهور أن يُجْمع « كافر » ، فأجابوا عن ذلك بأوجهٍ : أَجْوَدُها : أَنَّ أَفْعَل في الآية وفي البيتِ مضافٌ لاسمٍ مفردٍ مُفْهِمٍ للجمع حُذِفَ وبَقيتْ صفتُه قائمةً مَقامَه ، فجاءت النكرةُ المضافُ إليها أفْعَل مفردةٍ اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف ، والتقديرُ : ولا تكونوا أولَ فريقٍ أو فوجٍ كافرٍ ، وكذا : فَالأَمُ فريقٍ طاعمٍ ، وقيل : لأنه في تأويل : أوَّلَ مَنْ كفر به ، وقيل : لأنه في معنى : لا يكُنْ كلُّ واحدٍ منكم أولَ كافرٍ ، كقولِك : كساناً حُلَّةً أي : كلَّ واحدٍ منا ، ولا مفهومَ لهذهِ الصفةِ هنا فلا يُراد : ولا تكونوا أولَ كافرٍ بل آخرَ كافر . ولمَّا اعتقدَ بعضُهم أنَّ لها مفهوماً احتاجَ إلى تأويل جَعْلِ « أول » زائداً ، قال : تقديرُه ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ليس بشيء ، وقدَّره بعضُهم بأَنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه : ولا تكونوا أولَ كافرٍ به ولا آخرَ كافرٍ ، ونصَّ على الأول لأنه أَفْحَشُ للابتداءِ به ، وهو نظيرُ قولِه :
408 مِنْ اُناسٍ ليسَ في أَخْلاقِهِمْ عاجلُ ... الفُحْشِ ولا سوءُ الجَزَعْ
لا يريد أن فيهم فُحْشاً آجِلاً ، بل يريد لا فُحْشَ عندهم لا عاجلاً ولا آجِلاً . والهاءُ في « به » تعودُ على « ما أَنْزَلْتُ » وهو الظاهرُ ، وقيل : على « ما معكم » وقيل : على الرسولِ عليه السلام لأنّ التنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه ، وقيل : على النعمةِ ذهاباً بها إلى معنى الإِحسانِ .
قوله : { بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } متعلِّقٌ بالاشتراءِ قبلَه ، وضُمِّنَ الاشتراءُ معنى الاستبدالِ ، فلذلك دَخَلَتِ الباءُ على الآياتِ ، وكان القياسُ دخولَها على ما هو ثَمَنٌ لأنَّ الثمنَ في البيعِ حقيقتُه أن يَشْتَرَى به لا أَنْ يَشْتَري لكنْ لَمَّا دَخَلَ الكلامَ معنى الاستبدالِ جازَ ذلك ، لأنَّ معنى الاستبدالِ أن يكونَ المنصوبُ فيه حاصلاً والمجرورُ بالباءِ زائلاً . وقد ظَنَّ بعضُهم أنَّ « بَدَّلْتُ الدرهمَ بالدينار » وكذا « أَبْدَلْتُ » أيضاً أنَّ الدينارَ هو الحاصلُ والدرهمَ هو الزائلُ ، وهو وَهْمٌ ، ومِنْ مجيءِ اشترى بمعنى استبدل قوله :
409 كما اشْتَرَى المسلمُ إذا تَنَصَّرا ... وقول الآخر :
410 فإنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم ... فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدكِ بالجَهْلِ
وقال المهدوي : « دخولُ الباءِ على الآياتِ كدخولِها على الثَّمن ، وكذلك كلُّ ما لا عَيْنَ فيه ، وإذا كان في الكلامِ دراهمُ أو دنانيرُ دخَلَتِ الباءُ على الثمنِ قاله الفراء » انتهى .

يعني أنه إذا لم يكُنْ في الكلامِ درهمٌ ولا دينارٌ صَحَّ أن يكونَ كلُّ من العِوَضَيْن ثمناً ومثمَّناً ، لكن يَخْتَلِفُ [ ذلك ] بالنسبةِ إلى المتعاقِدَيْن ، فَمَنْ نَسَب الشراءَ إلى نفسِه أَدْخَلَ الباءَ على ما خَرَج منه وزال عنه ونَصَب ما حَصَل له ، فتقولُ : اشتريتُ هذا الثوبَ بهذا العبدِ ، وأمَّا إذا كان ثَمَّ دراهمُ أو دنانيرُ كان ثَمَناً ليس إلاَّ ، نحو : اشتريْتُ الثوبَ بالدرهمِ ، ولا تقول : اشتريتُ الدرهمَ بالثوبِ . وقدَّر بعضُهم [ مضافاً ] فقال : بتعليمِ آياتي لأنَّ الآياتِ نفسَها لا يُشْتَرى بِها ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، لأنَّ معناه الاستبدال كما تقدَّم .
و « ثَمناً » مفعولٌ به ، و « قليلاً » صفتُه . و { وَإِيَّايَ فاتقون } كقوله { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] . وقال هنا : [ فاتقون ، وهناك فارهبون لأنَّ تَرْكَ المأمورِ به هناك معصيةٌ وهي تَرْكُ ذِكْر النعمةِ والإِيفاءِ بالعَهْدِ ، وهنا ] تَرْكُ الإِيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً كفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهَب هناك لأنه أخفُّ يجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً ، وذَكَر التقوى هنا لأنه كُفْرٌ لا يجوز العفو عنه ، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ الوقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه .

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

قوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } : الباءُ : [ هنا ] معناها الإِلصاقُ ، كقولِك : خَلَطْتُ الماءَ باللبن ، أَي : لاَ تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ فلا يتميَّزَ . وقال الزمخشري : « إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء وخَلَطْتُه به كان المعنى : ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم . وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك : كتبْتُ بالقلَمِ كان المعنى : ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه » فأجازَ فيها وجهين كما ترى ، ولا يريدُ بقوله : « صلة » أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها مُوصِلَةٌ للفعلِ ، كما تقدَّم . قال الشيخ : « وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن؟ .
قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } فيه وجهان ، أحدُهما وهو الأظهرُ : أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه ، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي : لا تفعلوا لا هذا ولا هذا . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمارِ » أَنْ « في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ ، أي : لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه ، ومنه :
411 لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ
و » أَنْ « مع ما في حيِّزها في تأويلِ مصدرٍ ، فلا بُدَّ من تأويلِ الفعلِ الذي قَبلَها بمصدرٍ أيضاً ليصِحَّ عَطْفُ الاسمِ على مثلِه ، والتقديرُ : لا يكُنْ منكم لَبْسُ الحقِ بالباطلِ وكتمانُه ، وكذا [ سائرُ ] نظائره . وقال الكوفيون : » منصوب بواو الصرف « ، وقد تقدَّم معناه ، والوجهُ الأولُ أَحْسَنُ لأنه نَهْيٌ عن كلِّ فِعْلٍ على حِدَتِه . وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه نَهْيٌ عن الجمع ، ولا يَلْزَمُ مِن النهيِ عن الجمعِ بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَتِه إلا بدليل خارجي
واللَّبْسُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ، يُقال : لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله ، ومنه قولُ الخَنْساء :
412 ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه ... رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا
صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ ... والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا
وقال العجَّاج :
413 لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي ... غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي
ومنه أيضاً :
414 وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ ... حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا
وفي فلان مَلْبَسٌ أي : مُسْتَمْتَعٌ ، قال :
415- ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً ... وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا
وقولُ الفَرَّار :
416 وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي
يحتمل أن يكونَ منه وأن يكونَ من اللِّباس ، والآيةُ الكريمةُ تحتمِلُ المعنيين أي : لا تُغَطُّوا الحقَّ بالباطِلِ .
والباطلُ ضدُّ الحقِّ ، وهو الزائلُ ، كقولِ لبيد :
417 ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد بَطَل يَبْطُلُ بُطولاً وبُطْلاً وبُطْلاناً . والبَطَلُ : الشجاعُ ، سُمِّي بذلك لأنه يُبْطِل شَجاعةَ غيرِه . وقيل : لأنه يُبْطِلَ دمَه ، فهو فَعَل بمعنى مَفْعُولِ ، وقيل : لأنه يُبْطِلُ دمَ غيرِه فهو بمعنى فاعلِ .

وقد بَطُل [ بالضم ] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي : صارَ شجاعاً . قال النابغة :
418 لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ ... لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي
وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطالة بالكسر : إذا تَعَطَّل فهو بَطَّالٌ ، وذهب دَمُه بُطْلاً بالضم أَي : هَدْراً .
قولُه : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وعامُلها : إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا ، إلاَّ أنَّ عَمَل « تكتموا » أَوْلَى لوجهين ، أحدُهما : أنه أقربُ . والثاني : أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ به أَبْلَغُ ذمَّاً ، وفيه نوعُ مقابلةٍ . ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال ، لأنه يَسْتدعي الإِضمارَ ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال ، لأنه لا يكونُ إلا نكرةً ، ولذلك مَنَعوا الإِخبارَ عنه بالذي . فإنْ قيل : تكونُ المسألةُ من باب الإِعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إضمارٍ ، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ : ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ وأنتم تعلمون ، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون . فالجوابُ أنَّ هذا لا يُقال فيه إعمالٌ ، لأنَّ الإِعمالَ يَسْتَدْعي أن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ . وأجاز ابن عطية ألاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال : « ويُحْتمل أن تكونَ شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام ، ولم يَشْهَدْ لهم بالعلمِ [ على الإِطلاق ] ، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال » وفيما قاله نظرٌ .
وقُرئ شاذاً : « وَتَكْتُمونَ » بالرفع ، وخَرَّجوها على أنها حالٌ . وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ ، وما وَرَد من ذلك فهو مؤولٌ بإضمار مبتدأ قبلَه قَولِهم : « قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه » ، وقولِ الآخر :
419 فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا
أي : وأنا أصُكُّ ، وأنا أَرْهُنهم ، وكذا : وأنتم تَكْتُمون ، إلاَّ أنه يَلْزَمُ منه إشكالٌ آخرُ ، وهم أنهم مَنْهِيُّون عن اللَّبْسِ مطلقاً ، والحالُ قََيْدٌ في الجملةِ السابقةِ فيكونُ قد نُهُوا بقيدٍ ، وليسَ ذلك مُراداً ، إلا أَنْ يُقال : إنَّها حالٌ لازمةٌ ، وقد قدَّرَه الزمخشري بكاتِمين ، فَجَعَله حالاً ، وفيه الإِشكالُ المتقدِّم ، إلاَّ أنْ يكونَ أرادَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ . ويجوزُ أن تكونَ جملةً خبريةً عُطِفَتْ على جملةٍِ طلبيةٍ ، كأنَّه تعالى نَعَى عليهم كَتْمَهُمْ الحقَّ مع عِلْمِهِم أنَّه حق . ومفعولُ العلمِ غيرُ مرادٍ لأنَّ المعنى : وأنتم مِنْ ذوي العلمِ . وقيلَ : حُذِفَ للعلمِ به ، والتقديرُ : تَعْلَمُون الحقَّ من الباطِلِ . وقَدَّره الزمخشري « وأنتم تَعْلَمُون في حالِ عِلْمِكُم أنَّكم لابسونَ كاتمون » ، فَجَعَل المفعولَ اللَّبْسَ والكتمَ المفهومَيْنِ من الفعلَيْن السابقَيْن ، وهذا حَسَنٌ جداً .
قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } هذه الجملةُ وما بعدَََهَا عطفٌ على الجملةِ قبلَها ، عطفَ أمراً على نَهْي . وأصلُ أَقيموا : « أَقْوِمُوا » فَفُعِل به ما فُعِلَ ب

{ يُقِيمُونَ } [ البقرة : 3 ] وقد تقدَّم ، وأصلُ آتُوا : اَأْتِيُوا بهمزتين مثل : أَكْرِموا ، فَقُلِبَتْ الثانيةُ ألفاً لسكونِها بعدَ همزةٍ مفتوحةٍ ، واسْتُثْقِلَتِ الضَّمةُ على الياءِ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان « الياءُ والواوُ ، فحُذِفَتِ الياءُ لأنها أَوَّلُ ، وحُرِّكَتِ التاءُ بحركتِها . وقيل : بل ضُمَّت تَبَعاً للواو ، كما ضُمَّ آخِرُ » اضْرِبُوا « ونحوِه ، ووزنه : أَفْعُوا بحذف اللام .
وألفُ » الزكاة « من واو لقولهم : زَكَوات ، وزَكا يَزْكُو ، وهي النُمُوُّ ، وقيل : الطهارةُ ، وقيل : أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه » زَكَّى القاضي الشهودَ « ، والزَّكا : [ الزوجُ ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه . والخَسا : الفَرْدُ : قال :
420 كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ ... لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ تَعْتِلجُ
قوله : { مَعَ الراكعين } منصوبٌ باركَعوا . والركوعُ : الطمأنينةُ والانحناءُ ، ومنه قوله :
421 أُخَبِّرُ أَخْبارَ القرونِ التي مَضَتْ ... أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ راكِعُ
وقيل : الخضوعُ والذِّلَّة ، ومنه قولُ الشاعر :
422 ... لا تُهينَ الفقيرَ علَّكَ أَنْ تَرْ
كَعَ يوماً والدهرُ قَدْ رَفَعَهْ ...

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)

قولُه تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم . و « أَمَرَ » يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَفُ ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله :
423 أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ
فالناسَ مفعولٌ أولُ ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان . والبِرُّ : سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة ، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما ، والفعلُ [ منه ] : بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم ، قال :
424 لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا ... يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا
[ أي : يُطيعونك ، والبِرُّ أيضاً : ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم ، ومنه قولُهم : « لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ » أي : لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها ، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ ، قال :
425 أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه ... وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ
والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ ، ومنه : وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ ، أي : يُعَظِّمُهما ، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه ] .
قوله : « وَتَنْسَوْن » داخلٌ في حَيِّز الإِنكار ، وأصلُ تَنْسَوْن : تَنْسَيُون ، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها ، وقد تقدَّم في { اشتروا } [ البقرة : 16 ] ، فوزنُه تَفْعون ، والنِّسيانُ : ضدُّ الذِّكْر ، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ ، ومنه : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه ، قال :
426 ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ ... وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ
قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال ، العاملُ فيها « تَنْسَوْن » . والتلاوةُ : التتابعُ ، ومنه تلاوة القرآنِ ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ ، ومنه : { والقمر إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] ، وأَصل تَتْلُون : تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ فوزنُه : تَفْعُون .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً ، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] ، والنيَّةُ بها التأخيرُ ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول : ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ . وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده ، فيقدِّر هنا : أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون ، وكذا : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أَعَمُوا فلم يَرَوْا ، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها . ومفعولُ « تَعْقِلون » غيرُ مرادٍ ، لأنَّ المعنى : أفلا يكونُ منكم [ عَقْلٌ ] . وقيل : تقديرهُ : أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك .
والعَقْلُ : الإِدراكُ المانعُ من الخطأ ، وأصلُه المَنْعُ : ومنه : العِقال ، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني ، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى ، قال علقمة :
427 عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ ... كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ
قال ابن فارس : « ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ » ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها .

قوله : { واستعينوا بالصبر } هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر ، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل . وأصلُ « استعينوا » اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في { نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه . « وبالصبر » متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها ، و « استعان » يتعدَّى بنفسِه نحو : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي : ملتبسينَ بالصبر ، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ : استَعَنْتُ [ الله واستعنْتُ بالله ] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب . والصبرُ : الحَبْسُ على المكروه ، ومنه : « قُتِل فلانٌ صبراً » ، قال :
428 فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً ... فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ
قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } إنَّ واسمها وخبرُها ، والضميرُ في « إنها » قيل : يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان ، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ ، وهو نظيرُ قولِه : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ ، كذا قيل ، وفيه نظرٌ ، لأنَّ العطف ب « أو » فيجبُ الإِفرادُ ، لكنَّ المرادَ أنه ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ . وقيل : يعودُ على الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو : { هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . وقيل : على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ ، وقيل : هو عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ ، وهذا ليسَ بشيء . وقيل : حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه ، وتقديرُه : وإنه لكبيرٌ ، نحو قوله :
429 إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ ... وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً
قوله : { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } استثناءٌ مفرَّعٌ ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ ، أي : لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء ، ف « على الخاشعين » متعلَّقٌ ب « كبيرة » نحو : « كَبُر عليَّ هذا » أي : عَظُم وشَقَّ . والخشوعُ : الخُضوع ، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة ، ومنه « الخُشْعَةُ » للرَّمْلَةِ المتطامنةِ ، وفي الحديث : « كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ » أي : كانت الأرضُ لينةً ، وقال النابغة :
430 رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ
أي : عليه أثرُ الذلَّ ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع ، فقال : الخُضُوع في البدنِ خاصةً ، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه .

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } : « الذين » يَحتملُ موضعُه الحركاتِ الثلاثَ ، فالجرُّ على أنه تابعٌ لِما قَبْلَه نعتاً ، وهو الظاهرُ ، والرفعُ والنصبُ على القَطْع ، وقد تقدَّم معناه . وأصلُ الظنِّ : رُجْحانُ أحدِ الطرفينِ وأمَّا هذه الآيةُ ففيها قولانِ ، أحدُهما وعليه الأكثرُ أنَّ الظنَّ ههنا بمعنى اليقين ومثلُه : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] ، وقوله :
431 فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
وقال أبو دُؤاد :
432 رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ ... وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ
فاستُعْمِلَ الظنَّ استعمالَ اليقينِ مجازاً ، كما استُعْمِل العِلْمُ استعمالَ الظنِّ كقولِه : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ولكنَّ العربَ لا تَسْتَعْمِلُ الظنَّ استعمالَ اليقين إلا فيما لم يَخْرُجْ إلى الحِسِّ والمشاهدةِ كالآيتين والبيت ، ولا تَجِدُهم يقولون في رجل مَرْئيٍّ حاضراً : أظنُّ هذا إنساناً .
والقولُ الثاني : أنَّ الظنَّ على بابِه وفيه حينئذٍ تأويلان ، أحدُهما ذَكَره المهدوي والماوَرْدي وغيرُهما : أن يُضْمَر في الكلام « بذنوبهم » فكأنهم يتوقَّعون لقاءَه مُذْنِبين . قال ابن عطية : « وهذا تعسُّفٌ » والثاني من التأويلين : أنهم يظنُّون ملاقاةَ ثوابِ ربهم لأنهم ليسوا قاطِعين بالثوابِ دونَ العقاب ، والتقديرُ : يَظُنُّون أنهم ملاقُو ثوابِ ربِّهم ، ولكن يُشْكِلُ على هذا عَطْفُ { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فإنه لا يَكْفي فيه الظنُّ ، هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في « إليه » على الربِّ سبحانه وتعالى ، أمَّا إذا أَعَدْناه على الثوابِ المقدَّر فيزولُ الإِشكالُ أو يُقالُ : إنه بالنسبةِ إلى الأول بمعنى الظنِّ على بابه ، وبالنسبةِ إلى الثاني بمعنى اليقينِ ، ويكونُ قد جَمَعَ في الكلمةِ الواحدةِ بين الحقيقةِ والمجازِ ، وهي مسألةُ خلافٍ و « أن » وما في حَيِّزها سادَّةٌ [ مَسَدَّ ] المفعولَيْنِ عندَ الجمهورِ ، ومسدَّ الأولِ ، والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، وقد تقدَّم تحقيقُه .
و { مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } من باب إضافةِ اسم الفاعل لمعموله إضافةً تخفيفٍ لأنه مستقبلٌ ، وحُذِفَتِ النونُ للإِضافة ، والأصلُ : مُلاقونَ ربِّهم . والمفاعلةُ هنا بمعنى الثلاثي نحو : عافاك الله ، قاله المهدوي : قال ابن عطية : وهذا ضعيفٌ ، لأنَّ « لَقِيَ » يتضمَّن معنى « لاقى » . كأنه يَعْني أن المادةَ لذاتها تقتضي المشاركةَ بخلافِ غيرِها من : عاقَبْت وطارقت وعافاك . وقد تقدَّم أن في الكلام حَذْفاً تقديرُه : ملاقو ثوابِ ربِّهم وعقابِه . قال ابن عطية : « ويَصِحُّ أن تكونَ الملاقاةُ هنا الرؤيةَ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ وورد بها متواترُ الحديث » ، فعلى هذا الذي قاله لا يُحْتاج إلى حَذْفِ مضاف . { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } عَطْفٌ على « أَنَّهم » وما في حَيِّزها ، و « إليه » متعلق ب « راجعون » ، والضميرُ : إمَّا للربِّ سبحانَه أو الثَّوابِ كما تقدَّم ، أو اللقاءِ المفهوم من « مُلاقُو » .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)

قوله تعالى : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } : « أنَّ » وما في حَيِّزها في محل نصبٍ لعَطْفِها على المنصوبِ في قوله : { اذكروا نِعْمَتِي } أي : اذكروا نعمتيَ وتفضيلي إياكم ، والجارُّ متعلَِّقٌ به ، وهذا من الباب عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ لأن النعمةَ تَشْمَلُ التفضيلَ . والفضلُ : الزيادةُ في الخَيْر ، واستعمالُه في الأصل التعدِّي ب « على » ، وقد يَتَعدَّى ب « عَنْ » : إمَّا على التضمين وإمَّا على التجوُّزِ في الحذف ، كقوله :
433 لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عني ولا أَنْتَ دَيَّاني فَتَخْزَوني
وقد يتعدَّى بنفسه ، كقوله :
434 وَجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخَاضِ على الفَصيلِ
و ب « على » ، وفِعْلُه : فضَل يَفْضُل بالضم ، كقَتَلَ يقتُل . وأمَّا الذي معناه الفَضْلة من الشيء وهي البقيَّة ففعلُه أيضاً كما تقدَّم ، ويقال فيه أيضاً : « فَضِل » بالكسر يَفْضَل بالفتح كعَلِم يعلَم ، ومنهم مَنْ يكسِرُها في الماضي ويَضُمُّها في المضارعِ وهو من التداخُلِ بين اللغتين .

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

قوله تعالى : { واتقوا يَوْماً } : « يوماً » مفعولٌ به ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : عذابَ يوم أو هولَ يوم ، وأُجيز أن يكونَ منصوباً على الظرف ، والمفعولُ محذوفٌ تقديره : واتقوا العذابَ في يومٍ صفتُه كَيْتَ وكَيْتَ ، ومَنَع أبو البقاء كونَه ظرفاً ، قال : « لأنَّ الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة » ، والجوابُ عَمَّا قاله : أن الأمرَ بالحَذَرِ من الأسبابِ المؤدِّيةِ إلى العذابِ في يومِ القيامةِ . وأصلُ اتَّقُوا : اوْتَقُوا ، ففُعِل به ما تقدَّم في { تَتَّقُونَ } [ البقرة : 22 ] .
قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } التنكيرُ في « نفسٌ » و « شيئاً » معناه أنَّ نفساً من الأنفس لا تَجْزي عن نفس مثلِها شيئاً من الأشياء ، وكذلك في « شفاعةٌ » و « عدلٌ » ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل « يوماً » والعائدُ محذوفٌ ، والتقديرُ : لا تَجْزي فيه ، ثم حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لأنَّ الظروفَ يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها ، وهذا مذهبُ سيبويه . وقيل : بل حُذِفَ بعد حرفِ الجرِّ ووصولِ الفعل إليه فصار : « لا تَجْزيه » كقوله :
435 ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً ... قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
ويُعْزى للأخفش ، إلا أن المهدويَّ نَقَل أنَّ الوجهين المتقدمين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج . ويَدُلُّ على حَذْفِ عائدِ الموصوفِ إذا كان منصوباً قولُه :
436 وما أَدْري : أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءِ ... وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا
أي : أصابوه ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ التقديرُ : يوماً يومَ لا تَجْزي نفسٌ ، فيصيرُ كقولهِ تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ } [ الانفطار : 19 ] ، ويكونُ اليومُ الثاني بدلاً من « يوماً » الأولِ ، ثم حُذِف المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه كقوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] ، وعلى هذا لا يُحتاج إلى تقديرِ عائدٍ لأنَّ الظرف متى أُضيف في الجملةِ بعدَه لم يُؤْتَ له فيها بضمير إلا في ضرورةٍ ، كقوله :
437 مَضَتْ مِئَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه ... وعَشْرٌ بعدَ ذاكَ وحِجَّتانِ
و { عَن نَّفْسٍ } متعلِّقٌ بتَجْزي ، فهو في محلِّ نَصْب به ، قال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الحال » .
والجزاء : القضاءُ والمكافأةُ ، قال الشاعر :
438 يَجْزِيه ربُّ العرشِ عَنِّي إذْ جَزَى ... جناتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلَى
والإِجزاءُ : الإِغْناء والكِفاية ، أَجْزَأَني كذا : كفاني ، قال :
439 وأجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ ... لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ
قيل : وأَجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربان . وقيل : إنَّ الجزاء والإِجزاء بمعنى ، تقول منه : جَزَيْتُه وأَجْزَيْته ، وقد قُرئ : « تُجْزِئُ » بضمِّ حرفِ المضارعة من أَجْزَأ ، وَجَزَأْتُ بكذا أي : اجتزَأْتُ به ، قال الشاعر :
440 فإنَّ الغَدْرَ في الأقوام عارٌ ... وإنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُراعِ
أي : يَجْتَزِئ به .
قوله : « شيئاً » نصبٌ على المصدرِ ، أي : شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاءَ شيءٌ ، فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ « تَجْزِي » بمعنى « تَقْضي » ، أي : لا تَقْضي [ نفسٌ ] من غيرِها شيئاً من الحقوقِ ، والأولُ أظهَرُ .

قوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلها فهي صفةٌ أيضاً ل « يوماً » ، والعائدُ منها عليه محذوفٌ كما تقدَّم ، أي : ولا يُقبل منها فيه شفاعةٌ . و « شفاعةٌ » مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه ، فلذلك رُفِعَتْ ، وقُرئ : « يُقْبَل » بالتذكير والتأنيثِ ، فالتأنيثُ لِلَّفْظِ ، والتذكيرُ لأنه مؤنثٌ مجازيٌّ ، وحَسَّنَهُ الفصلُ . وقُرئ : « ولا يَقْبل » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى . و « شفاعةً » نصباً مفعولاً به . و { لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } صفةٌ أيضاً ، والكلامُ فيه واضحٌ . و « منها » متعلِّقٌ ب « يُقْبل » و « يُؤْخذ » ، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ نصباً على الحال ، لأنه في الأصلِ صفةٌ لشفاعة وعدل ، فلمَّا قُدِّم عليهما نُصِبَ على الحالِ ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، وهذا غيرُ واضحٍ ، فإنَّ المعنى مُنْصَبٌّ على تعلُّقِهِ بالفعلِ ، والضميرُ في « منها » يعودُ على « نفس » الثانيةِ ، لأنها أقربُ مذكور ، ويجوز أن يعودَ على الأولى لأنها هي المُحَدَّث عنها ، ويجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ الأول على الأولى وهي النفسُ الجازية ، والثاني يعودُ على الثانية وهي المَجْزِيُّ عنها ، وهذا مناسِبٌ .
والشفاعةُ مشتقةٌ من الشَّفْع ، وهو الزوجُ ، ومنه : الشُّفْعَةُ ، لأنها ضَمُّ مِلْكٍ إلى غيره ، والشافعُ والمشفوعُ له ، لأنَّ كلاًّ منهما يُزَوِّجُ نفسَه بالآخر ، وناقةٌ شَفُوع : تَجْمَع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبةٍ واحدةٍ ، وناقةٌ شافِع إذا اجتمع لها حَمْلٌ وولدٌ يَتْبَعُها ، والعَدْل بالفتح الفِداء ، وبالكسر المِثْل ، يقال : عَدْل وعَدِيل . وقيل : « عَدْل » بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقَدْراً ، وإنْ لم يكنْ جنسه ، وبالكسر : المساوي له في جنسهِ وجِرْمه ، وحكى الطبري أنَّ من العرب مَنْ يكسِر الذي بمعنى الفِداء ، والأولُ أشهرُ ، وأمّا عِدْل واحد الأَعْدال فهو بالكسر لا غيرُ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، معطوفةٌ على ما قبلَها وإنما أُتي هنا بالجملةِ مصدرةً بالمبتدأ مُخْبَراً عنه بالمضارعِ تنبيهاً على المبالغةِ والتأكيدِ في عَدَمِ النُّصْرة . والضميرُ في قوله « ولا هُمْ » يعود على النفس؛ لأنَّ المرادَ بها جنسُ الأنفس ، وإنما عادَ الضميرُ مذكَّراً وإن كانَتِ النفسُ مؤنثةً لأنَّ المراد بها العِبادُ والأناسيُّ . قال الزمخشري : « كما تقول ثلاثةُ أنفسٍ » يعني : إذا قُصِد بها الذكورُ ، كقوله :
441 ثلاثةُ أَنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولكنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه ضرورةٌ ، فالأَوْلى أن يعودَ على الكفارِ الذين اقتضَتْهُمُ الآيةُ كما قال ابنُ عطية .
والنَّصْرُ : العَوْنُ ، والأنصار : الأعوان ، ومنه : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] والنصر أيضاً : الانتقامُ ، انتصر زيد أي : انتقم . والنَّصْرُ أيضاً : الإِتيان نَصَرْتُ أرضَ بني فلان أتيتُها ، قال الشاعر :
442 إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي ... بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامرِ
وهو أيضاً : العَطاءُ ، قال الراجز :
443 إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً ... لَقائِلٌ يا نصرُ نَصْرٌ نَصْرا
ويتعَدَّى ب « على » ، قال : { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] ، وأمَّا قولُه : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] فيحتَمِل التعدِّيَ ب « مِنْ » ويَحْتمل أن يكونَ من التضمين أي : نَصَرْناه بالانتقام له منهم .

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

قوله تعالى : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } : « إذْ » في موضعِ نصبٍ عطفاً على « نعمتي » ، وكذلك الظروفُ التي بعده نحو : « وإذا واعَدْنا » « وإذا قُلتم » . وقُرئ : « أَنْجَيْتُكُم » على التوحيدِ ، وهذا خطابٌ للموجودين في زمن الرسول عليه السلام ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : أَنْجَيْنا آباءكم ، نحو : { حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] أو لأنَّ إنجاءَ الآباء سببٌ في وجودِ الأبناءِ . وأصلُ الإِنجاءِ والنجاةِ الإِلقاءُ على نَجْوَةٍ من الأرضِ ، وهي المُرتفعُ منها لِيَسْلَمَ من الآفات ، ثم أُطلِقَ الإِنجاء على كل فائزٍ وخارجٍ من ضيق إلى سَعَة وإن لم يُلْقَ على نَجْوة .
و « من آلِ » متعلِّقٌ به ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . و « آل » اختُلِف فيه على ثلاثةِ أقوال ، قال سيبويه وأتباعُه : إنَّ أصلَه أَهْلٌ ، فأُبْدِلَتِ الهاءُ همزةً لقُربها منها ، كما قالوا : ماء وأصلُه : ماه ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ألفاً ، لسكونِها بعد همزةٍ مفتوحةٍ نحو : آمَنَ وآدَم ، ولذلك إذا صُغِّر رَجَعَ إلى أصله فتقول : أُهَيْل . قال أبو البقاء : « وقال بعضُهم : أُوَيْل ، فأُبدلت الألفُ واواً ، ولَم يَرُدَّه إلى أصله ، كما لَم يَرُدُّّوا » عُيَيَدْ « إلى أصله في التصغير » . يعني فلم يقولوا « عُوَيد » لأنه من عاد يعود ، قالوا : لئلا يلتبسَ بعُود الخَشَب . وفي هذا نظر ، لأنَّ النحْويين قالوا : مَنِ اعتقد كونَه من « أهل » صَغَّره على أُهَيْل ، ومَنِ اعتقد كونَه من آل يَؤُولُ أي رَجَع صغَّره على أُوَيْل . وذهب النحاس إلى أنَّ أصلَه « أَهْلَ » أيضاً ، إلا أنه قَلَب الهاءَ ألفاً من غير أَنْ يَقْلِبَها أولاً همزة ، وتصغيرُه عنده على أُهَيْل . وقال الكسائي : أُوَيْل ، قد تقدَّم ما فيه . ومنهم مَنْ قال : أصلُه مشتقٌّ من آل يَؤُول ، أي : رَجَع ، لأن الإِنسان يَرْجِع إلى آله ، فتحرَّكَتِ الواوُ وانفَتَح ما قبلَها فقُلِبَتْ ألفاً ، وتصغيرُه على أُوَيْل نحو : مال ومُوَيل وباب وبُوَيْب ، ويُعْزى هذا للكسائي . وجمعه آلون وآلين وهو شاذٌّ كأهلِين لأنه ليس بصفةٍ ولا عَلَمٍ . واختُلِف فيه : فقيل : « آلُ الرجل » قرابتُه كأهلِه ، وقيل : مَنْ كان مِنْ شيعتِه ، وإن لم قريباً منه وقيل : مَنْ كان تابعاً له وعلى دينِه وإنْ لم يكنْ قريباً منه ، قال :
444 فلاَ تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ ... عليٌّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ
ولهذا قيل : [ إن ] آلَ النبي مَنْ آمَنَ به إلى آخرِ الدهرِ ، ومَنْ لم يُؤْمِنْ به فليس بآلِه ، وإن كان نسبياً له ، كأبي لهب وأبي طالب . واختَلَفَ فيه النحاة : هل يُضاف إلى المضمر أم لا؟ فذهبَ الكسائي وأبو بكر الزبيدي والنحاس إلى أنَّ ذلك لا يجوزُ ، فلا يجوز : اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ ، بل : وعلى آلِ محمد ، وذهبَ جماعةٌ منهم [ ابنُ ] السِّيد إلى جوازه ، واستدلَّ بقولِه عليه السلام ، لمَّا سُئِل فقيل : يا رسولَ الله مَنْ آلُكَ؟ فقال :

« آلي كلُّ تقيّ إلى يوم القيامة » وأنشدوا قولَ أبي طالب :
445 لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ ... نَعُ رَحْله فامنَعْ حَلالَكْ
وانصُرْ على آل الصَّلي ... ب وعابِديه اليومَ آلَكْ
وقول نُدْبة :
446 أنا الفارسُ الحامي حقيقةَ والدي ... وآلي كما تَحْمي حقيقةَ آلِكا
واختلفوا أيضاً فيه : هل يُضافُ إلى غيرِ العقلاءِ فيُقال : آلُ المدينةِ وآلُ مكةَ؟ فمنعَه الجمهورُ ، وقال الأخفش : قد سَمِعْنَاه في البلدان قالوا : أهلُ المدينةِ وآلُ المدينة ، ولا يُضاف إلاَّ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطَرٌ ، فلا يُقال : آلُ الإِسكاف ولا آلُ الحَجَّام ، وهو من الأسماءِ اللازمة للإِضافة معنى لا لفظاً ، وقد عَرَفْتَ ما اختصَّ به من الأحكامِ دونَ أصلِه الذي هو « أَهْل » .
هذا كلُّه في « آل » مراداً به الأهلُ ، أمَّا « آل » الذي هو السَّراب فليس مِمَّا نَحْنُ فيه في شيء ، وجَمْعُه أَأْوال ، وتصغيرُه أُوَيْل ليس إلاَّ ، نحوُ : مال وأَمْوال ومُوَيْل .
قوله : « فِرْعَون » خفضٌ بالإِضافةِ ، ولكنه لا يَنْصَرِفُ للعُجْمة والتعريف . واختُلِفَ فيه : هل هو علمُ شخصٍ أو علمُ جنسٍ ، فإنه يُقال لكلِّ مَنْ مَلَك القِبْطَ ومصرَ : فرعون ، مثلَ كِسْرى لَكَلِّ مَنْ مَلَك الفرس ، وقيصرُ لكلِّ مَنْ مَلَك الروم ، والقَيْلُ لكلِّ مَنْ مَلَكَ حميرَ ، والنجاشي لكلِّ مَنْ مَلَكَ الحبشةَ ، وَبَطْلَيْموس لكلِّ مَنْ مَلَكَ اليونان . قال الزمخشري : « وفرعونُ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَك العمالقة كقيصر للروم ، ولعُتُوِّ الفراعِنَة اشتقُّوا منه : تَفَرْعَنَ فلانٌ إذا عَتا وَتَجَبَّر ، وفي مُلْحِ بعضم .
447 قد جاءَهْ الموسى الكَلُومُ فَزَاد في ... أَقْصَى تَفَرْعُنِه وفَرْطِ عُرَامِه
وقال المسعودي : » لا يُعْرَفُ لِفرْعَوْنَ تفسيرٌ بالعربيةِ « ، و [ ظاهر ] كلامِ الجَوْهري أنَّه مشتقٌّ مِنْ معنى العُتُوِّ ، فإنه قال : » والعُتاة الفَرَاعِنة ، وقد تَفَرْعَنَ وهو ذو فَرْعَنةٍ أي : دهاءٍ ومكرٍ « . وفي الحديث : » أَخَذْنا فِرْعونَ هذه الأمَّةِ « إلاَّ أنْ يريدَ معنى ما قاله الزمخشري المتقدم .
قولُه : » يَسُومونكم « سوءَ العذابِ » هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحالِ مِنْ « آل » حالَ كونِهم سائِمين . ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً لمجردِ الإِخْبارِ بذلك ، وتكون حكايةَ حالٍ ماضيةٍ ، قال بمعناه ابن عطية ، وليس بظاهر . وقيل : هي خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هم يَسُومونكم ، ولا حاجةَ إليه أيضاً . و « كم » مفعولٌ أولُ ، و « سوء » مفعولٌ ثانٍ ، لأنَّ « سام » يتعدَّى لاثنين كأعطى ومعناه : أَوْلاهُ كذا وأَلْزمه إياه أو كلَّفه إياه ، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم :
448 إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفاً ... أَبَيْنا أَنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينا
قال الزمخشري : « وأصلُهُ مِنْ سَام السِّلْعَةَ إذا طَلَبها ، كأنه بمعنى يَبْغُونكم سوءَ العذاب ويُريدُونَكم عليه » ، وقيل : أصلُ السَّوْمِ الدَّوامُ ، ومنه : سائِمَةُ الغَنَم لمُداوَمَتِها الرَّعْيَ .

والمعنى : يُديمونَ تعذيبكم ، وسوءُ العذابِ أشدُّهُ وأفظعهُ وإنْ كان كَلُّه سيئاً ، كأنه أقبحُهُ بالإِضافة إلى سائرِه . والسوءُ : كلُّ ما يَعُمُّ الإِنسانَ من أمرٍ دنيوي وأُخْرَوي ، وهو في الأصل مصدرٌ ، ويؤنَّثُ بالألفِ ، قال تعالى : { أَسَاءُواْ السواءى } [ الروم : 10 ] . وأجاز بعضُهم أن يكونَ « سوء » نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديرُه : يَسُومونكم سَوْماً سيئاً كذا قدَّره ، وقال أيضاً : « ويجوزُ أن يكونَ بمعنى سَوْم العذاب » ، كأنه يريد بذلك أنه منصوبٌ على نَوْعِ المصدرِ ، نحو : « قَعَدَ جلوساً » ، لأن سُوء العذابِ نوعٌ من السَّوْمِ .
قولُه تعالى : « يُذَبِّحُون » هذه الجملةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً للجملة قبلَها ، وتفسيرُها لها على وجهين : أحدُهما أن تكونَ مستأنفةً ، فلا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعرابِ ، كأنه قيل : كيف كان سَوْمُهم العذابَ؟ فقيل : يُذَبِّحُون . والثاني : أنْ تكونَ بدلاً منها كقولِه :
449 متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في ديارنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ ، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً ثانيةً ، لا على أنها بدلٌ من الأولى ، وذلك على رَأْي مَنْ يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الحال . وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ محتجَّاً بأنَّ الحَالَ تُشْبِهُ المفعولَ به ولا يَعملُ العاملُ في مفعولَيْن على هذا الوصفِ ، وهذا بناءً منه على أحد القولين ، ويحتملُ أن يكونَ حالاً من فاعل « يَسُومونكم » . وقُرئ : « يَذْبَحُون » بالتخفيف ، والأولى قراءةُ الجماعةِ لأنَّ الذبحَ متكرِّر .
فإنْ قيل : لِمَ لَم يُؤْتَ هنا بواو العَطْفِ ، كما أُتِي بها في سورة إبراهيم؟ فالجوابُ أنه أُرِيدَ هنا التفسيرُ كما تقدَّم ، وفي سورة إبراهيم معناه : يُعَذِّبونكم بالذَّبْح وبغيرِ الذبحِ . وقيل : يجوز أن تكونَ الواوُ زائدةً فتكونَ كآيةِ البقرة ، واستدلَّ هذا القائلُ على زيادةِ الواوِ بقوله :
450 فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحةَ الحِّي وانْتَحَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
إلى المَلِكِ القَرْم وابنِ الهُمَامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والجوابُ الأول هو الأَصَحُّ .
والذَّبْحُ : أصلُه الشَّقُّ ، ومنه : « المَذابحُ » لأخاديدِ السيول في الأرض . و « أبناء » جمع ابن ، رَجَع به إلى أصله ، فَرُدَّت لامُه ، إمَّا الواوُ أو الياءُ حَسْبما تقدَّم . والأصلُ : « أَبْناو » أو « أبناي » ، فَأُبْدِل حرفُ العلةِ همزةً لتطرُّفِه بعد ألفٍ زائدةٍ ، والمرادُ بهم الأطفالُ ، وقيل : الرجالُ ، وعَبَّر عنهم بالأبناءِ اعتباراً بما كانوا .
قوله : { وَيَسْتَحْيُونَ } عطفٌ على ما قبله ، وأصلُه : يَسْتَحْيِيُون ، فَأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ بعد حَذْفِ حركتها وقد تقدَّم بيانُه ، فوزتُه يَسْتَفْعُون . والمراد بالنساءِ الأطفالُ ، وإنما عَبَّر عنه بالنساءِ لمآلِهِنَّ إلى ذلك . وقيل : المرادُ غيرُ الأطفالِ ، كما قيل في الأبناء . ولامُ النساءِ الظاهرُ أنَّها من واوٍ لظهورها في مرادِفِه وهو نِسْوَان ونِسْوَة ، ويُحْتمل أن تكونَ ياءً اشتقاقاً من النِّسْيان ، وهل نساء جمعُ نِسوةٍ أو جمعُ امرأةٍ مِنْ حيث المعنى؟ قولان .

قوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و « بلاءٌ » مبتدأ . ولامُه واوٌ لظهورِها في الفعلِ نحو : بَلَوْتُه ، أَبْلُوه ، { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } [ البقرة : 155 ] ، فأُبْدِلَتْ همزةً . والبلاءُ يكون في الخيرِ والشرِّ ، قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] لأنَّ الابتلاءَ امتحانٌ فيمتحِنُ اللهُ عباده بالخيرِ ليشكُروا ، وبالشرِّ ليصبِروا ، وقال ابن كَيْسان : « أبلاهُ وبَلاه في الخير » وأنشد :
452 جَزَى اللهُ بالخَيراتِ ما فَعَلا بكم ... وأَبْلاهُمَا خيرَ البلاءِ الذي يَبْلُو
فَجَمَع بين اللغتين ، وقيل : الأكثرُ في الخيرِ أَبْلَيْتُه ، وفي الشرِّ بَلَوْتُه ، وفي الاختبارِ ابتلَيْتُه وبَلَوْتُه ، قال النحاس : « فاسمُ الإِشارة من قوله : » وفي ذلكم « يجوزُ أن يكونَ إشارةً إلى الإِنجاءِ » وهو خيرٌ مَحْبوب ، ويجوز أن يكونَ إشارةً إلى الذَّبْحِ ، وهو شرٌّ مكروهٌ « . وقال الزمخشري : » والبلاءُ : المِحْنَةُ إنْ أشير ب « ذلك » إلى صنيع فرعون ، والنعمةُ إن أُشير به إلى الإِنجاء « ، وهو حسن . وقال ابن عطية : » ذلكم « إشارةٌ إلى جملةِ الأمر إذ هو خيرٌ فهو كمفردٍ حاضر » كأنه يريدُ أنه أُشير به إلى مجموعِ الأمرين من الإِنجاءِ والذبح ، ولهذا قال بعدَه : « ويكونُ البلاءُ في الخيرِ والشر » وهذا غيرُ بعيدٍ ، ومثله :
453 إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
و { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلقٌ ب « بلاءٌ » ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ مجازاً . وقال أبو البقاء : « هو رفعٌ صفةٌ ل » بلاء « فيتعلَّقُ بمحذوفٍ » وفي هذا نظرٌ ، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان ، إحداهما صريحةٌ والأخرى مُؤَوَّلةٌ قُدِّمَتِ الصريحةُ ، حتى إنَّ بعضَ الناسِ يَجْعلُ ما سِواه ضرورةً . و « عظيمٌ » صفة ل « بلاء » وقد تقدَّم معناه مستوفىً في أول السورة .

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

قوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } . . « بكم » الظاهرُ أنَّ الباءَ على بابها من كونِها داخلةً على الآلةِ فكأنه فَرَق بهم كما يُفْرَقُ بين الشيئين بما توسَّط بينهما . وقال أبو البقاء : « ويجوز أن تكون المُعَدِّيةَ كقولِك : ذهبتُ بزيدٍ ، فيكونُ التقدير : أَفْرَقْناكم البحرَ ، ويكونُ بمعنى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر } [ الأعراف : 138 ] وهذا قريبٌ من الأولِ . ويحوزُ أن تكونَ الباءُ للسببيَّة أي : بسببكم ، ويجوزُ أن تكونَ للحالِ من » البحر « أَيْ : فَرَقْناه ملتبِساً بكم ، ونظَّره الزمخشري بقولِ الشاعر :
454 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدُوس بنا الجماجِمَ والتَّريبا
أي : تدوسُها ونحن راكبوها . قال أبو البقاء : » أي : فَرَقْنا البحرَ وأنتم به ، فتكونُ إمَّا حالاً مقدَّرةً أو مقارنةً « . قلت : وأيُّ حاجةٍ إلى جَعْلِه إياها حالاً مقدَّرة وهو لم يكنْ مفروقاً إلا بهم حالَ كونِهم سالكينَ فيه؟ وقال أيضاً : و » بكم « في موضعِ نصبٍ مفعولٌ ثانٍ لفَرَقْنا ، و » البحرَ « مفعولٌ أولُ ، والباءُ هنا في معنى اللام » وفيه نظرٌ؛ لأنه على تقديرِ تسليم كون الباءِ بمعنى اللام فتكونُ لام العلَّةِ ، والمجرورُ بلام العلةِ لا يُقال إنَّه مفعولٌ ثانٍ ، لو قلتَ : ضَرَبْتُ زيداً لأجلِك ، لا يقولُ النحوي : « ضَرَبَ » يتعدَّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه والآخر بحرفِ الجر .
والفَرْقُ والفَلْقُ واحدٌ ، وهو الفصلُ والتمييز ، ومنه { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] [ أي : فَصَلْناه ] وميَّزناه بالبيانِ ، والقرآنُ فرقانٌ لتمييزه بين الحقِّ والباطل وفَرْقُ الرأسِ لوضوحِه ، والبحرُ أصله : الشِّقُّ الواسعُ ، ومنه : البَحِيرة لشَقِّ أذُنها . والخلافُ المتقدِّمُ في النهر في كونِه حقيقةً في الماء أو في الأخدُودِ جارٍ هنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه . وهل يُطْلَقُ على العَذْبِ بَحْرٌ ، أو هو مختصٌّ بالماءِ المِلْحِ؟ خلافٌ يأتي تحقيقُه في موضِعِه . ويقال : أَبْحَرَ الماءُ أي : صار مِلْحاً قال نُصَيْب :
455 وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزادني ... إلى مَرَضي أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ
والغَرَقُ : الرُّسوبُ في الماءِ ، وتُجُوِّزُ به عن المُداخَلَةِ في الشيء ، فيقال : أَغْرَق فلانٌ في اللَّهْو ، ويقال : غَرِقَ فهو غَرِقٌ وغارِق ، وقال أبو النجم :
456 مِنْ بَيْنِ مقتولٍ وطافٍ غارِقِ ... ويُطْلَقُ على القتلِ بأيِ نوعٍ كان ، قال :
457 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ألا لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ
والأصلُ فيه أن القابِلَة كانَتْ تُغَرِّق المولودَ في دَمِ السلى عام القَحْطِ ليموتَ ، ذكراً كان أو أنثى ، ثم جُعِل كلُّ قَتْل تغريقاً . ومنه قول ذي الرمة :
458 إذا غَرَّقْتَ أرباضُها ثِنْيَ بَكْرَةٍ ... بتَيْهاءَ لم تُصْبِحْ رَؤوماً سَلُوبُها
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملةٌ من مبتدأ أو خبر في محلِّ نصبٍ على الحال من « آل فرعون » والعاملُ « أَغْرقنا » ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعولٍ « أنْجَيْناكم » . والنظرُ يَحْتَمِلُ أن يكونَ بالبصرِ لأنهم كانوا يُبْصِرُون بعضَهم بعضاً لقُرْبِهم . وقيل : إنَّ آلَ فرعون طَفَوْا على الماء فنظروا إليهم ، وأن يكونَ بالبصيرةِ والاعتبار . وقيل : المعنى وأنتم بحالِ مَنْ ينظرُ لو نَظَرْتُم ، ولذلك لم يُذْكَرْ له مفعولٌ .

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)

قوله تعالى : { وَاعَدْنَا } . قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً ، وقرأه الباقون : « واعَدنْا » بألف . واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر ، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْد والوعيد ، على هذا وجَدْنَا القرآن ، نحو : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ } [ الفتح : 20 ] { وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } [ إبراهيم : 22 ] { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله } [ الأنفال : 7 ] ، وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً : « وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من اللهِ لموسى ، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص » ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها . وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً : « قراءةُ العامَّة عندَنا : وَعَدْنا بغيرِ ألفٍ لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين » . وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه ، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه . وقال مكي : « المواعدة أصلُها من اثنين ، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو : طارَقْتُ النَّعْلَ » ، فجعل القراءتين بمعنىً واحد ، والأولُ أحسنُ . ورجَّح قوم « واعدنا » . وقال الكسائي : « وليس قولُ الله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ } [ النور : 55 ] من هذا البابِ في شيء؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ الموافاة ، وليس من الوَعْد في شيء ، وإنما هو من قولك : مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا ، والفصيحُ في هذا » واعَدْنا « . وقال الزجاج : » واعَدْنا « بالألفِ جَيِّدٌ ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة ، فمِنَ الله وَعْدٌ ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ ، فجَرى مَجْرَى المواعدة » . وقال مكي أيضاً : « والاختيارُ » واعَدْنا « بالألفِ ، لأن بمعنى وَعَدْنَا ، في أحدِ مَعْنَيَيْه ، وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة » .
و « وعدَ » يتعدَّى لاثنين ، فموسى مفعولٌ أولُ ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف ، أي : تمامَ أربعين ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مجرى جَمْعِ المذكر السالم ، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد ، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه :
459 وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني ... وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ
بكسر النون ، و « ليلةً » نصبٌ على التمييز ، والعُقود التي هي من عِشْرين إلى تسعين وأحدَ عشرَ إلى تسعةَ عشرَ كلُّها تُمَيَّز بواحدٍ منصوبٍ .
وموسى اسمٌ أعجمي [ غيرُ منصرفٍ ] ، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ ، والأصل : مُوشى بالشين لأنَّ « ماء » بلغتهم يقال له : « مُو » والشجر يقال له « شاء » فعرَّبته العربُ فقالوا موسى ، قالوا : وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ .

واختلافُهم في موسى : هل هو مُفْعَل مشتقٌّ من أَوْسَيْتُ رأسَه إذا حلقتُه فهو مُوسى ، كأعطيتُه فهو مُعْطَىً ، أو هو فُعْلَى مشتقٌّ من ماسَ يميس أي : يتبخترُ في مِشْيَته ويتحرَّكُ ، فقُلِبَتِ الياءُ واواً لانضمامِ ما قبلَها كمُوْقِن من اليقين ، [ وهذا ] إنما هو [ في ] مُوسى الحديدِ التي هي آلةُ الحَلْق ، لأنها تتحرَّك وتضطربُ عند الحَلْقِ بها ، وليس لموسى اسمِ النبي عليه السلام اشتقاقٌ لأنه أعجميٌّ .
قوله : { ثُمَّ اتخذتم العجل } اتَّخذ يتعدَّى لإِثنينِ ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي : ثم اتخذتم العجلَ إلهاً . وقد يتعدَّى لمفعولٍ واحد إذا كان معناه عَمِل وجَعَل نحو : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، وقال بعضُهم : تَخِذَ واتَّخَذَ يتعدَّيانِ لاثنين ما لَمْ يُفْهِمَا كَسْباً ، فيتعدَّيان لواحدٍ . واختُلِفَ في اتَّخَذَ فقيل : هو افْتَعَلَ من الأخْذ والأصلُ : اأتخذ الأوُلى همزةُ وصلٍ والثانيةُ فاءُ الكلمةِ فاجتمعَ همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ بعد أخرى ، فَوَجَبَ قلبُها ياءً كإيمان ، فَوَقَعَت الياءُ قبلَ تاءِ الافتعالِ فأُبْدِلَتْ تاءً وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعال كاتَّسر مِن اليُسْر ، إلاَّ أنَّ هذا قليلٌ في باب الهمز نحو : اتَّكل من الأكْل واتَّزَرَ من الإِزارِ . وقال أبو علي : هو افْتَعَلَ من تَخِذَ يَتْخِذُ ، وأنشد :
460 وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ
وقال تعالى : { لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] وهذا أسهلُ القَوْلَيْن .
والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما ، وابن كثير وعاصم في رواية حَفْصٍ بالإِظهار ، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو : اتَّخَذْتُ ، والجمع نحو : اتَّخَذْتُم ، وأتى في هذه الجملة ب « ثُمَّ » دلالةً على أنَّ الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ .
قوله : « مِنْ بعدِه » متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، والضميرُ يعودُ على موسى ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ ، أي : مِنْ بعدِ انطلاقِه أو مُضِيِّهِ ، وقال ابنُ عطية : « يعودُ على موسى [ وقيل : على انطلاقِه للتكليمِ ، وقيل : على الوَعْد ، وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ ، فإنَّ قولَه : » وقيل يعودُ على انطلاقِه « يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى ] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ مُتَصَوَّرٍ .
قوله : » وأنتم ظالمون « جملةٌ حاليةٌ من فاعل » اتَّخَذْتُمْ « .

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

قوله تعالى : [ { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } ] . . والعَفْوُ : المَحْوُ ، ومنه « عَفَا اللهُ عنكم » أي : مَحَا ذنوبَكم ، والعافيةُ لأنها تَمْحُو السُّقْمَ ، وَعَفَتِ الريحُ الأثرَ ، قال :
461 فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها ... لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وشَمَأْلِ
وقيل : عَفا كذا أي : كَثُر ، ومنه « وَأَعْفُوا اللِّحى » فيكونُ من الأضداد . وقال ابنُ عطية : « العَفْوُ تغطيهُ الأثرِ وإذهابُ الحالِ الأول من الذَّنْب أو غيره ولا يُسْتَعْمَلُ العَفْوُ بمعنى الصَّفْح إلا في الذَّنْبِ » . وهذا الذي قاله [ قريبٌ ] من تفسير الغُفْرانِ ، لأنَّ الغَفْرَ التغطيةُ والسَّتْر ، ومنه : المِغْفَرُ ، ولكِنْ قد فُرِّقَ بينهما بأنَّ العفوَ يجوزُ أن يكونَ بعد العُقوبَةِ فيجتمِعُ معها ، وأمَّا الغُفْران فلا يكونُ مع عقوبةٍ . وقال الراغب : « العَفْوَ : القَصْدُ لِتَناوُلِ الشيء ، يُقال : عَفَاه واعْتَفَاه أي قَصَده مُتَناولاً ما عندَه ، وعَفَتِ الريحُ الترابَ قَصَدَتْها متناولةً آثارَها ، وعَفَتِ الديارُ كأنها قَصَدَتْ نحو البِلَى ، وعَفَا النبتُ والشَّعْرُ قَصَدَ تناولَ الزيادةِ ، وعَفَوْتُ عنك كأنه قَصَدَ إزالَة ذَنْبِه صارِفاً عنه ، وأَعْفَيْتُ كذا أي تركْتُه يَعْفُو ويكثُر ومنه » وأَعْفُوا اللحى « فَجَعَلَ القصدَ قَدْراً مشتركاً في العَفْو ، وهذا ينفي كونَه من الأضداد ، وهو كلامٌ حَسَنٌ ، وقال الشاعرٍ :
462 …… . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا ردَّ عافي القِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُهَا
معناه : أنَّ العافِيَ هنا ما يَبْقَى في القِدْرِ مِنَ المَرَقِ ونحوِه ، فإذا أرادَ أحدٌ [ أَنْ ] يستعيرَ القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبَها بالعافي الذي فيها ، فالعافي فاعل ، ومَنْ يستعيرُها مفعولٌ ، وهو من الإِسنادِ المجازي لأنَّ الرادَّ في الحقيقة صاحبُ القِدْرِ بسببِ العافي .
وقوله : { تَشْكُرُونَ } في محلِّ رفعٍ خبرُ » لعلَّ « ، وقد تقدَّم تفسيرُ الشكر عند ذكر الحَمْدِ . وقال الراغب : » وهو تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وأظهارُها ، وقيل : هو مَقْلُوبٌ عن الكَشْرِ أي الكَشْف وهو ضدُّ الكفر ، فإنه تَغْطِيَةُ النِّعْمَةِ . وقيل : أصلُه من عَيْن شَكْرى أي ممتلئةٌ ، فهو على هذا الامتلاءُ مِنْ ذِكر المُنْعَمِ عليه « . وشَكَر من الأفعالِ المتعدِّيَة بِنفسِها تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى وليسَ أحدُهما أصلاً للآخَر على الصحيحِ ، فَمِنَ المتعدِّي بنفسِه قولُ عمرو ابن لُحَيّ :
463 همُ جَمَعُوا بؤسى ونعمى عليكُمُ ... فَهَلاَّ شكرْتَ القومَ إذ لم تُقاتِلِ
ومن المتعدَّي بحرفِ الجرِّ قولُه تعالى : { واشكروا لِي } [ البقرة : 152 ] وسيأتي [ هناك ] تحقيقُه .

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

قوله تعالى : { الكتاب والفرقان } . . مفعولٌ ثانٍ لآتينا ، وهل المرادُ بالكتاب والفرقانِ شيءٌ واحدٌ وهو التوراةُ؟ كأنه قيل : الجامعُ بينَ كونِه كتاباً مُنَزَّلاً وفرقاناً يَفْرُق بين الحقِّ والباطلِ ، نحو : رأيت الغيثَ والليثَ ، وهو من باب قولِه :
464 إلى المَلِك القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو لأنه لمَّا اختَلَفَ اللفظُ جازَ ذلك كقوله :
465 فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لراهِشَيْهِ ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله :
466 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دَوْنِها النَّأْيُ والبُعْدُ
وقولهِ :
467 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَقْوَى وأَفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ
قال النحاس : « هذا إنما يجوزُ في الشِّعْر ، فالأحسنُ أن يُرادَ بالفرقان ما علَّمه اللهُ موسى من الفَرْق بين الحق والباطل » . وقيل : الواوُ زائدة ، و « الفرقان » نعتٌ للكتاب أو « الكتابُ » التوراةُ ، و « الفرقانُ » ما فُرِّقَ به بين الكُفْر والإِيمانِ ، كالآياتِ من نحو العَصا واليد ، أو ما فُرِّقَ به بين الحلالِ والحَرام من الشرائعِ .
والفُرْقُانُ في الأصلِ مصدرٌ مثلُ الغُفْران . وقد تقدَّمَ معناهُ في { فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] . وقيل : الفرقانُ هنا اسمُ للقرآنِ ، قالوا : والتقديرُ : ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتابَ ومحمداً الفرقانَ . قال النحاس : « هذا خطأٌ في الإِعرابِ والمعنى ، أمَّا الإِعرابُ فلأنَّ المعطوفَ على الشيءِ مثلُه ، وهذا يخالِفُه ، وأمَّا المعنى فلقولِه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان } [ الأنبياء : 48 ] .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

قوله تعالى : { يَاقَوْمِ } . . اعلم أنَّ في المنادى المضافِ إلى ياء المتكلم ستَّ لغاتٍ أفصحُها : حَذْفُها مُجْتَزَأً منها بالكسرةِ وهي لغةُ القرآن ، الثانية : ثبوتُ الياءِ ساكنةً ، الثالثة : ثبوتُها مفتوحةً ، الرابعةُ : قَلْبُهَا ألفاً ، الخامسةُ : حَذْفُ هذهِ الألفِ والاجتزاءُ عنها بالفتحةِ كقولِه :
468 ولَسْتُ بِراجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنِّي
أي : بقولي يا لَهْفا ، السادسة : بناءُ المضاف إليها على الضمِّ تشبيهاً بالمفرد ، نحو قراءةِ مَنْ قَرَأ : { قَالَ رَبُّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] . قال بعضُهم : « لأنَّ » يا قوم « في تقدير : يا أيُّهَا القومُ » وهذا ليس بشيءٍ .
والقومُ : اسمُ جمعٍ ، لأنَّه دالٌّ على أكثرَ مِن اثنين ، وليس له واحدٌ من لفظِهِ ولا هو على صيغةٍ مختصَّةٍ بالتكسيرِ ، ومفردُه رَجُل ، واشتقاقُه من قام بالأمرِ يَقُوم به ، قال تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } [ النساء : 34 ] ، والأصلُ في إطلاقِه على الرجال ، ولذلك قُوبل بالنساءِ في قولهِ : { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ . . . وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ } [ الحجرات : 11 ] وفي قولِ زهير :
469 وما أَدْرِي وسوفُ إخالُ أَدْرِي ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ
وأما قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] و { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 160 ] ، والمكذِّبون رجالٌ ونساء فإنما ذلك من باب التغليب ، ولا يجوزُ أن يُطْلَقَ على النساءِ وَحْدَهُنَّ البتةَ ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهِمُ [ ذلك ] .
قوله : { باتخاذكم العجل } الباءُ للسببيةِ ، متعلِّقَةٌ ب « ظَلَلْتُم » وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المادةِ : هل أصلُها أَخَذَ أو تَخِذَ . و « العجل » مفعولٌ أولُ والثاني محذوفٌ أي : إلهاً كما تقدَّم . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعِلِ وهو أحسنُ الوجهينِ ، فإنَّ المصدَرَ إذا اجتمع فاعلُه ومفعولُه فالأَوْلَى إضافتُه إلى الفاعل لأنَّ رُتْبَته التقديمُ ، وهذا من الصورِ التي يَجِبُ فيها تقديمُ الفاعل . فأمَّا : { قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] فسيأتي [ القول فيها مُشْبعاً ] إن شاء الله تعالى .
والعِجْلُ معروفٌ وهو وَلَدُ البقرة . قال الراغب : « العِجْلُ وَلَدُ البقرةِ لِتَصوُّرِ عَجَلَتِها التي تَعْدَمُ منه إذا صارَ ثَوْراً » . وقيل : إنما سُمِيَّ عِجْلاً لأنهم تَعَجَّلُوا عبادتَه قبل مجيء موسى ، ويُرْوى عن عليّ ، وهذا لا يَصِحُّ عنه فإنَّ هذا الاسمَ معروفٌ قبلَ ذلك ، والجمع عَجاجِيل وعُجُول .
قوله : « إلى بارِئِكم » متعلِّقٌ ب « تُوبوا » والمشهورُ كَسْرُ الهمزة ، لأنها حركةُ إعرابٍ ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ : الاختلاسُ ، وهو الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة ، والسكونُ المَحْضُ ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين ، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو ، قال سيبويه : « إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط » ، وقال المبردُ : « لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر ، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ » وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب ، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً ، ومنه قولُ امرئِ القيس :

470 فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ
فسكَّن « أَشْرَبْ » ، وقال جرير :
471 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونهرُ تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال أخر :
472 رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما ... وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ
يريد : هَنُك ، وتَعْرِفُكم ، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه :
473 قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا ... وقول الآخر :
474 إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ ... وقول الآخر :
475 إنما شِعْريَ شَهْدٌ ... قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ
ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء ، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب ، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل ، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت ، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى : { وَمَكْرَ السيىء وَلاَ } فإنه سَكَّن هَمزة « السيء » وَصْلاً ، والكلامُ عليهما واحد ، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً ، والراءُ حرفُ تكريرٍ ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه :
476 وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ
وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ، و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، و { بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء . ورُوِيَ [ عنه ] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [ عنه ] ، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ . وروى ابنُ عطية عن الزهري « بارِيِِكم » بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ ، قال : « ورُوِيَتْ عن نافع » ، قلت : من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا ، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب :
477 كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً ... ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ
وقرأ قتادة : « فاقْتالوا » وقال : هي من الاستقالةِ ، قال ابن جني : « اقتال : افْتَعَل ، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [ كاقتادوا ] أو ياءً كاقتاس ، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة » ، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده .
والبارئ هو الخالقُ ، بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أي خَلَقَهم ، وقد فَرَّق بعضُهم بين الخالق والبارئ بأنَّ البارئَ هو المُبْدِعُ المُحْدِثُ ، والخالِقُ هو المُقَدِّرُ الناقلُ من حالٍ إلى حال . وأصَلُ هذه المادةِ يَدُلُ على الانفصالِ والتميُّزِ ، ومنه : بَرَأَ المريضُ بُرْءاً وبَرْءاً وبَرِئْتُ وَبَرَأْتُ أيضاً من الدَّيْن بَراءةً ، والبَرِيَّةُ الخَلْق ، لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجودِ ، إلا أنَّه لا يُهْمَزُ ، وقيل : أصلُه من البَرَى وهو التراب ، وسيأتي تحقيقُ القَوْلَيْنِ في موضعِه إن شاء الله تعالى .

قوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال بعضُهم : « ذلكم » مفردٌ واقعٌ موقعَ « ذانكم » المثنَّى ، لأنه قد تقدَّم اثنان : التوبة والقتلُ . قال أبو البقاء : « وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّ قولَه : { فاقتلوا } تفسيرُ التوبةِ فهو واحدٌ » و « خَيْر » أفعلُ تفضيلٍ وأصلُه : أًَخْيَرُ ، وإنما حُذِفَتْ همزتُه تخفيفاً ولا تَرْجِعُ هذه الهمزةُ إلا في ضرورةٍ ، قال :
478 بلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ ... ومثلُه شَرّ ، لا يجوز أَشَرّ ، إلا في ندور ، وقد قُرىء : { مَن الكّذَّابُ الأَشَرُّ } [ القمر : 26 ] وإذا بُني من هذه المادةِ فعلُ تعجُّبٍ على أَفْعَل فلا تُحْذَفُ همزتُه إلا في ندورٍ كقولِهم : « ما خَيْرَ اللبنِ للصحيحِ ، وما شَرَّه للمبطونِ » فخيرٌ وشَرٌّ قد خَرَجَا عن نظائرهما في بابِ التفضيل والتعجُّب ، و « خَيْر » أيضاً مخفَّفَةٌ من خَيَّر على فَيْعِل ولا يكونُ من هذا البابِ ، ومنه : « فيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ » قال بعضهم : « مُخَفَّف من خَيِّرات » . والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ به ، أي : خيرٌ لكم من عدم التوبة . ولأَفْعَلِ التفضيلِ أحكامٌ كثيرةٌ وشروطٌ منتشرةٌ لاَ يَحْتملها [ هذا ] الكتابُ ، وإنما نأتي منها بما نضطرُّ إليه .
قولُه تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } في الكلامِ حَذْفٌ ، وهو « فَفَعَلْتُم ما أُمِرْتُمْ به من القتلِ فتابَ عليكم . والفاءُ الأولى في قوله : » فتوبوا « للسببية ، لأن الظلمَ سَببُ التوبةِ ، والثانيةُ للتعقيبِ ، لأنَّ المعنى : فاعْزِموا على التوبة ، فاقتلوا أنفسَكم ، والثالثةُ متعلقةٌ بمحذوفٍِ ، ولا يخلو : إمَّا أن ينتظمَ في قول موسى لهم فيتعلَّقَ بشرطٍ محذوفٍ كأنه : وإنْ فَعَلْتُم فقد تابَ عليكم ، وإمَّا أَنْ يكونَ خطاباً من الله لهم على طريقةِ الالتفاتِ ، فيكونُ التقديرُ : فَفَعَلْتُم ما أَمركم به موسى فتابَ عليكُم ، قاله الزمخشري .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

قولُه تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } : إنَّما تعدَّى باللامِ دونَ الباءِ لأحدِ وجهين : إمَّا أَنْ يكونَ التقديرُ : لَن نُؤْمِنَ لأجلِ قولِك ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعنى الإِقرارِ ، أي : [ لَنْ ] نُقِرَّ لك بما ادَّعَيْتَه ، وقرأ أبو عمرو بإدغام النونِ في اللامِ لتقاربُهِما .
قولُه تعالى : « جَهْرَةً » فيه قولان : أحدُهما : أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان ، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ ، وهو من لفظِها ، تقديرُه : جَهَرْتُمْ جَهْرةً نقله أبو البقاء ، والثاني : أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ فَتَنْتَصِبُ انتصابَ القُرْفُصاء من قولك : « قَعَدَ القُرْفُصاء » ، « واشتمل الصَمَّاء » ، فإنها نوعٌ من الرؤيةِ ، وبه بدأ الزمخشري . والثاني : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، وفيها حينئذ أربعةُ أقوالٍ ، أحدُهما : أنه حالٌ من فاعل « نرى » أي : ذوي جَهْرَةٍ ، قاله الزمخشري . والثاني : أنَّها حالٌ من فاعل « قُلْتم » ، أي : قلتم ذلك مجاهِرين ، قاله أبو البقاء ، وقال بعضُهم : فيكونُ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : قُلْتم جهرةً لن نؤمِنَ لك ، ومثلُ هذا لا يُقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، بل أتى بمفعولِ القولِ ثم بالحالِ من فاعِلِه ، فهو نظيرُ : « ضَرَبْتُ هنداً قائماً » . والثالثُ : أنَّها حَالٌ من اسمِ اللهِ تعالى ، أي : نَرَاه ظاهراً غيرَ مستورٍ . والرابعُ : أنَّها حالٌ من فاعلِ « نؤمن » نقله ابنُ عطية ، ولا معنى له ، والصحيحُ من هذه الأقوالِ الستةِ الثاني .
وقرأ ابنُ عباس « جَهَرَةً » بفتح الهاء وفيها قولان ، أحدُهما : أنها لغةٌ في جَهْرة ، قال ابن عطية : « وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ ساكنٌ قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمعوه » ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ في ذلِك . والثاني : أنها جمعُ « جاهر » ، نحو : خادِم وخَدَم والمعنى : حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر ، وهي تُؤَيِّدُ كونَ « جهرةً » حالاً من فاعل « نَرى » .
والجَهْرُ : ضدُّ السِّرِّ وهو الكَشْفُ والظهورُ ، ومنه جَهَرَ بالقراءةِ أي : أظهرَها : قال الزمخشري : « كأنَّ الذي يَرى بالعين جاهرٌ بالرؤيةِ ، والذي يَرَى بالقلبِ مُخافِتٌ بها » .

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } : تقديرُه : وجَعَلْنا الغَمَامَ يُظَلِّلُكُمْ ، قال أبو البقاء : « ولا يكونُ كقولِك : » ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ « لأن ذلك يقتضي أن يكونَ الغمامُ مستوراً بظِلٍّ آخَرَ » وقيل : التقديرُ : بالغَمامِ ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ لا ينقاسُ .
والغَمامُ : السَّحابُ لأنه يَغُمُّ وجهَ السماء ، أي يستُرُها ، وكلُّ مستورٍ مغموم أي مُغَطَّى ، وقيل : الغمامُ : السحابُ الأبيضُ خاصةً ، ومثلُه الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنونِ ، وفي الحديثِ « إنه لَيُغَانُ على قَلْبِي » ، وواحدتُه غَمامةٌ فهو اسمُ جنسٍ .
والمَنُّ قيل : هو التَّرَّنْجِبين والطَّرَّنْجِيِِن بالتاء والطاء ، وقيل : هو مصدرٌ يعني به جميعَ ما منَّ الله تعالى به على بني إسرائيل من النِّعَمِ ، وكذلك قِيل في السَّلْوى ، إنها مصدرٌ أيضاً ، أي : إنَّ لهم بذلك التَّسَلِّيَ ، نقلَه الراغبُ ، والمَنُّ أيضاً مِقْدارٌ يُوزَنُ به ، وهذا يجوزُ إبدالُ نونِه الأخيرةِ حرفَ علَّة ، فيقالُ : « مَنا » مثلَ عَصا ، وتثنيتُه مَنَوان ، وجمعُه أمْناء . والسَّلْوى المشهورُ أنها السمانى بتخفيفِ الميمِ ، طائرٌ معروف . والمَنُّ لا واحدَ له من لفظِه ، والسَّلْوى مفردُها سَلْواة ، وأنشدوا :
479- وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ سَلْوَةٌ ... كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ
فيكونُ عندَهم من باب : قمح وقمحة ، وقيل : « سَلْوى » مفردٌ وجمعُها سَلاوى ، قاله الكسائي ، وقيل : سَلْوى يُستعمل للواحدِ والجمعِ ، كدَقَلى وشُكاعى وقيل : السَّلْوى : العَسَلُ ، قال الهذلي :
480 وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ... أَلَذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها
وغَلَّطه ابنُ عطية ، وادَّعَى الإِجماعَ على أن السَّلْوى طائر ، وهذا غيرُ مُرْضٍ من القاضي أبي محمد ، فإن أئمةَ اللغةِ نقلوا أن السلوى العَسَلُ ، ولم يُغْلِّطوا هذا الشاعرَ ، بل يستشهدونَ بقولِه .
قوله : « كُلُوا » هذا على إضمار القَوْلِ ، أي : وقُلْنَا لهم : كُلوا : وإضمارُ القولِ كثيرٌ في لسانِهم ، ومنه : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أي : يقولونَ سلامٌ ، « والذينَ اتَّخَذوا من دونِهِ أولياءَ ما نعبدُهم إلا » أي : يقولون ذلك ، « وأمَّا الذين اسْوَدَّتْ وجوهُهم أَكَفَرْتم أي : فيُقال لهم ذلك وقد تقدَّم القولُ في » كل « وتصريفِه .
قوله : { مِن طَيِّبَاتِ } » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ أو للتبعيضِ ، وقال أبو البقاء : » أو لبيانِ الجنسِ والمفعولُ محذوفٌ أي : كُلوا شيئاً من طيبات « وهذا غيرُ مُرْضٍ ، لأنه كيف يُبَيَّنُ شيءٌ ثم يُحْذَفُ؟
قوله : { مَا رَزَقْنَاكُمْ } يجوزُ في » ما « أن تكونَ بمعنى الذي ، وما بعدها صلةٌ لها والعائدُ محذوفٌ ، أي : رزقناكموه ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً . فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّها الجرُّ على الثاني ، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم ، وأن تكونَ مصدريةً والجملةُ صلتُها ، ولم يُحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عُرِفَ قبلَ ذلك ، ويكونُ هذا المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ ، أي : مِنْ طيباتِ مَرْزُوقِنا .
قوله تعالى : { أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } » أنفسَهم « مفعولٌ مقدَّمٌ ، و » يَظْلِمُون « في محلِّ النصْبِ لكونِه خبرَ » كانوا « ، وقُدِّم المفعولُ إيذاناً باختصاصِ الظلم بهم وأنَّه لا يتعدَّاهم . والاستدراكُ في » لكنْ « واضحٌ . ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قبل قوله { وَمَا ظَلَمُونَا } ، فقدَّره ابنُ عطية : فَعَصَوْا ولم يقابلوا النِّعَمَ بالشكر . وقال الزمخشري : » تقديرُه : فَطَلمُونا بأَنْ كفروا هذه النِّعَمَ وما ظلمونا ، فاختصرَ الكلامَ بحذْفِه لدلالةِ { وَمَا ظَلَمُونَا } عليه .

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

قوله تعالى : { هذه القرية } : هذه : منصوبةٌ عند سيبويه على الظرف وعند الأخفشِ على المفعولِ به ، وذك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا ب « في » تقول : صَلَّيْتُ في البيتِ ، ولا تقولُ : صَلَّيْتُ البيتَ؛ إلا ما اسْتُثْني . ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي « دَخَلَ » مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ ، نحو : دَخَلْتُ البيتَ والسوقَ ، وهذا مذهبُ سيبويهِ . وقال الأخفشُ : « الواقعُ بعد » دَخَلْتُ « مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِك : » هَدَمْتُ البيتَ « فلو جاء » دَخَلَ « مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى [ بفي ، نحو : دَخَلْتُ في الأمر ، ولا تقولُ : دَخَلْتُ الأمرَ ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ » دَخَلَ « تَعَدَّى ] ب » في « إلا ما شَذَّ كقولِه :
481 جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه ... رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
و » القريةَ « نعتٌ ل » هذه « ، أو عطفُ بيانٍ كما تقدَّم ، والقريةُ مشتقةٌ من قَرَيْتُ أي : جَمَعْتُ : تقولُ : قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ ، أي : جَمَعْتُه ، واسمُ ذلك الماء : قِرَىً بكسر القاف . والمِقْراةُ : الجَفْنَةُ العظيمةُ ، وجمعُها مَقارٍ ، قال :
482 عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقَرْيان : اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الذي يَجْتمع فيه القومُ ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً ، وقوله تعالى : » واسألِ القريةَ « يَحْتَمِلُ الوَجْهين . وقال الراغبُ : » إنها اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً ، ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما « .
قولُه تعالى : { الباب سُجَّداً } » سُجَّدا « حالٌ من فاعلِ » ادْخُلوا « ، وهو جمع ساجدِ . قال أبو البقاء : » وهو أَبْلَغُ من السجود « يعني أنَّ جَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول ، وفيه نَظَرٌ . وأصلُ » باب « : بَوَب لقولهم أَبْواب ، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِية لازدواجِ الكلامِ ، قال الشاعر :
483 هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ ... يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ والِّلْينا
قوله : حِطَّة » قُرِئ بالرفع والنصب ، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : مسألتُنا حِطَّة أو أمرُك حِطَّة ، قال الزمخشري : والأصلُ النصبُ ، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطَّةً ، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ [ معنى ] الثباتِ ، كقوله :
484 شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى
والأصلُ : صَبْراً عليَّ ، اصبرْ صبراً « ، فَجَعَلَه من بابِ { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وقال ابنُ عطية : » وقيل : أُمِروا أن يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ « يعني على الحكايةِ ، فعلى هذا تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول ، وإنما مَنَعَ النصبَ حركةُ الحكايةِ . وقال أيضاً : » وقال عكرمة : أُمِروا أن يقولوا لا إله إلا اللهُ ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم « وحكى قَوْلَيْن آخرين بمعناه ، ثم قال : » فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو : قُلْ لزيد خيراً ، المعنى : قل له ما هو من جنس الخُيور .

وقال النحاس : « الرفعُ أَوْلى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل ، قال أحمد بن يحيى : » يقال : بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه ، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينَه وشخصَه كقوله :
485 عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ ... وقال تعالى : { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] ، ولحديث ابن مسعود « قالوا حِنْطة » تفسيرٌ على الرفع يعني أنَّ الله تعالى قال : « فبدَّل » الذي يقتضي التغييرَ لا زوالَ العَيْنِ ، وهذا المعنى يَقْتضي الرفعَ لا النصبَ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة « حِطَّةً » بالنصب ، وفيها وجهان : أحدُهما : أنها مصدرٌ نائبٌ عن الفعلِ ، نحو : ضَرْباً زيداً ، والثاني : أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي : قولوا هذا اللفظَ بعينِه ، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ بالفعلِ المقدِّرِ ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، ورجَّحَ الزمخشري هذا الوجهَ .
والحِطَّةُ : اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة ، وقيل : هي لفظةٌ أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها ، وقيل : هي التوبةُ ، وأنشد :
486 فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ الل ... هُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا
قوله : « نَغْفِرْ » هو مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقد تقدَّم الخلافُ : هل الجازمُ نفسُ الجملةِ أو شرطٌ مقدَّرٌ؟ أي : إنْ يقولوا نَغْفِرْ . وقُرئ « نَغْفِرْ » بالنون وهو جارٍ على ما قبله من قولِه « وإذ قلنا » و « تُغْفَرْ » مبنياً للمفعول بالتاءِ والياء . و « خَطاياكم » مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعِلُه ، فالتاءُ لتأنيثِ الخَطايا ، والياءُ لأن تأنيثَها غيرُ حقيقي ، وللفصلِ أيضاً ب « لكم » . وقُرئ « يَغْفِرْ » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، وهي في معنى القراءةِ الأولى ، إلا أنَّ فيه التفاتاً . و « لكم » متعلق ب « نَغْفِرْ » . وأدغم أبو عمرو الراءَ في اللام ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُونها ، قالوا : لأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فهي أقوى من اللامِ ، والقاعدةُ أنَّ الأضعفَ يُدْغَمُ في الأقوى من غيرِ عَكْسٍ ، وليسَ فيها ضَعْفٌ؛ لأنَّ انحرافَ اللامِ يقاوِمُ تكريرَ الراءِ . وقد طَوَّل أبو البقاء وغيرُه في بيانِ ضَعْفِها وقد تقدَّم جوابُه .
قوله : « خَطَايَاكُمْ » : إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه ، أو مرفوعٌ حَسْبما تقدَّم من القراءاتِ ، وفيها أربعةُ أقوال ، أحدُها : وهو قولُ الخليل رحمه الله أن أصلَها : خطايِئٌ ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ ، لأنها جمعُ خطيئة مثل : صحيفة وصحايف ، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل يُفْعَلُ بها كذا ، على ما تقرَّر في علمِ التصريف ، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع همزتان [ بأنْ ] قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأَخَّر عنها المَدَّة فصارت : خَطائِي ، فاسْتُثْقِلَتْ على حرفٍ ثقيلٍ في نفسِه وبعده ياءٌ من جِنْسِ الكسرةِ ، فَقَلبوا الكسرةَ فتحةً ، فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً ، فصارتْ : خطاءَا ، بهمزةٍ بين ألفين ، فاسْتُثْقِل ذلك فإنَّ الهمزةَ تشبه الألفَ ، فكأنه اجتمع ثلاثُ ألفاتٍ ، فقلبوا الهمزةَ ياءً ، لأنها واقعةٌ موقِعَها قبل القلبِ ، فصارَتْ خطايا على وزن فَعَالَى ، ففيها أربعةُ أعمالٍ ، قلبٌ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ ألفاً ، وإبدالُ الهمزةِ ياءً ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو مذهبُ الخليلِ .

الثاني وعزاه أبو البقاء إليه أيضاً إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة ، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل الجمعُ بين الهمزتين ، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه : فعالِئ ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً ، فتنقلبَ ياءً فتصيرَ فَعالِئ ، ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً ، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما قالوا : يا لَهَفى ويا أسفى ، فصارت الهمزةُ بين ألفين ، فأُبْدل منها ياءٌ لأن الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ . فعلى هذا فيها خمسةُ تغييراتٍ : تقديمُ اللامِ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً ، ثم إبدالُها ألفاً ، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً . والقولُ الأولُ أَوْلَى لقلةِ العملِ ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان .
الثالث : قولُ سيبويهِ ، وهو أنَّ أصلَهَا عنده خطايئ كما تقدم ، فَأَبْدَلَ الياءَ الزائدةَ همزةً ، فاجتمع همزتان ، فَأَبْدَلَ الثانيةَ منهما ياءً لزوماً ، ثم عَمِلَ العملَ المتقدِّم ، ووزنُها عنده فعائل ، مثل صحائِف ، وفيها على قوله خمسةُ تغييراتٍ ، إبدالُ الياءِ المزيدةِ همزةً ، وإبدالُ الهمزةِ الأصليةِ ياءً ، وقَلْبُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ الأصليةِ ألفاً ، وقَلْبُ الهمزةِ المزيدةِ ياءً .
الرابع : قولُ الفرَّاء ، وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما هو جمعٌ لخَطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا ، ورَكِيَّة ورَكايا ، قال الفراء : « ولو جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءَا » ، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل بَقَّوها على حالِها ، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ ، ولكنه لم يَقُله العربُ ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز . وقال الكسائي : ولو جُمِعَت مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل : دَوابّ . وقُرئ « يَغْفِرْ لكم خطيئَاتكم » و « خطيئَتكم » بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و « خَطَأْيَاكم » بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ ، وبالعكسِ . والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم .
والغَفْرُ : السِّتْرُ ، ومنه : المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس ، وغُفْرانُ الذنوب لأنها تُغَطِّيها . وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو . والغِفار خِرْقَةٌ تَسْتُر الخِمار [ أن ] يَمَسَّه دُهْنُ الرأسِ . والخطيئة من الخَطَأ ، وأصلُه العُدولُ عن الجهةِ ، وهو أنواعٌ ، أحدُها إرادَةُ غيرِ ما يُحْسِنُ إرادَته فيفعلُه ، وهذا هو الخطأُ التامُّ يقال منه : خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً وخَطْأَةً . والثاني : أن يريدَ ما يُحْسِنُ فِعْلَه ولكن يقع بخلافِه ، يُقال منه : أَخْطَأ خَطَأً فهو مُخْطِئٌ ، وجملةٌ الأمرِ أنَّ مَنْ أَرادَ شيئاً واتفق منه غيرُهُ يُقال : أخْطَأَ ، وإن وقع كما أراد يُقال : أصاب ، وقد يُقال لِمَنْ فَعَل فِعْلاً لا يَحْسُنُ أو أرادَ إرادةً لا تَجْمُلُ : إنه أَخْطأ ، ولهذا يقال أصابَ الخطأَ وأخطأَ الصوابَ وأصابَ الصوابَ وأخطأَ الخطأَ ، وسيأتي الفرقُ بينهما وبين السيئة إنْ شاءَ اللهُ تعالى .

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } : لا بُدَّ في هذا الكلام من تأويلٍ ، إذ الذَمُّ إنما يتوجَّهُ عليهم إذا بَدَّلوا القولَ الذي قيل لهم ، لا إذَا بَدَّلوا قولاً غيره ، فقيل : تقديرُه : فبدَّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم [ قولاً غيرَ الذي قِيل لهم ] ف « بَدَّلَ » يتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ بنفسِه وإلى آخر بالباءِ ، والمجرورُ بها هو المتروكُ والمنصوبُ هو الموجودُ كقولِ أبي النجم :
487 وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً دَبُوراً بالصَّيا والشَّمْأَلِ
فالمقطوعُ عنها الصَّبا والحاصلُ لها الهَيْفُ ، قالَه أبو البقاء . وقال : « يجوز أن يكونَ » بَدَّل مَحْمولاً على المعنى تقديره : فقال الذين ظلموا قولاً غيرَ الذي قيلَ لهم ، لأنَّ تبديلَ القولِ بقولٍ فنصْبُ « غير » عنده في هذين القولَيْن على النعت ل « قولاً » وقيل : تقديرُه : فَبَدَّل الذينَ ظلموا قولاً بغيرٍ الذي ، فَحَذَفَ الحرفَ فانتصَبَ ، ومعنى التبديلِ التغييرُ كأنه قيل : فغيَّروا قولاً بغيره ، أي جاؤوا بقولٍ آخرَ مكانَ القولِ الذي أُمِروا به ، كما يُرْوى في القصة أنَّهم قالوا بَدَلَ « حِطَّة » حِنْطة في شُعَيْرة .
والإِبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ ، وقد يُقال التبديل : التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ ، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن ، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قُرئ : { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا } [ القلم : 32 ] { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] بالوجهين ، وهذا يَقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما ] ، والبديلُ ، والبدل بمعنى واحدٍ ، وبَدَّله غيرُه . ويُقال : بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل ونَكَل ، قال أبو عبيدة : « لم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ » .
قوله : { مِّنَ السمآء } [ يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ متعلِّقاً بأَنْزلنا ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، أيْ : من جهةِ السماء ، وهذا الوجهُ ] هو الظاهرُ . والثاني أن يكونَ صفةً ل « رِجْزاً » ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و « مِنْ » أيضاً لابتداءِ الغايةِ . وقولُه : { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } فأعادَهم بذِكْرِهم أولاً ، ولم يَقُلْ « عليهم » تنبيهاً على أنَّ ظُلْمَهُم سببٌ في عقابِهم ، وهو من إيقاعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المُضْمر لهذا الغرض . وإيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ على ضَرْبَيْنِ : ضربٍ يقعُ بعد تمامِ الكلامِ كهذهِ الآيةِ ، وقول الخَنْساء :
488 تَعَرَّقَنِي الدَّهرُ نَهْساً وحَزَّاً ... وأَوْجَعَني الدَّهْرُ قَرْعاً وغَمْزَا
أي : أصابَتْني نوائبُه جُمَعُ ، وضربٍ يقعُ في كلامٍ واحد نحو قوله : { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1-2 ] وقوِل الآخر :
489 ليتَ الغُرابَ غداةَ يَنْعَبُ دائِباً ... كان الغرابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ
وقد جمع عديٌّ بنُ زيدٍ بين المعنيين فقال :
490 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا
وجاء في سورة الأعراف { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف : 133 ] فجاء هنا بلفظ الإِرسالِ ، وبالمضمرِ دونَ الظاهرِ ، وذلك أنه تعالى عَدَّد عليهم في هذه السورة نِعَماً جَسيمةً كثيرةً فكانَ توجيهُ الذمِّ عليهم وتوبيخُهم بكُفرانِها أَبَلَغَ مِنْ ثَمَّ ، حيث إنه لم يُعَدِّدْ عليهم هناك ما عَدَّد هنا ، ولفظُ الإِنزالِ للعذابِ أبلغُ من لفظِ الإِرسالِ .

والرِّجْزُ : العَذَابُ ، وفيه لغةٌ أخرى وهي ضَمُّ الراءِ ، وقُرِئ بهما وقيل : المضمومُ اسمُ صَنَمٍ ، ومنه : { والرجز فاهجر } [ المدثر : 5 ] وذلك لأنَه سببُ العذابِ . وقال الفراء : « الرِّجْزُ والرِّجْسُ بالزاي والسين بمعنَىً كالسُّدْغِ والزُّدْغِ ، والصحيحُ أن الرِّجْزَ : القَذَرُ وسيأتي بيانُه ، والرَّجَزُ داءٌ يُصيبُ الإِبلِ فترتعشُ منه ، ومنه بَحْر الرَّجَز في الشعر .
قوله : » بما كانوا يفسُقُون متعلِّق ب { أَنزَلْنَا } والباءُ للسببية و « ما » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، وهو الظاهرُ أي : بسببِ فِسْقِهم ، وأن تكونَ موصولةً اسميةً ، والعائدُ محذوفٌ على التدريجِ المذكور في غير موضعٍ ، والأصلُ يَفْسُقُونَه ، ولا يَقْوى جَعْلُها نكرةً موصوفَةً ، وقال في سورة الإِعراف : { يَظْلِمُونَ } [ الآية : 162 ] تنبيهاً [ على ] أنهم جامِعُون بين هذين الوصفينِ القبيحين . وقد تقدَّم معنى الفِسْق . وقرأ ابن وثَّاب { يَفْسُقُونَ } بكسر السين ، وقد تقدَّم أنهما لغتان .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

قوله تعالى : { استسقى موسى لِقَوْمِهِ } السينُ للطلبِ على وَجْهِ الدُّعَاءِ أي : سَأَل لهم السُّقيا ، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ لأنه من السَّقْيِ ، وقد تقدَّم معنى استفْعَلَ مستوفى في أولِ السورة . ويقال : سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه بمعنى وأنشد :
491 سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى ... نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ
وقيل : سَقَيْتُه : أَعْطَيْتُه ، ما يَشْرَبُ ، وأَسْقَيْته جَعَلْتُ ذلك له يتناولُه كيف شاء ، والإِسقاءُ أَبْلَغُ من السَّقْي على هذا ، وقيل : أَسْقَيْته دَلَلْتُه على الماءِ ، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى عند قولِه : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] .
و « لقومِه » متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة ، أي : لأجلِ ، أو تكونُ للبيان لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم « سُقْياً لك » فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كنظيرتِها « .
قوله : { اضرب بِّعَصَاكَ } الإِدغام [ هنا ] واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مِثْلان في كلمتين أو كلمةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ نحو : اضربْ بكرا . وألفُ » عصاك « منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النسب : عَصَوِيّ ، وفي التثنية عَصَوانِ ، قال :
492 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... على عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع : عِصِيّ وعُصِيّ بضمِّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً ، وأَعْصٍ ، مثل : زَمَن وأَزْمُن ، والأصل : عُصُوو ، وأَعْصُو ، فَأُعِلَّ . وعَصَوْتُه بالعَصا وعَصَيْتُه بالسيفِ ، و » ألقى عصاه « يُعَبَّر به عن بُلوغ المنزلِ ، قال :
493 فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى ... كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ
وانشقَّت العصا بين القومِ أي : وقع الخلافُ ، قال الشاعر :
494 إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا ... فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ
قال الفراء : » أولُ لَحْنٍ سُمِع بالعراقِ هذه عصاتي « يعني بالتاء ، و » الحَجَرَ « مفعولٌ وأل فيه للعهدِ ، وقيل : للجنسِ .
قوله : { فانفجرت } » الفاءُ « عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه ، تقديرُه : فَضَرَبَ فانفجَرَت ، وقال ابنُ عصفور : » [ إن ] هذه الفاءَ الموجودةَ هي الداخلةُ على ذلك الفعلِ المحذوفِ ، والفاءُ الداخلةُ على « انفجَرتْ محذوفةٌ » وكأنه يقولُ : حُذِفَ الفعلُ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه ، وحُذِفَتِ الفاءُ الثانيةُ لدلالةِ الأولى عليها . ولا حاجةَ تَدْعُو إلى ذلك ، بل يُقال : حُذِفَتْ الفاءُ وما عَطَفَتْه قبلها . وجَعَلَها الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ ، قال : « أو : فإن ضَرَبْتَ فقد انفجرَتْ ، قال : » وهي على هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقع إلا في كلامٍ بليغ « ، وكأنه يريدُ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ .
والانفجارُ : الانشقاقُ والتفتُّح ، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ ، وفي الأعرافِ ، { فانبجست } [ الآية : 160 ] ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : الانبِجاس أضيقُ ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً .
قوله : { اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } فاعل » انفجرت « ، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى ، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد له من لفظِه ، وكذلك مذكَّرهُ » اثنان « ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى ، تقول : رجلان وامرأتان ، ولا تقول : اثنا رجلٍ ولا اثنتا امرأةٍ ، إلا ما جاءَ نادراً فلا يُقاسُ عليه : قال :

495 كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَل
وثِنْتان مثل اثنتين ، وحكمُ اثنين واثنتين في العددِ المركب أن يُعْرَبا بخلافِ سائرِ أخواتهما ، قالوا : لأنه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المعرب عند الإِضافة وهي النونُ فأشبها المعربَ فأُعْرِبا كالمثنى بالألف رفعاً وبالياء نصباً وجرَّاً ، وأمَّا « عَشْرة » فمبني لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ ولها أحكامٌ كثيرةٌ . و « عَيْناً » تمييز .
وقُرئ : « عَشِرة » بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ ، قال النحاس : « وهذا عجيبٌ فإنَّ لغةَ تميم عَشِرة بالكسر ، وسبيلُهم التخفيفُ ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون وسبيلُهم التثقيلُ » . وقرأ الأعمش : عَشَرة بالفتح . والعينُ اسم مشتركٌ بين عَيْنِ الإِنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ المِيزان ، والعَيْنُ : المطر الدائم ستاً أو خمساً ، والعَيْنُ : الثُّقْب في المَزادَة ، وبلدٌ قليلٌ العَيْن أي : قليلُ الناس .
[ قوله : { كُلُّ أُنَاسٍ } قد تقدَّم الكلام على أنه أصلُ الناس . وقال الزمخشري في سورة الأعراف : إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسير ، ثم قال : « ويجوز أن يكونَ الأصلُ الكسرَ ، والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من الفتحة وسيأتي تحريرُ البحث معه إن شاء الله تعالى في السورةِ المذكورة ] .
قوله : { مَّشْرَبَهُمْ } مفعولٌ ل » عَلِمَ « بمعنى عَرَف ، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ عيناً لا يَشْرَكُهُ فيها [ سِبْطُ ] غيرُه . وقيل : هو نفسُ المشروب . فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به .
قوله : { كُلُواْ واشربوا } هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ ، تقديرُه : وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا ، وقد تقدَّم تصريفُ » كل « وما حُذِف منه .
قولُه : { مِن رِّزْقِ الله } هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه ، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ ، والتقديرُ : وكُلوا منه .
و » مِنْ « يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولُ الأكلِ محذوفاً ، وكذلك مفعولُ الشُّرْب ، للدلالة عليهما ، والتقدير : كُلوا المَنَّ والسَّلْوى ، لتقدُّمِهما في قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] واشرَبوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ ، وعلى هذا فالجارُّ والمجرورُ يُحْتمل تعلُّقُه بالفعلِ قبله ، ويُحْتمل أن يكونَ حالاً من ذلك المفعولِ [ المحذوفِ ] ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . وقيل : المرادُ بالرزق الماءُ وحدَه ، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماء ما يُؤكل وحياتِهِ فهو رزقٌ يُؤْكل منه ويُشْرَبُ ، والمرادُ بالرزقِ المَرْزُوقُ ، وهو يَحْتَمل أن يكونَ من باب ذِبْح ورِعْي ، وأن يكونَ من باب » درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ « ، وقد تقدَّم بيانُ ذلك .
قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } أصلُ » تَعْثَوا « : تَعْثَيُوا ، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً ، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى ، فوزنُه تَفْعُون .

والعِثِيُّ والعَيْثُ : أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان . وقال بعضُهم : « إلاَّ أنَّ العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً ، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً ، يقال : عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً ، وليس عاثَ مقلوباً من عثى كَجَبَذَ وجَذَبَ لتفاوتِ مَعنَيَيْهما كما تقدَّم ، ويُحْتمل ذلك ، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ بنوعٍ . ويُقال : عَثِيَ يعثى عِثِيّاً ومَعَاثاً ، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها كَرَضِيَ من الرّضوان لثبوتِ العِثِيّ وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك . وعَثَا كما تقدَّم ، ويقال : عَثَّ يَعُثُّ مضاعفاً أي فسد ، ومنه : العُثَّةُ سُوسةٌ تُفْسِدُ الصوفَ ، وأمَّا » عَتَا « بالتاءِ المثنَّاة فهو قريبٌ من معناه وسيأتي الكلامُ عليه .
و » مُفْسدين « حالٌ من فاعل » تَعْثَوْا « ، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، لأنَّ معناها قد فُهِم من عامِلها ، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين ، ومثله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] ، هكذا قالوا : ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً ، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم ، ولهذا قال الزمخشري : » فقيل لهم : لا تَتَمادَوا في الفسادِ في حالِ فَسادِكم ، لأنهم كانوا متمادِيْنَ فيه ، فغايَر بينهما كما ترى .
و { فِي الأرض } يَحْتمل أن يتعلَّق ب « تَعْثَوْا » وهو الظاهرُ ، وأن يَتَعلَّقَ بمفسدين .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

قوله تعالى : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : ناصبٌ ومنصوبٌ ، والجملةُ في محلَّ نصبٍ بالقولِ ، وقد تقدَّم الكلامُ على « لن » ، وقولُه « طعام واحد » وإنما كانا طعامين وهما المَنُّ والسَّلْوى؛ لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يتبدَّل ، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ ، أو لأنهما ضَرْبٌ واحدُ لأنهما من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف ، ونحن أهلُ زراعاتٍ ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه من الأشياءِ المتفاوتةِ ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ ، وقيل : كَنَوْا بذلك عن الغِنَى ، فكأنهم قالوا : لن نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك كانوا ، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ .
والطعامُ : اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ ، ومنه { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر ، وفي حديث الصدقة : « أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير » ، والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ ، تقول : طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل ، قال أبو خراش :
496 أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه ... وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي ... إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ
أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى منه ، وقد يُعَبَّر به عن الإِعطاءِ ، قال عليه السلام : « إذا اسْتَطْعَمَكم الإِمامُ فأطْعِموه » أي : إذا استفتح فافتحُوا عليه ، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً ، قال :
497 نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو ... دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما
قوله : { فادع } اللغةُ الفصيحةُ « ادعُ » بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو ، ولغة بني عامر : فادْعِ بكسر العين ، قالَ أبو البقاء : « لالتقاءِ الساكنين ، يُجْرُون المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ ، ولا يُراعونَ المحذوفَ » يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل الأمرِ ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ ، فكُسِرت العينُ ، وفيه نظرٌ ، لأن القاعدةَ في هذا ونحوه أنْ يُكْسَرَ الأولُ من الساكنين لا الثاني ، فيجوزُ أن يكونَ [ مِنْ لغتهم ] دَعَى يَدْعي مثل رَمى يَرْمي . والدعاءُ هنا السؤالُ ، ويكونُ بمعنى التسمية كقوله :
498 دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم ، و « لنا » متعلِّق به ، واللام للعلَّة .
قوله « يُخْرِجْ » مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقال بعضُهم : « مجزومٌ بلام الأمرِ مقدرةً ، أي : لِيُخْرِجْ ، وضَعَّفه الزجاج ، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ الأمرِ إن شاء الله تعالى .
قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأرض } مفعولُ » يُخْرِجْ « محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه : مأكولاً [ مِمَّا ] أو شيئاً مِمَّا تُنبت الأرضُ ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه ، وتكونُ » مِنْ « لابتداءِ الغاية ، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي : مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و » مِنْ « للتبعيضِ ، ومذهبُ الأخفش أنَّ » مِنْ « زائدةٌ في المفعول ، والتقديرُ : يُخْرِجْ ما تُنْبِتُه الأرضُ ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً .

و « ما » يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ ، أي : من الذي تُنْبِتُه أو من شيءٍ تُنبته ، ولا يجوزُ جَعْلُها مصدريةً لأن المفعولَ المحذوفَ لا يُوَصَفُ بالإِنباتِ ، لأن الإِنباتِ مصدرٌ والمُخْرَجَ جَوْهَرٌ ، وكذلك على مذهبِ الأخفش لأنَّ المُخْرَجَ جَوْهَرٌ لا إنبات .
قوله : { مِن بَقْلِهَا } يجوزُ فيه وجهان : أحدُهما : أن يكونَ بَدلاً من « ما » بإعادةِ العامل ، و « مِنْ » معناها بيانُ الجنس ، والثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على « ما » أي : مما تُنْبته الأرضُ في حالِ كَوْنه مِنْ بقلها و « مِنْ » أيضاً للبيان . والبقلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ من النَّجْم أي : مِمَّا لا ساقَ له ، وجمعُه : بُقول . والقِثَّاء معروف ، الواحدُ : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقمحة ، وفيها لغتان : المشهورةُ كَسْرُ القافِ ، وقُرئ بضمِّها ، والهمزةُ أصلٌ بنفسِها في قولهم : أَقْثَأَتِ الأرضُ أي : كَثُر قِثَّاؤها ووزنُها فِعَّال ، ويُقال في جَمْعها قَثَائي مثل عِلْباء وعَلاَبي . قال بعضُهم : « إلاَّ أنَّ قِثَّاء من ذواتِ الواو ، تقول : أَقْثَأْتُ القومَ ، : أي أطعمتهُم ذلك ، وفَثَأْتُ القِدْر سكَّنْتُ غَلَيَانَها بالماءِ ، قال :
499 تفُورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمُها ... ونَفْثَؤُها عَنَّا إذا حَمْيُها غَلا
وهذا من هذا [ القائل ] وَهْمٌ فاحش ، لأنه لمَّا جَعَلَها من ذوات الواو كيفَ يَسْتَدِلُّ عليها بقولهم : » أَقْثَأْتُ القومَ « [ بالهمز ] ، بل كان ينبغي أن يُقال : أَقْثَيْتُ والأصلُ : أَقْثَوْتُ ، لكنْ لمَّا وَقَعَتِ الواوُ في بناتِ الأربعةِ قُلِبَتْ ياءً ، كأَغْزَيْتُ من الغَزْوِ ، ولكان ينبغي أن يُقالَ : » فَثَوْتُ القِدْر « بالواو ، ولقال الشاعر : نَفْثَوُها بالواو ، والمَقْثَأَةُ والمَقْثُؤَةُ بفتح التاءِ وضمِّها : مَوْضِعُ القِثَّاء . والفُوم : الثُّوم ، والفاءُ تُبْدَلُ من الثاء ، قالوا : جَدَفٌ وجَدَثٌ ، وعاثُور وعافُور ، ومعاثِير ومعافِير ، ولكنه [ على ] غيرِ قياس ، وقيل الحِنْطَة ، وأنشد ابن عباس :
500 قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً ... نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ
وقيل غيرُ ذلك .
قوله : » أَدْنى « فيه ثلاثةُ أقوال ، أحدُها وهو الظاهرُ ، وهو قول أبي إسحاق الزجاج أنَّ أصلَه : أَدْنَوُ من الدُّنُوِّ وهو القُرْب ، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها ، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان : أحدُهما : أنه أقربُ لقلةِ قيمته وخَساسته . والثاني : أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو خيرٌ ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ ، والثاني قولُ علي بن سليمان الخفش : أنَّ أصلَه أَدْنَأُ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة ، وهو الشيء الخسيس ، إلا أنه خُفِّفَ همزهُ كقوله :
501 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ زهير الفرقبي : » أَدْنَأُ « بالهمز .

الثالث : أنَّ أصلَه أَدْوَنُ من الشيء الدُّوْن أي الرديء ، فَقُلِب بأَنْ أُخِّرتِ العينُ إلى موضعِ اللامِ فصارِ : أَدْنَوَ فأُعِلَّ كما تقدَّم ، ووزنُهُ أَفْلَع ، وقد تقدَّم معنى الاستبدالِ وأدْنَى خبرٌ عن « هو » والجملة صلةٌ وعائدٌ ، وكذلك « هو خير » أيضاً صلةٌ وعائد .
قوله : « مِصْراً » قرأه الجمهورُ منوناً ، وهو خَطُّ المصحف ، فقيل : إنهم أُمِروا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف ، وقيل : أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما صُرِف لخفَّته ، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد ، وأنشد :
502 لم تَتَلَفَّعْ فَضْلِ مِئْزَرِها ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ
فَجَمع بين الأمرين ، أو صَرَفه ذهاباً به إلى المكان ، وقرأ الحسنُ وغيرُه : « مصرَ » وكذلك هي في بعضِ مصاحفِ عثمان ومصحفِ أُبَيّ ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه . وقال الزمخشري : « إنه مُعَرَّبٌ من لسان العجم ، فإن أصله مِصْرائيم ، فَعُرِّب » ، وعلى هذا إذا قيل بأنه عَلَمٌ لمكانٍ بعينه فلا ينبغي أن يُصْرف البتةَ لانضمامِ العُجْمِة إليه ، فهو نظيرُ « ماه وجَوْر وحِمْص » ولذلك أجمعَ الجمهورُ على منعِه في قولِه { ادخلوا مِصْرَ } [ يوسف : 99 ] . والمِصْرُ في أصل اللغةِ : « الحدُّ الفاصلُ بين الشيئين » وحُكِي عن أهلِ هَجَرَ أنهم إذا كَتَبوا بَيْعَ دارٍ قالوا : اشترى فلانٌ الدارَ بمُصُورِها « أي : حدودِها ، وأنشد :
503 وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ ... بين النهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا
قوله { مَّا سَأَلْتُمْ } » ما « في محلِّ نصبٍ اسماً لإِنَّ ، والخبرُ في الجارِّ قبله ، و » ما « بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي سألتموه . قال أبو البقاء : » ويَضْعُفُ أن يكونُ نكرةًَ موصوفةً « يعني أنَّ الذي سألوه شيءٌ معينٌ فلا يَحْسُنُ أن يُجابُوا بشيءٍ مُبْهَمٍ . وقُرئ : » سِلْتُم « مثل بِعْتُم ، وهي مأخوذةٌ مِنْ سالَ بالألف ، قالَ حسان رضي الله عنه :
504 سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ
وهل هذه الألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ أو واوٍ لقولهم : يتساوَلان ، أو عن همزةٍ؟ أقوالٌ ثلاثةٌ سيأتي بيانُها إن شاء الله في سورة المعارج .
قولُه : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } » ضُرِبت « مبنيٌّ للمفعولِ ، » الذِّلَّةُ « قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ ، ومعنى » ضُرِبَتْ « أي : أُلْزِموها وقُضِيَ عليهم بها ، من ضَرْب القِباب ، قال الفرزدقُ لجرير :
505 ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها ... وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ
والذِّلَّةُ : الصِّغارُ ، والذُّل بالضم ما كان عن قَهْر ، وبالكسر ما كانَ بعد شِماس من غير قهر ، قاله الرغب . والمَسْكَنَةُ : مَفْعَلةٌ من السكون ، لأن المِسْكينَ قليلُ الحركةِ والنهوضِ ، لِما به من الفَقْر ، والمِسْكينُ مِفْعيل منه إلا أنَّ هذه الميمَ قد ثَبَتَتْ في اشتقاق هذهِ الكلمةِ ، قالوا : تَمَسْكَنَ يَتَمَسْكَنُ فهو مُتَمَسْكِنٌ ، وذلك كما تَثْبُتُ ميم تَمَنْدَلَ وتَمَدْرَعَ من النَّدْل والدَّرْع ، وذلك لا يَدُلُّ على أصالتها ، لأن الاشتقاق قَضَى عليها بالزيادَةِ .

وقال الراغب : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } فالميمُ في ذلك زائدةٌ في أصحِّ القولين « وإيرادُ هذا الخلافِ يُؤْذِنُ بأنَّ النونَ زائدةٌ ، وأنه من مَسَك » .
قوله : « وباؤُوا » ألفُ « باءَ بكذا » منقلبةٌ عن واو لقولهم : « باء يَبُوء » مثل : قال يقول : ، قال عليه الصلاة والسلام « أبُوْءُ بنعمتِك عليّ » والمصدرُ البَواء ، وباءَ معناه رَجَعَ ، وأنشد بعضهم :
506 فآبُوا بالنَّهائِبِ والسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلوكِ مُصَفَّدينا
وهذا وَهَمٌ ، لأنَّ هذا البيتَ من مادة آب يَؤُوب فمادتُه من همزةٍ وواو وباء ، و « باء » مادتُه من باء وواو وهمزة ، وادِّعاءُ القلبِ فيه بعيدٌ [ أنه لم يُعْهَدْ ] تقدُّمُ العينِ واللام معاً على الفاء في مقلوبٍ وهذا من ذاك .
والبَواء : الرجوعُ بالقَوَدِ ، وهم في هذا الأمر بَواء أي : سَواء ، قال :
507 ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي ... محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَّمِ
أي : لا يرْجِعُ الدم بالدم في القَوَد ، وباءَ بكذا أَقَرَّ أيضاً ، ومنه الحديثُ المتقدم ، أي أُقِرُّ بِها [ وأُلْزِمُها نفسي ] ، وقال :
508 أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الراغبُ : « أصلُ البَواءِ مساواةُ الأجزاءِ في المكانِ خِلاَفَ النَّبْوَةِ الذي هو منافاةُ الأجْزاء ، وقوله » وباؤُوا بغضبٍ « أي حَلُّوا مَبْوَأً ومعه غضبٌ ، واستعمال » باء « تنبيهٌ على أنَّ مكانه الموافقَ يَلْزَمُه فيه غضبُ اللهِ فكيف بغيره من الأمكنَةِ ، وذلك نحو { فَبَشِّرْهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] . ثم قال : » وقولُ مَنْ قَالَ « بُؤْتُ بحقِّها » أي أَقْرَرْتُ فليس تفسيرُه بحسب مقتضى اللفظ ، وقولُهم : حَيّاك الله وبَيَّاك « أصلُه : بَوَّأَك وإنما غُيِّر للمشاكَلَةِ ، قاله خلف الأحمر » .
قوله : بغضب « في موضعِ الحالِ من فاعِل » باؤوا « : أي : رَجَعوا مغضوباً عليهم ، وليس مفعولاً به كمررتُ بزيدٍ . وقال الزمخشري : » هو من قولك : باء فلانٌ بفلان إذا كانَ حقيقاًَ بأنْ يُقْتَلَ به لمساواتِه له ومكافَأَته ، أي : صاروا أحِقَّاءَ بغضبِه « وهذا التفسيرُ ينفي كونَ الباءِ لِلحال/ .
قوله » مِن الله « الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : بغضبٍ كائنٍ من اللهِ . و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ مجازاً ، وقيل : هو متعلِّقٌ بالفعلِ نفسِه أي : رَجَعوا من الله بغضب ، وليس بقويٍّ .
قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } » ذلك « مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنة والخلافةِ بالغضب . و » بأنهم « الخبرُ . والباءُ للسببية ، أي : ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرِهم . وقال المهدوي : » الباءُ بمعنى اللام أي : لأنهم « ولا حاجة إلى هذا ، فإنَّ باءَ السببيةِ تفيدُ التعليلَ بنفسِها . و » يكفرون « في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وكانَ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لأنَّ ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء . والباءُ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم .

قوله « بآيات الله » متعلِّقٌ بيكفرون ، والباءُ للتعدية .
قوله « ويقتُلون » في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان ، وقرئ : « تَقْتُلون » بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأولِ بعد الغَيْبة ، و « يُقَتِّلونَ » بالتشديدِ للتكثيرِ .
قوله : « الأنبياءَ » مفعولٌ به جمع نبيّ ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في النُّبُوَّة وما تَصَرَّف منها ، ونافعٌ المدنيُّ على الهمزِ في الجميع إلا موضعين : في سورةِ الأحزابِ « للنبيِّ إن أراد » « [ لا تَدْخُلوا ] بيوتَ النبيِّ إلاَّ » فإنَّ قالون حَكَى عنه في الوصلِ كالجماعةِ وسيأتي . فأمّا مَن هَمَز فإنه جَعَله مشتقاً من النبأ وهو الخبر ، فالنبيُّ فعيل بمعنى فاعل ، أي : مُنَبِّئٌ عن الله برسالته ، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مَفْعول أي : إنه مُنَبَّأ مِن الله بأوامِره ونواهِيه ، واستدلُّوا على ذلك بجَمْعِهِ على نُبَآء ، كظريف وظُرَفاء ، قال العباس ابن مرداس :
509 يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ ... بالخيرِ ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا
فظهورُ الهمزتين يَدُلُّ على كونِهِ من النبأ ، واستضعف بعضُ النحويين هذه القراءةَ ، قال أبو علي : « قال سيبويه : » بلغنَا أنّ قوماً من أهل التحقيق يحقِّقون نَبيَّاً وبَريَّة ، قال : وهو رديء « ، وإنما استردَأَه لأن الغالبَ التخفيفُ » وقال أبو عبيد : « الجمهورُ الأعظمُ من القُرَّاء والعوام على إسقاط الهمز من النبيّ والأنبياء ، وكذلك أكثرُ العرب مع حديث رويناه ، فذكر أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » يا نبيءَ الله « فهمز ، فقال : » لست نبيءَ الله « فهمز ، » ولكن نبيُّ اللهِ « ولم يهمز ، فأنكر عليه الهمز ، قال : » وقال لي أبو عبيدة : العربُ تُبْدِل الهمزَ في ثلاثةِ أحرف : النبي والبريَّة والخابية وأصلهنَّ الهمزُ « ، قال أبو عبيدة : » ومنها حرف رابع : الذُّرِّيَّة من ذرأ يذرأ ، ويدل على أن الأصلَ الهمزُ قولُ سيبويه : إنهم كلَّهم يقول : تنبَّأ مسيلمة فيهمزون ، وبهذا لا ينبغي أن تُرَدَّ به قراءة هذا الإِمامِ الكبير . أمَّا الحديثُ فقد ضَعَّفوه ، قال ابنُ عطية : « مِمَّا يُقَوِّيَ ضعفَه أنه لمَّا أَنْشده العباس : » يا خاتم النُّبآء « لم يُنْكِرهْ ، ولا فرقَ بين الجمع والواحد » ، ولكنَّ هذا الحديثَ قد ذكره الحاكم في المستدرك ، وقال : هو صحيحٌ على شرطِ الشيخين ، ولم يُخْرجاه . قلت : فإذا كان ذلك كذلك فَلْيُلْتَمَسْ للحديثِ تخريجٌ يكونُ جواباً عن قراءة نافع ، على أن القطعيَّ لا يُعارَضُ بالظني ، وإنما نذكرُه زيادةَ فائدةِ والجواب عن الحديث أن أبا زيد حكى : « نَبَأْتُ من أرضِ كذا إلى أَرض كذا » أي : خَرَجْتُ منها إليها ، فقوله : « يا نبيءَ الله » بالهمز يُوهم يا طريدَ الله الذي أخرجه من بلدِه إلى غيره ، فنهاهُ عن ذلك لإِيهامِهِ ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلَّق بالقراءةِ .

ونظيرُ ذلك نَهْيُه للمؤمنين عن قولهم : « راعِنا » ، لَمَّا وَجَدَتِ اليهودُ بذلك طريقاً إلى السبِّ به في لغتهم ، أو يكونُ حَضَّاً منه عليه السلام على تحرِّي أفصحِ اللغاتِ في القرآنِ وغيرِه .
وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه من المهموزِ ولكِنْ خُفِّفَ ، وهذا أَوْلى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم : تَنَبَّأ مُسَيلَمَةُ ، وقولِه : « يا خاتَم النُّبآء » . والثاني : أنه أصلٌ آخرُ بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع ، ولا شك أن رتبة النبيِّ مرتفعةٌ ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق ، والأصلُ : نَبِيْوٌ وأَنْبِواء ، فاجتمع الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون ، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِم ، كميِّت في مَيْوِت ، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلبت ياءً ، فصار أنبِياء . والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ وأصلٌ بنفسِها على الثاني ، فهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل أي : ظاهرٌ مرتفعٌ ، أو بمعنى مفعول أي : رَفَعه الله على خَلْقه ، أو يكونُ مأخوذاً من النبيّ الذي هو الطريق ، وذلك أن النبيَّ طريقُ اللهِ إلى خَلْقِه ، به يتوصَّلُون إلى معرفةِ خالِقِهم ، وقال الشاعر :
510 لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا ... مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
أي : طريقاً ، وقال :
511 لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى ... مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ
الرَّتْمُ بالتاء المثنَّاة والمثلثةِ جميعاً : الكَسْر ، والكاثبُ بالمثلثة اسمُ جبلٍ ، وقالوا في تحقير نُبُوَّة مُسَيْلَمَةَ : نُبَيِّئَة . وقالوا : جمعُه على أَنْبياء قياس مطَّرد في فَعيل المعتلِّ نحو : وَلِيَّ وأَوْلياء وصَفِيّ وأَصْفِياء . وأمَّا قالون فإنما تَرَك الهمزَ في الموضعين المذكورين لَمَدْركٍ آخرَ ، وهو أنه مِنْ أصلِه في اجتماعِ الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورَتَيْنِ أَنْ تُسَهَّل الأولى ، إلا أنْ يَقَعَ قبلَها حَرفُ مدٍّ فتُبْدَلَ وتُدْغَمَ ، فَلَزِمَه أن يفعل هنا ما فَعَل في « بالسوء إلاَّ » مِن الإِبدالِ والإِدغامِ ، إلاَّ أنه رُوي عنه خلافٌ في « بالسوء إلاَّ » ولم يُرْوَ عنه هنا خلافٌ ، كأنه التزم البدل لكثرةِ الاستعمال في هذه اللفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يَتْرُكْ همزَ « النبيّ » بل هَمزَهْ وَلمَّا هَمَزَه أدَّاه قياسُ تخفيفِه إلى ذلك ، وَيدُلَّ على هذا الاعتبارِ أنَّه إنما يَفْعَلُ ذلك حيث يَصِلُ ، أمَّا إذا وَقَفَ فإنَّه يَهْمِزُه في الموضعين لزوالِ السببِ المذكورِ/ فهو تارِكٌ للهمزِ لفظاً آتٍ به تقديراً .
قولُه تعالى : { بِغَيْرِ الحق } في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعلِ « يَقْتُلون » تقديرُه : يقتُلونهم مُبْطِلين ، ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره : قَتْلاً كائناً بغيرِ الحق ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . قال الزمخشري : « قتلُ الأنبياءِ لا يكون إلا بغير الحقِّ ، فما فائدةُ ذِكْرِه؟ وأجابَ بأنَّ معناه أنهم قَتَلوهم بغيرِ الحق عندَهم لأنهم لم يَقْتُلُوا ولا أَفْسَدوا في الأرض حتى يُقْتَلوا ، فلو سُئِلوا وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم لم يَذْكُروا وجهاً يَسْتَحِقُّونَ به القتلَ عندهم » وقيل : إنما خَرَجَ وصفُهم بذلك مَخْرَجَ الصفةِ لقَتْلِهم بأنه ظلمٌ في حقهم لاحقٌ ، وهو أبلغُ في الشَّناعة والتعظيم لذنوبهم .

قوله : { ذلك بِمَا عَصَواْ } مثلُ ما تقدَّم . وفي تكريرِ اسم الإِشارة قولان ، أحدهما : أنه مُشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول إليه على سبيل التأكيد . والثاني ما قالَه الزمخشري : وهو أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أنَّ ذلك بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما « . و » ما « مصدريةٌ والباءُ للسببيَّة ، أي بسبب عِصْيانهم ، فلا محلَّ ل » عَصَوا « لوقوعِه صلةً ، وأصلُ عَصَوْا عَصَيُوا ، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها ، قُلبت ألفاً ، فالتقى ساكنان هي والواوُ ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين ، وبَقيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها فوزنه فَعَوْا . » وكانوا يعتدُون « في محلِّ نصبٍ خبراً ل » كان « ، وكانَ وما بعدها عطفٌ على صلةِ » ما « المصدرية .
وأصلُ العِصيان : الشِّدَّةُ ، اعتصَتِ النَّواةُ ، اشتدَّت ، والاعتداءُ على المجاوزُ من عدا يعدُو ، فهو افتعالٌ منه ، ولم يَذْكُرْ متعلَّقَ العِصيان والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويعتدى فيه .
وأصلُ » يَعْتَدُون « يَعْتَدِيُونَ ، ففُعِل به ما فُعِل ب { يتَّقون } [ البقرة : 21 ] من الحَذْفِ والإِعلال وقد تقدَّم ، فوزنُه يَفْتَعُون . والواوُ من » عَصَوْا « واجبةُ الإِدغام في الواوِ بعدَها لانفتاحِ ما قبلَها ، فليسَ فيها مَدٌّ يمنعُ مِن الإِدغامِ ، ومثلُه : { فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [ آل عمران : 20 ] وهذا بخلافِ ما إذا انضمَّ ما قبل الواوِ ، فإنَّ المدَّ يقومُ مَقامَ الحاجز بين المِثْلَيْن فيجبُ الإِظهارُ ، نحو { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } [ البقرة : 25 ] ومثلُه : { الذى يُوَسْوِسُ } [ البقرة : 126 ] .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

قولُه تعالى : { مَنْ آمَنَ بالله } . . « مَنْ » يجوز فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « آمَن » مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على الصحيحِ حَسْبما تقدَّم الخلافُ فيه . وقوله : « فلهم » جواب الشرط ، وهذه الجملة الشرطية في محل رفع خبراً ل « إنَّ » في قوله : إنَّ الذين آمنُوا ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : مَنْ آمن منهم ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر . والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ « إنَّ » وهو « الذين » بدلِ بعضٍ من كلٍّ ، والعائذُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم ، و « آمن » صلتُها ، فلا محلَّ له حينئذ .
وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبرُ « إنَّ الذين » ، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ ، وهذا عند غيرِ الأخفش ، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا نُسِخ المبتدأ ب « إنَّ » يمتنعُ ذلكَ فيه ، فمحلُّ قولِه { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } رفعٌ على هذا القولِ ، وجَزْمٌ على القولِ الأولِ ، و « لهمْ » خبرٌ مقدَّمٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، و « أجرُهُمْ » مبتدأ ، ويجوزُ عند الأخفش أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه وإنْ لهم يعتَمِدْ ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الخلافِ في ذلك .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } « عند » ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً ، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه « لهم » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « أجرُهم » فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه : فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم . والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً ، ومنه قولُه عليه السلام : « إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى » والمشهورُ كسرُ عَيْنِها ، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ .
والذين هادُوا هم اليهودُ ، وهادُوا في أَلِفه قولان : أحدُهما أنه من واو ، والأصلُ : هاد يهودُ أي تاب ، قال الشاعر :
512 إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ ... أي : تائبٌ ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ ، وقال تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تُبْنَا ، وقيل : هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار ، وأنشدوا :
513 وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى ... قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد
وقيل : هو من الهَوادة وهي الخضوعُ . الثاني : انها من ياء ، والأصلُ : هاد يَهِيد ، أي : تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم . وقيل : سُمُّوا يهودَ نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام ، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية .
والنَّصارى جمعٌ ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة وندامى ، قاله سيبويه وأنشد :
514 فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها ... كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ
وأنشد الطبري على نَصْران قوله :

515 يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً ... ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ
قال سيبويه : « إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسب » وقال الخليل : « واحدُ النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومهارى . وقال الزمخشري : : الياءُ في نَصْرانيّ للمبالغة كالتي في أَحْمَري » . ونصارى/ نكرةٌ ، ولذلك دَخَلَتْ عليه أَلْ وَوُصِفَ بالنكرةِ في قول الشاعر :
516 صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له ... ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ صُوَّامِ
وسُّمُوا بذلك نسبةً إلى قرية يقال لها نَاصِرة ، كان يَنْزِلها عيسى عليه السلام ، أو لأنهم كانوا يتناصرون ، قال الشاعر :
517 لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا ... شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإِزارا
كُنْتُ لهم من النَّصارى جَارا ... والصابئُون : قومٌ عَبدوا الملائكةَ ، وقيل : الكواكبَ . والجمهورُ على همزهِ ، وقرأه نافعٌ غيرَ مهموز . فمَنْ هَمَزَه جَعَلَه من صَبَأَ نابُ البعير أي : خَرَجَ ، وصَبَأَتِ النجومُ : طَلَعت . وقال أبو عليّ : « صَبَأْتُ على القومِ إذا طَرَأْتُ عليهم ، فالصابِئُ : التارِكُ لدينِه كالصابىءِ الطارئِ على القومِ فإنه تارِكٌ لأرضِه ومنتقلُ عنها » . ومَنْ لم يَهْمَِزْ فإنه يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونَ مأخوذاً من المهموزِ فَأَبْدَلَ من الهمزةِ حرفَ علة إمَّا ياءً أو واواً ، فصارَ من باب المنقوصِ مثل قاضٍ أو غازٍ ، والأصل : صابٍ ، ثم جُمِع كما يُجْمع القاضي أو الغازي ، إلا أنَّ سيبويه لا يرى قلبَ هذه الهمزة إلا في الشعر ، والأخفشُ وأبو زيد يَرَيان ذلك مطلقاً . الثاني : أنه من صَبَا يَصْبو إذا مال ، فالصابي كالغازي ، أصلُه ، صابِوٌ فأُعِلَّ كإعلال غازٍ . وأَسْند أبو عُبَيْد إلى ابن عباس : « ما الصابُون إنما هي الصابئون ، ما الخاطون إنما هي الخاطِئون » . فقد اجتمع في قراءةِ نافع همزُ النبيين وتَرْكُ همز الصابئين ، وقد عَرَفْت أن العكسَ فيهما أَفْصَحُ . وقد حَمَلَ الضميرَ في قوله { مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ } على لفظِ « مَنْ » فأَفْرد ، وعلى المعنى في قولِه : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } على المعنى ، فَجَمَع كقوله :
518 أَلِمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما ... وقولا لها عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا
فراعى المعنى ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] .
والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال : أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً ، وقد يُعَبَّر به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين .
وقرأ أبو السَّمَّال : { والذين هَادَوْا } بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ والأصلُ : « هادَيُوا » فأُعِلَّ كنظائره .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

قوله تعالى : { فَوْقَكُمُ } : ظرفُ مكانٍ ناصبُه « رَفعْنا » وحكمُ « فوق » مثلُ حكم تحت ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه . قال أبو البقاء : « ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من » الطور « ، لأن التقدير يصير : رَفَعْنا الطورَ عالياً ، وقد استُفيد [ هذا ] من » رَفَعْنا « وفي هذا نظرٌ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره . قال : » ولأنَّ الجَبَلَ لم يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع ، وإنما صارَ فوقَهم بالرفْعِ . ولقائلٍ أن يقولَ : لِمَ لا يكونُ حالاً مقدرة ، وقد قالَ هو في قولِه « بقوة » إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما سيأتي .
والطُّور : اسمٌ لكلَّ جبل ، وقيل لما أَنْبَتَ منها خاصةً دونَ ما لم يُنْبِتْ ، وهل هو عربي أو سُرْياني؟ قولان ، وقيل : سُمِّي بطور ابنُ اسماعيل عليه السلام ، وقال العجَّاج :
519 داني جَنَاحَيْهِ من الطُّور فَمَرّْ ... تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ
قوله : « خُذُوا » في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر ، أي : وقُلْنا لهم خُذُوا ، وهذا القولُ المضمر يجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل « رَفَعْنا » والتقدير : ورفعنا الطور قائلين لكم خُذوا . وقد تقدَّم أنَّ « خُذْ » محذوفُ الفاءِ وأن الأصلَ : أُؤْخُذْ ، عند قوله { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة : 35 ] .
قوله : { مَآ آتَيْنَاكُم } مفعولُ « خُذوا » ، و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي لا نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ محذوفٌ أي : ما آتيناكموه .
قوله : « بقوةٍ » في محلِّ نَصْبٍ على الحال . وفي صاحِبها قولان ، أحدهما : أنه فاعلُ « خُذوا » وتكونُ حالاً مقدرة ، والمعنى : خُذوا الذي آتيناكموه حالَ كونكم عازمين على الجِدِّ بالعمل به . والثاني : أنه ذلك العائدُ المحذوف ، والتقدير : خُذوا الذي آتيناكُموه في حالِ كونه مشدَّداً فيه أي : في العمل به والاجتهادِ في معرفته ، وقوله « ما فيه » الضميرُ يعود على « ما آتيناكم » . والتولِّي تَفَعُّل من الوَلْي ، وأصلُه الإِعراضُ عن الشيء بالجسم ، ثم استُعْمِل في الإِعراض عن الأمورِ والاعتقاداتِ اتساعاً ومجازاً ، و « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم من رفعِ الطور وإيتاء التوراة .

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

قوله تعالى : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } : « لولا » هذه حرفُ امتناعٍ لوجودٍ ، والظاهرُ أنها بسيطةٌ ، وقال أبو البقاء : « هي مركبةٌ من » لَوْ « و » لا « ، و » لو « قبل التركيبِ يمتنعُ بها الشيءُ لامتناع غيره ، و » لا « للنفي ، والامتناعُ نفيٌ في المعنى ، وقد دَخَلَ النفيُ ب » لا « على أحد امتناعي لو ، والنفيُ إذا دخل على النفي صار إيجاباً ، فمِنْ هنا صار معنى » لولا « هذه يمتنع بها الشيءُ لوجودِ غيره ، وهذا تكلُّفُ ما لا فائدةَ فيه ، وتكونُ » لولا « أيضاً حرفَ تخضيضٍ فتختصُّ بالأفعال وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى . و » لولا « هذه تختصُّ بالمبتدأ ، ولا يجوزُ أَنْ يلَيها الأفعالُ ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك أُوِّلَ كقولِه :
520 ولولا يَحْسِبون الحِلْم عَجْزاً ... لَمَا عَدِم المُسيئون احتمالي
وتأويلُه أن الأصلَ : ولولا أن يَحْسِبِوا ، فلمَّا حُذِفَتْ ارتفع الفعلُ كقوله :
521 ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : أَنْ أَحضرَ ، والمرفوعُ بعدها مبتدأٌ خلافاً للكسائي حيث رَفَعَهُ بفعلٍ مضمر ، وللفراء حيث قال : » مرفوعٌ بنفس لولا « ، وخبرُه واجبُ الحذف/ للدلالةِ عليه وسَدِّ شيءٍ مَسَدَّه وهو جوابُها ، والتقديرُ : ولولا فضلُ اللهِ كائنٌ أو حاصل ، ولا يجوز أن يُثْبَتَ إلا في ضرورة شعر ، ولذلك لُحِّن المعري في قوله :
522 يُذيبُ الرُّعْبُ منه كلَّ عَضْبٍ ... فلولا الغِمْدُ يُمْسِكُه لَسالا
حيث أَثْبتَ خبرَها بعدها ، هكذا أطلقوا . وبعضُهم فصَّل فقال : » إنْ كان خبرُ ما بعدها كوناً مطلقاً فالحذفُ واجبٌ ، وعليه جاء التنزيلُ وأكثرُ الكلام ، وإن كان كوناً مقيداً فلا يَخْلو : إمّا أَنْ يَدُل عليه دليلُ أو لا ، فإنْ لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وجَبَ ذِكْرُه ، نحو قولِه عليه السلامُ : « لولا قومُكِ حديثو عهدٍ بكفر » وقولِ الآخر :
523 فلولا بَنُوها حولَها لَخَبَطْتُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإنْ دَلَّ عليه دليلٌ جاز الذكرُ والحذف ، نحو : لولا زيدٌ لغُلِبْنا ، أي شجاع ، وعليه بيتُ المعري المتقدِّم ، وقال أبو البقاء : « ولَزِمَ حَذْفُ الخبر للعلمِ به وطولِ الكلام ، فإن وَقَعَتْ » أَنْ « بعدها ظَهَر الخبرُ ، كقولِه : » فلولا أنَّه كان من المُسَبِّحين « فالخبرُ في اللفظ ل » أنَّ « وهذا الذي قاله مُوْهمٌ ، ولا تعلُّق لخبرِ » أنَّ « بالخبر المحذوف ولا يُغْني عنه البتةَ فهو كغيرِه سواء ، والتقدير : فلولا كونُه مُسَبِّحاً حاضرٌ أو موجود ، فأيُّ فائدةٍ في ذكره لهذا؟ والخبرُ يجب حَذْفُه في صورٍ أخرى ، يطولُ الكتابُ بِذِكْرِها وتفصيلِها ، وإنما تأتي إن شاء اللهُ مفصَّلةً في مواضعها . وقد تقدَّم معنى الفضلِ عند قوله { فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
قوله : { لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين } اللامُ جوابُ لولا . واعلم أنَّ جوابَها إن كان مُثْبَتَاً فالكثيرُ دخولُ اللامِ كهذه الآيةِ ونظائِرها ، ويَقِلُّ حَذْفُها ، قال :

524 لَوْلا الحياءُ وباقي الدينِ عِبْتُكُما ... ببعضِ ما فيكما إذْ عِبْتُما عَوَري
وإنْ كان منفيَّاً فلا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يكونَ حرفُ النفي « ما » أو غيرَها ، إن كان غيرَها فتركُ اللام واجبٌ نحو : لولا زيدٌ لم أقم ، أو لن أقوم ، لئلاَّ يتوالى لامان ، وإن كان ب « ما » فالكثيرُ الحَذْفُ ، ويَقِلُّ الإِتيانُ بها ، وهكذا حكمُ جوابِ « لو » الامتناعية ، وقد تقدَّم عند قولِه : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ولا محلَّ لجوابِها من الإِعرابِ . و { مِّنَ الخاسرين } في محلِّ نصبٍ خبراً ل « كان » ، ومِنْ للتبعيض .

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } : اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لقد ، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها ، و « قد » حرف تحقيق وتوقع ، ويُفيد في المضارع التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق ، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى المُضيِّ كقوله :
525 قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه ... كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ
وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ ، وتُحْدِثُ في الماضي التقريبَ من الحالِ . وفي عبارة بعضِهم : « قد : حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال » ويكونُ اسماً بمعنى حَسْب نحو : قدني درهمٌ أي : حسبي ، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم غالباً ، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين ، قال :
526 قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه :
527 أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ
أي : قد زالت ، وللقسم وجوابِه أحكامٌ تأتي إنْ شاء الله تعالى مفصَّلةً . و « عَلِمْتُمِ » بمعنى عَرَفْتُم ، فيتعدَّى لواحدٍ فقط ، والفرقُ بين العلم والمعرفة أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي عليه من الأحوال نحو : عَلمتُ زيداً قائماً أو ضاحكاً ، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ ، وقيل : لأنَّ المعرفةَ يسبقها جهلٌ ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ عليه سبحانه . { الذين اعتدوا } الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ ، كما قدَّره بعضُهم ، أي : أحكامُ الذين اعتدوا ، لأنَّ المعنى عَرَقْتم أشخاصَهم وأعيانَهم . وأصلُ اعتَدَوْا : اعتَدَيُوا ، فأُعِلَّ بالحذف ووزنه افْتَعَوا ، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه .
قوله : « منكم » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في « اعتدَوا » ويجوز أن يكونَ من « الذين » أي : المعتدين كائنين منكم ، و « مِنْ » للتبعيض .
قوله : { فِي السبت } متعلِّقٌ باعتَدَوا ، والمعنى : في حُكْم السبت ، وقال أبو البقاء : وقد قالوا : اليومَ السبتُ ، فجعلوا « اليومَ » خبراً عن السبت ، كما يقال ، اليومَ القتالُ ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم السبت « . والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ ، أي : قَطَعَ العمل . وقال ابن عطية : » والسَّبتُ : إمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة ، وإمَّا من السَّبْت وهو القطع ، لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتَمَّتْ خِلْقَتُها ، ومنه قولُهم : سَبَتَ رأسَه أي : حَلَقه . وقال الزمخشري : « والسبتُ مصدرُ سَبَتَتِ اليهودُ إذا عَظَّمت يومَ السبتِ » وفيه نظرٌ ، فإنَّ هذا اللفظ موجودٌ واشتقاقُه مذكورٌ في لسان العرب قبل فِعْل اليهودِ ذلك ، الهم إلا أَنْ يريدَ هذا السبتَ الخاصَّ المذكورَ في هذه الآيةِ . والأصلُ فيه المصدرُ كما ذكرتُ ، ثم سُمِّي به هذا اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ وقُطِعَ ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً ، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما أشبهه من أسماءِ الأزمنة مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه نحو : اليوم الجمعةُ ، اليوم العيدُ ، كما يقال : اليوم الاجتماعُ والعَودُ ، فإنْ ذُكِرَ مع « الأحد » وأخواتِه وَجَب/ الرفعُ على المشهورِ ، وتحقيقُها مذكورٌ في كتبِ النحوِ .

قوله : { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها أن يكونا خبرين ، قال الزمخشري : « أي : كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء » وهذا التقديرُ بناءً منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ ، فلذلك قَدَّرهما بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب : هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، وقد تقدَّم القول فيه . الثاني : أن يكون « خاسئين » نعتاً لقِردة ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ ، وهذا جَمْعُ العقلاء . فإنْ قيل : المخاطبون عُقَلاء . فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد ، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ : كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء ، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك ، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء ، كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] ، { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . الثالث : أن يكون حالاً من اسم « كونوا » والعاملُ فيه « كونوا » وهذا عندَ مَنْ يُجيز ل « كان » أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ . وفيه خلافٌ سيأتي تحقيقُه عند قولِه تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [ يونس : 2 ] إن شاء الله تعالى . الرابع وهو الأجْوَدُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في « قِرَدَةً » لأنه في معنى المشتقِّ ، أي : كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ ، وجَمْعُ فِعْل على فِعَلة قليلٌ لا ينقاس .
ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون ، تقول : « قَرَد بمكان كذا » أي : لَصِق به وسكن ، ومنه الصوفُ القَرَد « أي المتداخلُ ، ومنه أيضاً : » القُراد « هذا الحيوانُ المعروف . ويقال : خَسَأْتُه فَخَسَأَ ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض ، وقيل : يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ . وقال الكسائي : » خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً ، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين المصدَرَيْن ، والخُسُوءُ : الذِّلَّة والصَّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه خَسَأْتُ الكلبَ .

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

قوله تعالى : { نَكَالاً } : مفعولٌ ثانٍ لجَعَلَ التي بمعنى صَيَّر والأولُ هو الضميرُ وفيه أقوالٌ ، أحدُها : يعود على المَسْخَة . وقيل : على القريةِ لأنَّ الكلامَ يقتضيها كقولِه : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } [ العاديات : 4 ] أي بالمكانِ . وقيل على العقوبة ، وقيل على الأمَّة . والنَّكالُ : المَنْعُ ، ومنه النِّكْلُ اسمٌ للقيد من الحديد واللِّجام لأنه يُمْنَعُ به ، وسُمِّي العِقابُ نكالاً لأنه يُمْنَعُ به غيرُ المعاقب أن يفعلَ فِعْلَه ، ويَمْنَعُ المُعاقَبَ أن يعودَ إلى فِعْلِه الأولِ . والتنكيلُ : إصابةُ الغيرِ بالنَّكالِ ليُرْدَعَ غيرُه ، ونَكَلَ عن كَذا يَنْكُل نُكولاً امتنع ، وفي الحديثِ : « إنَّ الله يحبُ الرجلَ النَّكَل » أي : القوي على الفرس . والمَنْكَلُ ما يُنَكَّل به الإِنسان قال :
528 فارمِ على أَقْفائِهم بِمَنْكَلِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضميرُ في يديهَا وخلفها كالضميرِ في { جَعَلْنَاهَا } .
قوله : { وَمَوْعِظَةً } عطفٌ على { نَكَالاً } وهي مَفْعِلَة من الوعظ وهو التخويف ، وقال الخليل : « التذكيرُ بالخيرِ فيما يَرِقُّ له القَلْبُ ، والاسمُ : العِظَةُ كالعِدَة والزِنَة . و » للمتقين « متعلقٌ بِمَوْعِظة . واللامُ للعلة ، وخُصَّ المتقين بالذِّكْرِ ، وإن كانَتْ موعظةً لجميعِ العالَم : البَرِّ والفاجِرِ ، لأن المنتفعَ بها هم هؤلاء دونَ مَنْ عَدَاهم ، ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ مقويةً ، لأنَّ » موعظة « فَرْعٌ على الفِعْلِ في العملِ فهو نظيرٌ { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، فلا تعلُّق لها لزيادتها ، ويجوز أَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ لأنها صفةٌ لموعظةً ، أي : موعظةً كائنةً للمتقين .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

قوله تعالى : { يَأْمُرُكُمْ } . . الجمهور على ضمِّ الراء لأنه مضارعٌ مُعْرَبٌ مجرَّدٌ من ناصبٍ وجازمٍ . ورُوِيَ عن أبي عمرو سكونُها سكوناً مَحْضاً واختلاسُ الحركةِ ، وذلك لتوالي الحركات ، ولأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فكأنها حرفان ، وحركتُها حركتان ، وقيل : شبَّهها بعَضْد ، فسُكِّن أَوْسَطُه إجراءً للمنفصلِ مجرى المتصلِ ، وهذا كما تَقَدَّم في قراءة « بارِئْكم » ، وقد تقدَّم ذِكْرُ من اسْتَضْعَفها من النحويين ، وتقدَّم ذكرُ الأجوبةِ عنه بما أَغْنَى عن إعادتِه هنا ، ويجوز في همز « يَأْمركم » إبدالُه ألفاً وهذا مطَّرِدٌ . و « يَأْمركم » هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ ، وإنَّ وما في حَيِّزها في مَحلِّ نصب مفعولاً بالقول ، والقولُ وما في حَيِّزِه في محلِّ جرٍّ بإضافة الظرف إليه ، والظرفُ معمولٌ لفعل محذوفٍ أي : اذكُرْ .
قوله : { أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } « أَنْ » وما في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ ليَأْمركم ، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصباً وإن يكونَ جرَّاً حَسْبَما مضى من ذِكْرِ الخلافِ ، لأنَّ الأصلَ على إسقاطِ حرفِ الجرّ أي : بأَنْ تَذْبَحوا ، ويجوزُ أن يُوافِقَ الخليلُ هنا على أَنَّ موضِعَها نَصبٌ لأنَّ هذا الفعلَ يجوز حذفُ الباءِ معه ، ولو لم تكنِ الباءُ في « أَنْ » نحو : أمرتُكَ الخيرَ .
والبقرةُ واحدة البَقَر ، تقعُ على الذكَرِ والأنثى نحو حَمامة ، والصفةُ تُمَيِّزُ الذكر من الأنثى ، تقول : بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى ، وقيل : بقرةٌ اسمٌ للأنثى خاصةً من هذا الجِنس مقابلةً لثور ، نحو : ناقةٌ وجَمَل ، وأَتان وحمار ، وسُمِّي هذا الجنسُ بذلك لأنه يَبْقُر الأرض أي يَِشُقُّها بالحرث ، ومنه : بَقَر بطنَه ، والباقر أبو جعفر لشَقِّه العلمَ ، والجمع : بَقَر وباقِر وبَيْقُور وبَقِيرِ .
قوله : { هُزُواً } مفعول ثان ل « { أَتَتَّخِذُنَا } . وفي وقوعِ » هُزُوا « مفعولاً ثانياً ثلاثةُ أقوالٍ . أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ أي ذوي هُزْء . الثاني : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي مَهْزُوءاً بنا . الثالث : أنهم جُعِلوا نفس الهُزْءِ مبالغةً . وهذا أولى ، وقال الزمخشري وبدأ به : » أَتَجْعَلُنا مكانَ هُزْءٍ « وهو قريبٌ من هذا .
وفي { هُزُواً } قراءاتٌ سِتٌّ ، المشهورُ منها ثلاثٌ : هُزُؤاً بضمتين مع الهمز ، وهُزْءاً بسكونِ العين/ مع الهمز وَصْلاً وهي قراءة حمزة رحمه الله ، فإذا وَقَفَ أبدلَها واواً ، وليس قياسَ تخفيفها ، وإنما قياسُه إلقاءُ حركتِها على الساكنِ قبلَها . وإنما اتَّبع رسمَ المصحف فإنها رُسِمَتْ فيه واواً ، ولذلك لم يُبْدلها في » جزءاً « واواً وقفاً ، لأنها لم تُرْسَمْ فيه واواً كما سيأتي عن قريب ، وقراءتُه أصلُها الضمُّ كقراءةِ الجماعةِ إلا أنه خُفِّفَ كقولِهم في عُنُق : عُنْق . وقيل : بل هي أصلٌ بنفسِها ، ليست مخففةً من ضم ، حَكَى مكي عن الأخفش عن عيسى بن عمر : » كلُّ اسمٍ ثلاثي أولُه مضمومٌ يجوزُ فيه لغتان : التثقيل والتخفيفُ « .

و « هُزُواً » بضمتين مع الواوِ وَصْلاً وَوَقْفاً وهي قراءةُ حَفْص عن عاصم ، كأنه أَبْدَلَ الهمزةَ واواً تخفيفاً ، وهو قياسٌ مطَّرد في كلِّ همزة مفتوحةٍ مضمومٍ ما قبلَها نحو جُوَن في جُؤَن ، و { السفهآء ولا إِنَّهُمْ } [ البقرة : 13 ] وحكمُ « كُفُواً » في قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] حكمُ « هُزُواً » في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً . و « هُزَاً » بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها وهو أيضاً قياسٌ مطرد ، وهُزْواً بسكون العين مع الواو ، وهُزَّاً بتشديد الزاي من غيرِ همزةٍ ، ويروى عن أبي جعفر ، وتقدَّم معنى الهُزْء أول السورة .
قوله : { أَعُوذُ بالله } تقدَّم إعرابُه في الاستعاذَةِ ، وهذا جوابٌ لاستفهامِهم في المعنى كأنه قال : لا أَهْزَأُ مستعيذاً باللهِ من ذلك فإنَّ الهازِئَ جاهِلٌ . وقوله { أَنْ أَكُونَ } أي : مِن أَنْ أكونَ ، فيجيءُ فيه الخلافُ المعروف . و « مِن الجاهلين » خبرُها ، وهو أَبْلَغُ من قولِك : « أن أكونَ جاهِلاً ، فإنَّ المعنى : أن أنتظمَ في سلكِ قَوْمٍ اتَّصفوا بالجهل .

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

قوله تعالى : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا } . . كقوله : { فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [ البقرة : 61 ] وقد تقدَّم . قوله : « ما هي »؟ ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ تقديرُه : أيُّ شيءٍ هي ، و « ما » الاستفهاميةُ يُطْلَبُ بها شَرْحُ الاسم تارةً نحو : « ما العنقاءُ؟ [ و ] ماهيَّةُ المُسَمَّى أخرى نحو : ما الحركةُ . وقال السكاكي : » يَسْأَلُ ب « ما » عن الجنسِ ، تقولُ : ما عندك؟ أي : أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك ، وجوابُه : كتابٌ ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيدٌ؟ وجوابه : كريمٌ « وهذا هو المرادُ في الآية . و » هي « ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ في محلِّ رفع خبراً ل » ما « ، والجملةُ في محلِّ نصب بيبيِّن ، لأنه مُعَلَّقٌ عن الجملةِ بعده ، وجاز ذلك لأنَّه شبيهٌ بأفعالِ القلوبِ .
قوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } لا نافيةٌ ، و » فارضٌ « صفةٌ لبقرة ، واعترض ب » لا « بين الصفةِ والموصوفِ ، نحوٍ : مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : لا هي فارضٌ . وقولُه : { وَلاَ بِكْرٌ } مثلُ ما تقدَّم ، وتكرَّرت » لا « لأنها متى وقعت قبل خبرٍ أو نعتٍ أو حالٍ وَجَب تكريرُها ، تقول : زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ ، ومررت به لا ضاحكاً ولا باكياً ، ولا يجوز عدمُ التكرارِ إلا في ضرورةٍ خلافاً للمبرد وابن كيسان ، فمن ذلك :
529 وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
وقولُه :
530 قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ ... ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ والمَكْرِ
فلم يكرِّرها في الخبر ولا في الحالِ .
والفارضُ : المُسِنَّةُ الهَرِمة ، قال الزمخشري : » كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها فَرَضَتْ سِنَّها ، أي قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخرَها « قال الشاعر :
531 لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً ... تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ
ويقال لكلِّ ما قَدُم : فارضٌ ، قال :
532 شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ ... محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ
أي : كبارٌ قدماء ، وقال آخر :
533 يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ ... له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
وقال الراغب : » سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ ، والفَرْضُ في الأصل : القَطْع وقيل : لأنها تحملُ الأحمَالَ الشاقةَ . وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّة ، قال : فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً « ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ بالفتح فُروضاً ، وقيل : فَرُضَتْ بالضمِّ أيضاً . والبِكْرُ ما لم تَحْمِل ، وقيل : مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً ، قال :
534 يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ ... أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ
والبِكْرُ من الحيوان : مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل ، والبَكْر بالفتح : الفَتِيُّ من الإِبل ، والبَكارة بالفتح : المصدر .
قوله : { عَوَانٌ } صفةٌ لبقرة ، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : هي عوانٌ ، كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } والعَوانُ ، النَّصَفُ ، وهو التوسُّطُ بين الشيئينِ ، وذلك أقوى ما يكونُ وأحسنُه ، قال :

535 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نواعِمُ بين أبكارٍ وعُونِ
وقيل : هي التي وَلَدَت مرةً بعد أخرى ، ومنه الحَرْبُ العَوانُ ، أي : التي جاءت بعدَ حربٍ أخرى ، قال زهير :
536 إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
والعُون بسكونِ الواو : الجمعُ ، وقد تُضَمُّ ضرورةً كقوله :
537 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . في الأكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ
بضمِّ الواو . ونظيرُه في الصحيح : قَذَال وقُذُل ، وحِمار وحُمُر .
قوله : { بَيْنَ ذلك } صِفةٌ لعَوان ، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائنٌ بين ذلك ، و « بين » إنما تُضاف لشيئين فصاعداً ، وجاز أن تضافَ هنا إلى مفرد ، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع ، كقوله :
538 إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك [ وَجْهٌ وقَبَلْ ]
كأنه قيل : بين ما ذُكِر من الفارضِ والبِكْر . قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف جازَ أن يُشارَ به إلى مؤنَّثَيْن وإنما هو لإِشارةِ المذكر؟ قلت : لأنه في تأويلِ ما ذُكر وما تقدَّم » ، وقال : « وقد يَجْري الضمير مَجْرى اسم الإِشارةِ في هذا/ قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :
539 فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
إن أردْتَ الخطوطَ فقل : كأنها ، وإن أردْتَ السوادَ والبَلَق فقل : كأنهما ، فقال : أردْتُ : كأنَّ ذاكَ . وَيْلَك » . والذي حَسَّنَ منه أنَّ أسماءَ الإِشارةِ تَثْنِيتُها وجَمْعُها وتأنيثُها ليسَتْ على الحقيقة ، وكذلك الموصولاتُ ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع .
قوله : { مَا تُؤْمَرونَ } « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ تقديره : تُؤْمَرون بِه ، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ . وليس هو نظيرَ { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ ، ويضعُف أن تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً . قال أبو البقاء : « لأنَّ المعنى على العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ » ، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي : أَمَرَكم بمعنى مأمورَكم ، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير ، قاله الزمخشري . و « تُؤْمَرون » مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لوقوعِها صلةً .

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

قوله تعالى : { مَا لَوْنُهَا } : كقولِه « هي »؟ وقال أبو البقاء : « ولو قُرئ » لونَها « بالنصب لكان له وجهٌ ، وهو أن تكونَ » ما « زائدة كهي في قوله : { أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ } [ القصص : 28 ] ويكون التقديرُ : يبين لنا لونَها ، وأمَّا » ما هي « فابتداءٌ وخبرٌ لا غيرُ إذ لا يُمْكِنُ جَعْلُ » ما « زائدةً لأنَّ » هي « لا يَصِحُّ أن تكونَ مفعولَ يبيِّن » يعني أنها بصيغةِ الرفع ، وهذا ليس من مواضعِ زيادةِ « ما » فلا حاجةَ إلى هذا . واللونُ عبارةٌ عن الحمرةِ والسوادِ ونحوِهما . واللونُ أيضاً النوعُ وهو الدَّقَل نوعٌ من النحل ، قال الأخفش : « هو جَماعةٌ واحدها : لِينة » وسيأتي . وفلان يَتَلَوَّن أي : لا يثبُتُ على حالٍ ، قال الشاعر :
540 كلَّ يومٍ تتلوَّنْ ... غيرُ هذا بك أَجْمَلْ
قوله : { صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } بجوز أن يكونَ « فاقعٌ » صفةً و « لونُها » فاعلٌ به ، وأن يكونَ خبراً مقدماً ، و « لونُها » مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ ، ذكرها أبو البقاء . وفي الوجهِ الأول نظرٌ ، وذلك أن بعضَهم نقلَ أن هذه التوابعَ للألوانِ لا تعملُ عَمَلَ الأفعال . فإنْ قيل : يكونُ العملُ لصفراء لا لفاقع كما تقول : مررتُ برجلٍ أبيضَ ناصعٍ لونُه ، فلونُه مرفوعٌ بأبيض لا بناصع ، فالجوابُ : أنَّ ذلك ههنا ممنوعٌ من جهةٍ أخرى ، وهو أنَّ صفراء مؤنثٌ اللفظِ ، ولو كانَ رافعاً ل « لونُها » لقيل : أصفرُ لونُها ، كما تقول : مررت بامرأةٍ أصفرَ لونُها ، ولا يجوز : صفراءَ لونُها ، لأنَّ الصفةَ كالفِعْل ، إلا أن يُقال : إنه لمَّا أُضيف إلى مؤنثٍ اكتسَب منه التأنيثَ فعُومِل معاملتَه كما سيأتي ذِكْرُه . ويجوز أن يكونَ « لونُها » مبتدأً ، و « تَسُرُّ » خبرَه ، وإنما أَنَّث الفعلَ لاكتسابِه بالإِضافةِ معنى التأنيث : كقوله :
541 مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ ... أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ
وقول الآخر :
542 وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَه ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
أنَّث فعلَ المَرِّ والصدرِ لَمَّا أُضيفا لمؤنثٍ ، وقُرئ { تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] وقيل : لأنَّ المرادَ باللونِ هنا الصفرةُ ، وهي مؤنثةٌ فَحُمِل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفرُ فاقعٌ ، وأبيضُ ناصعٌ وَيَقِقٌ ولَهِقٌ ، ولِهاقٌ وأخضرُ ناصعٌ ، وأحمرُ قانئٌ وأسودُ حالِكٌ وحائِك وحَلَكُوك وحُلْكُوك ودَجُوجيّ وغِرْبيب وبهيم ، وقيل : « البهيم الخالصُ من كل لون » . وبهذا يَظْهر أن صفراء على بابها من اللون المعروفِ لا سوداء كما قاله بعضهم ، فإنَّ المفقوعَ من صفةِ الأصفرِ خاصةً ، وأيضاً فإنه مجازٌ بعيدٌ ، ولا يُسْتَعمل ذلك إلا في الإِبِلِ لقُرْب سوادها من الصفرةِ كقوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] . وقال :
543 تلك خَيْلِيْ منه وتلكَ رِكابي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزَّبيبِ
قوله : { تَسُرُّ الناظرين } جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً ل « بقرة » أيضاً ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ خبراً عن « لونها » بالتأويلين المذكورين . والسرورُ لَذَّةٌ في القلب عند حصولِ نَفْعِ أو توقُّعِه ، ومنه « السريرُ » الذي يُجْلَسُ عليه إذا كان لأولي النِّعمةِ ، وسريرُ الميِّت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك .

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

قوله تعالى : { مَا هِيَ } ؟ . . مرةً ثانيةً ، تكريرٌ للسؤال عن حالِها وصفتِها واستكشافٌ زائدٌ ليزدادوا بياناً لوَصْفِها .
قوله : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } « البقر » اسمُ إنَّ وهو اسمُ جنسٍ كما تقدَّم . وقرئ « الباقِرُ » وهو بمعناه كما تقدم . و « تَشَابه » جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ ، وقرئ : « تَشَّابَهُ » مشدَّداً ومخففاً وهو مضارعٌ ، فالأصلُ : تَتَشابهُ بتاءين ، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى ، وكِلا الوجهين مقيس . وقُرئ أيضاً : يَشَّابَهُ بالياء من تحت وأصله يتشابه فَأُدغم أيضاً ، وتذكيرُ الفعل وتأنيثُه جائزان لأن فاعلَه اسمُ جنس وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال تعالى : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحافة : 7 ] فَأَنَّث ، و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكَّر ، ولهذا موضعٌ نستقصي منه ، يأتي إن شاء الله تعالى . وتَتَشَابَهُ بتاءين على الأصل ، وتَشَّبَّهُ بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصلُ : تَتَشَبَّهُ . وتَشَّابَهَتْ ، ومُتَشَابِهَة ، ومُتَشَابِه ، ومُتَشَبِّه على اسم الفاعل من تشابه وتَشَبَّه ، وقُرئ : تَشَبَّهَ ماضياً . وفي مصحف أُبَيّ : « تَشَّابَهَتْ » بتشديد الشين . قال أبو حاتم : « هو غلط لأن التاءَ في هذا الباب لا تُدْغَمُ إلا في المضارعِ » ، وهو معذورٌ في ذلك . وقرئ : تَشَّابَهَ كذلك إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهُها على إشكالها أن يكونَ الأصل : إن البقرة تشابَهَتْ فالتاء الأولى من البقرة والتاء الثانية من الفعل ، فلمَّا اجتمع متقاربان أَدْغَم نحو : الشجرةُ . . . إلا أنه يُشْكِل أيضاً في تَشَّابه من غير تاء ، لأنه كان يَجبُ ثبوتُ/ علامةِ التأنيثِ ، وجوابُه أنه مثلُ :
544 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
مع أن ابنَ كَيْسان لا يلتزم ذلك في السَّعَة .
قوله : { إِن شَآءَ الله } هذا شرطٌ جوابُه محذوفٌ لدلالةِ إنْ وما في حَيِّزها عليه ، والتقدير : إن شاء اللهُ هدايتَنا للبقرة اهتدَيْنا ، ولكنهم أَخرجُوه في جملةٍ اسميةٍ مؤكَّدة بحرفَيْ تأكيدٍ مبالغةً في طَلَب الهداية ، واعترضوا بالشرطِ تيمُّناً بمشيئةِ الله تعالى . و « لمهتدونَ » اللامُ لامُ الابتداءِ داخلةٌ على خبرِ « إنَّ » ، وقال أبو البقاء : « جوابُ الشرط إنَّ وما عملت فيه عند سيبويه ، وجاز ذلك لمَّا كان الشرطُ متوسطاً ، وخبرُ إنَّ هو جوابُ الشرط في المعنى ، وقد وقع بعدَه ، فصار التقديرُ : إنْ شاء اللهُ اهتدينا . وهذا الذي قاله لا يَجُوز ، فإنه متى وقعَ جواب الشرطِ ما لا يَصْلُح أنْ يكونَ شرطاً وجَبَ اقترانُه بالفاء ، وهذه الجملةُ لا تَصْلح أن تقعَ شرطاً ، فلو كانَتْ جواباً لَزِمَتْها الفاءُ ، ولا تُحْذَفُ إلا ضرورةً ، ولا جائزٌ أنْ يريدَ أبو البقاء أنه دالٌّ على الجواب وسَمَّاه جواباً مجازاً ، لأنه جَعَلَ ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه ، فقال : » وقالَ المبرد : الجوابُ محذوفٌ دَلَّتْ عليه الجملةُ ، لأنَّ الشرط معترضٌ فالنيةُ به التأخيرُ ، فيصيرُ كقولِك : « أنت ظالم إنْ فَعَلْتَ » وهذا الذي نقلَه عن المبرد هو المنقولُ عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نُقِل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوزُ تقديمُ جوابِ الشرطِ عليه ، وقد ردَّ عليهم البصريون بقول العرب : « أنتَ ظالمٌ إنْ فعلْتَ » إذ لو كانَ جواباً لوَجَبَ اقترانُه بالفاءِ لِما ذكرْتُ لك . وأصلُ « مُهْتَدُون » مُهْتَدِيُون ، فأُعِلَّ بالحَذْفِ ، وهو واضحٌ مما تقدَّم .

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

قوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } : المشهورُ « ذلولٌ » بالرفع على أنها صفةٌ لبقرة ، وتوسَّطت « لا » للنفي كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } ، أو على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : لا هي ذلولٌ . والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعٍ صفةً لبقرة . وقرئ : « لا ذَلولَ » بفتح اللام على أنها « لا » التي للتبرئة والخبرُ محذوف ، تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ ، أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءةِ ، ولذلك قال الأخفشُ : « لا ذلولٌ نعت ولا يجوز نصبُه » . والذَّلولُ : التي ذُلِّلَتْ بالعمل ، يقال : بَقَرةٌ ذَلول بَيَِّنَةُ الذِّل بكسر الذال ، ورجلٌ ذَليل بيِّنُ الذُّل بضمها ، وقد تقدَّم عند قوله : { الذلة } [ البقرة : 61 ] .
قوله : { تُثِيرُ الأرض } في هذه الجملةِ أقوالٌ كثيرٌ ، أظهرهُا أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في « ذلول » تقديرُه : لا تُذَلُّ حالَ إثارتِها [ الأرضَ ] . وقال ابن عطية : « وهي عند قومٍ جملةً في موضعِ الصفةِ لبقرة ، [ أي ] : لا ذلولٌ مثيرةٌ ، وقالَ أيضاً : ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في موضعِ الحالِ لأنها من نكرةٍ » ، أمَّا قولُه : « في موضع الصفةِ » فإنه يلزم منه أنَّ البقرةَ كانت مثيرةً للأرض ، وهذا لم يَقُلْ به الجمهور ، بل قال به بعضُهم ، وسيأتي بيانُه قريباً . وأمَّا قولُه : « لا يجوز أن تكونَ حالاً يعني من » بقرة « لأنها نكرةٌ . فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم أنها حالٌ من بقرة ، بل من الضميرِ في » ذلولٌ « كما تقدَّم شرحه ، أو نقولُ : بل هي حالٌ من النكرة قد وُصِفَتْ وتخصَّصَتْ بقوله { لاَّ ذَلُولٌ } وإذا وُصِفَت النكرةُ ساغَ إتيانُ الحالِ منها اتفاقاً . وقيل : إنها مستأنفةً ، واستئنافُها على وجهين ، أحدُهما : أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي : هي تثير ، والثاني : أنها مستأنفةٌ بنفسِها من غير تقديرِ مبتدأ ، بل تكونُ جملةً فعليةً ابتُدئ بها لمجرد الإِخبار بذلك .
وقد مَنَعَ من القول باستئنافها جماعةٌ ، منهم الأخفش علي بن سليمان ، وعلَّل ذلك بوجهين ، أحدُهما : أنَّ بعدَه : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } فلو كان مستأنفاً لما صَحَّ دخولُ » لا « بينه وبين الواوِ . الثاني : أنها لو كانت تثير الأرضَ لكانَتِ الإِثارةُ قد ذَلَّلَتْها ، واللهُ تعالى نفى عنها ذلك بقولِه : لا ذلولٌ . انتهى . وهذا المعنى هو الذي منعتُ به أن يكون » تثيرُ « صفةً لبقرة لأن اللازمَ مشتركٌ ، ولذلك قال أبو البقاء : » ويجوزُ على قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ هذا الوجهَ يعني كونها تثيرُ ولا تَسْقي أن تكونَ تُثير في موضعِ رفعٍ صفةً لبقرة « . وقد أجابَ بعضُهم عن الوجه الثاني بأن إثارةَ الأرض عبارةٌ عن مَرَحِها ونشاطِها كما قال امرؤ القيس :

545 يُهيلُ ويُذْري تُرْبَهُ ويُثيرُه ... إثارةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ
أي : تثيرُ الأرضَ مَرَحاً ونشاطاً لا حَرْثاً وعَمَلاً ، وقال أبو البقاء : « وقيل هو مستأنفٌ ، ثم قال : » وهو بعيدٌ عن الصحة ، لوجهينِ ، أحدُهما : أنه عَطَفَ عليه قوله : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } فنفى المعطوفَ ، فيجب أن يكونَ المعطوفُ عليه كذلك لأنه في المعنى واحدٌ ، ألا ترى أنك لا تقول : مررتُ برجلٍ قائمٍ ولا قاعدٍ ، بل تقول : لا قاعدٍ بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هنا ، وذَكر الوجه الثاني كما تقدَّم ، وأجاز أيضاً أن يكون « تُثير » في محلِّ رفعٍ صفةً لذَلول وقد تقدَّم لك خلافٌ : هل يُوصف الوصفُ أو لا؟ فهذه ستةُ أوجهٍ ، تلخيصها : أنها حالٌ من الضميرِ في « ذَلولٌ » أو من « بقرة » أو صفةٌ لبقرة أو لذلولٌ أو مستأنفةٌ بإِضمارِ مبتدأ أو دونَه .
قوله : { وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } الكلام في هذه كما تقدم فيما قبلها من كونِها صفةً لبقرة أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ . وقال الزمخشري : ولا الأولى للنفي يعني الداخلةَ على « ذلولٌ » والثانيةُ مزيدة/ لتوكيدِ الأولى ، لأن المعنى : لا ذلولٌ تثيرُ وتَسْقي ، على أن الفعلينِ صفتانِ لذَلول ، كأنه قيل : لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ « .
وقُرئ » تُسْقي « بضم التاء من أَسْقى . وإثارةُ الأرضِ تحريكُها وبَحْثُها ، ومنه { وَأَثَارُواْ الأرض } [ الروم : 9 ] أي : بالحرثِ والزراعةِ ، وفي الحديث : » أثيروا القرآن ، فإنه عِلْمُ الأولين والآخرِين « ، وفي روايةٍ ، » مَنْ أرادَ العِلمَ فَلْيُثَوِّرِ القرآن « ومُسَلَّمةٌ من سَلِمَ له كذا أي : خَلُص . و » شية « مصدرٌ وَشَيْتُ الثوبَ أَشِيْهُ وَشْياً وشِيَةً ، فحُذفت فاؤها لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ في المضارع ، ثم حُمِلَ باقي البابِ عليه ، ووزنُها : عِلة ، ومثلُها : صِلة وعِدة وزِنة ، وهي عبارةٌ عن اللمعةِ المخالفةِ للَّوْنِ ، ومنه ثَوْبٌ مَوْشِيٌّ أي منسوجٌ بلونينِ فأكثرَ ، وثور مَوْشِيُّ القوائم أي : أَبْلَقُها قال الشاعر :
546 من وحشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكارِعُه ... طاوِي المصيرِ كسَيْفِ الصيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه : » الواشي « للنمَّام ، لأنه يَشي حديثَه أي : يُزَيِّنُه ويَخْلِطُه بالكذب ، وقال بعضهم : ولا يقال له واشٍ حتى يُغَيِّرَ كلامَه ويُزَيِّنَه . ويقال : ثورٌ أَشْيَهُُ ، وفرس أَبْلَقُ وكبشٌ أَخْرَجُ وتيسٌ أَبْرَقُ وغرابٌ أَبْقَعُ ، كلُّ ذلك بمعنى البُلْقَةِ ، و » شِيَةَ « اسم لا ، و » فيها « خبرها .
قوله : { الآن جِئْتَ } » الآن « منصوبٌ بجِئْتَ ، وهو ظرفُ زمانٍ يقتضي الحالَ ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين ، وقال بعضُهم : هذا هو الغالبُ وقد جاء حيثُ لا يُمْكِنُ أن يكونَ للحالِ كقولِه : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9 ] { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] فلو كان يقتضي الحالَ لَما جاء مع فعل الشرط والأمرِ اللذين هما نصٌّ في الاستقبالِ ، وعَبَّر عنه هذا القائلُ بعبارةٍ توافقُ مذهبَه وهي : » الآن « لوقتٍ حُصِر جميعُه أو بعضُه » يريد بقولِه : « أو بعضُه » نحوَ : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ } وهو مبنيٌّ .

واختُلِفَ في علَّة بِنائِه ، فقال الزجاج : « لأنَّه تضمَّن معنى الإِشارة ، لأنَّ معنى أفعلُ الآن أي : هذا الوقتَ » . وقيل : لأنه أَشْبَهَ الحرفَ في لزومِ لفظٍ واحدٍ ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ . وقيل : لأنَّ تضمَّن معنى حرفِ التعريفِ وهو الألفُ واللامُ كأمسِ ، وهذه الألفُ واللامُ زائدةٌ فيه بدليلِ بنائِه ولم يُعْهَدْ معرَّفٌ بأل إلاَّ مُعْرباً ، ولَزِمَت فيه الألفُ واللامُ كما لَزِمَت في الذي والتي وبابهما ، ويُعْزى هذا للفارسي . وهو مردودٌ بأنَّ التضمينَ اختصار ، فكيف يُخْتصر الشيءَ ، ثم يُؤْثى بمثلِ لفظِه . وهو لازمٌ للظرفيَّة ولا يَتَصَرَّفُ غالباً ، وقد وَقَع مبتدأ في قوله عليه السلام : « فهو يَهْوى في قَعْرِها الآنَ حينَ انتهى » فالآن مبتدأ وبني على الفتح لِما تقدَّم ، و « حين » خبره ، بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ ، ومجروراً في قوله :
547 أإلى الآن لا يَبِينُ ارْعِواءُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وادَّعى بعضُهم إعرابَه مستدلاًّ بقوله :
548 كأنَّهما مِلآْنِ لم يتَغَيَّرا ... وقد مَرَّ للدارَيْنِ من بعدنا عَصْرُ
يريد : « من الآن » فجَرَّه بالكسرة ، وهذا يَحْتمل أن يكونَ بُني على الكسر . وزعم الفراء أنه منقولٌ من فعلٍ ماضٍ ، وأن أصلَه آنَ بمعنى حانَ فَدَخَلَتْ عليه أل زائدةً واسْتُصْحِبَ بناؤُه على الفتح ، وجَعَله مثلَ قولهم : « ما رأيته مذ شَبَّ إلى دَبَّ » وقولِه عليه السلام : « وأَنْهاكم عن قيلَ وقال » ، ورُدَّ عليه بأنَّ أل لا تدخُل على المنقولِ من فعلٍ ماضٍ ، وبأنه كان ينبغي أن يجوزَ إعرابُه كنظائرِه ، وعنه قولٌ آخر أنَّ أصلَه « أوان » فحُذِفَتِ الألفُ ثم قًُلبت الواو ألفاً ، فعلى هذا ألفُه عن واو ، وقد أدخله الراغبُ في باب « أين » فتكون ألفُه عن ياء ، [ والصواب الأول ] .
وقُرئ « قالوا الآن » بتحقيق [ الهمزةِ ] من غير نَقْل ، وهي قراءةُ الجمهورِِ ، و « قالُ لان » بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحَذْفِ الهمزة ، وهو قياسٌ مطَّرد ، وبه قرأ نافع وحمزة باختلافٍ عنه ، و « قالو لاَن » بثبوتِ الواوِ مِنْ قالوا لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وقد تحرَّكَتِ اللامُ لنقلِ حركةِ الهمزةِ إليها ، واعتدُّوا بذلك كما قالوا في الأحمر : « لَحْمَر » . وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء اللهُ تعالى في { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ، وحُكي وجه رابع : « قالوا ألآن » بقطعِ همزةِ الوصلِ وهو بعيدٌ .
قوله : « بالحقِّ » يجوزُ فيه وجهانِ ، أحدُهما أن تكونَ باءَ التعدية كالهمزة كأنه قيل : أَجَأْتَ الحقَّ أي : ذَكَرْتَه . الثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ « جِئْتَ » أي : جِئْتَ ملتبساً بالحقِّ أو ومعك الحقُّ .
قوله { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } كادَ واسمُها وخبرُها ، والكثيرُ في خبرها تَجَرُّدُه من أَنْ ، وشَذَّ قولُه :
549 قد كادَ من طولِ البِلى أَنْ يَمْحَصا ... عكسَ عسى ، ومعناها مقاربةُ الفعلِ ، وقد تقدَّم جملةٌ صالحةٌ من أحكامِها ، وكونُ نفيها إثباتاً وأثباتِها نفياً ، والجوابُ عن ذلك عند قوله : { يَكَادُ البرق } [ البقرة : 20 ] فَلْيُلْتَفتْ إليه .

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

قوله تعالى : { فادارأتم فِيهَا } : فعلٌ وفاعلٌ ، والفاءُ للسببية ، لأنَّ التدارُؤَ كان مُسَبَّباً عن القتلِ ، ونسبَ القتلَ إلى الجميعِ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ أو اثنين كما قيل ، لأنه وُجِدَ فيهم ، وهو مجازٌ شائعٌ . وأصل ادَّارأتم : تَدارَأْتُم تفاعَلْتم من الدَّرْءِ وهو الدفعُ ، فاجتمعَتِ التاءُ مع الدال وهي مقارِبتُها فأريدَ الإِدغامُ فَقُلبت التاءُ دالاً وسُكِّنتْ لأجلِ الإِدغامِ ، ولا يمكنُ الابتداءُ بساكنٍ فاجتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ليُبتدأ بها فبقي ادَّارأتم ، والأصل : « ادْدَارَأْتم » فأدغم ، وهذا مطردٌ في كلِّ فعل على تَفَاعَل أو تفعَّل فاؤُه دالٌ نحو : « تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّن وادَّيَّن ، أو ظاء أو طاء أو ضاد أو صادٌ نحو : تَطَاير واطَّاير ، وتَطّيَّر واطَّيَّر ، وتَظَاهَرَ واظَّاهر ، وتَطَهَّر واطَّهَّر ، والمصدرُ على التفاعُلِ أو التفعُّل نحو : تدارؤ وتطهُّر نظراً إلى الأصلِ ، وهذا أصل نافعٌ في جميعِ الأبوابِ فليُتأمَّلْ .
قوله : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } » الله « رفعٌ بالابتداء و » مُخْرجٌ « خبرُه ، وما موصولةٌ منصوبةٌ المحلِّ باسمِ الفاعلِ ، فإنْ قيل : اسمُ الفاعلِ لا يَعْمَل بمعنى الماضي إلا مُحَلَّى بالألف واللام . فالجواب/ أنَّ هذه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ ، واسمُ الفاعل فيها غير ماضٍ ، وهذا كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] ، والكسائي يُعْمِلُه مطلقاً ويستدلُّ بهذا ونحوهِ . و » ما « يجوز أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ، فلا بد من عائدٍ ، تقديره : مُخْرِجُ الذي كنتم تكتمونَه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعول به أي مُخْرِجٌ مكتومَكم ، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لأنها معترضةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه ، وهما : » فادَّارَأْتم « » فقلنا اضرِبوه « قاله الزمخشري . والضميرُ في » اضربوه « يعودُ على النفس لتأويلِها بمعنى الشخص والإِنسان ، أو على القتيلِ المدلولِ عليه بقوله : والله مُخْرِجٌ ما كنتم تكتمون » . والجملةُ من « اضربوه » محلِّ نصبٍ بالقولِ .

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله } : « كذلك » في محلِّ نصب لأنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف تقديرُه : يُحْيي الله الموتى إحياءً مثلَ ذلك الإِحياءِ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي إحياءً كائناً كذلك الإِحياءِ ، أو لأنه حالٌ من المصدرِ المعرَّفِ ، أي : ويريكم الإِراءةَ حالَ كونِها مُشْبِهةً ذلك الإِحياءَ ، وقد تقدَّم أنه مذهبُ سيبويه ، والموتى جمع « مَيِّت » وقد تقدَّم .
قوله : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الرؤيةُ هنا بَصَريَّةٌ فالهمزةُ للتعديةِ أَكْسَبَتِ الفعلَ مفعولاً ثانياً ، وهو « آياتِه ، والمعنى : يَجْعلكم مُبْصِرينَ آياتِه . و » كم « هو المفعولُ الأولُ ، وأصلُ يُريكم : يُأَرْإيكم ، فَحُذِفَت همزةَ أَفْعل في المضارعةِ لِما تقدَّم في » يُؤْمنون « وبابه ، فبقي يُرئيكم ، فَنُقِلت حركةُ الهمزة على الراءِ ، وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، وهو نقل لازمٌ في مادةِ » رأى « وبابِه دون غيره ممَّا عينُه همزةٌ نحو : نَأَى يَنْأَى ، ولا يجوز عدمُ النقلِ في رأى وبابِه إلا ضرورةً كقوله :
550 أُري عَيْنَيَّ ما لم تَرْأَياهُ ... كِلانا عالمٌ بالتُّرَّهاتِ

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

قوله تعالى : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } : « أو » هذه ك « أو » في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فكلُّ ما قيلَ فيه ثَمَّةَ يمكنُ القولُ به هنا ، ولمَّا قال أبو الأسود :
551 أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً ... وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا
اعترضوا عليه في قوله « أو » التي تقتضي الشكَّ ، وقالوا له : أَشَكَكْتَ؟ فقال : كَلاَّ ، واستدلَّ بقولِه تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ } [ سبأ : 24 ] وقال : أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا؟ وإنما قَصَد رحمه الله الإِبهامَ على المخاطب . و « أشدُّ » مرفوعٌ لعطفِه على محلِّ « كالحجارة » أي : فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ . والكافُ يجوزُ أن تكونَ حرفاً فتتعلَّقَ بمحذوفٍ وأن تكونَ اسماً فلا تتعلَّقَ بشيء ، ويجوز أن تكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : أو هي أشدُّ . و « قسوة » نصبٌ على التمييزِ؛ لأنَّ الإِبهامَ حَصَلَ في نسبةِ التفضيلِ إليها ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي : أشدُّ قسوةً من الحجارةِ .
وقُرئ « أشدَّ » بالفتح ، ووجهُها أنه عَطَفَها على « الحجارة » أي : فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها . قال الزمخشري مُوَجِّهاً للرفعِ : « وأشدُّ معطوفٌ على الكاف : إمَّا على معنى : أو مثلُ أشدَّ فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وتَعْضُده قراءة الأعمش بنصبِ الدال عطفاً على الحجارة » . ويجوز على ما قاله أن يكونَ مجروراً بالمضافِ المحذوفِ تُرِكَ على حاله ، كقراءة : { والله يُرِيدُ الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بجرِّ الآخرةِ ، أي : ثوابَ الآخرةِ ، فيحصُلُ من هذا أنَّ فتحةَ الدالِ يُحْتَمَلُ أن تكونَ للنصبِ وأن تكونَ للجرِّ . وقال الزمخشري أيضاً : « فإنْ قلت : لِمَ قيل » أشدُّ قسوةً « وفعلُ القسوةِ ممَّا يخرُج منه أفعلُ التفضيلِ وفعلُ التعجبِ؟ يعني أنه مستكملٌ للشروطِ مِنْ كونِه ثلاثياً تاماً غيرَ لَونٍ ولا عاهةٍ متصرفاً غيرَ ملازمٍ للنفيِ ثم قال : » قلت : لكونِه أَبْيَنَ وأدلَّ على فرطِ القسوةِ ، ووجهٌ آخرُ وهو أنه لا يَقْصِدُ معنى الأقسى ، ولكنه قَصَد وصفَ القسوةِ بالشدة ، كأنه قيل : اشتدَّتْ قسوةُ الحجارةِ وقلوبُهم أشدُّ قسوةً « وهذا كلامٌ حسنٌ جداً ، إلا أنَّ كونَ القسوةِ يجوزُ بناءُ التعجبِ منها فيه نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ ، وكلاهما ممنوعٌ منه بناءُ البابَيْنِ . وقُرئ : قَساوة .
قوله : { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ } اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم » إنَّ « ، لتقدُّمِ الخبرِ وهو { مِنَ الحجارة } ، وهي بمعنى الذي في محلِّ النَّصْبِ ولو لم يتقدَّم الخبرُ لم يَجُزْ دخولُ اللام على الاسم لئلا يتوالَى حرفا تأكيدٍ ، وإنْ كان الأصلُ يقتضي ذلك ، والضميرُ في » منه « يعودُ على » ما « حَمْلاً على اللفظ ، قال أبو البقاء : » ولو كان في غيرِ القرآنِ لجازَ « منها » على المعنى « قلت : هذا الذي قد قرأ به أُبي بن كعب والضحاك .

وقرأ مالك بن دينار : « يَنْفَجِرُ » من الانفجار . وقرأ قتادة : { وَإِنْ مِنَ الحجارة } بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين « إنْ » النافية ، وكذلك { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } وهذه القراءة تحتمل أن تكونَ « ما » فيها في محل رفع وهو المشهورُ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ لأنَّ « إنْ » المخففة سُمع فيها الإِعمالُ والإِهمالُ ، قال تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] في قراءة مَنْ قرأه . وقال في موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] إلاَّ أنَّ المشهورَ الإِهمالُ . و { يَشَّقَّقُ } أصلُه : يَتَشَقَّقُ ، فأُدْغم ، وبالأصلِ قرأ الأعمشُ ، وقرأ طلحة بن مصرف : « لَمَّا » بتشديد الميم في الموضعين ، قال ابن عطية : « وهي قراءة غير متجهة » وقرأ أيضاً : « يَنْشَقُّ » بالنون ، وفاعلُه ضمير « ما » وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ » يَشَّقَّقُ « يجوز أن يُجْعَلَ للماء على المعنى ، فيكونَ معك فعلان ، فيعملُ الثاني منهما في الماء ، وفاعلُ الأولِ مضمرٌ/ على شريطةِ التفسيرِ ، وعند الكوفيين يَعْمَلُ الأولُ فيكون في الثاني ضميرٌ » يعني أنه من باب التنازع ، ولا بد من حَذْفِ عائدٍ من « يَشَّقَّق » على « ما » الموصولة دلَّ عليه قوله « مِنْه » والتقديرُ : وإنَّ من الحجارة لما يَشَّقَّقُ الماءُ منه فيخرجُ الماءُ منه . وقال أيضاً : « ولو قُرئ » تتفجَّر « بالتاءِ جاز » قلتُ : قال أبو حاتم يجوز « لما تتفجَّر » بالتاء لأنه أَنَّثه بتأنيثِ الأنهار ، وهذا لا يكون في تشَّقَّق يعني التأنيث . قال النحاس : « يجوز ما أنكره على المعنى ، لأنَّ المعنى : وإنَّ منها لحجارةً تَتَشَقَّقُ » يعني فيراعي به معنى « ما » فإنَّها واقعةٌ على الحجارة .
قوله : { مِنْ خَشْيَةِ الله } منصوبُ المحلِّ متعلقٌ ب « يَهْبِط » . و « مِنْ » للتعليل ، وقال أبو البقاء : [ « مِنْ » ] في موضع نصب بيهبط ، كما تقول : يهبط بخشيةِ الله ، فجعلَها بمعنى الباء المُعَدِّية ، وهذا فيه نظرٌ لا يَخْفَى . وخشية مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه : مِنْ أن يَخْشَى اللهَ .
وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ ، كقوله :
552 لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
ويجوز أن يكونَ حقيقةً على معنَى أنَّ الله خلقَ فيها قابليةً لذلك . وقيل : الضميرُ في « منها » يعودُ على القلوبِ وفيه بُعْدٌ لتنافُرِ الضمائر .
قوله { وَمَا الله بِغَافِلٍ } قد تقدَّم في قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] فَلْيُلْتَفَتْ إليه .
قوله : { عَمَّا تَعْمَلُونَ } بغافل ، و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، فلا بد من عائدٍ أي : تعملونه ، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه ، أي عن عملِكم ، ويجوز أن يكونَ واقعاً موقعَ المفعولِ به ، ويجوز ألاَّ يكون . وقُرِئ « يعملون » بالياءِ والتاءِ .

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

قوله تعالى : { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } . . ناصبٌ ومنصوبٌ ، وعلامةُ النصبِ حَذْفُ النونِ ، والأصلُ : في أَنْ ، فموضعُها نصبٌ أو جَرٌّ على ما عُرِفَ غيرَ مرةَ ، وعَدَّى « يؤمنوا » باللام لتضمُّنِه معنى أَنْ يُحْدِثوا الإِيمان لأجلِ دعوتِكم ، قاله الزمخشري وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { وَقَدْ كَانَ } الواو للحالِ . قالَ بعضُهم : « وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ موضعَها » إذ « والتقدير : أفتطمَعُون في إيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون لكلام الله تعالى . و » قد « مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً . و » يَسْمَعُون « خبراً كان ، و » منهم « في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ ، أي : فريقٌ كائنٌ منهم . وقال بعضُهم : { يَسْمَعُونَ } في محلِّ رفعٍ صفةً لفريق ، و » منهم « في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وهذا ضعيفٌ . والفريق اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه كرهط وقوم ، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم . وقُرئ { كَلِمَ الله } وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة ، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم ، بأنَّ الكلامَ شرطُه الإِفَادَةُ ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ فصاعداً ، لأنه جَمْعٌ في المعنى ، وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ ، فيكونَ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من وجهٍ ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِهم . وهل الكلامُ مصدرٌ أو اسمُ مصدر؟ خلافٌ . والمادةُ تَدُلُّ على التأثير ، ومنه الكَلْمُ وهو الجرحُ ، والكلامُ يؤثِّر في المخاطب قال :
553 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجُرْحُ اللسانِ كجُرْحِ اليَدِ
ويُطْلَقُ الكلامُ لغةً على الخطِّ والإِشارةِ كقوله :
554 إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ ... رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
وعلى النفساني ، قال الأخطل :
555 إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا
قيل : ولم يُوْجَدْ هذا البيتُ في ديوان الأخطل ، وأمَّا عند النحويين فلا يُطْلَقُ إلا على اللفظِ المركَّب المفيدِ بالوَضْع .
قوله : { مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } متعلِّقٌ ب { يُحَرِّفُونَهُ } . والتحريفُ : الإِمالة والتحويلُ ، و » ثم « للتراخي : إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ ، و » ما « يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أي : ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي فَهِموه وعَرفوه . ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في » عَلَقوه « يعودُ حينئذٍ على الكلامِ ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه . قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملةٌ حاليةٌ ، وفي العاملِ فيها قولان ، أحدهما : { عَقَلُوهُ } ، ولكنْ يلزَمُ منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً ، لأنَّ معناها قد فُهِمَ مِنْ قولِه » عَلَقُوه « والثاني : وهو الظاهرُ ، أنه يُحَرِّفونه ، أي يُحَرِّفونه حَالَ عِلْمِهِم بذلك .

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

قوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ } . . الآية ، قد تقدَّم نظيرُها أولَ السورةِ ، وقد تقدَّم الكلامُ على مفرداتها وإعرابها ، فأغنى ذلك من الإِعادة .
وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وجهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ مستأنفةً كاشفةً عن أحوال اليهودِ والمنافقين . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ معطوفةً على الجملة الحالية قبلها وهي : « وقد كان فريقٌ » والتقدير : كيف تطمعون في إيمانِهم وحالُهم كَيْتَ وكَيْتَ؟ وقرأ ابن السَّمَيْفَع : لاقُوا ، وهو بمعنى لَقوا ، فَاعَل بمعنى فَعِل نحو : سافر وطارَقْتُ النعل .
قوله : { بِمَا فَتَحَ الله } متعلِّقٌ بالتحديث قبلَه ، وما موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي : فَتَحَه الله . وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً أو مصدريةً ، أي : شيءٌ فَتَحه ، فالعائدُ محذوفٌ أيضاً ، أو بفتحِ الله عليكم . وفي جَعْلِها مصدريةً إشكالٌ من حيثُ إن الضميرَ في قولِه بعد ذلك : { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ } عائدٌ على « ما » هذا هو الظاهرُ ، وما المصدريةُ حرفٌ لا يعودِ عليها ضميرٌ على المشهورِ خلافاً للأخفشِ وأبي بكر بن السراج ، إلا أَنْ يُتَكَلَّفَ فيُقال : الضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ من قوله : { أَتُحَدِّثُونَهُم } أو من قوله فَتَح ، أي : لِيحاجُّوكم بالتحديثِ الذي حُدِّثْتُمُوه ، أو بالفتح الذي فَتَحه الله عليكم . والجملةُ من قولِهِ : « أتُحَدِّثونهم في محلِّ نصبٍ بالقَوْل ، والفتحُ هنا معناه الحكمُ والقَضاءُ ، وقيل : الفَتَّاحُ : القاضي بلغةِ اليمن ، وقيل الإِنزالُ . وقيل : الإِعلامُ/ أو التبيينُ بمعنى أنه بَيَّنَ لكم صفة محمدٍ عليه السلام ، أو المَنُّ بمعنى ما مَنَّ عليكم به من نَصْرِكم على عَدُوِّكم ، وكلُّ هذه أقوالٌ مذكورةٌ في التفسيرِ .
قوله : { لِيُحَآجُّوكُم } هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ كي بمعنى أنها للتعليل ، كما أنَّ » كي « كذلك ، لا بمعنى أنها تَنْصِبُ ما بعدَها بإضمار ب » كي « كما سيأتي ، وهي حرفُ جرٍّ ، وإنما دَخَلَتْ على الفعل لأنه منصوبٌ بأَنْ المصدريةِ مقدرةً بعدها ، فهو معها بتأويل المصدرِ أي للمُحاجَّةِ ، فلم تَدْخُلْ إلا على اسم لكنه غيرُ صريح . والنصبُ بأَنْ المضمرةِ كَما تقدَّم لا بكَيْ خلافاً لابن كيسان والسيرافي وإن ظَهَرَتْ بعدها نحو قولِه تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } [ الحديد : 23 ] لأن » أَنْ « هي أُمُّ البابِ ، فادِّعاءُ إضمارِها أَوْلَى مِنْ غيرِها . وقال الكوفيون : » النصبُ باللامِ نفسِها ، وأَنَّ ما يظهر بعدَها من كي وأَنْ إنما هو على سبيلِ التأكيد « ، وللاحتجاجِ موضعٌ غيرُ هذا من كتب النحو . ويجوز إضمارُ أَنْ وإظهارُها بعد هذه اللامِ إلاَّ في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا وقع بعدها » لا « نحو قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 150 ] ، وذلك لِما يَلْزَمُ من توالي لاَميْن فيثقُل اللفظُ . والمشهورُ في لغةِ العربِ كَسْرُ هذه اللامِ لأنها حرفُ جر وفيها لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ وهي الفتح .

وهذه اللامُ متعلقةٌ بقوله : « أَتُحَدِّثُونهم » . وذهب بعضُهم إلى أنَّها متعلقةٌ ب « فَتَحَ » ، وليس بظاهرٍ ، لأنَّ المُحاجَّةِ ليست علة للفتح ، وإنما هي نَشَأَتْ عن التحديث ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ : تَتَعَلَّقُ به على أنها لامُ العاقبة ، وهو قولٌ قيل بهِ فصارَ المعنى أنَّ عاقبةَ الفتحِ ومَآلَة صارَ إلى أَنْ حاجُّوكم ، أو تقول : إنَّ اللام لامُ العِلَّة على بابِها ، وإنَما تَعَلَّقَتْ بفَتْحِ لأنه سببٌ للتحديث ، والسَّبَبُ والمُسَبَّبُ في هذا واحدٌ . قوله : « به » الضميرُ يعودُ على « ما » من قوله : { بِمَا فَتَحَ الله } وقد تقدَّم أنه يضعفُ القولُ بكونِها مصدريةً ، وأنه يجوز أن يعود على أحدِ المصدَرَيْنِ المفهومين من « أَتُحَدِّثُونهم » و « فتح » .
قوله : { عِنْدَ رَبِّكُمْ } ظرفٌ معمولٌ لقولِه : { لِيُحَآجُّوكُم } بمعنى لِيحاجُّوكم يومَ القيامة ، فًَكَنَى عنه بقوله : { عِنْدَ رَبِّكُمْ } ، وقيل : « عندَ » بمعنى في ، أي : ليحاجُّوكم في ربكم ، أي : فيكونون أَحَقَّ به منكم . وقيل : ثَمَّ مضَافٌ محذوفٌ أي : عند ذِكْرِ ربِّكم ، وقيل : هو معمولٌ لقولِه : { بِمَا فَتَحَ الله } أي بما فتح اللهُ مِنْ ربكم ليحاجُّوكم ، وهو نَعْتُه عليه السلام وأَخْذُ ميثاقِهم بتصديقِه . ورجَّحه بعضُهم وقال : « هو الصحيح ، لأنَّ الاحتجاجَ عليهم هو بما كانَ في الدنيا » وفي هذا نظرٌ مِنْ جهةِ الصناعة ، وذلك أنَّ { لِيُحَآجُّوكُم } متعلقٌ بقوله : { أَتُحَدِّثُونَهُم } على الأظهرِ كما تقدَّم فيلزَمُ الفَصْلُ به بين العاملِ وهو فَتَح وبين معمولِه وهو عند ربك وذلك لا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ منهما .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } تقدَّم الكلامُ على نظيرَتِها . وفي هذه الجملةِ قولان : أحدُهما [ أنها ] مندرجَةٌ في حَيِّز القولِ . والثاني أنها من خطابِ الله تعالى للمؤمنين بذلك فَمَحَلُّها النصبُ على الأولِ ولا محلَّ لها على الثاني ، ومفعولُ { تَعْقِلُونَ } يجوزُ أن يكونَ مراداً ويجوزُ ألاَّ يكونَ .

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

قوله تعالى : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله } . . تقدَّم أنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ النيةَ بالواوِ التقديمُ على الهمزةِ لأنَّها عاطفةٌ ، وإنما أُخِّرَتْ عنها لقوةِ همزةِ الاستفهام ، وأنَّ مذهبَ الزمخشري تقديرُ فِعْلٍ بعدَ الهمزةِ ، ولا للنفي . و { أَنَّ الله يَعْلَمُ } يجوزُ أن تكونَ في محلِّ نصبٍ ، وفيها حينئذٍ تقديران ، أحدُهما أنَّها سادَّةٌ مسَدَّ مفردٍ إن جَعَلْنَا عَلِمَ بمعنى عَرَف ، والثاني : أنها سادةٌ مَسَدَّ مفعولَيْن إنْ جَعَلْنَاها متعديةً لاثنين كظنَنْتُ ، وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهبُ سيبويهِ والجمهور ، وأنَّ الأخفشَ يَدَّعي أنها سَدَّتْ مَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ ، و « ما » يجوز أن تكونَ بمعنى الذي وعائدُها محذوف ، أي : ما يُسِرُّونه ويُعْلِنُونه ، وأن تكونَ مصدريةً أي : يعلم سِرَّهم وعَلَنَهم ، والسِرُّ والعلانِيَةُ متقابِلان .

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } . . « منهم » خبرٌ مقدَّمٌ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و « أمِّيُّون » مبتدأٌ مؤخر ، ويجوزُ على رأي الأخفشِ أن يكونَ فاعلاً بالظرف قبلَه وإنْ لم يَعتمدْ ، وقد بَيَّنْتُ على ماذا يعتمد فيما تقدَّم . « وأمِّيُّون جمع أُمّيّ وهو مَنْ لا يكتب ولا يقرأ ، واختُلف في نسبته ، فقيل : إلى الأُم وفيه معنيان : أحدُهما : أنه بحال أمِّه التي وَلَدَتْه مِنْ عَدَمِ معرفةِ الكتابة وليس مثلَ أبيه ، لأن النساءَ ليس منْ شُغْلِهِنَّ الكتابةُ . والثاني : أنَّه بحاله التي وَلَدَتْهُ أمُّه عليها لم يتغيَّرْ عنها ولم يَنْتَقِلْ . وقيل : نُسِبَ إلى الأُمَّة وهي القامَةُ والخِلْقَةُ ، بمعنى أنه ليس له من الناسِ إلا ذلك . وقيل : نسب إلى الأُمَّة على سَذاجَتِها قبل أن تَعْرِفَ الأشياء كقولهم : عامِّي أي : على عادة العامَّة . وعن ابن عباس : » قيل لهم أمِّيُّون لأنهم لم يُصَدِّقوا بأم الكتاب « وقال أبو عبيدة : » قيل لهم أُمِّيُّون لإِنزالِ الكتابِ عليهم كأنهم نُسبوا لأُمِّ الكتاب « .
وقرأ ابن أبي عبلة : » أُمِّيُون « بتخفيف الياء ، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ تضعيفين .
قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ صفةً لأمِّيُّونُ ، كأنه قيل : أُمِّيُّون غيرُ عالمين .
قوله : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } هذا استثناءٌ منقطعُ ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ الكتابِ ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه ، وهذا هو المنقطعُ ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ دخولُه بوجهٍ ما كقولِه : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } [ النساء : 157 ] / وقولِ النابغة :
556 حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ
لأنَّ بِذِكْرِ العلم استُحْضِرَ الظنُّ ، ولهذا لا يَجُوز : صَهَلَت الخيلُ إلا حماراً .
واعلمْ أنَّ المنقطعَ على ضَرْبَيْن : ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو : » جاء القومُ إلا حماراً « وضربٍ لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون : » ما زاد إلا ما نَقَصَ ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ « فالأول فيه لغتان : لغةُ الحجازِ وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل ، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِبْهِهِ النصبُ والإِتباعُ ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول ، فيَحْتملُ نصبُها وجهين ، أَحَدُهُما : على الاستثناء المنقطع ، والثاني : أنه بدلٌ من الكتاب ، و » إلا « في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين ب » لكن « وعند الكوفيين ب » بل « . وظاهرُ كلام أبي البقاء أن نَصْبَه على المصدرِ بفعلِ محذوفٍ ، فإنَّه قال : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } استثناء منقطع ، لأنَّ الأمانيَّ ليس من جنسِ العلم ، وتقديرُ » إلاَّ « في مثلِ هذا ب » لكنْ « ، أي : لكنْ يتَمنَّونه أمانيَّ ، فيكونُ عندَه من بابِ الاستثناء المفَرَّغِ المنقطعِ ، فيصيرُ نظيرَ : » ما علمتُ إلا ظناً « وفيه نظرٌ .
والأمانيُّ جمع أُمْنِيَّة بتشديد الياء فيهما .

وقال أبو البقاء : « يجوز تخفيفُها فيهما » . وقرأ أبو جعفر بتخفيفها ، حَذَفَ إحدى الياءَين ، تخفيفاً ، قال الأخفش : « هذا كما يُقال في جمعِ مفتاح : مفاتح ومفاتيح » ، قال النحاس : « الحَذْفُ في المعتلِّ أكثرُ » وأنشد قول النابغة :
557 وهل يُرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العمى ... ثلاثُ الأَثافي والرسومُ البلاقِعُ
وقال أبو حاتم : « كلُّ ما جاء واحدُه مشدَّداً من هذا النوع فلك في الجمعِ الوجهان » وأصلُه يَرْجِعُ إلى ما قال الأخفش . ووزن أُمْنِيَّة : أُفْعُولة من منَّى يُمَنِّي إذا تلا وقرأ ، قال :
558 تَمَنَّى كتابَ اللهِ آخرَ ليلِهِ ... تَمَنِّىِ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
وقال كعب بن مالِك :
559 تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ ... وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال تعالى : « إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِهِ » ، أيَ : قَرَأَ وتَلا ، فالأصلُ على هذا : أُمْنُوية ، فاعتلَّت اعتلالَ ميِّت وسيِّد ، وقد تقدَّم . وقيل : الأمنيَّةُ الكذبُ والاختلاقُ . وقيل ما يتمنَّاه الإِنسان ويَشْتهيه . وقيل : ما يُقَدِّرُه وَيَحْزِرُه مِنْ مَنَّى إذا كَذَبَ أو تمنَّى أو قدَّر ، كقوله :
560 لا تأْمَنَنَّ وأنْ أمْسَيْت في حَرَمٍ ... حتى تُلاقِي ما يَمْني لكَ الماني
أي : يقدِّر لك المقدِّرُ . وقال الراغب : « والمَنْيُ القَدْرُ ، ومنه » المَنا « الذي يُوزَنُ به ، ومنه : المَنِيَّة وهو الأجَل المقدَّرُ للحيوان ، والتمنِّي : تقديرُ شيءٍ في النفسِ وتصويرُه فيها ، وذلك قد يكونُ عن ظَنٍّ وتخمين ، وقد يكونُ بناءً على رَوِيَّةٍ وأصلٍ ، لكنْ لمَّا كان أكثرُه عن تَخْمينٍ كان الكذبُ أَمْلَكَ له ، فأكثرُ التمنِّي تصوُّرُ ما لا حقيقةَ له ، والأُمْنِيَةُ : الصورةُ الحاصلةُ في النفسِ مِنْ تمنِّي الشيءِ ، ولمَّا كان الكذبُ تَصَوُّرَ ما لا حقيقة له وإيرادَه باللفظِ صار التَمنِّي كالمبدأ للكذبِ [ فعُبِّر به عنه ، ومنه قولُ عثمانَ رضي اللهُ عنه : » ما تَغَنَّيْتُ ولا تَمَنَّيْتُ منذ أَسلمْتُ « ] . وقال الزمخشري : » والاشتقاقُ من مَنَّى إذا قدَّر ، أن المتمنِّي يُقَدِّر في نفسِه ويَحْزِرُ ما يتمنَّاه ، وكذلك المختلقُ ، والقارئُ يقدِّر أنَّ كلمةَ كذا بعد كذا « فجَعَلَ بين هذه المعاني قَدْراً مشتركاً وهو واضحٌ .
قولُه : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } » إنْ « نافيةٌ بمعنى ما ، وإذا كانت نافيةً فالمشهورُ أنها لا تعملُ عملَ » ما « الحجازيةِ ، وأجاز بعضُهم ذلك ونَسَبه لسيبويهِ وأَنْشدوا :
561 إنْ هُوَ مستولياً على أَحَدٍ ... إلاَّ على أَضْعَفِ المجانين
و » هو « اسمُها و » مستولياً « خبرُها ، فقولُه » هم « في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، لا اسم » إنْ « لأنها لم تَعْمَل على المشهور ، و » إلاَّ « للاستثناء المفرغ ، و » يَظُنُّونَ « في محلِّ الرفع خبراً لقولِه » هم « وحَذَفَ مفعوليَ الظنِّ للعلمِ بهما ، أو اقتصاراً ، وهي مسألةُ خلافِ .

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

قولُه تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ } . . وَيْلٌ مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كانَ نكرةً لأنه دعاءٌ عليهم ، والدعاءُ من المسوِّغاتِ سواءً كان دعاءً له نحو : « سلامٌ عليكم ، أو عليه كهذه الآية ، والجارُّ بعده الخبرُ فيتعلًّقُ بمحذوف . وقال أبو البقاء : » ولو نُصِبَ لكانَ له وجهٌ على تقدير : أَلْزَمَهم الله ويلاً ، واللامُ للتبيين لأنَّ الاسمَ لم يُذْكَرْ قَبْلَ المصدر « يعني أنَّ اللامَ بعد المنصوبِ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وقولُه : » لأنَّ الاسم « يعني أنه لو ذُكِرَ قبلَ » ويلَ « فقلت : » ألزم الله زيداً ويلاً « لم يَحْتَجْ إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر ، وعبارةُ الجَرْميّ توهم وجوبَ الرفعِ في المقطوعِ عن الإضافة ، ونَصَّ الأخفش على جوازِ النصبِ فإنه قال : » ويجوزُ النصبُ على إضمار فعلٍ أي : أَلْزمهم الله ويلاً « .
واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي : وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ بأفعالٍ من غير لفظِها ، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإِضمارِ ، لا يجوز إظهارُها البتة أنها جُعِلَتْ بدلاً من اللفظ بالفعلِ ، وإذا فُصِل عن الإِضافةِ فالأحسنُ فيه الرفعُ ، نحوَ : » وَيْلٌ له « وإن أُضِيفَ نُصِبَ على ما تقدَّم ، وإن كان عِبارةُ الجرميّ توهُم وجوبَ الرفعِ عند قَطْعِه عن الإِضافة فإنه قال : » فإذا أَدْخَلْتَ اللامَ رَفَعْتَ فقلت : ويلٌ له ، وَوَيْحٌ له « كأنه يُريد على الأكثر ، ولم يَسْتعمل العربُ منه فعلاً لاعتلالِ عينه وفائِه ، وقد حَكى ابن عرفة : » تَوَيَّلَ الرجلُ « إذا دَعا بالوَيْل ، وهذا لا يَرُدُّ ، لأنه مثلُ قولهم : » سَوَّفْتَ ولَوْلَيْتَ « إذا قلتَ : له سوفَ ولو .
ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشر قاله الخليل ، وقال الأصمعي : الوَيْلُ : التفجُّع ، والوَيْل : الترحُّم . وقال سيبويه : » وَيْل ، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة ، ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك « وقيل : الويلُ الحُزن ، وهل ويْل ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ؟ خلافٌ ، وقد تقدَّم ما فرَّق به سيبويه في بعضِها . وقال قومٌ : وَيْلٌ في الدُّعاء عليه ، ووَيْحٌ وما بعدَه ترحُّمٌ عليه . وزعم الفرّاء أن أصلَ وَيْل : وَيْ أَي حُزْن ، كما تقول : وَيْ لفلان ، أي حُزْن له ، فَوَصَلَتْه العربُ باللام ، وقَدَّرَتْ أنَّها منه فَأَعْرَبوها وهذا غريبٌ جداً . ويقال : وَيْل وويلَة بالتاء ، وقال امروء القيس :
562 له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ ... لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشْكُرا
وقال أيضاً :
563 ويومَ دَخَلْتَ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ : لَكَ الوَيْلاتُ إنَّك مُرْجِلي
فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل كما زَعَم ابن عطية/ لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ والتاءِ لا يَنقَاسُ .
قوله { بِأَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيكُتبون ، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من » الكتاب « ، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب ، فنصبُه على المفعولِ به ، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ مصدراً على بابِه ، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ ، ونحوُه :

{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] . وقيل : فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم ، فإنَّ قولَك : فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه أمر بفعلِه ولم يُباشِرْه ، نحو : بنى الأميرُ المدينةَ ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا المجازِ . وقيل : فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم ، فإنَّ المباشِرَ للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه . وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز . وقال ابن السَّرَّاج : « ذِكْرُ الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم » وهذا الذي قاله لا يَلْزَمُ .
والأيدي جمعُ يَدٍ ، والأصلُ : أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو : بِيْض جمعَ أَبْيض ، والأصلُ : بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر ، وهذا رأيُ سيبويه ، أعني أنه يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه ، وسيأتي تحقيقُ مذهَبَيْهما عند ذِكْرِ « معيشة » إنْ شاء الله تعالى .
وأصل يَد : يَدْي بسكونِ العَيْنِ ، وقيل : يَدَي بتحريكِها ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتَح ما قبلَه فقُلِب ألفاً فصارَ يداً كَرَحَىً ، وعليه التثنيةُ : يديان ، وعليه أيضاً قوله :
564 يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا ... تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفَّ اليَدا
والمشهورُ في تثنيتها عَدَمُ ردِّ لامِها ، قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] ، وقد شَذَّ الردُّ في قوله : « يَدَيانِ :
565 يَدَيَان بَيْضَاوان عِندَ مُحَلِّمٍ ... قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرا
وأيادٍ جمعُ الجمعِ نحو : كَلْبَ وأَكْلُب وأكالب . ولا بدَّ في قوله : { يَكْتُبُونَ الكتاب } مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ معه المعنى ، فقدَّره الزمخشري : » يكتبونَ الكتابَ المحرَّفَ « وقدَّرَه غيرُه حالاً من الكتاب تقديرُه : يكتُبون الكتابَ مُحَرَّفاً ، وإنما أَحْوَجَ إلى هذا الإِضمارِ لأنَّ الإِنكارَ لاَ يَتَوَجَّهُ على مَنْ كَتَب الكتاب بيده إلا إذا حَرَّفه وغَيَّره .
قوله : { لِيَشْتَرُواْ } اللامُ لامُ كي ، وقد تقدَّمت . والضميرُ في » به « يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم : { هذا مِنْ عِنْدِ الله } و » ثمناً « مفعولُه ، وقد تقدَّم تحقيقُ دخولِ الباءِ على غيرِ الثمن عند قولِه : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] فَلْيُلْتَفَتْ إليه ، واللامُ متعلقةٌ بيقولون ، أي : يقولونَ ذلك لأجلِ الاشتراءِ . وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَها متعلقةً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه قولُه { مِنْ عِنْدِ الله } .
قوله : { مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر ، و » مِنْ « للتعليلِ ، و » ما « موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ ، ويجوزُ أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس كقوةِ الأولِ والعائدُ أيضاً محذوفٌ أي : كَتَبَتْهُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : مِنْ كَتْبِهم ، و { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } مثلُ ما تقدَّم قبلَه ، وإنما كرَّر » الوَيْل « ليُفيدَ أنَّ الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ ، وإنَّما قَدَّم قولَه : » كَتَبَتْ « على » يَكْسبون « لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ فنتيجتُها كسبُ المالِ ، فالكَتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ ، فجاء النَّظْمُ على هذا .

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

قوله تعالى : { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } . . هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، فأيَّاماً منصوبٌ على الظرفِ بالفعلِ قبلَه ، والتقديرُ : لَنْ تَمَسَّنا النارُ أبداً إلا أياماً قلائلَ يَحْصُرُها العَدُّ ، لأن العَدَّ يَحْصُر القليلَ ، وأصلُ أَيَّام : أَيْوام لأنه جمعُ يوم ، نحو : قَوْم وأَقْوامٍ ، فاجتمع الياءُ والواوُ وَسَبَقَتْ إحداهُما بالسكونِ فَوَجَبَ قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياءِ في الياءِ ، مثل هيّن وميّت .
قوله : { أَتَّخَذْتُمْ } الهمزةُ للاستفهامِ ، ومعناهُ الإِنكارُ والتقريعُ ، وبها استُغْنِيَ عن همزةِ الوصل الداخلةِ على « اتَّخَذْتُم » كقوله : { أفترى عَلَى الله } [ سبأ : 8 ] ، { أَصْطَفَى } [ الصافات : 153 ] وبابه . وقد تقدَّم القولُ في تصريفِ { اتخذتم } [ البقرة : 67 ] وخلافُُ أبي علي فيها . ويُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لواحد . قال أبو البقاء : « وهو بمعنى جَعَلْتُم المتعدية لواحد » ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها بمعنى « جَعَل » في تعدِّيها لواحد ، بل المعنى : هل أَخَذْتُم مِنَ اللهَ عَهْداً ، ويُحتملُ أَنْ تتعدى لاثنين ، والأولُ « عهد » ، والثاني « عند الله » مقدَّماً عليه ، فعلى الأولِ يتعلَّقُ « عند الله » باتَّخَذْتُمْ ، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ . ويجوزُ نَقْلُ حركةِ همزةِ الاستفهامِ إلى لام « قُلْ » قبلَها فَتُفْتَحُ وتُحْذَفُ الهمزةُ وهي لغةٌ مطَّرِدَةٌ قرأَ بها نافع في روايةِ ورش عنه .
قوله : { فَلَنْ يُخْلِفَ الله } هذا جوابُ الاستفهامِ المتقدِّمِ في قوله : { أَتَّخَذْتُمْ } وهل هذا بطريقِ تضمينِ الاستفهامِ معنى الشرطِ ، أو بطريقِ إضمار الشرطِ بعدَ الاستفهامِ وأخواتِهِ؟ قولان ، تقدَّم تحقيقُهما . واختار الزمخشري القولَ الثاني ، فإنه قال : { فَلَنْ يُخْلِفَ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه : إن اتَّخَذْتُمْ عندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عهدَه « . وقال ابنُ عطية : » فلن يُخْلِف اللهُ عهدَه : اعتراضٌ بين أثناءِ الكلامِ . كأنه يَعْني بذلك أنَّ قولَه : « أم تَقُولون » مُعادِلٌ لقولِه : « أَتَّخَذتم » فَوَقَعَتْ هذه الجملةُ بين المتعادِلَيْنِ معترضةً ، والتقديرُ : أيُّ هذين واقعٌ؟ اتِّخاذِكم العهدَ أم قولِكم بغيرِ علمٍ ، فعلى هذا لا محلَّ لها من الإِعراب ، وعلى الأول محلُّها الجَزْمُ .
قوله : { أَمْ تَقُولُونَ } أمْ « هذه يجوزُ فيها وجهانِ ، أحدُهما : أَنْ تكونَ متصلةً فتكونَ للمعادلةِ بين الشيئين ، أي : أيُّ هذين واقعٌ ، وأَخْرَجَهَ مُخْرَجَ المتردِّدِ فيه ، وإنْ [ كان ] قد عُلِم وقوعُ أحدِهما ، وهو قولُهم على اللهِ ما لا يعلمون للتقرير ، ونظيرُه : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] وقد عُلِمَ أيُّهما على هدىً وأيُّهما في ضلالِ ، وقد عَرَفْتَ شروطَ المتصلةِ أولَ السورة . ويجوزُ أن تكونَ منقطعةً ، فتكونَ غيرَ عاطفةٍ ، وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ/ والتقديرُ : بل أتقولون ، ويكونُ الاستفهامُ للإِنكارِ لأنه قد وقع القولُ منهم بذلك ، هذا هو المشهورُ في أمِ المنقطعةِ . وزعم جماعةٌ أنها تُقَدَّر ب » بل « وجدَها دونَ همزةِ استفهامٍ ، فَيُعْطَفُ ما بعدَها على ما قبلها في الإِعرابِ ، واستدَلَّ عليه بقولِهم : إنَّ لنا إبلاً أَمْ شاءً ، بنصْبِ » شاء « وقول الآخر :

566 وَليْتَ سليمى في المَنَامِ ضَجيعتي ... هنالِكَ أَمْ في جنةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
تقديره : بل في جهنَّمَ ، ولو كانَتْ همزةُ الاستفهامِ مقدَّرةً بعدَها لَوَجَبَ الرفعُ في « شاء » و « جهنم » على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وليس لقائلٍ أن يقولَ : هي في هذين الموضعينِ متصلةٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أنَّ شرطَها أَنْ تتقدَّمَها الهمزةُ لفظاً أوْ تقديراً ، ولا يَصْلُحُ ذلك هنا .
قوله : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } « ما » منصوبةٌ بتقولون ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كِلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ ، أي : ما لا تعلمونه ، فالجملة لا محلَّ لها على القولِ الأولِ ، ومحلُّها النصبُ على الثاني ولا يَجُوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً .

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)

قوله تعالى : { بلى } . . حَرْفُ جوابٍ كنَعَم وجَيْرِ وأَجَلْ وإي ، إلاَّ أَنَّ « بلى » جوابٌ لنفي متقدِّمٍ ، سواءً دخلَه استفهامٌ أم لا ، فيكونُ إيجاباً له نحو قول القائلِ : ما قام زيدٌ فتقولُ : بلى ، قد قام ، وتقول : أليس زيداً قائماً؟ فتقول بلى ، أي : هو قائم ، قال تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] ويُروى عن ابن عباس أنهم لو قالوا : نَعَمْ لَكَفروا . فأمَّا قولُه :
567 أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ ... وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي
نَعَمْ وترى الهلالَ كما أَراه ... وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني
فقيل : ضرورةٌ ، وقيل : نَظَرَ إلى المعنى؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دَخَل على النفي قَرَّره ، وبهذا يُقال : فكيفَ نُقِل عن ابنِ عباس أنَّهم لو قالوا نعم لكَفروا ، مع أنَّ النفي صَار إيجاباً؟ وقيل : قَوْلُه : « نعم » ليس جواباً ل « أليس » إنما هو جوابٌ لقولِه : « فذاكَ بنا تَداني » فقوله تعالى : « بلى » رَدٌّ لقولِهم : { لَن تَمَسَّنَا النار } أي : بلى تَمَسُّكم أبداً ، بدليلِ قولِه : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قاله الزمخشري ، يريد أن « أبداً » في مقابَلَةِ قولهم : { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } وهو تقديرٌ حَسَنٌ . والبصريون يَقُولون : إنَّ « بلى » حرفٌ بسيطٌ . وزعم الكوفيون أنَّ أصلها بل التي للإِضراب ، زِيْدَتْ عليها الياء ليَحْسُنَ الوقف عليها ، وضُمِّنت الياء معنى الإِيجاب ، قيل : تَدُلُّ على رَدِّ النفي والياءُ تَدُلُّ على الإِيجابِ ، يَعْنُون بالياءِ الألفَ ، وإنما سَمَّوْها ياءً لأنَّها تُمال وتُكْتَبُ بالياءِ ، ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ غيرُ هذا ، وسيأتي الكلامُ إن شاء الله في بقيةِ حروفِ الجواب .
قولُه : { مَن كَسَبَ } يجوزُ « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي . والخبرُ قولُه : « فأولئك » ، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ الشروطِ المذكورةِ فيما تقدَّم . ويؤيِّد كونَها موصوفةً ذِكْرُ قَسيمِها موصولاً وهو قولُه : { والذين كَفَرواْ } ، ويجوزُ أن تكونَ شرطيةً ، والجوابُ قولُه « فأولئك » وعلى كِلا القولين فمَحَلُّها الرفعُ بالابتداء ، لكنْ إذا قلنا إنها موصولةٌ كان الخبر : « فأولئك » وما بعد بلا خلافٍ ، ولا يكونُ لقولِه { كَسَبَ سَيِّئَةً } وما عُطِفَ عليه مَحَلٌّ من الإِعرابِ لوقوعِه صلةً ، وإذا قلنا إنها شرطيةٌ فيجيء في خبرها الخلافُ المشهورُ : إمَّا الشرطُ أو الجزاءُ أو هما ، حَسْبما تقدَّم ، ويكونُ قولُه « كَسَب » وما عُطِفَ عليه في محلِّ جَزْمٍ بالشرط .
و « سَيِّئَةً » مفعولٌ به ، وأصلُها : سَيْوِئةَ ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء ، فوزنُها فَيْعِلة ، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيّد وميّت ، وقد تقدَّم . وراعى لفظ « مَنْ » مرةً فأفرَدَ في قوله « كسب » ، و « به » و « خطيئته » ، والمعنى مرةًً أخرى ، فَجَمَع في قوله : { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

وقرأ نافعٌ وأهلُ المدينة : « خطيئاتُه » بجمعِ السلامة ، والجمهور : « خطيئتُه » بالإِفراد . ووجهُ القراءتين ينبني على مَعرفة السيئة والخطيئة . وفيهما أقوالٌ « ، أحدُهما : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظَيْن مختلفين . الثاني : السيئةُ الكفرُ ، والخطيئةُ الكبيرةُ . الثالث : عكسُ الثاني . فوجْهُ قراءةِ الجماعة على الأولِ والثالث أنَّ المرادَ بالخطيئةِ الكفرُ وهو مفردٌ ، وعلى الوجهِ الثاني أنَّ المرادَ به جنسُ الكبيرةِ . ووجهُ قراءِة نافعٍ على الوجهِ الأول والثالثِ أَنَّ المرادَ بالخطيئات أنواعُ الكفرِ المتجَدِّدَة في كلِّ وقتٍ ، وعلى الوجه الثاني أَنَّ المرادَ به الكبائرُ وهي جماعةٌ . وقيل : المرادُ بالخطيئةِ نفسُ السيئةِ المتقدِّمة فسمَّاها بهذين الاسمين تقبيحاً لها ، كأنَّه قال : وأَحاطَتْ به خطيئتُه تلك ، أي السيئة ، ويكونُ المرادُ بالسيئةِ الكفرَ ، أو يُراد بهم العصاةُ ، ويكونُ أرادَ بالخلودِ المُكْثَ الطويلَ ، ثم بعد ذلك يَخْرُجُون .
وقوله : { فأولئك أَصْحَابُ } إلى آخره تقدَّمَ نظيرُه فلا حاجةَ إلى إعادَتِه . وقُرئ » خطاياه « تكسيراً وهذه مخالِفةٌ لسَوادِ المصحفِ ، فإنه رُسِم » خطيئتُه « بلفظِ التوحيدِ . وقد تقدَّم القول في تصريف خطايا .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

قولُه تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا } . . « إذ » معطوفٌ على الظروفِ التي قبله ، وقد تقدَّم ما فيه من كونِه متصرفاً أو لا . و « أَخَذْنا » في محلِّ خفضٍ ، أي : واذكر وقتَ أَخْذِنا ميثاقَهم أو نحو ذلك .
قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ } قُرئ بالياءِ والتاء ، وهو ظاهرٌ . فَمَنْ قَرَأَ بالغَيْبة فلأنَّ الأسماءَ الظاهرةَ حكمُها الغَيْبة ، ومَنْ قَرَأَ بالخطابِ فهو التفاتٌ ، وحكمتُه أنَّه أدعى لقبولِ المخاطبِ الأمرَ والنهيَ الوارِدَيْنِ عليه ، وجَعَل أبو البقاء قراءةَ الخطابِ على إضمارِ القَوْلِ . قال : « يُقْرَأُ بالتاء على تقدير : قُلْنا لهم : لا تَعْبُدون إلا الله » وكونُه التفاتاً أَحْسَنُ ، وفي هذه الجملةِ المنفيَّةِ من الإِعرابِ ثمانيةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : أنَّها مفسِّرةٌ لأخْذِ الميثاقِ ، وذلك أنه لمَّا ذَكَرَ تعالى أنه أَخَذَ ميثاقَ بني إسرائيل كانَ في ذلك إيهامٌ للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملةِ مفسِّرةً له ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من « بني إسرائيل » وفيها حينئذ وجهان ، أحدُهما : أنَّها حالٌ مقدَّرة بمعنى أَخَذْنا مِيثاقَهم مقدِّرين التوحيدَ أبداً ما عاشُوا . والثاني : أنها حالٌ مقارِنةٌ بمعنى : أَخَذْنا ميثاقَهم ملتزمين الإِقامةَ على التوحيد ، قالَه أبو البقاء ، وسَبَقَه إلى ذلك قطرب والمبرِّد ، وفيه نظرٌ من حيث مجيءُ الحال من المضافِ إليه/ في غير المواضِع الجائز فيها ذلك على الصحيحِ ، خلافاً لمَنْ أجازَ مجيئَها من المضافِ إليه مطلقاً ، لا يُقال المضافُ إليه معمولٌ في المعنى لميثاق ، لأنَّ ميثاقاً إمَّا مصدرٌ أو في حكمه ، فيكونُ ما بعده إمَّا فاعلاً أو مفعولاً ، وهو [ غير ] جائز لأنَّ مِنْ شرطِ عملِ المصدرِ غير الواقِعِ موقعَ الفعلِ أَنْ ينحلَّ لحرفٍ مصدريٍ وفعل هذا لاَ يَنْحَلُّ لهما ، لَو قَدَّرْتَ : وإذ أَخَذْنا أن نواثِقَ بني إسرائيلَ أو يواثقنا بنو إسرائيل لم يَصِحَّ ، ألا ترى أنَّك لو قُلْتَ : أَخَذْتُ علمَ زيدٍ لم يتقدَّر بقول : أخذت أَنْ يعلَمَ زيدٌ ، ولذلك مَنَع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه : « هذا بابُ علم ما الكِلمُ من العربية » أن يُقَدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدري والفعل ، وَردَّ وأنكر على مَنْ أجازه . الثالث : أن يكنَ جواباً لقسمٍ محذوفٍ دَلَّ عليه لفظُ الميثاق ، أي : استَحْلَفْناهم أو قلنا لهم : باللهِ لا تعبدون . ونُسِب هذا الوجهُ لسيبويه ووافقه الكسائي والفراء والمبرِّدُ . الرابع : أن يكونَ على تقديرِ حَذْفِ حرفِ الجرّ ، وحَذْفِ أَنْ ، والتقديرُ : أَخَذْنَا ميثاقَهم على أَنْ لا تعبدوا أَو بأَنْ لا تَعْبدوا ، فَحُذِفَ حرفُ الجر لأنَّ حَذْفَه مطَّردٌ مع أَنَّ وأَنْ كما تقدَّم غيرَ مرة ، ثم حُذِفَتْ « أَنْ » الناصبةُ فارتفع الفعلُ بعدَها ونظيرُه قولُ طرفة :
568 أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي

وحَكَوا عن العرب : « مُرْهُ يَحْفِرَها » أي : بِأَنْ يَحْفِرَها ، والتقديرُ : عن أَنْ أَحْضُرَ ، وبأَنْ يَحْفِرَها ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ إضمارَ « أَنْ » لا ينقاسُ ، إنَّما يجوزُ في مواضعَ عَدَّها النَّحْويون وجَعَلُوا ما سِواها شاذاً قليلاً ، وهو الصحيحُ خلافاً للكوفيين . وإذا حُذِفَتْ « أَنْ » فالصحيحُ جوازُ النصبِ والرفعِ ، ورُوي : « مُرْه يَحْفِرها » ، وأَحْضُر الوغى « بالوجهين ، وهذا رأيُ المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن حيث التزم رفعَه . وللبحثِ موضعٌ غيرُ هذا هو أَلْيَقُ به . وأيَّد الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ بقراءةِ عبد الله : » لاَ تَعْبُدوا « على النهي . الخامس : أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ بالقولِ المحذوفِ ، وذلك القولُ حالٌ تقديره : قائلين لهم لا تعبدون إلا اللهَ ، ويكونُ خبراً في معنى النهي ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ المتقدمة ، وبهذا يَتَّضح عطفُ » وقولوا « عليه ، وبه قال الفراء . السادس : أَنَّ » أَنْ « الناصبة مضمرةٌ كما تقدَّم ، ولكنها هي وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلٌ من » ميثاق « ، وهذا قريبٌ من القولِ الأول من حيثُ إنَّ هذه الجملة مفسِّرةٌ للميثاق ، وفيه النظرُ المتقدم ، أعني حَذْفَ » أَنْ « في غيرِ المواضِع المَقِيسة . السابعُ : أَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ محذوفٍ ، وذلك القولُ ليس حالاً ، بل مجرَّدُ إخبارٍ ، والتقديرُ : وقُلْنا لهم ذلك ، ويكونُ خبراً في معنى النهي . قاله الزمخشري : » كما تقولُ : تذهَبُ إلى فلانٍ تقولُ له كذا ، تريدُ الأمر ، وهو أَبْلَغُ من صريحِ الأمر والنهي ، لأنَّه كأنه سُورع إلى الامتثالِ والانتهاءِ فهو يُخْبِرُ عنه ، وتَنْصُره قراءة أُبَي وعبد الله : « لا تعبدوا » ولا بدَّ من إرادة القول « . انتهى ، وهو كلامٌ حسنٌ جداً .
الثامن : أن يكونَ التقديرُ : أَنْ لا تعبدون ، وهي » أَنْ « المفسِّرة ، لأنَّ في قوله : { أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ } إيهاماً كما تقدَّم ، وفيه معنى القول ، ثم حُذِفَتْ » أَنْ « المفسِّرة ، ذكره الزمخشري . وفي ادِّعاء حَذْفِ حرفِ التفسيرِ نَظَرٌ لا يخفى .
وقوله : { إِلاَّ الله } استثناءٌ مفرغ ، لأنَّ ما قَبله مفتقرٌ إليه وقد تقدَّم تحقيقُه أولاً . وفيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، إذ لو جرى الكلامُ على نَسقَه لقيل : لا تَعْبدون إلا إيانا ، لقوله » أَخَذْنَا « . وفي هذا الالتفاتِ من الدلالةِ على عِظَمِ هذا الاسم والتفرُّدِ به ما ليس في المُضْمر ، وأيضاً الأسماءُ الواقعةُ ظاهرةٌ فناسَبَ أنْ يُجاوِرَ الظاهرُ الظاهرَ .
قوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تتعلَّقَ الباء ب » إحساناً « ، على أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر ، والتقديرُ : وأَحْسِنوا بالوالدَيْنِ ، والباءُ ترادِفُ » إلى « في هذا المعنى ، تقول : أَحْسَنْتُ به وإليه ، بمعنى أَنْ يكونَ على هذا الوجهِ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌُ ، أي : وأَحْسنوا بِرَّ الوالدَيْن بمعنى : أَحْسِنوا إليهما بِرَّهما .

قال ابن عطية : « يَعْتَرِضُ هذا القولَ أَنْ يتقدَّمَ على المصدرِ معمولُه » وهذا الذي جَعَله ابنُ عطية اعتراضاً على هذا القولِ لا يتِمُّ على مذهب الجمهور ، فإنَّ مذهبَهَم جوازُ تقديم معمولِ المصدرِ النائبِ عن فِعْل الأمر عليه ، تقول : ضرباً زيداً ، وإنْ شئْتَ : زيداً ضرباً ، وسواءً عندهم إنْ جَعَلْنَا العملَ للفعلِ المقدَّرِ أم للمصدرِ النائبِ عن فِعْلِه فإنَّ التقديمَ عندَهم جائزٌ ، وإنما يمتنعُ تقديمُ معمولِ المصدرِ المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعلِ ، كما تقدَّم بيانه آنِفاً ، وإنما يَتِمُّ على مذهبِ أبي الحسن ، فإنه يمنَعُ تقديمَ معمولِ المصدرِ النائبِ عن الفعلِ ، وخالَفَ الجمهورَ في ذلك . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ ، وذلك المحذوفُ يجوزُ أَنْ يُقَدَّر فعلَ أمرٍ مراعاةً لقولِه : { لاَ تَعْبُدُونَ } فإنه في معنى النهي كما تقدَّم ، كأنه قال : لا تَعْبدوا إلا اللهَ وأَحْسِنوا بالوالدين . ويجوز أن يُقَدَّر خبراً مراعاةً لِلَفْظِ « لا تعبدون » والتقديرُ : وتُحْسِنُون . وبهذين الاحتمالين قَدَّر الزمخشري ، وَيَنْتَصِبُ « إحساناً » حينئذٍ على المصدرِ المؤكِّد لذلك الفعلِ المحذوفِ . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ حَذْفَ عاملِ المؤكِّد منصوصٌ على عدمِ جوازِه ، وفيه بَحْثٌ ليس هذا موضعَه . الثالث : / أن يكونَ التقديرُ : واستوصُوا بالوالدَيْن فالباءُ تتعلَّقُ بهذا الفعل المقدَّرِ ، وينتصبُ « إحساناً » حينئذٍ على أنه مفعولٌ به . الرابعُ : تقديرُه : ووصَّيْناهم بالوالدَيْنِ ، فالباءُ متعلِّقةٌ بالمحذوفِ أيضاً ، وينتصبُ « إحساناً » حينئذٍ على أنه مفعولٌ من أجلهِ ، أي لأجل إحساننا إلى المُوصَى بهم من حيث إن الإِحسانَ مُتَسَبِّبٌ عن وصيتِنا بهم أو الموصى لِما يترتَّبُ الثوابِ منَّا لهم إذا أَحْسَنوا إليهم . الخامس : أن تكونَ الباءُ وما عَمِلَتْ فيه عطفاً على قولِه : { لاَ تَعْبُدُونَ } إذا قيلَ بأنَّ « أَنْ » المصدريةَ مقدرةٌ ، فينسِبُكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ يُعْطَفُ عليه هذا المجرورُ ، والتقديرُ : أََخَذْنا ميثاقَهم بإفرادِ الله بالعبادَةِ وبالوالدَيْن ، أي : وبِبِرِّ الوالدَيْن ، أو بإحسانٍ إلى الوَالدَيْن ، فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بالميثاقِ لِما فيه من معنى الفعلِ ، فإن الظرفَ وشِبْهَهُ تعملُ فيه روائحُ الأفعالِ ، وينتصبُ « إحساناً » حينئذٍ على المصدر من ذلك المضافِ المحذوفِ وهو البِرُّ لأنه بمعناه أو الإِحسانُ الذي قَدَّرناه . والظاهرُ من هذه الأوجهِ إنما هو الثاني لِعَدَمِ الإِضمارِ اللازم في غَيْره ، ولأنَّ ورودَ المصدرِ نائباً عن فعلِ الأمر مطَّرد شائِعٌ ، وإنَّما قٌدِّم المعمولُ اهتماماً به وتنبيهاً على أَنَّه أَوْلَى بالإِحسان إليه مِمَّن ذُكِرَ معه .
والوالدان : الأبُ والأمُ ، يُقال لكلِّ واحدٍ منهما والد ، قال :
569 ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ لَهُ أبٌ ... وذي وَلَدْ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ
وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قِيل فيها وفى الأب : والدان تغليباً للمذكَّر . والإِحسانُ : الإِنعامُ على الغير ، وقيل : بل هو أَعَمُّ من الإِنعام ، وقيل هو النافِعُ لكل شيء .
قوله : { وَذِي القربى } وما بعدَه عطفٌ على المجرورِ بالباءِ ، وعلامةُ الجرِّ فيها الياءُ؛ لأنَّها من الأسماءِ الستةِ تُرْفَعُ بالواو وتُنْصَبُ بالألف وتُجَرُّ بالياء بشروطٍ ذكرها النحويون ، وهل إعرابُها بالحروفِ أو بغيرها .

عشرةُ مذاهبِ للنحْويين فيها ، ليس هذا موضعَ ذِكْرِها ، وهي من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنًى إلى أسماءِ الأجناس ليُتَوَصَّل بذلك إلى وَصْف النكرة باسمِ الجنسِ ، نحو : مَرَرْتُ برجلٍ ذي مالٍ ، وإضافتُه إلى المضمرِ ممنوعةٌ إلا في ضرورةٍ أو نادرِ كلام كقوله :
570 صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ ... أبانَ ذوي أَرُومَتِها ذَوُوها
وأنشد الكسائي :
571 إنما يَعْرِفُ المَعْ ... روفَ في الناس ذَوُوه
وعلى هذا قولُهم : اللهم صَلِّ على محمدٍ وذَويه ، وإضافتُه إلى العَلَمِ قليلةٌ جداً ، وهي على ضَرْبين : واجبةٌ وذلك إذا اقْتَرَنا وَضْعاً نحو : ذي يزن وذي رَعين ، وجائزةٌ وذلك [ إذا ] لم يقترنا وَضْعاً نحو : ذي قَطَري وذي عمرو ، أي : صاحبُ هذا الاسمِ ، وأقلُّ من ذلك إضافتُها إلى ضميرِ المخاطب كقوله :
572 وإنَّا لَنَرْجُو عاجلاً منكَ مثلَ ما ... رَجَوْناه قِدْماً من ذَويك الأفاضلِ
وتَجيء « ذو » موصولةً بمعنى الذي وفروعِه ، والمشهورُ حينئذٍ بناؤها وتذكيرها ، ولها أحكامٌ كثيرة مذكورةٌ في كتب النحو .
و « القُرْبى » مضافٌ إليه وأَلِفُه للتأنيث وهو مصدرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى ، ويُطْلق على قَرابة الصُّلب والرَّحِم ، قال طَرَفة :
573 وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً ... على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
وقال أيضاً :
574 وَقرَّبْتُ بالقُرْبى وجَدِّك إنه ... متى يَكُ أَمْرٌ للنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادةُ تدل على الدُّنِّو ضد البُعْد .
قوله : { واليتامى } وزنُه فَعالى ، وألفهُ للتأنيثِ وهو جَمْعِ يتيم كنديم ونَدامى ولا يَنْقاسُ هذا الجمعُ ، واليُتْمُ : الانفراد ، ومنه « اليَتيم » لانفرادِه عن أبويه أو أحدِهما ، ودُرَّةٌ يتيمةٌ : إذا لم يكنْ لها نظيرٌ . وقيل : اليُتْم الإِبطاءُ ومنه صبيٌّ يتيم لأنه يُبْطِئُ عنه البِرُّ . وقيل : هو التغافل لأن الصبيَّ يُتَغافل عمَّا يُصْلِحُه . قال الأصمعي : « اليُتْمُ في الآدميين مِنْ قِبَل فَقْد الآباء وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأُمهات » . وقال الماوردي : « إن اليُتْمَ في الناس أيضاً من قِبَل فَقْد الأمَّهات » والأولُ هو المعروفُ عند أهلِ اللغةِ يقال : يَتُم يَيْتُم يُتْماً مثل : كرُم يكرُم وعَظُم يَعْظُم عُظْماً ، ويَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثلَ : سَمِعَ يَسْمَع سَمْعاً ، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء ، ويقال : أَيْتمه اللهُ إيتاماً أي فَعَل به ذلك . وعلامةُ الجرِّ في القربى واليتامى كسرةٌ مقدَّرة في الألفِ ، وإن كانَتْ للتأنيثِ ، لأنَّ ما لا ينصرفُ إذا أُضيف أو دَخَلَتْه أل انجرَّ بالكسرة ، وهل يُسَمَّى حينئذٍ منصرفاً أو مُنْجرَّا؟ ثلاثةُ أقوالُ يُفَصَّل في الثالث بين أن يكونَ أحدَ سببيه العلميةُ فيُسَمَّى منصرفاً نحو : « يَعْمُرُكمْ » أو لا فيُسَمَّى منجرَّا نحو : بالأحمر ، والقُرْبى واليتامى من هذا الأخير .
قوله : « والمساكين » جمعُ مِسْكين ، ويُسَمُّونه جَمْعاً لا نظيرَ له في الآحاد وجَمْعاً على صيغةِ منتهى الجموع ، وهو من العِلَل القائمةِ مَقامَ عِلَّتين ، وسيأتي تحقيقُه قريباً في هذه السورةِ .

وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقِه عند ذِكْرِ المَسْكَنة واختُلِف فيه : هل هو بمعنى الفقيرِ أو أسوأُ حالاً منه كقوله : { مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] أي لَصِق جِلْدُه بالتراب بخلافِ الفقير فإنَّ له شيئاً ما ، قال :
575 أمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ
أو أكملُ حالاً لأنَّ اللهَ جَعَلَ لهم مِلْكاً ما ، قال : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] خلافٌ مشهور بين العلماء من الفقهاءِ واللغويين .
قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } هذه الجِِملةُ عَطْفٌ على قولِه { لاَ تَعْبُدُونَ } في المعنى ، كأنه قال : لا تَعْبدوا إلا الله وأَحْسِنوا بالوالدين وقُولوا ، أو على « أَحْسِنوا » المقدَّر كما تقدَّم تقريرُه في قوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } ، وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقولٍ محذوف تقديرُه : « وقلنا لهم قولوا . وقرئ : حَسَناً بفتحتين وحُسُناً بضمتين ، وحُسْنى من غير تنوين كحُبْلى ، وإحساناً من الرباعي .
فامَّا قراءة » حُسْناً « بالضم والإِسكان فيَحْتمل أوجهاً ، أحدُها وهو الظاهرُ : أنه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه : وقولوا للناسِ قَوْلاً حُسْناً أي : ذا حُسْن . الثاني : أن يكونَ وُصِفَ به مبالغةً كأنه جُعِلَ القولُ نفسُه حَسَناً . الثالث : أنه صفةٌ على وزن فُعْل وليس أصلُه المصدرَ ، بل هو كالحُلْو والمُرّ ، فيكون بمعنى » حَسَن « بفتحتين ، فيكونُ فيه لغتان : حُسْن وحَسَن كالبُخْل والبَخَل ، والحُزْن والحَزَن ، والعُرْب والعَرَب . الرابع : أنه منصوبٌ على المصدرِ من المعنى ، فإنَّ المعنى : وَلْيَحْسُن قولُكم حُسْناً .
وأمَّا قراءةُ » حَسَناً « بفتحتين وهي قراءةُ حمزة والكسائي فصفةٌ لمحذوف ، تقديرُه : قولاً حَسَناً كما تقدَّم في أحد أوجه » حُسْنا « .
وأمَّا » حُسُناً « بضمَّتين فضمةُ السينِ للإِتباعِ للحاءِ فهو بمعنى » حُسْناً « بالسكون وفيه الأوجهُ المتقدمةُ .
وأمَّا مَنْ [ قَرَأَ ] » حُسْنى « بغير تنوين ، فَحُسْنَى مصدرٌ كالبُشْرى والرُّجْعى . وقال النحاس في هذه القراءةِ : » ولا يجوزُ هذا في العربية ، لا يُقال من هذا شيءٌ إلا بالألفِ واللامِ نحو : الكُبْرى والفُضْلَى ، هذا قول سيبويه ، وتابعه ابنُ عطية على هذا ، فإنه قال : « وردَّه سيبويه لأن أَفْعَل وفُعْلى لا يجيء إلا معرفةً ، إلا أن يُزال عنها معنى التفضيل ، ويَبْقى مصدراً كالعُقْبى فذلك جائزٌ وهو وجهُ القراءةِ بها . انتهى وقد ناقشهَ الشيخ ، وقال : » في كلامِه ارتباكٌ لأنه قال : لأنَّ أفْعَل وفُعْلى لا يَجِيءُ إلا معرفةً ، وهذا ليس بصحيح . أمَّا « أَفْعَل » فله ثلاثةُ استعمالاتٍ ، أحدُها : أن يكونَ معه « مِنْ » ظاهرةً أو مقدرةً ، أو مضافاً إلى نكرةً ، ولا يَتَعرَّفُ في هذين بحالٍ . الثاني : أن يَدْخُلَ عليه أَلْ فيتعرفَ بها ، الثالث : أن يُضَاف إلى معرفةٍ فيتعرَّفَ على الصحيح . وأمَّا « فُعْلى » فلها استعمالان ، أحدُهما بالألفِ واللام ، والثاني : الإِضافةُ لمعرفةٍ وفيها الخلافٌُ السابقُ . وقولُه : « إلا أَنْ يُزال عنها معنى التفضيلِ ويبقى مصدراً » ظاهرُ هذا أنَّ فُعْلى أنثى أَفْعَل إذا زال عنها معنى التفضيلِ تَبْقى مصدراً وليس كذلك ، بل إذا زَال عن فُعْلى أنثى أَفْعَل معنى التفضيلِ صارَتْ بمنزلةِ الصفةِ التي لا تفضيلَ فيها ، ألا ترى إلى تأويلِهم كُبْرى بمعنى كبيرة ، وصُغْرى بمعْنى صغيرة ، وأيضاً فإنَّ فُعْلى مصدراً لا ينقاسُ ، إنما جاءَتْ منها ألَيْفاظٌ كالعُقْبَى والبُشْرى « .==

ج2. الدر المصون في علم الكتاب المكنون السمين الحلبي

ثم أجابَ الشيخُ عن هذا الثاني بما معناه أنَّ الضميرَ في قولِه « عنها » عائدٌ إلى « حُسْنى » لا إلى فُعْلى أنثى أَفْعل ، ويكون استثناءً منقطعاً كأنه قال : إلا أَنْ يُزال عن حُسْنى التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل ، ويَصير المعنى : إلا أَنْ يُعْتقد أنَّ « حُسْنى » مصدرٌ لا أنثى أَفْعَل ، وقولُه : « وهو وجهُ القراءة بها » أي : والمصدرُ وَجْهُ القراءة بها . وتخريجُ هذه القراءةِ على وجهين ، أحدُهما : المصدرُ كالبشرى وفيه الأوجهُ المتقدمة في « حُسْناً » مصدراً إلا أنه يَحْتاج إلى إثباتُ حُسْنى مصدراً من قولِ العرب : حَسُنَ حُسْنَى ، كقولهم : رَجَع رُجْعى ، إذ مجيء فُعْلى مصدراً لا يَنْقَاس . والوجهُ الثاني أن تكونَ صفةً لموصوفٍ محذوفٍ؛ أي : وقولوا للناس كلمةً حُسْنى أو مقالةً حُسْنى . وفي الوصف بها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ للتفضيلِ ، ويكونُ قد شَذَّ استعمالُها غيرَ معرَّفةٍ بال ولا مضافةٍ إلى معرفةِ كما شَذَّ قولٌه :
576 وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا
وقولُه :
577 في سَعْي دُنْيا طالما قَدْ مُدَّتِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والوجه الثاني : أن تكونَ لغيرِ التفضيل ، بل بمعنى حَسَنة نحو كُبْرى في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناسِ مقالَةً حَسَنة ، كما قالوا : « يوسفُ أَحْسَنُ إخوتِه » في معنى حَسَن إخوتِه « انتهى . وقد عُلِم بهذا فسادُ قولِ النحاس .
وأمَّا مَنْ قرأ » إحساناً « فهو مصدرٌ وَقَع صفةً لمصدرٍ محذوف أي قولاً إحساناً ، وفيه التأويلُ المشهورُ ، وإحساناً مصدرٌ من أَحْسَن الذي همزتُه للصيرورةِ أي قولاً ذا حُسْنٍ ، كما تقولُ : » أَعْشَبَتِ الأرضُ « أي : صارت ذا عشبٍ . وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } [ البقرة : 43 ] تقدَّم نظيره .
قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } قال الزمخشري : » على طريقةِ الالتفات « وهذا الذي قاله إنما يَجيءُ على قراءةِ » لا يَعْبدون « بالغيبة ، وأمَّا على قراءةِ الخطابِ فلا التفاتَ البتةَ ، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ بالالتفاتِ الخروجَ مِنْ خطابِ بني إسرائيل القدماءِ إلى خطابِ الحاضرين في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل بذلك ، ويؤيِّده قولُه تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } قيل : يعني بهم الذي أسْلموا في زمانِه عليه السلام كعبدِ الله بن سَلاَّم وأضرابه ، فيكونُ التفاتاً على القراءَتين . والمشهورُ نَصْبُ » قليلاً « على الاستثناء لأنه مِنْ/ موجب . ورُوِي عن أبي عمرو وغيره : » إلا قليلٌ « بالرفع .

وفيه ستةُ أقوال ، أصحُّها : أنَّ رفعه على الصفة بتأويل « إلا » وما بعدها بمعنى غَيْر . وقد عَقَد سيبويه رحمه الله في ذلك باباً في كتابه فقال : « هذا بابٌ ما يكونُ فيه » إلاَّ « وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل » ، وذكر من أمثلة هذا الباب : لو كان معنا إلا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنا « و { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، و :
578 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قليلٌ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
وسَوَّى بين هذا وبينَ قراءةِ : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } برفع » غير « ، وجَوَّز في نحو : » ما قامَ القومُ إلا زيدٌ « بالرفع البدلَ والصفةَ ، وخَرَّج على ذلك قولَه :
579 وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ
كأنه قال : وكل أخٍ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه ، كما قال الشماخ :
580 وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لِوَصْلِ خليلٍ صارمٌ أو معارِزُ
وأنشدَ غيرُه :
581 لدَمٍ ضائِعٍ تغيَّبَ عنه ... أَقْربوه إلا الصَّبا والجَنُوبُ
وقولَه :
582 وبالصَّريمةِ منهم منزلٌ خَلَقٌ ... عافٍ تَغَيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرقُ بين الوصفِ بإلاَّ والوصفِ بغيرها أنَّ » إلا « تُوصف بها المعارفُ والنكراتُ والظاهرُ والمضمرُ ، وقال بعضُهم : » لا توصَف بها إلا النكرةُ أو المعرَّفةُ بلام الجنس فإنه في قوة النكرة « . وقال المبرد : » شَرْطُه صلاحيةُ البَدَلِ في موضعه « ، ولهذا موضعٌ نتكلَّم فيه . الثاني : أنه عطفُ بيان . قال ابن عصفور : » إنما يعني النحويون بالوصفِ بإلا عطفَ البيان « وفيه نظرٌ . الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوف كأنه قال : امتنع قليل . الرابع : أن يكونَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ أي : إلا قليلٌ منكم لم يَتَوَلُّوا ، كما قالوا : ما مررْتُ بأحدٍ إلا رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه . الخامس : أنه توكيدٌ للمضمرِ المرفوع ، ذكرَ هذه الثلاثة الأوجهَ أبو البقاء . قال : » وسيبويه وأصحابُه يُسَمُّونه نعتاً ووَصْفاً « يعني التوكيد . وفي هذه الأوجه التي ذَكَرها ما لا يَخْفى ولكنها قد قِيلت . السادس : أنه بدلٌ من الضميرِ في » تَوَلَّيْتُم « قال ابن عطية : » وجاز ذلك مع أنَّ الكلامَ لم يتقدَّمْ فيه نفيٌ ، لأن « تَوَلَّيْتم » معناه النفيُ كأنه قال : لم تَفُوا بالميثاقِ إلا قليلٌ « وهذا الذي ذكره مِنْ جوازِ البدل منعه النحويون ، لا يُجيزون : » قام القَومُ إلا زيدٌ « على البدل ، قالوا : لأنَّ البدل يَحُلُّ مَحَلَّ المبدَلِ منه فَيَؤُولُ إلى قولِك : قامَ إلا زيدٌ ، وهو ممتنعٌ ، وأمَّا قولُه : إنه في تأويل النفي » فما مِنْ موجَبٍ إلا يمكن فيه ذلك ، ألا تَرى أنَّ قولَك : « قام القومُ إلا زيدٌ » في قوة « لم يَجْلِسُوا إلا زيدٌ » فكلُّ موجَبٍ إذا أخَذْتَ نَفْيَ نقيضِه أو ضدِّه كانَ كذلك ، ولم تعتبر العربُ في كلامِها ، وإنما أجاز النحويون « قام القومُ إلا زيدٌ » بالرفع على الصفة كما تقدَّم تقريرُه .

و « منكم » صفةٌ لقليلاً ، فهي في محلِّ نصبٍ أو رفعٍ على حَسَب القراءتين . والظاهرُ أن القليلَ مرادٌ بهم الأشخاصُ لوَصْفِه بقوله « منكم » . وقال ابن عطية : « ويُحتمل أَنْ تكونَ القلةُ في الإِيمان ، أي : لم يَبْقَ حينَ عَصَوا وكَفَر آخرُهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا إيمانٌ قليلٌ إذ لا ينفعهم ، والأولُ أقوى » انتهى . وهذا قولٌ بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ .
قوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « تَوَلَّيْتُم » . وفيها قولان ، أحدُهما : أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ التولِّيَ والإِعراضَ مترادفان . وقيل : مبيِّنةٌ ، فإن التولِّيَ بالبدنِ والإِعراضَ بالقلبِ ، قاله أبو البقاء : وقال بعدَه : « وقيل : تَوَلَّيْتم يعني آباءهم ، وأنتم مُعْرِضُون يعني أنفسَهم ، كما قال : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ } [ الأعراف : 141 ] أي : آباءَهم » انتهى . وهذا يُؤَدِّي إلى [ أنّ ] جُمْلَةَ قوله { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } لا تكون حالاً ، لأنَّ فاعلَ التولِّي في الحقيقة ليس هو صاحبَ الحال والله أعلم . وكذلك تكون مبيِّنةً إذا اختَلَفَ متعلَّقُ التولِّي والإِعراضِ كما قال بعضُهم : ثم تَوَلَّيْتم عن أَخْذِ ميثاقكم وأنتم مُعْرِضون عن هذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : التولِّي والإِعراضُ مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سَلَكَ طريقاً ورجَع عَوْدَه على بَدْئِه سُمِّي ذلك تولِّياً ، وإنْ سَلَكَ في عُرْضِ الطريقِ سُمِّي إعراضاً وجاءَتِ الحالُ جملةً اسميةً مصدَّرةً ب « أنتم » لأنه آكد . وجيء بخبرِ المبتدأ اسماً لأنه أدلُّ على الثبوتِ فكأنه قيل : وأنتم عادَتُكم التولِّي عن الحقِّ والإِعراضُ عنه .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ } : كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ : لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } [ البقرة : 83 ] .
قوله : { مِّن دِيَارِكُمْ } متعلِّقٌ بتُخْرِجُون ومِنْ لابتداءِ الغايةِ . ودِيار جمع دَار والأصل : دَوَر ، لأنها من دَار يدُور دَوَراناً ، وأصلُ دِيار : دِوار ، وإنما قُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها ، واعتلالِها في الواحدِ . وهذه قاعدةٌ مطَّردة في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيحِ اللام قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علةٍ نحوُ : دار ودِيار وثِياب ، ولذلك صَحًّ « رِواء » لاعتلال لامه ، و « طِوال » لتحرُّكِ عينِ مفردِه وهو طويلٍ ، فأمَّا « طِيال » في طِوال فشاذٌّ . وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو : قامَ قِياماً وصامَ صِياماً ، ولذلك صَحَّ « لِواذ » لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم : لاوَذ ، وأمَّا « دَيَّار » فهو من لفظة الدَّار ، وأصلُه دَيْوار ، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه : فَيْعال لا فَعَّال ، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل : دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام . والدارُ مجتمعُ القومِ من الأبنية . وقال الخليل : « كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنيةً » .
وقرئ : « تَسْفُكُون » بضم الفاء ، و « تُسَفِّكون » من سَفَّك مضعفاً ، « وتُسْفِكون » من أَسْفك الرباعي .
وقوله : { دِمَآءَكُمْ } يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه ، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه ، أحدها : إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبَّب ، أي : إذا سَفَكْتُمْ دمَ غيرِكم فقد سُفِكَ دَمُكم ، وهو قريبٌ/ من قولهم : « القتلُ أنفى للقتل » . قال :
583 سَقَيْناهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها ... ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا
وقيل : « المعنى : لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعض » واختاره الزمخشري . وقيل : « لا تسفِكوها بارتكابكم ما يُوجِبُ سَفْكَها كالارتداد ونحوه » .
قوله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } قال أبو البقاء : « فيه وجهان ، أحدُهما أنَّ » ثُمَّ « على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي . والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه : فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم . والثاني : أن تكونَ » ثُمَّ « جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] .

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

قوله تعالى : { أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } : فيه سبعة أقوال ، أحدها : وهو الظاهرُ أنَّ « أنتم » في محلِّ رفع بالابتداء ، و « هؤلاء » خبرُه . و « تَقْتُلون » حالٌ العاملُ فيها اسمُ الإِشارةِ لِما فيه من معنى الفِعْل ، وهي حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في غيرِ هذا [ المكانِ ] وقد قالتِ العربُ : « ها أنت ذا قائماً » ، و « ها أنا ذا قائماً » ، و « ها هو ذا قائماً » ، فأخبروا باسمِ الإِشارةِ عن الضميرِ في اللفظِ ، والمعنى على الإِخبارِ بالحال ، فكأنه قال : أنت الحاضرُ وأنا الحاضرُ وهو الحاضرُ في هذه الحالِ . ويَدُلُّ على أنَّ الجملةَ من قوله « تَقْتُلون » حالٌ وقوعُ الحالِ الصريحةِ موقعَها ، كما تقدَّم في : ها أنا ذا قائماً ونحوِه ، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال : « ثم أنتم هؤلاء » استبعادٌ لِما أُسْنِد إليهم من القَتْل والإِجلاءِ بعد أَخْذِ الميثاق منهم ، وإقرارِهم وشهادتِهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون « ، يعني أنكم قومٌ آخرون غيرُ أولئك المُقِرِّين ، تنزيلاً لتغيُّر الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ ، كما تقول : رَجَعْتُ بغير الوجه الذي خَرَجْتُ به . وقوله : » تَقْتُلون « بيانٌ لقوله : ثم أنتم هؤلاء . قال الشيخ كالمعترضِ عليه كلامَه : » والظاهرُ أنَّ المشارَ إليه بقوله : « أنتم هؤلاء » المخاطبون أولاً ، فليسوا قوماً آخرين ، ألا ترى أنَّ التقديرَ الذي قدَّره الزمخشري مِنْ تقديرِ تغيُّرِ الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المخاطَبُ هو المُشارُ إليه مِنْ غيرِ تغيُّرٍ « ولم يتضحْ لي صحةُ الإِيرادِ عليه وما أبعدَه عنه .
الثاني : أن » أنتم « أيضاً مبتدأٌ ، و » هؤلاء « خبرُه ، ولكنْ بتأويل حذفِ مضافٍ تقديرُه : ثم أنتم مثلُ هؤلاء ، و » تقتلونَ « حالٌ أيضاً ، العاملُ فيها معنى التشبيه ، إلا أنَّه يلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين ، لأن المرادَ بهم أسلافُهم على هذا ، وقد يُقال : إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ .
الثالث : وَنَقَله ابنُ عطية عن شيخِه ابن الباذش أن » أنتم « خبرٌ مقدمٌ ، و » هؤلاء « مبتدأٌ مؤخرٌ ، وهذا فاسدٌ؛ لأن المبتدأ والخبرَ متى استويا تعريفاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدُّمُ الخبرِ ، وإنْ وَرَد [ منه ] ما يُوهِم فمتأوَّلٌ .
الرابع : أنَّ » أنتم « مبتدأٌ ، و » هؤلاء « منادى حُذِفَ منه حرفُ النداءِ ، و » تقتلون « خبرُ المبتدأ ، وفَصَلَ بالنداءِ بين المبتدأ وخبرِه . وهذا لا يُجيزه جمهورُ البصريين ، وإنما قال به الفراءُ وجماعةٌ وأنشدوا :
584 إنَّ الأُولى وُصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداك مَخْذولا

أي : يا هذا ، وهذا لا يَجُوز عند البصريين ، ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله :
585 هَذِي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رَسيسا ... ثم انصرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسا
وفي البيتِ كلامٌ طويل .
الخامس : أنَّ « هؤلاء » موصولٌ بمعنى الذي . و « تَقْتُلون » صلتُه ، وهو خبرٌ عن « أنتم » أي : أنتم الذين تقتلونَ . وهذا أيضاً ليس رأيَ البصريين ، وإنما قالَ به الكوفيون ، وأنشدوا :
586 عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ ... أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
أي : والذي تحملينَ ، ومثلُه : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } [ طه : 17 ] أي : وما التي؟ .
السادسُ : أن « هؤلاء » منصوبٌ على الاختصاصِ ، بإضمارِ « أعني » و « أنتم » مبتدأٌ ، وتقتلونَ خبرُه ، اعترَض بينهما بجملةِ الاختصاصِ ، وإليه ذهب ابن كيسان . وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنَّ الاختصاصَ لا يكون بالنكراتِ ولا أسماءِ الإِشارةِ ، والمستقرأُ مِنْ لسانِ العرب أنَّ المنصوبَ على الاختصاصِ : إمَّا « أيُّ » نحو : « اللهم اغْفِر لنا أَيَّتُها العِصابةَ » ، أو معرَّفٌ بأل [ نحو ] : نحنُ العربَ أَقْرى الناس للضيفِ ، أو بالإِضافةِ نحو : « نحن معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ » وقد يَجِيءُ عَلَما كقولِه :
587 بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ ... وأكثرُ ما يجيء بعد ضمير متكلِّم كما تقدَّم ، وقد يَجيء بعدَ ضميرٍ مخاطَبٍ ، كقولِهم « بكَ اللهَ نرجو الفضلَ » وهذا تحريرُ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ .
السابع : أن يكونَ { أَنْتُمْ هؤلاء } [ على ] ما تقدَّم مِنْ كونِهما مبتدأ وخبراً ، والجملةُ من « تقتلون » مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها ، يعني أنتم هؤلاء الأشخاصُ الحَمْقَى ، وبيانُ حماقتِكم أنكم تقتلون أنفسَكم وتُخْرِجون فريقاًَ منكم من ديارِهم ، وهذا ذكره الزمخشري في سورة آل عمران في قوله : { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ } [ آل عمران : 66 ] ولم يَذْكُرَه هنا ، وسيأتي بنصِّه هناك إنْ شاء الله تعالى .
قوله : { تَظَاهَرُونَ } هذه الجملةُ في محل نصب على الحال من فاعل { تُخْرِجُونَ } وفيها خمسُ قراءات : « تظَّاهرون » بتشديد الظاء ، والأصل : تَتَظاهرون فأُدْغِم لقُرْبِ التاء من الظاء ، و « تَظَاهرون » مخفَّفاً ، والأصل كما تقدَّم ، إلا أنَّه خفَّفَه بالحذف . وهل المحذوفُ الثانية وهو الأَوْلى لحصول الثقل بها ولعَدَم دَلالِتها على معنى المضارعة أو الأُولى كما زعم هشام؟ قال الشاعر :
588 تَعَاطَسُون جميعاً حولَ دارِكُمُ ... فكُلِّكم يا بني حمدانَ مَزْكُومُ
أراد : تتعاطَسون فحَذَف . و « تَظَهَّرُون » بتشديد الظاء والهاء ، و « تُظَاهِرون » من تَظاهَرَ . و « تتظاهَرون » على الأصل مِنْ غيرِ حذفٍ ولا إدغامٍ ، وكلُّهم يَرْجِعُ إلى معنى المُعاوَنة والتناصُرِ من المُظاهَرة ، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُسْنِدُ ظهرَه للآخر ليتقوَّى به فيكونَ له كالظهر ، قال :
589 تَظَاهَرْتُمُ أَسْتاهَ بيتٍ تَجَمَّعَتْ ... على واحدٍ لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحِدِ
والإِثْمُ في الأصل : الذَّنْبُ وجمعُه آثام ، ويُطْلَقُ على الفعلِ الذي يَسْتَحِقُّ به صاحبه الذمِّ واللومَ . وقيل هو : ما تَنْفِرُ منه النفسُ ولا يَطْمئنُّ إليه القلبُ ، فالإِثمُ في الآيةِ يَحْتمل أن يكونَ مراداً به ما ذَكَرْتُ من هذه المعاني .

ويَحْتَمِلُ أن يُتَجَوَّزَ به عَمَّا يُوجِبُ الاثمَ إقامةً للسَّبب مُقَامَ المُسَيَّب كقول الشاعر :
590 شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي ... كذاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ
فَعَبَّر عن الخمرِ بالإِثمِ لمَّا كان مُسَبَّباً عنها .
والعُدْوانُ : التجاوُزُ في الظلمِ ، وقد تقدَّم في { يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] وهو مصدرٌ كالكُفْران والغُفْران ، والمشهورُ ضَمُّ فائِه ، ضَمُّ فائِه ، وفيه لغةٌ بالكسرِ .
قوله : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ } إنْ شرطيةٌ ويَأْتوكم مجزومٌ بها بحَذْفِ النونِ والمخاطبُ مفعولٌ ، و « أُسارى » حالٌ من الفاعل في « يأتوكم » . وقرأ الجماعةُ غيرَ حمزة « أُسارى » ، وقرأ هو أَسْرَى ، وقُرئ « أَسارى » بفتح الهمزة . فقراءةُ الجماعة تحتمل أربعة أوجه ، أحدُها : أنه جُمِعَ جَمْعَ كَسْلان لِمَا جَمَعَهما مِنْ عدمِ النشاطِ والتصرُّف ، فقالوا : أَسير وأُسارى [ بصم الهمزة ] كَكَسْلان وكُسَالى وسَكْران وسُكارى ، كما أنه قد شُّبِّه كَسْلان وسَكْران به فجُمِعا جَمْعَه الأصليَّ الذي هو على فَعْلَى فقالوا : كَسْلان وكَسْلى ، وسَكْران وسَكْرى كقولهم : أَسير وأَسْرى . قال سيبويه : « فقالوا في جمع كَسْلان كَسْلَى شبَّهوه بأَسْرى كما قالوا أُسارى شبَّهوه بكُسالى » ، ووجهُ الشبه أن الأَسْر يَدْخُل على المَرْءِ كَرْهاً ، كما يَدْخُل الكسل ، قال بعضهم : « والدليلُ على اعتبارِ هذا المعنى أنَّهم جَمَعوا مريضاً ومَيِّتاً وهالِكاً على فَعْلَى فقالوا : مَرْضَى ومَوْتَى وهَلْكَى لَمَّا جَمَعَها المعنى الذي في جَرْحَى وقَتْلَى » .
الثاني : أن أُسارى جمعُ أَسير ، وقد وَجَدْنا فَعِيلاً يُجْمع على فُعَالى قالوا : شيخٌ قديم وشيوخٌ قُدامى ، وفيه نظرٌ فإن هذا شاذٌّ لا يُقاس عليه .
الثالث : أنه جَمْعُ أسير أيضاً وإنما ضَمُّوا الهمزةَ من أُسارى وكان أصلُها الفتح كنديم ونَدامى [ كما ضُمَّتِ الكافُ والسينُ من كُسَالى وسُكارى ] وكان الأصلُ فيهما الفتحَ نحو : عَطْشَان وعَطَاشى .
الرابع : أنه جَمْعُ أَسْرى الذي [ هو ] جمعُ أسير فيكونُ جَمْعَ الجمعِ .
وأمَّا قراءةُ حمزةَ فواضحةٌ؛ لأن فَعْلى ينقاس في فَعيل بمعنى مُمَات أو مُوْجَع نحو : جَريح وجَرْحى وقَتيل وقَتْلى ومَريض ومَرْضى .
وأما « أَسارَى » بالفتح فلغةٌ ليست بالشاذة ، وقد تقدَّم أنها أَصْلُ أُسارى بالضم [ عند بعضهم ] ، ولم يَعْرف أهلُ اللغة فَرْقاً بين أُسارى وأَسْرى إلا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : « ما كان في الوَثاق فهم الأُسارى وما كان في اليدِ فهم الأَسْرَى . ونَقَلَ عنه بعضُهم الفرقَ بمعنى آخر فقال : » ما جاء مُسْتأسِرا فهم الأَسْرى ، وما صار في أيديهم فهم الأُسارى ، وحكى النقاش عن ثعلب أنَّه لما سَمع هذا الفرقَ قال : « هذا كلامُ المجانين » ، وهي جرأةٌ منه على أبي عمرو ، وحُكي عن المبردِ أنه يُقال : « أَسير وأُسَراء كشهيد وشُهَداء » .

والأسيرُ مشتق من الإِسار وهو القَيْدُ الذي يُرْبط [ به المَحْمَلُ ، فسُمِّي الأسير أسيراً لشدة وَثاقه ، ثم اتُّسِعَ فيه فَسُمِّي كلُّ مأخوذٍ بالقَهْرِ أَسيراً وإن لم يُرْبَط ] . والأسْر : الخَلْق في قوله تعالى { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } [ الإنسان : 28 ] ، وأُسْرَة الرجل مَنْ يتقوَّى بهم ، والأُسْرُ احتباسُ البولِ ، رجلٌ مَأْسورٌ [ أذا ] أصابَه ذلك : وقالت العرب : « أَسَرَ قَتَبه » أي : شَدَّه . قال الأعشى :
591 وقَيَّدني الشِّعْرُ في بيتِه ... كما قَيَّد الآسِراتُ الحمارا
يريد أنه بَلَغ في الشعر النهايةَ حتى صارَ له كالبيتِ لا يَبْرَح عنه .
قوله : { تُفَادُوهُمْ } قرأ نافع وعاصم والكسائي : « تُفادُوهم » ، وهو جوابُ الشرطِ فلذلك حُذِفَت نونُ الرفعِ ، وهل القراءتان بمعنىً واحدٍ ، ويكونُ معنى فاعَلَ مثلَ معنى فَعَل المجرد نحو : عاقَبْت وسافَرْت ، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهورٌ ، ثم اختلف الناسُ في ذلك الفرقِ ما هو؟ فقيل : مَعْنَى فَداه أَعْطى فيه فِداءٍ من مالٍ وفاداه أعطى فيه أسيراً مثلَه وأنشد :
592 ولكنِّني فادَيْت أمِّي بعدما ... عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ
بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما ... لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ
وهذا القول يَرُدُّه قولُ العباس رضي الله عنه : « فادَيْت نفسي وفادَيْتَ عَقيلا » ومعلومٌ أنه لم يُعْطِ أسيرَه في مقابلة نفسِه ولا وَلَدِه ، وقيل : « تَفْدُوهم بالصلح وتُفادُوهم بالعِتْقِ » . وقيل : « تَفْدُوهم تُعْطوا » فِدْيَتَهم ، وتُفادوهم تَطْلبون من أعدائِكم فِدْيةَ الأسيرِ الذي في أيديكم ، ومنه قول الشاعر :
593 قفي فادِي أسيرَكِ إنَّ قومي ... وقومَك لا أرى لهمُ اجتماعا
والظاهرُ أن « تُفادهم » على أصله من اثنين ، وذلك أن الأسيرَ يعطي المالَ والآسِرَ يعطي الإِطلاقَ ، وتَفْدُوهم على بابِه من غيرِ مشاركةٍ ، وذلك أنَّ أَحدَ الفريقين يَفْدي صاحبه من الآخر بمالٍ أو غيره ، فالفعلُ على الحقيقة من واحدٍ ، والفداءُ ما يُفْتَدَى به ، وإذا كُسِر أولُه جازَ فيه وجهان : المَدُّ والقَصْرُ فمِن المدِّ قولُ النابغة :
594 مَهْلاً فِداءً لكَ الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
ومن القَصْرِ قولُه :
595 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فِدَىً لَكَ مِنْ رَبٍّ طَريفي وتالدي
/ وإذا فُتِحَ فالقصرُ فقط ، ومن العربِ مَنْ يكسِرُ « فِدى » مع لام الجر خاصةً ، نحو : فِدَىً لكَ أبي وأمي يريدون الدعاءَ له بذلك ، وفَدى وفادى يتعدَّيان لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ جر تقول : فَدَيْتُ أو فادَيْتُ الأسير بمال ، وهو محذوفٌ في الآية الكريمة . قال ابن عطية : « وحَسُنَ لفظ الإِتيانِ من حيثُ هو في مقابلةِ الإِخراج فيظهرُ التضادُّ المُقْبِحُ لفِعْلِهم في الإِخراج » يعني أنه لا يناسِبُ مَنْ أَسَأْتُمْ إليه بالإِخراجِ مِنْ دارِه أَنْ تُحْسِنُوا إليه بالفِداء .
قوله : { وَهُوَ مُحَرَّمٌ } هذا موضعٌ يَحْتاجُ لفضلِ نَظَرٍ ، والظاهرُ من الوجوهِ المنقولةِ فيه أن يكونَ « هو » ضميرَ الشأنِ والقصةِ فيكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « مُحَرَّمٌ » خبرٌ مقدمٌ وفيه ضميرٌ قائمٌ مَقامَ الفاعلِ ، و « إخراجُهم » مبتدأ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعِ خبراً لضميرِ الشأن ، ولم يَحْتَجْ هنا إلى عائدٍ على المبتدأ لأنَّ الخبرَ نفسُ المبتدأ وعينُه .

وهذه الجملةُ مفسِّرةٌ لهذا الضمير ، وهو أحدُ المواضعِ التي يُفَسَّرُ فيها المضمرُ بما بعدَه ، وقد تقدَّمَتْ وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسَّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير ، ومِنْ شَرْطِه أن يؤتى به في مواضعِ التعظيم وأنْ يكونَ معمولاً للابتداءِ أو نواسِخه فقط ، وأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزئيها ، ولا يُتْبَعَ بتابعٍ من التوابعِ الخمسةِ ، ويجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه مطلقاً خلافاً لمَنْ فصَّل : فتذكيرُه باعتبارِ الأمر والشأن ، وتأنيثُه باعتبار القصةِ فتقولُ : هي زيدٌ قائمٌ ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُحْذَفُ إلا في مواضع تُذْكر إنْ شاء الله تعالى . والكوفيون يُسَمُّونه ضميرَ المَجْهول وله أحكامٌ كثيرةٌ .
الوجهُ الثاني : أن يكونَ « هو » ضميرَ الشأنِ أيضاً ، و « مُحَرَّمٌ » خبرُه ، [ و « إخراجُهم » مرفوعٌ ] على أنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه . وهذا مذهبُ الكوفيين وتابَعهم المهدوي ، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول ، لأنَّ عندهم [ أنَّ الخبرَ المحتمِّل ضميراً ] مرفوعاً لا يجوزُ تقديمُه على المبتدأ فلا يُقال : « قائمٌ زيدٌ » على أن يكونَ « قائمٌ » خبراً مقدَّماً ، وهذا عند البصريين [ ممنوعٌ لِمَا عَرَفْتَه أنَّ ضميرَ ] الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، والاسمُ المشتقُّ الرافعُ لِما بعدَه من قبيلِ المفرداتِ لا الجملِ فلا يُفَسَّر به ضميرُ الشأنِ .
الثالث : أن يكونَ « هو » كنايةً عن الإِخراجِ ، وهو مبتدأ ، و « مُحَرَّمٌ » خبرُه ، و « إخراجُهم » بدلٌ منه ، وهذا على أحدِ القولين وهو [ جوازُ إبدالِ الظاهرِ من ] المضمرِ قبله ليفسِّرَه ، واستدلَّ مَنْ أجازَ ذلك بقوله :
596 على حالةٍ لَوْ أنَّ في القومِ حاتِماً ... على جُودِه لَضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
فحاتم بدلٌ من الضميرِ في « جودِه » .
الرابع : أن يكونَ « هو » ضميرَ الإِخراجِ المدلولَ عليه بقوله « وتُخْرِجون » ، و « مُحَرَّمٌ » خبره و « إخراجُهم » بدلٌ من الضميرِ المستترِ في « مُحَرَّمٌ » .
الخامس : كذلك ، إلاَّ أنَّ « إخراجُهم » بدلٌ من « هو » . نقل هذينِ الوجهين أبو البقاء . وفي هذا الأخيرِ نظرٌ ، وذلك أنَّك إذا جَعَلْتَ « هو » ضمير الإِخراج المدلولِ عليه بالفعل كانَ الضميرُ مفسَّراً به نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] فإذا أَبْدَلْتَ منه « إخراجُهم » الملفوظَ به كانَ مفسَّراً به أيضاً ، فيلزَمُ تفسيرُه بشيئين ، إلا أَنْ يقالَ : هذان الشيئان في الحقيقة شيءٌ واحدٌ فيُحتملَ ذلك .
السادس : أجاز الكوفيون أن يكونَ « هو » عماداً وهو الذي يُسَمِّيه البصريون ضميرَ الفصل قُدِّم مع الخبر لِما تقدَّم ، والأصلُ : وإخراجُهم هو مُحَرَّمٌ عليكم ، فإخراجُهم مبتدأ ، ومُحَرَّم خبره ، وهو عِمادٌ ، فلمَّا قُدِّمَ الخبرُ قُدِّمَ معه .

قال الفراء : « لأن الواوَ هنا تَطْلبُ الاسمَ ، وكلُّ موضعٍ تطلب فيه الاسمَ فالعمادُ جائزٌ » وهذا عند البصريين ممنوعٌ من وجهين : أحدُهما : أن الفصلَ عندهم مِنْ شرطِهِ أن يَقَعَ بين معرفَتَيْن أو بين معرفةٍ ونكرةٍ قريبةٍ من المعرفةِ في امتناع دخول أل كأَفْعَل مِنْ ، ومثلٍ وأخواتها . والثاني : أنَّ الفصلَ عندهم لا يجوز تقديمُه مع ما اتصل به . ولهذه الأقوالِ مواضعُ يُبْحث فيها عنها .
السابع : قال ابن عطية : « وقيل في » هو « إنه ضميرُ الأمرِ ، والتقديرُ : والأمرُ مُحَرَّم عليكُم ، وإخراجُهُمْ في هذا القولِ بدلٌ من » هو « انتهى . قال الشيخ : » وهذا خطأٌ من وجهين ، أحدُهما : تفسيرُ ضميرِ الأمرِ بمفردٍ وذلك لا يُجيزه بَصْريٌّ ولا كوفيٌّ ، أمّا البصريُّ فلاشتراطه جملةً ، وأمَّا الكوفيُّ فلا بد أن يكونَ المفردُ قد انتظمَ منه ومِمَّا بعده مُسْنَدٌ إليه في المعنى نحو : ظَنَنْتُه قائماً الزيدان . والثاني : أنه جَعَلَ « إخراجُهم » بدلاً من ضميرِ الأمر ، وقد تقدَّم أنه لا يُتْبَعُ بتابعٍ .
الثامن : قال ابنُ عطية أيضاً : « وقيل » هو « فاصلةٌ ، وهذا مذهبٌ الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و » مُحَرَّم « على هذا ابتداءٌ ، و » اخراجُهم « خبرٌ » . قال الشيخ : « والمنقولُ عن الكوفيين عكسُ هذا الإِعرابُ ، أي : يكونُ » إخراجُهم « مبتدأ مؤخراً ، و » مُحَرَّم « خبرٌ مقدمٌ ، قُدِّم معه الفصلُ كما مرَّ ، وهو الموافِقُ للقواعدِ ، وألاَّ يَلزَم منه الإِخبارُ بمعرفةٍ عن نكرةٍ من غير ضرورةٍ تَدْعو إلى ذلك .
التاسع : نَقَله ابنُ عطية أيضاً عن بعضِهم أن » هو « الضميرَ المقدَّرَ في » مُحَرَّم « قُدِّمَ وأُظْهِر ، قال الشيخ : » وهذا ضعيفٌ جداً ، إذ لا ضرورةَ تدعو إلى انفصالِ هذا الضميرِ بعد استتارهِ وتقديمهِ ، وأيضاً فإنه يلزَمُ خُلُوُّ اسمِ المفعولِ مِنْ ضميرٍ ، إذ على هذا القولِ يكونُ « مُحَرَّم » خبراً مقدَّماً و « إخراجُهم » مبتدأ ، ولا يُوجد اسمُ فاعلٍ ولا مفعولٍ خالياً من الضمير إلا إذا رَفَعَ الظاهرَ ، ثم يبقى هذا الضميرُ لا ندري ما إعرابُه؟ إذ لا يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ولا فاعلاً مقدَّماً « وفي قول الشيخ : » يَلْزَمُ خُلُوُّه من ضميرٍ « نظرٌ ، إذ هو ضميرٌ مرفوعٌ به فلم يَخْلُ منه ، غايةُ ما فيه أنه/ انفصلَ للتقديم ، وقوله : » لا ندري ما إعرابهُ « قد درى ، وهو الرفعُ بالفاعليةِ . قوله : » والفاعلُ لا يُقَدَّم « ممنوعٌ فإنَّ الكوفيَّ يُجيزُ تقديمَ الفاعلِ ، فيحُتمل أن يكونَ هذا القائلُ يَرى ذلك ، ولا شك أنَّ هذا قولٌ رديءٌ مُنْكَرٌ لا ينبغي أن يجوزَ مثلُه في الكلامِ ، فكيف في القرآن!! فالشيخُ معذورٌ ، وعَجِبْتُ من القاضي أبي محمد كيف يُورد هذه الأشياءَ حاكياً لها ، ولم يُعَقِّبْها بنكيرٍ .

وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ محذوفةً من الجملِ المذكورة قبلَها ، وذلك أنه قد تقدَّم ذكرُ أربعةِ أشياءَ كلُّها مَحُرَّمةٌ ، وهي قولُه : « تَقْتُلون أنفسَكم ، وتُخْرِجُون ، وتُظاهرون ، وتُفادون ، فيكونُ التقدير : تقتلون أنفسَكم وهو مُحَرَّمٌ عليكم قتلُها ، وكذلك مع البواقي . ويجوز أن يكونَ خَصَّ الإِخراجَ بذكر التحريمِ وإنْ كانَتْ كلُّها حَراماً ، لِما فيه من مَعَرَّة الجلاءِ والنفي الذي لا ينقطعُ شرُّه إلا بالموت والقتلِ ، وإنْ كان أعظمَ منه إلا أنَّ فيه قطعاً للشرِّ ، فالإِخراجُ من الديارِ أصعبُ الأربعةِ بهذا الاعتبار .
والمُحَرَّمُ : الممنوعُ ، فإنَّ الحرامَ هو المَنْعُ من كذا . والحَرامُ : الشيءُ الممنوعُ منه يُقَالُ : حَرامٌ عليك وحَرَمٌ عليك ، وسيأتي تحقيقُه في الأنبياء .
قوله : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ } : » ما « يجوز فيها وجهان ، أحدُهما أن تكونَ نافيةً و » جزاء « مبتدأ ، و » إلاَّ خِزْيٌ « » خبرُه « وهو استثناءٌ مفرغٌ ، وبَطَلَ عَمَلُ » ما « عند الحجازيين لانتقاضِ النفي ب إلاَّ ، وفي ذلك خلافٌ طويلٌ وتفصيلٌ منتشرٌ ، وتلخيصُه أنَّ خبرَها الواقعَ بعد » إلاَّ « : جمهورُ البصريين على وجوبِ رَفْعِه مطلقاً ، سواءً كان هو الأولَ أو مُنَزَّلاً منزلَته أو صفةً أو لم يكُنْ ، ويتأوَّلون قوله :
597- وما الدهرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بأَهْلِه ... وما صاحبُ الحاجاتِ إلاَّ مُعَذِّبَا
على أنَّ الناصبَ لمَنْجَنوناً ومُعَذَّباً محذوفٌ ، أي : يدورُ دَوَرَانَ مَنْجَنونٍ ، ويُعَذَّبُ مُعَذَّباً تَعْذيباً . وأجاز يونس النصبَ مطلقاً ، وإن كان النحاسُ نَقَلَ عدمَ الخلافِ في رفع » ما زيدٌ إلا أخوك « ، فإن كان الثاني مُنَزَّلاً منزلةَ الأولِ نحو : » ما أنت إلا عِمامَتك تحسيناً وإلاَّ رِداءَك ترتيباً « فأجاز الكوفيون نصبَه ، وإن كان صفةً نحو : ما زيدٌ إلا قائمٌ فأجاز الفراء نصبَه أيضاً . والثاني أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء ، و » جزاء « خبرُه ، و { إِلاَّ خِزْيٌ } بدلٌ من » جَزَآءُ « ، نقله أبو البقاء و » مَنْ « موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، و » يفعلُ « لا محلَّ لها على الأول ، ومحلُّها الجَرُّ على الثاني .
قوله : : منكم » في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ « يفعل » فيتعلَّقُ بمحذوف أي : يفعلُ ذلك حالَ كونِه منكم .
قوله : { فِي الحياة } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل « خزي » ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : خِزْيٌ كائنٌ في الحياة ، والثاني : أن يكونَ محلُّه النصبَ على أنه ظرفٌ للخِزْي فهو منصوبٌ به تقديراً .
والجَزاءُ : المقابَلَةُ ، خيراً كان أو شراً ، والخِزْيُ : الهَوانُ ، يُقال : خَزِيَ بالكسر يخزى خِزْياً فهو خَزْيانُ ، وامرأة خَزْيا والجمع خَزايا ، وقال ابن السكيت : « الخِزْيُ الوقوعُ في بَلِيَّة ، وخَزِيَ الرجلُ في نفسِه يَخْزَى خَزَايَةً إذا استحيا » .

والدُّنْيا فُعْلَى تأنيثُ الأدْنى من الدُنُوِّ ، وهو القُرْب ، وألِفُها للتأنيثِ ، ولا تُحْذَفُ منها أل إلا ضرورةً كقوله :
598 يومَ ترى النفوسُ مَا أعَدَّتِ ... في سَعْي دُنْيَا طالمَا قد مُدَّتِ
وياؤُها عن واو ، وهذه قاعدةٌ مطَّردةٌ ، وهي كلُّ فُعْلَى صفةً لامُها واوٌ تُبْدَلُ ياءَ نحو : العُلْيَا والدُّنْيا ، فأمَّا قولُهم : القُصْوى عند غير تميم ، والحُلْوى عند الجميع فشاذ ، فلو كانت فُعْلى اسماً صَحَّتِ الواو كقوله :
599 أداراً بحزوى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وقد استُعْمِلَتْ استعمالَ الأسماءِ ، فلم يُذْكَرْ موصوفُها ، قال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } [ الأنفال : 67 ] ، وقال ابنُ السراج في « المقصور والممدود » : « والدُّنْيا مؤنثةٌ مقصورةٌ ، تُكْتَبُ بالألفِ ، هذه لغةُ نجدٍ وتميمٍ ، إلا أنَّ الحجازِ وبني أسد يُلْحِقُونها ونظائرهَا بالمصادرِ ذوات الواو فيقولون : دَنْوَى مثلَ شَرْوى ، وكذلك يَفْعَلون بكلِ فُعْلى موضعُ لامِها واوٌ يفتحونَ أوَّلها ويَقْلِبُون ياءَها واواً ، وأمَّا أهلُ اللغةِ الأولى فَيَضُمُّون الدالَ ويَقْلِبُون الواءَ ياءً لاستثقالِهم الواوَ مع الضمةِ .
وقُرئ : » يُرَدُّون « بالغَيْبَةِ على المشهورِ . وفيه وجهان : أحدُهما : أن يكونَ التفاتاً فيكون راجعاً إلى قوله : » أفتؤمنون « فَخَرَج من ضميرِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، والثاني : أنَّه لا التفاتَ فيه ، بل هو راجِعٌ إلى قولِه : » مَنْ يفعَل « ، وقرأ الحسن » تُرَدُّون « بالخطابِ ، وفيه الوجهانِ المتقدِّمان ، فالالتفاتُ نظراً لقولِه : » مَنْ يفعل « وعدمُ الالتفات نظراً لقوله : » أفتؤمنون « .
وكذلك { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قُرِئَ في المشهورِ بالغَيْبَةِ والخطابِ ، والكلامُ فيهما كما تقدَّم .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

وتقدَّم نظائرُ { أولئك الذين اشتروا } . . وما بعدَه . إلا أنَّ بعضَ المُعْرِبين ذَكَر وجوهاً مردودةً لا بدَّ من التنبيهِ عليها ، فأجاز أن يكونَ « أولئك » مبتدأ ، و { الذين اشتروا } خبرَه ، و { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } خبراً ثانياً لأولئك ، قال : « ودخَلَتِ الفاءُ في الخبر لأجلِ الموصولِ المُشْبِهِ للشرطِ وهذا خطأٌ ، فإن قوله : { فَلاَ يُخَفَّفُ } لم يَجْعَلْهُ خبراً للموصول حتى تَدْخُلَ الفاءُ في خبره ، وإنما جَعَلَه خبراً عن » أولئك « وأينَ هذا مِنْ ذاك؟ وأجاز أيضاً أن يكونَ » الذين « مبتدأ ثانياً ، و { فَلاَ يُخَفَّفُ } خبرَهُ ، دخَلْت لكونِه خبراً للموصولِ ، والجملةُ خبراً عن » أولئك « قال : » ولم يُحْتَجْ هنا إلى عائدٍ لأنَّ « الذين » هم « أولئك » كما تقولُ : « هذا زيدٌ منطلقٌ » ، وهذا أيضاً خَطَأٌ لثلاثةِ أوجهٍ أحدُها : خُلُوُّ الجملةِ مِن رابطٍ/ ، قوله : « لأن الذين هم أولئك » لا يفيدُ لأنَّ الجملةَ المستغنِيَةَ لا بُدَّ وأنْ تكونَ نفسَ المبتدأ ، وأمَّا تنظيرُه ب « هذا زيدٌ منطلقٌ » فليس بصحيحٍ ، فإنَّ « هذا » مبتدأٌ ، و « زيدٌ » خبرٌ ، و « منطلقٌ » خبرٌ ثانٍ ، ولا يجوزُ أن يكونَ « زيدٌ » مبتدأً ثانياً ، و « منطلقٌ » خبرَه والجملةُ خبرٌ عن الأول للخلوِّ من الرابط . الثاني : أن الموصولَ هنا لقومٍ معيَّنين وليس عاماً ، فلم يُشْبِه الشرط فلا تَدْخُلُ الفاءُ في خبره . الثالث : أن صلته ماضيةٌ لفظاً ومعنىً ، فلم يُشْبِهْ فعلَ الشرطِ في الاستقبال فلا يجوزُ دخولُ الفاءِ في الخبرِ . فتعيَّن أن يكون « أولئك » مبتدأً والموصولُ بصلتِه خبرَه ، و { فَلاَ يُخَفَّفُ } معطوفٌ على الصلةِ ، ولا يَضُرُّ تخالُفُ الفِعْلَيْنِ في الزمانِ ، فإنَّ الصلاتِ من قَبيل الجملِ ، وعَطْفٌ الجملِ لا يُشْتَرَطُ فيه اتحادُ الزمانِ ، يجوزُ أن تقولَ : « جاء الذي قَتَلَ زيداً أمسٍ وسيقتُل عمراً غداً » ، وإنما الذي يُشْتَرَطُ فيه ذلك حيث كانت الأفعالُ مُنَزَّلَةً منزلةَ المفرداتِ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يجوز في « هم » وجهانِ ، أحدُهما : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وما بعده خبرُه ، ويكون قد عَطَفَ جملةً اسميةً على جملةٍ فعليةٍ وهي : { فلا يُخَفَّفَ } . والثاني : أن يكونَ مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرهُ هذا الظاهرُ ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ، ويكونُ كقولِه :
600 وإنْ هُو لم يَحْمِلْ على النفسِ ضَيْمَها ... فليسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
وله مُرَجِّحٌ على الأولِ وذلك أنَّه يكونُ قد عَطَفْتَ جملةً فعليةً على مثلِها ، وهو من المواضعِ المرجَّحِ فيها الحَمْلُ على الفعلِ في بابِ الاشتغالِ . وليس المرجِّحُ كونَه تقدَّمه لا النافية ، فإنَّها ليسَتْ من الأدواتِ المختصَّةِ بالفِعْلِ ولا الأولى به ، خلافاً لابن السِّيدِ حيث زَعَمَ أنَّ « لا » النافيةَ من المرجِّحاتِ لإِضمارِ الفعل ، وهو قولٌ مرغوبٌ عنه ، ولكنه قَويٌ من حيث البحث . فقوله : « يُنْصَرون » لا محلَّ له على هذا لأنه مفسِّرٌ ، ومحلُّه الرفعُ على الأولِ لوقوعه موقعَ الخبرِ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } . . التضعيفُ في « قَفَّيْنا » ليس للتعديةِ ، إذ لو كانَ كذلك لتعدَّى إلى اثنينِ لأنه قبلَ التضعيفِ يتعدَّى لواحدٍ ، نحو : قَفَوْت زيداً ، ولكنه ضُمِّن معنى « جِئْنا » كأنه قيل : وجئنا من بعده بالرسلِ . فإنْ قيل : يجوزُ أن يكونَ متعدِّياً لاثنين على معنى أنَّ الأولَ محذوفٌ والثاني « بالرسل » والباءُ فيه زائدةٌ تقريرُه : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } .
فالجوابُ أن كثرةَ مجيئِه في القرآن كذلك يُبْعِدُ هذا التقديرَ ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ في المائدةِ إن شاء الله تعالى .
وقَفَّينا أصله : قَفَّوْنا ، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً ، واشتقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه ، ثم اتُّسع فيه ، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع ، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع ، وقال أمية :
601 قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ ... وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ
والقَفا مُؤَخَّرُ العُنُق ، ويقال له : القافية أيضاً ، ومنه قافيةُ الشِّعْر ، لأنها تَتلُو بناءَ الكلام وآخرَه ، ومعنى قَفَّيْنا أي : أَتْبَعْنا كقولِه : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون : 44 ] .
و { مِن بَعْدِهِ } متعلِّقٌ به ، وكذلك « بالرُسل » ، وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل ، وفُعُل غيرُ مَقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول ، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن ، والضمُّ لغةُ تميم ، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى « ن » أو « كم » أو « هم » فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ .
قوله : « عيسى » عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضع ، فقال سيبويه : « وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى » يَعْني بالياءِ الألفَ ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ . وقال الفارسي : « أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى ، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرةِ » . وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي : « وزنه فِعْلَل » فالألفُ عنده أصليةٌ بمعنى أنها منقلبةٌ عن أصل . ورَدَّ ذلك عليه ابنُ الباذِشِ بأنَّ الياءَ والواوَ لا يكونان أصلَيْن في بناتِ الأربعةِ ، فمَنْ قال إنَّ « عِيسى » مشتقٌّ من العَيْس وهو بياضٌ تخالطُه شُقْرةٌ كأبي البقاء وغيره ليس بمصيبٍ لأنَّ الأعجميَّ لا يَدْخُلُه اشتقاقٌُ ولا تصريفٌ . وقال الزمخشري : « وقيل : عيسى بالسُّريانية : أَيْسوع » .
قوله : « ابنَ مريم » عطفُ بيان أو بدلٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ « ابن مريم » جرى مَجْرَى العلم له . وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى ، وتقدَّم اشتقاقُ « ابن » وأصلُه .
ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم ينصرِفْ ، وفي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِرُ مخالطَة الرجال كالزِّير من الرجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ ، قال رؤبة :

602 قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وياءُ « الزير » عن واو لأنه من زار يَزُور فَقُلِبَتِ للكسرة قبلَها كالرِّيح ، فصار لفظُ مريم مشتركاً بين اللسانينِ ، ووزنُه عند النحويين مَفْعَل لا فَعْيَل ، قال الزمخشري : « لأن فَعْيَلاً بفتح الفاء لم يَثْبُتْ في الأبينة كما ثَبَتَ في نحو : عِثْيَر وعِلْيَب » وقد أثبت بعضهم فَعْيَلاً وجَعَلَ منه نحو : « ضَمْيَد » اسمَ مكان و « مَدْيَن » على القولِ بأصالة ميمهِ و « ضَهْيَا » بالقصر وهي المرأةُ التي لا تَحِيضُ ، أو لا ثَدْيَ لها ، لأنها مشتقةٌ من ضاهَأَتْ أي شابَهَتْ ، لأنها شابَهَتِ الرجال في ذلك ، ويجوزُ مَدُّها قاله الزجاج . وقال ابن جني : « وأما ضَمْيدَ وعَثْيَر فمصنوعان » فلا دَلالة فيهما على ثبوت فَعْيَل ، وصحةُ الياءِ في مريم على خلافِ القياس ، إذ كان من حقِّها الإِعلالُ بنَقْلِ حركةِ الياء إلى الراءِ ثم قَلْبِ الياءِ ألفاً نحو : مَباع من البَيْع ، ولكنه شَذَّ مَزْيَد ومَدْيَن ، وقال أبو البقاء : « ومَرْيَم عَلَمٌ أعجمي ولو كان مشتقاً من رامَ يريم لكان مَرِيماً بسكونِ الياء ، وقد جاءَ في الأعلامِ بفتح الياء نحوَ مَزْيَد وهو على خلافِ القياس » .
قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ } معطوفٌ على قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى } . وقرأ الجمهور/ أيَّدْناه على فَعَّلْناه ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروي عن أبي عمرو « آيَدْنَاه » على : أَفْعَلْناه ، والأصلُ في أَاْيَدَ بهمزتين ، ثانيتُهما ساكنةٌ فوجَبَ إبدالُ الثانيةِ ألفاً نحو : أَأْمَنَ وبابِه ، وصححت العينُ وهي الياءُ كما صَحَّتْ في « أَغْيَلَت » و « أَغْيَمَت » ، وهو تصحيحٌ شاذٌّ إلا في فِعْل التعجب نحو : ما أَبْيَنَ وأَطْوَل . وحُكي عن أبي زيد أن تصحيحَ « أَغْيَلَت » مقيسٌ . فإنْ قيل : لِم لا أُعِلَّ آيَدْناه كما أُعِلَّ نحو : أَبَعْناه حتى لا يَلْزَم حَمْلُه على الشاذ؟ فالجواب أنه لو أُعِلَّ بأنْ أُلْقِيَتْ حركةُ العينِ على الفاءِ فيلتقي ساكنانِ العينُ واللامُ فتُحْذَفُ العَيْنُ لالتقاء الساكنين ، فتجتمعُ همزتان مفتوحتان فيجبُ قَلْبُ الثانيةِ واواً نحو « أَوادِم » ، فتتحرَّكُ الواوُ بعدَ فتحةٍ فتقلبُ أَلفاً فيصيرُ اللفظُ : أَادْناه ، لأدَّى ذلك إلى إعلالِ الفاءِ والعينِ ، فلمَّا كانَ إعلالُه يؤدِّي إلى ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْناه وأَقَمْناه ، فإنه ليسَ فيه إلا إعلالُ العينِ فقط . قال أبو البقاء : « فإنْ قلتَ : فَلِمَ لَمْ تُحْذَفِ الياءُ التي هي عينٌ كما حُذِفَتْ من نحو : أَسَلْناه منْ سالَ يَسالُ؟ قيل : لو فَعَلوا ذلك لتوالى إعلالان : أحدُهما قَلْبُ الهمزةِ الثانيةِ ألفاً ثم حَذْفُ الألفِ المبدلة من الياءِ لسكونِها وسكونِ الألفِ قبلَها ، فكان يصيرُ اللفظُ آدْناه فكانَتْ تُحْذَفُ الفاءُ والعينُ وليس » أسلناه « كذلك ، لأنَّ هناك حَذْفَ العينِ وحدَها .

وقال الزمخشري في المائدة : « آيَدْتُك على أَفْعَلْتُك » وقال ابن عطية : « على فاعَلْتُك » ثم قال : « ويَظْهَرُ أن الأصلَ في القراءتين : أَفْعَلْتُك ثم اختَلَفَ الإِعلالُ » . انتهى .
والذي يظهر أن « أيَّد » فَعَّل لمجيء مضارِعِه على يُؤَيِّدُ بالتشديدِ ، ولو كان أَيَّد بالتشديد بزنة أَفْعَلَ لكان مضارعُه يُؤْيِدُ كيُؤْمِنُ من آمَنَ ، وأمَّا آيَدَ يعني بالمَدِّ فيُحتاج في نَقْلِ مضارعه إلى سَماعٍ ، فإنْ سُمِعَ يُؤايِدُ كيُقاتِل فهو فاعَل ، فإنْ سُمع يُؤْيِدُ كيُكْرِمُ فآيد أَفْعَل ، ذكر ذلك جميعَه الشيخُ في المائدة . ثم قال : « إنه لم يَظْهر كلامُ ابن عطية في قوله : » اختلف الإِعلالُ « وهو صحيحٌ ، إلاَّ أنَّ قوله : الذي يظهر أن أيَّد في قراءةِ الجمهورِ فَعَّل لا أَفْعَل إلى أخرِه » فيه نظرٌ لأنه يُشْعِرُ بجوازِ شيءٍ آخَر وذلك متعذَّرٌ ، كيف يُتَوَهَّمُ أن أيَّدَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ بزنة أَفْعَل ، هذا ما لا يَقَعْ .
والأَيْدُ : القوَّةُ ، قال عبد المطلب :
603 الحمدُ للهِ الأَعزِّ الأكرمِ ... أَيَّدَنا يومَ زُحوفِ الأشْرَمِ
والصحيحُ أن فَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى واحد وهو قَوَّيْناه . وقد فَرَّق بعضُهم بينهما فقال : « أمَّا المدُّ فمعناه القوةُ ، وأمَّا القصرُ فمعناه التأييدُ والنَّصْرُ » ، وهذا في الحقيقةِ ليس بفرقٍ ، وقد أبدلتِ العربُ في آيَدَ على أَفْعَل الياءَ جيماً فقالت : آجَدَهُ أي قوَّاه ، قال الزمخشري : « يقال : » الحمدُ لله الذي آجَدَني بعد ضَعْفٍ وأَوْجَدني بعد فَقْر « ، وهذا كما أَبْدلوا من يائِه جيماً فقالوا : لا أَفْعَل ذلك جَدَ الدهرِ أي : يدَ الدهر ، وهو إبدالٌ لا يَطَّرِدُ .
قوله : { بِرُوحِ القدس } متعلِّق بأيَّدْناه . وقرأ ابن كثير : » القُدْس « بإسكانِ الدال ، والباقون بضمِّها ، وهما لغتان : الضمُّ للحجاز ، والإِسكانُ لتميم ، وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ أبو حَيْوة : » القُدُوس « بواوٍ ، وفيه لغةُ فتحِ القاف والدال ومعناه الطهارةُ أو البركةُ كما تقدَّم عند قولِه : » ونقدِّسُ لك « . والروح في الأصل : اسمٌ للجزءِ الذي تَحْصُلُ به الحياةُ في الحيوان قاله الراغب ، والمرادُ به جبريلُ عليه السلام لقولِ حَسَّان :
604 وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ
سُمِّي بذلك لأنَّ بسببه حياةَ القلوب .
قوله : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ } الهمزةُ هنا للتوضيحِ والتقريعِ ، والفاءُ للعطفِ عَطَفَتْ هذه الجملةَ على ما قبلَها ، واعتُنِيَ بحرفِ الاستفهام فقُدِّمَ ، وقد مَرَّ تحقيقُ ذلك ، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّر بين الهمزةِ وحرفِ العطْفِ جملةً ليَعْطِفَ عليها . وهذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلها من غيرِ حَذْفِ شيء ، كأنه قال : ولقد آتَيْنا يا بني إسرائيلَ أنبياءَكم ما آتيناهُمْ فكلما جاءَكم رسُولٌ . ويجوز أَنْ يُقَدَّر قبلَها محذوفٌ أي : فَفَعَلْتُم ما فَعَلْتُم فكلما جاءَكم رسولٌ . وقد تقدَّم الكلام في » كلما « عند قولِه :

{ كُلَّمَا أَضَآءَ } [ البقرة : 20 ] . والناصبُ لها هنا « استكبرتم » ، و « رسول » فَعُول بمعنى مَفْعُول أي مُرْسَل ، وكونُ فَعُول بمعنى المَفْعُول قليلٌ ، جاء منه الرَّكُوب والحَلُّوب أي : المَرْكُوب والمَحْلُوب ، ويكون مصدراً بمعنى الرسالة قاله الزمخشري . وأنشد :
605 لقد كَذَبَ الواشون ما فُهْتُ عندَهم ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برَسول
أي : برسالة ، ومنه عنده : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] .
قوله : { بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ } متعلِّق بقوله « جاءكم » ، و « جاء » يتعدى بنفسِه تارةً كَهذِه الآية ، وبحرفِ الجرِّ أُخْرى نحو : جِئْتُ إليه ، و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروط ، والتقديرُ : بما لا تهواه ، و « تهوى » مضارعُ هَوِي بكسر العين ولامُه من ياءٍ لأنَّ عينَه واوٌ ، وباب طَوَيْتُ وشَوَيْتُ أكثرُ من بابُ قوَّة وحُوَّة . ولا دليلَ في « هَوِيَ » لانكسار العين وهو مثل « شَقِي » من الشَّقاوة ، وقولُهم في تثنيةِ مصدرِه هَوَيان أدلُّ دليلٍ على ذلك ، ومعنى تَهْوَى : تُحِبُّ وتختار . وأصل الهَوَى : المَيْلُ ، سُمِّي بذلك لأنه يَهْوي بصاحبِه في النار ولذلك لا يُسْتعمل غالباً إلا فيما لا خَيْرَ فيه ، وقد يُستعمل فيما هو خيرٌ ، ففي الحديث الصحيح قولُ عمرَ في أُسارى بدر : « فَهَوِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قالَ أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت . وعن عائشة رضي الله عنها : » واللهِ ما أَرى ربَّك إلا يُسارع في هَوَاك « وجمعُه أَهْواء ، قال تعالى : { بِأَهْوَائِهِم } [ الأنعام : 119 ] ولا تُجْمع على أَهْوِية وإنْ كان قد جاء : نَدَى وأَنْدِية قال الشاعر :
606 في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ ... لا يُبْصِرُ الكلبُ في ظَلْمائها الطُّنُبا
وأمَّا » هوى يَهْوي « بفتحها في الماضي وكسرِها في المضارع فمعناهُ السقوطُ ، والهَوِيُّ بفتح الهاءُ ذهابٌ في انحدارِ ، والهُوِيُّ ذهابٌ في صعود ، وسيأتي تحقيقُ كلِّ ذلك ، وأسندَ الفعلَ إلى الأنفس دونَ المخاطبِ فلم يَقُلْ : » بما لا تَهْوون « تنبيهاً أنَّ النفسَ يُسْنَدُ إليها الفعلُ السَّيِّء غالباً نحو : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } [ يوسف : 53 ] { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [ يوسف : 18 ] { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } [ المائدة : 30 ] واستكبر بمعنى تَكَبَّرَ .
قوله : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ } الفاءُ عاطفةٌ جملةَ » كَذَّبْتم « على » استكبرتم « و » فريقاً « مفعولٌ مقدَّم قُدِّم لتتفقَ رؤوسَ الآي ، وكذا { وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } ، ولا بُدَّ من محذوفٍ أي : فريقاً منهم ، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرةُ فَرِيقٍ من الرسلِ بالتكذيب ومبادَرَةُ آخرين بالقتلِ ، وقَدَّم التكذيبَ لأنه/ أولُ ما يفعلونه من الشرِّ ولأنه مشتركٌ بين المقتولِ وغيره ، فإنَّ المقتولِين قد كذَّبوهم أيضاً ، وإنما لم يُصَرِّحْ به لأنه ذَكَرَ أقبحَ منه في الفعلِ . وجيء ب » تقتلون « مضارعاً : إمَّا لكونِه مستقبلاً لأنهم كانوا يَرُومون قَتْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ولِما فيه من مناسبة رؤوسِ الآيِ والفواصِل ، وإمَّا أن يُرادَ به الحالُ الماضيةُ أن الأمرَ فظيعٌ فأُريد استحضارُه في النفوس وتصويرُه في القلوب . وأجازَ الراغب أَنْ يكونَ { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ } معطوفاً على قوله » وأَيَّدْناه « ويكونُ » أفكلما « مع ما بعده فَصْلاً بينهما على سبيلِ الإِنكار ، والأظهرُ هو الأولُ ، وإنْ كان ما قاله محتملاً .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

قوله تعالى : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } . . مبتدأٌ وخبر ، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه ، وقرأ الجمهورُ : « غُلْفٌ » بسكون اللام ، وفيها وجهان ، أحدهما وهو الأظهرُ : أن يكونَ جمع « أَغْلَف » كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر ، والمعنى على هذا : أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ . والثاني : أن يكونَ جمعَ « غِلاف » ، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو : حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب ، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنُق ، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية : « لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ » ، وليس كذلك ، بل هو قليل ، وقد نصّ غيرُه على جوازه ، وقرأ ابن عباس ويُروى عن أبي عمرو بضمِّ اللامِ وهو جمع « غِلاف » ، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ « أَغْلف » لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر ، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر ، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى .
قوله : { بَل لَّعَنَهُمُ الله } « بل » حرفُ إضرابٍ ، والإِضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف ، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق . والإِضرابُ على قسمين : إبطالٍ وانتقالٍ ، فالأول نحو : ما قام زيدٌ بل عمروٌ ، ولا تَعْطِفُ « بل » إلا المفردات ، وتكونُ في الإِيجاب والنفي والنهي ، ويُزاد قبلها « لا » تأكيداً . واللَّعْنُ : الطَّرْدُ والبُعْدُ ، ومنه : شَأْوٌ لعين أي بعيد : قال الشمَّاخ .
607 ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه ... مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي : البعيد ، وكان وجهُ الكلام أن يقول : « مقام الذئب اللعين كالرجل » . والباءُ في « بكفرهم » للسببِ ، وهي متعلِّقَةٌ بلَعَنَهُمْ . وقال الفارسي : « النية به التقديمُ أي : وقالوا : قُلوبنا غلفٌ بسببِ كفرهم ، فتكونُ الباءُ متعلقةً بقالوا وتكونُ » بل لعنهم « جملةً معترضةً » ، وفيه بُعْدٌ ، ويجوز أن تكونَ حالاً من المفعولِ في « لَعَنهم » أي لعَنهم كافرين أي : مُلتبسين بالكفرِ كقوله : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } [ المائدة : 61 ] .
قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } في نصبِ « قليلاً » ستةُ أوجهٍ ، أحدُها وهو الأظهرُ : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : فإيماناً قليلاً يُؤمنون . الثاني : أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي : فيؤمنونه أي الإِيمانَ في حالِ قلَّته ، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره . الثالث : أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ ، أي : فزماناً قليلاً يؤمنون ، وهو كقوله : { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ } [ آل عمران : 72 ] . الرابع : أنه على إسقاطِ الخافض والأصل : فبقليل يؤمنون ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب ، ويُعْزَى لأبي عبيدة .

الخامس : أن يكونَ حالاً من فاعل « يؤمنون » ، أي فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون أي المؤمِنُ فيهم قليلٌ ، قال معناه ابنُ عباس وقتادة . إلا أن المهدوي قال : « ذهب قتادة إلى أنَّ المعنى : فقليلٌ منهم مَنْ يؤمن ، وأنكره النحويون ، وقالوا : لو كانَ كذلك لَلَزِمَ رفعُ » قليل « . قلت : لا يلزمَ الرفعُ مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لِما تقدَّم من أنَّ نصبَه على الحالِ وافٍ بهذا المعنى : و » ما « على هذه الأقوالِ كلها مزيدةٌ للتأكيد . السادس : أن تكونَ » ما « نافيةً أي : فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً ، ومثلُه : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 10 ] ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] ، وهذا قويٌ من جهة المعنى ، وإنما يَضْعُفُ شيئاً من جهةٍ تقدُّم ما في حَيِّزها عليها ، قاله أبو البقاء ، وإليه ذهب ابن الأنباري ، إلا أنَّ تقديمَ ما في حَيِّزها عليها لم يُجْزِه البصريون ، وأجازه الكوفيون . قال أبو البقاء : » ولا يَجُوز أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً ، لأن « قليلاً » يبقى بلا ناصبٍ « . يعني أنَّك إذا جَعَلْتَها مصدريةً كان ما بعدَها صلتَها ، ويكون المصدرُ مرفوعاً ب » قليلاً « على أنه فاعلٌ به فأين الناصبُ له؟ وهذا بخلافِ قولِه { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] فإنَّ » ما « هناك يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لأنَّ » قليلاً « منصوبٌ ب كان . وقال الزمخشري : » ويجوز أن تكونَ القِلَّةُ بمعنى العَدَم « . قال الشيخ : » وما ذهبَ إليه من أنَّ « قليلاً » يُراد به النفيُ فصحيحٌ ، لكنْ في غيرِ هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } لأنَّ « قليلاً » انتصبَ بالفعلِ المثبتِ فصار نظيرَ « قُمْتُ قليلاً » أي : قمتُ قياماً قليلاً ، ولا يَذْهَبُ ذاهبٌ إلى أنَّك إذا أَتَيْتَ بفعلٍ مُثْبَتٍ وجَعَلْتَ « قليلاً » منصوباً نعتاً لمصدرِ ذلك الفعلِ يكونُ المعنى في المُثْبَتِ الواقعِ على صفةٍ أو هيئةٍ انتفاءَ ذلك المُثْبَتِ رأساً وعدَمَ قوعِه بالكلِّية ، وإنما الذي نَقَل النحويون : أنَّه قد يُراد بالقلة النفيُ المَحْضُ في قولهم : « أقَلُّ رجلٍ يقول ذلك ، وقَلَّما يقوم زيد » ، وإذا تقرَّر هذا فَحَمْلُ القلةِ على النفي المَحْضِ هنا ليس بصحيحٍ « . انتهى . / قلت : ما قاله أبو القاسم الزمخشري رحمه الله من أنَّ معنى التقليلِ هنا النفيُ قد قال به الواحديُّ قبلَه ، فإنه قال : » أَيْ : لا قليلاُ ولا كثيراً ، كما تقول : قَلَّما يفعلُ كذا ، أي : ما يفعله أصلاً « .

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

قوله تعالى : { مِّنْ عِندِ الله } . . فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه في محلِّ رفع صفةً لكتاب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي كتابٌ كائنٌ من عندِ الله .
والثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ لابتداءِ غايةِ المجيء قالَه أبو البقاء . وقد ردَّ الشيخ هذا الوجهَ فقال : « لا يُقال إنه يُحْتمل أن يكونَ { مِّنْ عِندِ الله } متعلقاً بجاءهم ، فلا يكونُ صفةً ، للفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بما هو معمولٌ لغير أحدهِما » يعني أنه ليس معمولاً للموصوفِ ولا للصفةِ فَلا يُغْتَفَرُ الفصلُ به بينهما .
والجمهورُ على رفع « مُصَدِّقٌ » على أنه صفةٌ ثانيةٌ ، وعلى هذا يُقال : قد وُجِدَ صفتان إحداهُما صريحةٌ والأخرى مؤولةٌ ، وقد قُدِّمَتِ المؤولةُ ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك غيرُ ممتنع وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً . والذي حَسَّنَ تقديمَ غير الصريحة أنَّ الوصفَ بكينونَتِه مِنْ عندِ الله آكدُ ، وأنَّ وصفَه بالتصديقِ ناشىءٌ عن كونه من عندِ الله . وقرأ ابن أبي عبلة « مُصَدِّقاً » نصباً ، وكذلك هو في مصحفِ أُبيّ ، ونصبُه على الحال ، وفي صاحِبها قولان ، أحدُهما أنه « كتاب » . فإنْ قيل : كيفَ جاءت الحالُ مِن النكرة؟ فالجوابُ أنها قد قَرُبَتْ من المعرفة لتخصيصِها بالصفةِ وهي { مِّنْ عِندِ الله } كما تقدَّم . على أنَّ سيبويهِ أجاز مجيئَها منها بلا شرطٍ ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري . والثاني : أنه الضمير الذي تَحَمَّله الجارُّ والمجرورُ لوقوعِه صفةً ، والعاملُ فيها إمَّا : الظرفُ أو ما يتعلَّق به على الخلاف لمشهور ، ولهذا اعترَضَ بعضُهم على سيبويه في قوله :
608 لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ ... يَلُوح كأنَّه خِلَلُ
إنَّ « موحشاً » حالٌ من « طَلَل » ، وساغَ ذلك لتقدُّمِهِ ، فقال : لا حاجةَ إل ذلك ، إذ يمكنُ أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في قوله : « لميَّةَ » الواقعَ خبراً لطلل ، وللجوابِ ، عن ذلك موضعٌ آخرُ . واللام في { لِّمَا مَعَهُمْ } مقويةٌ لتعدية « مُصَدِّق » لكونِه فَرْعاً ، و « ما » موصولةٌ ، والظرفُ صلتُها .
قوله : { وَكَانُواْ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على « جاءهم » فيكونُ جوابُ « لَمَّا » مرتَّباً على المجيءِ والكونِ . والثاني : أن يكونَ حالاً أي : وقد كانُوا ، فيكونُ جوابُ « لَمَّا » مرتَّباً على المجيءِ بقيدٍ في مفعولِه وهم كونُهم يَسْتَفْتِحون . قال الشيخ : « وظاهرُ كلامِ الزمخشري أن » وكانوا « ليسَتْ معطوفةً على الفعلِ بعد » لَمَّا « ولا حالاً ، لأنه قدَّر جوابَ » لَمَّا « محذوفاً قبل تفسيره » يستفتحون « ، فَدلَّ على أنَّ قوله » وكانوا « جملةٌ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ من قولِه : ولَمَّا ، وهذا هو الثالثُ .
و { مِن قَبْلُ } متعلقٌ بيَسْتَفْتِحون ، والأصل ، من قبلِ ذلك ، فلمَّا قُطِعَ بُنِيَ على الضمِّ .

و « يَسْتَفْتحون » في محلِّ النصبِ على خبر « كان » . واختلف النحويون في جوابِ « لَمَّا » الأولى والثانية . فَذَهَبَ الأخفش والزجاج إلى أنَّ جوابَ الأولى محذوفٌ تقديرُه : ولَمَّا جاءهم كتابٌ كفروا به . وقَدَّره الزمخشري : « كَذَّبوا به واستهانوا بمجيئه » وهو حَسَنٌ . وذهب الفراء إلى أنَّ جوابَها الفاءُ الداخلةُ على لَمَّا ، وهو عندَه نظير { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] قال : « ولا يجوزُ أن تكونَ الفاءُ ناسقةً إذ لا يَصْلُح موضِعَهَا الواوُ » و « كفروا » جوابُ لَمَّا الثانية على القولَيِْن . وقال أبو البقاء : « في جواب لَمَّا الأولى وجهانِ ، أحدُهما : جوابُها » لَمَّا « الثانية وجوابُها . وهذا ضعيفٌ لأنَّ الفاءَ مع » لمَّا « الثانيةِ ، و » لمَّا « لا تُجَابُ بالفاءِ إلا أَنْ يُعْتقدَ زيادةُ الفاءِ على ما يُجيزه الأخفش » قلت : ولو قيل برأي الأخفش في زيادةِ الفاءِ من حيث الجملةُ فإنه لا يمكنُ ههنا لأنَّ « لَمَّا » لا يُجابُ بمثلِها ، لا يُقال : « لَمَّا جاء زيدٌ لَمَّا قَعَد أكرمتُك » على أن يكونَ « لَمَّا قعد » جوابَ « لمَّا جاء » . والله أعلم .
وذهب المبردُ إلى أنَّ « كفروا » جوابُ « لَمَّا » الأولى وكُرِّرت الثانيةُ لطولِ الكلام ، ويُفيد ذلك تقريرَ الذنبِ وتأكيدَه ، وهو حسنٌ ، لولا أنَّ الفاءَ تَمْنع من ذَلك . وقال أبو البقاء بعد أن حَكَى وجهاً أولَ : « والثاني : أنَّ » كفروا « جوابُ الأولى والثانية لأنَّ مقتضاهما واحدٌ . وقيل : الثانيةُ تكريرٌ فلم يُحْتَجْ إلى جواب » قلت : « قولُه : » وقيل الثانية تكريرٌ « هو ما حَكَيْتُ عن المبرد ، وهو في الحقيقة ليس مغايراً للوجه الذي ذَكَره قبله من كون » كفروا « جواباً لهما بل هو هو .
قوله : { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } جملةٌ من مبتدأ أو خبرٍ مُتَسَبِّبَةٌ عَمَّا تقدَّم . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعل ، وأتى ب » على « تنبيهاً على أنَّ اللعنةَ قد استعْلَتْ عليهم وشَمِلَتْهم . وقال : { عَلَى الكافرين } ولم يقُلْ » عليهم « إقامةً للظاهر مُقامَ المضمرِ لينبِّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفرُ .

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

قولُه تعالى : { بِئْسَمَا اشتروا } . . بئسَ : فعلٌ ماض غيرُ متصرفٍ ، معناه الذمُّ ، فلا يَعْمُل إلا في معرَّفٍ بأل ، أو فيما أُضيف إلى ما هما فيه ، أو في مضمرٍ مفسَّرٍ بنكرةٍ ، أو في « ما » على قول سيبويه . وفيه لغاتٍ : بَئِسَ بكسر العينِ وتخفيفٍ ، هذا الأصلُ ، وبِئِس بكسرِ الفاء إتباعاً للعينِ وتخفيفٍ ، هذا الإِتباعُ ، وهو أشهرُ الاستعمالاتِ ، ومثلُها « نِعْمَ » في جميع ما تقدَّم من الأحكام واللغات . وزعم الكوفيون أنهما اسمان ، مستدلِّين بدخول حرف الجر عليهما في قولهم : « ما هي بِنِعْمَ الولد نصرُها بكاءٌ وبِرُّها سَرِقة » ، « ونِعْمَ السيرُ على بِئس العَيْر » وقولِه :
609 صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ ... بنِعْمَ طيرٍ وشبابٍ فاخِرِ
وقد خَرَّجه البصريون على حَذْفِ موصوف ، قامَتْ صفتُه مَقَامَه تقديرُه : ما هي بولدٍ مقولٍ فيه نِعْم الولد ، ولها أحكامٌ كثيرة ، ولا بُدَّ بعدَها من مخصوصٍ بالمدحِ أو الذمِّ ، وقد يُحْذَفُ لقرينةٍ ، هذا حكمُ بِئْسَ .
أمَّا ، « ما » الواقعةُ بعدَها كهذه الآيةِ : فاختلف النحويون فيها اختلافاً كثيراً ، واضطربت النقولُ عنهم اضطراباً شديداً ، فاختلفوا : هَلْ لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ فذهبَ الفراء إلى أنها مع « بِئْسَ » شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ « حَبَّذا » نَقَلَه ابنُ عطية ، ونَقَلَ عنه المهدوي أنه يُجَوِّز أن تكونَ « ما » مع بئسَ بمنزلة كُلَّما ، فظاهرُ هذين النقلين أنها لا محلَّ لها . وذهب الجمهورُ إلى أنَّ لها مَحَلاً ، ثم اختلفوا : / محَلُّها رفعٌ أو نصبٌ؟ فذهب الأخفشُ إلى أنها في محلِّ نصبٍ على التمييزِ والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ صفةً لها ، وفاعلُ بئس مضمرٌ تُفَسِّرُه « ما » ، والمخصوصُ بالذمِّ هو قولُه : { أَن يَكْفُرُواْ } لأنه في تأويلِ مصدرٍ ، والتقدير : بِئْسَ هو شيئاً اشتَروا به كفرُهم ، وبه قال الفارسي في أحدِ قوليه ، واختاره الزمخشري ، ويجوزُ على هذا أن يكونَ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاًَ ، و « اشتَرَوا » صفةً له في محلِّ رفعٍ تقديرُه : بئس شيئاً شيءٌ أو كفرٌ اشتروا به ، كقولِه .
610 لنِعْمَ الفتى أَضْحَى بأَكْنافِ حَائِل ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : فتىً أَضْحى ، و { أَن يَكْفُرُواْ } بدلٌ من ذلك المحذوفِ ، أو خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أَنْ يكفروا . وذهبَ الكسائي إلى أنَّ « ما » منصوبةُ المحلِّ أيضاً ، لكنه قَدَّر بعدها « ما » أخرى موصولةً بمعنى الذي ، وجعل الجملةَ مِنْ قولِه « اشتَرَوا » صلتها ، و « ما » هذه الموصولةُ هي المخصوصُ بالذمِّ ، والتقديرُ : بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم ، فلا محلَّ ل « اشتروا » على هذا ، ويكونُ { أَن يَكْفُرُواْ } على هذا القولِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ كما تقدَّم ، فتلخَّص في الجملة الواقعةِ بعد « ما » على القولِ بنصبِها ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها صفةٌ لها فتكونُ في محلِّ نصبٍ أو صلةٌ ل « ما » المحذوفةِ فلا محلَّ لها أو صفةٌ للمخصوصِ بالذم فتكونُ في محلِّ رفعٍ .

وذهب سيبويه إلى أَنَّ موضعَها رفعٌ على أنَّها فاعلُ بئس ، فقال سيبويه : هي معرفةٌ تامةٌ ، التقديرُ : بئس الشيء ، ُ والمخصوصُ بالذمِّ على هذا محذوفٌ أي شيءٌ اشتَرَوا به أنفَسَهم ، وعُزي هذا القولُ أيضاً للكسائي . وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي والجملةُ بعْدَها صلتُها ، ونقلَه ابن عطية عن سيبويه ، وهو أحدُ قَوْلَيْ الفارسي ، والتقدير : بئسَ الذي اشتروا به أنفسَهم أَنْ يكفُروا ، فأَنْ يكفروا هو المخصوصُ بالذمِّ . قال الشيخ : « وما نَقَلَه ابنُ عطية عن سيبويه وَهْمٌ عليه » . ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضاً أن « ما » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، والتقديرُ : بئسَ اشتراؤُهم ، فتكونُ « ما » وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ . قال ابنُ عطية : « وهذا معترضٌ بأنَّ » بِئْسَ « لا تَدْخُل على اسمٍ معيَّنٍ يتعرَّفُ بالإِضافةِ للضمير » . قال الشيخ : « وهذا لا يَلْزَم إلا إذا نَصَّ أنه مرفوعُ بئس ، أمَّا إذا جعله المخصوصَ بالذمِّ وجعل فاعلَ » بئس « مضمراً والتمييزُ محذوفٌ لفهم المعنى ، والتقدير : بئسَ اشتراءً اشتراؤُهم فلا يَلْزَمُ الاعتراضُ » قلت : وبهذا أَعْني بجَعْلِ فاعلِ بئسَ مضمراً فيها جَوَّز أبو البقاء في « ما » أَنْ تكونَ مصدريةً ، فإنه قال : « والرابعُ أن تكونَ مصدريةً أي : بئسَ شِراؤُهم ، وفاعلُ بئسَ على هذا مضمرٌ لأنَّ المصدر ههنا مخصوصٌ ليس بجنسٍ » يعني فلا يكونُ فاعلاً ، لكن يُبْطِلُ هذا القولَ عَوْدُ الضمير في « به » على « ما » والمصدريةُ لا يعودُ عليها ، لأنها حرفٌ عند الجمهور ، وتقديرُ أَدِلَّةِ كلِّ فريق مذكورٍ في المُطَوَّلات . فهذه نهايةُ القولِ في « بئسما » و « نِعِمَّا » واللهُ أعلم .
قوله : { أَن يَكْفُرُواْ } قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فتكونُ الأوجهُ الثلاثة : إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه ، ولا حاجةَ إلى الرابطِ ، لأنَّ العمومَ قائمٌ مَقامَه إذ الألفُ واللامُ في فاعلِ نِعْم وبئسَ للجنسِ ، أو لأنَّ الجملةَ نفسُ المبتدأ ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف ، وتقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ بدلاً أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقرَّر وتحرَّر . وأجاز الفراء أن يكونَ في محلِّ جَرِّ بدلاً من الضميرِ في « به » إذا جَعَلْتَ « ما » تامَّة .
قوله : { بِمَآ أنَزَلَ الله } متعلِّق بيكفُروا ، وقد تقدَّم أنَّ « كفر » يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى ، و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : أَنْزله ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً ، وكذلك جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بإنزالِه يعني بالمُنَزَّل .

قوله : { بَغْيَاً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مفعولٌ مِنْ أَجْله وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ ، وفي الناصبِ له قولان ، أحدُهما وهو الظاهر أنه « يكفروا » أي علةُ كفرِهم البغيُ . والثاني أنه { اشتروا } ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشري ، فإنه قال : « وهو علةُ { اشتروا } . والثاني من الأوجهِ الثلاثة : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْيَاً . والثالث : أنه في موضعِ حالٍ ، وفي صاحِبها القولان المتقدَّمان : إمَّا فاعلُ { اشتروا } وإمَّا فاعلُ { يَكْفُرُواْ } ، تقديرُه : اشْتَرَوا باغِين ، أو يَكْفُروا باغِين .
والبَغْيُ : أصلُه الفَسادُ مِنْ قَوْلِهم : بَغَى الجُرْحُ أي فَسَدَ قاله الأصمعيْ وقيل : هو شِدَّةُ الطلبِ ، ومنه قولُه تعالى : { مَا نَبْغِي } [ يوسف : 65 ] ، وقال الراجز :
611 أُنْشِدُ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ ... قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ
ومنه » البَغِيُّ « لشدة طلبها له .
قوله { أَن يُنَزِّلُ الله } فيه قولان ، أحدُهما : أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له » بَغْياً « أي : عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمدٍ عليه السلامُ . والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ : بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ ، أي : حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ ، فيجيءُ فيه الخلافُ المشهورُ : أهي في موضعِ نصبٍ أو في موضعِ جرِ؟ والثالثُ : أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من » ما « في قوله : { بِمَآ أنَزَلَ الله } بدلَ اشتمال ، أي : بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس :
612 أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميعَ المضارع من » أَنْزَل « مخففاً إلا ما وقع الإِجماع على تشديدِه في الحجرِ { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ } [ الحجر : 21 ] ، وقد خالفا هذا الأصلَ : أمَّا أبو عمرو فإنه شدَّد { على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } [ الآية : 37 ] / في الأنعام ، وأمَّا ابن كثير فإنه شَدَّد في الإِسراء ، { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن } [ الإسراء : 82 ] { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً } [ الإسراء : 93 ] والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائيَّ فإنهما خالفا هذا الأصلَ فخَفَّفا : { وَيُنَزِّلُ الغيث } [ الآية : 34 ] آخر لقمان ، { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث } [ الآية : 28 ] في الشورى . والهمزةُ والتضعيفُ للتعديَةِ ، وقد تقدَّم : هل بينهما فرقٌ؟ وتحقيقُ كلٍّ من القولين ، وقد ذَكَر القُرَّاءُ مناسباتٍ للإِجماعِ على التشديد في ذلك الموضعِ ومخالفةِ كلِّ واحدٍ أصلَه لماذا؟ بما يطول ذكره ، والأظهرُ من ذلك كلِّه أنه جَمْعٌ بين اللغات .
قوله : { مِن فَضْلِهِ } : » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ » يُنَزِّل « أي : أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب . والثاني : أنَّ » مِنْ « زائدةٌ ، وهو رأيُ الأخفش ، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له ، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي : أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله .
قوله { على مَن يَشَآءُ } متعلقٌ بيُنَزِّلَ . و » مَنْ « يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ ، والتقديرُ : على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجويزِه في » مَنْ « أن تكونَ موصوفةً أو موصولةً » ومفعولُ « يشاء » محذوفٌ أي : يَشَاءُ نزولَه عليه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي « انتهى .

وقد عَرَفْت أن العائدَ المجرورَ لا يُحْذَفُ إلا بشروطٍ وليسَتْ موجودةٌ هنا فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ .
قوله : { مِنْ عِبَادِهِ } فيه قولان : أحدُهما : أنَّه حالٌ من الضميرِ المحذوفِ الذي هو عائدٌ على الموصولِ أو الموصوفِ ، والإِضافةُ تقتضي التشريفَ . والثاني : أَنْ يكونَ صفةً ل « مَنْ » بعدَ صفةٍ على القولِ بكونِها نكرةً ، قاله أبو البقاء . وهو ضعيفٌ لأنَّ البداءة بالجارِّ والمجرورِ على الجملةِ في باب النعتِ عند اجتماعهما أَوْلَى لكونِه أقربَ إلى المفردِ ، فهو في محلِّ نصبٍ على الأولِ وجَرٍّ على الثاني ، وفي كِلا القولين يتعلَّق بمحذوفٍ وجوباً لِما عَرَفْتَ .
قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } الباءُ للحال ، أي : رَجَعوا ملتبسين بغضبٍ أي مغضوباً عليهم وقد تقدم ذلك . قوله { على غَضَبٍ } في محل جر لأنه صفة لقوله « بغضب » أي : كائن على غضب أي بغضبٍ مترادفٍ . وهل الغضبانِ مختلفانِ لاختلافِ سببهما ، فالأولُ لعبادةِ أسلافِهم العجلَ والثاني لكفرِهم بمحمدٍ السلام ، أو الأولُ لكفرِهم بعيسى والثاني لكفرِهم بمحمدٍ صلى الله وسلم عليهما ، أو هما شيءٌ واحدٌ وذُكِرا تشديداً للحال وتأكيداً؟ خلافٌ مشهور .
قوله : { مُّهِينٌ } صفة لعذاب ، وأصلُه : « مُهْوِن » لأنه من الهَوان وهو اسمُ فاعلٍ من أَهان يُهين إهانةً ، مثل أَقامَ يُقيم إقامةً ، فنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ على الساكن قبلَها ، فَسَكَنَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فَقُلِبَتْ ياءً . والإِهانةُ : الإِذلالُ والخِزْيُ ، وقال : « وللكافرين » ولم يَقُلْ : « ولهم » تنبيهاً على العلةِ المقتضيةِ للعذابِ المُهينِ .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

قوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } : يجوزُ في هذه الجملةِ وجهانِ ، أحدُهما : أَنْ تكونَ استئنافيةً استؤنِفَتْ للإِخبارِ بأنَّهم يكفرُون بما عدا التوراةَ فلا محلَّ لها من الإِعراب . والثاني أن تكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يكفرون ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها « قالوا » أي قالوا : نؤمنُ حالَ كونِهم كافرين بكذا ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيها « نؤمن » ، قال أبو البقاء : « إذ لو كان كذلك لكان لفظُ الحال ونكفر أو ونحن نكفر » يعني فكان يجبُ المطابَقةُ . ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لِما تقدَّم من أن المضارعَ المُثْبَتَ لا يقترن بالواوِ وهو نظيرُ قوله :
613 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا
وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه : { بِمَا أَنْزَلَ } وأُقيم المفعولُ مُقامَه للعلم به ، إذ لا يُنَزِّلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه : { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } .
قوله : { بِمَا وَرَآءَهُ } متعلَّق بيَكْفرون ، وما موصولةٌ ، والظرفُ صلتُها ، فمتعلَّقه فعلٌ ليس إلا . والهاءُ في « وراءه » تعودُ على « ما » في قوله : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ } . ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ ، وهو ظرفُ مكانٍ ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام ، فهو من الأَضْداد ، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى « سِوَى » التي بمعنى « غَيْر » ، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى « بعد » . وفي همزه قولان ، أحدُهما : أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم : وُرَيْئَة . والثاني : أنها من ياء لقولهم : تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ . ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤُه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو « واو » اسمِ حَرْفِ الهجاء ، وحكمُه حكمُ قبلُ وبعدُ في كونِه إذا أُضيف أُعْرِبَ ، وإذا قُطِعَ بُني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر :
614 إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يَكُنْ ... لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وراءُ
وفي الحديثِ عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : « كنتُ خليلاً مِنْ وراءُ وراءُ » ، وثبوتُ الهاء في مصغَّرِها شاذٌ ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تَثْبُتُ الهاءُ في مصغَّره إلا في لفظتين شَذَّتا وهما : وُرَيْئَة وقُدَيْدِيمة : تصغير : وراء وقُدَّام . قال ابن عصفور : « لأنَّهما لم يتصرَّفا فلو لم يُؤَنَّثا في التصغير لَتُوُهِّمَ تذكيرهُما » .
قوله : { وَهُوَ الحق } مبتدأٌ وخبر ، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه : « ويَكفرون » وصاحبُها فاعلُ يكفرون . وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العاملُ الاستقرارَ الذي في قولِه { بِمَا وَرَآءَهُ } أي : بالذي استقر وراءَه وهو الحقُّ .
قوله : { مُصَدِّقاً } حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه { وَهُوَ الحق } قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ : إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو :

{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] ، وإمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ مضمونَ جملةٍ . فإن كانَ الثاني التُزِم إضمارُ عاملِها وتأخيرها عن الجملة ، ومثلُه ما أنشدَ/ سيبويه :
615 أنا ابنُ دارةُ مَعْروفاً بها نَسَبي ... وهَلْ بدارةَ لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ
والتقديرُ : وهو الحقُّ أَحُقُّه مصدقاً ، وابنُ دارَة أُعْرَفُ معروفاً ، هذا تقديرُ كلامِ النحويين . وأمّا أبو البقاء فإنه قال : « مصدقاً حالٌ مركِّدةٌ ، والعاملُ فيها ما في » الحقّ « من معنى الفعل إذ المعنى : وهو ثابِتٌ مصدِّقاً ، وصاحب الحالِ الضميرُ المستترُ في » الحقّ « عند قومٍ ، وعند آخرين صاحبُ الحالِ ضميرٌ دَلَّ عليه الكلامُ ، و » الحقّ « مصدرٌ لا يتحَمَّلُ الضميرَ على حَسَبِ تحمُّلِ اسمِ الفاعلِ له عندهم ، فقولُه » عند آخرين « هذا هو الذي قَدَّمْتُه أوَّلاً وهو الصواب .
قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : إنْ كنتم آمنتم بما أُنزِلَ عليكم فَلِمَ قَتَلتم الأنبياءَ؟ وهذا تكذيبٌ لهم ، لأن الإِيمانَ بالتوراةِ منافٍ لقتلِ أَشْرَفِ خَلْقِه . و » لِمَ « جارٌّ ومجرورٌ ، اللامُ حرفٌ جرِ وما استفهاميةٌ في محلِّ جَرٍّ أي : لأي شيء؟ ولكنْ حُذِفَتْ ألِفُها فَرْقَاً بينَها وبين » ما « الخبريةِ . وقد تُحْمَلُ الاستفهاميةُ على الخبريةِ فَتَثْبُتُ أَلفُها ، قالَ الشاعر :
616 على ما قامَ يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ
وهذا ينبغي أَنْ يُخَصَّ بالضرورةِ كما نصَّ عليه بعضُهم ، والزمخشري يُجيز ذلك ، ويُخَرِّج عليه بعضَ آي القرآن ، كما قد تُحْمَلُ الخبريةُ على الاستفهاميةِ في الحذفِ في قولِهم : اصنعْ بِمَ شِئْتَ ، وهذا لمجردِ الشَّبَهِ اللفظيِّ . وإذا وُقف على » ما « الاستفهاميةِ المجرورة : فإنْ كانَتْ مجرورةً باسمٍ وَجَبَ لَحاقُ هاءِ السكتِ نحو : مَجيء مَهْ ، وإن كانَتْ مجرورةً بحرْفٍ فالاختيارُ اللَّحاقُ . والفرقُ أنَّ الحرفَ يمتزجُ بما يَدْخُلُ عليه فَتَقْوَى به الاستفهاميةُ بخِلافِ الاسمِ المضافِ إليها فإنه في نيةِ الانفصالِ ، وهذا الوقفُ إنما يجوز ابتلاءً أو لقَطْعِ نفسٍ ، ولا جَرمَ أنَّ بعضَهم مَنَع الوقفَ على هذا النحوِ ، قال : » لأنه إنْ وُقف بغيرِ هاءٍ كان خطأً لنقصانِ الحَرْفِ ، وإنْ وُقِفَ بهاءٍ خالفَ السوادَ « ، لكن البزي قد وقف بالهاء ، ومثلُ ذلك لا يُعَدُّ مخالفةً للسواد ، ألا ترى إلى إثباتِهم بعضَ ياءاتِ الزوائدِ . والجارُّ متعلقٌ بقولِهِ : » تقتلون « ، ولكنه قُدِّمَ عليه وجوباً لأنَّ مجرورَه له صدُر الكلامِ ، والفاءُ وما بعدها من » تَقْتُلون « في محلِّ جزم ، وتَقتلون وإن كان بصيغةِ المضارعِ فهو في معنى الماضي لفَهْمِ المعنى ، وأيضاً فمعه قولُه » من قبل « ، وجاز إسنادُ القتلِ إليهم وإنْ لم يَتَعاطَوْه لأنهم لَمَّا كانوا راضِينَ بفعلِ أسلافِهم جُعِلوا كأنَّهم فَعَلوا هم أنفسهم .
قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } في » إنْ « قولان أحدهما : أنها شرطية وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : إنْ كنتُمْ مؤمنينَ فلِمَ فَعَلْتُم ذلك ، ويكونُ الشرط وجوابُه قد كُرِّر مرتين ، فَحُذِفَ الشرطُ من الجملةِ الأولى وبقي جوابُه وهو : فَلِمَ تقتلون ، وحُذِفَ الجوابُ من الثانيةِ وبقي شرطُه ، فقد حُذِفَ مِنْ كلِّ واحدةٍ ما أُثْبت في الأخرى . وقال ابن عطية : » جوابُها متقدِّمٌ ، وهو قوله : فَلِمَ « وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الكوفيين وأبي زيد . والثاني : أَنَّ » إنْ « نافيةٌ بمعنى ما ، أي : ما كنتم مؤمنين لمنافاةِ ما صَدَر منكم الإِيمانَ .

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

قوله تعالى : { بالبينات } : يجوز فيه وجهان ، أحدُهما أن يكونَ حالاً من « موسى » ، أي : جاءكم ذا بيناتٍ وحُجَجٍ أو ومعه البيناتُ . والثاني : أن يكونَ مفعولاً أي : بسبب إقامةِ البيناتِ ، وما بعدَه من الجملِ قد تقدَّم مِثْلُه فلا حاجةَ إلى تكريرِه .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

قوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه : « قالوا سَمِعْنا » ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل « قالوا » ، أي : قالوا ذلك وقد أُشْربوا ولا بدَّ من إضمار « قد » لِيَقْرُبَ الماضي إلى الحالِ خلفاً للكوفيين ، حيثُ قالوا : لا يُحْتاجُ إليها . ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لمجردِ الإِخبارِ بذلك ، واستضعَفَه أبو البقاء ، قال : « لأنَّه قد قالَ بعدَ ذلك : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ } ، فهو جوابُ قولِهم : » سَمِعْنا وعَصَيْنا « ، فالأَوْلَى ألاَّ يكونَ بينهما أجنبيٌ » . والواوُ في « أُشْرِبوا » هي المفعولُ الأولُ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو « العِجْلَ » لأنَّ « شَرِبَ » يتعدَّى بنفسه فَأَكْسَبَتْه الهمزةُ مفعولاً آخرَ ، ولا بد من حَذْفِ مضافَيْنِ قبلَ « العِجْل » والتقديرُ : وأُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العِجْلِ . وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك ، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل . والإِشرابُ : مخَالَطَةُ المائع بالجامِدِ ، ثم اتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو : أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً . والمعنى : أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه ، كما داخَل الصبغُ الثوبَ . ومنه :
617 إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ ... فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا
وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل ، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء بخلاف الأكل ، فإنه مجاوزٌ ، ومنه في المعنى :
618 جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال بعضُهم :
619 تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي ... فبادِيه مع الخافي يَسيرُ
تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ ... ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها ... أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ
وقيل : الإشرابُ هنا حقيقةٌ ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه ، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه ، وهذا وإنْ كان قال به السُّدِّي وابن جريج وغيرُهما فَيَرُدُّه قولُه : « في قُلوبهم » .
قوله : « بكُفْرهم » فيه وجهان ، أظهرُهما : / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [ 41 / ب ] ب « أُشْرِبوا » ، أي : أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق . والثاني : أنها بمعنى « مع » ، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي : أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم . والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ ، أي : بأَنْ كفروا . { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ } كقولِه : { بِئْسَمَا اشتروا } [ البقرة : 90 ] فَلْيُلْتفت إليه .
قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يجوزُ فيه الوجهان السابقان من كونِها نافيةً وشرطيةً ، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : « فبِئْسَما يَأْمرُكم » . وقيلَ : تقديرُه : فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ ، وأَسْندَ الإِيمانَ إليهم تَهَكُّماً بهم ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ صفةٍ أي : إيمانُكم الباطلُ ، أو حَذْفِ مضافٍ أي : صاحبُ إيمانكم . وقرأ الحسن : « بِهُو إيمانُكُمْ » بضم الهاءِ مع الواو وقد تقدَّم أنِّها الأصل .

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)

قوله تعالى : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً } : شَرْطٌ جوابُه : « فَتَمَنَّوُا » و « الدارُ » اسمُ كان وهي الجنةُ . والأَوْلَى أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ ، أي : نَعيمُ الدارِ ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن . واختلفوا في خبر « كان » على ثلاثةِ أقوالٍ ، أحدُها : أنه « خالصةً » فتكون « عند » ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في « لكم » ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِن « الدار » والعاملُ فيه « كان » أو الاستقرارُ . وأمَّا « لكم » فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه . قال أبو البقاء « ويجوز أن تكونَ للتبيينِ فيكونَ موضعُها بعد » خالصةً « أي خالصةً لكم فَتَتَعَلَّقَ بنفسِ » خالصةً « . وهذا فيه نظرٌ ، لأنه متى كانت للبيانِ تعلَّقَتْ بمحذوفٍ تقديرُه : أعني لكم نحو : سُقْياً لك ، تقديرُه : أعني بهذا الدعاءِ لك . وقد صَرَّح غيرُه في هذا الموضعِ بأنها للبيانِ وأنها متعلقةٌ حينئذٍ بمحذوف كما ذكرت . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل » خالصةً « في الأصل قُدِّم عليها فصار حالاً منها فيتعلَّقَ بمحذوفٍ .
الثاني : أنَّ الخبر » لكم « فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ويُنْصَبُ » خالصةً « حينئذٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها : إمَّا » كان « أو الاستقرارُ في » لكم « و » عند « منصوبٌ بالاستقرارِ أيضاً .
الثالث : أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ ، و » خالصةً « حالٌ أيضاً ، والعاملُ فيها : إمَّا » كانَ « أو الاسقرارُ ، وكذلك » لكم « . وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا : » لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به « . وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء . واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال : » وسَوَّغَ أن يكونَ « عند » خبرَ كان « لكم » ، يعني لفظَ « لكم » سَوَّغَ وقوعَ « عند » خبراً ، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ ، ونظيرُه قولُه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، لولا « له » لم يَصِحَّ أن يكونَ « كفواً » خبراً . و { مِّن دُونِ الناس } في محلِّ النصبِ ب « خالصةً » لأنَّك تقولُ : « خَلُصَ كذا مِنْ كذا » .
وقرأ الجمهورُ : « َتَمَنَّوُا الموتَ » بضمِّ الواو ، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً ، واختلاسُ الضمة . وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو « لَوِ استطعنا » . و « إنْ كنتم » كقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } وقد تقدَّمَ .

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

قولُه تعالى : { أَبَداً } . . منصوبٌ بَيَتَمَنَّوْه ، وهو ظرفُ زمانٍ يقعُ للقليلِ والكثيرِ ، ماضياً كانَ أو مستقبلاً ، تقول : ما فَعَلْتُه أبداً ، وقال الراغب : « هو عبارةٌ عن مدةِ الزمانِ الممتدِّ الذي لا يَتَجزَّأ كما يتجزَّأُ الزمانُ ، وذلك أنه يقال : زمانَ كذا ولا يُقال : أبدَ كذا ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا ألاَّ يُثَنَّى ولا يُجْمَعَ ، وقد قالوا : آباد فجَمَعوه لاختلافِ أنواعِه ، وقيل : آباد لغةٌ مُوَلَّدَةٌ ، ومجيئُه بعد » لَنْ « يَدُلُّ على أن نَفْيَها لا يقتضي التأبيدَ ، وقد تقدَّم ذلك ، ودَعْوى التأكيدِ فيه بعيدةٌ » . وقال هنا : « ولن يَتَمَنَّوْه » فنَفى بلن وفي الجمعة ب « لا » قال صاحب المنتخب : « لأنَّ دَعْواهم هنا أعظمُ مِنْ دعواهُمْ هناك لأنَّ السعادةَ القُصْوى فوق مرتبةِ الولايةِ ، لأنَّ الثانيةَ تُراد لحصولِ الأولى ، والنفيُ ب » لن « أَبْلَغُ مِن النفي بِ » لا « .
قوله : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيتمنَّوْه ، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ . و » ما « يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : كونُها موصولةً بمعنى الذي . والثاني : نكرةٌ موصوفةٌ والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي : بما قَدَّمَتْه ، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني . والثالث : أنَّها مصدريَّةٌ أي : بتَقْدِمَةِ أيديهِم . ومفعولُ » قَدَّمَتْ « محذوفٌ أي : بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه .

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

قولُه تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } . . هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه : واللهِ لَتَجِدَنَّهُم . و « وجَدَ » هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ ، والثاني « أَحْرَصَ » ، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ ك « عَلِمَ » في المعنى نحو : { وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ الأعراف : 10 ] . ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ ، وينتصِبُ « أَحْرَصَ » على الحالِ : إمَّا على رَأْي مَنْ لا يشترطُ التنكيرَ في الحال ، وإمَّا على رَأْي مَنْ يرى أنَّ إضافةَ « أَفْعَل » إلى معرفةٍ فجاءَتْ على أحدِ الجائِزَيْن ، أعني عَدَمَ المطابقةِ ، وذلك أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ على نيَّةِ « مِنْ » جازَ فيها وجهان : المطابقةُ لِما قبلَها نحو : الزيدان أَفْضَلا الرجالِ ، والزيدون أفاضل الرجال ، وهند فُضْلى النساء . والهنودُ فُضْلَياتُ النساءِ ، ومنه قولُه : « أكابِرَ مجرميها » ، وعدمُها نحو : الزيدون أَفْضَلُ الرجالِ ، وعليه هذه الآيةُ ، وكلا الوجهين فصيحٌ ، خلافاً لابن السراج حيث ادَّعى تعيُّنَ الإفرادِ ، ولأبي منصور الجواليقي حيث زَعَم أنَّ المطابقةَ أفصحُ . وإذا أُضيفت لمعرفةٍ لَزِمَ أن تكونَ بعضَها ، ولذلك مَنَع النحْويون : « يوسُف أَحْسَنُ إخوته » على معنى التفضيلِ ، وتأوَّلوا ما يُوهِمُ غيرَه نحو : « الناقصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان » بمعنى العادِلان فيهم ، وأمَّا :
620 يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ... فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ ، وسَوَّغَ ذلك / كَوْنُ « أَظْلَمَ » الثاني مقحماً كأنه قال : « أَظْلَمُنا » . وأمَّا إذا أُضيفَ لنكرةِ فقد سَبَقَ حكمُها عند قولِه : « أوَّل كافر » .
قوله : { على حَيَاةٍ } متعلِّق ب « أَحْرَصَ » ، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى ب « على » ، تقول : حَرَصْتُ عليه . والتنكيرُ في « حياة » تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ « على الحياة » بالتعريفِ . وقيل : إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : على طُولِ حياةٍ ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ ، بل يكونُ المعنى : أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ . وإنْ قُلْتَ : فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك . وأصلُ حياة : حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً .
قولُه : { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه ، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه حُمِل على المعنى ، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس : أَحْرَصَ من الناسِ ، فكأنه قيل : أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا . الثاني : أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه ، والتقديرُ : وأحرصَ من الذين أشركوا ، وعلى ما تقرَّر من كونِ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر « مِنْ » لأنَّ « أَحرصَ » جَرى على اليهودِ ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ « مِنْ » لكانَ معطوفاً على الناس ، فيكونُ في المعنى : ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه ، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون الأصنامَ ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ إنه يَغْتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائلِ ، فحينئذٍ لو لم يُؤْتَ بمِنْ لكان جائزاً .

الثالث : أنَّ في الكلام حَذْفاً وتقديماً وتأخيراً ، والتقديرُ : ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرصَ الناسِ ، فيكونُ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } صفةً لمحذوفٍ ، ذلك المحذوفُ معطوفٌ على الضمير في « لتجدنَّهم » ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى ، ولكنه يَنْبُو عنه التركيبُ لا سيما على قولِ مَنْ يَخُصُّ التقديمَ والتأخيرَ بالضرورةِ . وعلى القولِ بانقطاعهِ من « أَفْعل » يكونُ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } خبراً مقدَّماً . ، و « يَوَدُّ أحدُهم » صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه : ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم ، وهو من الأماكن المطَّردِ فيها حَذْفُ الموصوفِ بِجُمْلَتِه ، كقولِه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، وقوله : « مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام » . والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ اليهودِ كما تقدم . وأجاز الزمخشري أن يكونَ من اليهود لأنهم قالوا : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، فيكونَ إخباراً بأنَّ مِنْ هذه الطائفة التي اشتدَّ حرصُها على الحياةِ مَنْ يَوَدُّ لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ ، ويكون من وقوعِ الظاهِرِ المُشْعِر بالغَلَبة موقعَ المضمرِ ، إذا التقديرُ : ومنهم قومٌ يَوَدُّ أحدُهم . وقد ظَهَرَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الكلامَ مِن باب عَطْفِ المفرداتِ على القولِ بدخول { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } تحت أَفْعَل ، ومن بابِ عَطْفِ الجمل على القولِ بالانقطاعِ .
قوله : « يَوَدُّ أحدُهم » هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم ، فإنْ قيل بأنَّ { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } داخلٌ تحتَ « أَفْعَلَ » كان في « يَوَدُّ » خمسةُ أوجهٍ أحدُها : أنه حالٌ من الضمير في « لَتَجِدَنَّهم » أي : لتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم . الثاني : أنه حالٌ من الذين أشركوا فيكونُ العاملُ فيه « أَحْرَصَ » المحذوف . الثالث : أنه حالٌ من فاعلِ « أشْركوا » . الرابع : أنه مستأنفٌ استؤنفَ للإِخبار بتبيينِ حالِ أمرِهم في ازديادِ حِرْصِهِم على الحياةِ . الخامسُ وهو قولُ الكوفيين : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ ، ذلك الموصولُ صفةٌ للذين أشركوا ، والتقدير : ومن الذين أشركوا الذين يودُّ أحدُهم . وإنْ قيلَ بالانقطاع فيكونُ في محلِّ رفعٍ ، لأنه صفةٌ لمبتدأٍ محذوفٍ كما تقدَّم . و « أحدٌ » هنا بمعنى واحد ، وهمزتُه بدلٌ من واو ، وليس هو « أحد » المستعملَ في النفي فإنَّ ذاك همزتُه أصلٌ بنفسِها ، ولا يُستعملُ في الإِيجابِ المَحْض .

و « يودُّ » مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي ، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ بخلافٍ « يَعِد » وبابه ، وحكى الكسائي في « ودَدْت » بالفتحِ . قال بعضُهم : « فعلى هذا يُقال يَوِدُّ بكسر الواو » . والوَدادة التمني .
قوله : « لو يُعَمَّر » في « لو » هذه ثلاثةُ أقوال ، أحدُها - وهو الجاري على قواعِد نحاةِ البصرة - : أنها حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره ، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ « يَوَدُّ » عليه ، وحُذِفَ مفعولُ « يَوَدُّ » لدلالةِ « لو يُعَمَّرَ » عليه ، والتقديرُ : يَوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك ، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلَّ عليه الآخرُ ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب . والثاني - وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء - : أنها مصدرية بمنزلة أَنْ الناصبةِ ، فلا يكونُ لها جوابٌ ، ويَنْسَبِكُ منها وما بعدَها مصدرٌ يكونُ مفعولاً ليَوَدُّ ، والتقدير : يَوَدُّ أحدُهم تعميرَه ألفَ سنةٍ . واستدلَّ أبو البقاء بأنَّ الامتناعية معناها في الماضي ، وهذه يَلْزَمُها المستقبل ك « أَنْ » ، وبأنَّ « يودُّ » / يتعدَّى لمفعول وليس مِمَّا يُعَلَّق ، وبأنَّ « أَن » قد وَقَعَتْ بعد يَوَدُّ في قوله : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } [ البقرة : 266 ] وهو كثيرٌ ، وموضعُ الردِّ عليه غيرُ الكتابِ . الثالث - وإليه نحا الزمخشري - : أن يكونَ معناها التمني فلا تحتاجُ إلى جوابٍ لأنها في قوة : يا ليتني أُعَمَّر ، وتكونَ الجملةُ من لَوْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به على طريقِ الحكايةَ بيَوَدُّ ، إجراءً له مُجْرى القول . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف اتصل لو يُعَمَّر بَيَودُّ أحدُهم؟ قُلْتُ : هي حكايةٌ لوَدَادَتِهم ، و » لو « في معنى التمني ، وكان القياسُ : » لو أُعَمَّر « إلا أنَّه جرى على لفظِ الغَيْبَة لقوله : » يَوَدُّ أحدُهم « ، كقولِك : حَلَفَ بالله ليَفْعَلَنَّ انتهى » . وقد تقدَّم شرحُه ، إلا قولَه : « وكان القياسُ لو أُعَمَّر ، يعني بذلك أنه كانَ مِنْ حَقِّه أَنْ يأتيَ بالفعلِ مُسْنَداً للمتكلم وحدَه وإنما أَجْرَى » يَوَدُّ « مُجْرى القولِ لأنَّ » يَوَدُّ « فعلٌ قَلبي والقولُ يَنْشَأُ عن الأمورِ القلبيَّةِ » .
و « ألفَ سَنَةٍ » منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر ، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ . وفي « سَنَة » قولان « أحدُهما : أنَّ أصلَها : سَنَوة لقولهم : سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ . والثاني : أنها من سَنَهَة لقولِهم : سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ ، واللغتان ثابتتان عن العربِ كما ذَكَرْتُ لك .
قوله : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب } في هذا الضميرِ خمسةُ أَقْوالٍ ، أحدُها : أنه عائدٌ على » أحد « وفيه حينئذٍ وَجْهان ، أحدُهما : أنه اسمُ » ما « الحجازيةِ ، و » بمُزَحْزِحِه « خبرُ » ما « ، فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة .

و « أَنْ يُعَمَّر » فاعلٌ بقولِه « بمُزَحْزِحِه » ، والتقديرُ : وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه . الثاني من الوجهين في « هو » : أن يكونَ مبتدأ ، و « بمُزَحْزِحِهِ » خبرُه ، و « أَنْ يُعَمَّر » فاعلٌ به كما تقدَّم ، وهذا على كَوْنِ « ما » تميميَّةً ، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] ، { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] .
الثاني من الأقوال : أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من « يُعَمَّر » ، أي : وما تعميره ، ويكون قولُه : « أن يُعَمَّر » بدلاً منه ، ويكون ارتفاعُ « هو » على الوَجْهَيْن المتقدِّمَين ، أعني كونَه اسمَ « ما » او مبتدأ .
الثالثُ : أن يكونَ كناية عن التعميرِ ، ولا يعودُ على شيء قبلَه ، ويكونُ « أن يُعَمَّر » بدلاً منه مفسِّراً له ، والفرقُ بين هذا وبين القولِ الثاني أنَّ ذاك تفسيرُه شيءٌ متقدِّمٌ مفهومٌ من الفعلِ ، وهذا مفسَّرٌ بالبدلِ بعده ، وقد تقدَّم أنَّ في ذلك خلافاً ، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله : « ويجوزُ أن يكونَ » هو « مبهماً ، و » أَنْ يُعَمَّر « موضِّحَه » .
الرابع : أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ وإليه نحا الفارسي في « الحلبيَّات » موافقةً للكوفيين ، فإنهم يُفَسِّرون ضميرَ الأمرِ بغيرِ جملةٍ إذا انتظَمَ من ذلك إسنادٌ معنويٌّ ، نحو : ظَنَنْتُه قائماً الزيدانَ ، وما هو بقائمٍ زيدٌ ، لأنه في قوة : ظننتُه يقومُ الزيدان ، وما هو يقومُ زيدٌ ، والبصريُّون يَأْبَوْن تفسيرَه إلا بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجُزْئَيْها سالمةٍ من حرفِ جرٌّ ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين .
الخامسُ : أنَّه عِمادٌ ، نعني به الفصلَ عند البصريين ، نَقَلَه ابن عطية عن الطبري عن طائفةٍ ، وهذا يحتاجُ إلى إيضاح : وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبرِ المقدَّم ، يقولون في : زيدٌ هو القائمُ : هو القائمُ زيدٌ ، وكذلك هنا ، فإنّ الأصلَ عند هؤلاءِ أَنْ يكونَ « بمُزَحزِحِه » خبراً مقدَّماً و « أَنْ يُعَمَّر » مبتدأً مؤخراً ، و « هو » عَمادٌ ، والتقديرُ : وما تعميرُه هو بمزحزحِه ، فلمَّا قُدِّم الخبرُ قُدِّم معه العِمادُ . والبصريُّون لا يُجِيزون شيئاً من ذلك .
و « من العذابِ » متعلِّقٌ بقوله : « بمُزَحْزِحِه » و « مِنْ » لابتداءِ الغاية .
والزَّحْزَحَةُ : التنحِيَةُ ، تقولُ : زَحْزَحْتُه فَزَحْزَحَ ، فيكون قاصراً ومتعدِّياً ، فمِنْ مجيئِه متعدِّياً قولُه :
621 يا قباضَ الروحِ مِنْ نَفْسٍ إذا احْتَضَرَتْ ... وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عَنِ النارِ
وأنشدَه ذو الرمة :
622 يا قابضَ الروح مِنْ جِسْم عَصَى زَمَنَاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن مجيِئه قاصراً قولُ الآخر :
623 خليلَيَّ ما بالُ الدُّجى لا يُزَحْزَحُ ... وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يَتَوَضَّحُ

قولُه : « أَنْ يُعَمَّر » : إمَّا أَنْ يكونَ فاعِلاً أو بدلاً من « هو » أو مبتدأً حَسْبَ ما تقدَّم من الإِعرابِ في « هو » .
{ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } مبتدأٌ وخبرُه ، و « بما » متعلِّقٌ ببصير . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي : يَعْمَلُونه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي : بِعَمَلِهم . والجمهورُ « يعملون » بالياء ، نَسَقَاً على ما تقدَّم ، والحسنُ وغيرُه « تَعْمَلُون » بالتاء للخطاب على الالتفات ، وأتى بصيغةِ المضارعِ ، وإن كانَ عِلْمُه محيطاً بأعمالِهم السالفةِ مراعاً لرؤوسِ الآي ، وخَتْمِ الفواصلِ .

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ } . . . « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « كان » خبرُه على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم ، وجوابُهُ محذوفٌ تقديرُه : مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ فلا وَجْهَ لعداوتِه ، أو فَلْيَمُتْ غَيْظاً ونحوُه . ولا جائز أن يكونَ « فإنه نزَّله » جواباً للشرطِ لوجهين ، أحدُهما من جهةِ المعنى ، والثاني من جهةِ الصناعةِ ، أما الأول : فلأنَّ فِعْلَ التنزيلِ متحقِّقُ المُضِيِّ ، والجزاءُ لا يكون إلاَّ مستقبلاً ولقائلٍ أن يقولَ : هذا محمولٌ على التبيين ، والمعنى : فقد تبيَّن أنه نَزَّله ، كما قالوا في قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ [ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 26 ] ونحوِه . وأمَّا الثاني : فلأنه ] لا بد من جملة الجزاء مِن ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ ، فلا يجوزُ : مَنْ يَقُمْ فزيدٌ منطَلِقٌ ، ولا ضميرَ في قولِه : « فإنَّه نَزَّله » يَعُودَ على « مَنْ » فلا يكونُ جواباً للشرط ، وقد جاءَتْ مواضعُ كثيرةٌ مِنْ ذلك ، ولكنهم أَوَّلُوها على حَذْفِ العائدِ فَمِنْ ذلك قُولُه :
624 فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني
وقولُه :
625 فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
وينبغي أن يُبْنَى ذلك على الخلافِ في خبر اسم الشرط . فإنْ قيل : إنَّ الخبرَ هو الجزاءُ وحدَه - أو هو مع الشرطِ - فلا بدَّ من الضمير / ، وإنْ قيل بأنه فعلُ الشرطِ وحدَه فلا حاجَةَ إلى الضميرِ ، وقد تقدَّم قولُ أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] ، وقد صَرَّحَ الزمخشري بأنَّه جوابُ الشرطِ ، وفيه النظرُ المذكورُ ، وجوابُه ما تقدَّم .
و « عَدُوَّاً » خبرُ كانَ ، وَيَسْتَوي فيه الواحدُ وغيرُه ، قال : « هم العدُوُّ » : والعَدَاوَةُ : التجاوُزُ . قالَ الراغب : « فبالقلب يُقال العَدَاوَةُ ، وبالمشِي يقال : العَدْوُ ، وبالإِخلال في العَدْلِ يقال : العُدْوان ، وبالمكان أو النسب يقال : قومٌ عِدَىً أي غُرَبَاء » . و « لِجبريلَ » يجوزُ أنْ يكونَ صفةً ل « عَدُوّاً » فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، وأَن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدِيَةِ « عَدُوَّاً » إليه . وجبريل اسمُ مَلَكٍ وهو أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرِفْ ، وقولُ مَنْ قالَ : « إنَّه مشتقٌّ من جَبَرُوت الله » بعيدٌ ، لأنَّ الاشتقاقَ لا يكونُ في [ الأسماءِ ] الأعجميةِ ، وكذا قولُ مَنْ قالَ : « إنه مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ ، وأنَّ » جَبْر « معناه عَبْد ، و » إيل « اسمٌ من أسماء الله تعالى فهو بمنزلةِ عبد الله » لأنه كانَ ينبغي أَنْ يَجْرِيَ الأولُ بوجوهِ الإِعراب وأن ينصرفَ الثاني ، وكذا قولُ المهدوي : إنه مركَّبٌ تركيبَ مَزْجٍ نحو : حَضْرَمَوْت لأنه كانَ ينبغي أن يُبْنَى الأولُ على الفتحِ ليس إلاَّ .

وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المَزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك .
وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً ، أشهرُها وأفصحُها : جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل ، وهي قراءةُ أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم . وهي لغةُ الحجازِ ، قال ورقةُ بنُ نوفل :
626 وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ
وقال حسان :
627 وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا ... وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ
وقال عمران بن حطان :
628 والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له ... وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً
الثانيةُ : كذلك إلا أنه بفتحِ الجيم ، وهي قراءة ابن كثير والحسن ، وقال الفراء : « لا أُحِبُّها لأنه ليس في كلامهم فَعْليل » . وما قاله ليس بشيء لأن ما أَدْخَلَتْه العربُ في لِسانِها على قسمين : قسمٍ ألحقُوه بأبنيتِهم كلِجام ، وقسمٍ لم يُلْحقوه كإبْرَيْسَم ، على أنه قِيل إنه نظيرُ شَمْوِيل اسمِ طائر ، وعن ابن كثير أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : جَبْريلَ وميكائيل ، قال : فلا أزال أقرؤهُما كذلك . الثالث : جَبْرَئيل كعَنْتَريس ، وهي لغةُ قيسٍ وتميمٍ ، وبها قرأ حمزةُ والكسائي ، وقال حسان :
629 شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ ... َ الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها
وقال جرير :
630 عبَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ ... وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا
الرابعةُ : كذلك إلا أنه لا ياءَ بعد الهمزةِ ، وتُرْوَى عن عاصمٍ ويحيى ابن يعمر . الخامسة : كذلك إلا أنَّ اللامَ مشدَّدَةٌ ، وتُرْوى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا : و « إلَّ » بالتشديد اسمُ الله تعالى ، وفي بعض التفاسير : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : معناهُ الله . ورُوي عن أبي بكر لَمَّا سَمِعَ بسَجْع مُسَيْلَمة : « هذا كلامٌ لم يَخْرُجْ من إلّ » . السادسة : جَبْرَائِل بألفٍ بعدَ الراءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ ، وبها قرأ عكرمةُ . السابعةُ : مِثلُها إلا أنَّها بياءٍ بعدَ الهمزةِ . الثامنة : جِبْرايِيل بياءَيْنِ بعد الألفِ من غير هَمْزٍ ، وبها قَرأ الأعمشُ ويَحْيى أيضاً . التاسعةُ : جِبْرال . العاشرة : جِبْرايِل بالياءِ والقَصْرِ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف . الحاديةَ عشرةَ ، جَبْرِين بفتحِ الجيمِ والنون . الثانيةَ عشرةَ : كذلك إلا أنَّها بكسرِ الجيم . الثالثةَ عشرةَ : جَبْرايين . والجملةُ مِنْ قولِه : « مَنْ كان » في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، والضميرُ في قوله : « فإنَّه » يعودُ على جبريل ، وفي قوله « نَزَّلَه » يعودُ على القرآنِ ، وهذا موافقٌ لقولِه : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين }

[ الشعراء : 193 ] في قراءةِ مَنْ رَفَع « الروح » ، ولقولِه « مصدِّقاً » ، وقيل : الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل ، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ { نَزَلَ به الروحُ } بالتشديدِ والنَّصْبِ ، وأتى ب « على » التي تقتضي الاستعلاء دونَ « إلى » التي تقتضي الانتهاء ، وخَصَّ القلبَ بالذكر لأنه خزانةُ الحِفْظِ وبيتُ الرَّبِّ ، وأضافه إلى ضميرِ المخاطب دونَ ياءِ المتكلِّمِ - وإنْ كان ظاهرُ الكلامِ يقتضي أَنْ يكون « على قلبي » - لأحدِ أمرَيْنِ : إمَّا مراعاةً لحالِ الأمرِ بالقولِ فَتَسْرُدُ لفظَه بالخطابِ كما هو نحوُ قولِك : قل لقومِك لا يُهينوك ، ولو قلت : لا تُهينوني لجازَ ، ومنه قولُ الفرزدق :
631 ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ : ما ليا
فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ ب « مالك »؟ ، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد « قُلْ » ، والتقديرُ : قُلْ يا محمد : قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ ، وإليه نَحَا الزمخشري بقولِه : « جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى ، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي : مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ » فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ « قُلْ » ، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ « قُلْ » بالتأويل المذكورِ أولاً ، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ .
قوله : { بِإِذْنِ الله } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل : « نَزَّله » إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل ، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في « نَزِّلَ » يعودُ على الله ، والتقديرُ : فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله . [ والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ ، والإِيذانُ : الإِعلامُ ] ، أَذِنَ به : عَلِمَ به . وأذَنْتُه بكذا : أَعْلَمْتُه به ، ثم يُطْلَقُ على التمكينِ ، أَذِن لي في كذا : أَمْكَنني منه ، وعلى الاختيارِ : فَعَلْتُه بإذنك : أي باختيارِك ، وقولُ مَنْ قال بإذنه أي : بتيسيرِه راجعٌ إلى ذلك .
قولُه : « مُصَدِّقاً » حالٌ من الهاءِ في « نَزَّلَه » إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى ، والتقديرُ : فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً ، والثاني : أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، والهاءُ في « بين يديه » يجوزُ أن تعودَ على « القرآنِ » أو على « جِبْريل » .
و « هُدَىً وبُشْرَى » حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما ، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا هُدَىً ، و « بُشْرى » ألفُها للتأنيثِ ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطابقاً للترتيبِ الوجودِيِّ ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ ، والثاني : أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه . والثالث : أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه .

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)

قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً } : الكلامُ في « مَنْ » كما تقدَّم ، إلاَّ أَنَّ الجوابَ هنا يَجُوز أن يكونَ { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } ، فإنْ قيل : وأين الرابطُ؟ فالجوابُ مِنْ وَجْهين أحدُهما : أنَّ الاسم الظاهرَ قامَ مَقام المضمرِ ، وكان الأصلُ : فإنَّ الله عَدُوٌّ لهم ، فأتى بالظاهرِ تنبيهاً على العلةِ . والثاني : أن يُرادَ بالكافرين العموم ، والعموم من الروابط ، لاندراجِ الأولِ . تحتَه . ويجوزَ أن يكونَ محذوفاً تقديرُه : مَنْ كانَ عَدُوَّاً لله فقد كَفَر ونحوُه . وقال بعضهم : الواوُ في قوله : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } بمعنى أو ، قال : لأنَّ مَنْ عادى واحداً من هؤلاء المذكورين فالحكمُ فيه كذلك . وقال بعضُهم : هي للتفصيلِ ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، فإنَّ هذا الحكمَ معلومٌ ، وَذَكر جبريلَ وميكالَ بعد اندراجهما أولاً تنبيهاً على فَضْلِهما على غيرِهما من الملائكةِ ، وهكذا كلُّ ما ذُكِرَ : خاصٌ بعد عامٍ ، وبعضهم يُسَمِّي هذا النوعَ بالتجريدِ ، كأنه يعني به أنه جَرَّدَ من العموم الأولِ بعضَ أفرادِه اختصاصاً له بمزيَّةٍ ، وهذا الحكمُ - أعني ذِكْرَ الخاصِّ بعد العامِّ - مختصٌّ بالواوِ ، لا يَجُوز في غيرِها من حروف العَطْف .
وجَعَل بعضُهم مثلَ هذه الآيةِ - أعني في ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ تشريفاً له - قولَه : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] وهذا فيه نظر؛ فإن « فاكهةٌ » من باب المطلقِ لأنها نكرةٌ في سياقِ الإثبات ، وليست من العمومِ في شيءٍ ، فإنْ عَنَى أنَّ اسمَ الفاكهةِ يُطْلَقُ عليهما من بابِ صِدْقِ اللفظِ على ما يَحْتمله ثم نَصَّ عليه فصحيحٌ . وأتى باسمِ الله ظاهراً في قوله : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ } لأنه لو أُضْمِر فقيل : « فإنَّه » لأَوْهم عَوْدَه على اسمِ الشرط فينعكسُ المعنى ، أو عَوْدَه على ميكال لأنه أقربُ مذكورٍ . وميكائيل اسمٌ أعجمي ، والكلامُ فيه كالكلامِ في جِبْريل من كونِه مشتقاً من مَلَكوت الله أو أن « مِيك » بمعنى عبد ، و « إيل » اسمُ الله ، وأنَّ تركيبَه تركيبُ إضافةٍ أو تركيبُ مَزْجٍ ، وقد عُرِف الصحيح من ذلك .
وفيه سبعُ لغاتٍ : مِيكال بزنة مِفْعال وهي لغةُ الحجاز ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ، قال :
632 ويومَ بَدْرٍ لقِيناكم لنا عُدَدٌ ... فيه مع النصرِ مِيكالٌ وجِبريلٌ
وقوله :
633 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . وكَذَّبوا مِيْكالا
الثانيةُ : كذلك ، إلا أنَّ بعدَ الألفِ همزةً وبها قرأ نافع . الثالثة : كذلك إلا أنه بزيادةِ ياءٍ بعد الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين . الرابعة : مِيكَئِيل مثل مِيكَعِيل وبها قرأ ابن محيصن . الخامسة : كذلك إلاَّ أنه لا ياءَ بعد الهمزة فهو مثلُ : مِيكَعِل وقُرىء بها . السادسةُ : ميكاييل بيائين بعد الألف وبها قرأ الأعمش . السابعة : ميكاءَل بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألفِ كما يُقال : إسراءَل . وحكى الماوَرديُّ عن ابن عباس أن « جَبْر » بمعنى عَبْد بالتكبير ، و « مِيكا » بمعنى عُبَيْد بالتصغير ، فمعنى جِبْريل : عبد الله ، ومعنى مِيكائيل : عُبَيْد الله قال : « ولا يُعْلَمُ لابنِ عباس في هذا مخالفٌ » . قوله : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، وقد تقدَّم أن الفراءَ يُجِيز فيه النصبَ .

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)

قوله تعالى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } : الجمهورُ على تحريك واو « أَوَ كلما » واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال ، فقال الأخفش : إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ ، وهذا على رأيِه في جوازِ زيادتِها . وقال الكسائي : هي « أَوْ » العاطفةُ التي بمعنى بل ، وإنما حُرّكَتِ الواوُ ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً . وقال البصريون : هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ على ما عُرِفَ ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده ، لذلك قَدَّره هنا : أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا .
وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي : « أَوْ كلَّما » ساكنةَ الواو ، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال ، فقالَ الزمخشري : « إنها عاطفةٌ على » الفاسقين « ، وقدَّره بمعنى إلاَّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] أي : الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا . وفي هذا كلامٌ يأتي في سورتِه إنْ شاء الله تعالى ، وقال المهدوي : » أَوْ « لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ ، يعني أنَّها بمعنى بل ، وهذا رأيُ الكوفيين وقد تقدَّم تحريرُ هذا القولِ وما استدلُّوا به من قوله :
634 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ
في أولِ السورةِ ، وقالَ بعضُهم : هي بمعنى الواوِ فتتفقُ القراءتان ، وقد ثَبَتَ ورودُ » أو « بمنزلةِ الواوِ كقوله :
635 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
{ خطيائة أَوْ إِثْماً } [ النساء : 112 ] { آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك ، وهذا أيضاً رأيُ الكوفيين كما تقدَّم . والناصبُ لكُلَّما بعدَه ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها . وانتصابُ » عَهْداً « على أحدِ وَجْهين : إمَّا على المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ : » معاهدةً « ، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا معنى أَعْطَوا ، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقديرُ : عاهدوا الله عَهْدَاً .
وقُرِىءَ : » عَهِدُوا « فيكونُ » عهْداً « مصدراً/ جارياً على صَدْرِه ، وقُرىء أيضاً : » عُوْهِدُوا « مبنياً للمفعولِ »
قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } هذا فيه قولان ، أحدُهما : أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ ، وتكونُ « بل » لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ « بل » لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ . والثاني : أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ « أكثرُهم » معطوفاً على « فريقٍ » ، و « لا يؤمنون » جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من « أكثرُهم » . وقال ابن عطية « من الضمير في » أكثرُهم « ، وهذا الذي قاله جائزٌ ، لا يُقال : إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ : وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه ، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ ، والنَّبْذُ : الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ .

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

قوله تعالى : { الكتاب كِتَابَ الله } : « الكتابَ » مفعولٌ ثانٍ ل « أُوْتُوا » لأنه يتعدَّى في الأصلِ إلى اثنين . فأُقيم الأولُ مُقام الفاعلِ وهو الواوُ ، وبقي الثاني منصوباً ، وقد تَقَدَّم أنه عند السهيلي مفعولٌ أوَّلُ ، و « كتابَ الله » مفعولُ نَبَذَ ، و « وراءَ » منصوبٌ على الظرفِ وناصبُه « نَبَذَ » ، وهذا مَثَلٌ لإِهمالِهم التوراةَ ، تقولُ العرب : « جَعَلَ هذا الأمرَ وراءَ ظهره ودَبْرَ أذنِه » أي : أهمله ، قال الفرزدق :
636 تَميمُ بنُ مُرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي ... بِظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جوابُها
والنَّبْذُ : الطَّرْحُ - كما تقدَّم - . وقال بعضُهم : « النَّبْذ والطَّرْح والإلقاء متقاربة ، إلا أن النبذَ أكثرُ ما يقال في المبسوط والجاري مَجْراه ، والإِلقاء فيما يُعْتبر فيه ملاقاةٌ بين شيئين » ومن مجيء النَّبْذ بمعنى الطرح قوله :
637 إنَّ الذين أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كتابَك واسْتَحَلُّوا المَحْرَما
وقال أبو الأسود :
638 وخَبَّروني مَنْ كنتُ أرسلْتُ أنَّما ... أَخَذْتَ كتابي مُعْرِضاً بشِمالكا
نظْرتَ إلى عنوانِه فنبذْتَه ... كنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
قوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وصاحبُها ، فريقٌ ، وإنْ كان نكرةً لتخصيص بالوصفِ ، والعاملُ فيها : نَبَذَ ، والتقدير : مُشْبهين للجُهَّال . ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٌ تقديرُه : أنه كتابُ الله لا يُداخِلُهم فيه شكٌّ ، والمعنى : أنهم كفروا عِناداً .

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } : هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه : « ولمَّا جاءَهم » إلى آخرها .
وقال أبو البقاء : « إنها معطوفةٌ على » أُشْرِبوا « أو على » نَبَذَ فريقٌ « ، وهذا ليس بظاهر ، لأنَّ عطفَها على » نَبَذَ « يقتضي كونَها جواباً لقولِه : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله ، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم . و » ما « موصولةٌ ، وعائدُها محذوفٌ ، والتقديرُ : تَتْلوه . وقيل : » ما « نافيةٌ وهذا غَلَطٌ فاحش لا يَقْتَضِيه نَظْمُ الكلامِ البتةَ ، نقل ذلك ابنُ العربي . و » يَتْلو « في معنى تَلَتْ فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله :
639 وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه ... كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها ... فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ
أي : فلقَدْ كان ، وقال الكوفيون : الأصلُ : ما كانت تَتْلو الشياطينُ ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ » ما « محذوفةٌ ، وهي » كانَتْ « ، و » تتلو « في موضعِ الخبرِ ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى ، وهو نظيرُ : » كانَ زيدٌ يقوم « المعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي
وقرأ الحسن والضحاك : » الشياطُون « إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ ، قالوا : وهو غَلَطٌ . وقال بعضُهم : لَحْنٌ فاحِشٌ . وحكى الأصمعي : » بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون « وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن .
قوله : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فيه قولان : أحدُهما : أنه على معنى في ، أي : في زمنِ ملكِه ، والمُلْكُ هنا شَرْعُه . والثاني : أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى : تتقوَّل أي : تتقوَّل على مُلْكِ سليمان ، وتَقَوَّل يتعدَّى بعلى ، قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل } [ الحاقة : 44 ] . وهذا الثاني أَوْلَى ، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف ، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة . وإنما أَحْوَجَ إلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى ب » على « كان المجرورُ ب » على « شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو : تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ ، والمُلْكُ ليس كذلك .
والتلاوةُ : الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه . وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ . وقال أبو البقاء : » وفيه ثلاثةُ أسبابٍ : العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ « وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما ، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية ، وكَرَّر قولَه { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله :
640 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
قوله : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها .

وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ « لكنْ » ورَفْعِ ما بَعْدها ، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ . وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ « لكنْ » مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك ، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ . وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ ، وكانَ ما بعدَها مفرداً ، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً ، وهو قويٌّ ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم : ما قام زيدٌ لكن عمروٌ ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم ، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ . وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ ، قال زهير :
641 - إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ ... لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء : « الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ » وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ . وأبعدَ مَنْ زَعَم أنها مركبةٌ من ثلاثِ كلماتٍ : لا النافيةِ وكافِ الخطابِ وأَنْ التي للإِثباتِ وإنَّما حُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً .
قوله : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } « الناسَ » مفعولٌ أولُ ، و « السحرَ » مفعولٌ ثانٍ . واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال ، أحدُها : أنها حالٌ من فاعل « كفروا » ، أي : كفروا مُعَلِّمينَ . الثاني : أنها حالٌ من الشياطين ، ورَدَّه أبو البقاء بأنَّ « لكنّ » لا تعملُ في الحال . وليس بشيء فإن « لكنَّ » فيها رائحةُ الفعل . الثالث : أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين . الرابعُ : أنها بدلٌ من « كَفروا » أبدلَ الفعلَ من الفعلِ . الخامسُ : أنَّه استئنافيةٌ ، أخبرَ عنهم بذلك ، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من « يُعَلِّمون » على الشياطين ، أمَّا إذا أَعَدْناه على « الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ » فتكونُ حالاً من فاعلِ « اتَّبعوا » ، أو استئنافيةً فقط . والسِّحْرُ : كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ . سَحَرَهُ . إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى . قال :
642 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ
ويقال : سَحَره : أي خَدَعَه وعَلَّله ، قال امرؤ القيس :
643 أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ
أي : نُعَلَّلُ ، وهو في الأصلِ : مصدرٌ يُقال : سَحَرَه سِحْراً ، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل يَفْعَل على فِعْل إلاَّ سِحْراً وفِعْلاً .
قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ } فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على « السِّحْر » ، والتقديرُ : يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن . الثاني : أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على { مَا تَتْلُواْ الشياطين } والتقديرُ : واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً .

الثالث : أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على « مُلْكِ سليمان » والتقديرُ : افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين . وقال أبو البقاء : « تقديرُه : وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل » . الرابع : « أنَّ » ما « حرفُ نفيٍ ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها ، وهي { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، والمعنى : وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ .
والجمهورُ على فَتْح لام » المَلَكَيْن « على أنَّهما من الملائكة ، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ ، وسيأتي تقريرُ ذلك .
قوله { بِبَابِلَ } متعلِّقٌ بأُنِزِلَ ، والباءُ بمعنى » في « أي : في بابل : ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في » أُنْزل « فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء .
وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية ، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية ، وسُمِّيَتْ بذلك قال : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر ، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ . والبَلْبَلَةُ : التفرقةُ ، وقيل : لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها » ثمانينَ « ، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً . وقيل : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود .
قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } الجمهورُ على فَتْح تائِهما ، واختلف النحويون في إعرابهما ، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في » المَلَكَيْنِ « : فَمَنْ فَتَحَ لامَ » المَلَكَيْنِ « وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها بَدَلٌ من » الملَكَيْنِ « ، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ . الثاني : أنهما عطفُ بيانٍ لهما . الثالث : أنهما بدلٌ من » الناس « في قوله : { يُعَلِّمُونَ الناس } وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان . الرابع : أنهما بدلٌ من » الشياطين « في قوِه : » ولكنَّ الشياطينَ « في قراءةِ مَنْ نَصَبَ ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم . وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ . وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ » الشياطين « فلا يكونُ » هاروت وماروت « بدلاً منهم ، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ ، أي : أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها ، كقولِه :
644 أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ
أي : أذمُّ وجوهَ قرودٍ ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه ، أو يكونان بدلاً من » الناس « كما تقدَّم .

وقرأ الحسن : هاروتُ وماروتُ برفعهما ، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : هما هاروتُ وماروتُ ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من « الشياطين » الأولِ ، وهو قولُه : { مَا تَتْلُواْ الشياطين } أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه . ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة ، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما ، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا .
قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها . والجمهور على « يُعَلِّمان » مُضَعَّفاً ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين : أحدُهما : أنه على بابِه من التعليم . والثاني : أنه بمعنى يُعْلِمان من « أَعْلم » ، فالتضعيفُ والهمزةُ متعاقبان ، قالوا : لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ ، إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه ، وإليه ذَهَبَ طلحة بن مصرف ، وكان يقرأ : « يُعْلِمان » من الإِعلام . وممَّن حكى أنتَ تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ ابنُ الأعرابي وابن الأنباري وأنشدوا قولَ زهير :
645 تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً ... فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ
وقولَ القطامي
646 تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً ... وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً
وقول كعب بن مالكِ :
647 تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي ... وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ
وقول الآخر :
648 تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا ... على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ
والضميرُ في « يُعَلِّمان » فيه قولان ، أحدُهما : أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت ، والثاني : أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ : « وما يُعَلَّمُ المَلَكان » ، والأولُ هو الأصحُّ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول : « هندٌ حُسْنُها فاتِنٌ » ولا تقول : « فاتنةٌ » مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله :
649 إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها ... تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
وقول الآخر :
650 فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله : تَرَكَتْ ، وفي قوله : مُعَيَّن ، ولو راعى البَدَلَ وهو الكثيرُ لقال : تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر :
651 فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لَمْ يُراعِ البدلَ لَلَزِمَ الإِخبارُ بالمعنى عن الجثة . وأجاب الشيخ عن البيتين بأن « رَواحَهَا وغدوَّها » منصوبٌ على الظرفِ ، وأن قوله « مُعَيَّنٌ » خبرٌ عن « حاجِبَيْه » وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك ، قال :
652 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بها العَيْنانُ تَنْهَلُّ
وقال :
653 لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه ، قال :
654 إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى ... بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ
و « مِنْ » زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ لا للاستغراق ، لأنَّ « أحداً » يفيدُه بخلافِ : « ما جاءَني من رجلٍ » فإنَّهَا زائدةٌ للاستغراقِ ، و « أحد » هنا الظاهرُ أنه الملازمُ للنفي وأنَّه الذي همزتُه أصلٌ بنفسِها .

وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو .
قوله : { حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } حتى : حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ « أَنْ » ولا يجوزُ إظهارها ، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ ، والتقديرُ : إلى أَنْ يقولا ، وهي متعلقةٌ بقولِه : « وما يُعَلِّمانِ » والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولاَ « وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكِ وأنشد :
655 ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً ... حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ
قال : » تقديرُه : إلا أَنْ تجودَ « .
واعلم أنَّ » حتى « تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية ، وكقولِه : { حتى مَطْلَعِ [ الفجر ] } [ القدر : 5 ] ، وتكونُ حرفَ عطفٍ ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [ الجملُ كقوله ] :
656 فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها ... بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة [ فلذلك لا يكون ما بعدها ] إلا غايةً لِما قبلها : إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما ، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى . و » إنَّما مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم يُجِيزُ إعمالَها ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وكذلك : « فَلا تَكْفُرْ » .
قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ } في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ ، أظهرُها ، أنَّها معطوفةٌ على قولِه : « وما يُعَلِّمان » والضميرُ في « فيتعلَّمون » عائدٌ على « أحد » .
وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى ، نحو قولِه : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] ، فإن قيل : المعطوفُ عليه منفيٌّ فيَلْزَمُ أَنْ يكونَ « فيتعلَّمون » منفياً أيضاً لعطفِه عليه وحينئذٍ ينعكسُ المعنى . فالجوابُ ما قالوه وهو أَنَّ { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ } وإنْ كان منفيَّاً لفظاً فهو موجَبٌ معنىً لأنَّ المعنى : يَعَلِّمان الناسَ السحرَ بعدَ قولِهما : إنما نحنُ فتنةٌ ، وهذا الوجهُ ذكره الزجاجُ وغيرُه .
الثاني : أنه معطوفٌ على { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } قاله الفراء . وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في « يُعَلِّمون » مع إتيانِه بضميرِ التثنية في « منهما » ، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ : « منهم » لأجلِ « يَعَلِّمون » ، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه ، وقالوا : لا يمتنع عَطْفُ « فيتعلَّمون » على « يُعَلِّمون » وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً ، والضميرُ في « منهما » راجعٌ إليهما ، فإنَّ قوله « منهما » إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ .

وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ ، وذلك أَنَّ الضميرَ في « مِنهما » عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ « فيتعلَّمون منهما » عَطْفٌ على « يُعَلِّمون » فيكونُ التقديرُ : « يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما » فيلزم الإِضمارُ في « منهما » قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً ، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ .
الثالث : - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على « كفروا » ، و « كفروا » فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ ، قال سيبويه : « وارْتفَعَتْ » فيتعلَّمون « لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا : لا تَكْفُرْ فيتعلَّموا ليَجْعلا كفره سبباً لتعلُّمِ غيرِه ، ولكنه على : كفروا فيتعلَّمون » ، وشَرْحُ ما قالَه هو أنه يريد أنَّ ليس « فيتعلَّمون » جواباً لقولِه : « فلا تَكْفُرْ » فينتصِبَ في جوابِ النهي كما انتصَبَ : « فَيُسْحِتَكم » بعدَ قولِه : « لا تَفْتَرُوا » لأنَّ كُفْرَ مَنْ نَهَياه أَنْ يكفرَ ليس سبباً لتعلُّمِ مَنْ يتعلَّم . وقد اعتُرِضَ على هذا بما تقدَّم لزومِ الإضمارِ قبلَ الذكر وتقدَّم جوابُه .
الرابع : وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ : « فهم يتعلَّمون » ، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ .
الخامس : قال الزجاج أيضاً : « والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على » يُعَلِّمان فيتعلَّمون « فاستغنى عِنْ ذكرِ » يَعَلِّمان « على ما في الكلام من الدليل عليهِ » . واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال : « لا وجهَ لقولِه : » استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان « لأنه موجودٌ في النص » . وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما ، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ « فيتعلَّمون » عطفٌ على « يُعَلِّمان » المنفيِّ ب « ما » في قوله « وما يُعَلِّمان » حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو : يَعَلِّمان فيتعلَّمون .
السادس : انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام ، والتقديرُ : فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً .
السابع : قال أبو البقاء : « وقِيل هو مستأنَفٌ » وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ كقولِ سيبويه ، وأن يكونَ مستقلاً بنفسِه غيرَ محمولٍ على شيءٍ قبلَه وهو ظاهرُ كلامِه . هذا نهايةُ القولِ في هذه المسألةِ ، وقد أَمْعَنَ المهدويُّ - رحمه الله - فيها فأمتعَ .
قوله : « مِنْهُمَا » متعلِّقٌ بيُعَلِّمون . و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها .

والثاني : أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ ، والثالث : أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه « فَلا تَكْفُرْ » وهو قولُ أبي مسلم .
قوله : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } الظاهرُ في « ما » أنَّها موصولةٌ اسميةٌ ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في « به » عليها ، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة .
و « بين المرءِ » ظَرْفٌ ل « يُفَرِّقون » . والجمهورُ على فَتْحِ ميم « المَرْء » مهموزاً وهي اللغة العالية . وقرأ ابنُ أبي إسحاق : « المُرْء » بضمِّ الميمِ مهموزاً ، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ : « المِرْء » بكسر الميم مهموزاً . فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً ، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع ، وذلك أنَّ في « المَرْء » لغةً ، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ . تقول : « ما قام المُرْءُ » بضم الميم ، و « رأيت المَرْءَ » بفتحها ، و « مررت بالمِرْءِ » بكسرِها . وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه : « أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن » أي : أخلاقكم . وقرأ الحسن والزهري : « المِرِ » بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً ، وهو قياسٌ مُطَّرد . / وقرأ الزهري أيضاً : « المَرِّ » بتشديد الراء من غير همز ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً ، كما رُوي عن عاصم « مُسْتَطرٌّ » بتشديد الراء ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
قوله : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ } يجوز في « ما » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ الحجازيةَ فيكون « هم » اسمَها ، و « بضارِّين » خبرَها ، والباءُ زائدةٌ ، فهو في محلِّ نصبٍ ، والثاني : أن تكونَ التميميةَ ، فيكونَ « هم » مبتدأ ، و « بضارِّين » خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ . والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ « فيتعلَّمون » . الثاني : يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ « واتَّبَعوا » . الثالث : يعودُ على الشياطين . والضميرُ في « به » يعودُ على « ما » في قولِه : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } .
والجمهورُ على « بضارِّين » بإثباتِ النونِ و « من أحدٍ » مفعولٌ به ، وقرأ الأعمشُ : « بضارِّي » من غيرِ نونٍ ، وفي توجيهِ ذلك قولان ، أظهرُهما : أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر :
657 ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني ... لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم

أي : بمُذْعنين ، ونظيرُه في التثنية : « قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا . يريدون : ثِنْتان ومِئَتان . والثاني - وبه قال الزمخشري وابنُ عطية - : أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى » أحد « وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو » به « كما فُصِل به في قول الآخر :
658 هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله ... إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما
وفي قوله :
659 كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ
ثم اسْتَشْكَلَ الزمخشري ذلك فقال : » فإنْ قلتَ كيفُ يُضافُ إلى أحد وهو مجرورٌ بمِن؟ قلت : جُعِل الجارُّ جزءاً من المجرور « ، قال الشيخ : » وهذا التخريجُ ليس بجيد لأنَّ الفصلَ بين المتضايفَيْنَ بالظرفِ والمجرورِ من ضرائرِ الشعرِ ، وأقبحُ من ذلك ألاَّ يكونَ ثُمَّ مضافٌ إليه ، لأنه مشغولٌ بعاملِ جرَّ فهو المؤثِّرُ فيه لا الإضافةُ ، وأمَّا جَعْلُه حرفَ الجرِّ جزءاً من المجرورِ فليس بشيء لأنَّ هذا مؤثرٌ فيه وجزءُ الشيءِ لا يُؤَثِّر فيه « وفي قولِ الشيخ نظرٌ ، أمَّا كونُ الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فُصِل بالمفعولِ به في قراءة ابن عامر فبالظرفِ وشَبْهِهِ أَوْلَى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام .
وأمَّا قولُه : » لأنَّ جزءَ الشيءِ لا يؤثر فيه « فإنما ذلك في الجُزْءِ الحقيقي ، وهذا إنما قال : نُنَزِّلُه منزلَة الجزءِ ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النحويين : الفعلُ كالجزءِ من الفاعلِ ولذلك أُنِّثَ لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثِّرٌ فيه .
و » مِنْ « في » مِنْ أَحَد « زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } . وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء : إنَّ » أَحَداً « يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ ، والمعهودُ زيادةُ » مِنْ « في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو : » ما ضَربْتُ من أحدٍ « إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى : وما يَضُرُّون من أحدٍ ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثبوتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية .
قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ . فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه الفاعلُ المستكِنُّ في » بضارِّين « . الثاني : أنه المفعولُ وهو » أَحَدٍ « وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ . والثالثُ : أنَّه الهاءُ في » به « أي بالسحرِ ، والتقديرُ : وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلاَّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك . والرابعُ : أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ ، إلاَّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه .

قوله : { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على « يَضُرُّهم » فتكونُ صلةً ل « ما » أيضاً ، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب . والثاني - وأجازه أبو البقاء - : أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه : وهو لا ينفعُهم ، وعلى هذا فتكونُ الواو للحالِ ، والجملةُ من المبتدأِ والخبر في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، وهذه الحالُ تكونُ مؤكِّدةً لأنَّ قولَه : « ما يَضُرُّهم » ، يُفْهَمُ منه عدمُ النفع ، قال أبو البقاء : « ولا يَصِحُ عَطْفُه على » ما « لأنَّ الفعلَ لا يُعْطَفُ على الاسم » وهذا من المواضعِ المستغنى عن النصِّ على مَنْعِها لوضوحِها ، وإنما يُنَصُّ على مَنْعِ شيءٍ يُتَوَهَّمُ جوازُه . وأتى هنا ب « لا » لأنها ينفى بها الحالُ والاستقبالُ ، وإنْ كان بعضُهم خَصَّها بالاستقبالِ . والضُّرُّ والنَّفْعُ معروفان ، يقال : ضَرَّه يَضُرُّه بضم الضاد ، وهو قياسُ المضاعَفِ المتعدِّي ، والمصدرُ : الضُّر والضَّر بالضم والفتح ، والضَّرر بالفك أيضاً ، ويقال : ضَارَه يَضيره بمعناه ضَيْراً ، قال الشاعر :
660 تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها ... بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها
وليس حرفُ العلةِ مُبْدَلاً من التضعيفِ ، ونَقَلَ بعضُهم : أنَّه لا يُبْنَى من « نفع » اسمُ مفعول فَيُقال : مَنْفُوع ، والقياسُ لا يَأْباه .
قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ . و « عَلِمَ » يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ : إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم ، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها ، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً ، ونظيرُه في الكلامِ : عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً ، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ . والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد « عَلِم » في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ :
661 وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى ... ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ
رُوي بنصبِ « مُوجعات » على أنه عَطْفٌ على محلِّ « ما الهوى » ، وفي البيت كلامٌ ، إذ يُحتمل أن تكونَ « ما » زائدةً ، و « والهوى » مفعولٌ به ، فَعَطَفَ « موجعات » ِ « عليه ، ويُحتمل أن تكونَ » لا « نافيةً للجنس و » موجعاتِ « اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال : ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت .
والضميرُ في » عَلِموا « فيه خمسةُ أقوالٍ ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام ، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين ، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ .

قوله : { لَمَنِ اشتراه } في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ ل « عَلِم » عن العملِ كما تقدّم ، و « مَنْ » موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « اشتراهُ » صلتُها وعائدُها . و { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ ، والتقديرُ : ما له خلاقٌ في الآخرةِ . وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً ل « مَنْ » الموصولةِ فالجملةُ من قوله : « ولقد عَلِموا » مقسمٌ عليها كما تقدَّم ، و « لَمَن اشتراه » غيرُ مقسمٍ عليها ، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور . الثاني - وهو قول الفراء ، وتَبِعه أبو البقاء - : أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ ، و « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } جوابُ القسمِ ، ف « اشتراه » على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ . ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً ، وقد يُجاب الشرطُ مطلقاً كقوله :
662 لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً ... أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا
ولا يُحْذَفُ جوابُ الشرطِ إلاَّ وفعلُه ماضٍ ، وقد يكونُ مضارعاً كقوله :
663 لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فعلى قولِ الفراء تكونُ الجملتان من قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } مُقْسَماً عليهما ، ونُقِل عن الزجاج مَنْعُ قولِ الفراءِ فإنه قال : « هذا ليس موضعَ شرط » ولم يُوجِّهْ مَنْعَ ذَلك . والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ ، أنَّ الفعل بعد « مَنْ » وهو « اشتراه » ماضٍ لفظاً ومعنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً معنىً .
والخَلاقُ : النَّصِيبُ ، قال الزجاج : « أكثرُ استعمالِه في الخيرِ » فأمَّا قولُه :
664 يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ ... إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ
فيَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على سبيلِ التهكُّمِ بهم كقوله :
665 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ
والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، أي : لكنْ لهم السرابيلُ مِنْ كذا ، والثالث : أنه اسْتُعْمِل في الشرِّ على قِلَّة . والخَلاقُ : القَدْر قال :
666 فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ ... وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ
أي : من قَدْرٍ ورتبةٍ ، وهو قريبٌ من الأولِ . والضميرُ المنصوبُ في « اشتراه » فيه أربعةُ أقوالٍ : يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كتبَ السحرِ عنه . وقد تقدَّم الكلامُ على قولِه : « ولَبِئْس ما » وما ذَكَر الناسُ فيها . واللامُ في « لَبِئْسَما » جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لَبِئْسَما ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : السحرُ أو الكفرُ .

قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه : لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم ، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء : « لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ » لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى . والضميرُ في « به » يعودُ على السحرِ أو الكفرِ ، وفي « يَعْلَمُون » يعودُ على اليهود باتفاق ، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري وغيرُه ، وهو مترتِّبٌ على عَوْدِ الضميرِ في « عَلِمُوا » و « يَعْلَمُون » ، وذلك أنَّ الزمخشري قال : « فإنْ قلتَ : كيف أَثْبَتَ لهم العلمَ أولاَّ في » ولقد عَلِمُوا « على سبيلِ التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قولِه : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه : لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم ، جَعَلهم حينَ لم يَعْلَموا به كأنهم مُنْسلخون عنه » وهذا بناءً منه على أنَّ الضميرين في « عَلِموا » و « يَعْلَمون » لشيءٍ واحدٍ . وأجابَ غيرُه على هذا التقدير بأن المرادَ بالعلم الثاني العقلُ لأنَّ العِلْمَ مِنْ ثمرتِه ، فلمَّا انتفَى الأصلُ انتفى ثمرتُه ، أو يغايِرُ بين متعلَّقِ العِلْمين أي : عَلِموا ضرره في الآخرةِ ولم يعلموا نَفْعَه في الدنيا ، وأمَّا إذا أَعَدْتَ الضميرَ في « عَلِموا » على الشياطين أو على مَنْ بحضرةِ سليمانَ أو على المَلَكَين فلا إشكالَ لاختلافِ المُسْنَد إليه العلمُ حينئذ .

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } : « لو » هنا فيها قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من كوِنها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وسيأتي الكلامُ في جوابها . وأجاز الزمخشري أن تكونَ للتمني أي : ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له ، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ ، وفي كلامِه اعتزالٌ موضعُه غيرُ هذا الكتابِ .
و « أنهم آمنوا » مؤولٌ بمصدرٍ ، وهو في محلِّ رفعٍ ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن ، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ ، تقديرُه : ولو إيمانُهم ثابتٌ ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو ، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال ، كما شَذَّ نصبُ « غُدْوَةً » بعد « لَدُنْ » . وقيل : لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ « أَنَّ » ، وصَحَّح الشيخ هذا في سورة النساء ، وهذا يُشْبِهُ الخلافَ في « أنَّ » الواقعةِ بعد ظنَّ وأخواتِها ، وقد تقدَّم تحقيقُه والله أعلم . والثاني : - وهو قولُ المبرد - أنه في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه : ولو ثَبَتَ إيمانُهم ، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه لا يُضْمَرُ بعدَها الفعلُ إلا مفسَّراً بفعلٍ مثلِه ، وهذا يُحْمَلُ على المبرد ، ولكلِّ من القولين دلائلُ ليس هذا موضعَها . والضميرُ في « أنهم » فيه قولان ، أحدُهما : عائدٌ على اليهودِ ، والثاني : على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ .
قوله : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله } في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك ، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه ، وعلى هذا فجوابُ « لو » محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره : لأُثيبوا . والثاني : أنها جوابُ لو ، فإنَّ « لو » تجابُ بالجملةِ الاسميةِ . قال الزمخشري : « أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها ، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في » سلامٌ عليكم « وفي قوع جوابِ » لو « جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع . قال الشيخ : » لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه ، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ .
ولمَثُوبة فيها قولان أحدُهما : أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة ، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل : مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب ، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول ، فهي مصدرٌ نَقَل ذلك الواحدي .

والثاني : أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين ، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء ، ويقال : « مَثْوَبة » بسكون الثاءِ وفتحِ الواو ، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال : « مَثُابة » كمَقامَة ، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة ، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة . ومعنى « لَمَثُوبة » أي : ثوابٌ وجزاءٌ في من الله . وقيل : لَرَجْعَةٌ إلى الله .
قوله : { مِّنْ عِندِ الله } في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله . والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره . قال الشيخ : « وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ » قلت : ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ ، حتى لو قيل في الكلام : « لَمَثُوبة خيرٌ » من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ . والتنكيرُ في « لَمَثُوبَةٌ » يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ ، ونظيرُه : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله « خيرٌ » خبرٌ لِمَثُوبَةٌ ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ ، كقوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ } [ فصلت : 40 ] .
قوله : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُها محذوفٌ تقديرُه : لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً ، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى ، وكذلك قَدَّرَه ، بعضُهم : لآمنوا . وفي مفعولِ « يَعْلَمُون » وجهان : أحدُهما : أنه محذوفٌ اقتصاراً أي : لو كانوا من ذوي العلمِ ، والثاني : أنه محذوفٌ اختصاراً ، تقديرُه : لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك ، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

قوله تعالى : { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } : الجمهورُ على « راعِنا » أمرٌ من المُراعاة ، وهي النظرُ في مصالحِ الإِنسانِ وتَدَبُّرِ أمورِه ، و « راعِنا » يقتضي المشاركةَ لأنَّ معناه : ليكن منك رعايةٌ لنا وليكن منا رعايةٌ لك ، فَنُهوا عن ذلك لأنَّ فيه مساواتِهم به عليه السلام . وقرأ الحسنُ وأبو حَيْوَة : « راعِناً » بالتنوين ، ووجهُه أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : قولاً راعناً ، وهو على طَريقِ النَسَب كلابن وتامر ، والمعنى : لا تقولوا قولاً ذا رُعونة . والرُّعونة : الجَهْل والحُمْق والهَوَج ، وأصلُ الرُّعونة : التفرُّقُ ، ومنه : « جَيْشٌ أَرْعَنُ » أي : متفرِّقٌ في كل ناحية ، ورجلٌ أَرْعَنُ : أي ليس له عَقْلٌ مجتمعٌ ، وامرأةٌ رَعْنَاءٌ ، وقيل للبَصْرةِ : الرَّعْناء ، قال :
766 لولا ابنُ عُتْبَةَ عمروٌ والرجاءُ له ... ما كانَتِ البصرةُ الرَّعْناءُ لي وَطَنا
قيل : سُمِّيت بذلك لأنها أَشْبَهت « رَعْنَ الجبلِ » وهو الناتِيءُ منه ، وقال ابن فارس : « يقال : رَعَن الرجلُ يَرْعَنُ رَعَناً » . وقرأ أُبَيّ : راعُونا ، وفي مصحف عبد الله كذلك ، خاطَبوه بلفظِ الجمعِ تعظيماً ، وفي مصحفِ عبدِ الله أيضاً ، « ارْعَوْنا » لِما تقدَّم . والجملةُ في محل نصبٍ بالقول ، وقَدَّم النهيَ على الأمرِ لأنه من باب التروك فهو أَسْهَلُ .
قوله : « انظُرْنا » الجملةُ أيضاً في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، والجمهورُ على « انظُرْنا » بوصلِ الهمزةِ وضَمِّ الظاء أمراً من الثلاثي ، وهو نظرٌ من النَّظِرَة وهي التأخير ، أي : أَخِّرْنا وتأنَّ علينا ، قال امرؤ القيس :
668 فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً ... من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ
وقيل : هو من نَظَر أي : أبْصَرَ ، ثم اتُّسِعَ فيه فَعُدِّيَ بنفسِه لأنه في الأصلِ يَتَعدَّى ب « إلى » ، ومنه :
669 ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ
أي : إلى الأراك ، وقيل : مِنْ نَظَر أي : تفكر ثم اتُّسِعَ فيه أيضاً فإنَّ أصلَه أَنْ يتعدَّى بفي ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ على هذا أي : انظُرْ في أمرنا وقرأ أُبيّ والأعمش : « أَنْظِرْنَا » بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الظاءِ أمراً من الرباعي بمعنى : أَمْهِلْنا وأخِّرْنا ، قال الشاعر :
670 أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا ... وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا
أي : أَمْهِلْ علينا ، وهذا القراءةُ تؤيِّد أنَّ الأولَ من النَّظْرةِ بمعنى التأخير لا من البصرِ ولا من البصيرةِ ، وهذه الآيةُ نَظيرُ التي في الحديد : : انظُرونا نقتبسْ « فإنها قُرِئَتْ بالوَجْهَيْنِ .

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

قوله تعالى : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } : في « مِنْ » قولان : أحدهُما : أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي : ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ . الثاني : أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري .
قوله : { وَلاَ المشركين } عطفٌ على « أَهْلِ » المجرورِ بمِنْ و « لا » زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى : ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] بغيرِ زيادة « لا » . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ : ولا المشركون ، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة ، نحو : « برؤوسكم وأرجلكِم » في قراءة الجر ، وليس بواضح . وقال النحاس : « ويجوزُ : ولا المشركونَ بعطفِه على » الذين « وقال أبو البقاء : » وإنْ كان قد قرىء « ولا المشركون » بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل ، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك « وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار .
قوله : { أَن يُنَزَّلَ } ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ ب » يَوَدُّ « أي : ما يودُّ إنزالَ خيرٍ ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه : » من ربكم « ، وأتى ب » ما « في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك .
قولُه : { مِّنْ خَيْرٍ } / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ ، و » مِنْ « زائدةٌ ، أي : أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم . وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان » يُنَزَّل « لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها .
وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو : » ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ « برفع » زيدٌ « بدلاً من فاعِل » يقول « وإنْ لم يباشر النفيَ ، لكنه في قوةِ : » ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني « وقولِه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] زيدت الباءُ لأنه في معنى : أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعِه . وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا . وقيل : » مِنْ « للتبعيض أي : ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل : » عليكم « والمعنى : أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } في » مِنْ « أيضاً قولان ، أحدُهما : أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل . والثاني : أنها للتبعيضِ ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه : مِنْ خُيورِ ربِّكم ، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه : » مِنْ خيرٍ « أي : مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم ، ويكونُ في محلِّها وجهان : الجرُّ على اللفظِ ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ » مِنْ « زائدةٌ في » خير « فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم .

وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ « مِنْ » قولين ، الأولى : قيل إنها للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس ، وفي الثانيةِ قولان : زائدةٌ أو للتبعيضِ ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ .
قوله : { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك . و « يختصُّ » يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً ، فإنْ كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى ، وتكون « مَنْ » مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه ، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو : كَسَب مالاً واكتسَبه ، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه « مَنْ » أي : واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلاَّ . و « مَنْ يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً ، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ ، أي : يشاءُ اختصاصَه ، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ » يشاء « معنى يَخْتار ، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي : يَشاؤه ، و » يشاءُ « على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً ، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً .

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ } . . في « ما » قولان : أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّها مفعولٌ مقدم لنَنْسَخْ ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له ، والتقدير : أيَّ شيءٍ نَنْسَخ ، مثلَ قوله { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] . والثاني : أنَّها شرطيةٌ أيضاً جازمة لنَنْسَخْ ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ ، و « مِنْ آيةٍ » هو المفعولُ به ، والتقديرُ : أَّي نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً ، قاله أبو البقاء وغيرُه ، وقالوا : مجيءُ « ما » مصدراً جائز وأنشدوا :
671 نَعَبَ الغرابُ فقلتُ : بَيْنٌ عاجِلُ ... ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ
وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين ، أحدُهما : أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ ، وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في ذلك عند قولِه : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] . والثاني : أنَّ « مِنْ » لا تُزَادُ في الموجَبِ ، والشرطُ موجَبٌ ، وهذا فيه خلافٌ لبعضِ البصريين أجازَ زيادتَها في الشرطِ لأنه يُشْبِه النفيَ ، ولكنه خلافٌ ضعيفٌ .
وقرأ ابنُ عامر : « نُنْسِخْ » بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ ، قال أبو حاتم : « هو غلطٌ » وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه ، وقال أبو عليّ : ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال : نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً ، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى : ما نَجِدْه منسوخاً كما يُقال : أَحْمَدْتُه وأَبْخلْتُه ، أي : وَجَدْتُه كذلك ثم قال : « وليس نَجِدُه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه ، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ » ، فالهمزةُ عنده ليس للتعديةِ . وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام ، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها ، أي : الإِعلامُ به ، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليهِ السلام ، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه ، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها ، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً .
وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له ، قال : « ويكونُ المعنى : ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه ، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في » منها « و » بمثلها « عائِدَيْنِ على الضمير في » نَنْسَأْها « قال الشيخ : » وذَهَلَ عن القاعدة وهي أنه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ من الجزاء على اسم الشرطِ ، و « ما » في قوله : « ما نَنْسَخْ » شرطيةٌ ، وقولُه « أو نَنْسَأْها » عائدٌ على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظُ والمعنى ، بل إنما يعودُ عليها من حيث اللفظُ فقط نحو : عندي درهمٌ ونصفُه ، فهو في الحقيقة على إضمار « ما » الشرطيةِ ، التقدير : أو ما نَنْسَأْ من آيةٍ ضرورةَ أنَّ المنسوخِ غيرُ المَنْسُوء ، ولكن يبقى قولُه : مَا نَنْسَخْ من آيةٍ مُفْلَتاً من الجوابِ ، إذ لا رابطَ يعودُ منه إليه فَبَطَلَ هذا المعنى الذي قاله « .

قوله : { مِنْ آيَةٍ } « مِنْ » للتبعيضِ ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً ، والمعنى : أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات ف « آية » مفرد وقع موقِعَ الجمعِ ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } ، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : « مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ » تناوَلَ النساءَ والرجالَ ، فإذا قلت : « مِن الرجالِ » بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط .
وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين ، أحدهما : أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز ، والممَّيز « ما » والتقدير : أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ ، قال : « ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر : أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ » آية « وبين المميَّز بآية ، لا تقول : أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز . والثاني : أنها زائدةٌ وآية حال / ، والمعنى : أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً ، وقد جاءت » آية « حالاً في قوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } [ الأعراف : 73 ] أي : » علامة « وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ ب » مِنْ « ، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها ، و » مِنْ « زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل » ما « واقعةً موقع المصدر ، فهذه أربعةُ أوجه .
قولِه : { أَوْ نُنسِهَا } » أو « هنا للتقسيم ، و » نُنْسِها « مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه . وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً : » نَنْسَأها « بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير . الثانية : كذلك إلا أنه بغير همزٍ ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال ابن عطية : » وأراه وَهِمَ « . الثالثة : » تَنْسَها « بفتح التاء التي للخطاب ، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ ، وهي قراءةُ الحسن ، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص : » إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال : إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ « وتلا : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه عليه السلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه .

الرابعةُ : كذلك إلا أنه بالهمز : الخامسةُ : كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة : السادسةُ : كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ . السابعة : « نُنْسِها » بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ . الثامنةُ : كذلك إلا أنه بالهمز . التاسعةُ : نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء . العاشرةُ : « نُنْسِكَ . بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب . الحاديةَ عشرة : كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً ، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً . الثانيةَ عشرةَ : كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف : » نُنَسِّكَها « وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه . الثالثةَ عشرةَ : » ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها « وهي قراءةُ الأعمش ، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله .
فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم : نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي : أَخَّرَه ، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً ، وتقولُ العرب : نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً ، وأنْسَأَ الإِبلَ : إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء . الثاني : نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن زيد . الثالث : نُمْضِها فلا نَنْسَخْها وهو قولُ أبي عبيد ، وهو ضعيفٌ لقوله : نَأْتِ بخيرٍ منها ، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه : نَأْتِ بخير منه .
وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان : أظهرُهما : أنها من النسيانِ ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ ، وفي بعضِها التركَ . والثاني : أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان . ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء : » نَنْسَاها « من الثلاثي فواضحٌ . وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم : نُنْسِكَها ، أي : نجعلُك ناسياً لها ، أو يكونُ المعنى : نَأْمُرُ بتركها ، يقال : أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه ، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه ، وأنشدوا :
672 إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها ... لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها
أي : لا تاركها ولا آمراً بتركها ، وقد تكلَّم الزجاج في هذه القراءةِ فقال : » هذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك ، لا يُقال : أَنْسَى بمعنى ترك قال الفارسي وغيرُه : « ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها » وقد ضَعَّفَ الزجاج أيضاً أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ ، وقال : « إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً » ، واحتجَّ بقوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }

[ الإسراء : 86 ] أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك . وأجابَ الفارسي عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع . وهذا نهايةُ ما وَقَعْتُ عليه من كلام الناس .
قوله : « نَأْت » هو جوابُ الشرط ، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ ، أعني : مجيئهما مضارِعَيْن . وقوله : « بخيرٍ منها » متعلِّقٌ بِنَأْتِ ، وفي « خير » هنا قولان ، الظاهرُ منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف ، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ ، وقولُه : « أو مثلِها » أي في التكليف والثواب ، وهذا واضحٌ . والثاني : أن « خيراً » هنا مصدرٌ ، وليس من التفضيلِ في شيء ، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ ، كخير في قوله : { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 ] و « مِنْ » لابتداء الغاية ، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه « خير » أي : خيرٌ صادِرٌ من جهتِها ، والمعنى عند هؤلاء : مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء . وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك : « أو مثلِها » فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على « بخير » على هذا المعنى ، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ ، فيكونَ المعنى : نَأْتِ بخيرِ من الخُيور ، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء . وأمَّا عَطْفُ « مثلِها » على الضمير في « منها » ، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين ، لعدمِ إعادةِ الخافضِ ، وقوله « ما نَنْسَخْ » فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم ، ألا ترى أنَّ قبله « واللهُ يَخْتَصُّ » { والله ذُو الفضل } .
والنَّسْخُ لغةً : الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه ، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [ نحو : ] نَسَخْتُ الكتابَ ، وقال بعضهُم :
« والنسخُ : الإِزالةُ ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن : ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو : » نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ « فإنَّها ازالته وقامَتْ مَقامَه ، ومنه { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ، والثاني : أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو : نَسَخَتِ الريحُ الأثر ومنه : فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ ، النسيئة : التأخيرُ كما تقدَّم ، والإمضاءُ أيضاً قال :
673 أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ } : هذا استفهامٌ معناهُ التقريرُ ، فلذلك لم يَحَتَجْ إلى معادِلٍ يُعْطَفُ عليه ب « أم » ، وأَمْ في قولِه : « أم تُريدون » :
قوله تعالى : { لَهُ مُلْكُ } . . . يجوزُ في « مُلْك » وجهان ، أحدُهما أنَّه مبتدأٌ وخبرُه مُقَدَّمِ عليه ، والجملةُ في محلَّ رفعٍ خبرٌ ل « أنَّ » . والثاني : أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ ، رَفَعَه الجارُّ قبله عند الأخفش ، لا يقال : إنَّ الجارَّ هنا قد اعتمد لوقوعِه خبراً ل « أَنَّ » ، فيرفعُ الفاعلَ / عند الجميع ، لأنَّ الفائدة لم تتمَّ به فلا يُجْعَلُ خبراً . والمُلْكُ بالضمِّ الشيءُ المَمْلوك ، وكذلك هو بالكسرِ ، إلا أنَّ المضمومَ لا يُسْتَعْمَل إلا في مواضِع السَّعَةِ وبَسْطِ السُّلْطانِ .
قوله : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ } يجوزُ في « ما » وجهان ، أحدُهما : كونُهما تميميَّةً فلا عَمَلَ لها فيكونُ « لكم » خبراً مقدماً ، و « مِنْ وليّ » مبتدأً مؤخراً زيدت فيه « مِنْ » فلا تعلُّقَ لها بشيءٍ . والثاني : أن تكونَ حجازيةً وذلك عند مَنْ يُجيز تقديمَ خبرِها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ ، فيكونُ « لكم » في محلِّ نصبٍ خبراً مقدَّماً ، و « مِنْ وليّ » اسمها مؤخراً ، و « مِنْ » فيه زائدةٌ أيضاً ، و { مِّن دُونِ الله } فيه وجهان ، أحدُهما أنَّه متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به « لكم » من الاستقرارِ المقدَّرِ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية . والثاني : أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من قوله : { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ ، فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً ، قاله أبو البقاء . فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ غيرِ الذين تعلَّق به « لكم » . ولا نصير « عطفٌ على لفظِ » ولي « ولو قُرِىءَ برفعِهِ على الموضِع لكان جائزاً . وأتى بصيغة فَعيل في » وليَّ « و » نَصير « لأنها أَبْلَغُ من فاعل ، ولأنَّ » وليَّاً « أكثرُ استعمالاً من » والٍ « ولهذا لم يَجِيءْ في القرآن إلا في سورةِ الرعدِ ، وأيضاً لتواخي الفواصلِ وأواخرِ الآي . وفي قولِه » لكم « انتقالٌ من خطابِ الواحدِ لخطابِ الجماعةِ ، وفيه مناسَبَةٌ ، وهو أنَّ المنفيَّ صار نَصَّاً في العمومِ بزيادةِ » مِنْ « فناسَبَ كونَ المَنْفِيِّ عنه كذلكَ فجُمِعَ لذلك .

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

منقطعةٌ هذا هو الصحيحُ في الآيةِ . قال ابنُ عطية « ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ : أَمْ تريدون ، وقال قومٌ : أَمْ منقطعةٌ ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه : أَمْ عَلِمْتُم ، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمتُه عليه السلام ، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ » انتهى . وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ لِما مَرَّ أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ ، فهو كقولِه : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الانشراح : 1 ] والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ كما مَثَّلْتُه لك .
وفي قولِه : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله } التفاتان ، أحدُهما : خروجٌ من خطاب جماعةٍ وهو { خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ، والثاني : خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر ، فلم يقل : ألم تعلموا أننا ، وذلكَ لِما يَخْفَى من التعظيمِ والتفخيم . { أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } : أَنَّ وما في حَيِّزِها : إمَّا سادةٌ مسدَّ مفعولَيْنِ كما هو مذهبُ الجمهورِ ، أو واحدٍ والثاني محذوفٌ كما هو مذهبُ الأخفشِ حَسْبَ ما تقدَّم من الخلافِ .
قوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ } . . قد تَقَدَّم أنَّ « أَمْ » هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه : « ألم تَعْلَمْ » ، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة قال أبو البقاء : أَمْ هنا منقطعةٌ ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم : أيُّهما ، والهمزةُ من قولِه : « ألم تعلمْ » ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى : بل أتريدون « فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام . وأصلُ تُريدون : تُرْودُون ، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ ، وقد تقدَّم ، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً . وقيل » أم « للاستفهامِ ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل : هي بمعنى بل وحدَها ، وهذان قولان ضعيفان .
قوله : { أَن تَسْأَلُواْ } ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله » تُريدون « ، أي : أتريدون سؤالَ رسولِكم .
قولُه : » كما سُئِلَ « متعلِّقٌ بتَسْأَلوا ، والكافُ في محلِّ نصبٍ ، وفيها التقديران المشهوران : فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف أي : أَنْ تَسْأَلوه أي : السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له ، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا . و » ما « مصدرية ، أي : كسؤال موسى ، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد ، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى . و » موسى « مفعول لم يُسمَّ فاعله ، حُذِف الفاعل للعلم به ، أي كما سأل قوم موسى .
والمشهور : » سُئِل « بضم السين وكسر الهمزة ، وقرأ الحسن : » سِيل « بكسر السين وياء بعدها ، مِنْ : سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف ، وهل هذه الألفُ في » سال « أصلُها الهمزُ أولا؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في » سَأَلَ « ، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ .

و « من قبلُ » متعلق بسُئل ، و « قبلُ » مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي : من قبلِ سؤالِكم . وهذا توكيدٌ ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم .
قوله : { بالإيمان } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها باء العِوَضيَّة ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك . والثاني : أنها للسببية ، قال أبو البقاء : « يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل ، وتكون الباءُ للسبب كقولك : اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ » وفي مثالِه هذا نظرٌ .
{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها ، و « سواءَ » قال أبو البقاء : « سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله » وهذا صحيحٌ فإنَّ « سَواء » جاء بمعنى وَسَط ، قال تعالى : { فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] وقال عيسى بن عمر : « ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي » وقال حسان
674 يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه ... بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير :
675 أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ
والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] . والجملةُ من قولِه : « فَقَدْ ضَلَّ » في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً .

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم } : الكلامُ في « لو » كالكلامِ فيها عندَ قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [ البقرة : 96 ] ، فمَنْ جَعَلَهَا مصدريةً هناك جعَلها كذلك هنا ، وقال : هي مفعولُ « يَوَدُّ » ، أي : وَدَّ كثيرٌ رَدَّكم . ومَنْ أبى جَعَلَ جوابَها محذوفاً تقديرُه : لو يَرُدُّونَكم كفاراً لَسُرُّوا - أو فرحوا - بذلك ، وقال بعضُهم : تقديرُه : لو يَرُدُّونكم كفاراً لَوَدُّوا ذلك ، فَوَدَّ دالَّةٌ على الجوابِ وليسَتْ بجوابٍ لأنَّ « لو » لا يتقدَّمُها جوابُها كالشرط . وهذا التقديرُ الذي قَدَّره هذا القائلُ فاسدٌ؛ وذلك أنَّ « لو » حرفٌ لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه فَيَلْزَمُ مِنْ تقديرِه ذلك أن وَدَادَتَهُم ذلك لم تَقَعْ ، لأن الموجَبَ لفظاً منفيٌّ معنىً ، والغرضُ أن ودَادَتَهم ذلك واقعةٌ باتفاقٍ ، فتقديرُ : لَسُرُّوا ونحوِه هو الصحيحُ . و « يَرُدُّ » هنا فيه قولان ، أحدُهما - وهو الواضحُ - أنها المتعديةُ لمفعولين بمعنى صَيَّر ، فضميرُ المخاطبين مفعولٌ أَوَّلُ ، و « كفاراً » مفعولٌ ثانٍ ، ومِنْ مجيء رَدَّ بمعنى صَيَّر قوله :
676 رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ ... بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً ... وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا
وجَعَلَ أبو البقاء « كفاراً » حالاً من ضميرِ المفعولِ على أنَّها المتعديةُ لواحدٍ ، وهو ضعيفٌ لأنَّ الحالَ يُسْتَغْنى عنها غالباً ، وهذا لا بُدَّ منه .
و « مِنْ بعدِ » متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية .
قوله : { حَسَداً } نصبٌ على المفعولِ له ، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه ، والعاملُ فيه « وَدَّ » أي : الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم . وجَوَّزوا فيه وجهين آخرين ، أحدُهما : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، وإنما لم يُجْمَعْ لكونِه مصدراً ، أي : حاسِدِين ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ . الثاني : أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً ، والأولُ أظهرُ الثلاثة .
قوله : { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها ، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ ، أي : وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . الثاني : أنه صفةٌ ل « حَسَدا » ، فهو في محلِّ نصبٍ ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : حَسَداً كائناً مِنْ قِبَلهم وشهوتِهم ، ومعناه قريبٌ من الأول . الثالث : انه متعلِّقُ بيردُّونكم ، و « مِنْ » للسببية ، أي : يكونُ الردُّ مِنْ تِلْقائِهم وجِهَتِهم وبإغوائهم .
قوله : « مِّن بَعْدِ مَا » متعلِّقٌ ب « وَدَّ » ، و « مِنْ » للابتداءِ ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم ، فكفرُهم عنادٌ ، و « ما » مصدريةٌ أي : مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ . والحَسَدُ : تمنِّي زوالِ نعمةِ الإِنسانِ ، المصدرُ : حَسَدٌ وحَسَادَة .

والصَّفْحُ قريبُ من العفو ، مأخوذٌ من الإِعراض بِصَفْحَةِ العنق ، وقيل : معناهُ التجاوزُ ، مِنْ تَصَفَّحْتُ الكتاب أي : جاوزت / ورقَه ، والصَّفوح : من أسماء الله ، والصَّفُوح أيضاً : المرأةُ تَسْتُر وجهَها إعراضاً ، قال :
677 صَفُوحٌ فما تَلْقاكَ إلاَّ بِحِيلةٍ ... فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ
قوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] فيجوز في « ما » أن تكونَ مفعولاً بها وأن تكونَ واقعةً موقعَ المصدرِ ، ويجوز في « مِنْ خيرٍ » الأربعةُ الأوجهِ التي في « من آية » . من كونِه مفعولاً به أو حالاً أو تمييزاً أو متعلقاً بمحذوفٍ . و « مِنْ » تبعيضيةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُها فَلْيُراجَع ثَمَّةَ . و « لأنفسِكم » متعلِّق بتقدِّموا ، أي : لحياةِ أنفسِكم ، فَحُذِفَ ، و « تَجِدُوه » جوابُ الشرطِ ، وهي المتعدِّيةُ لواحدٍ لأنها بمعنى الإِصابةِ ، ومصدرُها الوِجْدانُ بكسرِ الواو كما تقدَّم ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : تَجدوا ثوابَه ، وقد جَعَلَ الزمخشري الهاءَ عائدةً على « ما » وهو يريد ذلك ، لأنَّ الخيرَ المتقدِّم سببٌ مُنْقَضٍ لا يوجد ، إنما يوجد ثوابُه . قوله : « عند الله » يجوزُ فيه وجهان . أحدُهما : أنه متعلقٌ ب « تجدوه » . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ أي : تَجِدُوا ثوابَه مُدَّخَراً مُعَدَّاً عند الله ، والظرفيةُ هنا مجازٌ نحو : « لك عندَ فلانٍ يدُ » .

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)

قوله تعالى : { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً } : « مَنْ » فاعلٌ بقوله « يَدْخُلَ » وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنَّ ما قبل « إلاَّ » مفتقرٌ لِما بعدَها ، والتقديرُ : لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في « مَنْ » وجهان آخران ، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من « أحد » المحذوفِ ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين .
والجملةُ من قولِه : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن } في محل نصبٍ بالقول ، وحُمِلَ أولاً على لفظِ « مَنْ » فَأُفْرِدَ الضمير في قوله : « كان » ، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو « هوداً » ، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل ، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه ، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه ، منهم أبو العباس ، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين ، نحو : بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و « هائد » من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ ، وقال الشاعر :
678 وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و « نيام » جمعُ نائمٍ وهو كالأول ، وفي « هُود » ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم . والثاني : أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب ، يوصف به الواحدُ وغيرُه نحو : عَدْل وصَوْم . والثالث : - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه « يَهود » فحُذِفَتِ الياء من أوله ، وهذا بعيدٌ جداً .
و « أو » هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله : « وقالوا » فَصَّل القائلين ، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس ، والتقديرُ : وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً ، وقال النصارى : لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول : لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى ، ونظيرُه : { قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 135 ] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول : كونوا نصارى ، ولا النصارى تقول : كونوا هوداً ، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي ب « لن » لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ . وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً .
قوله : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } « تلك » مبتدأ ، و « أمانِيُّهم » خبرُه ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه : « وقالوا » وبين : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها . والمشارُ إليه ب « تلك » فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها : أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ : « َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ » ، أي : تلك المقالةُ أمانيُّهم ، فإنْ قيل : فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ ، فالمرادُ ب « تلك » الجمعُ من حيث المعنى .

والثاني : - قاله الزمخشري - وهو أَنْ يُشار بها إلى الأماني المذكورة وهي أمْنُيَّتُهُم ألاَّ يُنَزَّلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم ، وأمنَّيتُهم أَنْ يَرُدُّوهم كفاراً ، وأُمْنِيَّتُهم ألاَّ يَدْخُلَ الجنةَ غيرُهم . قال الشيخ : « وهذا ليس بظاهرٍ لأنّ كلَّ جملةٍ ذُكِرَ فيها وُدُّهم لشيء قد كَمَلَتْ وانفَصَلَتْ واستقلَّت بالنزولِ ، فَيَبْعُد أنْ يشارَ إليها » . والثالث - وإليه ذهب الزمخشري أيضاً - أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : أمثالُ تلك الأُمْنِيَّة أمانِيُّهم ، يريد أن أمانيَّهم جميعاً في البُطْلان مثلُ أمنِيَّتِهم هذه . انتهى ما قاله ، يعني أنه أُشير بها إلى واحدٍ . قال الشيخُ في هذا الوجهِ ، « وفيه قَلْبُ الوَضْعِ ، إذ الأصلُ أن يكونَ » تلك « مبتدأ ، و » أمانيُّهم « خبرٌ ، فَقَلبَ هذا الوضعِ ، إذ قال : إن أمانيَّهم في البُطْلان مثلُ أمنيَّتِهم هذه ، وفيه أنَّه متى كان الخبرُ مُشَبَّهاً به المبتدأُ فلا يتقدَّمُ الخبرُ نحو : زيدٌ زهيرٌ ، فإنْ تقدَّمَ كان ذلك من عكسِ التشبيهِ كقولك : الأسدُ زيدٌ شجاعةً » .
قوله : { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ . واختُلِفَ في « هاتِ » على ثلاثة أقوال ، أحدُها : أنه فعلٌ ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو : هاتُوا ، هاتي ، هاتِيا ، هاتِين . الثاني : أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ . والثالث - وبه قال الزمخشري - : أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ .
وإذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً ، أصحُّها : أن هاءَه أصلٌ بنفسها ، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل : رامَى يُرامي مُراماة ، فوزنه فاعَلَ فنقول : هاتِ يا زيدُ وهاتي يا هندُ وهاتوا وهاتِين يا هندات ، كما تقولُ : رامِ رامي راميا رامُوا رامِينَ . وزعم ابن عطية أن تصريفَه مهجورٌ لا يُقال فيه إلا الأمرُ ، وليس كذلك .
الثاني : أنَّ الهاءَ بَدَلٌ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ : أَأْتى وزنُه : أَفْعَل مثل أَكْرم . وهذا ليس بجيدٍ لوجهين ، أحدهما : أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط . والثاني من الوجهين : أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث : أن هذه « ها » التي للتنبيه دَخَلَتْ على « أتى » ولَزِمَتْها ، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودٌ ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ : احضَرْ أنت ، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة . فتحصَّل في « هاتُوا » سبعةُ أقوالٍ ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أو لا يتصرفُ ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همزةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه؟ وأصلُ هاتوا : هاتِيُوا ، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا .

قوله : { بُرْهَانَكُمْ } مفعولٌ به ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن ، أحدُهما : أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ ، ومنه : بُرْهَةُ الزمان أي : القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان . والثاني : أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً ، والبَرْهَنَةُ البيانُ ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنيتهم فوزنه فُعْلال ، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ « بُرهان » وعدمِه مُسَمَّى به .

بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

قوله تعالى : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } : جملةٌ في موضعِ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيها « أَسْلم » ، وعَبَّر بالوجهِ لأنه أشرفُ الأعْضاءِ وفيه أكثرُ الحواسِّ ، ولذلك يقال : وَجْهُ الأمرِ أي مُعظَمُه قال الأعشى :
679 أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ ... ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ
ومعنى أَسْلَمَ : خَضَع ، ومنه :
680 وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا
وهذه الحالُ مؤكِّدة لأنَّ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله فهو مُحْسِنٌ ، وقال الزمخشري : « وهو مُحْسِنٌ له في عمله » فتكونُ على رأيه مبيِّنة ، لأنَّ مَنْ أَسْلَم وجهَه قسمان : مُحْسِنٌ في عمله وغيرُ محسنٍ . قال الشيخ : « وهذا منه جُنوحٌ إلى الاعتزال » .
قوله { فَلَهُ أَجْرُهُ } الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ « مَنْ » شرطية ، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها . وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ « مَنْ » فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي : بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم ، و « فله أجرُه » كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها . هذا نصُّه . و « له أجره » مبتدأٌ وخبرُه ، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلافِ في « مَنْ » ، وحُمِل على لفظِ « مَنْ » فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وعلى معناها فجُمع في قولِه : { عليهم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، وهذا أحسنُ التركيبين - أعني البَداءَةَ بالحَمْلِ على اللفظ ثم الحَمْلِ على المعنى . والعاملُ في « عند » ما تعلَّق به « له » من الاستقرارِ ، ولمَّا أحال أجرَه عليه أضافَ الظرفَ إلى لفظةِ الربِّ لِما فيها من الإِشعار بالإِصلاحِ والتدبيرِ ، ولم يُضِفْهُ إلى الضمير ولا إلى الجلالةِ فيقول : فله أجرهُ عنده أو عندَ الله ، لما ذكرْتُ لك ، وقد تقدَّم الكلامُ في قولِه تعالى : « ولا خَوْفٌ » وما فيه من القرآءت .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

قوله تعالى : { اليهود } : اليهودُ مِلَّةٌ معروفةٌ ، والياءُ فيه أصليةُ لثبوتِها في التصريفِ ، وليست من مادَّةِ هَوَد من قوله : { هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقد تقدَّم أن الفراء يَدَّعي أنَّ « هوداً » أصلُه : يَهود فَحُذِفت ياؤُه ، وتقدَّم أيضاً عند قولِه : « والذين هادوا » أنَّ اليهودَ نسبةُ ليهوذا ابن يعقوب . وقال الشلوبين : « يَهُود فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ جمعَ يهودي فتكونَ نكرةً مصروفةً . والثاني : أَنْ تكونَ عَلَماً لهذه القبيلةِ فتكونَ ممنوعةُ من الصرف . انتهى ، وعلى الأولِ دَخَلَتْ الألفُ واللامُ ، وعلى الثاني قولُه :
681 أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ ... إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ
وقال :
682 فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو قيل بأنَّ » يهود « منقولٌ من الفعلِ المضارع نحو : يَزيد ويشكر لكان قولاً حسناً . ويؤيِّدُه قولُهم : سُمُّوا يهوداً لاشتقاقِهم من هاد يَهُود إذا تَحَرَّك .
قوله : { لَيْسَتِ النصارى } » ليس « فعلٌ ناقصٌ أبداً من أخواتِ كان ولا يتصرَّفُ ووزنُه على فَعِل بكسر العين ، وكان من حقِّ فائِه أن تُكْسَرَ إذا أُسْنِدَ إلى تاء المتكلم ونحوِها دلالةًعلى الياءِ مثل : شِئْتُ ، إلا أنه لَمَّا لم يتصرَّفْ بقيت الفاءُ على حالِها ، وقال بعضُهم : لُسْتُ بضم الفاء ، ووزنُه على هذه اللغة : فَعُل بضم العين ، ومجيء فَعُل بضمِّ العينِ فيما عينُه ياءٌ نادر ، لم يَجيء منه إلا » هَيُؤَ الرجلُ « إذا حَسُنَتْ هيئتُه . وكونُ » ليس « فعلاً هو الصحيحُ خلافاً للفارسي في أحدِ قولَيْه ومَنْ تابَعَه في جَعْلِها حرفاً ك » ما « ويَدُل على فعليَّتها اتصالُ ضمائرِ الرفعِ البارزةِ بها ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ . و » النصارى « اسمُها ، و » على شيء « خبرُها ، وهذا يَحْتمِل أن يكونَ ممَّا حُذِفَتْ فيه الصفةُ ، أي على شيء مُعْتَدٍّ به كقولِه : » إنه ليس من أهلِك « أي : أهلِك الناجين ، [ وقوله : ]
683 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . لقد وَقَعْتِ على لَحْمِ
أي : لحمٍ عظيمٍ وأَنْ يكونَ نفياً على سبيلِ المبالَغَةِ ، فإذا نُفِي إطلاقُ الشيء على ما هُمْ عليه مع أنَّ الشيء يُطْلق على المعدومِ عند بعضهم كان ذلك مبالغةً في عدمِ الاعتدادِ به ، وصارَ كقولهم : » أقَلُّ من لا شيء « .
قوله : { وَهُمْ يَتْلُونَ } جملةٌ حالية . وأصل يَتْلُون : يَتْلُوُوْنَ فأُعِلَّ بحذفِ اللام وهو ظاهر .
قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } في هذا الكافِ قولان ، أحدُهما : أنها في محلِّ نصبٍ وفيها حينئذ تقديران ، أحدُهما : أنَّها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ قُدِّم على عامِله تقديرُه : قولاً مثلَ ذلك القولِ قالَ الذين لا يعلمون . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المصدرِ المعرفةِ المضمرِ الدالِّ عليه » قال « تقديرُه : مثلَ ذلك القولِ قاله أي : قال القولَ الذين لا يعلمون حالَ كونِه مثلَ ذلك القولِ ، وهذا رأيُ سيبويه والأول رأيُ النحويين كما تقدَّم غيرَ مرة .

وعلى هذين القولَيْن ففي « مثلَ قولهم » وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على البدلِ من موضعِ الكاف . الثاني من الوجهين : أنه مفعولٌ به العاملُ فيه « يَعْلمون » ، أي : الذين لا يعلمون مثلَ مقالةِ اليهود والنصارى مثلَ مقالهم ، أي : إنهم قالوا ذلك على سبيلِ الاتفاقِ ، وإن كانوا جاهلين بمقالةِ اليهود والنصارى .
الثاني من القولين : أنَّها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والجملةُ بعدها خبرٌ ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : مثلَ ذلك قاله الذين لا يعلمون ، وانتصابُ « مثلَ قولهم » حينئذٍ إمَّا : على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٌ بيعلمون تقديرُه مثلَ قولِ اليهودِ والنصارى قالَ الذينَ لا يعلمون اعتقادَ اليهود والنصارى . ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ نصبَ المفعولِ بقال لأنه أَخَذَ مفعولَه وهو العائدُ على المبتدأ ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه نظرٌ من وجهين : أحدُهما : أنَّ الجمهورَ يأبي جَعْلَ الكافِ اسماً . والثاني : حَذْفُ العائدِ المنصوبِ ، والنحويون ينصُّون على مَنْعِه ويجعلون قولَه :
684 وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِلِ
ضرورةً ، وللكوفيين في هذه المسألةِ تفصيلٌ .
قوله : { بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } منصوبان بيحكُمُ ، و « فيه » متعلق بيختلفون .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } : « مَنْ » استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و « أظلمُ » أفعلُ تفضيلٍ خبرُه ، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ ، أي : لا أحدَ أظلمُ منه ، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً : وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى } [ الأنعام : 21 ] { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } [ السجدة : 22 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } [ الزمر : 32 ] وكلُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه ، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك؟ وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ ، أحدُها : - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال : لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله ، ولا أحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله ، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله ، وكذلك ما جاءَ منه . الثاني : أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ إلى مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك ، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المانعيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما . الثالث : أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة ، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم / متساوون في ذلك وصار المعنى : ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة ، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم ، كما أنَّك إذا قلتَ : « لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ » لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر ، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ أفقهَ منهم ، لا يُقال : إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً .
و « مَنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها ، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها ، و « مساجد » مفعولٌ أولُ لمَنَع ، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها ، وقد سُمع « مَسْجَد » بالفتح على الأصل ، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه : المَسْيِد في لغة .

قوله : { أَن يُذْكَرَ } ناصبٌ ومنصوبٌ ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع ، تقولُ : مَنَعْتُه كذا . والثاني : أنه مفعولٌ من أجلِه أي : كراهةَ أن يُذْكَرَ . وقال الشيخ : « فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله ، وما أَشْبهه » . والثالثُ : أنه بدلُ اشتمالٍ من « مساجد » ، أي : مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها . والرابع : أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ ، والأصلُ : مِنْ أَنْ يُذْكَرَ ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ ، و « في خَرابِها » متعلِّقٌ بسَعَى . واختُلِف في « خراب » : فقال أبو البقاء : « هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم ، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ . وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ هل يَعْمَلُ أو لا؟ وأنشدوا على إعماله :
685 أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقال غيرُه : هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً ، فالمعنى : سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة ، ويقال : منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله :
686 ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [ به ] ... غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب
فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل .
قوله : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } : » لهم « خبرُ » كان « مقدَّمٌ على اسمِها ، واسمُها » أَنْ يدخُلوها « لأنه في تأويل المصدرِ ، أي : ما كان لهم الدخولُ ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن » أولئك « .
قوله : { إِلاَّ خَآئِفِينَ } حالٌ من فاعل » يَدْخُلوها « ، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ ، لأن التقديرَ : ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف . وقرأ أُبَيّ » خُيَّفاً « وهو جمعُ خائف ، كضارب وضُرَّب ، والأصل : خُوَّف كصُوَّم ، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ ، قالوا : صُوَّم وصُيَّم ، وحَمَل أولاً على لفظ » مَنْ « ، فَأَفْرَد في قوله : » مَنَع ، وسعى « وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله : » أولئك « وما بعده .
قوله : { لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها لاستئنافِها عَمَّا قبلَها ، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً .

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

قوله تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب } : جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه : « مَنَعَ مساجدِ الله ، وسعى في خَرابِها » يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى ، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين ، أحدُهما : لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى . والثاني : أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي : لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله : « تَقِيكم الحَرَّ » أي والبردَ ، وكقولِ الشاعر :
687 تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ
أي : يَداها ورجلاها ، ومثله :
688 كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا
أي : رجلُها ويدُها . وفي المشرق والمغرب قَوْلان ، أحدُهما : أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ ، والثاني : أنهما اسما مصدرٍ أي : الإِشراق والإِغرابُ ، والمعنى : لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها ، وهذا يُبْعِدُه قولُه : « فأينما تُوَلُّوا » ، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما ، أو لأنَّهما مصدران ، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في كلِّ يومٍ ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما . وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً .
قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } « أين » هنا اسمُ شرطٍ بمعنى « إنْ » ، و « ما » مزيدةٌ عليها و « تُوَلُّوا » مجزومٌ بها . وزيادةُ « ما » ليست لازمةً لها بدليلِ قوله :
689 أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهي ظرفُ مكان ، والناصبُ لها ما بعدَها ، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ ك « مَنْ » و « ما » . وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرط أو الاستفهامِ . وأصلُ تُوَلُّوا : تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ . وقرأ الجمهور : تُوَلُّوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا ، فإنَّ « وَلَّى » وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما . تقول : وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا . وقرأ الحسن : « تَوَلَّوا » بفتحِهما ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ مضارعاً والأصل : تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً ، نحو : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] . والثاني : أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله : « لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة » فتتناسَقُ الضمائرُ ، وقال أبو البقاء : « والثاني : أنه ماضٍ والضمير للغائبين ، والتقديرُ : أَيْنما يَتَوَلَّوا » يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، ثم قال : « وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع ، ولا يكونُ » أَيْنَ « شرطاً في اللفظِ بل في المعنى ، كما تقولُ : » ما صَنَعْتَ صنعتُ « إذا أَرَدْتَ الماضي ، وهذا ضعيفٌ لأنَّ » أين « إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ » .

انتهى وهو غيرُ واضحٍ .
قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ الله } الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ ، فالجملةُ في محلِّ جزم ، و « ثَمَّ » خبرٌ مقدم ، و « وجهُ الله » رفعٌ بالابتداء و « ثَمَّ » اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل : هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب . قال أبو البقاء : « لأنك تقولُ في الحاضر : هُنا ، وفي الغائب هُناك ، وثَمَّ ناب عن هناك » / وهذا ليس بشيءٍ . وقيل : بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه ، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب « مِنْ » ، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [ رَأَيْتَ ] } [ الإنسان : 20 ] ، بل مفعولُ « رأيت » محذوف . ومعنى « وَجْهُ الله » جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها ، أو ذاتُه نحو : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، أو المرادُ به الجاهُ ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم : هو وجهُ القوم ، أو يكونُ صلةً زائداً ، وليس بشيءٍ ، وقيل : المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله :
690 أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه ... ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

قوله تعالى : { اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ } : الجمهورُ : « وقالوا » بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط . وقيل : هي معطوفةً على قوله : « وسعى » فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة ، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله . وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف الشام - « قالوا » من غير واوٍ ، وذلك يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : الاستئنافُ . الثاني : حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ ، استغناء عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ . و « اتَّخَذَ » بجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع ، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه : « وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً » إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } [ الأنبياء : 26 ] ، { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] . والوَلَدُ : فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقْص ، وهو غيرُ مقيسٍ ، والمصدرُ : الوِلادة والوَليديَّة ، وهذا الثاني غريبٌ جداً .
قوله : { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } « بَلْ » إضرابٌ وانتقالٌ ، و « له » خبرٌ مقدَّمٌ و « ما » مبتدأ مؤخرٌ ، وأتى هنا ب « ما » لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في « ما و » مَنْ « ، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله » قانتون « فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء . قال الزمخشري » فإن قلت : كيف جاءَ ب « ما » التي لغير أولي العلمِ مع قوله « قانتون »؟ قلت : هو كقولِه :
« سبحانَ ما سَخَّركُنَّ » وكأنه جاء ب « ما » دون « مَنْ » تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنِهِمْ ، وهذا جنوحٌ منه إلى أنَّ « ما » قد تقع على أولي العلمِ ، ولكنَّ المشهورَ خلافُه . وأمَّا قولُه « سبحانَ ما سَخَّركُنَّ لنا » فسبحانُ غَيرُ مضافٍ ، بل هو كقوله :
691 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سبحان مِنْ علقمةَ . . . . . . . . . . . . . .
و « ما » مصدرية ظرفية .
قوله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مبتدأٌ وخبرٌ ، و « كلٌّ » مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً ، أي : كلُّ مَنْ في السموات والأرض ، وقال الزمخشري : « ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً » قال الشيخ : « وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ ولداً ] وغيرُه » قوله : « لم يَجْرِ له ذِكْر » بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه .
وجَمَعَ « قانِتون » حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ « كُلاًّ » إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] . ومِنْ مراعاةِ اللفظِ : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } [ الإسراء : 84 ] { فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه } [ العنكبوت : 40 ] ، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي . والقُنُوت : الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

قوله تعالى : { بَدِيعُ السماوات } : المشهورُ رَفْعُه على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو بديعُ . وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في « له » وفيه الخلافُ المشهورُ . وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ ، وبديعُ السماواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ ، والأصل : بديعٌ سماواتُه ، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً ، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه ، فالإِضافةُ لا بدَّ وأن تكونَ من نصب لئلاَّ يلزم إضافة الصفةِ إلى فاعلِها وهو لا يجوزُ ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ . وقال الزمخشري : « وبديعُ السماواتِ » من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها « . وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم ، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه . وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً : وهو أن يكونَ » بديع « بمعنى مُبْدِع ، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو :
692 أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ
إلا أنه قال : » وفيه نظرٌ « . وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه ، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ مَقيسٍ ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السماواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً . والمُبْدِعُ : المخترِعُ المُنْشِىءُ ، والبديع : الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً .
قوله : { وَإِذَا قضى أَمْراً } العاملُ في » إذا « محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه : » فإنما يقول « ، والتقديرُ : إذا قضى أمراً يكونُ ، فيكونُ هو الناصبُ له . و » قضى « له معانٍ كثيرةٌ ، قال الأزهري : » قضى « على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب :
693 - وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما ... داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
وقال الشماخ :
694 - قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها ... بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ
فيكونُ بمعنى خَلَق نحو : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] ، وبمعنى أَعْلَمَ : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] ، وبمعنى أَمَر : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإِسراء : 23 ] ، وبمعنى وفَّى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] ، وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا ، وبمعنى أراد : { وَإِذَا قضى أَمْراً } [ البقرة : 117 ] [ وبمعنى ] أَنْهى ، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى ، تقول : قَضَى يقضي قَضاءً قال :
695 سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً ... عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا
قوله : { فَيَكُونُ } الجمهورُ على رفعه ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي : فهو يكونُ ، ويُعزْى لسيبويه ، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه .

والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على « يقولُ » وهو قول الزجاج والطبري . وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ « انتهى . يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا ، ومثلُه قولُ أبي النجم :
696 إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي ... الثالث : أن يكونَ معطوفاً على » كُنْ « من حيثُ المعنى ، وهو قولُ الفارسي ، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على » يقولُ « ، لأنَّ من المواضعِ ما ليس فيه » يقولُ « كالموضع الثاني في آل عمران ، وهو : { ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، ولم يَرَ عطفَه على » قال « من حيث إنه مضارعٌ فلا يُعْطَف على ماضٍ فَأَوْرد على نفسه :
697 ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
فقال : » أَمُرُّ بمعنى مَرَرْت . قال بعضُهم : « ويكون في هذه الآيةِ - يعني في آيةِ آل عمران - بمعنى كان فَلْيَجُزْ عَطْفُه على » قال « .
وقَرأَ ابن عامر/ » فيكونَ « نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران ، وهي : { لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ } [ آل عمران : 47 ] ، تحرُّزاً من قوله : { كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ } [ آل عمران : 59 ] وفي مريم : { كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي } [ مريم : 35 ] ، وفي غافر : { كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ } [ غافر : 68 ] ، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي .
وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ ، فقال ابن مجاهد : » قرأ ابن عامر « فيكونَ » نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل ، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ « ، وقال في آل عمران : » قرأ ابن عامر وحدَه : « كن فيكونَ » بالنصب وهو وهمٌ « قال : » وقال هشام : كان أيوبُ بن تميم يقرأُ : فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ : فيكونُ رفعاً « ، وقال الزجاج : » كن فيكونُ : رفعٌ لا غيرُ « .
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء ، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين ، أحدهما : أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو :

{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن } [ مريم : 75 ] أي : فَيَمُدُّ ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله :
698 سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ ... وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا
وقول الآخر :
699 لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها ... ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما
والثاني : أنَّ مِنْ شرطِ النصبِ بالفاءِ في جوابِ الأمرِ أَنْ يَنْعَقِدَ منهما شرطٌ وجزاءٌ نحو : « ائتني فأكرمك » تقديرُه : إنْ أتيتني أكرمتُك ، وههنا لا يَصِحُّ ذلك إذ يَصيرُ التقديرُ : إنْ تَكُنْ تَكُنْ ، فيتَّحِدُ فعلا الشرطِ والجزاءِ معنىً وفاعلاً ، وقد عَلِمْت أنه لا بُدَّ من تغايرِهما وإلاَّ يلزمْ أن يكونَ الشيءُ شرطاً لنفسه وهو مُحال . قالوا : والمعاملةُ اللفظية واردةُ في كلامهم نحو : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } [ الجاثية : 14 ] وقال عمر ابن أبي ربيعة :
700 فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ ... عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ
وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري ... ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي
فجعل « تَغْرُبِ » جواباً « ارقب » وهو غير مترتِّب عليه ، وكذلك لا يلزمُ من قوله [ تعالى ] أَنْ يفعلوا ، وإنما ذلك مراعاةً لجانبِ اللفظِ .
أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ ، وأمَّا الآياتُ فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [ عليه ] ، لأنه أرادَ بالعبادِ الخُلَّصَ ، ولذلك أضافهم إليه ، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه . وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك : « إنَّ » أَنْ « الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين ، قال : » وحَكَوْا عن العرب : « إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه » بنصبِ « تَحْطِمَ » فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك ، إلا أنَّ هذا الذي نَصَبوه دليلاً لا دليلَ فيه لاحتمالِ أَنْ يكونَ من بابِ العطفِ على الاسمِ ، تقديرُه : إنما هي ضربةٌ فَحَطْم ، كقوله :
701 لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
وهذا نهايةُ القول في هذه الآية .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

قوله تعالى : { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله } : « لولا » و « لَوْما » يكونانِ حَرْفي ابتداءٍ ، وقد تقدم ذلك عند قوله { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } [ البقرة : 64 ] ، ويكونان حَرْفَيْ تحضيضٍ بمنزلة : « هَلاَّ » فيختصَّان بالأفعالِ ظاهرةً أو مضمرةً كقوله :
702 تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أفضلَ مَجْدِكُم ... بنى ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
أي : لولا تَعُدُّون الكميَّ ، فإنْ وَرَدَ ما يُوهم وقوعَ الاسمِ بعدَ حرفِ التحضيض يُؤَوَّل كقوله :
703 ونُبِّئْتُ ليلى أَرْسَلَتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهلاَّ نفسُ لَيْلى شَفِيعُها
ف « نفسُ ليلى » مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّره « شفيعُها » أي : فَهَلاَّ شَفَعَتْ نفسُ ليلى . وقال أبو البقاء : « إذا وَقَعَ بعدَها المستقبلُ كانَتْ للتحضيضِ وإنْ وَقَعَ [ بعدها ] الماضي كانَتْ للتوبيخ » وهذا شيءٌ يقولُه علماءُ البيانِ ، وهذه الجملةُ التحضيضيةُ في محلِّ نصبٍ بالقول .
قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين } قد تقدَّم الكلامُ على نظيرِه فَلْيُطْلَب هناك . وقرأ أبو حَيْوة وابن أبي إسحاق : « تَشَّابَهَتْ » بتشديد الشين ، قال الداني : « وذلك غيرُ جائز لأنه فعلٌ ماض » يعني أن التاءَيْن المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فَنُدْغِم ، أمَّا الماضي فلا .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

قولُه تعالى : { بالحق } : يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مفعولاً به أي : بسببِ إقامةِ الحقِّ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في ، « أَرْسلناك » أي : أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ . الثالث : أن يكونَ حالاً من الفاعل أي : ملتبسين في الحقِّ ، قوله : « بَشيراً ونذيراً » يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : ان يكونَ حالاً من المفعول ، وهو الظاهرُ . الثاني : أن يكونَ حالاً مِن « الحقِّ » لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة ، وبشير ونذيرِ على صيغة فَعيل ، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه ، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي ، وأمَّا « نذير » فمن الرباعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل ، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً .
قوله : { وَلاَ تُسْأَلُ } قرأ الجمهور : « تُسْأَلُ » مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي . وقُرىء شاذاً : « تَسْأَلُ » مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً ، وفي هذه الجملةِ وجهان : أحدُهما : أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيراً أو نذيراً وغيرَ مسؤول . والثاني : أن تكونَ مستأنفةً . وقرأ نافع « تُسْأَلْ » على النهي وهذا مستأنفٌ فقط ، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً . والجحيمُ : شدَّةُ تَوَقُّدِ النار ، ومنه قيل لعين الأسد : « جَحْمة » لشدَّة توقُّدِها ، يُقال : جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ ، ويقال لشدة الحر : « جاحم » ، قال :
704 والحربُ لا يَبْقى لِجَا ... حمِها التخيُّلُ والمِراحُ
والرِّضا : ضدُّ الغضَبِ ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم : الرُّضْوانِ ، والمصدر : رِضا ورِضاء بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْواناً بكسرِ الفاء وضمِّها ، وقد يَتَضَمَّن معنى « عَطَفَ » فيتعدَّى ب « على » ، قال :
705 إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمِلَّةُ في الأصلِ : الطريقةُ ، يقال : طريقٌ مُمِلٌّ : أي : أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ ، وقيل : بل اشْتُقَّت من « أَمْلَلْتُ » لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه .

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

قوله تعالى : { هُوَ الهدى } : يجوزُ في « هو » أَنْ يكونَ فَصْلاً أو مبتدأً وما بعدَه خبرُه ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « هدى الله » لمجيئِه بصيغةِ الرفعِ ، وأجازَ أبو البقاء فيه أن يكونَ توكيداً لاسم إنَّ ، وهذا لا يجوزُ فإن المضمَر لا يؤكِّدُ المُظْهَرَ .
قوله : { وَلَئِنِ اتبعت } هذه تسمَّى اللامَ الموطِّئَةَ للقسم ، وعلامتُها أَنْ تقعَ قبلَ أدواتِ الشرطِ ، وأكثرُ مجيئِها مع « إنْ » وقد تأتي مع غيرِها نحو : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ } [ آل عمران : 81 ] ، { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 18 ] وسيأتي بيانُه ، ولكنها مُؤذِنةٌ بالقسم اعتُبر سَبْقُها فَأُجيبَ القَسَمُ دونَ الشرطِ بقوله : { مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ } وحُذِفَ جوابُ الشرط . ولو أُجيب الشرطُ لَوَجَبَتِ الفاءُ ، وقد تُحْذَفُ هذه اللامُ ويُعْمَلُ بمقتضاها/ فيجابُ القَسَمُ نحو قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] . قوله : « من العِلْم » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « جاءك » و « مِنْ » للتبعيض ، أي جاءَكَ حالَ كونِه بعضَ العلم .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

قولُه تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ } : رفعٌ بالابتداء ، وفي خبرهِ قولان ، أحدُهما : « يَتْلُونه » ، وتكونُ الجملةُ من قولِه « أولئكَ يؤمنون » : إمَّا مستأنفةً وهو الصحيحُ ، وإمَّا حالاً على قولٍ ضعيفٍ تقدَّم مثلُه أولَ السورة . والثاني : أنَّ الخبرَ هو الجملةُ من قوله : « أولئك يؤمنون » ويكونُ « يتلونه » في محلِّ نصبٍ على الحالِ : إمّا من المفعولِ في « آتَيْناهم » وإمَّا من الكتاب ، وعلى كِلا القَوْلَيْن فهي حالٌ مقدَّرة ، لأنَّ وقتَ الإِيتاء لم يكونوا تالين ، ولا كانَ الكتابُ مَتْلُوّاً . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ « يَتْلونه » خبراً ، و « أولئك يؤمنون » خبراً بعد خبر ، قال : « مثلُ قولهم : » هذا حلوٌ حامِضٌ « كأنه يريدُ جَعْلَ الخبرينِ في معنى خبرٍ واحدٍ ، هذا إنْ أُريد ب » الذين « قومٌ مخصوصونَ ، وإنْ أريدَ بهم العمومُ كانَ » أولئكَ يُؤمِنونُ « الخبرَ . قال جماعة - منهم ابنُ عطية وغيرُه - » ويَتْلُونه « حالٌ لا يُسْتَغْنى عنها وفيها الفائدةُ » . وقال أيضاً أبو البقاء : « ولا يجوزُ أن يكونَ » يَتْلُونه « خبراً لئلا يلزَمَ منه أنَّ كلَّ مؤمِنٍ يتلو الكتاب حقَّ تلاوتِه بأيِّ تفسيرٍ فُسِّرَت التلاوةُ » . قال الشيخ : « ونقول ما لَزِمَ من الامتناع مِنْ جَعْلِها خبراً يلزمُ في جَعْلِها حالاً لأنَّه ليس كل مؤمنٍ على حالِ التلاوة بِأيّ تفسير فُسِّرت التلاوة » .
قوله : { حَقَّ تِلاَوَتِهِ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه : « تلاوةً حقاً » ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ ، وصار نظير : « ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ » أي : ضَرْباً شديداً . فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه . الثاني : أنه حالٌ من فاعل « يَتْلونه » أي : يَتْلُونه مُحِقِّينِ ، الثالث : أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ . وقال ابن عطية : « و » حَقَّ « مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل ، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم : رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه » يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ ، وكأنه يرى أنَّ إضافةَ أفعل غيرُ محضةٍ ، ولا حاجَةَ إلى تقديرِ عاملٍ فيه لأنَّ ما قبله يَطْلُبُه .
والضميرُ في « به » فيه أربعةُ أقوالٍ ، أحدُها - وهو الظاهرُ - : عَوْدُه على الكتاب . الثاني : عَوْدُه على الرسولِ ، قالوا : « ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ لكنَّه معلومٌ » ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ فغنه مذكور في قولِه : « أَرْسلناك » ، إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة .

الثالثُ : أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى ، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه : « أَرْسلناك » إلى الغَيْبة . الرابعُ : قال ابن عطية : « إنه يعودُ على » الهدى « وقَرَّره بكلامٍ حَسَنٍ .
قوله : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } العاملُ في » إذا « قال . . . العامِلُ فيه » اذكر « مقدراً ، وهو مفعولٌ ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ . فالأَوْلَى ما ذَكَرْتُه أولاً ، وقَدَّره . . . كان كَيْتَ وكَيْتَ ، فَجَعَلَه ظرفاً ، ولكنَّ عاملَه مقدرٌ . و » ابتلى « وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه . وأصلُ ابتلى : ابتلَوَ ، فألفُه عن واوٍ ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي : اختبرَ . و » إبراهيمَ « مفعولٌ مقدمٌ ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً . هذا هو المشهورُ ، وما جاءَ على خلافِهِ عَدُّوه ضرورةً . وخالَفَ أبو الفتح وقال : » إنَّ الفعلَ كما يَطْلُبُ الفاعلَ يطلُبُ المفعولَ فصارَ لِلَّفظِ به شعورٌ وطَلَبٌ « وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرةً تأخَّر فيها المفعولُ المتصلُ ضميرُهُ بالفاعلِ ، منها :
706 لَمَّا عصى أصْحابُه مُصْعَباً ... أَدَّى إليه الكيلَ صاعاً بصاعْ
ومنها :
707 جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عن كِبَرٍ ... وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابنُ عطية : » وقَدَّم المفعولَ للاهتمامِ بمَنْ وَقَع الابتلاءُ [ به ] ، إذ معلومٌ أنَّ اللهَ هو المبتلي ، واتصالُ ضميرِ المفعولِ بالفاعلِ موجِبٌ للتقديم « يعني أنَّ الموجِبَ للتقديمِ سببان : سببٌ معنويٌّ وسببٌ صناعي .
و » إبراهيم « عَلَمٌ أَعْجَمي ، قيل : معناه قبل النقلِ : أبٌ رحيمٌ ، وفيه لغاتٌ تسعٌ ، أشهرُها : إبراهيم بألف وياء ، وإبراهام بألِفَيْن ، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت ، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة ، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة ، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور . ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك . ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس : إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً : إبراهام بالألف ، فقال : أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة . فقيل : إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ ، فقال : هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له . الثالثة : إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ ، وبها قرأ أبو بكر ، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل :
708 عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ ... إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ
الرابعة : كذلك ، إلا أنه بفتحِ الهاءِ . الخامسة : كذلك إلا أنه بضمِّها .

السادسة : إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألفٍ وياء ، قال عبد المطلب :
709 نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته ... لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ
السابعة : إبراهوم بالواو . قال أبو البقاء : « ويُجْمع على أَباره عند قومٍ وعند آخرين بَراهم . وقيل : أبارِهَة وبَراهِمَة ، ويجوز أَبَارهة » وقال المبرِّد : « لا يقال : بَراهِمَة فإنَّ الهمزةَ لا يَجُوز حَذْفُها » . وحكى ثعلب في جمعِه : بَراه ، كما يُقال في تصغيره : « بُرَيْه » بحذفِ الزوائدِ .
والجمهورُ على نصبِ « إبراهيم » ورفعِ « ربُّه » كما تقدَّم ، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس . قالوا : وتأويلُها دَعَا ربَّه ، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ . والضميرُ المرفوعُ في « فَأَتَّمَّهُنَّ » فيه قولان : أحدُهما أنه عائدٌ على « ربه » أي : فأكملهنَّ . والثاني : أنه عائدٌ على إبراهيم أي : عَمِل بهنَّ وَوَفَّى بهنَّ .
قوله : { قَالَ إِنِّي } هذه الجملةُ القولية يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلَها ، إذا قلنا بأنها عاملةٌ في « إذ » لأن التقديرَ : وقالَ إني جاعِلُكَ إذا ابتلى ، ويجوزُ أن تكونَ استئنافاً إذا قلنا : إنَّ العاملَ في « إذ » مضمرٌ ، كأنه قيل : فماذا قال له ربُّه حين أتَمَّ الكلماتِ؟ فقيل : قال : إني جاعِلُك . ويجوزُ فيها أيضاً على هذا القولِ أن تكونَ بياناً لقوله : « ابتلى » وتفسيراً له ، فيُرادُ بالكلماتِ ما ذَكَره من الإِمامةِ وتَطْهِيرِ البيتِ ورَفْعِ القواعدِ وما بعدَها ، نَقَل ذلك الزمخشري .
قوله : { جَاعِلُكَ } هو اسمُ فاعلٍ من « جَعَلَ » بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أحدُهما : الكافُ وفيها الخلافُ المشهورُ : هل هي في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ؟ وذلك أن الضميرَ المتصل باسمِ الفاعلِ فيه ثلاثة أقوال ، أحدُها : أنه في محلِّ جرٍّ بالإِضافة . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ ، وإنَّما حُذِفَ التنوينُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ ، قالوا : ويَدُلُّ على ذلك وجودُه في الضرورةِ كقوله :
710 فما أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُني إلى قومي شُراحي
وقال آخر :
711 هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُونه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا على تسليمِ كونِ نون « مُسْلِمُني » تنويناً ، وإلاَّ فالصحيحُ أنها نونُ وقايةٍ . الثالث - وهو مذهبُ سيبويه -/ أنَّ حكمَ الضميرِ حكمُ مُظْهره فما جاز في المُظْهَرِ يجوزُ في مضمرِه . والمفعولُ الثاني إماماً .
قوله : { لِلنَّاسِ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ بجاعل أي لأجلِ الناس . والثاني : انه حالٌ من « إماماً » فإنه صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها . فيكونُ حالاً منها ، إذ الأصلُ : إماماً للناسِ ، فعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ . والإِمامُ :
اسمُ ما يُؤْتَمُّ به أي يُقْصَدُ ويُتَّبَعُ كالإِزار اسمُ ما يُؤْتَزَرُ به ، ومنه قيل لخيط البَنَّاء : « إمام » ، ويكون في غيرِ هذا جَمْعاً لآمّ اسمِ فاعلٍ من أَمَّ يَؤُمُّ نحو : قائم وقِيام : ونائِم ونِيام وجائِع وجِياع .

قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها ، أَنَّ « مِنْ ذريتي » صفةً لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ ، والمفعولُ الثاني والعاملُ فيهما محذوفٌ تقديرُه : « قال واجْعَلْ فريقاً من ذريتي إماماً » قاله أبو البقاء . الثاني : أنَّ « ومِنْ ذُرِّيَّتي » عطفٌ على الكافِ ، كأنَّه قال : « وجاعلُ بعضِ ذريتي » كما يُقال لك : سَأُكْرمك ، فتقول : وزيداً . قال الشيخ : « لا يَصِحُّ العطفُ على الكافِ لأنَّها مجرورةٌ ، فالعطفُ عليها لا يكونُ إلا بإعادة الجارّ ، ولم يُعَدْ ، ولأنَّ » مِنْ « لا يُمْكِنُ تقديرُ إضافةِ الجارِّ إليها لكونِها حرفاً ، وتقديرُها مرادفةً لبعض حتى تَصِحَّ الإِضافةُ إليها لا يَصِحُّ ، ولا يَصِحُّ أن يقدَّرَ العطفُ من باب العطفِ على موضعِ الكاف لأنَّه نصبٌ فَتُجْعَلَ » مِنْ « في موضعِ نصبٍ لأنَّه ليسَ مِمَّا يُعْطَفُ فيه على الموضعِ في مذهبِ سيبويهِ لفواتِ المُحْرِزِ ، وليسَ نظيرَ ما ذَكَر لأن الكاف في » سأكرمك « في موضعِ نصبٍ . الثالث : قال الشيخ : » والذي يَقْتضيه المعنى أن يكونَ « مِنْ ذرّيَّتي » متعلقاً بمحذوفٍ ، التقديرُ : واجْعَلْ مِنْ ذرِّيّتي إماماً لأنَّ « إبراهيم » فَهِمَ من قولِه : « إني جاعلُك للناسِ إماماً الاختصاصَ ، فسأل أَنْ يَجْعل مِنْ ذريتِه إماماً » فإنْ أرادَ الشيخُ التعلُّق الصناعيُّ فيتعدَّى « جاعل » لواحدٍ ، فهذا ليسَ بظاهرٍ ، وإن أرادَ التعلُّقَ المعنويَّ فيجوزُ أَنْ يريدَ ما يريده أبو البقاء . ويجوزُ أَنْ يكونَ « مِنْ ذرِّيَّتي » مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، وجاز ذلك لأنه يَنْعَقِدُ من هذين الجزأين مبتدأُ وخيرُ .
لو قلتَ : « مِنْ ذُرِّيَّتي إمامٌ » لصَحَّ . وقال ابن عطية : « وقيل هذا منه على جهةِ الاستفهامِ عنهم أي : ومِنْ ذريتي يا ربِّ ماذا يكون؟ فيتعلَّقُ على هذا بمحذوفٍ ، ولو قَدَّره قبل » مِنْ ذريتي « لكانَ أَوْلى لأنَّ ما في حَيِّز الاستفهامِ لا يتقدَّم عليه .
وفي اشتقاق » ذُرِّيَّة « وتصريفها كلامٌ طويلٌ يَحْتاج الناظرُ فيه إلى تأمُّل . اعلم أنَّ في » ذرية « ثلاثَ لغاتٍ : ضَمَّ الذالِ وكسرَها وفتحَها ، وبالضمِّ قرأ الجمهورُ ، وبالفتحِ قرأ أبو جعفر المدني ، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت . فأمّا اشتقاقُها ففيه أربعةُ مذاهبَ ، أحدُها : أنها مشتقةٌ من ذَرَوْتُ ، الثاني : مِنْ ذَرَيْتُ ، الثالث : من ذَرَأَ اللهُ الخَلْقَ ، الرابع : من الذرّ . وأَمَّا تصريفُها : فَذُرِّيَّة بالضمِّ إن كانَتْ من ذَرَوْتُ فيجوز فيها أَنْ يكونَ وزنها فُعُّولَة ، والأصلُ : ذُرُّوْوَة فاجتمع واوان : الأولى زائدةٌ للمدِّ والثانيةُ لامُ الكلمةِ ، فَقُلِبَتْ لامُ الكلمةِ ياءً تخفيفاً فصار اللفظُ ذُرُّوْيَة ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياء التي هي منقلبةٌ من لامِ الكلمةِ ، وكُسِرَ ما قبل الياءَ وهي الراءُ للتجانُسِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ وزنُها فُعِّيْلَة ، والأصلُ : ذُرِّيْوَة ، فاجتمعَ ياءُ المدِّ والواوُ التي هي لامُ الكلمةِ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدغمت فيها ياءُ المدِّ .

وإن كانت من ذَرَيْتُ لغةً في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنُها فُعُّولَة أو فُعِّيلة كما تقدَّم ، وإنْ كانَتْ فُعُّولة فالأصلُ ذُرُّوْيَة فَفُعِل به ما تقدَّم من القلبِ والإِدغامِ ، وإنْ كانَتْ فُعِّيْلَة فالأصلُ : ذُرِّيْيَة ، فَأُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياءِ التي [ هي ] لامٌ . وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ مهموزاً فوزنُها فُعِّيْلة والأصلُ : ذُرِّيْئَة فَخُفَّفتِ الهمزةُ بأَنْ أُبْدِلَتْ ياءً كهمزةِ خطيئة والنسيء ، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياء المُبْدَلَةِ من الهمزةِ .
وإن كانَتْ من الذَّرِّ فيجوزُ في وزنها أربعةُ أوجه ، أحدُها : فُعْلِيَّة وتَحْتمل هذه الياءُ أَنْ تكونَ للنسَبِ وغَيَّروا الذالَ من الفتحِ إلى الضمِّ كما قالوا في النَسَبِ إلى الدَّهْر : دُهْري وإلى السَّهْل : سُهْلي بضمِّ الدال والسين ، وأَنْ تكونَ لغيرِ النسَبِ فتكونُ كقُمْرِيَّة . الثاني : أن يكونَ : فُعِّيْلَة كمُرِّيقَة ، والأصلُ : ذُرِّيْرةً ، فَقُلِبَتِ الراءُ الأخيرةُ ياءً لتوالي الأمثال ، كما قالوا تَسَرَّيْتُ وتَظَنَّيْتُ في تَسَرَّرْتُ وتَظَنَّنْتُ . الثالث : أن تكونَ فُعُّولة كَقُدُّوس وسُبُّوح ، والأصلُ : ذُرُّْوَرة ، فَقُلِبَتِ الراءُ لِما تقدَّم ، فصارَ ذُرُّوْيَة ، فاجْتَمَعَ واوٌ وياءٌ ، فجاء القلبُ والإدغامُ كما تقدَّم . الرابع : أن تكونَ فُعْلُولة والأصل : ذُرُّوْرَة ، فَفُعِلَ بها ما تقدّم في الوجهِ الذي قبله .
وأمَّا ذِرِّيَّة بكسر الذال فإن كانت مِنْ ذَرَوْتُ فوزنُها فِعِّيْلَة ، والأصل : ذِرِّيْوَة ، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ في الياءِ بعدَها ، فإنْ كانَتْ من ذَرَيْتُ فوزنها فِعِّيْلة أيضاً ، وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ فوزنُها فِعِّيْلة أيضاً كبِطِّيْخة ، والأصل ذِرِّيْئَة فَفُعِل فيها ما تقدَّم في المضمومةِ الدالِ ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ وزنُها فِعْلِيَّة نسبةً إلى الذرّ على غيرِ قياسٍ في المضمومةِ . الثاني : أَنْ تكونَ فِعِّيْلَة ، الثالث : أن تكونَ فِعْلِيلَة كحِلْتيت والأصلُ فيها : ذِرِّيْرَة فَفُعِل فيهما ما تقدَّم من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ ياءُ والإِدغامِ فيها .
وأمَّا « ذَرِّيَّة » بفتحِ الذال : فإن كانَتْ مِنْ ذَرَوْتُ أو ذَرَيْتُ فوزنُها : فَعِّيْلَة كسَكِّينة ، والأصلُ : ذَرِّيْوَة أو ذَرِّيْيَة ، أو فَعُّولة والأصلُ : ذَرُّوْوَة أو ذَرُّوْيَة ، فَعُعِل به ما تقدَّم في نَظيرهِ ، وإنْ كانَتْ مِنْ ذَرَأَ فوزنُها : إمّا فَعِّيْلَة كسَكِّينة والأصلُ : ذَرِّيْئَة ، وإمّا فَعُّولة كخَرُّوبة والأصلُ : ذَرَّوْءةَ ففُعِل به ما تقدَّم في نظيره . وإنْ كانَتْ من الذرّ ففي وَزْنِها أيضاً أربعة أوجهٍ أحدُها فَعْلِيَّة ، والياءُ أيضاً تَحْتَمِلُ أَنْ تكونَ للنسَبِ ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شّذُّوا في الضم والكسرِ وأَنْ لا يكون نحو : بَرْنِيَّة ، الثاني : فَعُّولة كَخرُّوبة والأصلُّ ذَرُّوْرَة ، الثالث : فَعِّلية كسَكِّينة والأصلُ : ذَرِّيْرَة ، الرابع : فَعْلُولة كبَكُّولَة والأصلُ : ذَرُّوْرَة أيضاً فَفُعِل به ما تقدَّم في نظيره ، من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ وإدغامِ ما قبلَها فيها وكُسِرَتِ الذالُ اتباعاً . وبهذا الضبطِ الذي فعلتُه اتَّضح القولُ في هذه اللفظةِ لغةً واشتقاقاً وتصريفاً ، فإنَّ الناس قد استشكلوا هذه اللفظةَ بالنسبةِ لما ذكرْتُ ، وغلِط أكثرهُم في تصريفِها بالنسبةِ إلى الأعمال التي قَدَّمْتُها والحمد لله .

وأمَّا مَنْ بناها على فَعْلَة مثلَ جَفْنَة فإنها عنده من ذَرَيْتُ . والذُّرِّيَّةُ : النَّسْلُ يقع على الذكور والإِناث والجمع الذَراري ، وزعم بعضُهم أنها تقع على الآباء كوقوعِها على الأبناء مستدلاً بقوله { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] يعني نوحاً ومَنْ معه وسيأتي ذلك في موضِعِه .
قوله : { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } الجمهورُ على نصبِ « الظالمين » مفعولاً و « عَهْدي » فاعلٌ ، أي : لا يَصِلُ عهدي إلى الظالمين فيدرِكَهم . وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء/ : « والظالمون » بالفاعلية ، و « عهدي » مفعولٌ به ، والقراءتان ظاهرتان ، إذ الفعلُ يَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍّ منهما فإنَّ مَنْ نالَكَ فقد نِلْتَه . والنَّيْلُ : الإدراك وهو العَطاءُ أيضاً ، نال ينال نَيْلاً فهو نائل .

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت } : « إذ » عَطْفٌ على « إذْ » قبلَها ، وقد تقدَّم الكلامُ فيها ، و « جَعَلْنا » يحتمل أن يكونَ بمعنى « خَلَقَ » و « وَضَعَ » فيتعدَّى لواحدٍ وهو « البَيْت » ، ويكون « مَثَابةً » نصباً على الحالِ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين ، فيكون « مثابةً » هو المفعولُ الثاني .
والأصلُ في « مَثَابة » مَثْوَبة ، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلاَّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال ، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل :
712 مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها ... تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ
وقال :
713 جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ ... ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ
وهل معناه من ثابَ يَثُوب أي : رَجَع ، أو من الثوابِ الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرُهما أوَّلُهما . وقرأ الأعمش وطلحة : « مَثَابَاتٍ » جَمْعاً ، ووجهُه أنه مثابةٌ لكلِّ واحدٍ من الناس .
قوله : { لِّلنَّاسِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لمثابة ومَحَلُّه النصبُ . والثاني : أنه متعلِّقٌ بجَعَلَ أي : لأجلِ الناسِ يعني مناسكَهم .
قوله : { وَأَمْناً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه عَطْفٌ على « مَثَابة » وفيه التأويلاتُ المشهورةُ : إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا أَمْن ، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي : آمِنَاً ، على سبيل المجاز كقوله : « حَرَماً آمِناً » . والثاني : أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : وإذ جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد . والمعنى : أن الله جَعَلَ البيتَ محترماً بحكمه ، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ : « اتَّخِذُوا » على الأمرِ فعلى هذا يكونُ « وأَمْناً » وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات .
قوله : { واتخذوا } قرأ نافعٌ وابنُ عامر : « واتَّخذوا » فعلاً ماضياً على لفظ الخبر ، والباقون على لفظِ الأمرِ . فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه معطوفٌ على « جَعَلْنا » المخفوض ب « إذ » تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً . الثاني : أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه : « وإذ جَعَلْنا » فيحتاجُ إلى تقديرِ « إذ » أي : وإذ اتخذوا ، ويكون الكلامُ جملتين . الثالث : ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه : فثابوا واتخذوا .
وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها عَطفٌ على « اذكروا » إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل ، أي : اذكروا نعمتي واتخذوا . والثاني : أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه : « مثابةً » كأنه قال : ثُوبوا واتَّخِذوا ، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي .

الثالث : أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي : وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بأنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه . الرابع : أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء .
قوله : { مِن مَّقَامِ } في « مِنْ » ثلاثة أوجه : أحدُها : أنها تبعيضيةٌ وهذا هو الظاهرُ . الثاني : أنها بمعنى في . الثالث : أنها زائدةٌ على قولِ الأخفش . وليسا بشيء . والمَقامُ هنا مكانُ القيامِ ، وهو يَصْلُح للزمانِ والمصدر أيضاً واصلُه : « مَقْوَم » فأُعِلَّ بنَقْلِ حركةِ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها وقَلْبِها ألفاً ، ويُعَبَّرُ به عن الجماعةِ مجازاً كما يُعَبَّر عنهم بالمجلسِ قال زهير :
714 وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
قوله : { مُصَلًّى } مفعولُ « اتَّخِذُوا » ، وهو هنا اسمُ مكانٍ أيضاً ، وجاءَ في التفسير بمعنى قِبْلة . وقيل : هو مصدرٌ : فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : مكانَ صلاة ، وألفهُ منقلبةٌ عن واوٍ ، والأصلُ : « مُصَّلَّوَ » لأنَّ الصلاةَ من ذواتِ الواوِ كما تقدَّم أولَ الكتابِ .
قوله : { وَإِسْمَاعِيلَ } إسماعيل عَلَمٌ أعجميٌّ وفيه لغتان : اللام والنونُ وعليه قولُ الشاعر :
715 قال جواري الحَيِّ لمَّا جِينا ... هذا وربِّ البيتِ إسماعينا
ويجمع على : سَماعِلة وسَماعيل وأساميع . ومن أَغْرَبِ ما نُقِلَ في التسمية به أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا دعا الله أَنْ يرزقَه ولداً كان يقول : اسْمَعْ إيل اسْمَعْ إيل ، وإيل هو الله تعالى فَسَمَّى ولدُه بذلك .
قوله : { أَن طَهِّرَا } يَجوزُ في « أَنْ » وَجْهان ، أحدُهما أنَّها تفسيريةٌ لجملةِ قولِه : « عِهِدْنا » فإنَه يتضمَّنُ معنى القولِ لأنَّه بمعنى أَمَرْنا أو وَصَّيْنا فهي بمنزلةِ « أي » التي للتفسيرِ ، وشرطُ « أَنْ » التفسيريةِ أَنْ تَقَعَ بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه . وقال أبو البقاء : « والمفسِّرةُ تقعُ بعد القولِ وما كان في معناه . وقد غَلِطَ في ذلك ، وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإِعرابِ . والثاني : أن تكونَ مصدريةً وخَرَجَتْ عن نظائرِها في جوازِ وَصْلِها بالجملةِ الأمريَّة قالوا : » كتبْتُ إليه بأَنْ قُمْ « وفيها بحثٌ ليس هذا موضعَه ، والأصلُ : بأَنْ طَهِّرا ، ثم حُذِفَتِ الباءُ فيَجيءُ فيها الخلافُ المشهورُ من كونِها في محل نصبِ أو خفضٍ . و » بيتي « مفعولٌ به أُضيف إليه تعالى تشريفاً . والطائفُ اسم فاعلٍ من طَاف يَطُوف ، ويقال : أَطَاف رباعياً ، قال :
716 - أَطَافَتْ به جَيْلانُ عند قِطاعِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا من باب فَعَل وأَفْعَل بمعنىً . والعُكوفُ لغةً : اللزومُ والَّلْبثُ ، قال :
717 - . . . . . . . . . . . . . . . . ... عليه الطيرُ ترقبُه عُكوفا
وقال :
718 - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْرَجا ... ويقال : عَكَفَ يَعْكُف ويعكِف ، بالفتحِ في الماضي والضمِّ والكسرِ في المضارع ، وقد قُرِىء بهما . و » السجودُ « يجوز فيه وجهان ، أحدُهُما : أنه جمع ساجِد نحو : قاعِد وقُعود ، وراقِد ورُقُود ، وهو مناسبٌ لِما قبله . والثاني : أنه مصدرٌ نحو : الدُّخول والقُعُود ، فعلى هذا لا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : ذوي السجودِ ذكرَه أبو البقاء .
وعَطَفَ أحد الوصفينِ على الآخر في قوله : الطائفين والعاكفين لتباينِ ما بينهما ، ولم يَعْطِفْ إحدى الصفتينِ على الأخرى في قوله : الرُّكَّعِ السجودِ ، لأنَّ المرادَ بهما شيءٌُ واحدٌ وهو الصلاةُ إذ لو عَطَفَ لَتُوُهِّم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عبادةٌ على حِيالها ، وجَمَعَ صفتين جَمْع سلامة وأُخْرَيَيْنِ جمع تكسيرٍ لأجلِ المقابلةِ وهو نوعٌ من الفَصاحةِ ، وأخَّر صيغةَ فُعول على فُعَّلَ لأنها فاصلة .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

قوله تعالى : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } : الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين ف « هذا » مفعولٌ أولُ و « بلداً » مفعولٌ ثانٍ ، والمعنى : اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ . و « آمناً » صفةٌ أي ذا أَمْن نحو : « عيشةٌ راضيةٌ » أو آمِناً مَنْ فِيه نحو : ليلةٌ نائمٌ . / والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان ، أحدُهما : أنه مأخوذُ من البَلْدِ . والبَلْدُ في الأصل : الصَّدْر يقال : وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا بَرَكَتْ أي : صدرَها ، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك . والثاني : أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه : رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه ، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ « بَلْدَة » لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال :
719 - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ ... قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
قوله : { مَنْ آمَنَ } بدلُ بعضٍ من كل وهو « أهلَه » ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه ، و « مِنْ » في « مِن الثمرات » للتبعيضِ . وقيل : للبيانِ ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها .
قولُه : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ } يجوزُ في « مَنْ » ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكونَ موصولةً ، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه ، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ ، ويكونُ « فأمتِّعُه » معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ . والثاني من الوجهين : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و « فأمتِّعُه » الخبرَ ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه . الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء ، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع . الثالث : أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط ، و « فأمتِّعُه » جوابُ الشرط .
ولا يجوزُ في « مَنْ » في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال ، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه ، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ الخبرَ الذي هو « فأمتِّعه » شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلى بذلك ، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ . وقال أبو البقاء : « لا يجوزُ أن تكونَ » مَنْ « مبتدأ و » فأمتِّعُه « الخبرَ ، لأنَّ » الذي « لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو : الذي يأتيني فله درهمٌ ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ ، أو [ جعلت ] الخبرَ محذوفاً و » فأمتِّعُه « دليلاً عليه جاز ، تقديرُه : ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه .

ويجوز أَنْ تكونَ « مَنْ » شرطيةً والفاءُ جوابَها . وقيل : الجوابُ محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ ، و « مَنْ » على هذا رفعٌ بالابتداءِ ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فعلُ الشرطِ « . انتهى .
أمَّا قولُه : » لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ « فليس بِمُسَلَّم ، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر ، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً ، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّز فيها أن تكونَ شرطيةً ، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به . وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيدة لا حاجةَ إليها . وقرىء : أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر ، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان : أحدُهما : أنه تخفيفٌ كقولِه :
720 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني : أنَّ الفاءَ زائدةٌ وهو جوابُ الشرط فلذلك جُزِمَ بالسكونِ . وقرأ ابنُ عباس ومجاهد { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } على صيغةِ الأمر فيهما ، ووجهُها أَنْ يكونَ الضميرُ في » قال « لإِبراهيم ، يعني سألَ ربَّه ذلكَ ، و » مَنْ « على هذه القراءة يجوز أن تكونَ مبتدأ وأن تكونَ منصوبة على الاشتغال بإضمارِ فعلٍ سواءً جَعَلْتَها موصولةً أو شرطيةً ، إلا أنك إذا جَعَلْتَها شرطيةً قَدَّرْتَ الناصبَ لها متأخراً عنها لأنَّ أداة الشرط لها صدرُ الكلامِ .
وقال الزمخشري : { وَمَن كَفَرَ } عَطْفٌ على » مَنْ آمَنَ « كما عَطَفَ » ومِنْ ذريتي « على الكافِ في » جاعِلُك « . قال الشيخ : أمَّا عطفُ » مَنْ كَفَر « على » من آمَنَ « فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ ، لأنه يصيرُ المعنى : قال إبراهيم : وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل ، و » من آمن « العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في » ومَنْ كفر « ، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله » فَأُمَتِّعه « لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً ، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي : قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر ، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه ، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على » مَنْ « كما عَطَفَ » ومِنْ ذرِّيتي « على الكاف في » جاعِلك « فقال : » فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت : قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم ، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً ، والمعنى : قال وأرزقُ مَنْ كفر فأمتِّعه « فظاهرُ قولِه » والمعنى قال « أنَّ الضمير ٌٌٌٌٌٌفي » قال « لله تعالى ، وأنَّ » مَنْ كَفَرَ « منصوبٌ بالفعلِ المضارعِ المسندِ إلى ضميرِ المتكلِّم »
و « قليلاً نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو زمانٍ ، وقد تقدَّم له نظائرُ واختيار سيبويه فيه .

وقرأ الجمهور : « أضطَرُّه » خبراً . وقرأ يحيى بن وثاب : « إضطرُّه » بكسر الهمزة ، ووجهُها كسرُ حرفِ المضارعةِ كقولهم في أخال : إخالُ . وقرأ ابن مُحَيْصِن : « أطَّرُّه » بإدغامِ الضادِ في الطاءِ نحو : اطّجع في اضطجع ، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف : ضم شغر نحو : اطَّجع في اضطجع ، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف : ضم شغر نحو : اطَّجع في اضطجع [ قاله الزمخشري ، وفيه نظرٌ ، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها ، أدغم أبو عمرو الداني اللام في { يَغْفِرْ لَكُمْ } [ نوح : 4 ] ، والضاد في الشين : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } [ النور : 62 ] ، والشين في السين : { العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء : { نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض } [ سبأ : 9 ] ، وحكى سيبويه أن « مُضَّجعاً » أكثر فدل على أن « مُطَّجعاً كثير . وقرأ يزيد بن أبي حبيب : » أضطُّرُّه « بضم الطاء كأنه للإِتباع . وقرأ أُبَيّ : » فَنُمَتِّعُه ثم نَضَطَرُه « بالنون .
واضْطَرَّ افتعَل من الضُرِّ ، وأصلُه : اضْتَرَّ فأُبدلت التاءُ طاءً لأن تاء الافتعال تُبْدل طاءً بعد حروفِ الإِطباق وهو متعدٍّ ، وعليه جاء التنزيل ، وقال :
721 اضطَرَّكَ الحِرْرُ مِنْ سَلْمى إِلى أَجَأٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاضطرارُ : الإِلجاءُ والإِلزازُ إلى الأمرِ المكروهِ .
قوله : » وبئس المصيرُ « » المصير « فاعل والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : النارُ . ومصير : مَفْعِل من صار يصير ، وهو صالحٌ للزمان والمكانِ ، وأمَّا المصدرُ فقياسُه الفتحُ لأنَّ ما كُسِر عينُ مضارِعِه فقياسُ ظرفِيَّة الكسرُ ومصدرُه الفتحُ/ . ولكن النحويين اختلفوا فيما كانَتْ عينُه ياءً على ثلاثةِ مذاهبَ ، أحدها : أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم . والثاني : أنه مُخَيَّرٌ فيه . والثالث : مذاهبَ ، أحدها : أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم . والثاني : أنه مُخَيَّرٌ فيه . والثالث : أن يتُبع المسموعُ فما سُمِعَ بالكسرِ أو الفتح لا يَتَعَدَّى ، فإنْ كان » المصيرُ « في الآية اسمَ مكانٍ فهو قياسي اتفاقاً ، والتقدير : وبِئْسَ المصيرُ النارُ كما تقدَّم ، وإن كان مصدراً على رأي مَنْ أجازه فالتقدير : وبِئْسَ الصيرورةُ صَيْرورتُهم إلى النار .

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ } : « إذ » عطفٌ على « إذ » قبلها فالكلامُ فيهما واحِدٌ ، و « يرفعُ » في معنى رفَعَ ماضياً ، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ . وقال الزمخشري : « هي حكايةُ حالٍ ماضية » قال الشيخ : « وفيه نظرٌ » . والقواعدُ : جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة ، ومنه « قَعَّدك الله » أي : أسأل الله تَثْبيتك ، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها ، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع . وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها « قاعِد » من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من : قَعَدَتْ عن الزوج . ولم يقل « قواعد البيت » بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن .
قوله : { مِنَ البيت } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ ب « يرفع » ومعناها ابتداءُ الغايةِ . والثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « القواعدِ » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : كائنةً من البيت ، ويكون معنى « مِنْ » التبعيضَ .
قوله : { وَإِسْمَاعِيلُ } فيه قولان ، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على « إبراهيم » فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ ، ويكونُ قولُه : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي : يَرْفَعان يقولان : ربَّنَا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ : « يقولان ربَّنا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ : » يقولان ربَّنا تقبَّلْ « أي : قائِلين ذلك ، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها ، ويكونُ هو العاملَ في » إذ « قبله ، والتقديرُ : يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي : وقتَ رَفْعِهما .
والثاني : الواوُ واو الحالِ ، و » إسماعيلُ « مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه : » ربَّنا تَقبَّلْ « فيكونُ » إبراهيم « هو الرافعَ ، و » إسماعيلُ « هو الداعيَ فقط ، قالوا : لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً ، وَرَوْوه عن علي عليه السلام . والتقديرُ : وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول : ربَّنا تقبَّلْ منا . وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح . وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد . وتقدَّم الكلام على نحوِ { إِنَّكَ أَنتَ السميع } من كون » أنت « يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ والفصلُ ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ ، كقولِه : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت } [ آل عمران : 106 ] وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ ، ولأنَّها تَشْمَل المسموعاتِ وغيرَها .

قوله : { مُسْلِمَيْنِ } مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير ، والمفعولُ الأولُ هو « ن » وقرأ ابن عباس « مسلمِين » بصيغةِ الجمع ، وفي ذلك تأويلان أحدُهما : أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً . والثاني : أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر .
قوله { لَّكَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن ، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى . والثاني : أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن ، أي : مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي : مستسلمَيْن ، والأولُ أقوى معنىً .
قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً } فيه قولان ، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ « مِنْ ذريتنا » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ ، و « أمة مسلمة » مفعولٌ ثان تقديرُه : واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً . وفي « من » حينئذ ثلاثة أقوالٍ ، أحدُها : أنها للتبعيض ، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين ، قال : كقولِه : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] . الثالث : أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل ، قاله أبو البقاء .
الثاني من القولَيْن : أن يكونَ « أمَّةً » هو المفعولَ الأولَ ، و « مِنْ ذريتنا » حالٌ منها؛ لأنه في الأصل صفةٌ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً ، و « مُسْلِمَةً » هو المفعولُ الثاني ، والأصل : « واجعَلْ أمةً من ذريتنا مسلمةً » ، فالواو داخلةٌ في الأصلِ على « أمة » وإنما فَصَلَ بينهما بقولِه : « مِنْ ذرِّيَّتنا » وهو جائزٌ لأنَّه من جملةِ الكلام المعطوفِ ، وفي إجازتِه ذلك نظرٌ ، فإنَّ النحويين كأبي علي وغيره منعوا الفصلَ بالظرفِ بين حرفِ العطفِ إذا كان على حرفٍ واحدٍ وبين المعطوفِ ، وجَعَلوا قولَه :
722 يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال ... عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً
ضرورةً فالفصلُ بالحالِ أبعدُ ، وصار ما أجازه نظيرَ قولِك : « ضَرَبَ الرجلَ ومتجردةً المرأةَ زيدٌ » وهذا غيرُ فصيحٍ ، ولا يجوزُ أن يكونَ « اجعَلْ » المقدرةُ بمعنى اخلُقْ وأوجِدْ ، فيتعدَّى لواحدٍ ويتعلَّقَ « من ذريتنا » به ، ويكونُ « أمةً » مفعولاً به؛ لأنه إنْ كان مِنْ عطفِ المفردات لَزِمَ التشريكُ في العاملِ الأولِ والعاملُ الأولُ ليس معناه « اخلُقْ » إنما معناه صيِّر ، وإن كان من عطفِ الجملِ فلا يُحْذَفُ إلا ما دَلَّ عليه المنطوقُ ، والمنطوقُ ليس بمعنى الخَلْقَ فكذلك المحذوفُ ، ألا تراهم مَنَعوا في قولِه : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] أن يكونَ التقديرُ : وملائكتُه يُصَلُّون لاختلافِ مدلولِ الصلاتين ، وتأوَّلوا ذلك على قَدْرٍ مشتركٍ بينهما ، وقوله « لكَ » فيه الوجهان المتقدمان بعد « مسلِمَيْنِ » .
قوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة ، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً ، ف « ن » مفعولٌ أولُ ، و « مناسِكَنا » مفعولٌ ثانٍ .

وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من « رأى » بمعنى عَرَفَ فتتعدَّى أيضاً لاثنينِ كما تقدَّم ، وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبيَّةٌ ، والقلبيةُ قبلَ النقلِ تتعدَّى لاثنين ، كقوله :
723 وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ
وقال الكميت :
724 بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ
وقال ابن عطية : « ويلزَمُ قائلَه أَنْ يتعدَّى الفعلُ منه إلى ثلاثةٍ : وينفصلُ عنه بأنّه يوجدُ مُعَدَّىً بالهمزةِ من رؤيةِ القلب كغيرِ المُعَدَّى وأنشد قولَ حطائط بن يعفر :
725 أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني ... أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا
يعني : أنه قد تَعدَّت » عَلِم « القلبيةُ إلى اثنين سواءً كانت مجردةً من الهمزةِ أم لا ، وحينئذٍ يُشْبه أن يكونَ ما جاء فيه فَعِل وأَفْعل بمعنىً وهو غريبٌ ، ولكنَّ جَعْلَه بيتَ حطائط من رؤيةِ القلبِ ممنوعٌ بل معناه من رؤيةِ البصرِ ، ألا ترى أن قولَه » جواداً ماتَ « من متعلِّقات البصر ، فيَحْتاجُ في إثباتِ تعدِّي » أعلَم « القلبية إلى اثنين إلى دليلٍ . وقال بعضهم : » هي هنا بَصَريَّةٌ قلبيةٌ معاً لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر « ، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاً .
وقرأ الجمهور : » أَرِنَا « بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ . » أَرِني أنظرْ « ، وفي فُصّلت : { أَرِنَا الذين } [ فصلت : 29 ] ، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم/ ، واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع ، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها . أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور ، وأما الإِسكان فللتخفيفِ ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره ، كما قالوا في فَخِذ : فَخْذ وكتِف : كتْف .
وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا : صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه : » أَرْءِنا « ثم نُقِل ، قاله الزمخشري تابعاً لغيره . قال الفارسي : » التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ « وقال أيضاً : » ألا تراهم أَدْغموا في { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] ، والأصل : « لكنْ أنا » « نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا ، فذهابُ الحركةَ في » أَرِنا « ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال :
726 أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها ... من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا
وأصل أَرِنَا : أَرْءِنا ، فنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى الراء وحُذِفَتْ هي ، وقد تقدّم الكلامُ بأشبع مِنْ هذا عند قولِه : { حتى نَرَى الله } [ البقرة : 55 ] .
والمناسِكُ واحدُها : مَنْسَك بفتح العين وكسرِها ، وقد قرىء بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه . والمنسَكُ : موضعُ النسُك وهو العبادة .
قوله : { فِيهِمْ } في هذا الضميرِ قولان : أحدُهما : أنه عائدٌ على معنى الأمة ، إذ لو عادَ على لفظِها لقال : » فيها « قاله أبو البقاء ، والثاني : أنه يعودُ على الذريةِ بالتأويلِ . المتقدِّم . وقيل : يعودُ على أهل مكة ، ويؤيده : { الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً } [ الجمعة : 2 ] .

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

قوله تعالى : { مِّنْهُمْ } : في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لرسولاً فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : رسولاً كائناً منهم .
قوله : { يَتْلُواْ } في محلِّ هذه الجملة ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً لرسولاً ، وجاء هذا على الترتيبِ الأحْسَنِ إذ تقدَّم ما هو شبيهٌ بالمفردِ وهو المجرورُ على الجملةِ . والثاني : أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من « رسولا » لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّصَ . الثالث : أنها حالٌ من الضميرِ في « مِنْهم » والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به « منهم » لوقوعِه صفةً .
وتقدَّم قولُه « العزيزُ » لأنها صفةُ ذاتٍ وتأخَّر « الحكيمُ » لأنها صفةُ فِعْل .
ويقال : عَزَّ يَعُزَّ ، وَيَعَزُّ ، ويَعِزُّ ، ولكنْ باختلافِ معنىً ، فالمضمومُ بمعنى غَلَب ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] والمفتوحُ بمعنى الشدةِ ، ومنه : عَزَّ لحمُ الناقة أي : اشتدَّ ، وعَزَّ عليَّ هذا الأمرُ ، والمكسورُ بمعنى النَّفاسةِ وقلةِ النظري .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ } : « مَنْ » اسمُ استفهامٍ بمعنى الإِنكار فهو نفيٌ في المعنى ، ولذلك جاءَتْ بعده « إلاَّ » التي للإِيجابِ ، ومحلُّه رفعٌ بالابتداءِ ، و « يَرْغَبُ » خبرُه ، وفيه ضميرٌ يعودُ عليه ، والرغبةُ أصلُها الطلبُ ، فإنْ تَعَدَّت ب « في » كانَتْ بمعنى الإِيثارِ له والاختيارِ نحو : رَغِبْت في كذا ، وإن تَعَدَّت ب « عن » كانت بمعنى الزَّهادة نحو : رَغِبْت عنك .
قوله : { إِلاَّ مَن سَفِهَ } في « مَنْ » وجهان : أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ على البدلِ من الضمير في « يَرْغَبُ » وهو المختارُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجبٍ ، والكوفيون يَجْعَلون هذا من بابِ العطفِ ، فإذا قلتَ : ما قام القومُ إلا زيدٌ ، ف « إلاَّ » عندهم حرفُ عطفٍ وزيدٌ معطوفٌ على القوم ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِ النحو . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الاستثناء و « مَنْ » يُحتمل أن تكونَ موصولةً وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً ، فالجملةُ بعدَها لا محلَّ لها على الأولِ ، ومحلُّها الرفعُ أو النصبُ على الثاني .
قوله : { نَفْسَهُ } في نصبِه سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو المختارُ - أَنْ يكونَ مفعولاً به؛ لأنَّ ثعلباً والمبرد حكيا أنَّ سَفِه بكسر [ الفاء ] يتعدَّى بنفسه كما يتعدَّى سَفَّه بفتح الفاء والتشديد ، وحُكي عن أبي الخطاب أنها لغةٌ ، وهو اختيارُ الزمخشريُ فإنه قال : « سَفِه نفسَه : امتَهَنَها واستخَفَّ بها » ، ثم ذَكَر أوجهاً أُخَرَ ، ثم قال : « والوجهُ الأول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : » الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحقَّ وتَغْمَصَ الناسَ « الثاني : أنه مفعولٌ به ولكن على تضمين » سَفِه « . معنى فِعْلٍ يتعدَّى ، فقدَّره الزجاج وابنُ جني بمعنى جَهِل ، وقدَّره أبو عبيدة . بمعنى أهلك . الثالث : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجرِّ تقديره : سَفِه في نفسه . الرابع : توكيدٌ لمؤكَّدٍ محذوفٍ تقديره : سَفِه قولَه نفسَه ، فحذَفَ المؤكَّد ، قياساً على النعت والمنعوت ، حكاه مكي . الخامس : أنه تمييزٌ وهو قولُ بعضِ الكوفيين ، قال الزمخشري : » ويجوز أَنْ يكونَ في شذوذِ تعريفِ المُمَيِّز نحو قوله :
727 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِّقَابا
728 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
فجعل الرِّقابَ والظهرَ تمييزَيْن ، وليسَ كذلك ، بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به لأنهما معمولاً صفةٍ مشبهةٍ ، وهي الشُّعْر جمع أَشْعر ، وأجَبّ وهو اسمٌ . السادس : أنه مشبّهٌ بالمفعولِ به وهو قولُ بعض الكوفيين . السابع : أنه توكيدٌ لِمَنْ سَفِه ، لأنه في محلِّ نصبٍ على الاستثناء في أحد القولين ، وهو تخريجٌ غريبٌ نقله صاحب « العجائب والغرائب » ، والمختارُ الأولُ لأنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ وكذلك حرفِ الجرِّ ، وأمّا حَذْفُ المؤكَّد وإبقاءُ التوكيدِ فالصحيحُ لا يجوزُ ، وأمَّا التمييزُ فلا يقع معرفةً ، وما وَرَدَ نادرٌ أو مُتَأَوَّل ، وأمّا النصبُ على التشبيهِ بالمفعولِ فلا يكونُ في الأفعالِ إنما يكون في الصفاتِ المشبَّهةِ خاصةً .

قوله : { فِي الآخرة } فيه خمسةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلِّق بالصالحين على أن الألفِ واللامَ للتعريفِ وليستْ موصولةً . الثاني أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أيضاً لكن مِنْ جِنسِ الملفوظِ به أي : وإنه لصالحٌ في الآخرة لَمِن الصالحين . الرابع : أن يتعلَّقَ بقولِه « الصالحين » وإنْ كانت أل موصولةً : لأنه يُغْتفر في الظروفِ وشِبْهِها ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِها اتِّساعاً ، ونظيرُه قوله :
729 رَبَّيْتُه حتى إذا تَمَعْدَدا ... كان جزائي بالعَصَى أَنْ أُجْلَدَا
الخامس : أن يتعلَّق ب « اصَطَفْيناه » قال الحسين بن الفضل : « في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، مجازُه : ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة » وهذا ينبغي ألاَّ يجوزُ مثلُه في القرآنِ لنُبُوِّ السَّمْعِ عنه .
والاصطفاءُ : الاختيارُ ، افتعال من صَفْوةِ الشيء وهي خِيارُه ، وأصلُه : اصْتَفى ، وإنما قُلِبت تاءُ الافتعال طاءً مناسبةً للصادِ لكونِها حرفَ إطباقٍ وتقدَّم ذلك عند قولِه : { أَضْطَرُّهُ } [ البقرة : 126 ] . وأكَّد جملةَ الاصطفاءِ باللام ، والثانية بإنَّ واللام ، لأنَّ الثانية محتاجةٌ لمزيدِ تأكيدٍ ، وذلك أنَّ كونَه في الآخرةِ من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ ، فاحتاجَ الإِخبارُ به إلى فَضْلِ توكيدٍ ، وأمَّا اصطفاءُ الله له/ فقد شاهَدُوه منه ونَقَله جيلٌ بعد جيلٍ .

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ } : في « إذ » خمسةُ أوجهٍ أصَحُّها أنه منصوبٌ ب « قال أَسْلَمْتُ » ، أي : قال أسلمتُ وقتَ قولِ الله له أَسْلَمْ . الثاني : أنه بَدَلٌ من قوله « في الدنيا » . الثالث : أنه منصوبٌ باصطفيناه . الرابع : أنه منصوبٌ ب « اذكر » مقدَّراً ، ذكر ذلك أبو البقاء والزمخشري . وعلى تقدير كونِه معمولاً لاصطفيناه أو ل « اذكر » مقدرّاً يبقى قولُه « قال أسلمْتُ » غيرَ منتظم مع ما قبله ، إلا أنْ يُقدَّرَ حذفُ حرفِ عطفٍ أي : فقال ، أو يُجْعَلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّرٍ أي : ما كان جوابُه؟ فقيل : قال أسلَمْتُ ، الخامس : أبْعَدَ بعضُهم فجعله مع ما بعدَه في محلِّ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيه « اصطَفَيْناه » .
وفي قوله : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ } التفاتٌ إذ لو جاءَ على نَسَقِهِ لقيل : إذ قلنا ، لأنَّه بعدَ « ولقَدِ اصْطَفَيْناه » وعكسُه في الخروجِ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ قولُه :
730 باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشَةً ... وقد حَمَلْتُكَ سبعاً بعدَ سَبْعينا
وقوله { لِرَبِّ العالمين } فيه من الفخامة ما ليس في قوله « لك » أو « لربّي » ، لأنه إذا اعترف بأنَّه ربُ جميعِ العالمينِ اعتَرَف بأنه ربُّه وزيادةٌ بخلافِ الأول فلذلك عَدَلَ عن العبارَتَيْنِ . وفيه قوله : « أَسْلْمِ » حَذْفُ مفعولٍ تقديرُه : أَسْلِمْ لربِّك .

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

قوله تعالى : { ووصى } : قُرِىء مِنْ وصَّى ، وفيه معنى التكثير باعتبارِ المفعولِ المُوَصَّى ، وأَوْصى رباعياً وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ عامر ، وكذلك هي في مصاحفِ المدينةِ والشام ، وقيل أَوْصى ووصَّى بمعنىً .
والضميرُ في « بها » فيه ستةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه يعودُ على المِلَّة في قوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } ، قال الشيخ : « وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكُرِ [ المهدوي ] وغيرَه » والزمخشري - رحمه الله - لم يذكرْ هذا ، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله « أَسَلَمْتُ » لتأويله بالكلمةِ ، قال الزمخشري : « والضميرُ في » بها « لقولِه { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 28 ] وقولُه » كلمةً باقيةً « دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة . انتهى . الثاني : أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه » أَسْلَمْتُ « كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري : قال ابن عطية : » وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور « . الثالثُ : أنه يَعودُ على متأخر ، وهو الكلمةُ المفهومةُ مِنْ قولِه : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } . الرابع : أنه يعودُ إلى كلمةِ الإِخلاص وإن لم يَجْرِ لها [ ذِكْرٌ ] . الخامسُ : أنه يعودُ على الطاعةِ للعلم بها أيضاً . السادسُ : أنَّه يعودُ على الوصيَّةِ المدلولِ عليها بقوله : » ووصَّى « ، و » بها « يتعلَّق لوصَّى . و » بنِيه « مفعولٌ به .
قوله : { وَيَعْقُوبُ } الجمهورُ على رفعه وفيه قولان ، أظهرهُما : أنه عطفٌ على » إبراهيم « ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي : ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً ، والثاني : أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال : يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى . وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على » بَنيه « ، أي : ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً .
قوله : { يَا بَنِيَّ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه من مقولِ إبراهيمِ ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتهِ منصوباً . والثاني : أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه : » ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله : « يا بَنِيَّ » وما بعدها [ منصوبةٌ ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين ، أي : فقال يا بَنِيَّ ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين ، وقال الراجز :
731 رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا ... إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا
بكسر الهمزةِ على إضمارِ القولِ ، أو لإِجراءِ الخبرِ مُجْرى القولِ ، ويؤيِّد تعلُّقَها بالوصية قراءةُ ابنِ مسعود : « أَنْ يا بَنِيَّ » ب « أَنْ » المفسرة ، ولا يجوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً لعدمِ ما يَنْسَبِكُ منه مصدرٌ ، ومَنْ أبى جَعْلَها مفسرةً وهم الكوفيون يجعلونَها زائدةً .

ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق . ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل ، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب .
و « اصطفى » ألفُه عن ياء ، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة ، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً ، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً . و « لكم » أي لأجلكم ، والالفُ واللامُ في « الذين » للعهدِ .
قوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إلا } هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك : « لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع » ، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة ، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه ، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كالصلاة ، كأنه قال : أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه ، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألاَّ يُجْعَلَ فيهم .
وأصل تموتُنَّ : تموتُونَنَّ : النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى بالبقاءِ لدلالِتها على معنىً مستقلٍ فالتقى ساكنان : الواوُ والنونُ الأولى المُدْغمة فَحُذِفَت الواوُ لالتقاءِ الساكنين ، وبقيتِ الضمةُ تَدُلُّ عليها وهكذا كلُّ ما جاء من نظائره . { إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ من الأحوالِ العامة ، و « أنتم مسلمون » مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصلٍ على الحالِ كأنه قال تعالى « لا تَموتُنَّ على كلِّ حالٍ إلا على هذه الحالِ » ، والعاملُ فيها ما قبلَ إلاَّ .

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

قوله : { أَمْ } : في أم هذه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُهما - وهو المشهورُ - : أنها منقطعةٌ ، والمنقطعةُ تُقُدَّر ب « بل » وهمزةِ الاستفهامِ وبعضُهم يقدَّرُها ببل وحدَها . ومعنى الإِضرابِ انتقالٌ من شيءٍ إلى شيءٍ لا إبطالٌ له ، ومعنى الاستفهامِ الإِنكارُ والتوبيخُ فيؤُول معناه إلى النفي أي : بل أكنتم شهداءَ يعني لم تكونوا . الثاني : أنها بمعنى/ همزةِ الاستفهامِ وهو قولُ ابن عطية والطبري ، إلا أنهما اختلفا في محلِّها : فإنَّ ابن عطية قال : « وأم تكون بمعنى ألفِ الاستفهامِ في صدرِ الكلامِ ، لغةٌ يمانيَّة » وقال الطبري : « إنَّ أم يُستفهم بها وسْطَ كلامٍ قد تقدَّم صدرُه » ، قال الشيخ في قول ابن عطية : « ولم أقفْ لأحدٍ من النحويين على ما قال » ، وقال في قول الطبري : « وهذا أيضاً قولٌ غريبٌ » . الثالث : أنها متصلةٌ وهو قولُ الزمخشري ، قال الزمخشري بعد أن جَعَلَها منقطعةً وجَعَلَ الخطابَ للمؤمنين قال بعد ذلك : « وقيل الخطابُ لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبيٌّ إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شَهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه لظَهَر لهم حِرْصُه على مِلَّة الإِسلامِ ولَمَا ادَّعَوا عليه اليهوديةَ ، فالآيةُ منافيةٌ لقولهم ، فكيف يُقال لهم : أم كنتم شهداءَ؟ ولكن الوجهَ أن تكونَ » أم « متصلةً على أَنْ يُقَدَّرَ قبلَها محذوفٌ كأنه قيل : أَتَدَّعُون على الأنبياءِ اليهوديةَ أم كنتُمْ شهداءَ ، يعني أنَّ أوائلكم من بني إسرائيلَ كانوا مشاهِدين له إذا أراد بَنيه على التوحيد وملَّةِ الإِسلامِ . فما لكم تَدَّعُون على الأنبياءِ ما هم منه بَراءٌ؟ » .
قال الشيخ : « ولا أعلَمُ أحداً أجازِ حَذْفَ هذه الجملةِ ، لا يُحْفَظُ ذلك في شعرٍ ولا غيرِه ، لو قلت : » أم زيدٌ « تريد : » أقام عمروٌ أم زيدٌ « لم يَجُزْ ، وإنما يجوز حَذْفُ المعطوفِ عليه مع الواوِ والفاءِ إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولك : » بلى وعمراً « لمَنْ قال : لم يَضرِبْ زيداً ، وقوله تعالى : { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي فضربَ فانفجَرَتْ ، ونَدَرَ حَذْفُه مع أو كقوله :
732 فَهل لكَ أو مِنْ والدٍ لَكَ قبلنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : من أخٍ أو والدٍ ، ومع حتى كقوله :
733 فواعَجَباً حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... كأن أباها نَهْشَلٌ أو مجاشِعُ
أي : يَسُبُّني الناسُ حتى كُلَيْبٌ ، على نظرٍ فيه ، وإنما الجائزُ حَذْفُ » أم « مع ما عَطَفَتْ كقوله :
734 دعاني إليها القلبُ إني لأَمرِهِ ... سميعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي : أم غَيٌّ ، وإنما جاز ذلك لأنَّ المستفْهَمَ عن الإِثبات يتضمَّن نقيضَه ، ويجوز حَذْفُ الثواني المقابلاتِ إذا دَلَّ عليها المعنى ، ألا ترى إلى قولِه : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] كيف حَذَف » والبردَ « .

انتهى . و « شهداء » خبرُ كان وهو جَمْعُ شاهد أو شهيد ، وقد تقدَّم أول السورة .
قوله : { إِذْ حَضَرَ } « إذ » منصوبٌ بشهداءَ على أنَّه ظَرْفٌ لا مفعولٌ به أي : شهداء وقتَ حضور الموتِ إياه ، وحضورُ الموتِ كنايةٌ عن حضورِ أسبابِهِ ومقدِّماته ، قال الشاعر :
735 - وقلْ لهمْ بادِروا بالعُذْرِ والتمِسوا ... قولاً يُبَرِّئُكُم إني أنا الموتُ
أي : أنا سببُه ، والمشهورُ نصبُ « يعقوب » ورفع « الموت » ، قَدَّم المفعولَ اهتماماً . وقرأ بعضُهم بالعكس . وقُرىء « حَضِر » بكسر الضاد قالوا : والمضارعُ يَحْضُر بالضم شاذ ، وكأنه من التداخُلِ وقد تقدَّم .
قوله : { إِذْ قَالَ } « إذ » هذه فيها قولان أحدُهما : بدلٌ من الأولى ، والعاملُ فيها : إمَّا العاملُ في إذ الأولى إنْ قلنا إنَّ البدلَ لا على نية تكرار العامل أو عاملٌ مضمرٌ إِنْ قلنا بذلك . الثاني : أنها ظرفٌ لحَضَر .
قوله : { مَا تَعْبُدُونَ } ؟ « ما » اسمُ استفهام في محلِّ نصبٍ لأنه مفعولٌ مقدَّمٌ بتعبدون ، وهو واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام وأتى ب « ما » دون « مَنْ » لأحدِ أربعةِ معانٍ ، أحدُهما : أنَّ « ما » للمُبْهَمِ أمرُه ، فإذا عُلِمَ فُرِّق ب « ما » و « مَنْ . قال الزمخشري : » وكفاك دليلاً قولُ العلماء « مَنْ لما يَعْقِل » . الثاني : أنها سؤالٌ عن صفةِ المعبود ، قال الزمخشري : « كما تقول : ما زيدٌ؟ تريد : أفقيهٌ أم طبيبٌ أم غيرُ ذلك من الصفات » . الثالث : أن المعبودات ذلك الوقتَ كانت غيرَ عقلاء كالأوثان والأصنام والشمسِ . والقمرِ ، فاسْتَفْهم ب « ما » التي لغير العاقل فَعَرَف بنوه ما أراد فأجابوه بالحقِّ . الرابع : أنه اختَبَرهم وامتحَنَهم فسألهم ب « ما » دون « مَنْ » لئلا يَطْرُقَ لهم الاهتداء فيكون كالتلقين لهم ومقصودُه الاختبارُ . وقولُه « مِنْ بعدي » أي بعد موتي .
قوله : { وإله آبَائِكَ } أعاد ذكرَ الإِله لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرورِ دون إعادة الجارَّ ، والجمهور على « آبائِك » وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء « أبيك » ، وقرأ أُبَيّ : « وإلَه إبراهيم » فأسقط « آبائك » . فأمّا قراءةُ الجمهور فواضحةٌ . وفي « إبراهيم » وما بعدَه حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ ، أوحدُها : أنه بدلٌ . والثاني : أنه عطفُ بيانٍ ، ومعنى البدلية فيه التفصيلُ . الثالثُ : أنه منصوبٌ بإضمار « أعني » ، فالفتحةُ على هذا علامةٌ للنصبِ ، وعلى القَوْلين قبلَه علامةٌ للجرِّ لعدَمِ الصَّرْفِ ، وفيه دليلٌ على تسمية الجَدِّ والعمِّ أباً ، فإنَّ إبراهيمَ جَدُّه وإسماعيلَ عمُّه ، كما يُطْلَقُ على الخالة أب ، ومنه : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } [ يوسف : 100 ] في أحد القولين . قال بعضهم : « وهذا من باب التغليب ، يعني أنه غَلَّب الأبَ على غيره وفيه نظرٌ ، فإنه قد جاء هذا الإِطلاقُ حيث لا تثنيةٌ ولا جمعٌ فَيُغَلَّبُ فيهما ، قال عليه السلام :

« رُدُّوا عليَّ أبي » يعني العباس .
وأمَّا قراءة « أَبيك » فتحتملُ وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ مفرداً غيرَ جمعٍ ، وحينئذٍ : فإمّا أَنْ يكونَ واقعاً موقعَ الجمعِ أولا ، فإن كان واقعاً موقع الجمعِ فالكلامُ في « إبراهيم » وما بعدَه كالكلامِ فيه على القراءة المشهورةِ ، وإنْ لم يكنْ واقعاً موقعه بل أُريد به الإِفرادُ لفظاً ومعنىً فيكون « إبراهيم » وحدَه على الأوجه الثلاثة المتقدمة ، ويكونُ إسماعيلُ وما بعدَه عطفاً على « أبيك » أي : وإله إسماعيل . الثاني : يكونَ جَمْعَ سلامةٍ بالياء والنون ، وإنما حُذِفَت النون للإِضافة ، وقد جاء جمعُ أب على « أَبُون » رفعاً ، و « أبِين » جَرَّاً ونَصْباً حكاها سيبويه ، قال الشاعر :
736 فلمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنَا بالأِبِينا
ومثله :
737 فَقُلْنا أَسْلِموا إنَّا أَبُوكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكلامُ في إبراهيمِ وما بعده كالكلامِ فيه بعد جمعِ التكسير . وإسحاق علم أعجمي ويكونُ مصدرَ أًسْحق ، فلو سُمِّي به مذكرٌ لانصرَف ، والجمعُ أساحِقة وأساحيق .
قولُه : { إلها وَاحِداً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها أنَّه بدل مِنْ « إلهك » بدلُ نكرةٍ موصوفةٍ من معرفةٍ كقولِه : { بالناصية نَاصِيَةٍ [ كَاذِبَةٍ ] } [ العلق : 15 ] . والبصريون لا يَشْترطون الوصفَ مُسْتدِلِّين بقولِه :
738 فلا وأبيك خيرٍ منك ... إنِّي لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
ف « خيرٍ » بدل من « أبيك » ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ . والثاني أنه حالٌ من « إلهك » / والعاملُ فيه « نعبدُ » ، وفائدةُ البدلِ والحالِ التنصيصُ على أن معبودَهم فَرْدٌ إذ إضافةُ الشيءِ إلى كثير تُوهم تعدادَ المضافِ ، فنصَّ بها على نَفْي ذلك الإِبهامِ . وهذه الحالُ تسمّى « حالاً موطئةً » وهي أَنْ تذكرها ذاتاً موصوفةً نحو : جاء زيد رجلاً صالحاً . الثالث : - وإليه نحا الزمخشري - أن يكونَ منصوباً على الاختصاص أي : نريد بإلهك إلهاً واحداً . قال الشيخ : « وقد نَصَّ النحويون على أنَّ المنصوبَ على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً » .
قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنها معطوفةٌ على قوله : « نعبد » يعني أنها تَتِمَّةُ جوابِهم له فأجابوه بزيادة . والثاني : أنها حالٌ من فاعلِ « نَعْبُدُ » والعاملُ « نَعْبُد » . والثالث : - وإليه نحا الزمخشري - ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ ، بل هي جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ ، أي : ومِنْ حالِنا أنَّا له مخلصونَ . قال الشيخ : « ونصَّ النحويون على أنَّ جملةَ الاعتراضِ هي التي تفيدُ تقويةً في الحكمِ : إمَّا بين جُزْئَي صلةٍ وموصولٍ كقوله :
739 ماذا - ولا عُتْبَ في المقدورِ - رُمْتَ أما ... يَكْفِيك بالنَّجْحِ أَمْ خُسْرٌ وتَضْلِيل
وقوله :
740 ذاكَ الذي - وأبيك - يَعْرِفُ مالكاً ... والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الباطِلِ

أو بين مسندٍ ومسند إليه كقوله :
741 - وقد أَدْرَكَتْني - والحوادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قومٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ
أو بينَ شرطٍ وجزاءٍ أو قَسَمٍ وجوابِه ، ممَّا بينهما تلازُمٌ ما ، وهذه الجملةُ قبلَها كلامٌ مستقلَّ عمَّا بعدَها ، لاَ يُقال : إنَّ بينَ المُشار إليه وبينَ الإِخبارِ عنه تلازماً لأنَّ ما قبلها مِنْ مقول بني يعقوبَ وما بعدَها من كلام الله تعالى ، أَخْبر بها عنهم ، والجملةُ الاعتراضيةُ إنما تكونُ من الناطقِ بالمتلازِمَيْنِ لتوكيدِ كلامِه « . انتهى ملخصاً . وقال ابن عطية : » ونحنُ لَه مسلمون ابتداءٌ وخبرٌ أي : كذلك كنَّا ونحن نكون « . قال الشيخ : » يَظْهَرُ منه أنه جَعَلَ هذه الجملةُ عطفاً على جملةٍ محذوفةٍ ولا حاجةَ إليه « .

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

قولُه تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ } : « تلكَ » مبتدأٌ ، و « أمةٌ » خبرُه ، ويجوزُ أن تكونَ « أمةٌ » بدلاً من « تلك » و « قد خَلَتْ » خبرٌ للمبتدأ . : وأصل تلك : تي فلمَّا جِيء باللامِ للبعدِ حُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنَيْنِ ، فإنْ قيلَ : لِمَ لَمْ تُكْسَرُ اللامُ حتى لا تُحْذَفَ الياءُ؟ فالجوابُ أَنَّه يَثْقُل اللفظُ بوقوع الياءِ بين كسرتين . وزعم الكوفيون أن التاءَ وحدَها هي الاسمُ ، وليس ثَمَّ شيءٌ محذوفٌ . وقوله « قد خَلَتْ » جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفةً ل « أمَّة » ، إنْ قيل إنَّها خبرُ « تلك » ، أو خبرُ « تلك » إنْ قيل إنَّ « أُمَّة » بدلٌ من « تلك » ، كما تقدَّم ، و « خَلَتْ » أي صَارتْ إلى الخلاءِ وهي الأرْضُ التي لا أنيسَ بها ، والمرادُ به ماتَتْ ، والمشارُ إليه هو إبراهيم ويعقوبُ وأبناؤُهم .
قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنْ تكونَ صفةً لأمة أيضاً ، فيكونُ محلُّها رفعاً . والثاني : أن تكونَ حالاً من الضمير في « خَلَتْ » فمحلُّها نصبٌ ، أي : خَلَتْ ثابتاً لها كَسْبُها . الثالث : أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها . وفي « ما » مِنْ قولِه : « ما كَسَبَتْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها بمعنى الذي . والثاني : أنها نكرةٌ موصوفة ، والعائدُ على كِلا القولَيْنِ محذوفٌ أي : كَسَبَتْه ، إلاَّ أنَّ الجملةَ لا محلَّ لها على الأول . والثالث : أنَ تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ على المشهور ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي : له مكسُوبُها أو يكونُ ثمَّ مضافٌ أي : لها جزاءُ كَسْبِها .
قوله : { وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } إنْ قيل : إنَّ قولَه { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مستأنَفٌ كانت هذه الجملةُ عطفاً عليه ، وإنْ قيل إنَّه صفةٌ أو حالٌ فلا ، أمَّا الصفةُ فلعدمِ الرابطِ فيها ، وأمَّا الحالُ فلاختلافِ زمانِ استقرارِ كسبِها لها وزمانِ استقرارِ كسب المخاطَبين ، وعطفُ الحالِ على الحالِ يُوجِبُ اتحادَ الزمانِ و « ما » مِنْ قولِه « ما كسبتم » ك « ما » المتقدمةِ .
قوله : { وَلاَ تُسْأَلُونَ } هذه الجملةُ استئنافٌ ليس إلاَّ ، ومعناها التوكيدُ لِما قبلَها ، لأنه لمَّا تقدَّم أنَّ أحداً لا ينفعه كَسْبُ أحدٍ بل هو مختصٌّ به إِنْ خيراً وإنْ شراً فلذلك لا يُسْأل أحدٌ عن غيره ، وذلك أنَّ اليهودَ افتخَروا بأسلافِهم فَأُخْبِروا بذلك . و « ما » يجوزُ فيها الأوجهُ الثلاثةُ مِنْ كَوْنِها موصولةً اسميةٌ أو حرفية أو نكرةً ، وفي الكلامِ حَذْفٌ أي : ولا يُسْأَلون عمّا كنتم تَعملون . قال أبو البقاء : « ودلَّ عليه : لَهَا ما كَسَبَتْ ولكم ما كَسَبْتُم انتهى . ولو جُعِلَ الدالُّ قولَه { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } كان أَوْلى لأنه مقابلَةٌ .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

قوله تعالى : { هُوداً أَوْ نصارى } : الكلامُ في « أو » كالكلامِ فيها عندَ قولِه : « وقالوا : لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى » وقد تقدَّم ، و « تهتدوا » جزمٌ على جوابِ الأمرِ ، وقد عُرِفَ ما فيه من الخلافِ : أعني هل جَزْمُه بالجملةِ قبلَه أو ب « إنْ » مقَدَّرَةً؟
قوله : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } قرأ الجمهور : « مِلَّةَ » نصباً ، وفيها أربعة أوجه ، أحدها : أنه مفعولُ فعلٍ مضمرٍ ، أي : بل نتبعُ مِلّةَ ، لأنَّ معنى كونوا هُوداً : اتبعوا اليهوديةَ أو النصرانية . الثاني : أنه منصوبٌ على خبر كان ، أي : بل نكونُ مِلَّة أي : أهلَ ملة ، كقول عدي بن حاتم : « إني من دين » أي من أهل دين ، وهو قولُ الزجاج وتَبِعه الزمخشري . الثالث : أنه منصوبُ على الإِغراء أي : الزموا ملةَ وهو قولُ أبي عُبَيْدَةَ ، وهذا كالوجهِ الأولِ في أنَّه مفعولٌ به وإن اختلفَ العاملُ . الرابع : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ ، والأصلُ : نَقْتَدي بملةِ إبراهيم ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ ، وهذا يحتملُ أَنْ يكونَ من كلامِ المؤمنين فيكونَ تقديرُ الفعلِ : بل نكونُ أو نتَّبع أو نَقْتدي كما تقدَّم ، وأن يكونُ خطاباً للكفارِ فيكونُ التقديرُ : كونوا أو اتَّبعوا او اقتدوا . وقرأ ابن هرمز وابن أبي عبلة « مِلَّةُ » رفعاً . وفيها وجهان : أحدُهما : خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ ، أي : بل ملتُنا ملةُ إبراهيمَ أو نحن ملةُ ، أي أهلُ ملة .
والثاني : أنها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه ، تقديرُه : مِلَّة إبراهيمَ ملَّتُنا .
قوله : { حَنِيفاً } في نصبهِ أربعةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه حالٌ من « إبراهيم » لأنَّ الحالَ تجيءُ من المضافِ إليهِ قياساً في ثلاثةِ مواضعَ على ما ذَكَرَ بعضُهم ، أحدها : أن يكونَ المضافُ عاملاً عملَ الفعلِ . الثاني : أنْ يكون جزءاً نحو : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] . الثالث : أن يكونَ كالجزءِ كهذه الآية؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا لازمَها تنزَّلَتْ منه منزلةَ الجزءِ . والنحويون يسضعفون مجيئَها من المضاف إليه ولو كانَ المضافُ جزءاً ، قالوا : لأنَّ الحالَ لا بدَّ لها من عاملٍ ، والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبها ، والعاملُ في صاحبِها لا يعملُ عملَ الفعل . ومَنْ جَوَّز ذلك قَدَّر العاملَ فيها معنى اللام أو معنى الإِضافةِ ، وهما عاملان في صاحِبها عند هذا القائل . ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجهِ ، وشبَّهه بقولك : « رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً » وهو قولُ الزجَّاج .
الثاني : نصبُه بإضمارِ فعلٍ أي : نتبعُ حنيفاً ، وقدَّره أبو البقاء بأعني ، وهو قولُ الأخفشِ الصغيرِ وجَعَلَ الحالَ خطأ .
الثالث : أنه منصوبٌ على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين ، وكان الأصلُ عندهم : إبراهيمَ الحنيفَ ، فلمَّا نكَّره لم يُمْكِن إتْباعه ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك .

الرابع - وهو المختارُ - أن يكونَ حالاً من « ملَّة » فالعاملُ فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها ، وقد تقدَّم ، وتكونُ حالاً لازمةً لأنَّ الملَّةَ لا تتغيَّر عن هذا الوصفِ ، وكذلك على القولِ بِجَعْلِها حالاً من « إبراهيم » لأنَّه لم يَنْتقِلْ عنها ، فإنْ قيل : صاحبُ الحالِ مؤنثٌ فكان ينبغي أَنْ يطابقَه في التأنيثِ فيقال : حنيفةً ، فالجوابُ من وجهين ، أحدُهما : أنَّ فَعيلاً يستوي فيه المذكرُ والمؤنُث . والثاني : أن الملَّة بمعنى الدِّين ، ولذلك أُبْدِلَتْ منه في قوله : { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] ذكر ذلك ابنُ الشجري في « أماليه » .
والحَنَفُ : المَيْلُ ومنه/ سُمِّي الأحْنَفُ لِمَيْلِ إحدى قَدَمَيْهِ بالأصابعِ إلى الأخرى قالَتْ أمُّه :
742 واللَّهِ لولا حَنَفٌ برِجْلِه ... ما كانَ في فِتْيانكم مِنْ مثلهِ
ويقال : رَجُلٌ أَحْنَفُ وامرأة حَنْفَاءُ ، وقيل : هو الاستقامةُ ، وسُمِّي المائلُ الرجلِ بذلك تفاؤلاً كقولِهم لِلديغ : « سليمٌ » ، وللمَهْلَكَة : « مفازة » قاله ابن قتيبة ، وقيل : الحَنيفُ لَقَبٌ لمن تَدّيَّن بالإِسلام ، قال عمرو :
743 حَمَدْتُ اللهَ حين هدى فؤادي ... إلى الإِسلام والدينِ الحَنيفِ
قاله القفال ، وقيل : الحَنيف : المائلُ عَمّا عليه العامَّةُ إلى ما لزِمه ، قاله الزجاج وأنشد :
744 ولكنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا ... حنيفاً دينُنا عَنْ كلِّ دِينِ

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

قوله تعالى : { قولوا } : في هذا الضمير قولان ، أحدُهما : أنَّه للمؤمنينِ والمرادُ بالمُنَزَّلِ إليهم القرآنُ على هذا . والثاني : أنه يعودُ على القائلين كونوا هوداً أو نصارى ، والمرادُ بالمُنَزَّل إليهم : إمّا القرآنُ وإمَّا التوراةُ والإِنجيلُ ، وجملةُ « آمنَّا » في محلِّ نَصْبِ بقولوا ، وكرَّر الموصول في قولِه : { وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } لاختلافِ المنزَّلِ إلينا والمُنزَّلِ إليه ، فلو لم يكرِّر لأوْهَمَ أن المنزَّلَ إلينا هو المنزَّلُ إليه ، ولم يكرِّر في « عيسى » لأنه لم يخالِفْ شريعةَ موسى إلا في نَزْر يَسير ، فالذي أوتيه عيسى هو عينُ ما أُوتيه موسى إلاَّ يسيراً ، وقُدِّم المنزَّلُ إلينا في الذِّكرْ وإِنْ كان متأخراً في الإِنزال تشريفاً له .
والأسْباط : جمعُ « سِبْط » وهم في وَلَدِ يعقوبَ كالقبائل في وَلَدِ إسماعيلً . واشتقاقُهم من السَّبْط وهو التتابعُ ، سُمُّوا بذلك لأنهم أمة متتابعون . وقيل : هو مَقْلُوبٌ من البَسْط ، وقيل : مِنْ « السَّبَط : بالتحريك جمع » سَبَطة « وهو الشجرُ الملتفُّ . وقيل للحَسَنَيْن سِبْطا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لانتشارِ ذرِّيَّتهم ، ثم قيل لكل ابن بنت : » سِبْط « .
قوله : { وَمَآ أُوتِيَ موسى } يجوزُ في » ما « وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ عطفاً على المؤمَنِ به وهو الظاهرُ . والثاني : أنَّها في محلِّ رفعِ بالابتداءِ ، ويكونُ { وَمَا أُوتِيَ النبيون } عطفاً عليها ، وفي الخبرِ وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ » مِنْ ربهم « . والثاني : أن يكون » لا نفرِّقُ « هكذا ذَكِرَ الشيخ ، إلا أنَّ في جَعْلِه » لا نفرِّقُ « خبراً عن » ما « نظراً لا يَخْفى من حيثُ عدمُ عودِ الضميرِ عليها . ويجوزُ أن تكونَ » ما « الأولى عطفاً على المجرورِ ، وما الثانيةُ مبتدأةً وفي خبرها الوجهانِ ، وللشيخ أن ينفصِلَ عن عدمِ عَوْدِ الضميرِ بأنَّه محذوفٌ تقديرُه : لا نفرِّق فيه ، وحَذْفُ العائدِ المجرورِ ب » في « مطَّردٌ كَما ذَكَر بعضُهم ، وأنشد :
745 فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ
أي : نُساء فيه ونُسَرُّ فيه .
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وهو الظاهرُ - أنَّه في محلِّ نصبٍ ، و » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ ، ويتعلَّقُ ب » أُوتِيَ « الثانيةِ إن أَعَدْنا الضميرَ على النبيين فقط دونَ موسى وعيسى أو ب » أوْتِيَ « الأولى ، وتكونُ الثانيةُ تكراراً لسقوطِها في آل عمران إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على موسى وعيسى والنبيِّين ، الثاني : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ من العائدِ على الموصولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه : وما أُوتيه كائناً من ربهم الثالث : انه في محلَّ رفعٍ لوقوعِه خبراً إذا جَعَلْنا » ما « مبتدأً وقد تقدَّم تحقيقُه .

قوله : { بَيْنَ أَحَدٍ } متعلِّقُ ب « لا نُفَرِّقُ » ، وفي « أحد » قولان أظهرُهما : أنَّه الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعمومِ وتحته أفرادٌ ، فلذلك صَحَّ دخولُ « بين » عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو : « المالُ بين الناس » . والثاني : أنه الذي همزتُه بدلٌ من واوٍ بمعنى واحد ، وعلى هذا فلا بدَّ من تقديرِ معطوفٍ ليَصِحَّ دخولُ « بَيْنَ » على متعددٍ ، ولكنه حُذِفَ لفَهْمِ المَعْنى ، والتقدير : بين أحدٍ منهم ، ونظيرُه ومثلُه قولُ النابغة :
746 فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ
أي : بين الخير وبيني . و « له » متعلِّقٌ بمسلمون ، قُدِّم للاهتمامِ به لعَوْدِ الضميرِ على الله تعالى أو لتناسُبِ الفواصل .

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } : في الباءِ أقوالٌ ، أحدُها : أنها زائدةٌ كهي في قولِه { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] وقوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } [ مريم : 25 ] وقوله :
747 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
والثاني : أنها بمعنى « على ، أي : فإنْ آمَنوا على مثلِ إيمانكم بالله » . والثالث : أنَّها للاستعانةِ كهي في « نَجَرْتُ بالقَدُوم » و « كَتَبْتُ بالقلم » والمعنى : فإنْ دَخَلوا في الإِيمانِ بشهادةٍ مثلِ شهادتِكم ، وعلى هذه الأوجهِ فيكونُ المؤمَنُ به محذوفاً ، و « ما » مصدريةً والضميرُ في « به » عائداً على الله تعالى ، والتقديرُ : فإنْ آمنوا باللهِ إيماناً مثلَ إيمانِكم به ، و « مثل » هنا فيها قولان ، أحدُهما : أنَّها زائدةٌ والتقديرُ : بما آمنْتُم به ، وهي قراءة عبدِ الله بنِ مسعودٍ وابن عباس ، وذكر البيهقي عن ابن عباس : « لا تقولوا بمثلِ ما آمنتم [ به ] فإنَّ اللهَ لَيس لَه مِثْلٌ ولكن قولوا بالذين آمنتم به } وهذه تُرْوَى قراءةً [ عن ] أُبَيّ ، ونظيرُها في الزيادةِ قولُ الشاعرِ :
748 فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ ... وقال بعضهم : هذا من مجازِ الكلام تقولُ : هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك ، أي لا تَفْعَلُه أنت ، والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، نَقَلَه ابنُ عطية ، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ » مثل « وزيادتِها ، والثاني : أنها ليست بزائدةٍ ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ ، أي : فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم ، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي : فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به ، والمعنى : فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء .
و » ما « قولِه : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ } فيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ : إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ » ما « على أولي العلمِ نحو : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ . والثاني : أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك . والضميرُ في » به « فيه أيضاً وجهان ، أحدُهما : أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم . والثاني : أن يعودَ على » ما « إذا قيل : إنَّها بمعنى الذي .
قوله : { فَقَدِ اهتدوا } جوابُ الشرط في قوله : » فإنْ آمنوا « ، وليس الجوابُ محذوفاً ، كهو في قوله : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ } [ فاطر : 4 ] لأنَّ تكذيبَ الرسلِ ماضٍ محقَّقُ هناك فاحتجْنا إلى تقديرِ جوابٍ ، وأمَّا هنا فالهدايةُ منهم لم تقعْ بعدُ فهي مستقبلةٌ معنىً وإن أُبْرِزَتْ في لفظِ المُضِيّ .
قوله : { فِي شِقَاقٍ } خبرٌ لقوله : » هم « وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم ، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون ، ومثلُه : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [ الأعراف : 66 ] ونحوُه : والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو : ضاربه ضِراباً ، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ .

وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه/ أي : جانبِه ، قال امرؤ القيس :
749 إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له ... بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ
أي : بجانبٍ . الثاني : أنه من المَشَقَّة فإنَّ كلاً منهما يَحْرِصُ على ما يَشُقُّ على صاحبِه . الثالث : أنَّه من قولهم : « شَقَقْتُ العَصا بيني وبينك » وكانوا يفعلون ذلك عند تَعادِيهم ، والفاءُ في قولهِ : « فَسَيَكْفِيكَهُم » تُشْعِرُ بتعقيبِ الكفاية عَقِبَ شِقاقهم . وجيءَ بالسينِ دونَ سوف لأنها أقربُ منها زماناً بوَضْعِها ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : فسيكفيكَ شِقاقَهم؛ لأنَّ الذواتِ لا تُكْفى إنما تُكْفَى أفعالُها ، والمَكْفِيُّ به هنا محذوفٌ أي : بمَنْ يَهْدِيه الله أو بتفريق كلمتِهم .

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

قوله تعالى : { صِبْغَةَ الله } : قرأ الجمهورُ « صبغةَ » بالنصبِ ، وقال الطبري : « مَنْ قَرَأَ مِلَّةُ إبراهيمَ بالرفع قرأ صبغةُ بالرفع » وقد تقدَّم أنها قراءةُ ابنِ هرمز وابن أبي عبلة . فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُها : أنَّ انتصابَها انتصابُ المصدرِ المؤكِّد وهذا اختاره الزمخشري ، وقال : « هو الذي ذَكَر سيبويه والقولُ ما قالَتْ حَذامِ » انتهى قولُه . اختُلَفِ حينئذٍ عن ماذا انتصَبَ هذا المصدرُ؟ فقيل عن قولِه : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وقيل : عَنْ قولِه : { فَقَدِ اهتدوا } . الثاني : أنَّ انتصابَها على الإِغراء أي : الزَمُوا صبغةَ الله ، قال الشيخ : « وهذا ينافِرُه آخرُ الآيةِ وهو قولُه : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } إلا أَنْ يُقَدَّر هنا قولٌ ، وهو تقديرٌ لا حاجةَ إليه ولا دليلَ من الكلامِ عليه » . الثالث : أنها بدلٌ من « مِلَّةَ » وهذا ضعيف إذ قد وَقَعَ الفصلُ بينهما بجُملٍ كثيرة . الرابع انتصابُها بإضمار فعلٍ أي : اتِّبِعوا صبغةَ الله ، ذكره أبو البقاء مع وجهِ الإِغراءِ ، وهو في الحقيقةِ ليس زائداً فإنَّ الإِغراءَ أيضاً هو نصبٌ بإضمارِ فعلٍ .
قال الزمخشري : « وهي - أي الصبغةُ - مِنْ صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَسَ ، وهي الحالَةُ التي يقع عليها الصَّبْغُ ، والمعنى تطهيرُ الله ، لأنَّ الإِيمانَ يُطَهِّرُ النفوسَ ، والأصلُ فيه أنَّ النصارى كانوا يَغْمِسون أولادَهم في ماء المَعْمودِيَّةِ ويقولون هو تطهيرٌ لهم ، فَأُمِرَ المسلمون أَنْ يقولوا : آمنَّا وصَبَغَنا الله صِبْغَةً لا مثلَ صِبْغَتِكم ، وإنَّما جيء بلفظِ الصِّبْغَةِ على طريقِ المُشاكلةِ كما تقول لِمَنْ يَغْرِسُ الأشجار : اغْرِسْ كما يَغْرِسُ فلانٌ ، تريدُ رجلاً يصطنعُ الكلامَ » .
وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما : أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : ذلك الإِيمانُ صبغةُ الله . والثاني : أن تكونَ بدلاً مِنْ « مِلَّة » لأنَّ مَنْ رَفَعَ « صِبْغَة » رفع « مِلَّة » كما تقدَّم فتكونَ بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءةِ النصبِ .
قولِه : { وَمَنْ أَحْسَنُ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي : لا أحدَ ، و « أَحْسَنُ » هنا فيها احتمالان ، أحدُهما : أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ . والثاني : أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ . و « مِنَ الله » ، متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ . و « صبغةً » نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ : ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله ، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين . وهذا غريبٌ أعني كَوْنَ التمييزِ منقولاً من المبتدأ .
قولُه : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ { قولوا آمَنَّا بالله } فهي في محلِّ نصبٍ بالقول ، قال الزمخشري : « وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ » صبغة الله « بدلٌ مِنْ » مِلَّةَ « أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه » . قال الشيخ : « وتقديرُه في الإِغراءِ : عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ ، ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله . انتهى » . كأنَّه لضَعْفِ العَمَلِ بالظروف والمجروراتِ ضَعُفَ حَذْفُها وإبقاءُ عملِها .

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

قوله تعالى : { أَتُحَآجُّونَنَا } : الاستفهامُ هنا للإِنكار والتوبيخِ . والجمهورُ : « أتحاجُّوننا » بنونين الأولى للرفعِ والثانيةُ نونُ « ن » وقرأ زيدٌ والحسنُ والأعمشُ بالإدغام ، وأجاز بعضُهم حَذْفَ النونِ الأولى ، فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ ، وأمّا قراءةُ الإِدغامِ فلاجتماعِ مِثْلَيْن ، وسَوَّغَ الإِدغام وجودُ حرفِ المَدِّ واللين قبلَه القائمِ مقام الحركةِ ، وأما من حَذَفَ فبالحَمْلِ على نونِ الوقايةِ كقراءة : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] وقولِه :
750 تَراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
يريد : فلينني ، وهذه الآيةُ مثلُ قولِه : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] فإنه قُرِئَتْ بالأوجهِ الثلاثةِ : الفَكِّ والإِدغامِ والحَذْفِ ، ولكن في المتواتِر ، وهنا لم يُقْرَأْ في المشهورِ كما تقدَّم إلا بالفك . ومَحَلُّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ قَبْلها . والضميرُ في « قل » يَحْتَمِلُ أن يكونَ للنبي عليه السلام أو لكلِّ مَنْ يَصْلُح للخطابِ ، والضميرُ المرفوعُ في « أتحاجُّوننا » لليهودِ والنصارى أو لمشركي العَرَبِ . والمُحَاجَّةُ مُفَاعَلة من حَجَّه يَحُجُّه . وقولُه « في الله » لا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : في شأنِ الله أو دينِ الله .
قوله : { وَهُوَ رَبُّنَا } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وكذا ما عُطِفَ عليه من قولِه : « ولنا أعمالُنا » ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : جَزَاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم .

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

قوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ } : قرأ حمزة والكسائي وحفص وابن عامر بتاءِ الخطابِ والباقون بالياء ، فأمّا قراءةُ الخطابِ فتحتمل « أم » فيها وَجْهين « ، أحدُهما : أن تكونَ المتصلةَ ، والتعادلُ بين هذه الجملةِ وبين قوله : » أتحاجُّوننا ، فالاستفهامُ عن وقوعِ أحدِ هذين الأمْرَيْن : المُحاجَّةِ في اللهِ او ادِّعاءٍ على إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه اليهوديَة والنصرانيةَ ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتويبخٍ كما تقدَّم فإنَّ كِلا الأمرين باطلٌ . والثاني : أن تكونَ المنقطعةَ فتتقدَّرَ ب « بل » والهمزةِ ، على ما تقرَّر في المنقطعة على أصحِّ المذاهبِ ، والتقدير : بل أتقولون : والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أيضاً فيكونُ قد انتقل عن قولِه : أتحاجُّوننا وأَخَذَ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى ، والمعنى على إنكارِ نسبةِ اليهوديةِ والنصرانيةِ إلى إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه .
وأمَّا قراءةُ الغَيْبة فالظاهرُ أنَّ « أم » فيها منقطعةٌ على المعنى المتقدَّم . وحكى الطبري عن بعضِ النحويين أنها متصلةٌ لأنك إذا قلت : أتقومُ أم يقولم عمروٌ : أيكونُ هذا أم هذا . وردَّ ابنُ عطية هذا الوجهَ فقال : « هذا المثالُ غيرُ جيدٍ ، لأنَّ القائلَ فيه واحدٌ والمخاطَبُ واحدٌ ، والقولُ في الآيةِ من اثنين والمخاطَبُ اثنان غَيْرانِ ، وإنّما تَتَّجِهُ معادَلةُ » أم « للألفِ على الحكم المعنوي ، كأنَّ معنى قُلْ أتحاجُّوننا : أيُحاجُّون يا محمد أم يقولون » انتهى . وقال الزمخشري : « وفيمَنْ قَرَأَ بالياء لا تكونُ إلا منقطعةً » قال الشيخ : « ويمكن الاتصالُ مع قراءةِ الياءِ ، ويكون ذلك من الالتفاتِ إذ صارَ فيه [ خروجٌ ] من خطابٍ إلى غَيْبةِ ، والضميرُ لناسٍ مخصوصين » . وقال أبو البقاء : « أم يقولونَ يُقْرأ بالياء ردَّاً على قوله : » فَسَيَكْفيكُهُم الله « فجَعَلَ هذه الجملةَ متعلقةً بقولِه : » فسيكفيكَهم « وحينئذٍ لا تكونُ إلا منقطعةً لِمَا عَرَفْتَ أنَّ من شرط المتصلةِ تقدُّمَ همزةِ استفهامٍ أو تسويةٍ مع أن المعنى ليس/ على أنَّ الانتقالَ مِن قولِه : » فَسَيَكْفيكهم « إلى قولِه » أم يقولون « حتى يَجْعَلَه ردَّاً عليه وهو بعيدٌ عنه لفظاً ومعنىً .
وقال الشيخ : » الأحسنُ في القراءتين أن تكونَ « أم » منقطعةً وكأنه أنكرَ عليهم مُحاجَّتَهم في الله ونسبة أنبيائِه لليهودية والنصرانية ، وقد وَقَع منهم ما أَنْكَرَ عليهم ، ألا ترى إلى قولِه : { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 65 ] الآيات وإذا جَعَلْناها متصلةً كان ذلك غيرَ متضمِّنٍ وقوعَ الجملتين ، بل إحداهما ، وصارَ السؤالُ عن تعيينِ إحداهما ، وليس الأمرُ كذلك إذا وقعا معاً . وهذا الذي قاله الشيخُ حسنٌ جداً . و « أو » في قولِه : « هوداً أو نصارى » كهي في قولِه : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى }

[ البقرة : 111 ] وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { أَمِ الله } أم متصلةٌ ، والجلاَلةُ عَطْفٌ على « أنتم » ، ولكنه فَصَل بين المتعاطِفينَ بالمسؤولِ عنه ، وهو أحسنُ الاستعمالاتِ الثلاثةِ : وذلك أنه يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ ثلاثةُ أوجهٍ : تقدُّمُ المسؤولِ عنه نحو : أأعلم أنتم أم اللهُ ، وتوسُّطُه نحو : أأنتم أعلمُ أم اللهُ ، وتأخيرُه نحو : أأنتم أم الله أعلمُ : وقال أبو البقاء : « أم الله » مبتدأ والخبرُ محذوفٌ ، أي : أم الله أعلمُ ، و « أم » هنا المتصلةُ أي : أيُّكم أعلم « وهذا الذي قاله فيه نظرٌ ، لأنَّه إذا قَدَّر له خبراً صناعياً صار جملةً ، وأم المتصلةُ لا تَعْطِفُ الجملةَ بل المفردَ وما في معناه . وليس قولُ أبي البقاء بتفسيرِ معنىً فيُغْتفَرَ له ذلك بل تفسيرُ إعرابٍ ، والتفضيلُ في قوله » أعلمُ « على سبيلِ الاستهزاءِ وعلى تقديرِ أن يُظَنَّ بهم عِلْمٌ من الجَهَلَةِ وإلاّ فلا مشاركةَ ، ونظيرُه قولُ حسان :
751 أتَهْجوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ ... فَشَرُّكما لخيرِ كما الفِداءُ
وقد عُلِم أنَّ الرسولَ خيرٌ كلُّه .
قوله : { مِنَ الله } في » مِنْ « أربعة أوجه ، أحدها : أنها متعلِّقةٌ ب » كَتَم « ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي : كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه . الثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ ، لأنَّ » عنده « صفةٌ لشهادة » وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال : و « مِنْ » في قولِه : { شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله } مثلُها في قولِك : « هذه شهادةٌ مني لفلان » إذا شَهِدْتَ له ، ومثلُه : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ براءة : 1 ] الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المضمرِ في « عنده » ، يعني مِن الضميرِ المرفوعِ بالظرفِ لوقوعِه صفةً ، ذَكَره أبو البقاء . الرابع : أن يتعلَّقَ بذلك المحذوفِ الذي تعلَّق به الظرفُ وهو « عنده » لوقوعِه صفةً ، والفرقُ بينه وبين الوجهِ الثاني أنَّ ذاك له عاملٌ مستقلٌ غيرُ العاملِ في الظرف .
قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تُعَلَّقَ » مِنْ « بشهادةٍ ، لئلا يُفْصَلَ بين الصلةِ والموصولِ بالصفةِ يعني أنَّ » شهادة « مصدرٌ مؤولٌ بحرفٍ مصدري وفعلٍ فلو عَلَّقْتَ » مِنْ « بها لكنْتَ قد فَصَلْتَ بين ما هو في معنى الموصولِ وبين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي وهو الظرفُ الواقعُ صفةً لشهادة . وفيه نظرٌ من وجهين : أحدُهما : لأ نُسَلِّمُ أنَّ » شهادة « يَنْحَلُّ لموصولٍ وصلتِه ، فإنَّ كلَّ مصدرٍ لا يَنْحَلُّ لهما . والثاني : سَلَّمْنا ذلك ولكن لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنَّ الظرفَ صفةٌ بل هو معمولٌ لها ، فيكونُ بعضُ الصلةِ لا أجنبياً حتى يَلْزم الفصلُ به بين الموصول وصلِته ، وإنَّما كان طريقُ مَنْع هذا بَغَيْرِ ما ذَكَر ، وهو أنَّ المعنى يأبى ذلك .
وكَتَمَ يتعدَّى لاثنين فأولُهما في الآيةِ الكرمية محذوفٌ تقديرُه : كَتَمَ الناسُ شهادةً ، والأحسنُ من هذه الوجوهِ أن تكونَ » من الله « صفةً لشهادة أو متعلقةً بعامل الظرفِ لا متعلقةً بكتم ، وذلك أنَّ كتمانَ الشهادةِ مع كونِها مستودعةً مِنَ الله عندَه أبلغُ في الأظلميَّةِ مِنْ كتمانِ شهادةٍ مطلقةٍ من عبادِ الله .

وقال في « ريّ الظمآن » : « في الآيةِ تقديمُ وتأخيرُ ، والتقديرُ : ومَنْ أظلمُ مِنَ الله مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً حَصَلَتْ له كقولِك : » ومَنْ أظلمُ من زيدٍ من جملةِ الكلمتين للشهادة « والمعنى : لو كانَ إبراهيمُ وبنوه يهوداً أو نصارى ، ثم إنَّ الله كَتَمَ هذه الشهادةَ لم يكن أحدٌ مِمَّنْ يكتمُ الشهادةَ أظلمَ منه ، لكن لمَّا استحال ذلك مع عَدْلِه وتنزيهه عن الكذبِ عَلِمْنا أنَّ الأمرَ ليس كذلك » . قال الشيخ : « وهذا متكلفٌ جداً من حيث التركيبُ ومن حيث المدلولُ : أمَّا التركيبُ فإنَّ التقديمَ والتأخيرَ من الضرائرِ عند الجمهور ، وأيضاً فيبقى قوله : » مِمَّن كتم « متعلِّقاً إمَّا بأظلم ، فيكونُ ذلك على طريق البدليَّةِ ، ويكون إذ ذاك بدلَ عامٍ من خاص وليس بثابتٍ ، وإنْ كان بعضُهم زَعَمَ ورودَه ، لكنَّ الجمهور تأوَّلوه بوضعِ العامِّ موضعَ الخاص ، أو تكونُ » مِنْ « متعلقةً بمحذوف فتكونُ في موضعِ الحال أي : كائناً من الكاتمين . وأمَّا من حيث المدلولُ فإنَّ ثبوتَ الأظلميَّة لمن جُرَّ ب » مِنْ « يكونُ على تقدير ، أي : إنْ كَتَمها فلا أحدَ أظلمُ منه ، وهذا كلُّه معنىً لا يَليقُ به تعالى ويُنَزَّه كتابُه عنه » .

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

قوله تعالى : { مِنَ الناس } : في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من « السفهاء » والعاملُ فيها « سيقولُ » وهي حالٌ مبيِّنة فإنَّ السَّفَه كما يوصف به الناسُ يُوْصَفُ به غيرُهم من الجمادِ والحيوانِ ، وكما يُنْسَبُ القولُ إليهم حقيقةً يُنْسَبُ لغيرهم مجازاً فَرَفَع المجازَ بقولِه : « مِن الناسِ » ذكره ابن عطية وغيرُه .
قوله : { مَا وَلاَّهُمْ } « ما » مبتدأٌ وهي استفهاميةٌ ، والجملةُ بعدها خبرٌ عنها ، و « عن قِبْلَتِهم » متعلقٌ ب « وَلاَّهم » ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ في قولِه « عليها » أي : على توجُّهِهَا أو اعتقادِها ، وجملةُ الاستفهامِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، والاستعلاءُ في قولِه « عليها » مجازٌ ، نَزَّلَ مواظَبَتَهم على المحافظةِ عليها منزلةَ مَنِ استعلى على الشيء .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ ، وهما : إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ ، والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه ب « ذلك » غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم ، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في « ذلك » على خمسةِ أوجهٍ : أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ : { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم الثاني : أنه الجعلُ ، والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ . الثالث : قيل : المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً . الرابع : قيل : المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً . الخامس : - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه : { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } أي : مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و « جَعَل » بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، فالضميرُ مفعولٌ أولُ ، و « أمةً » مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه . والوسَطُ بالتحريكِ : اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن ، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب :
752 كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ ... بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا
ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه ، قالَ زهير :
753 هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ ... إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ
وقوله :
754 وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا ... وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين ، فقال : كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ « بَيْنَ » يقال بالسكون وإلا فبالتحريك . فتقول : جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون . وقال الراغب : « وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر ، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ، فتقول : وسَطُه صُلْبٌ ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو : » وسْط القوم « كذا ، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر ، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره ، المؤنث والمذكرُ ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق :
755 أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه ... صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا
رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة ، وبفتحِها والضميرُ للجائية .
قوله : » لتكونوا « يجوز في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أن تكونَ لام » كي « فتفيدَ العلة . والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر ، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر ، وأتى ب » شهداء « جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد .
وفي » على « قولان أحدُهما : أنَّها على بابِها ، وهو الظاهرُ . والثاني أنها بمعنى اللام ، بمعنى : أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين ، كما نقله الرسولُ عليه السلام ، وكذلك القولان في » على « الأخيرة ، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم .

وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين ، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم ، والثاني : أن « شهيداً » أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من « عليكم » فكان قولُه « شهيداً » تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون « عليكم » . وهذا الوجهُ قاله الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك .
قوله : { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها : أنَّ « القِبلْة » مفعولٌ أولُ ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } مفعولٌ ثانٍ ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال : { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفةٍ للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ ، يريد : وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها ، وهي الكعبةُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ « .
الثاني : أنَّ » القِبلةَ « هي المفعولُ الثاني ، وإنما قُدِّم ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } هو الأول ، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [ هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً ، والمعنى هنا على هذا التقديرِ ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه » القبلةَ « مفعولاً أولَ إلى الوهم . وفيه نظر .
الثالث : أنَّ » القبلة « مفعولٌ أول ، و » التي كنتَ « صفتَهَا ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه : وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً . ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره : وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته .
الرابع : أن » القبلةَ « مفعولٌ أولُ ، و » إلا لِنَعْلَمَ « هو المفعولُ الثاني ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ ، نحو قولِك : ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ ، أي : كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ .
الخامس : أنَّ » القبلةَ « مفعولٌ أولُ ، والثاني محذوفٌ ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفةٌ لذلك المحذوفِ ، والتقديرُ : وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ . وفي قوله » كنت « وجهان أحدهما : أنها زائدةُ ، ويُروَى عن ابن عباس أي : أنتَ عليها ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب .
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو : الجلْسة ، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة .

وقال قطرب : « يقولون : » ليس له قِبْلَةٌ « أي جهةٌ يتوجه إليها » . وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ .
قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً ، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ ، أي : ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا . وقوله « لنعلم » ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ ، أحدُها : لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ . وقيل : على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه .
قوله : { مَن يَتَّبِعُ } في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أنها موصولةٌ ، و « يتَّبع » صلتُها ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ ل « نعلم » لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ . والثاني : أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و « يتَّبعُ » خبرهُ ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم ، والعلم على بابِه ، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه . وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال : « لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق » نعلم « عن العملِ ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ ل » مِنْ « ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله ، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متعلِّقةٌ بنَعْلَمَ ، وليس المعنى : أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب » انتهى . وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو : عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ . وقرأ الزهري : « إلا ليُعْلَمَ » على البناءِ للمفعولِ ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ ، فإنَّا [ لا ] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى .
قوله : { على عَقِبَيْهِ } في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أي : يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه ، وهذا مجازٌ ، وقُرىء « على عَقْبَيْه » بسكون القاف وهي لغةُ تميم .
قوله : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } « إنْ » هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر ، وهو أغلبُ أحوالِها ، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور ، وزعم الكوفيون أنها بمعنى « ما » النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرةً ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء ، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه .
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ « كبيرةً » « على خبر » كان « واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [ عن أبي عمرو ] برفعِها ، وفيه تأويلان ، أحدُهما - وذكره الزمخشري - : أنَّ » كان « زائدةٌ ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى ، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله :

756 فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فإنَّ قولَه « كرام » صفةٌ لجيران ، وزادَ بينهما « كانوا » وهي رافعةٌ للضميرِ ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل « لنا » خبراً مقدماً ، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران . والثاني : أنَّ « كان » غيرُ زائدةٍ ، بل يكونُ « كبيرةً » خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ : وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لكانت ، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً ، وهو توجيهٌ ضعيفٌ ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك .
قوله : { إِلاَّ عَلَى الذين } متعلِّقٌ ب « كبيرة » ، وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنْ قيل : لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه ، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك ، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي ، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، وقال الشيخ : « هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه : وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين ، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه » وقد تقدم جوابُ ذلك .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } [ آل عمران : 179 ] { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] قولان أحدُهما : - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ « كان » محذوفٌ ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار « أَنْ » وجوباً ، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ ، والتقديرُ : وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم ، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ . واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً . ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله : /
757 سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقولُ الثاني للكوفيين : وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ ، وقد رَدَّ عليهم أبو البقاء فقال : « وهو بَعيدٌ لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و » أَنْ « بعدها مُرادَةٌ ، فيصيرُ التقدير على قولهم : وما كان الله إضاعةَ إيمانكم ، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم ، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ » أَنْ « بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم ، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا .

واعلم أنَّ قولَك : « ما كان زيدٌ ليقومَ » بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من : « ما كان زيدٌ يقومُ » ، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط ، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه ، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ .
وقرأ الضَّحاك : « ليُضَيِّع » بالتشديد ، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من « ضاع » القاصر ، يقال : ضاع الشيء يضيع ، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه ، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي : فاحَ فمادةٌ أخرى .
قوله : { لَرَءُوفٌ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر : لَرُؤفٌ على وزن : نَدُس ، وهي لغةٌ فاشية كقوله :
758 وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ ... يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما
وقال آخر :
759 يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً ... كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ
وقرأ الباقون : « لَرَؤُوف » على زنة شَكُور ، وقرأ أبو جعفر : « لَرَوُفٌ » من غير همزٍ ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ . والرأفة : أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها ، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما : رَئِفٌ على وزن فَخِذ ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب . وإنما قُدِّم على « رحيم » لأجلِ الفواصل .

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

قوله تعالى : { قَدْ نرى } : « قد » هذه قالَ فيها بعضُهم : إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ ، وجَعَلَ ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر :
760 لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ ... مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ
وقال الزمخشري : « قد نرى » : ربما نرى ، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر :
761 قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه ... كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ
قال الشيخ : « وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ ، لأنه شَرَحَ » قد نرى « بربما نرى ، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه : ثم قال : » ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور . ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه لم تُوضَعْ للكثرةِ « قد » مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا ، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ « .
قوله : { فِي السمآء } : في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال ، أحدُها : أنه المصدرُ وهو » تقلُّب « ، وفي » في « حينئذ وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ . والثاني : أنَّها بمعنى » إلى « أي : إلى السماء ، ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه ب » في « ، قال تعالى : { [ لاَ يَغُرَّنَّكَ ] تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] . والثاني من القولين : أنه » نرى « وحينئذ تكونُ » في « بمعنى » مِنْ « أي : قد نَرى مِن السماء ، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ . والثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من » وجهِك « ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه ، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه » وجهك « وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل : كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه .
قوله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، أي : فوالله لَنُوَلينَّكَ ، و » نُوَلِّي « يتعدَّى لاثنين : الأول الكاف والثاني » قبلةً « ، و » ترضاها « الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً ، قال الشيخ : » وهذا - يعني « فلنولينك » - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه : قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها .
قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد } : « وَلَّى » يتعدَّى لاثنين أحدُهما « وجهك » والثاني « شطرَ » ويجوز أن ينتصبَ « شطر » على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس ، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه ، والأولُ أوضحُ ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى .

والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، قال :
762 ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً ... وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ
وقال :
763 أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي ... صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ
وقال :
764 وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ ... هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا
وقال ابن أحمر :
765 تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ ... قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا
وقال :
766 وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو ... كِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال :
767 إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها ... وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ
كل ذلك بمعنى : نحو وتِلْقاء . ويقال : شَطَرَ : بَعُد ومنه : الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه ، يقال : شَطَر شُطوراً ، والشَّطيرُ : البعيدُ ومنه منزل شَطِير ، وشَطَر إليه أي أقبل . وقال الراغب : « وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر ، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار .
وقوله : { حَيْثُ مَا كُنْتُمْ } في » حيثما « هنا وجهان ، أظهرُهما : أنها شرطيةٌ ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ » ما « بعدها خلافاً للفراء ، ب » كنتم « ، في محلِّ جزم بها ، و » فولُّوا « جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم ، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] واعلم أنَّ » حيث « من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها ، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ . قال الشيخ : » وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها ، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ ، والإِضافةُ موضَّحةُ لِما أُضيف ، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط؛ لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ ، فإذا وُصِلَتْ ب « ما » زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها ، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ « .
والثاني : أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط ، والناصبُ له قولُه : » فَوَلُّوا « قاله أبو البقاء ، وليس بشيء ، لأنه متى زيدت عليها » ما « وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ . وأصل وَلُّوا : وَلِّيُوا ، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا . وقوله : » شَطْرَه « فيه القولان ، وهما : إمَّا المفعولُ به وإمّاَ الظرفية كما تقدم .
قوله : { أَنَّهُ الحق } يُحْتمل أن تكونَ » أَنَّ « واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ ل » يَعْلَموْن « عند الجمهور ، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين ، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان .

وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها : يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه : « فولُّوا » . والثاني : على الشطر . والثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله « فَلَنُوَلِّينَّكَ » إلى الغَيْبة .
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي : الحقُّ كائناً مِنْ ربهم . وقرىء : « عمَّا يعملون » بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون/ التفاتاً من خطابِهم بقولِه : « وجوهكم - كنتم » . وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً .

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } : فيه قولان ، أحدُهما قولُ سيبويهِ وهو أنَّ اللامَ هي الموطِّئَةُ للقسَمِ المحذوفِ و « إنْ » شرطيةٌ ، فقد اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ ، وسَبَقَ القسمُ فالجوابُ له إذ لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ ، فلذلك جاء الجوابُ للقسمِ بما النافيةِ وما بعدَها ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه ، ولذلك جاء فعلُ الشرطِ ماضياً لأنه متى حُذِفَ الجوابُ وَجَبَ مضيُّ فعلِ الشرطِ إلا في ضرورةٍ ، و « تَبِعوا » وإنْ كان ماضياً لَفْظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، أي : ما يتَّبعون لأنَّ الشرطَ قيدٌ في الجملةِ والشرطُ مستقبلٌ فَوَجَبَ أنْ يكونَ مضمونُ الجملةِ مستقبلاً ضرورةَ أنَّ المستقبلَ لا يكونُ شرطاً في الماضي .
الثاني : وهو قولُ الفراء - ويُنْقل أيضاً عن الأخفشِ والزجاج - أن « إنْ » بمعنى « لو » ، ولذلك كانَتْ « ما » في الجوابِ ، فَجَعَلَ « ما تَبِعوا » جواباً لإِنْ لأنَّها بمعنى لو ، أمّا إذا لم تكن بمعناها فلا تُجابُ ب « ما » وحدَها ، بل لا بُدَّ من الفاءِ ، تقول : إن تَزُرْني فما أزورك ، ولا يجيز الفراء : « ما أزورك » بغير فاء . وقال ابن عطية : « وجاء جوابُ » لَئِنْ « كجوابِ لو ، وهي ضدُّها في أَنْ » لو « تَطْلُبُ المُضِيَّ والوقوعَ و » إنْ « تَطْلُب الاستقبالَ ، لأنهما جميعاً يترتَّب قبلَها القسمُ ، فالجوابُ إنما هو للقسمِ ، لأنَّ أحدَ الحَرْفَيْنِ يَقَع موقعَ الآخرِ هذا قولُ سيبويه » قال الشيخ : « هذا فيه تثبيجٌ وعدمُ نصٍ على المرادِ ، لأنَّ أَوَّلَه يقتضي أنَّ الجوابَ ل » إنْ « وقولُه بعدَه : الجوابُ للقسم يَدُلُّ على أنه ليسَ لإِنْ ، وتعليلُه بقولِه : » لأنَّ أحد الحرفين يَقَعُ موقعَ الآخرِ لا يَصْلُحُ علةً لكونِ « ما تَبِعوا » جواباً للقسمِ ، بل لكونِه جواباً لإِنْ ، وقوله : « قولَ سيبويه » ليس في كتابِ سيبويه ذلك ، إنما فيه أن « ما تَبِعوا » جوابُ القسمِ ، ووقعَ فيه الماضي موقعَ المستقبلِ ، قال سيبويه : « وقالوا : لَئِنْ فَعَلْتَ ما فَعَلَ يريد معنى ما هو فاعِلٌ وما يَفْعَلَ » .
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ قولَه : « ما تَبِعُوا » فيه قولان ، أحدُهما : أنه جوابٌ الشرطِ ولذلك لم يَقْتَرِنْ بالفاءِ . والثاني : أنه جوابٌ لإِنْ إجراءً لها مُجرى لو . وقال أبو البقاء : « ما تَبِعوا » أي : لا يتَّبعوا ، فهو ماضٍ في معنى المستقبلِ ، ودخلَتْ « ما » حَمْلاً على لفظِ الماضي ، وحُذِفَتْ الفاءُ في الجوابِ لأنَّ فعلَ الشرطِ ماضٍ ، وقال الفراء : إنْ هنا بمعنى لو « وهذا من أبي البقاءِ يُؤْذِنْ أنَّ الجوابَ للشرطِ وإنما حُذِفَتِ الفاءُ لكونِ فعلِ الشرطِ ماضياً ، وهذا منه غير مَرْضِيٍّ ، لأنه خَالَفَ البصريين والكوفيين بهذه المقالةِ .

قوله : { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } « ما » تَحْتَمِل الوَجْهين أعنى كونها حجازيةً أو تميميةً ، فعلى الأولِ يكون « أنتَ » مرفوعاً بها ، و « بتابع » في محلِّ نصبٍ ، وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداءِ و « بتابعٍ » في محلِّ رفعٍ ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه ، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم . وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } من وجوهٍ أحدُها : كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ .
ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين : إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً ، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في اللفظِ ، لأنَّ قبلَه { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } . وقُرِىء « بتابعِ قبلتِهم » بالإِضافةِ تخفيفاً لأنَّ اسمَ الفاعلِ المستكملِ لشروطِ العملِ يجوزُ فيه الوجهان . واختُلِفَ في هذه الجملةِ : هل المرادُ بها النهيُ أي : لا تَتَّبعْ قبلتهم ومعناه الدوامُ على ما أنتَ عليه لأنَّه معصومٌ من اتِّباعِ قبلتِهم أو الإِخبارُ المحض بنفي الاتِّباع . والمعنى أنَّ هذه القبلةَ لا تصيرُ منسوخةً ، أو قطعُ رجاءِ أهلِ الكتابِ أن يعودَ إلى قِبْلتِهم؟ قولان مشهوران .
قوله : { وَلَئِنِ اتبعت } كقولِه : « ولَئِنْ أَتَيْتَ » . وقولُه : « إنَّك » جوابُ القسمِ ، وجوابُ الشرط محذوفٌ كما تقدَّم في نظيرِه ، قال الشيخ : « لا يقال إنه يكونُ جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنىً ، أمَّا المعنى فلأنَّ الاقتضاءَ مختلفٌ ، فاقتضاءُ القسَمِ على أنه لا عملَ له [ فيه ] ، لأنَّ القسَم إنما جيءَ به توكيداً للجملةِ المُقْسَمِ عليها ، وما جاءَ على سبيلِ التوكيدِ لا يناسِبُ أن يكونَ عاملاً ، واقتضاءُ الشرطِ على أنه عاملٌ فيه ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ جزم ، وعَمَلُ الشرطِ لقوةِ طلبه له ، وأمَّا اللفظُ فإنَّ هذه الجملةَ إذا كانَتْ جوابَ قسمٍ لم تَحْتَجْ إلى مزيدِ رابطٍ ، فإذا كانت جوابَ شرط احتيجت إلى مزيدِ رابطٍ وهو الفاء ولا يَجوزُ أن تكونَ خاليةً من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تَكونَ جواباً لهما معاً » .
و « إذَنْ » حرفُ جوابٍ وجزاءٍ بنص سيبويه ، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ : أن تكونَ صدراً ، وألاَّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ وألاَّ يكونَ الفعلُ حالاً ، ودخلَتْ هنا بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقريرِ النسبةِ بينهما وكانَ حَدُّها أَنْ تتقدَّمَ أو تتأخَّرَ ، فلم تتقدَّمْ لأنَّه سَبَقَ قسمٌ وشرطٌ والجوابُ هو للقسمِ ، فلو تقدَّمَتْ لَتُوُهِّمَ أنها لتقريرِ النسبةِ التي بين الشرطِ والجوابِ المحذوفِ ، ولم تتأخَّرْ لِئَلاَّ تفوتَ مناسبةُ الفواصلِ ورؤوسِ الآي .
قال الشيخ : « وتحريرُ معنى » إذَنْ « صعبٌ اضطربَ الناسُ في معناها وفي فهم كلامِ سيبويهِ فيها ، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ » قال : « والذي تحصَّل فيها أنها لا تقعُ ابتداء كلامٍ ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين ، أحدُهما : أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك : أزورُك .

فتقول : إذاً أزورَك ، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ ، وفي هذا الوجهِ تكونُ عاملة ، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ . الوجه الثاني : أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمٍ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال ، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه ، وذلك ، نحو : « إنْ تأتني إذاً آتِكَ » ، و « واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ » فلو أُسْقِطَتْ « إذاً » لَفَهُمَ الارتباطُ ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو : « أزورك » فتقول : « إذاً أنا أكرمُك » ، وجاز توسُّطُها نحو : « أنا إذاً أكرمُك » ، وتأخُّرها . وإذا تقرَّر هذا فجاءت « إذاً » في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم ، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه « . انتهى كلامُه .
واعلم أنَّها إذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ ، وهي مركبةٌ من همزة وذال ونون ، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَها بتنوين المنصوبِ فَقَلَبُوها في الوقفِ ألفاً وكتبوها الكُتَّاب على ذلك ، وهذا نهايةُ القولِ فيها . /
وجاء في هذا المكان { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } وقال قبلَ هذا : { بَعْدَ الذي جَآءَكَ } [ البقرة : 120 ] وفي الرعدَ : { بَعْدَ مَا جَآءَكَ } [ الرعد : 37 ] فلم يأتِ ب » من « الجارةِ إلاَّ هنا ، واختصَّ موضعاً ب » الذي « ، وموضِعَيْنِ ب » ما « ، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم وهو أنَّ » الذي « أَخَصُّ ، و » ما « أشدَّ إبهاماً ، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى ، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ ، وحيث أتى بلفظِ » ما « أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ ، أحدُهما : القِبلةُ ، والآخرُ : بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه : { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [ الرعد : 36 ] . قال » وأما دخولُ « مِنْ » ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [ على ] عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم ، والذي يقال في هذا : إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

قوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ } : فيه ستةُ أوجهٍ أظهرُها : أنَّه مرفوع بالابتداءِ ، والخبرُ وقوله « يَعْرفونه » . الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هم الذين آتيناهم . الثالث : النصبُ بإضمار أعني . الرابعُ : الجرُّ على البدلِ من « الظالمين » . الخامس : على الصفةِ للظالمين . السادس : النصبُ على البدلِ من { الذين أُوتُواْ الكتاب } في الآيةِ قبلَها .
قوله : « يَعْرفونه » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ للذين آتيناهم كما تقدَّم في أحدِ الأوجهِ المذكورةِ في « الذين آتيناهم » . الثاني : أنه نصبٌ على الحالِ على باقيةِ الأقوالِ المذكورةِ ، وفي صاحبِ الحالِ وجهان ، أحدُهما : المفعولُ الأولُ لآتيناهم ، والثاني : المفعولُ الثاني وهو الكتاب ، لأنَّ في « يَعْرفُونه » ضميرين يعودان عليهما . والضمير في « يَعْرفونه » فيه أقوالٌ ، أحدُهما : أنه يعودُ على الحقِّ الذين هو التحوُّل . الثاني : على القرآن . الثالث : على العِلْم ، الرابع : على البيتِ الحرام ، الخامس : على النبي صلى الله عليه وسلم وبه بدأ الزمخشري ، واختاره الزجاج وغيرُه ، قالوا : وأُضْمِرَ وإنْ لم يَسْبِقْ له ذِكْرٌ لدلالة الكلامِ عليه وعَدِمِ الَّلبْسِ ، ومثلُ هذا الإِضمارِ فيه تفخيمٌ له كأنَّه لشُهْرَتِه وكونِه علماً معلوماً مستغنىً عن ذِكْرِهِ بلفظِه . قال الشيخ : « بل هذا من بابِ الالتفات من الخطابِ في قوله : » قولِّ وجهَك « إلى الغيبة » .
قوله : { كَمَا يَعْرِفُونَ } الكافُ في محلِّ نَصْبٍ . إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ ، التقديرُ : يعرفونه المعرفةَ مماثلة لعرفانهم ، وهذا مذهبُ سيبويه ، وتقدَّم تحقيقُ هذا . و « ما » مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون ، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ « يكتمُون الحق » يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ ، وقيل : متعلَّقُ العلم هو ما على الكاتمِ من العقابِ ، أي : وهم يعلمونَ العقابَ المُرَتَّبَ على كاتم الحق ، فتكونُ إذ ذاكَ حالاً مبيِّنةً .

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

قوله تعالى : { الحق مِن رَّبِّكَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ والمجرورُ بعده ، وفي الألفِ واللامِ حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ للعهدِ ، والإِشارةُ إلى الحقِّ الذي عليه الرسولُ عليه السلام أو إلى الحقِّ الذي في قولِه « يكتمون الحقَّ » أي : هذا الذي يكتمونه هو الحقُّ من ربك ، وأن تكونَ للجنسِ على معنى الحقُّ من اللهِ لا من غيره . الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو الحقُّ من ربك ، والضميرُ يعودُ على الحقِّ المكتومِ أي ما كتموه هو الحقُّ . الثالث : أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : الحقُّ من ربِّك يعرفونه ، والجارُّ والمجرورُ على هذين القولين في محل نصبٍ على الحالِ من « الحق » ، ويجوز أن يكونَ خبراً بعد خبرٍ في الوجهِ الثاني .
وقرأ علي بن أبي طالب : { الحقَّ من ربك } نصباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم ، قاله الزمخشري الثاني : أن يكونَ منصوباً بإضمار « الزم » ويدلُّ عليه الخطابُ بعده [ في ] قوله : « فلا تكونَنَّ » الثالث : أنه يكونَ منصوباً ب « يَعْلَمون » قبلَه . وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية ، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظاهرُ موقعَ المضمر أي : وهم يعلمونَه كائناً من ربك ، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو :
768 لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلَغُ من النهيِ عن نفسِ الصفةِ فلذلك جاءَ التنزيلُ عليه : نحو { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] دونَ : لا تَمْتَرِ ولا تَجْهَلْ ونحوِه ، وتقريرُ ذلك أنَّ قولَه : « لا تكُنْ ظالماً » نهي عن الكونِ بهذه الصفةِ ، والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلغُ من النهي عن تلك الصفةِ ، إذ النهيُ عن الكونِ على صفةٍ يَدُلُّ على عمومِ الأكوانِ المستقبلةِ عن تلكَ الصفةِ ، والمعنى لا تَظْلِمْ في كل أكوانِك أي : في كل فردٍ فردٍ من أكوانِك فلا يَمُرُّ بك وقتٌ يؤخذ منك فيه ظلمٌ ، فيصيرُ كأن فيه نصاً على سائرِ الأكوانِ بخلاف : لا تَظْلِمْ ، فإنَّه يستلزِمُ الأكوانَ ، وفَرْقٌ بين ما يَدُلَّ دلالةً بالنصِّ وبين ما يَدُلُّ دلالةً بالاستلزام .
والمتراءُ : افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ ، ومنه المِراء قال :
769 فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه ... إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ
ومارَيْتُه : جَادَلْتُه وشاكَلْتُه فيما يَدَّعِيه ، وافتَعَل فيه بمعنى تَفَاعلَ يقال : تَمارَوْا في كذا وامتَرَوْا فيه نحو : تجاوَروا ، واجتوروا . وقال الراغب : « المِرْيَةُ : التَّرَدُّدُ في الأمر وهي أخصُّ من الشك ، والامتراءُ والمُماراةُ : المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية ، وأصلَهُ من مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها للحَلْبِ » ففرَّق بين المِرْيةِ والشَّكِ كما تَرَى ، وهذا كما تقدَّم له الفرقُ بين الرَّيْبَ والشك ، وأنشدَ الطبري قولَ الأعشى :
770 تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِي ... ن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أنَّ الممترينَ الشاكُّون ، قال : « ووَهِمَ في ذلك لأن أبا عبيدةَ وغيرَه قالوا : الممترون في البيت هم الذين يَمْرُون الخيلَ بأرجلِهم همزاً لتجريَ [ كأنهم ] يَتَحَلَّبون الجَرْيَ منها » .

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } : جمهورُ القراء على تنوين « كل » ، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه ، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و « وِجْهَةٌ » مبتدأُ مؤخرٌ ، واختُلِفَ في المضافِ إليه « كل » المحذوفِ فقيل : تقديرُه : ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان ، وقيل : ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراءُ وقُدَّامُ . وفي « وِجْهَة » قولان ، أحدُهما - ويُعْزَى للمبرِّد والفارسي والمازني في أحدِ قولَيْه - : أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه ، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذ هي غيرُ مصدرٍ . قال سيبويه « ولو بَنَيْتَ فعْلَةَ من الوَعْد لقلتَ : وِعْدَة ، ولو بَنَيْتَ مصدراً لقلْتَ : عِدَة ، والثاني : أنها مصدرٌ ، ويُعْزى للمازني ، وهو ظاهرٌ كلام سيبويه ، فإنه قال بعد ذِكْر حَذْفِ الواو من المصادر : » وقد أثبتوا فقالوا : وِجْهَة في الجِهة « ، وعلَى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ شاذاً مَنْبَهَةً على ذلك الأصلِ المتروكِ في عِدَة ونحوِها ، والظاهرُ أَنَّ الذي سَوَّغَ إثباتَ الواوِ وإنْ كانَتْ مصدراً أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه ، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه : وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه فلذلك قلت : إنَّ » وِجْهَة « مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ لَتَوَجَّه أو اتَّجَه . وقد ألَمَّ أبو البقاء بشيءً من هذا .
قوله : { هُوَ مُوَلِّيهَا } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة ، واختُلِف في » هو « على قولين ، أحدَهما : أنه يعودُ على لفظِ » كل « / لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه ، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر : » مُوَلاَّها « على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي . والثاني : أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي : الله مُوَلِّي القبلةِ إياه ، أي ذلك الفريقُ .
وقرأ الجمهورُ : » مُوَلِّيها « على اسمُ فاعل ، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه ، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول ، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو » ها « العائدُ على الوجهة ، وقيل : على التوليةِ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ » هو « إلى الفريق ، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى ، وقرأ بعضُهم : » ولكلِّ وِجْهَةٍ « » بالإِضافة ، ويُعزى لابنِ عامر ، واختلفوا فيها على ثلاثةِ أقوالٍ أحدُها : - وهو قولُ الطبري - : أنها خطأ وهذا ليس بشيء ، إذ الإِقدامُ على تخطئة ما ثَبَتَ عن الأئمةِ لا يَسْهُلُ .

والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء : أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ ، قال الزمخشري : « المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها ، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ ، كقولِك : لزيدٍ ضَرَبْتُ ، ولزيدٍ أبوه ضاربه .
قال الشيخ : وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ : لزيدٍ ضَرَبْتُه ، ولا : لزيدٍ أنا ضَاربُه ، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن ، وهما : إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً ، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ باللامِ يكون ضعيفاً ، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّي لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه :
771 هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه ... والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أنَّ الضميرَ في » يدرسه « للمصدرِ ، أي : يدرس الدرسَ لا للقرآن ، لأن الفعلَ قد تعدَّى إليه . وأمَّا تمثيلُه بقوله : » لزيدٍ ضَرَبْتُ « فليس نظيرَ الآية لأنه لم يَتَعَدَّ في هذا المثال إلى ضميره ، ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال ، فتقدِّرَ عاملاً في » لكلِّ وِجْهةٍ « يفسِّره » مُولِّيها « لأنَّ الاسمَ المشتغِلَ عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرفٍ ينتصبُ ذلك الاسم بفعل يوافِقُ العاملَ الظاهرَ في المعنى ، ولا يجوزُ جَرُّ المشتغلِ عنه بحرفٍ ، تقول : زيداً مررت به أي : لابست زيداً مررتُ به ، ولا يجوزُ : لزيدٍ مررتُ به ، قال تعالى : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 31 ] وقال :
772 - أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
فأتى بالمشتغَلِ عنه منصوباً ، وأمَّا تمثيلُه بقولِه : لزيدٍ أبوه ضاربُه فتركيبٌ غيرُ عربي .
الثالث : أن » لكلَّ وجهةٍ « متعلِّقٌ بقوله : » فاستبقوا الخيراتِ « أي : فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به ، كما يُقَدَّمُ المفعولُ ، ذكرَه ابنُ عطية ، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ » لكلِّ وجهةٍ « في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها ، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو » مُوَلٍّ « وهو » ها « ، وتكون عائدةً على الطوائفِ ، ويكونُ التقديرُ : وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط ، و » مُوَلٍّ « مِمَّا يتعدَّى لاثنين ، فامتنع ذلك فيه . وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه ، وهو أنه كان يمكن أن يُجابَ عنه بأَنَّ الضميرَ المتصل ب » مُوَلّ « ليس بضميرِ المفعولِ بل ضميرُ المصدرِ وهو التوليةُ ، ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقدير : اللهُ » مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها ، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة .

قوله : { فاستبقوا الخيرات } « الخيرات » منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ ، التقديرُ : إلى الخيرات ، كقول الراعي :
773 ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ ... سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ
أي : إلى سواكم ، وذلك لأنّ « استبق » : إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق ، لا جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه .
والخَيْرَات جمع : خَيْرة وفيهما احتمالان : أحدُهما : أن تكونَ مخففةً من « خَيِّرَة » بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو : مَيْت في مَيّت . والثاني : أن تكونَ غيرَ مخففةٍ ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة ، يقال : رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل . والسَّبْقُ : الوصولُ إلى الشيءِ أولاً ، وأصلُه التقدُّمُ في السير ، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم .
قوله : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ } « أين » اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و « ما » مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز ، وهي ظرفُ مكانٍ ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ ، و « تكونوا » مجزومٌ بها على الشرطِ ، وهو الناصبُ لها ، و « يأتِ » جوابُها ، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

قولُه تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ } : « مِنْ حيثُ » متعلِّقٌ بقوله : « فولِّ » و « خرجْتَ » في محلِّ جَرٍّ بإضافة « حيث » إليها ، وقرأ عبد الله « حيثَ » بالفتح ، وقد تقدَّم أنها إحدى اللغات ، ولا تكونُ هنا شرطيةً ، لعدم زيادةِ « ما » ، والهاءُ في قولِه : « وإنَّه لَلْحَقُّ » الكلامُ فيها كالكلامِ عليها فيما تقدَّم . وقرىء « تَعْلَمون » بالياء والتاء ، وهما واضحتان كما تقدَّم .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ } : هذه لامُ كي بعدها « أَنْ » المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ ، و « لا » نافيةٌ واقعةٌ بين الناصبِ ومنصوبِهِ ، كما تقعُ بين الجازمِ ومجزومِه نحوَ : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ } [ الأنفال : 73 ] ، و « أَنْ » هنا واجبةُ الإِظهارِ ، إذ لو أُضْمِرَتْ لَثَقُلَ اللفظُ بتوالي لامَيْنِ ، ولامُ الجرِّ متعلقةٌ بقولِه : « فَوَلُّوا وجوهَكم » . وقال أبو البقاء : متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه : فَعَلْنا ذلك لئلاَّ ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، و « للناس » خبرٌ ل « يكون » مُقَدَّمٌ على اسمها ، وهو « حُجَّةٌ » و « عليكم » في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ النكرةِ ، فلمّا تقَدَّم عليها انتصَبَ حالاً ، ولا يتعلَّقُ ب « حُجَّة » لئلا يَلْزَمَ تقديمُ معمولِ المصدر عليه ، وهو ممتنعٌ ، لأنَّه في تأويلِ صلةٍ وموصولٍ ، وقد قالَ بعضُهم : « يتعلَّق بحُجَّة » وهو ضعيفٌ . ويجوزُ أن يكونَ « عليكم » خبراً ليكون ، ويتعلَّقُ « للناسِ » ب « يكون » على رَأْي مَنْ يَرَى أنَّ كان الناقصةَ تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه ، وذكَّرِ الفعلَ في قوله « يكونَ »؛ لأنَّ تأنيثَ الحجة غيرُ حقيقي ، وحَسَّن ذلك الفصلُ أيضاً .
قوله : { إِلاَّ الذين } قرأ الجمهور « إلاَّ » بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد بفتحِها وتخفيفِ اللامِ على أنها للاستفتاح . فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون/ في تأويلها على أربعةِ أقوال أظهرُها : - وهو اختيارُ الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه استثناء متصلٌ ، قال الزمخشري : « ومعناه لئلا يكونَ حجةٌ لأحدٍ من اليهودِ إلا للمعانِدِين منهم القائلينَ : ما ترك قبلتنا إلى الكعبةِ إلا مَيْلاً لدين قومه وحُبَّاً لهم ، وأَطلْق على قولِهم » حجة « لأنهم ساقُوه مَساقَ الحُجّة . وقال ابن عطية : » المعنى أنه لا حجة لأحدٍ عليكم إلا الحجةُ الداحضةُ للذين ظلموا من اليهود وغيرِهم الذين تكلَّموا في النازلة ، وسمَّاها حُجَّة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظالم « . الثاني : انه استثناءٌ منقطعٌ فيُقَدَّر ب » لكن « عند البصريين وببل عند الكوفيين لأنه استثناءٌ مِنْ غيرِ الأولِ والتقديرُ : لكنَّ الذين ظلموا فإنَّهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبْهَة يَضَعونَها موضعَ الحُجَّةِ . ومثارُ الخلافِ هو : هل الحُجَّةُ هو الدليلُ الصحيحُ أو الاحتجاجُ صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولِ يكونُ منقطعاً وعلى الثاني يكون متصلاً . الثالث : - وهو قولُ أبي عبيدة - أن » إلاَّ « بمعنى الواو العاطفةِ ، وجَعَلَ من ذلك قولَه :
774 وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أَخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدان
وقولِ الآخر :
775 ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا

تقديرُ ذلك عنده : « ولا الذين ظلموا - والفرقدان - ودار مروان » وقد خَطَّأه النحاةُ في ذلك كالزجاج وغيره . الرابع : أنَّ « إلا » بمعنى بَعْدَ ، أي : بعد الذين ظلموا ، وجعل منه قولَ الله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] ، وقولَه تعالى : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] تقديرُه : بعد الموتةِ وبعدَ ما قد سَلَف ، وهذا من أفسدِ الأقوالِ وأنْكَرِها وإنما ذكرْتُه لغرضِ التنبيه على ضَعْفِه .
و « الذين » في محلِّ نصب على الاستثناءِ ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً . وأجاز قطرب أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في « عليكم » ، والتقديرُ : لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم ، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة ، ونُقِلَ عنه أنه كان يقرأ : { إِلاَّ عَلَى الذين } كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك .
وإمَّا قراءةُ ابن عباس ف « ألا » للاستفتاح ، وفي محلِّ « الذين » حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه : « فلا تَخْشَوْهم » وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لأنَّ الموصلَ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ ، والماضي الواقعُ صلةً مستقبلٌ معنىً ، كأنه قيل : مَنْ يظلمُ الناسَ فلا تَخْشَوهم ، ولولا دخولُ الفاءِ لترجَّحَ النصبُ على الاشتغال ، أي : لاَ تَخْشَوا الذين ظلموا لا تَخْشَوْهم . الثاني : أن يكون منصوباً بإضمارِ فعلٍ على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش فإنه يجيز زيادةَ الفاءِ . الثالث - نقله ابن عطية - : أن يكونُ منصوباً على الإِغراء .
ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } وجعل « إلى » حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع ، والتقديرُ : لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين ، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ « إلا الذين » بتخفيف « إلا » فاعتقَدَ ذلك فيها ، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم « . و » منهم « في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ويحتمل أَنْ تكونَ » مِنْ « للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان .
قوله : { وَلأُتِمَّ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : أنه معطوفٌ على قوله » لئلا يكونَ « كأن المعنى : » عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ ، فيكونُ التعريفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين ، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كلا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى . الثاني : أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ ، فكأنه قيل : واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم . الثالث : أنه مُتعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه : « ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم . الرابع : وهو أضعفُها - أن تكونَ متعلقةً بالفعلِ قبلَها ، والواوُ زائدة ، تقديرُه : واخشَوْنِي لأُتِمَّ نعمتي . وهذه لامُ كي وأنْ مضمرةٌ بعدَها ناصبةٌ للمضارعِ فينسبكُ منها مصدرٌ مجرورٌ باللامِ ، وتقدَّم تحقيقُه ، و » عليكم « فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلقَ بأُتِمَّ ، والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من نعمتي ، أي : كائنةً عليكم .

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

قوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } : في الكافِ قولان ، أظهرُهما : أنَّها للتشبيه . والثاني : أنها للتعليل ، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ . واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنها متعلقةٌ بقوله : « ولأتِمَّ » تقديرُه : ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم ، ومتعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا ، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 138 ] والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 12 ] ، [ ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى ] : ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم . الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون ، تقديرُه : يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق والثبوتِ ، أي : اهتداءً متحققاً كتحققِ إرسالنا . الثالث : - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] ، أي : جَعْلاً مثلَ إرسالِنا . وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ . الرابع : أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو « اذكروني » ، قال الزمخشري : « كما ذَكَرْتُكُم بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي : اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال ، ثم صار : مثلَ ذكرِ إرسالِنا ، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فإنه يكرمك ، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك » قال أبو البقاء : « كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط » يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ يَعْمَلُ فيما قبلها . [ وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله ] لاشتغالِه بجوابِه و « اذكروني » قد أُجيب بقولِه : « أذكرْكم » فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه ، قال « ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو : إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ ، فيكونُ » كما « و » فأذكركم « جوابين للأمرِ ، والأول أفصحُ وأشهرُ ، وتقول : » كما أحسنت إليك فأكرمني « فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له » .
وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ : « لا نعلم خلافاً في جوازِه » وأمَّا قولُه : « إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ » وجعلُه « كما » جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب . قال الشيخ : وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها « . انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك .

الخامس : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من « نعمتي » والتقديرُ : ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً ، أي : مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ .
وأمَّا على القولِ بأنَّها للتعليلِ فتتعلَّقُ بما بعدَها ، وهو قولُه : « فاذكروني » أي : اذكروني لأجلِ إرسالِنا فيكم رسولاً ، وكونُ الكافِ للتعليل واضحٌ ، وجَعَلَ بعضُهم منه : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وقولَ الآخر :
776 لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ي : لا تشتم لامتناعِ الناسِ مِنْ شَتْمِكَ .
وفي « ما » المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه . والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، و « رسولاً » بدلٌ منه ، والتقديرُ : كالذي أرسلناه رسولا ، وهذا بعيدٌ جداً ، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ « ما » على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث : أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه :
777 لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ ... كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ
ولا حاجةَ إلى هذا ، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاَّ حيث تعذَّرَ أَنْ ينسبكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ ، كما إذا اتصلت بجملةٍ اسميةٍ كالبيتِ المتقدِّم . و « منكم » في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل « رسولاً » وكذلك ما بعدَه من الجمل ، ويُحْتمل أن تكونَ الجملُ بعده حالاً لتخصص النكرةِ بوَصْفِها بقوله : « منكم » ، وأتى بهذه الصفاتِ بصيغةِ المضارع لأنه يَدُلُّ على/ التجدُّدِ والحدوثِ ، وهو مقصودُ ها هنا بخلاف كونِه منهم فإنَّه وصفٌ ثابتٌ له ، وهنا قَدَّم التزكيةَ على التعليمِ ، وفي دعاء إبراهيم بالعكسِ ، والفرقُ أنَّ المرادَ بالتزكيةِ هنا التطهيرُ من الكفرِ وكذلك فَسَّروه ، وهناك المرادُ بها الشهادةُ بأنَّهم خيارٌ أزكياءُ وذلك متأخِّر عن تعلُّمِ الشرائعِ والعَمَلِ بها ، وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } بعد قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } مِنْ بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصِّ وهو قليلٌ بخلافِ عكسِه .

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

وقوله تعالى : { واشكروا لِي } : تقدَّم أنَّ « شكر » يتعدَّى تارةً بنفسِ وتارةً بحرفِ جَرٍّ على حدٍّ سواءٍ على الصحيحِ ، وقال بعضُهم : إذا قلت : شكرْتُ لزيدٍ فمعناه شَكَرْتُ لزيدٍ صَنيعَه ، فَجَعَلُوه متعدِّياً لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجَرّ ، ولذلك فسَّر الزمخشري هذا الموضعَ بقولِه : « واشكُروا لي ما أَنْعَمْتُ به عليكم » . وقال ابن عطية : « واشكروا لي واشكروني بمعنى واحد ، و » لي « أفصحُ وأشهرُ مع الشكر ، ومعناه نعمتي وأيادِيَّ ، وكذلك إذا قُلْتَ : شَكَرْتُك ، فالمعنى شَكَرْتُ لك صنيعك وذَكَرْتُه ، فَحَذَفَ المضافَ ، إذ معنى الشكرِ ذِكْرُ اليدِ وذِكْرُ مُسْدِيها معاً ، فما حُذِفَ مِنْ ذلك فهو اختصارٌ لدلالةِ ما بقي على ما حُذِفَ » .

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

قوله تعالى : { أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } : خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : لا تقولوا : هم أمواتٌ ، وكذلك « أحياءٌ » خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : بل هم أحياءٌ ، وقد راعى لفظَ « مَنْ » مرةً فأَفْرَدَ في قولِه « يُقْتَلُ » ، ومعناها أخرى فَجَمَع في قولِه { أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } واللامُ هنا للعِلَّة ، ولا تكونُ للتبليغ ، لأنهم لم يُبَلِّغوا الشهداء قولَهم هذا . والجملةُ من قولِه : « هم أمواتٌ » في محلِّ نصب بالقول لأنها محكيَّة به ، وأما { بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ } فيتحمل وجهين ، أحدهما ألاَّ يكونَ له محلٌّ مِنَ الإِعرابِ ، بل هو إخبارٌ مِنَ الله تعالَى بأنَّهم أحياءٌ ، ويُرَجِّحُه قولُه : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } إذ المعنى لا شعورَ لكم بحياتِهم . والثاني : أن يكون محلُّه النصبُ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه ، بل قولوا هم أحياء ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ بالقولِ الأولِ لفسادِ المعنى ، وحُذِفَ مفعولُ « يشعرون » « لِفَهْمِ المعنى أي : بحياتِهم .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } : هذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، ومتى كان جوابُه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً وَجَبَ تلقِّيه باللامِ وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا يُجِيز البصريونَ ذلك إلا في ضرورةٍ . وفُتِح الفعل المضارعُ لاتصالِه بالنونِ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وما فيه من الخلاف .
قوله : « بشيءٍ » متعلِّقٌ بقولِه : « لَنَبْلُوَنَّكَ » والباءُ معناها الإِلصاقُ ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ « شيء » ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد . وقرأ الضحاك بن مزاحم « بأشياء » على الجمعِ ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه : وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا ، وقولُه « من الخوف » في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ .
قوله : { وَنَقْصٍ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ معطوفاً على « شيء » والمعنى : بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ ، والثاني : أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ ، أي : وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال ، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ .
قوله : { مِّنَ الأموال } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص ، وهو يتعدَّى إلى واحد ، وقد حُذِفَ ، أي : ونقصِ شيء مِنْ كذا . الثاني : أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لذلك المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : ونقصِ شيءٍ كائنٍ مِنْ كذا . الثالث : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ نُصِبَ بهذا المصدرِ المنوَّنِ ، والتقديرُ : ونقصٍ شيئاً كائناً من كذا ، ذكره أبو البقاء ، ويكونُ معنى « مِنْ » على هذين الوجهين التبعيضَ . الرابع : أن يكونَ في محلّ جَرٍّ صفةً ل « نَقْص » ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً ، أي : نقصٍ كائنٍ من كذا ، وتكونُ « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . الخامس : أن تكونَ « مِنْ » زائدةً عند الأخفش ، وحينئذ لا تَعَلُّق لها بشيءٍ .

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

قوله تعالى : { الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ منصوباً على النعتِ للصابرين ، وهو الأصحُّ . الثاني : أن يكونَ منصوباً على المدحِ . الثالث : أن يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : هم الذين ، وحينئذٍ يَحْتمل أن يكونَ على القَطْع ، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ . الرابعُ : أن يكونَ مبتدأ ، والجملةُ الشرطيةُ من « إذا » وجوابِها صلته ، وخبرهُ ما بعدَه من قولِه : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } .

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

قوله تعالى : { أولئك } : مبتدأٌ ، و « صلواتٌ » مبتدأٌ ثانٍ ، و « عليهم » خبرُه مقدَّمٌ عليه ، والجملةُ خبرُ قولِه « أولئك » ، ويجوزُ أَنْ تكونَ « صلوات » فاعلاً بقوله : « عليهم » . قال أبو البقاء : « لأنه قد قَوِيَ بوقوعِهِ خبراً . والجملةُ من قولِه : » أولئك « وما بعدَه خبرُ » الذين « على أحِد الأوجه المتقدِّمِة ، أو لا محلَّ لها على غيرِه من الأوجه ، و » قالوا « هو العاملُ في » إذا « لأنه جوابُها ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك ، وتقدَّم أنها هل تقتضي التكرارَ أم لا؟
قوله : { إِنَّا للَّهِ } » إنَّ واسمُها وخبرُها في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، والأصل : إنَّنا بثلاث نوناتٍ ، فَحُذِفَتِ الأخيرةُ من إنَّ لا الأولى ، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها ، ولأنها طَرَفٌ والأطرافُ أَوْلَى بالحَذْفِ ، لا يُقال : « إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانَتْ مخففةً ، والمخففةُ لا تعملُ على الأفصح فكانَ ينبغي أن تُلْغَى فينفصلَ الضميرُ المرفوعُ حينئذٍ إذ لا عمل لها فيه ، فدلَّ عَدَمُ ذلك على أنَّ المحذوفَ النونُ الأولى » لأنَّ هذا الحَذْفَ حَذْفٌ لتوالي الأمثالِ لا ذاك الحَذْفُ المعهود في « إنَّ » و « أصابَتْهم مصيبةٌ » من التجانسِ المغاير ، إذ إحدى كلمتي المادةِ اسمٌ والأخرى فِعْلٌ ، ومثلُه : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] { وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] قوله : { وَرَحْمَةٌ } عَطْفٌ على الصلاة وإن كانَتْ بمعناها ، فإنَّ الصلاةَ من الله رحمةٌ لاختلافِ اللفظين كقولِه :
778 وقَدَّمَتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله :
779 أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
قولُه : { مِّن رَّبِّهِمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لصلوات ، و « مِنْ » للابتداءِ ، فهو في محلِّ رفعٍ أي : صلواتٌ كائنةٌ من ربهم . والثاني : أن يتعلَّقَ بما تَضَمَنَّه قولُه « عليهم » من الفعل إذا جَعَلْناه رافعاً لصلوات رَفْعَ الفاعلِ ، فعلى الأولِ يكونُ قد حَذَفَ الصفةَ بعد « رحمة » أي : ورحمةٌ منه ، وعلى الثاني لا يَحْتاج إلى ذلك . وقولُه { وأولئك هُمُ المهتدون } نظيرُ : { وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] .

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

قوله تعالى : { إِنَّ الصفا } : « الصَّفا » اسمُها ، و { مِن شَعَآئِرِ الله } خبرُها . قال أبو البقاء : « وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ ، تقديرُه : » طوافُ الصفا ، أو سَعْيُ الصفا « . وألفُ الصَّفا عن واوٍ بدليلِ قَلْبِها في التثنية واواً ، قالوا : صَفَوان ، والاشتقاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً لأنَّه من الصَّفْوِ ، وهو الخُلُوصُ ، والصَّفا الحَجَرُ الأمْلَسُ وقيل : الذي لا يُخالِطُه غيرُه من طينٍ أو ترابٍ ، ويُفَرَّقُ بين واحدِه وجَمْعِه تاءُ التأنيثِ نحو : صفاً كثيرٌ وصفاة واحدة ، وقد يجمع الصَّفا على فُعول وأَفْعال قالوا : صُفِيٌّ بكسر الصاد وضمِّها كعِصِيّ ، وأصْفاء ، والأصل : صُفُوو وأَصْفاو ، فَقُلِبَتِ الواوان في » صُفُوو « ياءَين ، والواوُ في أصفاء همزةً ككساء وبابه . والمَرْوَةُ : الحِجارة الصِّغارُ ، فقيل اللَّيِّنَة وقيل : الصُلبة ، وقيل المُرْهَفَةُ الأطْراف ، وقيل البيض وقيل : السُّود ، وهما في الآية عَلَمان لجبلين معروفين . والألفُ واللامُ فيهما للغَلَبةِ كهما في البيت والنجم ، وجمعها : مَرْوٌ ، كقوله :
780 وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ ... عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ
والشعائر : جمع شَعيرَة وهي العلامةُ ، وقيل : جمع شِعارة ، والرادُ بها في الآية مناسِكُ الحُجِّ ، والأجود » شعائِر « بالهمزِ لزيادةِ حرفِ المَدّ وهو عكسُ معائِش ومصائب . /
قوله : { فَمَنْ حَجَّ البيت } » مَنْ « شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ ، و » حَجَّ « في محلِّ جَزْمٍ ، و » البيتَ « نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ ، والجوابُ قولُه : » فلا جُناحَ « . والحَجُّ لغةً : القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى ، قال :
781 لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ ... في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ
والاعتمارُ : الزيارةُ ، وقيل : مطلقُ القصدِ ، ثم صارا عَلَمين بالغَلَبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان .
وقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } الظاهرُ أنَّ » عليه « خبرُ » لا « ، و » أَنْ يَطَّوَّفَ « أصلُه : في أَنْ يَطَّوَّفَ ، فَحُذِف حرفُ الجر ، فيجيء في محلِّها القولان ، النصبُ أو الجرُّ . والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه » بهما « . وأجازوا بعد ذلك أوجهاً ضعيفةً منها : أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه » فلا جُناحَ « على أن يكونَ خبرُ » لا « محذوفاً ، وقدَّره أبو البقاء : » فَلاَ جُنَاحَ في الحج « ويُبْتدَأ بقولِه : { عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ } فيكونُ » عليه « خبراً مقدماً و » أَنْ يطَّوَّفَ « في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ ، قال أبو البقاء هنا : » والجيدُ أن يكونَ « عليه » في هذا الوجهِ خبراً ، و « أَنْ يَطَّوَّفَ » مبتدأً « .
ومنها : أن يكونَ { عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ } من بابِ الإِغراءِ ، فيكونَ » أَنْ يَطَّوَّفَ « في محلِّ نصبٍ كقولك ، عليك زيداً ، أي : الزَمْه ، إلا أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ ، حكى سيبويه : » عليه رجلاً لَيْسَني « ، قال : وهو شاذ .

ومنها : أَنَّ « أَنْ يطَّوَّفَ » في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل « لا » والتقديرُ : فلا جُناحَ الطوافُ بهما . ومنها : « أَنْ يطَّوَّفَ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في « عليه » ، والعاملُ في الحالِ العاملُ في الخبرِ ، والتقديرُ : فلا جُناحَ عليه في حالِ تَطْوافِه بهما . وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهما تنبيهاً على غَلَطِهما ، ولا فائدةٌ في ذِكْرِ وجهِ الغَلَطِ إذا هو واضحٌ بأدنى نَظَرٍ .
وقراءةُ الجمهور « أَنْ يَطَّوَّفَ » بغير لا . وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب : « أَنْ لا يَطَّوَّفَ » قالوا : وكذلك في مُصْحَفي أُبَيّ وعبدِ الله . وفي هذه القراءةِ احتمالان ، أحدُهما : أنَّها زائدة كهي في قولِه : { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] وقوله :
782 وما أَلومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتين . والثاني : أنها غيرُ زائدةٍ بمعنى أَنَّ رَفْعَ الجُناحِ في فِعْلِ الشيء هو رفعٌ في تَرْكِه ، إذ هو تخييرٌ بين الفعلِ والتركِ نحو : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } [ البقرة : 230 ] ، فتكونُ قراءةُ الجمهورِ فيها رفعُ الجناحِ في فعلِ الطوافِ نَصَّاً وفي هذه رفعُ الجناحِ في الترك نَصَّاً .
وقرأ الجمهورُ : « يَطَّوَّفَ » بتشديد الطاءِ والواوِ ، والأصلُ : يَتَطَوَّف ، وماضيه كان أصله : « تَطَوَّفَ » ، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه : يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة ، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ .
وقرأ أبو السَّمَّال : « يَطُوف » مخففاً ، من طاف يَطُوف وهي سهلة . وقرأ ابن عباس : « يَطَّاف » بتشديد الطاء مع الألف وأصله : يَطْتَوِف على وزن يَفْتَعِل وماضيه : أطْتَوَف افْتَعَل تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً ، ووَقَعَتْ تاءُ الافتعالِ بعدَ الطاءِ فَوَجَبَ قَلْبُها طاءً وإدغامُ الطاءِ فيها كما قالوا : أطَّلَب يَطَّلِبُ ، والأصل : اطْتَلَب يَطْتَلِبُ ، فصار : اطَّاف وجاء مضارعُه عليه : يَطَّاف . هذا هو تصريفُ هذه اللفظةِ من كونِ تاءِ الافتعال تُقْلَبُ طاءً وتُدَغَمُ فيها الطاءُ الأولى . وقال ابن عطية : « فجاء يَطْتَاف أُدْغِمَت التاءُ - بعد الإِسكانِ - في الطاءِ على مَذْهَبِ مَنْ أَجازَ إدغامَ الثاني في الأولِ كما جاءَ في » مُدَّكِر « ، ومَنْ لم يُجِزْ ذلك قال : قُلَبَتِ التاءُ طاءٍ ثم أُدْغِمت الطاءُ في الطاء ، وفي هذا نظرٌ لأنَّ الأصليَّ أُدْغِم في الزائد وذلك ضعيفٌ » .
وهذا الذي قاله ابنُ عطية فيه خطأٌ من وَجْهين ، أحدُهما : كَوْنُه يَدَّعي إدغامَ الثاني في الأولِ وذلك لا نظيرَ له ، إنما يُدْغَمُ الأولُ في الثاني . والثاني : أنه قال كما جاء في « مُدَّكِر » لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال : مُذَّكِر بالذال المعجمة وهذه لغةٌ رديئةٌ ، إنما اللغةُ الجيدةُ بالمهملة لأنَّا قلبْنا تاءَ الافتعالِ بعد الذالِ المعجمةِ دالاً مهملة فاجتمع متقاربان فَقَلَبْنا أوَّلَهما لجنسِ الثاني وأَدْغَمْنا ، وسيأتي تحقيقُ ذلك .

ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال ، والأصلُ : اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً ، وإنما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم : اعتاد اعتياداً ، والأصل : اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك .
قوله : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قرأ حمزةُ والكسائي « تَطَوعَّ » هنا وفي الآية الآتية بعدها : يَطَّوَّعْ بالياء فعلاً مضارعاً ، وقرأه الباقون : « تَطَوَّع » فعلاً ماضياً . فأمَّا على قراءتهما فتكونُ « مَنْ » شرطيةً ليس إلاَّ ، لعملِها الجزمَ . وأصل يَطَّوَّع . يَتَطَوَّع فأُدْغِم على نحو ما تقدّم في « يطّوّف » وهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ فعلُ الشرطِ على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم تحقيقُه . وقولُه : « فإنَّ الله » جملةٌ في محلِّ جزمٍ لأنَّها جوابُ الشرطِ ، ولا بُدَّ مِنْ عائدٍ مقدَّرٍ أي : فإنَّ الله شاكرٌ له . وقال أبو البقاء : « وإذا جَعَلْتَ » مَنْ « شرطاً لم يكنْ في الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ لأنَّ ضميرَ » مَنْ « في تطوَّع » وهذا يخالِفُ ما قَدَّمْتُ لك نَقْلَه عن النحويين من أنه إذا كان أداةُ الشرطِ اسماً لَزِمَ أن يكونَ في الجوابِ ضميرٌ يعودُ عليهِ وتقدَّم تحقيقُ ذلك .
وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً ، والكلامُ فيها كما تقدَّم . والثاني : أن تكونَ موصولةً و « تَطَوَّعَ » صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و « فإنَّ الله » خبرُه ، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط ، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي : شاكرٌ له ، وانتصابُ « خيراً » على أحدِ أوجهِ : إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي : تَطَوَّع بخيرٍ ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ نحو قولِه :
783 تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهو غيرُ مقيسٍ . الثاني : أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي : تطُّوعاً خيراً . والثالثُ : أن يكونَ حالاً من ذلك المصدر المقدَّر معرفةً ، وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ ، أو على تضمينِ « تَطَوَّعَ » ، فعلاً يتعدَّى ، أي : مَنْ فَعَلَ [ خيراً متطوِّعاً به ] . وقد تلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في قولِه : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } وجهين ، أحدُهما : الجزمُ على القولِ بكونِ « مَنْ » شرطيةً والثاني : الرفعُ على القولِ بكونِها موصولةً .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

قوله تعالى : { مَآ أَنزَلْنَا } : مفعول بيكتمون ، و « أَنْزلنا » صلتُه وعائدُه محذوفٌ ، أي أنزلناه . و « من البيناتِ » يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها حالٌ من ما الموصولةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائناً من البينات . الثاني : أَنْ يتعلَّق بأنزلنا فيكونَ مفعولاً به قالَه أبو البقاء ، وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه إذا كان مفعولاً به لم يتعدَّ الفعلُ إلى ضميرٍ ، وإذا لم يتعدَّ إلى ضميرِ الموصولِ بقي الموصولُ بلا عائدٍ . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ العائدِ على الموصولِ ، والعاملُ فيه « أنزلنا » لأنه عاملٌ في صاحبها .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى ، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين ، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين . والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على « ما » الموصولةِ . وقرأ الجمهور « بَيَّنَّاه » ، وقرأ طلحة بن مصرف « بَيَّنه » على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ . و « الناس » متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه .
وقوله : { فِي الكتاب } يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ بقوله : « بَيَّنَّاه » . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في « بَيَّنَّاه » أي : بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب .
قوله : { أولئك يَلعَنُهُمُ } يجوز في « أولئك » وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مبتدأً و « يلعنُهم » خبرُه والجملةُ خبرُ « إنَّ الذين » / . والثاني : أن يكونَ بدلاً من « الذين » و « يَلْعَنُهم » الخبرُ لأنَّ قولَه : « ويَلْعَنُهم اللاعنون » يَحْتَمل أنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه وهو « يلعنهم الله » وأَنْ يكونَ مستأنفاً . وأتى بصلةِ الذينَ فعلاً مضارعاً وكذلك بفعل اللعنةِ دلالةً على التجدُّد والحُدوث ، وأَنَّ هذا يتجدَّد وقتاً فوقتا ، وكررت اللعنة تأكيداً في ذمِّهم . وفي قوله « يَلْعَنُهم اللهُ » التفاتٌ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ لقال : نلعنهم لقوله : « أنزلنا » ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضميرِ .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً ، والمستثنى منه هو الضميرُ في « يلعنهم » . والثاني : أن يكونَ استثناءً منقطعاً لأنَّ الذين كَتَمُوا لُعِنوا قبل أن يتوبوا ، وإنما جاء الاستثناءُ لبيان قَبولِ التوبة ، لأنَّ قوماً من الكاتمين لم يُلْعَنوا ، ذكر ذلك أبو البقاء وليس بشيء .
قوله : { وَمَاتُوا } هذه واوُ الحال ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا : إنَّ حذفَها شاذ .
وقوله : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ } « أولئك » مبتدأ ، و « عليهم لعنةُ اللهِ » مبتدأً وخبرٌ ، خبرٌ عن أولئك ، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن « إنَّ » . ويجوزُ في « لَعنةُ » ، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن « أولئك » وتقدَّم تحريرُه في { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 157 ] قوله : { والملائكة } الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله . وقرأ الحسن بالرفع : { والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } ، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى ، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ إليه فموضعُه رفعٌ بالفاعليةِ لأنَّ هذه المصدرَ ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍ وفِعْلٍ ، والتقدير : أَنْ لَعَنَهم ، أو أَنْ يَلْعَنَهم اللهُ ، فَعَطَفَ « الملائكةُ » على هذا التقدير ، قال الشيخ : « وهذا ليس بجائزٍ على ما تقرَّر من العطفِ على الموضعِ ، فإنَّ مِنْ شرطِه أن يكونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع وطالبٌ له ، والطالبُ للرفعِ وجودُ التنوينِ في المصدرِ ، هذا إذا سَلَّمْنا أن » لعنة « تَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفِعْلٍ ، لأنَّ الانحلالِ لذلك شرطُه أَنْ يُقْصَدَ به العلاج ، ألا ترى أنَّ قولَه : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] ليس المعنى على تقديرِ : أَنْ يَلْعَنَ اللهُ على الظالمين ، بل المرادُ اللعنةُ المستقرةُ ، وأضيفت لله تعالى على سبيلِ التخصيص لا على سبيل الحدوث » ونقلَ عن سيبويه أن قولَك : « هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً » بنصب « عمراً » أنَّ نصبَه بفعلٍ محذوفٍ ، وأبى أَنْ ينصِبَه بالعطفِ على الموضعِ ، ثم بعد تسليمِه ذلك كلَّه قال : « المصدرُ المنوَّنُ لم يُسْمَعْ بعدَه فاعلٌ مرفوعٌ ومفعولٌ منصوبٌ ، إنما قاله البصريون قياساً على أَنْ والفعل ومَنَعَه الفراء وهو الصحيح » .
ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه ، الأولُ : أَنْ تكونَ « الملائكةُ » مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي : وتَلْعَنُهم الملائكة ، كما نَصَبَ سيبويه « عمراً » في قولك : « ضاربُ زيدٍ وعمراً » بفعلٍ محذوفٍ . الثاني : أن تكونَ الملائكةُ عطفاً على « لعنة » بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ : ولَعْنَةُ الملائكةِ ، فَلمَّا حُذِفَ المضافُ أٌقيم المضافُ إليه مُقامه . الثالث : أن يكونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرُه تقديره : والملائكةُ والناسُ أجمعون تَلْعَنُهم « . وهذه أوجهٌ متكلفة ، وإعمالُ المصدرِ المنونِ ثابتٌ ، غايةُ ما في الباب أنه قد يُحْذَفُ فاعله كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ] وأيضاً فقد أَتْبَعَتِ العربُ المجرورَ بالمصدرِ على مَوْضِعَيْه رفعاً على الشاعر :
784 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ
برفع » الفُضُلُ « وهي صفةٌ للهَلوك على الموضعِ؛ وإذا ثَبَتَ ذلك ، في النعتِ ثَبَتَ في العطفِ لأنهما تابعان من التوابعِ الخمسةِ . و » أجمعين « من ألفاظِ التأكيدِ المعنوي بمنزلة » كل « .

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

قوله تعالى : { خَالِدِينَ } : حالٌ من الضمير في « عليهم » ، قوله « لا يُخَفَّفُ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مستأنفاً . الثاني : أن يكونَ حالاً من الضمير في « خالدين » فيكونَ حالان متداخلان . الثالث : أن يكونَ حالاً ثانيةً من الضميرِ في « عليهم » ، وذلك عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ . وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجه بناءً منه على مذهبِه في ذلك .

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

قوله تعالى : { وإلهكم إله وَاحِدٌ } : خبرٌ المبتدأ ، و « واحدٌ » صفةٌ ، وهو الخبرُ في الحقيقةِ لأنه محطُّ الفائدةِ ، ألا ترى أنه لو اقْتُصِر على ما قبلَه لم يُفِدْ وهذا يُشْبِهُ الحال الموطِّئةَ نحو : مررتُ بزيد رجلاً صالحاً ، فرجلاً حالٌ وليست مقصودةً ، إنما المقصودُ وَصْفُها .
قوله : { إِلاَّ هُوَ } رفعُ « هو » على أنَّه بدلٌ من اسم « لا » على المحلِّ ، إذ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ أو هو بَدَلٌ مِنْ « لا » وما عَمِلَتْ فيه لأنَّها وما بعدَها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ولا يجوزُ أن يكونَ « هو » خبرَ لا التبرئة لِما عَرَفْتَ أنها لا تَعْمَلُ في المعارفِ بل الخبرُ محذوفٌ أي : لا إله لنا ، هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ « لا » المبنيَّ معها اسمُها عاملةٌ في الخبر ، أمَّا إذا جَعَلْنا الخبرَ مرفوعاً بما كان عليه قبل دخولِ لا وليس لها فيه عملٌ - وهو مذهبُ سيبويه - فكان ينبغي أَنْ يكونَ « هو » خبراً إلا أنه مَنَعَ من ذلك كونُ المبتدأِ نكرةً والخبرُ معرفةً وهو ممنوعٌ إلا في ضرائِر الشعرِ في بعضِ الأبوابِ .
واستشكل الشيخُ كونَه بدلاً مِنْ « إله » قال : « لأنه لم يُمْكِنْ تكريرُ العاملِ لا تقولُ : » لا رجلَ لا زيدَ « ، والذي يظهر لي أنه ليس بدلاً من » اله « ولا مِنْ » رجل « في قولك » لا رجلَ إلا زيدٌ ، إنما هو بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المحذوفِ فإذا قُلْنا : « لا رجلَ إلا زيدٌ » فالتقدير : لا رجلَ كائنٌ أو موجودٌ إلا زيد ، فزيدٌ بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبر لا من « رجل » ، فليس بدلاً على موضعِ اسم لا ، وإنما هو بدلٌ مرفوعٌ من ضمير مرفوع ، ذلك الضميرُ هو عائدٌ على اسم [ لا ] ، ولولا تصريحُ النَّحْويين أنَّه بدلٌ على الموضع من اسم « لا » لتأوَّلْنا كلامهم على ما تقدَّم تأويلُه « . وهذا الذي قالَه غيرُ مشكل لأنهم لم يقولوا : هو بدلٌ من اسمِ لا على اللفظِ حتى يَلْزَمَهم تكريرُ العاملِ ، وإنما كان يُشْكِلُ لو أجازوا إبدالَه من اسمِ » لا « على اللفظِ وهم لم يُجِيزوا ذلك لعدمِ إمكانِ تكريرِ العاملِ ، ولذلك مَنَعوا وجهَ البدلِ في قولِهم { لا إله إلا اللهَ } وجعلوه انتصاباً على الاستثناء ، وأجازوه في قولك : » لا رجلَ في الدارِ إلا صاحباً لك « لأنه يمكنُ فيه تكريرُ العاملِ .
قوله : { الرحمن الرحيم } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أن يكونَ بدلاً من » هو « بدلَ ظاهرٍ من مضمر ، إلاَّ أنَّ هذا يؤدي إلى البدلِ بالمشتقات وهو قليلٌ ، ويمكن .

الجوابُ عنه بأن هاتين الصفتين جَرَتا مجرى الجوامِد/ ولا سيما عند مَنْ يجعلُ « الرحمنُ » علماً ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البسملة . الثاني : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو الرحمنُ ، وحَسَّن حذفَه توالي اللفظ ب « هو » مرتين . الثالث : أن يكونَ خبراً ثالثاً لقولِه : « وإلهُكم » أَخْبر عنه بقولِه : « إله واحد » ، وبقولِه : « لا إله إلا هو » ، وبقولِه : « الرحمن الرحيم » ، وذلك عند مَنْ يرى تعديدَ الخبر مطلقاً ، الرابع : أن يكونَ صفةً لقولِه : « هو » وذلك عند الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ ، فاشترطَ في وصفِ الضمير هذين الشرطين : أن يكونَ غائباً وأن تكونَ الصفةُ صفةَ مدحٍ ، وإنْ كانَ الشيخُ جمالُ الدين بن مالك أَطْلَقَ عنه جوازَ وصفِ ضمير الغائب . ولا يجوزُ أَنْ يكون خبراً ل « هو » هذه المذكورةِ لأنَّ المستثنى ليس بجملةٍ .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

قوله تعالى : { الليل والنهار } : « الليل » قيل : هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال : ليلة وليل كتمرة وتمر ، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل ، بل الليالي جمع لَيْلة ، وهو جمعٌ غريب ، ولذلك قالوا : هو جَمْع ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر :
785 في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ ... ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل ، والكيكة : البيضة . وأمّا النهار فقال الراغب : « هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس » ، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار ، وقال ثعلب والنضر بن شميل : « هو من طُلوع الشمس » زاد النضر « ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار » . وقال الزجاجِ : « أولُ النهار دُرورُ الشمسِ » ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة ، وقيل : « لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر ، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال :
786 لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ ... ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع ، ومنه : » النهار « لاتساعِ ضوئِه عند قوله { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] .
والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله ، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف ، ومنه : { جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، وقال زهير :
787 بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ... وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ
وقال آخر :
788 ولها بالماطِرُون إذا ... أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا
وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ ، قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وهذا أصحُّ القولين ، وقيل : النورُ سابِقُ الظلمةِ وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ : وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها ، فيكونُ اليومُ تابعاً لها . وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له ، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الأصل فإنه تابعٌ لليلةِ بعدَه ، وعلى الثاني جاءَ على الأصل .
قوله : { والفلك } عطفٌ على » خَلْقِ « المجرورِ ب » في « لا على » السماواتِ « المجرورةِ بالإِضافة ، والفُلْك [ يكون واحداً كقولِه : { فِي الفلك المشحون } [ الشعراء : 119 ] وجمعاً ] كقوله : { فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] فإذا أُريد به ، الجَمعُ ففيه أقوالٌ ، أحدُها : قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ - » أنه جمعُ تكسير « فإنْ قيل : جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما ، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في » حُمُر « و » نُدُب « وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل .

وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا ، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين الواحدِ والجمع نحو : « جُنُب » و « شُلُل » أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا : « فُلْكان » عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه : ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان ، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص ، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب ، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال ، لأنهم قالوا في التثنيةِ هِجانان ودِلاصان .
الثاني : مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب . الثالث : أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد ، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً .
وإذا أُفْرِدَ « فُلْك » فهو مذكرٌ قال تعالى : { فِي الفلك المشحون } قالوا : - ومنهم أبو البقاء - : ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله : { والفلك التي تَجْرِي } فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ . وأصلُه : من الدوران ومنه : « فَلَك السماء » لدورَانِ النجومِ فيه ، وفَلْكَةُ المِغْزَل ، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها . وجاءَ بصلةِ « التي » فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ ، وقوله « في البحر » توكيدٌ ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه ، فهو كقولِه : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
قوله : « بما يَنْفَعُ » في « ما » قولان « أحدُهما : أنَّها موصولةٌ اسميةٌ ، وعلى هذا الباءُ للحال أي : تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ . الثاني : أنها حرفيةٌ ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي : تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها .
قوله : { مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ } : مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي : أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدَها : أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه . والثاني : أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ . والثالثُ : أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه : » من السماء « بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ .
فإنْ قيل : كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ ، لا تقول : أخذت من الدراهم من الدنانير . وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ » مِنْ « الثانية » للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ ، والبدلُ يجوزُ ذلك [ فيه ] كما تقدَّم . ويجوز أَنْ تتعلَّقَ « مِنْ » الأولى بمحذوفٍ على أنها حال : إمّا من الموصولِ نفسِه وهو « ما » أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي : وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء .

قوله : { فَأَحْيَا بِهِ } عَطَفَ « أحيا » على « أنزل » الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات . و « به » متعلق « بأحيا ، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة ، وكلُّ هذا مجازٌ ، فإنه متعالٍ عن ذلك ، والضميرُ في » به « يعودُ على الموصول . /
قوله : { وَبَثَّ فِيهَا } يجوزُ في » بَثَّ « وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على » أنزل « داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ؛ لأنَّ قولَه » فَأَحْيا « عطفٌ على » أنزل « فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد ، وكأنه قيل : » وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا . هذا نصُّ الزمخشري . والثاني : أنه عطفٌ على « أحيا » .
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها ، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ « فيها » يعودُ على الأرض ، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه : وبث به فيها ، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ : أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما ، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي ، قال : « وهو جائز شائع في كلامهم ، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه ، وأنشدَ شاهداً عليه :
789 ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ ... وهواه أطاع يَسْتويانِ
أي : والذي أطاع ، وقوله :
790 أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ... ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ
أي : ومَنْ ينصرُه .
وقوله :
791 فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ ... بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ
أي : ما الذي نلتم؛ وقوله تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] أي : وبالذي أُنزل إليكم؛ ليطابقَ قولَه : { والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] . ثم قال الشيخ : » وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ « - يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال : » وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم؛ وأَنْشَدَ :
792 وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ
أي : عَلْقم عليه ، وقوله :
793 لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني ... إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه
أي : أَصْعَدْتِني به .
قوله : { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } يجوز في « كل » ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها : أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ « مِنْ » تبعيضيةً . الثاني : أن تكون « مِنْ » زائدةً على مذهب الأخفش ، و « كلَّ دابة » مفعول به .

ل « بَثَّ » أيضاً والثالث : أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ « بَثَّ » المحذوفِ إذا قلنا إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه : وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة؛ وفي « مِنْ » حينئذ وجهان؛ أحدهما : أن تكونَ للبيان . والثاني : أن تكونَ للتبعيض .
وقال أبو البقاء : « ومفعولُ » بَثَّ « محذوفٌ » تقديرُه : وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ « ، وظاهرُ هذا أنَّ { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته .
والبَثُّ : نَشْرٌ وتفريق ، قال :
794 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ
ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي ، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ؛ قالوا : » نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه « بالوجهين . والدابَّةُ : اسمٌُ لكلِّ حيوانٍ ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة :
795 كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ ... صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ
وبقول الأعشى :
796 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ
وبقوله : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] ، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير .
قوله : { وَتَصْرِيفِ الرياح } » تصريف « مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل ، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه : وتصريفِ الرياحِ السحابَ ، فإنها تسوقُ السحابَ ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ ، والفاعلُ محذوفٌ أي : وتصريفِ اللهِ الريحَ . والرياحُ : جمعُ ريح جمعَ تكسير ، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ : رِوْح ، لأنه من راح يروح ، وإنما قُلِبَتْ في » ريح « لسكونها وانكسار ما قبلها ، وفي » رياح « لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ ، وهو إبدالٌ مطردٌ ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا : أَرْواح قال :
797 أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ ... فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثلُه :
798 لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه ... أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال » الأرياح « في شعرِه ، فقال له أبو حاتم : » إن الأرياح لا تجوزُ « فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح . فقال أبو حاتم : هذا خلافُ ذلك ، فقال : صَدَقْتَ ورَجَعَ . قال الشيخ : » وفي محفوظي قديماً أنَّ « الأرياح » جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع ، كما قالوا : عيد وأعياد ، والأصلُ : أَعْواد لأنه من عاد يَعُود ، لكنه لمَّا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ « . قلت : ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رُوح ، كما قالوا : التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد ، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ .

قال ابنُ عطية : « وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه : { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ ، وفي الحديث : » الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً « لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب » . انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها . وإنما الذي يقال : إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما ، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ .
وقرأ هنا « الريح » بالإِفراد حمزةُ والكسائي ، والباقون بالجمع ، فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها : جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك ، وإفرادُها على إرادة الجنس .
والسحابُ : اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ ، سُمِّي بذلك لانسحابِه ، كما قيل له : حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو ، ذكر ذلك أبو علي ، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله : « المُسَخَّر » كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله : { سَحَاباً ثِقَالاً } [ الأعراف : 57 ] ، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } / [ الحاقة : 7 ] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان : التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى .
والتسخيرُ : التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ . وقال الراغب : « هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه » .
قوله : { بَيْنَ السمآء } في « بين » قولان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بقوله : « المُسخَّرِ »؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير . والثاني : أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً بين السماء و « لآياتٍ » اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر ، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه .
وقوله : { لِّقَوْمٍ } في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه « يَعْقِلون » الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

قوله تعالى : { مَن يَتَّخِذُ } : « مَنْ » في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وخبرُه الجارُّ قبلَه ، ويجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكون موصولةً . الثاني : أن تكونَ موصوفةً ، فعلى الأولِ لا محلَّ للجملةِ بعدها ، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ ، أي : فريقٌ أو شخصٌ متَّخِذٌ؛ وأَفْرَدَ الضميرَ في « يتَّخذ » حَمْلاً على لفظِ « مَنْ » .
قوله : { مِن دُونِ الله } متعلِّقٌ بيتَّخذ . والمرادُ بدون هنا : غَيْر ، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى « غير » مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت : « اتخذتُ من دونِك صديقاً » أصلُه : اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً ، فهو ظرفٌ مجازيٌّ . وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونَ غيراً لأنه ليس إياه ، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً ، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ . و « يتَّخِذُ » يَفْتَعِلُ من الأخْذِ ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو : أَنْداداً « . وقد تقدَّم الكلامُ على » أنداداً أيضاً واشتقاقه .
قوله : { يُحِبُّونَهُمْ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً ل « مَنْ » في أحدِ وجهَيْها ، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في « يتَّخِذُ » . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً ، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم ، والمرادُ بهم الأصنامُ ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيرهم ، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم . الثالث : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في « يَتَّخِذ » ، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في « يتَّخِذُ » ، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم .
قوله : { كَحُبِّ الله } الكافُ في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : يُحِبُّونهم حباً كحُبِّ اللَّهِ ، وإمَّا على الحالِ من المصدرِ المعرَّفِ كما تقدَّمَ تقريرُه غيرَ مرةٍ . والحُبُّ : إرادةُ ما تراه وتظنه خيراً ، وأصلهُ من حَبَبْتُ فلاناً : أصبْتُ حبة قلبِه نحو : كَبِدْتُه . وأَحْبَبْتُه : جَعَلْتُ قلبي مُعَرَّضاً بأن يحبَّه ، لكن أكثر الاستعمالِ أن يُقال : أَحْبَبْتُه فهو محبوب ، ومُحَبّ قليلٌ كقوله :
799 ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه ... مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصلِ مصدرُ حَبَّه ، وكان قياسُه فتحَ الحاءِ ، ومضارِعُه يَحُبُّ بالضم وهو قياسُ فِعْل المضعَّف وشَذَّ كسرُه ، ومحبوب أكثر من مُحَبّ ، ومُحِبّ أكثر من حابّ ، وقد جُمِع الحبُّ لاختلافِ أنواعِه ، وقال :
800 - ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ ... وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ

والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصوبه والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه : كحبِّهم الله أو كحبِّ المؤمنين الله ، بمعنى أنهم سَوَّوا بين الحُبَّين : حبِّ الأندادِ وحُبِّ اللهِ .
وقال ابن عطية : « حُبّ » مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه : كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ « . انتهى ، وقوله » للفاعل المضمر « يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو : » كُمْ « أو » هِمْ « ، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف أضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ، ولا يريد أن الفاعلَ مضمرٌ في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعالِ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضِهم ، مردودٌ بأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ؛ واسمُ الجنسِ لا يُضْمَرُ فيه لجمودِه .
وقال الزمخشري : » كحُبِّ اللهِ : كتعظيمِ اللهِ ، والخُضوعُ له ، أي : كما يُحَبُّ اللهُ ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ « . انتهى . أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ : أعني الجوازَ مطلقاً . والثاني : المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ . والثالث : التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو : عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في » حُبّ « أن يُبْنى للمفعولِ ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة : » نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن « برفعِ » ذو « عطفاً على محلّ » الأبتر « لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي : أن يُقْتَلَ الأبترُ . ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا .
وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم ، وقال : » ليس بشيء « ، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين ، أي : يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله ، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ » . وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ الكفار لأوثانهم وبين محبةِ المؤمنين لله ينافي قوله : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } فإنَّ فيه نفيَ المساواةِ .
وقرأ أبو رجاء : « يَحُبُّونهم » من « حَبَّ » ثلاثياً ، و « أَحَبَّ » أكثرُ ، وفي المثل : « مَنْ حَبَّ طَبَّ » .
قولُه : { أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } المفضلُ عليه محذوفٌ ، وهم المتخذون الأنداد ، أي : أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم ، وقال أبو البقاء : « ما يتعلَّقُ به » أشدّ « محذوفٌ تقديرُه : » أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ « والمعنى : أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم . ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره .

وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَل التفضيل من مادة الحب لأن « حُبَّ » مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل ، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه . فأمَّا قولُهم : « ما أحبَّه إلي » فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين . و « حباً » تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه : حُبُّهم للهِ أشَدُّ .
قوله : { وَلَوْ يَرَى الذين } جوابُ لو محذوفٌ ، واختُلِفَ في تقديره ، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة : قرأ ابنُ عامر ونافع : « ولو ترى » بتاءِ الخطابِ ، و « أن القوة » و « أن الله بفتحِهما ، وقرأ ابنُ عامر : » إذ يُرَوْن « بضم الياء ، والباقون بفتحِهما . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون : » ولو يرى « بياء الغيبة ، » أنَّ القوة « و » أنَّ الله « بفتحِهما ، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر : » ولو تَرَى « بالخطاب ، » إن القوة « و » إن الله « بكسرهما ، وقرأت طائفةٌ : » ولو يرى « بياء الغيبة ، » إن القوة « و » إن الله « بكسرهما . إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو ، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه : » أن القوة « ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه : » وأنَّ الله شديدُ العذابِ « / وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد . أمَّا مَنْ قَدَّره قبل » أنَّ القوةَ « فيكونُ » أنَّ القوةَ « معمولاً لذلك الجوابِ . وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ : لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً ، والمرادُ بهذا الخطابِ : إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ . وعلى قراءةِ الكسرِ في » إنّ « يكونُ التقديرُ : لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً ، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم ، أو يكونُ التقديرُ : لاستعظَمت حالَهم ، وإنما كُسِرَتْ » إنَّ « لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك : لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان ، فقولك : أنه مكرِمٌ للضِّيفان » عِلَّةٌ لقولِك « أَحْسَنَ إليك » .
وقال ابنُ عطية : « تقديرُه : ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً » وناقشه الشيخ فقال : « كان ينبغي أن يقولَ : في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف » إذ « وهو الوقتُ لا الحالُ ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ » لو « غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي » لو « ، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً ، وهو نظيرُ قولِك : » يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه « فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد » انتهى .

وتقديرُه على قراءةِ « يرى » بالغيبة : لعلموا أنَّ القوةَ ، إنْ كان فاعل « يرى » « الذين ظلموا » ، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ : لَعَلِمَ أنَّ القوة .
وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه : شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة « ترى » بالخطابِ : لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم ، ويكونُ فتحُ « أنَّ » على أنه مفعولٌ من أجلِه ، أي : لأنَّ القوةَ لله جميعاً ، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو : « أكرِمْ زيداً إنه عالم ، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ » ، أو تكونُ جملةً معترضةً بين « لو » وجوابِها المحذوفِ . وتقديرُه على قراءةِ « ولو يرى » بالغيبة إن كان فاعلُ « يرى » ضميرَ السامعِ : لاستعظَمَ ذلك ، وإنْ كان فاعلُه « الذين » كان التقديرُ : لاستعظَموا ما حَلَّ بهم ، ويكونُ فتحُ « أنَّ » على أنها معمولةٌ ليرى ، على أن يكونَ الفاعلُ « الذين ظلموا » ، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ « أنَّ » مسدَّ مفعولهما ، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ .
وأمَّا قراءةُ « يرى الذين » بالغَيبة وكسرِ « إنَّ » و « إنَّ » فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي : لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه « الذين » : لقالوا : ويكونُ مفعولُ « يرى » محذوفاً أي : لو يرى حالهم . ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ : لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين ، وإنما كُسِرتا استئنافاً ، وحَذْفُ جوابِ « لو » شائعٌ مستفيضٌ ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن . وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر ، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه ، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً . قال امرؤ القيس :
801 وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
وقال النابغة :
802 فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ
ودَخَلَتْ « إذ » وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناءِ هذه المستقبلات تقريباً للأمر ، وتصحيحاً لوقوعِه ، كما وَقَعَتْ صيغة المضيِّ موقعَ المستقبل لذلك كقولِهِ : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] ، وكما قال الأشتر :
803 بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى ... ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ
إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
فأوقع « بَقَّيْتُ » و « انحَرَفْتُ » - وهما بصيغة المضيِّ - موقِعَ المستقبلِ لتعليقهما على مستقبلٍ وهو قولُه : « إنْ لم أشُنَّ » .

وقيل : أَوْقَعَ « إذ » موقع « إذا » وقيل : زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا ، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه ، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا ، وهو في القرآن كثيرٌ .
وقراءةُ ابنِ عامر « يُرَوْنَ العذاب » مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين ، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو ، والثاني هو « العذابُ » ، وقراءةُ الباقين واضحةٌ .
وقال الراغبُ : « قوله » : « أنَّ القوة » بدلٌ من « الذين » قال : « وهو ضعيفٌ » قال الشيخ : « ويصيرُ المعنى : ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا » . وقال في « المنتخب » : « قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء » ، قال : « لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم » وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان .
قوله : { جَمِيعاً } حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً ، لأنَّ تقديره : « أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً » ، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة ، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها ، و « أنَّ » لا تعملُ في الحال ، وهو مُشْكلٌ ، فإنَّهم أجازوا في « ليت » أن تعمل في الحال ، وكذا « كأنَّ » لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في « أنَّ » لِما فيها من معنى التأكيد . و « جميع » في الأصل : فَعِيل من الجَمْعِ ، وكأنه اسمُ جمعٍ ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد ، قال تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] ، وتارةً بالجمعِ ، قال تعالى : { جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] ، ويَنْتَصِبُ حالاً ، ويؤكد به بمعنى « كل » ، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ « كل » ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان ، تقول : « جاء القومُ جميعُهم » لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين « جاؤوا معاً » .

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

قوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ } : في « إذْ » ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها بدلٌ من « إذ يَرَوْن » . الثاني : أنها منصوبةٌ بقولِه « شديدُ العذاب » الثالث : - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ لا ذكر مقدراً . و « تَبَرَّأ » في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه . والتبرُّؤُ : الخلوصُ والانفصال ، ومنه : بَرِئْتُ من الدَّيْن ، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه : { إلى بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] . والجمهورُ على تقديم « اتُّبِعوا » مبنياً للمفعول على « اتَّبعوا » مبنياً للفاعل . وقرأ مجاهد بالعكس ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ .
قوله : { وَرَأَوُاْ العذاب } في هذه الجملة وجهانِ : أظهرهُما : أنها عطفٌ على ما قبلها ، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف ، تقديرُه : « إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا ، وإذْ رَأَوا » . والثاني : أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ ، و « قد » معها مضمرةٌ ، والعاملُ في هذه الحالِ : « تَبَرَّأ » أي : تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ .
قوله : { وَتَقَطَّعَتْ } يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ « تَقَطَّعَتْ » على « تَبَرَّأ » ، ويكون قوله : « ورأوا » حالاً ، وهذا اختيار الزمخشري ، أو عَطَفَتْ على « رأوا »؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين ، أو حالٌ للضميرِ في « رَأوا »؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا « ورأوا » حالاً .
والباءُ في « بهم » فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهُما : أنَّها للحالِ أي : تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو : « خَرَج بثيابه » . الثاني : أن تكونَ للتعديةِ ، أي : قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ : تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ « أي : فَرَّقَتْهم . الثالث : أن تكون للسببية ، أي : تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة . الرابع : أن تكونَ بمعنى » عن « ، أي : تَقَطَّعت عنهم .
والأسبابُ : الوَصْلاتُ بينهم ، وهي مجازٌ ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء : عيناً كان أو معنىً ، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ ، قال زهير :
804 ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه ... ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ : البديع هو الترصيعُ/ ، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ ، وهو هنا في موضعَيْن ، أحدُهما { اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ : من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني : { وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } وهو كثيرٌ في القرآنِ { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 73 ] .

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

قوله تعالى { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } : منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته « لو » ، ولذلك أُجيبت بجواب « ليت » الذي في قوله : يا ليتني كنتُ معهم فأفوز « ، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه : لتبرَّأنا ونحوُ ذلك . وقيل : » لو « في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره ، وليس فيها معنى التمني ، والفعلُ منصوبٌ ب » أَنْ « مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو » كَرَّة « والتقديرُ : لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله :
805 لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : » فنتبرأ « منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه : لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ » فَحَلَّ « كرة » إلى قولِه « أَنْ نَرْجِعَ » لأنه بمعناه وهو قريبٌ ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه ، ويتركون الاسمَ على حالِه ، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو : « لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك » فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ . والقائل بأنّ « لو » التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر :
806 فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ ... فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ
وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه :
807 بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً ... وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ « أنَّ » تُفْتَحُ بعد « لو » كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه :
808 يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ ... حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ
وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي : أنَّ النحاة قالوا : « كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي » ، [ و ] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال : وإلا في جوابِ التمني ب « لو » ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار « أَنْ » بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له ، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ . قال الشيخ : « والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت ، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت » لو « فرع الفرع ، فَضَعُفَ ذلك فيها .
قوله : » كما « الكافُ موضعُها نصبٌ : إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم ، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي : نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم ، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ .

وقال ابنُ عطية : « الكافُ في قوله » كما « في موضعِ نصبٍ على النعت : إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه : متبرئين كما » . قال الشيخ : « وأمّاً قولُه » لحال تقديرُه متبرئين كما « فغيرُ واضحٍ ، لأنَّ » ما « مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال ، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ » قال : « وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً ، وهي خلافُ الأصلِ ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه » .
قوله : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ } في هذه الكافِ قولان ، أحدُهما : أنَّ موضعَها نصبٌ : إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ ، أي : يُريهم رؤيةً كذلك ، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك ، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك ، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا . والثاني : أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء . قال الشيخ : « وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل » . والإِشارةُ بذلك إلى إرءَتِهم تلك الأهوال ، والتقدير : مثلَ إراءتهم الأهوال يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ ، وقيل : الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ .
والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ بصريةً ، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة ، أولُهُما الضميرُ والثاني « أعمالَهم » و « حسراتٍ » على هذا حالٌ من « أعمالهم » . والثاني : أن تكون قلبية ، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها « حسرات » و « عليهم » يجوزُ فيه وجهان : أن يتعلَّق ب « حسراتٍ » لأنَّ « يَحْسَر » يُعَدَّى بعلى ، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : على تفريطهم . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات ، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ .
والكَرَّةُ : العَوْدَةُ ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً ، قال :
809 أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ... أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها
والحسرةُ : شِدَّةُ النَّدَمِ ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ ، واشتقاقُها : إمَّا من قولِهم : بعيرٌ حَسِير ، أي : منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

قولُه تعالى : { مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } : « حلالاً » فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَن يكونَ مفعولاً ب « كُلوا » ، و « مِنْ » على هذا فيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تتعلَّق بكُلوا ، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ . والثاني : أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من « حلالاً » وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً ، ويكونُ معنى « مِنْ » التبعيض . الثاني : أن يكونَ انتصابُ « حلالاً » على أنه نعت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديرُه : شيئاً أو زرقاً حلالاً ذكرَه مكي ، واستبعدَه ابنُ عطية ، ولم يُبَيِّنْ وجهَ بُعْدِهِ ، والذي يَظْهَرُ في بُعْدِه أنَّ « حلالاً » ليس صفةً خاصةً بالمأكولِ ، بل يُوصَفُ به المأكولُ وغيرُه ، وإذا لم تكن الصفةُ خاصةً لا يجُوزُ حَذْفُ الموصوفِ . الثالثُ : أَنْ ينتصِبَ « حلالاً » على أنه حالٌ من « ما » بمعنى الذي ، أي : كُلوا من الذي في الأرض حال كَونِه حلالاً . الرابع : أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : أكلاً حلالاً ، ويكون مفعولُ « كُلوا » محذوفاً ، و « ما في الأرض » صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ ، ذكره أبو البقاء ، وفيه من الردِّ ما تقدَّم على مكي ، ويجوزُ على هذا الوجهِ الرابع ألاَّ يكونَ المفعولُ محذوفاً بل تكون « مِنْ » مزيدةً على مذهب الأخفش تقديرُه : كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً . الخامس : أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على « ما » قاله ابنُ عطية ، يعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً .
و « طيباً » فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أن يكونَ صفةً لحلالاً ، أمَّا على القول بأنَّ « مِنْ » للابتداءِ متعلِّقة ب « كُلوا » فهو واضحُ ، وأمّا على القولِ بأنّ « مِما في الأرض » حالٌ من « حلالاً » ، فقال أبو البقاء : « ولكنَّ موضعَها بعد الجارِّ والمجرور ، لئلا يُفْصَلَ بالصفةِ بين الحالِ وذي الحالِ » وهذا الذي قاله ليس بشيء فإنَّ الفصلَ بالصفةِ بين الحال وصاحِبها ليس بممنوع ، تقول : « جاءني زيدٌ الطويلُ راكباً » بل لو قَدَّمْتَ الحالَ على الصفةِ فقلتَ : « جاءني زيدٌ راكباً الطويلُ » كان في جوازه نظرٌ . الثاني : أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أي : أكلاً طيباً . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ في « كُلوا » تقديرُه : مستطيبين ، قاله ابنُ عطية ، قال الشيخُ : « وهذا فاسدٌ في اللفظ/ والمعنى ، أمّا اللفظُ فلأنَّ » الطيِّب « اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال : طيبين ، وليس » طيب « مصدراً فيقال : إنما لم يُجْمَع لذلك .

وأما المعنى فإنَّ « طيباً » مغايرٌ لمعنى « مستطيبين » لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ ، تقول : طاب لزيدٍ الطعامُ ، ولا تقولُ : « طابَ زيدٌ الطعام » بمعنى استطابه « .
والحَلالُ : المأذونُ فيه ، ضدُّ الحرام الممنوع منه . [ يُقال : ] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ ، ويقال : حَلال وحِلُّ ، كحرام وحَرَم ، وهو في الأصل مصدرٌ ، ويقالُ : » حلٌِ بِلٌّ « على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ . وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها ، وقرىء ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه : 81 ] بالوجهين .
قوله : { خُطُواتِ } قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص : خُطُوات بضم الخاء والطاء ، وباقي السبعة بسكون الطاءِ ، وقرأ أبو السَّمَّال » خُطَوات « بفتحها ، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنه قرأ » خَطَوات « بفتح الخاء والطاء ، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز .
فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ » فَعْلَة « الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب - : السكونُ وهو الأصلُ ، والإِتباع ، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً . وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء ، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح : أنَّ المفتوحَ مصدرٌ ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى ، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف ، وقيل : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء .
وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان ، أحدُهما : - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ ، و » خُطُؤات « جمع » خِطْأَة « إِنْ سُمِعَ ، وإلاَّ فتقديراً ، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا ، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ . والثاني : أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه .
قوله : { إِنَّهُ لَكُمْ } قال أبو البقاء : » إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ بحالِه ، وهو أبلغُ من الفتح ، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ : لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم ، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا ، ومثلُه :
810 لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ « انتهى . يعني أن الكسرَ استئنافٌ فهو بعضُ إخبارٍ بذلك ، وهذا الذي قاله في وجهِ الكسرِ لا يتعيَّنُ ، لأنه يجوزُ أن يُرادَ التعليل مع كسرِ الهمزةِ فإنهم نَصُّوا على أنَّ » إنَّ « المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ : قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة ، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة ، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ .

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

قوله تعالى : { وَأَن تَقُولُواْ } : عطفٌ على قولِه « بالسوءِ » تقديرُه : « وبأنْ تقولوا » فيحتملُ موضعُها الجرَ والنصبَ بحسب قولي الخليلِ وسيبويه . و « الفحشاءُ » مصدرٌ من الفُحْش ، كالبأساء من البأْسِ . والفُحْشُ قُبْحُ المنظر ، قال امرؤ القيس :
811 - وجِيدٍ كجيدٍ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ
وتُوُسِّع فيه حتى صارَ يُعَبَّرُ به عن كلِّ مستقبَحٍ معنىً كان أو عيناً .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

قولُه تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } : الضميرُ في « لهم » فيه أربعةُ أقوال ، أحدُها : أنه يعود على « مَنْ » في قولِهِ : { مَن يَتَّخِذُ } [ البقرة : 165 ] وهذا بعيدٌ . الثاني : أنه يعودُ على العرب الكفَّار لأنَّ هذا حالُهم . الثالث : أنه يعودُ على اليهودِ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافِهِم . الرابعُ : أنه يعودُ على الناسِ في قولِهِ : { يَا أَيُّهَا الناس } [ البقرة : 168 ] ، قاله الطبري ، وهو ظاهرٌ ، إلاَّ أَنَّ ذلك يكونُ من بابِ الالتفات من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، وحكمتُه أنهم أُبْرِزوا في صورةِ الغائبِ الذي يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِهِ ، حيث دُعِيَ إلى شريعةِ اللَّهِ والنورِ والهدى فأجابَ باتِّباع شريعةِ أبيه .
قوله : { بَلْ نَتَّبِعُ } بل هنا عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ قبلها تقديرُه : لا نتَّبعُ ما أنزل اللَّهُ بل نَتَّبعُ كذا ، ولا يجوزُ أنْ تكونَ معطوفةً على قولِهِ : « اتَّبِعُوا » لفسادِهِ . وقال أبو البقاء : « بل » هنا للإِضرابِ عن الأول ، أي : لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ ، وعلى هذا فيقالُ : كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلاَّ في هذه الآية ، وإلاَّ في قولهِ : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق } [ السجدة : 3 ] فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله : « أم يقولون افتراه » كان إضرابَ انتقالٍ ، وإن اعتبرْتَ « افتراه » وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ .
قوله : { أَلْفَيْنَا } في « ألفى » هنا قولان ، أحدُهما : أنها متعدِّيةٌ إلى مفعولٍ واحدٍ ، لأنها بمعنى « وَجَدَ » التي بمعنى أصابَ ، فعلى هذا يكونُ « عليه » متعلِّقاً بقولِهِ « أَلْفينَا » . والثاني : أنها متعدِّية إلى اثنين ، أولُهما « آباءَنا » والثاني : « عليه »؛ فَقُدِّمَ على الأولِ . وقال أبو البقاء : « هي محتملةٌ للأمرين ، أعني كونَها متعديةً لواحدٍ أو لاثنين » قال أبو البقاء : « ولامُ أَلْفَيْنَا واوٌ لأنَّ الأصلَ فيما جُهِلَ من اللاماتِ أنْ يكونَ واواً » يعني فإنَّه أوسعُ وأكثرُ فالردُّ إليه أَوْلَى .
قوله : { أَوَلَوْ } الهمزةُ للإِنكار ، وأمَّا الواو ففيها قولان ، أحدُهما : - وإليه ذهب الزمخشري - أنها واوُ الحالِ ، والثاني - وإليه ذهب أبو البقاء وابن عطية - أنها للعطفِ . وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزةِ الواقعةِ قبل الواوِ والفاءِ وثُمَّ : هل بعدَها جملةٌ مقدرةٌ؟ وهو رأيُ الزمخشري ، ولذلك قَدَّرَه هنا : أيتَّبِعُونَهم ولو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب ، أو النيةُ بها التأخيرُ عن حرفِ العطف؟ وقد جَمَعَ الشيخ بين قولِ الزمخشري وقولِ ابن عطية فقال : « والجمعُ بينهما أنَّ هذه الجملةَ المصحوبةَ ب » لو « في مثلِ هذا السياقِ جملةٌ شريطةٌ ، فإذا قال : » اضربْ زيداً ولو أَحْسَنَ إليك « فالمعنى : وإنْ أَحسَنَ إليكَ ، وكذلك : » أَعْطوا السائلَ ولو جاءَ على فرسٍ « » رُدُّوا السائلَ ولو بشقَّ تمرةٍ « المعنى فيهما : » وإنْ « ، وتجيء » لو « هنا تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسبُ ما قبلها ، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعلُ ، ولتدلُّ على أن المرادَ بذلك وجودُ الفعلِ في كل حالٍ ، حتى في هذه الحالِ التي لا تناسبُ الفعلَ ، ولذلك لا يجوزُ : » اضربْ زيداً ولو أساء إليكَ « ولا : » أَعْطُوا السائل ولو كان محتاجاً « ، فإذا تقرَّر هذا فالواوُ في » ولو « في الأمثلةِ التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدرةٍ ، والمعطوف على الحالِ حالٌ ، فَصَحَّ أن يقالَ إنها للحالِ من حيثُ عطفُها جملةً حاليةً على حالٍ مقدرةٍ ، وصَحَّ أن يقالَ إنها للعطف من حيث ذلك العطفُ ، والمعنى - والله أعلمُ - أنها إنكارُ اتِّباعِ آبائِهِم في كلِّ حالٍ حتى في الحالة التي تناسِبُ أنْ يَتَّبِعُوهُمْ فيها وهي تَلَبُّسهم بعدمِ العَقْلِ والهدايةِ ، ولذلك لا يجوزُ حذف هذه الواوِ الداخلةِ على » لو « إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها ، وإنْ كانتِ الجملةُ الحاليةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحالِ ، لأنَّ مجيئَها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييدِ الجملةِ السابقةِ بهذه الحال .

فهو يُنافي استغراقَ الأحوالِ ، حتى هذه الحالُ ، فهما معنيانِ مختلفانِ ، ولذلك ظهر الفرقُ بين : « أَكْرِمْ زَيْداً لو جَفَاك » وبين « أكْرمْ زيداً ولو جَفَاك » انتهى . وهو كلامٌ حَسَنٌ/ وجوابُ « لو » محذوفٌ تقديرُه : لاتَّبعوهم ، وقدَّره أبو البقاء : « أفكانوا يَتَّبِعونهم » وهو تفسيرُ معنىً ، لأن « لو » لا تُجاب بهمزةِ الاستفهام .
قوله : { شَيْئاً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ به ، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي ، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى : لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ . والثاني : أن ينتصبَ على المصدريةِ ، أي : لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ . وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ .

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ } : اختلفَ الناسُ في هذه الآيةِ اختلافاً كثيراً واضطربوا اضطراباً شديداً ، وأنا بعونِ اللَّهِ قد لَخَّصْتُ أقوالَهم مهذبةً ، ولا سبيلَ إلى معرفةِ الإِعرابِ إلاَّ بعد معرفةِ المعنى المذكورِ في هذه الآيةِ .
وقد اختلفُوا في ذلك : فمنهم مَنْ قال : معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ . ومنهم مَنْ قالَ : هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به . ومنهم مَنْ قال : هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به . فهذه أربعةُ أقوالٍ .
فعلى القولِ الأولِ : يكون التقديرُ : « وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً » . وقيلَ : يكون التقديرُ : ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ .
قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - « إلاَّ أَنَّ قولَه { إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً » . قال الشيخ : « ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ ، والصنَمُ لا يسمع ، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ » قال : « ونحن نقول : التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ لا في خصوصياتِ المدعوِّ ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيمةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به » .
وقيل في هذا القولِ : - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ : وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى ، فالمعنى : بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها ، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ « يسمع » ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ ، ويكونُ العائدُ على « ما » الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى ، تقديرُه : بما لا يَسْمَعُ منه ، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما ، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم . وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ « يَسْمَعُ » ضميراً يعود على « ما » الموصولةِ ، وهو المنعوقُ به . وقيل : المرادُ بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون ، والمعنى : مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم ، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم . فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ « مثل » مبتدأً و « كمثلِ » خبرَه ، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ .
وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل : معناه : وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذي يَنْعِقُ ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني .

وقيل التقديرُ : وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ ، وقال قائلُ هذا : كما تقولون : « دَخَلَ الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي » . وإلى هذا التفسير ذهب الفراءُ وأبو عبيدة وجماعةٌ ، إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ أو ندورٍ .
وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ : وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك ، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول . قال الزمشخري : « ويجوز أن يُرادَ ب » ما لا يَسْمَعُ « الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ » وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ « ما » على العقلاءِ ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه « ما » .
وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه : « مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به » واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبويه ، فقائلٌ : هو تفسير معنىً ، وقيل : تفسيرُ إعرابٍ ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان : حَذْفٌ من الأولِ وهو حَذْفُ « داعيهم » وقد أثبتَ نظيره في الثاني ، وحَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ ، وقد أثبت نظيرَه في الأول ، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه ، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلاَّ أصواتاً لا يَعْرفون ما وراءها . وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ الصناعي : وَمَثَلُ الذين كفروا وداعيهم كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بالمنعوقِ به . وقد ذَهَبَ إليه جماعةٌ منهم أبو بكر ابنُ طاهر ، وابن خروف والشلوبين ، قالوا : العربُ تستحسنُ هذا ، وهو من بديعِ كلامِها ، ومثلُه قولُه : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } [ النمل : 12 ] تقديرُهُ : وأَدْخِلْ يَدَكَ في جيبكَ تَدْخُلْ ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ ، فَحذَف « تَدْخُلْ » لدلالة « تَخْرُجْ » وَحَذَفَ « وَأَخْرِجْهَا » لدلالةِ : « وَأَدْخِلْ » ، قالوا : ومثلُهُ قولُه :
812 وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ ... كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يُرِدْ أن يُشَبِّه فترَتَه بانتفاضِ العصفورِ حين بَلَّلهُ القَطْرُ لأنَّهما ضِدَّان ، إذ هما حركةٌ وسكونٌ ، ولكنَّ تقديرَه : إني إذا ذكرتُكِ عَراني انتفاضٌ ثم أفترُ ، كما أنَّ العصفورَ إذا بلَّله القطرُ عراهُ فترةٌ ثم يَنْتَفِضُ ، غيرَ أَنَّ وجيبَ قلبِهِ واضطرابَه قبل الفترة ، وفترةَ العصفورِ قبل انتفاضه .

وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به ، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى ، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ . قال الراغب : « فلما شَبَّه قصةَ الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدَّم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به » .
والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى .
وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ « مثلُ الذين » مبتدأٌ ، و « كمثل الذي » خبرُه : إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ ، أي : مَثَلُ داعي الذينَ ، أو من الثاني : أي : كمثلِ بهائِمِ الذي ، أو على حَذْفَيْنِ : حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني ، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله . وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ .
والنَّعِيقُ : دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم ، قال :
813 فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما ... مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا
يقال : نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها ، والمصدرُ : النَّعيقُ والنُّعاقُ والنَّعْقُ ، وأمّا « نَعَقَ الغرابُ » فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملةِ أيضاً في الغرابِ وهو غريبٌ/ .
قوله : { إِلاَّ دُعَآءً } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ « يَسْمَعُ » ولم يأخُذْ مفعولَه . وزعم بعضُهم أنَّ « إلاَّ » زائدةٌ ، فليسَ من الاستثناء في شيء . وهذا قولٌ مردودٌ ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ « إلاَّ » في قولِهِ :
814 حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا
فقد ردَّ الناسُ عليه ، ولم يقبلوا قوله . وفي البيت كلامٌ تقدَّم .
وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً : وهو قولهُ : { لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء ، وكأنَّه قيل : لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ ، وهذا لا يَجُوز؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً ، وإنما المعنى : لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم ، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها ، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ ، فكأنه قيل : ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ . وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ .
وهنا سؤالٌ آخرُ : وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك ، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ . ذكر ذلك عليُّ بن عيسى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

قولُه تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ } : مفعولُ « كُلوا » محذوفٌ ، أي : كُلوا رزقَكم . وفي « مِنْ » حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقَ ب « كلوا » . والثاني : أَنْ تكونَ تبعيضيَّة فتتعلَّق بمحذوفٍ إذ هي حالٌ من ذلك المفعولِ المقدَّرِ ، أي : كُلوا رزقَكم حالَ كونِهِ بعضَ طيباتِ ما رزقناكم . ويجوزُ في رأيِ الأخفش أن تكونَ « مِنْ » زائدةً في المفعولِ به ، أي : كلوا طيباتِ ما رزقناكم . و « إنْ كُنْتُمْ » شرطٌ وجوابُهُ محذوفٌ ، أي : فاشكروا له . وقولُ مَنْ قال مِنَ الكوفيين إنَّها بمعنى « إذ » ضعيفٌ . و « إياه » مفعولٌ مقدَّمٌ ليُفيدَ الاختصاصَ ، أو لكونِ عامِلِه رأسَ آيةٍ ، وانفصالُهُ واجبٌ ، ولأنه متى تأخَّر وَجَبَ اتِّصالُه إلا في ضرورةٍ كقولِهِ :
815 إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا ... وفي قولِهِ : { واشكروا للَّهِ } التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال : « واشكرونا » .

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } : الجمهُور قرؤوا « حَرَّم » مشدَّد مبنياً للفاعِلِ ، « الميتة » نصباً ، على أنَّ « ما » كافةٌ مهيِّئَةٌ لإِنَّ في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ ، وفاعلُ « حَرَّم » ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى . و « الميتةَ » مفعولٌ به . وابنُ أبي عبلة برفع الميتة وما بعدَها . وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ ، وهو أن تكونَ « ما » موصولةً ، و « حَرَّمَ » صلتها ، والفاعلُ ضميرُ اللَّهِ تعالى ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، تقديرُهُ : حَرَّمه ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ « إنَّ » و « الميتةُ » خبرُها .
وقرأ أبو جعفر : « حُرَّم » مبنياً للمفعولِ ، فتحتملُ « ما » في هذه القراءةِ وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ « ما » مهيِّئَةً ، و « الميتةُ » مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني : أن تكون موصولةً ، فمفعولُ « حَرَّمَ » القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على « ما » الموصولةِ ، و « الميتةُ » خبرُ « إنَّ » .
وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي : « حَرُمَ » بضمِّ الراء مخففةً ، و « الميتةُ » رفعاً « و » ما « تحتملُ الوجهين أيضاً ، فتكونُ مهيئةً ، و » الميتةُ « فاعلٌ بحَرُم ، أو موصولةً ، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على » ما « ، وهي اسمُ » إنَّ « ، و » الميتةُ « خبرُها .
والجمهورُ على تخفيفِ » المَيْتَة « في جميع القرآنِ ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل ، وهذا كما تقدَّم في أنَّ » المَيْت « مخفَّفٌ من » الميِّت « وأن أصلَه : مَيْوِت ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ الآية : 27 ] في آلِ عمران . ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن » المَيْت « بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه ، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ . وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه ، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ ، ثم قال : » ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] . وأمَّا قولُه :
816 - إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ ... فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ
[ فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء ] .
وأصل « مَيِّتة » : مَيْوِتَة ، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها ، وقال الكوفيون : أصلُه : مَوِيت ، ووزنُه فَعيل .
واللحمُ معروفٌ ، وجمعه لُحوم ولُحْمان ، يُقال : لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم ، أي : غَلُظَ ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم : اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ ، أي : أَطعَمَهم اللحمَ ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ .

والخنزير حيوانٌ معروفٌ ، وفي نونِه قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب . والثاني : أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي : ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر . وقيل : الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ ، يقال : هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ .
قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ } « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، ومَحَلُّهما : إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على « الميِّتة » ، والرفعُ : إمَّا على خبر إنَّ ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ . و « أُهِلَّ » مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في « به » ، والضميرُ يعودُ على « ما » ، والباءُ بمعنى « في » . ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : في ذَبْحِه ، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ . والإِهلالُ : مصدرُ أَهَلَّ أي : صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه : الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه ، واستهَلَّ الصبيُّ . قال ابن أحمر :
817 يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها ... كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ
قال النابغة :
818 أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها ... بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ
وقال :
819 تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ ... وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ
قوله : { فَمَنِ اضطر } في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، فعلى الأولِ يكونُ « اضطُرَّ » في محلِّ جَزْم بها .
وقوله : { فلا إِثْمَ } جوابُ الشرطِ ، والفاءُ فيه لازمةٌ . وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه : « اضطُّرَّ » من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً ، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ . ومحلُّ { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني .
والجمهورُ على « اضْطُرَّ » بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها ، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل : « اضْطُرِرَ » بكسرِ الراءِ الأولى ، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها . وقرأ ابن محيصن : « اطُّرَّ » بإدغام الضادِ في الطاء . وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار } [ البقرة : 126 ] .
وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون « مَنْ » على أصلِ التقاءِ الساكنين ، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث . وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين ، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو : { وَلَقَدِ استهزىء } [ الأنعام : 10 ] { قُلِ ادعوا } [ الإسراء : 110 ] قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ . إلاَّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في { أو } [ المزمل : 3 ] و { قل } [ 110 : الإسراء ] فضمَّهما ، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو : { مَحْظُوراً انظر } [ 20-21 : الإسراء ] ، واختُلف عنه في : { بِرَحْمَةٍ ادخلوا } [ الأعراف : 49 ] ، واختُلف عنه في : { خَبِيثَةٍ اجتثت } [ إبراهيم : 26 ] ، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى .
قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } نصبٌ على الحالِ ، واختُلِفَ في صاحبها ، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في « اضطُرَّ » ، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه : « اضطُرَّ » ، قالا : تقديرُه : فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ ، كأنهما قصدا بذلك أن يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ .

قال الشيخ « ولا يتعيَّن ما قالاه ، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه : { غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ } بل هو الظاهرُ والأَولى ، لأنَّ في تقديره قبل » غيرَ باغ « فصلاً بين ما ظاهرُه الاتصالُ بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : » غيرَ باغ « .
و » عادٍ « اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه ، والأصلُ : عادِوٌ ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو . وهذا هو الصحيحُ ، وفيه قولٌ ثانٍ : أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ : عادِو ، فأُعِلَّ بما تقدَّم ، ووزنُه : فالِع ، كقولهم : شاكٍ في شائِك من الشوكة ، وهارٍ والأصل هائر ، لأنه من هار يَهُور ، قال أبو البقاء : » ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ « غير » جاز « يعني فكان يقال : ولا عادياً .
وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو : { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، وبابِِِِه فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما ، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم . وضابطُ محلِّ اختلافهم : كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً ، نحو : » فَمَنِ اضطُرَّ « { فَمَنِ اضطُرَّ } { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } [ المزمل : 3 ] { وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ } [ يوسف : 31 ] { قُلِ ادعوا الله } [ الإسراء : 110 ] { أَنِ اعبدوا } [ المائدة : 117 ] { وَلَقَدِ استهزىء } [ الأنعام : 10 ] » محظوراً انظر « : وفُهِم من قولي » كلمتين « الاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو : { إِنِ الحكم } [ الأنعام : 57 ] فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً؛ إلا أنه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي أل المعرفة . ومِنْ قولي : » ضمةً لازمةً « الاحترازُ من نحو : { أَنِ امشوا } [ ص : 26 ] فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع .
واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما : وهما : » قُل ادْعُوا « » أو انْقُصْ منه « ، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو : » محظوراً نظر « ، واختلف عنه في لفظتين : { خَبِيثَةٍ اجتثت } [ إبراهيم : 26 ] { بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة } [ الأعراف : 49 ] / والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

قوله تعالى : { مِنَ الكتاب } : في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه العائدُ على الموصولِ ، تقديرُه : أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ ، فالعاملُ فيه « أَنْزَلَ » ، والثاني : أنه الموصولُ نفسه ، فالعاملُ في الحالِ « يكتمون » .
قوله : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } الضميرُ في « به » يُحْتَمَلُ أن يعودَ على « ما » الموصولةِ ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه : « يكتمون » وأَنْ يعودَ على الكتابِ ، أظهرها أوَّلُها ، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ ، أي : يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل .
قوله : { إِلاَّ النار } استثناءٌ مفرغٌ؛ لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه ، وهذا من مجاز الكلام ، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم : « أكل فلانٌ الدمَ » يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ ، قال :
820 فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً ... لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ ... رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما
وقال :
821 أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ ... بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال :
822 يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : ثمن إكاف .
وقوله : { فِي بُطُونِهِمْ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أَنْ يتعلَّقَ بقولِه : « يأكلون » فهو ظرفٌ له . قال أبو البقاء : « وفيه حَذْفُ مضافٍ أي طريق بطونهم ، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النارِ . قال أبو البقاء : » والأجْوَدُ أن تكونَ الحالُ هنا مقدرةً لأنها وقتَ الأكلِ ليسَتْ في بطونِهم ، وإنما تَؤُولُ إلى ذلك ، والتقدير ، ثابتةً أو كائنةً في بطونهم قال : « وَيَلْزَمُ من هذا تقديمُ الحالِ على حرف الاستثناءِ وهو ضعيفٌ ، إلا أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً ، و » في بطونِهم « حالاً من أو صفةً له ، أي : في بطونهم شيئاً يعني فيكونُ » إلا النار « منصوباً على الاستثناءِ التام ، لأنه مستثنى من ذلك المحذوفِ . إلا أنه قال بعد ذلك » وهذا الكلامُ في المعنى على المجازِ ، وللإِعرابِ حكمُ اللفظ . والثالثُ : أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول « كُلوا » محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

قوله تعالى : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ } : في « ما » هذه خمسةُ أقوالٍ ، أحدها : - وهو قولُ سيبويه والجمهور - أنها نكرةٌ تامةٌ غيرُ موصولةٍ ولا موصوفةٍ ، وأنَّ معناها التعجب ، فإذا قلت : ما أحسنَ زيداً ، فمعناه : شيءٌ صَيَّر زيداً حسناً . والثاني : - وإليه ذهب الفراء - أنَّها استفهاميةٌ صَحِبها معنى التعجب ، نحو : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . والثالث : - ويُعْزَى للأخفش - أنها موصولةٌ . والرابعُ : - ويُعْزَى له أيضاً - أنها نكرةٌ موصوفةٌ . وهي على الأقوالِ الأربعةِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، وخبرُها على القولين الأوَّلين الجملةُ الفعليةُ بعدها ، وعلى قولَيْ الأخفش يكون الخبرُ محذوفاً ، فإنَّ الجملةَ بعدها إمَّا صلةٌ أو صفةٌ . وكذلك اختلفوا في « أَفْعل » الواقع بعدَها أهو اسمٌ - وهو قولُ الكوفيين - أم فعلٌ؟ وهو الصحيحُ . ويترتبُ على هذا الخلافِ خلافٌ في نَصْبِ الاسمِ بعدَه : هل هو مفعولٌ به أو مُشَبَّهٌ بالمفعولِ به . ولهذا المذاهبِ دلائلُ واعتراضاتُ وأجوبةٌ ليس هذا موضوعَها .
والمرادُ بالتعجبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها ، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى . ومعنى « على النار » [ أي ] على عَمَل أهلِ النارِ ، وهذا من مجازِ الكلام .
الخامس : أنَّها نافيةٌ ، أي : فما أصبرَهم اللهُ على النار ، نقله أبو البقاء وليس بشيءٍ .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله } : اختلفوا في محلِّ « ذلك من الإِعراب . فقيل : رفعٌ ، وقيل : نصبٌ . والقائلون بأنه رفعٌ اختلفوا على ثلاثةِ أقوال ، أحدُهما : أنه فاعلٌ بفعل محذوفٍ ، أي : وَجَبَ لهم ذلك . والثاني : أنَّ » ذلك « مبتدأٌ ، و » بأنَّ الله « خبرُه ، أي : ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أَنْزَل اللهُ في القرآنِ من استحقاقِ عذابِ الكافر . والثالث : أنه خبرُ والمبتدأ محذوفٌ ، أي الأمرُ ذلك ، والإِشارةُ إلى العذابِ ، ومَنْ قاله بأنه نصبٌ قدَّره . فَعَلْنا ذلك ، والباءُ متعلقةٌ بذلك المحذوفِ ومعناها السببيةٌ .

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله } : قرأ الجمهور برفع « البر » ، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه . فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ « ليس » ، و « أن تُوَلُّوا » خبرها في تأويلِ مصدرٍ ، أي : ليس البرُّ توليتكم . ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه . وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و « أن تُوَلُّوا » اسمها في تأويلِ مصدرٍ . ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام ، لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به ، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ . وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال : لأنها تُشْبه « ما » الحجازية ، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر :
823 سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم ... وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
وقال آخر :
824 أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله : « بأن تُوَلُّوا » بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ « ليس » كثيراً .
وقوله : { قِبَلَ } منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله « تُوَلُّوا » ، وحقيقةُ قولك : « زيدٌ قِبَلك » : أي في المكانِ الذي قبلك فيه ، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى « عند » نحو : « قِبَل زيدٍ دَيْنٌ » أي : عندَه دَيْنٌ .
قوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ « البِرَّ » اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ ، والأصلُ : بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة « فَطِن » ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها ، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان ، كأنه قيل : ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن . الثاني : أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه : « ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن » . الثالث : أن يكونَ الحذفُ من الثاني ، أي : ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن ، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه ، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى ، ونظيرُ ذلك : « ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف » ولا يناسِبُ « ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف » . الرابع : أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو : « رجلٌ عَدْلٌ » . ويُحكى عن المبردِ : « لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ : » ولكنَّ البَرَّ « بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن » البَرَّ « اسم فاعل تقول : بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل .

الخامس : أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو : « رجل عَدْل » أي عادل ، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو : « أقائماً وقد قعد الناس » في قولٍ ، وهذا رأيُ الكوفيين .
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل ، وأن أصلَه بارٌّ ، فجُعل « بِرَّاً » ك « سِرّ » ، وأصلُه : سارٌّ ، وربٌّ أصله رابٌّ . وقد تقدَّم ذلك .
وجَعَلَ الفراء « مَنْ آمَنَ » واقعاً موقِعَ « الإِيمان » فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه ، كأنه قال : « ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله » . قال : « والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد :
825 لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ ، والمعنى : لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى .
وقرأ نافع وابن عامر : » ولكنْ البِرُّ « هنا وفيما بعد بتخفيف لكن ، وبرفع » البرُّ « ، والباقون بالتشديد ولنصب ، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } [ البقرة : 102 ] ، وقرىء : » ولكنَّ البارَّ « بالألف وهي تقوِّي أنَّ » البِرَّ « بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ .
وَوَحَّد » الكتابَ « لفظاً والمرادُ به الجمعُ ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ ، أو أرادَ به الجنسَ ، أو أراد به القرآنَ ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ .
قوله : { على حُبِّهِ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، العاملُ في » آتى « ، أي : آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه . والحبُّ مصدرٌ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم ، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد ، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ . أظهرُها : أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه . الثاني : أنه يعودُ على الإِيتاء المفهومِ من قوله : » آتى « أي : على حُبِّ الإِيتاء ، وهذا بعيدٌ من حيث المعنى . أمّا من حيث اللفظُ . فإنَّ عَوْدَ الضميِر على غيرِ مذكورٍ بل مدلولٌ عليه بشيءٍ خلافُ الأصل . وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يَحْسُنُ على فعل شيء يحبه الإِنسان لأنَّ هواه يساعده على ذلك وقال زهير :
826 تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً ... كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ
والثالث : أن يعودَ على الله تعالى ، وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون المصدرُ مضافاً للمفعولِ ، وعلى هذا فالظاهِرُ أَنَّ فاعلَ هذا المصدرِ هو ضميرُ/ المُؤتي . وقيل : هو ضمير المؤتَوْن . أي : حُبِّهم له واحتياجِهِم إليه ، وليس بذاك .

و « ذي القربى » على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط ، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه . الرابع : أن يعودَ على « مَنْ آمن » ، وهو المُؤْتِي للمال ، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً ، أي : « حُبِّه المال » ، وأن يكونَ « ذوي القربى » ، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله .
قال ابن عطية : « ويجيء قولُه : » على حُبِّه « اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ » . قال الشيخ : « فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد ، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها ، وهذا مفردٌ وله محلٌّ ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين ، وهما » المال « و » ذوي « فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ » .
قوله : { ذَوِي } فيه وجهان ، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى ، وهل هو الأولُ و « المالَ » هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام ، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني : أنه منصوبٌ ب « حُبِّه » على أنَّ الضميرَ يعودُ على « مَنْ آمن » كما تقدَّم .
قوله : { واليتامى } ظاهرُهُ أنه منصوبٌ عطفاً على « ذوي » . وقال بعضُهم : « هو عطفٌ على » القُرْبى « ، أي : آتى ذوي اليتامى ، أي : أولياءَهم ، لأن الإِيتاءَ إلى اليتامى لا يَصِحُّ » ولا حاجةَ إلى هذا فإن الإِيتاء يَصْدُق وإن لم يباشر مَنْ يؤتيه بالإِيتاء ، يقال : « أتيتُ السلطانُ الخراجَ » وإنما أعطيتُ أعوانَهُ .
و « ابن السبيل » اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [ به ] الجمعُ ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ .
قوله : { وَفِي الرقاب } متعلِّقٌ بآتى . وفيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ ضَمَّنَ « آتى » معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ ، كأنه قال : وَضَع المالَ في الرقاب . والثاني : أن يكونَ مفعولُ « آتى » الثاني محذوفاً ، أي : آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها ، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون . وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها .
قوله : { وَأَقَامَ الصلاة } عَطْفٌ على صلةِ « مَنْ » وهي : آمن وآتى ، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَجِلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان ، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم .
قوله : { والموفون } في رفعه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على « مَنْ آمن » ، أي : ولكنَّ البِرَّ المؤمنون والموفون . والثاني : أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : هم المُوفون . وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ « الصابرين » على المدحِ بإضمارِ فعلٍ ، وهو في المعنى عَطْفٌ على « مَنْ آمن » ، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ .

قال الفارسي : « وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً ، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ .
فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على » ذوي القربى « أي : وآتى المالَ الصابرين؟ قيل : لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون . والثالث : أن يكونَ » الموفون « عطفاً على الضمير المستتر في » آمَنَ « ، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك . وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في » الصابرين « وجهان ، أحدُهما : النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم ، والثاني : العطفُ على » ذوي القربى « ، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي ، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها .
وقوله : { إِذَا عَاهَدُواْ } » إذا « منصوبٌ بالموفُون ، أي : الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ .
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ : » والصابرون « ، وحكى الزمخشري قراءَة : » والموفين « و » الصابرين « .
قال الراغب : وإنما لم يَقُلْ : » وأوفى « كما قال » وأقام « لأمرين ، أحدُهما : اللفظُ ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ . والثاني : أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلاَّ منها ، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر ، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمَّا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد » وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ .
و « حين البأسِ » منصوبٌ بالصابرين ، أي : الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ .
والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان ، أحدُهما : - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ ، وألفُهما للتأنيث ، والثاني : أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف . والبؤس والبأساء : الفقر ، يقال : بَئِس يَبْأَس إذا افتقر . قال الشاعر :
827 ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً ... يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
وأما البأسُ فشدةُ القتالِ خاصةً ، بَؤُسَ الرجلُ أي : شَجُع .
قوله : { أولئك الذين صَدَقُوا } مبتدأٌ وخبرٌ ، وأتى بخبر « أولئك » الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به ، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم ، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

قوله تعالى : { القصاص فِي القتلى } : أي : بسببِ القتلى ، و « في » تكون للسببية كقوله عليه السلام : « إنَّ امرأة دخلت النارَ في هرة » أي : بسببها . و « فَعْلَى » يَطَّرد أن يكون جمعاً لفَعِيل بمعنى مفعول وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قولِه : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى } [ البقرة : 85 ] .
قوله : { الحر بِالْحُرِّ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والتقديرُ : الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ ، أو مقتولٌ بالحُرِّ ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه ، فإن الباءَ فيه للسبب ، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً ، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت : الحُرَّ كائنٌ بالحر ، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً ، أي : قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر . وأجاز الشيخ أن يكونَ « الحُرُّ » مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر ، يَدُلُّ عليه قولُه : { القصاص فِي القتلى } فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر ، وفيه بَعْدٌ .
والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً ، نحو : قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً ، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه ، لأنه اتباعُ دمِ المقتول .
والحُرُّ وصفٌ ، و « فُعْل » الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس ، قالوا : حُرّ وأحرار ، ومُرّ وأمرار ، والمؤنثة حُرَّة ، وجمعها على « حرائِر » محفوظُ أيضاً ، يقال : حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً .
قوله : { فَمَنْ عُفِيَ } يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً . وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء . وعلى الأول يكونُ « عُفِي » في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه : « فاتِّباع » على الأول ، ومحلُّها وما بعدها الجزمُ ، وجائزةٌ في الثاني ، ومحلُّها وما بعدَها الرفعُ على الخبر . والظاهرُ أنَّ « مَنْ » هو القاتلُ ، والضميرُ في « له » و « أخيه » عائدٌ على « مَنْ و » شيءٌ « هو القائمُ مقامَ الفاعلِ ، والمرادُ به المصدرُ ، وبُني » عُفِي « للمفعولِ وإن كان قاصراً ، لأنَّ القاصِرَ يتعدَّى للمصدرِ كقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ المؤمنون : 101 ] . والأخ هو المقتولُ أو وليُّ الدمِ ، وسَمَّاه أخاً للقاتل استعطافاً له عليه ، وهذا المصدرُ القائمُ مقامَ الفاعلِ المرادُ به الدمُ المعفوُّ عنه . وعَفَا يتعدَّى إلى الجاني وإلى الجنايةِ ب » عن « ، تقول : عَفَوْتُ عن زيد ، وعَفَوْتُ عن ذنبِ زيدٍ ، فإذا عُدِّي إليهما معاً تعدَّى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعَنْ ، تقول : عَفَوْتُ لزيدٍ عن ذنبِهِ ، والآيةُ من هذا الباب/ أي : فَمَنْ عُفِيَ له عن جِنايَتِهِ . وقيل » مِنْ « هو وليُّ الدمِ . أي : مَنْ جُعِلَ له من دمِ أخيه بَدَلُ الدمِ وهو القصاصُ أو الدِّيةُ والمرادُ ب » شيء « حينئذٍ ذلك المستحِقُّ ، والمرادُ بالأخِ المقتولُ ، ويُحتمل أَنْ يُرَاد به على هذا القولِ أيضاً القاتلُ ، ويُراد بالشيء الديةُ و » عُفِي « بمعنى يُسِّر على هذين القَولين ، وقيل : بمعنى تُرِكَ .

وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر « عُفِيَ » بمعنى « تُرِكَ » قال : فإنْ قلت : هَلاَّ فَسَّرْت « عُفي » بمعنى « تُركَ » حتى يكونَ « شيء » في معنى المفعول به . قلت : لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ ، ولكن « أعفاه » ومنه : « وَأَعْفوا اللَّحى » فإنْ قلت : قد ثَبَتَ قولُهم : عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله ، فَهَلاَّ جَعَلْتَ معناه : فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ . قلت : عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها ، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها ، وترى كثيراً مِمَّن يتعاطى هذا العلمَ يَجْتَرِىءُ إذا أُعْضِلَ عليه تخريجُ وجهٍ للمُشْكلِ مِنْ كَلامِ الله على اختراعِ لغةٍ وادِّعاءٍ على العربِ ما لم تَعْرفه ، وهذه جرأةٌ يُستعاذُ باللَّهِ منها .
قال الشيخ : « إذا ثَبَتَ أنَّ » عَفَا « بمعنى مَحا فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ » عَفَا « لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به ، فقد يتعادَلُ الوجهان : أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و » عفا « المتعدِّي بمعنى » مَحَا « لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً » فإن قيل : تُضَمِّنُ « عَفَا » معنى « تَرك » فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس ، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ . وقيل : إن « عُفِيَ » بمعنى فَضِلَ ، والمعنى : فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات ، مِنْ قَوْلِهِم : عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ . وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها .
قوله : { فاتباع بالمعروف } في رَفْع « اتباع » ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية : فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ ، وَقَدَّره الزمخشري : فالأمرُ اتِّباع . قال ابنُ عطية : « وهذا سبيلُ الواجباتِ ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] . قال الشيخ » ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أثبَتُ وأكدُ ، فيمكنُ أن يكونَ مستندُ ابنِ عطية هذا ، كما قالوا في قوله : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] .
الثاني : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : فليكن اتِّباعُ . قال الشيخ : « هو ضعيفٌ إذ » كان « لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد » إنْ « - الشرطية و » لو « لدليلٍ يَدُلُّ عليه » .
الثالث : أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر ، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه ، أي : فعليه اتِّباع ، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه ، أي : فاتِّباع بالمعروفِ عليه .

قوله : { بالمعروف } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ . الثاني : أن يكونَ وصْفاً لقوله « اتِّباع » فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ . الثالث : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ : فعليه اتِّباعُه عادلاً ، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار .
قوله : { وَأَدَآءٌ } في رفعِهِ أربعة أوجهٍ ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه « فاتِّباعٌ » لأنه معطوفٌ عليه . والرابعُ : أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه ، وهو « بإحسان » وهو بعيدٌ . و « إليه » في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ « بأداء » ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : وأداءٌ كائنٌ إليه .
و « بإحسانٍ » فيه أربعةُ أوجه : الثلاثةُ المقولةُ في « بالمعروف » ، والرابعُ : أن يكونَ خبرَ « الأداء » كما تقدَّم في الوجهِ الرابع مِنْ رفعِ « أداء » . والهاءُ في « إليه » تعودُ إلى العافي وإنْ لَمْ يَجْرِ له ذِكْرٌ ، لأنَّ « عَفَا » يَسْتَلْزِمُ عافياً ، فهو من بابِ تفسيرِ الضميرِ بمصاحبٍ بوجهٍ ما ، ومنه : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } أي الشمس ، لأنَّ في ذِكْرِ « العشيّ » دلالةً عليها ، ومثله :
828 فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما ... دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ
لكالرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى ... وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ
فالضميرُ في « فوقهُنَّ » للإِبل ، لدلالةِ لفظِ « الحادي » عليها لأنها تُصاحِبُه بوجهٍ ما .
قوله : { ذلك تَخْفِيفٌ } الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و « من ربكم » في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و « رَحمة » صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي : ورحمةٌ من ربكم .
وقوله : { فَمَنِ اعتدى } يجوز في « مَنْ » الوجهان الجائزان في قولِهِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } من كونِها شرطية وموصولةً ، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا .
قوله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } يجوزُ أنْ يَكُونَ « لكم » الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه « لكم » ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من « حياةٌ » ، لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، ويجوزُ أن يكونَ « في القصاص » هو الخبرَ ، و « لكم » متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } [ البقرة : 36 ] ، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا .
وقرأ أبو الجوزاء « في القَصَص » والمرادُ به القرآنُ . قال ابن عطية : « ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص ، أي إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل » .
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي : تَتَبَّع ، وهذا أصلُ المادة ، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد ، ومنه « القصيص » لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ ، ومنه الحديث :

« نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ » أي تَجْصيصِها .
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب : « القتلُ أَوْفَى للقتل » ويُرْوى أَنْفَى للقتل ، ويُرْوَى : أَكفُّ للقتَل . وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه ، منها : أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ . ومنها : أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ « أَنْفَى » و أَوْفَى « و » أكفُّ « أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه ، أي : أنفى للقتل مِنْ ترك القتل . ومنها : أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف . والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس . ومنها : أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه . ومنها : أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] قوله : { ياأولي الألباب } منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ . واعلم أن » أولي « اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو » ذو « من غير لفظِه . ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها ، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه . وقد تقدَّم في قولِه : { ذَوِي القربى } [ البقرة : 177 ] ويقابِلُه في المؤنث : أُولات : وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا : لِيُفَرِّقوا بين » أُولي كذا « في النصبِ والجر وبين » إلى « التي هي حرفُ جر ، ثم حُمِل باقي الباب عليه ، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين » أولئك « اسمَ إشارةٍ و » إليك « جاراً ومجروراً وقد تقدَّم . وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت : جاء أُلون ورأيت إلين ، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ : ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ .
والألبابُ جمعُ » لُبٍّ « وهو العقلُ الخالي من الهَوي ، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين : إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به ، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ ، يقال : لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها ، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين ، وذلك في ألفاظ محصورة نحو : عَزُزْتُ/ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ ، فهذه بالضمِّ وبالفتح ، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ } : « كُتِبَ » مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به - وهو اللهُ تعالى - وللاختصار . وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ « الوصيةُ » أي : كُتِب عليكم الوصيةُ ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين ، أحدُهُما : كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً ، والثاني : الفصلُ بينه وبين مرفوعه . والثاني : أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله : { الوصية لِلْوَالِدَيْنِ } أي : كُتِب هو أي : الإِيصاء .
والثالث : أنه الجارُّ والمجرورُ ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين . و « عليكم » في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين .
قوله : { إِذَا حَضَرَ } العاملُ في « إذا » « كُتِب » على أنها ظرفٌ محضٌ ، وليس متضمناً للشرطِ ، كأنه قيل : كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ « الوصية » لأنها مصدرٌ ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ إلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه ، وهو أبو الحسن ، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك ، فيكون التقديرُ : كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت .
وقال ابن عطية : « ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ » كُتِب « هو العامل في » إذا « ، والمعنى : توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب ، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل ، و » الوصيةُ « مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب . وجوابُ الشرطَيْنِ » إنْ « و » إذا « مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب » . قال الشيخ : « وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في » إذا « كُتِبَ ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ » إذا « ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ ، وهذا يناقِضُ قوله : » وجوابُ « إذا » و « إنْ » محذوفٌ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِيُّ ، و « كُتِب » ليس أحدَهما ، فإنْ قيل : قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ « كُتب » هو الجوابَ ، ولكنه تقدَّم ، وهو عاملٌ في « إذا » فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ . فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب ، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ « .
ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ في » إذا « الإِيصاء المفهوم من لفظ » الوصية « وهو القائمُ مقامَ الفاعلِ في » كُتِب « كما تقدَّم . قال ابنُ عطيةَ في هذا الوجهِ : » ويكونُ هذا الإِيصاءُ المقدَّرُ الذي يَدُلُّ عليه ذِكْرُ الوصية بعدُ هو العاملَ في « إذا » وترتفع « الوصيةُ » ، بالابتداء ، وفيه جوابُ الشرطين على [ نحو ] ما أنشده سيبويه :

829 مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكون رفعُها بالابتداءِ ، أي : فعليه الوصيةُ بتقديرِ الفاءِ فقط ، كأنه قال فالوصيةُ للوالدَيْنِ « . وناقشه الشيخ من وجوهٍ ، أحدُها : أنه متناقضٌ من حيث إنه إذا جَعَلَ » إذا « معمولةً للإِيصاء المقدَّر تمحَّضَتْ للظرفية فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ كما تقدَّم تحريرُه؟ والثاني : أنَّ هذا الإِيصاء : إمَّا أَنْ تُقَدِّرَ لَفظَه محذوفاً أو تُضْمِرَه ، وعلى كِلا التقديرين فلا يَعْمَلُ لأنَّ المصدرَ شَرْطُ إعماله ألاَّ يُحْذَفَ ولا يُضْمَرَ عند البصريين ، وأيضاً فهو قائمٌ مقامَ الفاعلِ فلا يُحْذَفُ . الثالث : قولُه » جوابُ الشرطين « والشيءُ الواحدُ لا يكونُ جواباً لاثنين ، بل جوابُ كلِّ واحد مستقلٌ بِقَدْرِه . الرابعُ : جَعْلُه حَذْفَ الفاءِ جائزاً في القرآن ، وهذا نصُّ سيبويه على أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً وأنشد :
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها ... والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
وإنشادُه » مَنْ يَفْعَلِ الصالحات اللهُ يحفظه « يجوزُ أن يكونَ روايةً ، إلا أنَّ سيبويهِ لم يُنْشِدْه كذا بل كما تقدَّم والمبرد رُوي عنه أَّنه لا يُجِيزُ حَذْفَ الفاءِ مطلقاً ، لا في ضرورة ولا غيرها ، ويَرْوِيه : » مَنْ يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكُره « ، وردَّ الناسُ عليه بأنَّ هذه لَيسَتْ حجةً على روايةِ سيبويه .
ويجوزُ أَنْ تكونَ » إذا « شرطيةً ، فيكونَ جوابُها وجوابُ » إنْ « محذوفَيْن . وتحقيقُه : أنَّ جواب » إنْ « مقدَّرٌ ، تقديرُه : » كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص « ، فقولُه » فَلْيُوصِ « جوابٌ لإِنْ ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه ، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ » إذا « فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله . وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول : إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول ، وحُذف جوابُ الثاني ، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى » كُتِبَ « ماضي المعنى ، إلاَّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى : يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً .
قوله : » الوصيةُ « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، [ أحدها : ] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه » للوالدَيْن « . والثاني : أنه مفعولُ » كُتِب « وقد تقدَّم . الثالث : أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي : فعليه الوصيةُ ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه .
قوله : { الوصية } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، [ أحدها : ] أن يكون مبتدأً وخبرُه » للوالدَيْن « . والثاني : أنه مفعولُ » كُتِب « وقد تقدَّم . الثالث : أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي : فعليه الوصيةُ ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه .
قوله : » بالمعروف « يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بنفسِ » الوصية « ، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية ، أي : حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر .

قوله : { حقاً } في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، وذلك المصدرُ المحذوفُ : إمَّا مصدرُ « كُتِب » أو مصدرُ « أَوْصى » أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً . الثاني : أنه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف : [ إِمَّا ] مصدرُ « كُتِب » أو « أَوْصَى » كما تقدَّم . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكد لمضمونِ الجملة ، فيكونُ عاملُه محذوفاً ، أي : حَقَّ ذلك حقاً ، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء . وقال الشيخ : « وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية ، لأنَّ ظاهرَ قولِه : » على المتقين « أن يتعلَّق ب » حقاً « أو يكونَ في موضعِ الصفة له ، وكِلا التقديرين لا يجوزُ . أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وأمَّا الثاني فلأن [ الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد ] ، وهذا لاَ يَلْزَمُهم فإنهم والحالةُ هذه لا يقولونُ إنَّ » على المتقين « متعلِّقٌ به . وقد نَصَّ على ذلك أبو البقاء فإنه قال : / » وقيل هو متعلقٌ بنفسِ المصدرِ وهو ضعيفٌ ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وإنما يَعْمَلُ المصدرُ المنتصِبُ بالفعلِ المحذوفِ إذ نابَ عنه كقولِك : ضرباً زيداً ، أي : اضرِبْ « إلا أنه جَعَله صفَةً لحقّ ، فهذا يَرِدُ عليه .
وقال بعضُ المُعْرِبين : » إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى « المتقين » كأنه قيل : على المتقين حقاً ، كقوله : { أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] . وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن .
قال الشيخ : « والأَوْلى عندي أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى » كُتب « لأنَّ معنى » كَتَبَ الوصيةَ « أي : حَقَّتْ وَوَجَبَتْ ، فهو مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر نحو : قَعَدْتُ جلوساً .

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

قوله تعالى : { فَمَن بَدَّلَهُ } : « مَنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وموصولةً ، والفاءُ : إمّا واجبةٌ إن كانَتْ شرطاً ، وإمّا جائزٌ إنْ كانت موصولةً ، بلفظِ المؤنَّثِ لأنَّها في معنى المذكَّر ، وهو الإِيصاءُ . أو تعود على نفس الإِيصاء المدلولِ عليه بالوصِيَّة ، إلاَّ أنَّ اعتبارَ التذكير في المؤنثِ قليلٌ وإن كان مجازياً ، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك : هند خرجَتْ والشمسُ طلَعَتْ ، ولا يجوزُ : الشمسُ طَلَع ، كما لا يَجُوزُ : « هند خرج » إلاَّ في ضرورةٍ . وقيل : تعودُ على الأمرِ والفَرْضِ الذي أَمَرَ به اللهُ وفَرَضه . وكذلك الضميرُ في « سَمِعَه » والضميرُ في « إثمُه » يعودُ على الإِيصاء المُبَدَّلِ ، أو التبديلِ المفهوم من قولِه : « بَدَّله » .
وقد راعى المعنى في قوله : { عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ } إذ لو جَرَى على نَسَق اللفظِ الأولِ لقالَ : « فإنَّما إثمُه عليه - أو على الذي يُبَدِّله » .
وقيل : الضميرُ في « بَدَّله » يعودُ على الكَتْبِ أو الحقِّ أو المعروفِ . فهذه ستةُ أقوالٍ .
و « ما » في قولِه : { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : بعد : سماعِه ، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي . فالهاءُ في « سَمِعَه » على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في « بَدَّله » ، وعلى الثاني تعودُ على الموصولِ ، أي بعد الذي سَمِعَه من أوامرِ الله .

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ } : يجوزُ فيها الوجهان الجائزان في « مَنْ » قبلَها . والفاءُ في « فلا إثم » هي جوابُ الشرطِ أو الداخلةُ في الخبر . و « مِنْ موصٍ » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ متعلقةً بخاف على انها لابتداءِ الغاية . الثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « جَنَفَاً » ، قُدِّمَتْ عليه ، لأنها كانَتْ في الأصل صفةً له ، فلمَّا تَقَدَّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . ونظيره : « أخَذْتُ من زيد مالاً » إن شِئت عَلَّقْتُ « مِنْ زيد » ب « أَخَذْتُ » ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من « مالاً » لأنه صفته في الأصلِ ، الثالث : أن تكونَ لبيان جنسِ الجانفين : وتتعلَّقُ أيضاً بخاف . فعلى القولين الأولين لا يكونَ الجانِفُ من الموصِين بل غيرُهم ، وعلى الثالث يكونُ من الموصين .
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي : « مُوَصٍّ » بتشديدِ الصادِ والباقون بتخفيفها . وهما من أوصى ووصَّى ، وقد تقدَّم أنهما لغتان ، إلاَّ أن حمزةَ والكسائي وأبا بكر هم من جملةِ الذين يَقْرؤون { ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ } [ البقرة : 132 ] مضعَّفاً ، وأنَّ نافعاً وابن عامر يقرآن : « أوصى » بالهمزة ، فلو لم تكن القراءةُ سُنَّةً متبعةً لا تجوزُ بالرأي لكان قياسُ قراءةِ ابن كثير وأبي عمرو وحفص هناك « ووصَّى » بالتضعيف أن يقرآ هنا « مُوَصٍّ » بالتضعيف ، وأما نافعٌ وابنُ عامر فإنهما قرآ هنا « مُوصٍ » مخففاً على قياس قراءتهما هناك و « أَوْصَى » على أَفْعَل . وكذلك حمزة والكسائي وأبو بكر قرؤوا : « ووصَّى » هناك بالتضعيف فقرؤوا هنا « مُوَصٍّ » بالتضعيفِ على القياس .
والخَوْفُ هنا بمعنى الخَشْيَة وهو الأصلُ ، وقيل : بمعنى العِلْم وهو مجازٌ ، والعلاقةُ بينهما هو أنَّ الإِنسَان لا يَخافُ شيئاً حتى يَعْلَم أنه مِمَّا يُخاف منه فهو من باب التعبير عن السبب بِالمُسَبِّبِ . ومِنْ مجيء الخوف بمعنى العِلْم قولُه تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] ، وقولُ أبي مِحْجن الثقفي :
830 إذا مُتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبٍ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عظامي في المَمات عروقُها
ولا تَدْفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني ... أخَافُ إذا ما مُتُّ ألاَّ أذوقُها
والجَنَفُ لأهلِ اللغةِ فيه قولان أحدُهما : المَيْلُ ، قال الأعشى :
831 تَجانَفُ عن حُجْرِ اليمَامةِ ناقتي ... وما قَصَدَتْ من أهلِها لِسِوائكا
وقال آخر :
832 هُمُ المَوْلى وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا ... وإنَّا مِنْ لقائِهِمْ لَزُورُ
وقيل : هو الجَوْرُ . قال :
833 إني امرؤٌ منعَتْ أَرومةُ عامرٍ ... ضَيْمي وقد جَنَفَتْ عليَّ خُصومُ
يقال : جَنِفَ بكسر النون يَجْنَفُ بفتحها فهو جَنِفٌ وجانِفٌ ، وأَجْنَفَ جاء بالجَنَفِ كَألاَم جاء بما يُلام عليه .
والضميرُ في « بينهم » عائد على الموصي والورثةِ ، أو على الموصَى لهم ، أو على الورثةِ والمُوصى لهم . والظاهرُ عودُه على المَوصى لهم ، إذ يدلُّ على ذلك لفظُ « المُوصى » . وهو نظيرُ { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ } [ البقرة : 178 ] [ في ] أن الضمير يعودُ للعافي لاستلزام « عفا » له ، ومثلُه ما أنشد الفراء :
834 - وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يَليِني
فالضمير في « أيُّهما » يعودُ على الخيرِ والشرِّ ، وإنْ لم يَجْرِ ذِكْرُ الشِّر لدلالةِ ضِدِّه عيله ، والضميرُ في « عليه » وفي « خاف » وفي « أصلح » يعود على « مَنْ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } : « الصيامُ » مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي .
والصيام : مصدرُ صام يصوم صوماً ، والأصلُ : صِواماً ، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً ، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا : غار غُووراً ، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/ ، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال : الغُؤُور . والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً ، ومنه : صامَتِ الريحُ : أمسكَتْ عن الهبوبِ ، والفرسُ : أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ ، [ وقال ] :
835 خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما
وقال تعالى : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } [ مريم : 26 ] أي : سكوتاً لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } . وصامَ النهارُ أي : اشتدَّ حَرَّه ، قال :
836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ ... ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ
كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ . ومَصَامُ النجومِ : إمساكُها عن السيرِ ، قال امرؤ القيس :
837 كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها ... بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
قوله : { كَمَا كُتِبَ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي : كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ . الثاني : أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي : كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ . و « ما » على هذين الوجهينِ مصدريةٌ . الثالث : أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام ، أي : صوماً مثلَ ما كُتِبَ . ف « ما » على هذا الوجه بمعنى الذي ، أي : صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم . و « صوماً » هنا مصدر مؤكِّد في المعنى ، لأنَّ الصيامَ بمعنى : أنْ تصُومُوا صوماً ، قاله أبو البقاء ، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى { بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 180 ] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - « وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ ، هذا إن كانت » ما « مصدريةً ، وأمّا إن كانت موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ » .
الرابع : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « الصيام » ، وتكونُ « ما » موصولةً ، أي : مُشْبهاً الذي كُتِبَ . والعاملُ فيها « كُتِبَ » لأنه عاملٌ في صاحبِها . الخامس : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك « بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ » كأنه يعني أنَّ « أل » فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى ، قالوا : « أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض » ومنه :

838 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
[ وقولُه تعالى : ] { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه : { الذين مِن قَبْلِكُمْ } كيف وُصِلَ الموصول بهذا ، والجوابُ عنه في قولِه : { خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] .
قوله { أَيَّاماً } في نصبِه أربعةُ أوجه ، أظهرُها : أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه : صوموا أياماً ، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين : إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً .
الثاني : أنه منصوبٌ بالصيام ، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه ، ونَظَّرهُ بقولِكَ : « نَوَيْتُ الخروجَ يوم الجمعةِ » ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّه يلزُم الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ بأجنبي ، وهو قولُه : « كما كُتِبَ » لأنه ليس معمولاً للمصدرِ على أيَّ تقديرٍ قَدَّرْتَه . فإنْ قِيل : يُجْعَل « كما كُتِبَ » صفةً للصيام ، وذلك على رأي مَنْ يُجِيزِ وَصْفَ المعرَّفِ بأل الجنسيةِ بما يَجْرِي مَجْرى النكرةِ فلا يكونُ أجنبياً . قيل : يَلْزُمُ مِنْ ذَلك وصفُ المصدرِ قبل ذِكْرِ معمولِهِ ، وهو ممتنعٌ .
الثالث : أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّر الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام ، كما قد قال به بعضُهم ، وإنْ كان ضعيفاً ، فيكونُ التقديرُ : « الصيام صوماً كما كُتِبَ » فجاز أن يَعْمل في « أياماً » « الصيامُ » لأنه إذ ذاك عاملٌ في « صوماً » الذي هو موصوفٌ ب « كما كُتِبَ » فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ .
الرابع : أن ينتصِبَ بكُتب : إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً ، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء . قال الشيخ : « وكِلا القولينِ خطأٌ : أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل ، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام . وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ ، وقد تقدَّم أنه خطأ .
و » معدوداتٍ « صفةٌ ، وجَمْعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا ، وقولِه » جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ « .
قوله : { أَوْ على سَفَرٍ } في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان . و » أو « هنا للتنويع ، وعَدَلَ عن اسمِ الفاعلِ ، فلم يَقُلْ : » أو مسافراً « إشعاراً بالاستعلاءِ على السفرِ لما فيه من الاختيارِ بخلافِ المرضِ فإنه قَهْرِيٌّ .
قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } الجمهورُ على رفعِ » فَعِدَّةٌ « ، وفيه وجوهٌ أحدُها ، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ : إمَّا قبلَه تقديرُهُ : فعليه عِدَّةٌ ، أو بعدَه أي : فَعِدَّةٌ أمثلُ به . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ عِدَّةٌ .

الثالث : أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فتجزيه عِدَّةٌ . وقرىء : « فَعِدَّةً » نصباً بفعلٍ محذوف ، تقديره : فَلْيَصُمْ عِدَّةً . وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال : « ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً » . ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه : « فَصَوْمُ عدَّة » ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره : فأفْطَرَ فعدةٌ ، ونظيرُه : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي : فَضَرَبَ فانفلقَ . و « عدةٌ » بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح . ونَكَّر قوله « فَعِدَّةٌ » ولم يَقُل « فَعِدَّتُها » اتِّكالاً على المعنى . و « من أيامٍ » في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة .
قوله : { أُخَرَ } صفةٌ لأيَّامٍ . و « أُخَرُ » على ضَرْبَيْن ، ضربٍ : جَمْعُ « أخرى » تأنيثِ « آخَر » الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ . وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة ، تأنيث : « آخِر » المقابِل لأوَّل ، ومنه قولُه تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 49 ] . فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ : الوصفُ والعَدْلُ .
واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ ، فقال الجمهورُ : إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ ، وذلك أن « أُخَر » جمع أُخْرى ، وأُخْرَى تأنيث « آخَر » وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات : إمَّا مع أل وإمَّا مع « مِنْ » وإمَّا مع الإِضافة . لكنَّ « مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير ، ولا إضافة/ في اللفظِ ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ ، وهذا كما قالوا في » سَحَر « إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ إلاَّ أنَّ هذا مع العَلَمِيَّةِ . ومذهبُ سيبويه أنه عَدْلٌ من صيغةً إلى صيغة لأنه كان حقُّ الكلام في قولك : » مررت بنسوة أُخَرَ « على وزن فُعَل أن يكونَ » بنسوة آخَرَ « على وزن أَفْعَل لأنَّ المعنى على تقديرِ مِنْ ، فَعُدِلَ عن المفردِ إلى الجمع . ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ هو أليقُ به من هذا .
وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ . والفرقُ بين » أُخْرَى « التي للتفضيل و » أُخرى « التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى » غير « ومعنى تَيْكَ معنى متأخرة ، ولكونِ الأولى بمعنى » غير « لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو : » مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ « ولا يجوزُ : اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس . وأمَّا قوله :
839 صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها ... ليلى وصَلَّى على جاراتِها الأُخَرِ
فإنه جعل ابنتَها جارةً لها ، ولولا ذلك لم يَجُزْ . ومعنا التفضيل في آخَر وأوَّل وما تصرَّف منهما قلقٌ ، وتحقيقُ ذلك في كتبِ النحوِ ، وقد بَيَّنْتُ ذلك في » شرح التسهيل « فَلْيُلتفت إليه .

وإنَّما وُصِفَت الأيام ب « أُخَر » من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث ، فَمِن الأولِ : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] ، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها ، وإنما أُوثِرَ هنا معاملتُه معاملَةَ الجَمْعِ لأنه لو جِيءَ به مُفْرَداً فقيل : عِدَّةٌ من أيامٍ أخرى لأوْهَمَ أنه وصفٌ لعِدَّة فيفوتُ المقصودُ .
قوله : { يُطِيقُونَهُ } الجمهورُ على « يُطِيقُونه » من أطاق يُطِيق ، مثل أَقامَ يُقيم . وقَرَأَ حُميد : « يُطْوِقُونه » من أَطْوقَ ، كقولهم : أَطْوَلَ في أَطال ، وأَغْوَلَ في أَغال ، وهذا تصحيحٌ شاذ ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو : أَجْوَدَ بمعنى أجاد ، ومِنْ ذوات الياء : أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت ، وأَغْيَلَتِ المرأة ، وأَطْيَبَت ، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو : « أَغْيَمَت » و « أطْوَل » إلا أبو زيد .
وقرأ ابن عباس وابن مسعود : « يُطَوَّقونه » مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع . وقرأت عائشة وابن دينار : « يَطَّوَّقُونَه » بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ ، وأصلُه تَطَوَّق ، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً ، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه : { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] . وقرأ عكرمة وطائفةٌ : « يَطَّيَّقونُه » بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء ، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً . وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول .
وقد رَدَّ بعضُ الناسِ هذه القراءةَ . وقال ابن عطية : « تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ » وإنما قالوا بِبُطْلاَنِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق ، فمن أين تَجِيءُ الياءُ؟ وهذه القراءةُ ليست باطلةً ولا ضعيفةً ، ولها تخريجٌ حسنٌ : وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ تَفَعَّل حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من تَفَيْعَل ، والأصلُ : تَطَيْوَق من الطَّوْقِ ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران ، والحَوْر ، والأصلُ : تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ ، فاجتمعت الياءُ والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ ، فكان الأصلُ : يَتَطَيْوَقُونه ، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ ، فَمَنْ قَرَأَه « يَطَّيَّقونه » بفتح الياءِ بناه للفاعل ، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول . وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ ، أي : يتكلَّفون إطاقَتَه ، وذلك مجازٌ من الطَّوْقِ الذي هو القِلاَدَةُ ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم .
وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ « لا » محذوفةٌ قبلَ « يُطِيقُونَه » وأنَّ التقديرَ : « لا يُطيقونه » ونَظَّره بقولِهِ :
840 فحالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ
وقوله :
841 آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً ... يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله :
842 فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي
المعنى : لا تهبط ولا أمدح ولا أبرحُ .

وهذا ليس بشيء ، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ ، وأمَّا الأبيات المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي .
والهاءُ في « يُطِيقُونَه » للصومِ ، وقيل : للفِداءِ ، قاله الفراء .
و « فِدْيَةٌ » مبتدأٌ ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه . والجماعةُ على تنوينِ « فِدْيَة » ورفع « طعام » وتوحيدِ « مسكين » وهشامٌ كذلك إلاَّ أنه قرأ : « مساكين » جمعاً ، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة « فدية » إلى « طعام مساكين » جمعاً . فالقراءةُ الأولى يكونُ « طعام » بدلاً من « فِدْية » بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية ، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف ، أي : هي طعام . وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمِنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والمقصودُ به البيانُ كقولِك . خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه . وقال بعضهم : « يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ ، قال : » لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ « وهذا فاسدٌ ، لأنَّه : إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء ، أو يريدَ به المفعولَ ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ ، وليسَتْ مُرادةً هنا ، والذي بمعنى المفعولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ ، لا تقولُ : ضِراب بمعنى مَضْروب ، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول ، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله ، لا تقول : » مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه « وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال : أُضيف الموصوفُ لصفتِه؟
وإنَّما أُفْرِدَت » فِدْية « لوجهين ، أحدُهما : أنَّها مصدرٌ والمصدرُ يُفْرَدُ ، والتاء فيها ليست للمَرَّة ، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث . والثاني : أنه لَمَّا أضافها إلى مضافٍ إلى الجمع أَفْهَمَتِ الجَمْعَ/ ، وهذا في قراءةِ » مساكين « بالجمع . ومَنْ جمع » مساكين « فلمقابلةِ الجمع بالجمعِ ، ومَنْ أَفْرَدَ فعلى مراعاةِ إفرادِ العمومِ ، أي : وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيق الصومَ لكلِّ يوم يُفْطِرُه إطعامُ مسكين . ونظيرهُ : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] .
وتَبَيَّن مِنْ إفراد » المسكين « أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ . والطعامُ : المرادُ به الإِطعامُ ، فهو مصدرٌ ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ ، قال أبو البقاء : » لأنه أضافه إلى المسكين ، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه ، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً ، لأنه يصير تقديرُه : فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين ، فهو من باب تسميةِ الشيءِ ، بما يَؤُول إليه ، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه « .
قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] فَلْيُلْتفت إليه . والضميرُ في قولِهِ : » فهو « ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ : » فَمَنْ تَطَوَّع « أي : فالتطوعُ خيرٌ له و » له « في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : خيرٌ كائنٌ له .
قوله : { وَأَن تَصُومُواْ } في تأويل مصدرٍ مرفوعٌ بالابتداء تقديرُه : » صومكم « و » خَيْرٌ « خبرُه . ومثلُه : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] وقوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } شرطٌ حُذِفَ جوابُهُ ، تقديرُه : فالصومُ خيرٌ لكم . وحُذِفَ مفعولُ العلم : إمَّا اقتصاراً ، أي : إن كنتمْ من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصاراً أي : تعلمونَ ما شرعيتُه وتبيينُه ، أو فَضْلَ ما عِلِمْتُم .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : فيه قراءتان ، المشهورةُ الرفعُ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، وفي خبرهِ حينئذٍ قولان ، الأولُ : أنه قولُه { الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملةَ مَنْبَهَةً على فَضْلِه ومَنْزِلَتِه ، يعني أنَّ هذا الشهر الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هو الذي فُرِضَ عليكم صومُهُ ، والقولُ الثاني : أنه قولُه : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتكونُ الفاءُ زائدةً وذلك على رأي الأخفشِ ، وليست هذه الفاء لا تزاد في الخبرِ لشبهِ المبتدأِ بالشرطِ ، وإن كان بعضُهم زَعَم أنَّها مثلُ قولِهِ : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] وليس كذلك ، لأنَّ قولِهِ : { الموت الذي تَفِرُّونَ } يُتَوَهَّم فيه عمومٌ بخلاف شهر رمضان . فإنْ قيل : أين الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين المبتدأِ؟ قيل : تكرارُ المبتدأِ بلفظِه كقوله :
843 لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الإِعراب - أعني كون « شهر رمضان » مبتدأ - على قولِنا : إن الأيامَ المعدوداتِ هي غيرُ رمضان ، أمَّا إذا قُلْنا إنها نفسُ رمضان ففيه الوجهان الباقيان .
أحدُهما : أن يكون خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، فقدَّرَهُ الفراء : ذلكم شهرُ رمضانَ ، وقدَّره الأخفش : المكتوبُ شهرُ ، والثاني : أن يكونَ بدلاً مِنْ قَوْلِهِ « الصيام » أي : كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ ، وهذا الوجهُ وإن كان ذهب إليه الكسائي بعيدٌ جداً لوجهين ، أحدُهما : كثرةُ الفصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه . والثاني : أنه لا يكونُ إذ ذاك إلا مِنْ بدلِ الإِشمالِ وهو عكسُ بدلِ الاشتمالِ ، لأنَّ بدلَ الاشتمال غالباً بالمصادرِ كقوله : { عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقول الأعشى :
844 لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصدرِ . ويمكن أن يوجَّهَ قولُه بأنَّ الكلامَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُهُ : صيامُ شهر رمضان ، وحينئذٍ يكونُ من بابِ [ بدلِ ] الشيءِ من الشيءِ وهما لعينٍ واحدة . ويجوزُ أن يكونَ الرفعُ على البدلِ من قوله « أياماً معدوداتٍ » في قراءةِ مَنْ رَفَع « أياماً » ، وهي قراءة عبدِ الله وفيه بُعْدٌ .
وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب ، وفيه أوجهٌ ، أجودُها ، النصبُ بإضمار فعلٍ أي : صُوموا شهرَ رمضانَ . الثاني - وذَكَره الأخفشُ والرُمَّاني - : أن يكونَ بدلاً من قولِهِ « أياماً معدوداتٍ » ، وهذا يُقَوِّي كونَ الأيام المعدودات هي رمضانَ ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ . الثالثَ : نَصْبٌ على الإِغراء ذكره أبو عبيدة والحوفي . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بقولِهِ : « وَأَنْ تصوموا » حكاه ابن عطية ، وجَوَّزَهُ الزمخشري ، وغَلَّطَهما الشيخُ : « بأنَه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصولِ وصلِتهِ بأجنبي ، لأنَّ الخبرَ وهو » خيرٌ « أجنبي من الموصولِ ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِهِ ، و » شهر « على رأيهم من تمامِ صلة » أَنْ « فامتنع ما قالوه .

وليس لقائلٍ أن يقول : يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ « . الخامسُ : أنه منصوبٌ ب » تَعْملون « على حَذْفِ مضافٍ ، تقديرُهُ : تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ .
وأَدْغم أبو عمر راء » شهر « في راء » رمضان « ، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما ، وقولُ ابن عطية : » وذلك لا تقتضيه الأصولُ « غيرُ مقبولٍ منه ، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس .
والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان ، أشهرهُما : أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي يكونُ مَبْدَؤُها الهلال خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ ، سُمِّي بذلك لِشُهْرَتِهِ في حاجةِ الناسِ إليه من المعلوماتِ . والثاني - قاله الزجاج - أنه اسمٌ للهلالِ نفسه . قال :
845 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والشهرُ مثلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
سُمِّي بذلك لبيانِهِ ، قال ذو الرُّمَّة :
846 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ
يقولون : رَأَيْتُ الشهرَ أي : هلاله ، ثم أُطْلِقَ على الزمانِ لطلوعِهِ فيه ، ويقال : أَشْهَرْنا أي : أتى علينا شهرٌ . قال الفراء : » لم أَسْمَعْ فعلاً إلاَّ هذا « قال الثعلبي : » يُقال شَهَرَ الهِلالُ إذا طَلَعَ « . ويُجْمَعُ في القلةِ على أَشْهُر/ وفي الكثرةِ على شُهور . وهما مَقِيسان .
ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ ، أحدُهما : أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك ، كربيع لموافقتِه الربيعَ ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء ، وقيل : لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي : يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها . وقيل : لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة . وقيل : من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ يقال : نَصْلٌ رَميض ومَرْموض . وكان اسمه في الجاهليةِ ناتِقاً . أنشد المفضَّل :
847 وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى ... وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا
وقال الزمشخري : » الرَّمَضانُ مصدرُ رَمِضَ إذا احترَق من الرَّمْضاء « قال الشيخ : » وَيَحْتَاج في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صحةِ نقلٍ ، فإن فَعَلاناً ليس مصدرَ فَعِل اللازم ، بل إِنْ جاءَ منه شيءٌ كان شاذَّاً « . وقيل : هو مشتقٌّ من الرَّمَضِيّ وهو مَطَرٌ يأتي قبلَ الخريفِ يُطَهِّر الأرضَ من الغبار فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذنوب .
والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ » قَرَأْتُ « ، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما :
848 ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به ... يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا
وهو مِنْ قَرَأَ بالهمزِ أي : جَمَعَ ، لأنه يَجْمَعُ السورَ والآيات والحِكَمَ والمواعِظَ والجمهورُ على همزه ، وقرأ ابنُ كثير من غيرِ همزٍ .

واختُلِفَ في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما : أنه من باب النقلِ ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ : { قَدْ أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 1 ] وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين .
والثاني : أنه مشتقٌّ عنده مِنْ قَرَنْتُ بين الشيئين ، فيكونُ وزنُهُ على هذا : فُعالاً ، وعلى الأول . فُعْلاناً ، وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السورِ والآياتِ والحِكَمْ والمواعِظِ .
وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ ، لأنَّهما مادتان متغايرتان . و « القرآنُ » مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله ، ومعنى { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } : أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه : قيل في الرابع والعشرين منه ، وقيل : أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه ، كقولك « أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ » .
قوله : { هُدًى } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن ، والعاملُ فيه « أُنْزِلَ » وهُدَىً ومصدرٌ ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : هادياً ، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً .
قوله : { لِّلنَّاسِ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ ب « هُدَىً » على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ « هادٍ » ، أي : هادياً للناس . والثاني : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه ، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ ، ولا يجوزُ أَنْ يكون « هُدَىً » خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : « هو هدى » لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو : « بَيِّنات » ، و « بَيِّنات » عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً ، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة .
قوله : { مِّنَ الهدى والفرقان } هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله : « هدىً وبَيِّناتٍ » فمحلُّه النصبُ ، ويتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ « هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ » من الهُدى والبينات « فيطابقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات وهو كونُه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، ومتى كان الشيءُ جليَّاً واضحاً حَصَل به الفرقُ ، ولأنَّ في لفظِ الفرقانِ تواخيّ الفواصِلِ قبله ، فلذلك عَبَّر عن البينات بالفرقان . وقال بعضُهم : » المرادُ بالهُدى الأولِ أصولُ الدياناتِ وبالثاني فروعُها « . وقال ابنُ عطية : » اللامُ في الهُدى للعهدِ ، والمرادُ الأولُ « يعني أنه تقدَّم نكرةٌ ، ثم أُعيد لفظُها معرفاً بأل ، وما كان كذلك كانَ الثاني فيه هو الأولَ نحو قولِه : { إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول }

[ المزمل : 15-16 ] ، ومِنْ هنا قال ابن عباس : « لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى ، ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه لكان كلاماً صحيحاً « .
قال الشيخ : » وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا ، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ « هدى » منصوبٌ على الحالَ ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال ، وعَطَفَ عليه « وَبيِّنات » فلا يَخْلو قولُه « من الهدى » - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه « هُدَىً » أو لقولِهِ « وبيناتٍ » أَوْ لهما ، أو متعلِّقاً بلفظ « بينات » . لا جائزٌ أن يكونَ صفةً ل « هدى » لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً ، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه ، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته ، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ فقط لأنَّ « وبينات » معطوفٌ على « هُدَى » و « هُدَى » حالٌ ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال ، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان ، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ « بَيِّنات » بقوله : « مِنَ الهدى » خَصَصْناها به/ فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله : « هُدَىً وَبَيَّنات » معاً ، ومن حيثُ جَعَلْتَ « مِنَ الهدى » صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ « بيِّنات » على « هُدَى » فَلَزِمَ من ذلك تخصيصُ الشيءِ بنفسِه وهو مُحالٌ . ولا جائزٌ أَنْ يَكونَ صفةً لهما لأنه يَفْسُدُ من الوجهينِ المذكورينِ مِنْ كونِه وَصَفَ الهدى فقط ، أو بينات فقط .
ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ « بينات » لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به ، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ : منه ، أي : من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما « .
قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } » مَنْ « فيها الوجهانِ : أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً ، وهو الأظهرُ . و » منكم « في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في » شَهِدَ « ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً منكم . وقال أبو البقاء : » منكم « حالٌ من الفاعلِ ، وهي متعلقةٌ ب » شِهِدَ « . قال الشيخ : » فَناقَضَ ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً ، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألاَّ تكونَ حالاً « . ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي ، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه » منكم « هو متعلِّقٌ بشَهِدَ ، وهو الحالُ حقيقةً .
وفي نَصْبِ » الشهر « قولان ، أحدُهما : أنَّه منصوبٌ على الظرف ، والمرادُ بشَهِدَ : حَضَر ويكونُ مفعولُ » شَهِدَ « محذوفاً تقديرُه : فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ .

والثاني : أنه منصوبٌ على المفعولِ به ، وهو على حَذْفِ مضافٍ . ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف : فالصحيحُ أنَّ تقديره « دخول الشهر » . وقال بعضُهم : هلال الشهر ، وهذا ضعيفٌ لوجهين ، أحدهما : أنك لا تقول : شَهِدْتُ الهلالَ ، إنما تقول : شاهَدْتُ الهِلالَ .
والثاني : أنه كان يَلْزَمُ الصومَ كلُّ مَنْ شَهِدَ الهلالَ ، وليس كذلك . وقال الزمخشري : « الشهرَ منصوبٌ على الظرف ، وكذلك الهاءُ في » فَلْيَصُمْه « ، ولا يكونُ مفعولاً به كقولك : شَهِدْتُ الجمعة ، لأنَّ المقيمَ والمسافِرَ كِلاهُما شاهِدَان للشهرِ » وفي قوله : « الهاء منصوبةٌ على الظرفِ » فيه نظرٌ لا يَخْفَى ، لأنَّ الفعلَ لا يتعدَّى لضميرِ الظَرْفِ إلا ب « في » ، اللهم إلاَّ أَنْ يُتَوَسَّع فيه ، فَيُنْصَبَ نَصْبَ المفعولِ به ، وهو قد نَصَّ على أَنَّ نَصْبَ الهاءِ أيضاً على الظرفِ .
والفاءُ في قولِه : « فَلْيَصُمْهُ » : إمَّا جوبُ الشرطِ ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في « مَنْ » ، واللامُ لامُ الأمرِ . وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ ب « كَتِف » ، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ . وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل ، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن . وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء ، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء ، فقال : « مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها » ، قال : « فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو : لِيُنْذِرُ ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً » .
والألفُ واللامُ في قولِه { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ : فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به .
قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا } [ البقرة : 26 ] . و « أراد » يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء وإلى المصادرِ بنفسِه كالآيةِ الكريمةِ ، وقد يَنعكِسُ الأمرُ ، قال الشاعر :
849 أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ
والباءُ في « بكم » قالَ أبو البقاء : « للإِلصاقِ ، أي : يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ ، أي : يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ . وفي قولِه : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } تأكيدٌ ، لأنَّ قبلَه { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } وهو كافٍ عنه . وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب وابن هرمز : » اليُسُر والعُسُر « بضمّ السين ، واختلف النحاةُ : هل الضَمُّ أصلٌ والسكونُ تخفيفٌ ، أو الأصلُ السكونُ والضمُّ للإِتباعِ؟ الأولُ أظهرُ لأنه المعهودُ في كلامِهم .

قوله : { وَلِتُكْمِلُواْ } في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ ، أحدُها : أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك : ضَرَبْتُ لزيدٍ ، و « أَنْ » مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه : « ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة » أي : تكميلَ ، فهو معطوفٌ على اليُسْر . ونحوُه قولُ أبي صخر :
850 أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء ، وإنما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المفعولِ - وإنْ كان ذلك إنما يكونُ إذا كان العاملُ فرعاً أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طالَ . الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه فَعُدِّي بزيادة اللام قياساً لضَعْفِه بطولِ الفصلِ على ضَعْفِه بالتقديم .
الثاني : أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدُها : أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه : « ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا » ، وهو قولُ الفراء . الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه : فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا . الثالث : أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه : « ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك » ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين . الرابع : أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه : يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا ، وهذا ضعيفٌ جداً . الخامسُ : أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه : « ولَعَلَّكم تَشْكُرون » ، تقديرُه : شَرَعَ ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصُّ كلامِه قال : « شَرَعَ ذلك ، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر ، فقولُه : » ولِتُكْمِلوا « علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة ، و » لِتُكَبِّروا « علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و » لعلَّكم تَشْكرون « علةُ الترخيصِ والتيسير ، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ » . السادس : أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ ، التقديرُ : لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا ، قاله الزمخشري ، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ . واختصارُ هذه الأوجهِ أَنْ تكونَ هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ : إمّا قبلَها وإمَّا بَعدَها ، أو تكونَ علةً للفعلِ المذكور قبلَها وهو « يُريد » .
الثالث : أنَّها لامُ الأمرِ ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفردات كما تقدَّم تقريرُه ، وهذا قولُ ابنِ عطية ، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ ، أحدُهما : أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ : لِتَقُمْ يا زيد ، وقد قرىء شاذاً : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] بتاء الخطاب . والثاني : أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان : الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها .

وقرأ الجمهورُ « ولِتُكْمِلوا » مخففاً من أَكْمل ، والهمزةُ فيه للتعدية . وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم ، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً ، والألفُ واللامُ في « العِدَّة » تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما : أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا هو الظاهرُ ، والثاني : أَنْ تكونَ للجنسِ ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه ، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين . واللامُ في « وَلِتُكَبِّروا » كهي في « ولِتُكْمِلوا » ، فالكلام فيها كالكلام فيها ، إلاَّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا .
قوله : { على مَا هَدَاكُمْ } هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب « تُكَبِّروا » . وفي « على » قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من الاستعلاءِ ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبيرِ بها لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ . قال الزمخشري : « كأنَّه قيل : ولِتُكَبِّروا الله حامِدين على ما هَدَاكم » قال الشيخ : « وهذا منه تفسيرُ معنى لا إعراب ، إذ لو كان كذلك لكانَ تعلُّقُ » على « ب » حامدين « التي قَدَّرها لا ب » تُكَبِّروا « ، وتقديرُ الإِعراب في هذا هو : » ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم ، كما قدَّره الناسُ في قوله :
851 قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي ... أي : صَرَفَه بالقتلِ عني ، وفي قولِه :
852 ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ ... بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ
أي : متحكِّمون بالبصيرة في طَعْن الكُلى « . والثاني : أنها بمعنى لامِ العلَّةِ ، والأول أَولَى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ .
و » ما « في قوله : { على مَا هَدَاكُمْ } فيها وجهان ، أظهرهُما : أنها مصدريةٌ ، أي : على هدايته إياكم . والثاني : أنَّها بمعنى الذي . قال الشيخ : » وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن ، أحدُهما : حَذْفُ العائدِ تقديرُه : هداكُموه « وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى ، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ ، والثاني : حَذْفُ مضافٍ يَصِحُّ به معنى الكلامِ ، تقديرُه : على اتِّباع الذي هَداكُمْ أو ما أَشْبَهَه » .
وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً ، فناسَبَ خَتْمَها بذلك . وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى ، وهو قولُه : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] وقولُه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 178 ] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ ، فناسَب خَتْمَها بذلك ، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً ، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها ، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ } : في « أُجيب » وجهانِ أحدُهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل « قَرِيبٌ » والثاني أنها خبرٌ ثانٍ لإِنِّي ، لأنَّ « قريب » خبرٌ أولُ .
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه : فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ . وجاء قولُه « أجيب » مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ : « يُجيبُ » بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه : « قريبٌ » لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ ، كقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] وفي أخرى { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقولِ الشاعر :
853 وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ
/ ولو راعى الخبر لقال : « مَا يَرَوْنَ القَتْلَ » .
وفي قوله : { عَنِّي } و « إنِّي » التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ ، لأنَّ قبلَه ، « ولتُكَّبِّروا الله » والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ . والكافُ في « سألَكَ » للنبي صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ ، إلاَّ أنَّ قولَه : { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } يَدُلُّ عليه ، لأنَّ تقديره : « أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صلى الله عليه وسلم » . وفي قوله : « فإني قريب » مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه ، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان ، ونظيرُه : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] ، « » هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم «
والعاملُ في » إذا « قال الشيخ : » قولُه : أُجيبُ « يعني » إذا « الثانيةَ فيكونُ التقديرُ : أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه ، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وحذف جوابها لدلالةِ » أُجِيْبُ « عليه ، وحينئذٍ لا يكونُ » أُجيبُ « هذا الملفوظُ به هو العامل فيها ، بل ذلك المحذوفُ ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط ، وأمَّا » إذا « الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ . والهاء في » دعوة « ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو : ضَرْبَة وقَتْلَة ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ نحو : رَحْمة ونَجْدة ، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة .
والياءان من قولِه : » الداع - دعانِ « من الزوائدِ عند القُرَّاء ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً ، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن ، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً ويَحْذِفُها وَقْفاً ، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستون ياءً ، ومعرفةُ ذلك مُحَالةُ على كتبِ القراءاتِ ، فَأَثْبَتَ أبو عمروٍ وقالون هاتين الياءيْن وَصْلاً وحَذَفَاها وقفاً .

قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } في الاستفعالِ هنا قولان ، أحدُهما : أنَّه للطلب على بابِه ، والمعنى : فَلْيَطْلبُوا إجابتي قاله ثعلب . والثاني : أنه بمعنى الإِفعال ، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً ، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو : أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد ، واستثار الشيء وأثارَه ، واستعجله وأَعْجَله ، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو : { فاستجبنا لَهُ } [ الأنبياء : 84 ] فاستجاب لَهُمْ « ، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله :
854 وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
ولقائلٍ أن يقولَ : يَحْتَمِلُ هذا البيتُ أَنْ يكونَ مِمَّا حُذِفَ منه حرفُ الجر .
واللامُ لامُ الأمر ، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستجاب : بأنَّ » استجاب « لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو : { فاستجبنا لَهُ } [ الأنبياء : 76 ] { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] ، وأمَّا » أجاب « فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة ، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً .
والجمهورُ على » يَرْشُدون « بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ ، وماضيه رَشَدَ بالفتح وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين ، وقُرىء بفتحها . وماضيه رَشِد بالكسر ، وقرىء ، يُرْشَدون » مبنياً للمفعول ، وقرىء : « يُرْشِدُونَ » بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد . المفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه : يُرْشِدون غيرَهم .

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

قوله تعالى : { لَيْلَةَ الصيام } : منصوبٌ على الظرفِ ، وفي الناصبِ له ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه « أُحِلَّ » ، وليس بشيءٍ ، لأنَّ الإِحلال ثابتٌ قبلَ ذلك الوقتِ . الثاني : أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ « الرفث » ، تقديرُه : أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ ، كما خَرَّجوا قول الشاعر :
855 - وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْ ... لِ للذلَّةِ إذْعان
أي : إذعان للذلة إذعانٌ ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ . الثالث : أنه متعلِّق بالرفثِ ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات ، وقد تقدَّم تحقيقه .
وأضيفت الليلة اتساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها ، والإِضافة [ تحصُل ] بأدنى ملابسةٍ ، وإلاَّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف ، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك .
والجمهورُ على « أُحِلَّ » مبنياً للمفعولِ للعلمِ به وهو اللَّهُ تعالى ، وقرىء مبنياً للفاعلِ ، وفيه حينئذٍ احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى ، أي أَحَلَّ اللَّهُ ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم . والثاني : أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } وهو المتكلمُ ، ويكونُ ذلك التفاتاً ، وكذلك في قوله « لكم » التفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في : « فَلْيَسْتجيبوا وَلْيؤمنوا » . وعُدِّي « الرفث » بإلى ، وإنما يتعدَّى بالباء لِما ضُمِّن مِنْ معنى الإِفضاء ، كأنه قيل : أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث .
وقرأ عبد الله « الرَّفوث » . والرَّفَثُ لغةً مصدرُ : رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ ، قال العجاج :
856 ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم
وقال الزجاج : - ويُروى عن ابن عباس - « إن الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة » . وقيل : الرفث : الجِماعُ نفسُه ، وأنشد :
857 - ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا ... ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ نفارُ
وقول الآخر :
858 - فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ ... وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ
ولا دليل فيه لاحتمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ ، وأنشد ابنُ عباس وهو مُحْرِمٌ : /
859 - وهُنَّ يَمْشِين بنا هَمِيسا ... إنْ يَصْدُقِ الطيرُ نَنِكَ لَمِيسا
فقيل له : رَفَثْتَ ، فقال : إنما الرَّفَث عند النساء .
قوله : { كُنتُمْ تَخْتانُونَ } في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأنَّ . و « تَخْتانون » في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان . قال أبو البقاء : « وكُنْتُم هنا لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً ، والمعنى : أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه ، وقيل : إنه أرادَ الاختيان في الاستقبال ، وذَكَرَ » كان « ليحكي بها الحالَ كما تقول : إن فعلت كنت ظالماً » وفي هذا الكلامِ نظرٌ لا يَخْفى .

و « تَخْتَانون » تَفْتَعِلُون من الخيانة ، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم : خانَ يخُون ، وفي الجمع : خَوَنَة ، يقال : خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة ، وهي ضدُّ الأمانة ، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه ، قال زهير :
860 بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا ... قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ
وقال الزمخشري : « والاختيانُ : من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ ، فيه زيادةٌ وشِدَّة » يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى ، كما قَدَّمَهُ في قولِهِ الرحمنُ الرحيمُ . وقيل هنا : تختانون أَنْفُسَكُم أي : تتعهدونها بإتيانِ النساء ، وهذا يكون بمعنى التخويل ، يقال : تَخَوَّنه وَتَخَوَّله بالنون واللام ، بمعنى تَعَهَّده ، إلا أنَّ النونَ بدلٌ من اللام ، لأنه باللامِ أشهرُ .
و « عَلِمَ » إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف ، فتكونُ « أنَّ » وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه ، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش .
وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } لا محلَّ له من الإِعراب ، لأنه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ : وقَدَّمَ قولَه : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } على { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها ، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك ، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِهِ - هو النابغة الجَعْدِي - :
861 إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها ... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
وفيه أيضاً :
862 - لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
قوله : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } قد تقدَّم الكلامُ على « الآن » . وفي وقوعِهِ ظرفاً للأمرِ تأويلٌ ، وذلك أنه للزمنِ الحاضِرِ والأمرُ مستقبلٌ أبداً ، وتأويلُهُ ما قاله أبو البقاء قال : « والآن : حقيقَتُه الوقتُ الذي أَنْتَ فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منكَ ، وعلى المستقبلِ القريبِ ، تنزيلاً للقريبِ منزلةَ الحاضِرِ ، وهو المرادُ هنا ، لأنَّ قولَه : » فالآن باشِروهُنَّ « أي : فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكم فيه الجِماعُ من الليل » وقيل : هذا كلامٌ محمولٌ على معناه ، والتقدير : فالآن قد أَبَحْنا لكم مباشَرَتَهُنَّ ، ودَلَّ على هذا المحذوفِ لفظُ الأمرِ فالآن على حقيقته
وقرىء : « واتَّبِعُوا » من الاتِّباع ، وتُرْوى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري . وفَسَّروا « ما كَتَبَ اللَّهُ » بليلةِ القدر ، أي : اتَّبِعوا ثوابها ، قال الزمخشري : « وهو قريبٌ من بِدَعِ التفاسير » .
قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } « حتى » هنا غايةٌ لقولِهِ : « كُلُوا واشربوا » بمعنى إلى ، ويقال : تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً ، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً ، إلاَّ « بان » فلازمٌ ليس إلاَّ . و « مِن الخيط » مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ ب يتبيَّن ، لأنَّ المعنى : حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ الأسودَ .

و « من الفجر » يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً ب « يتبيَّن »؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه ، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض ، أي : الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ « مِنْ » لبيانِ الجنس كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الذي هو الفجرُ . والثالث : أن يكونَ تمييزاً ، وهو ليس بشيء ، وإنما بَيَّن قولَه « الخيط الأبيض » بقولِهِ : « مِنَ الفجرِ » ، ولم يُبَيِّن الخيطَ الأسود فيقول : مِنَ الليلِ اكتفاءً بذلك ، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاك لأنَّه هو المَنُوط به الأحكامُ المذكورةُ من المباشَرَةِ والأكلِ والشُّرْبِ .
وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه ، وقال : « إن وسادَك لَعَرِيض » ويُروى : « إنك لعريضُ القَفَا » وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ « الخيط الأبيض » « من الخيط الأسود » عاماً كاملاً في النزولِ . وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة ، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ : « من الفجر » ، ونظيرُهُ قولُكَ : « رأيت أسداً من زيدٍ » لو لم تَذْكُر : « من زيدٍ » لكانَ استعارةً . ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ ، لأنَّ الاستعارة لا بد فيها من دلالةٍ حاليةٍ ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً ، حتى نَزَلَ « مِنَ الفَجْرِ » فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك .
والفجرُ مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي : انشَقَّ .
قوله : { إِلَى الليل } فيه وجهان : أحدُهما : أنه متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً إلى الليل ، و « إلى » إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه ، والآيةُ من هذا القبيلِ .
« وأنتم عاكفون » جملةٌ حاليةٌ من فاعل « تباشروهُنَّ » ، والمعنى : لا تباشروهُنَّ وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد ، وليس المرادُ النهيّ عن مباشرتِهِنَّ في المسجدِ بقيدِ الاعتكافِ ، لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً .
والعُكُوف : الإِقامَةُ والملازَمَةُ له ، يقال : عَكَف / بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر ، وقد قُرىء : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ } [ الأعراف : 138 ] بالوجهين وقال الفرزدق :
863 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم ... على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ

وقال الطرماح :
864 - وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً ... عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ
ويقال : الافتعالُ منه في الخير ، والانفعالُ في الشَّرِّ . وأمَّا الاعتكافُ في الشرع فهو إقامةٌ مخصوصةٌ بشرائط ، والكلامُ فيه بالنسبة إلى الحقيقةِ الشرعيةِ كالكلام في الصلاةِ . وقرأ قتادة : « عَكِفُون » كأنه يقال : عاكِفٌ وعَكِفُ نحو بار وَبَرّ ورَابٌّ ورَبٌّ . وقرأ الأعمش : « في المسجدِ » بالإِفرادِ كأنه يريد الجنسَ .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ ، فلا جائزٌ أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنَتْه آيةُ الصيامِ من أولها إلى هنا ، وآيةُ الصيامِ قد تَضَمَّنَتْ عدةَ أوامِرَ ، والأمرُ بالشيء نْهَيٌ عن ضدَّه ، فبهذا الاعتبارِ كانَتْ عِدَّةَ مناهيَ ، ثم جاء آخرُها صريحَ النهي وهو : « ولا تباشِرُوهُنَّ » فأَطْلَقَ على الكل « حدوداً » تغليباً للمنطوقِ به ، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمَّنَتْهَا الأوامرُ ، فقيل فيها حدودٌ ، وإنما اضطُرِرْنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ المأمورَ به لا يقال فيه « فلا تَقْرَبُوها » .
قال أبو البقاء : « دخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه : » تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها « ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] على أحدِ القولَيْنِ ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ » حدودَ الله « على الاشتغالِ ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو : » زيداً فاضْرِبْه ، وعمراً فلا تُهِنْهُ « فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي » فلا تَقْرَبُوها « منقطعةٌ عمَّا قبلها ، وإلاَّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ .
والحدودُ : جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ ، ومنه قيلَ للبَوَّاب : حَدَّاد ، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور . وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه ، ولهذا يُقال : الحَدُّ مانِعٌ جامع أي : يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ . والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ .
وقال هنا : » فلا تقْرَبُوها « وفي مواضع أُخَرَ : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ومثلُه : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } [ النساء : 14 ] لأنه غَلَّب هنا جهةَ النهي إذ هو المُعَقَّبُ بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } وما كان مَنْهِيّاً عن فعلِهِ كان النهيُ عن قُرْبَانِهِ أبلغَ ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ فجاء » فلا تَعْتَدُوها « عَقِبَ بيانِ أحكامٍ ذُكِرَت قبلُ كالطلاقِ والعِدَّة والإِيلاءِ والحَيْض والمواريث ، فناسَبَ أن يَنْهَى عن التَّعدِّي فيها ، وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ فيها .
قوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله } الكافُ في محلِّ نصب : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : بياناً مثلَ هذا البيانِ ، أو حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

قولُه تعالى : { بَيْنَكُمْ } : في هذا الظرفِ وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بتأكلوا بمعنى : لا تَتَنَاقَلوها فيما بينكم بالأكلِ . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « أموالكم » ، أي : لا تأكلوها كائنةً بينكم . وقَدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم أو دائرةٍ بينكم ، وهو في المعنى كقولِهِ : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وفي تقدير « دائرةً » - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نَظَرٌ لا يَخْفَى ، إلاَّ أَنْ يُقالَ : دَلَّتِ الحالُ عليه .
قولُه { بالباطل } فيه وجهان ، أحدُهما : تعلُّقه بالفعل ، أي : لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان ، أحدهما : أنه المالُ ، كأن المعنى ، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ ، والثاني : أَنْ يكونَ الضميرَ في « تأكلوا » كأنَّ المعنى : لا تأكلوها مُبْطِلين ، أي : مُلْتَبِسينَ بالباطِل .
قوله { وَتُدْلُواْ بها } في « تَدْلُوا » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبلَه ، ويؤيِّدهُ قراءة أُبيّ : « ولا تُدْلُوا » بإعادةِ لا الناهيةِ ، والثاني : أنَّه منصوبٌ على الصرف ، وقد تقدَّم معنى ذلك وأنه مذهبُ الكوفيين ، وأنه لم يَثْبُتْ بدليلٍ . والثالث : أنه منصوبٌ بإضمارِ أنْ في جواب النهي ، وهذا مذهبُ الأخفشِ ، وجَوَّزَهُ ابنُ عطيَّة والزمخشري ومكي وأبو البقاء . قال الشيخ : « وأَمَّا إعرابُ الأخفشِ وتجويزُ الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألةُ : » لا تأكل السمك وتشربَ اللبن « . قال النحويون : إذا نُصِبَ لِوَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أنَّ النهيَ عن الجمعِ لا يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن كلِّ واحدٍ منهما على انفرادِهِ ، والنهيُ عن كلِّ واحدٍ منهما يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن الجمعِ بينهما؛ لأن الجمعَ بينهما حصولُ كلِّ واحدٍ منهما ، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً ، ألا ترى أنَّ أَكْلَ المالِ بالباطلِ حرامٌ سواءً أُفْرِدَ أم جُمِعَ مع غيرهِ من المُحَرَّمات . والثاني - وهو أَقْوَى - أَنَّ قولَه » لِتأكلوا « عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا ، فلو كان النهيُ عن الجمعِ لم تَصِحَّ العلةُ له ، لأنه مركبٌ من شيئين لا تَصِحُّ العلةُ أن تَتَرتَّب على وجودهما ، بل إنما تترتَّب على وجودِ أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموالِ إلى الحكام » .
و « بها » متعلقٌ ب « تُدْلُوا » ، وفي الباء قولان ، أحدُهما : أنها للتعديةِ ، أي لترسِلوا بها إلى الحكام ، والثاني : أنَّها للسببِ بمعنى أن المراد بالإِدْلاَءِ الإِسراعُ بالخصومةِ في الأموالِ إمَّا لعدمِ بَيِّنةٍ عليها ، أو بكونِهَا أمانةً كمالِ الأيتام . والضميرُ في « بها » الظاهرُ أنه للأموالِ وقيل : إنه / لشهادةِ الزُّورِ لدلالةِ السياقِ عليها ، وليس بشيءٍ .
و « من أموال » في محلِّ نصبٍ صفةً ل « فريقاً » ، أي : فَريقاً كائناً من أموالِ الناس .
قوله : { بالإثم } تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله « لتأكلوا » وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في « لتأكلوا » ، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم . « وأنتم تعلمون » جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ « لتأكلوا » ، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ « بالإِثم » غيرَ حالٍ .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

قولُه تعالى : { عَنِ الأهلة } : متعلِّقٌ بالسؤال قبلَه ، يُقال : « سألَ به وعنه » بمعنىً . والضميرُ في « يَسْأَلُونك » ضميرُ جماعةٍ ، وفي القصةِ أن السائل اثنان ، فَيَحْتَمِلُ ذلك وجهين ، أحدُهما : أنَّ ذلك لكونِ الاثنين جمعاً . والثاني : من نسبةِ الشيء إلى جمْعٍ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين ، وهو كثيرٌ في كلامِهِم .
والجمهور على إظهار نونِ « عَنْ » قبل لام « الأهلَّة » وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها ، وقُرِىءَ شاذاً : « علَّ هِلَّة » وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة « أهلة » إلى لامِ التَّعريفِ ، وأدغم نونَ « عن » في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدَّرْج ، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول : « لَحْمَر » من غيرِ همزةِ وصلٍ .
وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ . والهلالُ هذا الكوكبُ المعروفُ . واختَلَفَ اللغويون : إلى متى يسمى هِلالاً؟ فقال الجمهورُ : يُقال له : هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ ، وقيل : لثلاثٍ ، ثم يكونُ قمراً . وقال أبو الهيثم : « يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ » . وقال الأصمعي : « يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرَ ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق » ، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ ، وقيل : « يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل ، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ » ، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ ، ويكونُ مصدراً ، يقال : هَلَّ الشهرُ هلالاً .
ويقال : أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ ، وقيل : يقال : أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد :
865 - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ ... وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ
وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه ، وقيل : لأنه من البيان والظهورِ ، أي : لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ ، ولذلك يُقال : تَهَلَّلَ وَجْهُهُ : ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه . . . ومنه قول تأبَّط شرّاً .
866 وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه ... بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ البقرة : 173 ] وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة ، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم : عِنَن وحِجَج في : عِنَان وحِجاج .
وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ « الأهِلَّة » أي : عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ ، ولذلك أُجيبوا بقولِه : « قل هي مواقيتُ » وقيل : إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ .

و « للناسِ » متعلِّقٌ بمحذوفٌ ، لأنه صفةٌ ل « مواقيت » أي : مواقيتُ كائنةً للناسِ . والمواقيتُ : جَمْعُ ميقات ، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ : مِوْقات من الوقت ، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها ، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً ، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ . والميقات منتهى الوقت .
قوله : { والحج } عطفٌ على « الناس » ، قالوا : تقديرُه : ومواقيتُ الحَجِّ ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول ، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر ، وكأنه تخصَّص بعد تعميم ، إذ قولُه « مواقيتُ للناسِ » ليس المعنى لذواتِ الناس ، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي : مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب « الناس » منابَه في الإِعراب .
وقرأ الجمهورُ « الحج » بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي وحفصاً عن عاصم فقرؤوا { حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] بالكسر ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ قال سيبويه : « هما مصدران » فالمفتوحُ كالردِّ والشدِّ ، والمكسورُ كالذِّكر ، وقيل : بالفتحِ هو مصدرٌ ، وبالكسرِ هو اسمٌ .
قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ } كقوله : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ } [ البقرة : 177 ] وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع « البر » ، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً ، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم .
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش « البُيوت » و « بُيوت » بضمِّ الباء وهو الأصلُ ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء ، وكذلك في تصغيره ، ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً ، قاله أبو البقاء .
و « مِنْ » في قولِه : « مِنْ ظهورِها » و « من أبوابها » متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية . والضميرُ في « ظهورها » و « أبوابِها » للبيوتِ ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك .
وقوله : { ولكن البر مَنِ اتقى } « كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان ، وهما : » وليس البرُّ « { ولكن البر مَنِ اتقى } عُطِف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : » وَأْتُوا البيوت « » واتَّقوا الله « . وفي التصريح بالمفعول في قوله : » واتقوا الله « دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى ، أي : اتقى الله .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

قوله تعالى : { فِي سَبِيلِ الله } : متعلِّقٌ بقاتِلوا ، على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً ، أي في نصرةِ سبيلِ الله ، / والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله ، لأنَّ السبيلَ في الأصلِ الطريقُ ، فتُجُوِّز به عن الدينِ ، لَمّا كان طريقاً إلى الله ، وإمَّا أن تُضَمِّن « قاتلوا » معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دينِ الله . والذين يقاتلونكم « مفعولُ » قاتلوا .

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

قوله تعالى : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } : « حيث » منصوبٌ بقوله : « اقتلوهم » ، و « ثَقِفْتُموهم » في محلِّ خفضٍ بالظرف ، وثَقِفْتموهم أي : ظَفِرتْم بهم ، ومنه : « رجلٌ ثقيف » : أي سريعُ الأخذ لأقرانِه ، قال :
867 فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني ... فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ
وثَقِفَ الشيءَ ثقافةً إذا حَذَقَه ، ومنه الثقافةُ بالسيف ، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة ، قال الشاعر :
686 ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا ... وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ
قوله : { مِّنْ حَيْثُ } متعلِّقٌ بما قبله ، وقد تُصُرِّفَ في « حيث » بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي ، وبإضافة « لدى » إليها . و « أَخْرجوكم » في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه . ولم يذكر « للفتنة » ولا « للقتل » - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً ، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان ، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان ، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر .
قوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ } قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة : « ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم ، فإنْ قاتلوكم » بالألف من القتال ، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل . فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل ، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى . وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان ، أحدُهما : أن يكونَ المجازُ في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم . ومنه { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ثم قال : « فما وَهَنوا » أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم ، وقال الشاعر :
869 فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ ... وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ
أي : فإنْ تقتلوا بعضنا . وأَجْمَعوا على « فاقتلوهم » أنَّه من القتل ، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم ، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
و « عند » منصوبٌ بالفعل قبله . و « حتى » متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى « إلى » ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَن » كما تقرَّر . والضميرُ في « فيه » يعودُ على « عند » ، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا ب « في » ، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها ، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ « في » اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ « في » ، لا يُقال : « الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره ، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه . ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } أي : فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه .

قوله : { كَذَلِكَ جَزَآءُ } فيه وجهان : أحدُهما : أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « جزاءُ الكافرين » خبرُه ، أي : مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً ، وهو مذهبُ الأخفش . والثاني : أن يكونَ « كذلك » خبراً مقدماً ، و « جزاءٌ » مبتدأ مؤخراً ، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ . و « جزاء » مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي : جزاءُ الله الكافرين . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « الكافرين » مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ ، تقديرُه : كذلك يُجْزى الكافرون ، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ .

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

ومتعلق الانتهاء محذوف؛ أي : عن القتال . وانتهى « افتعل » من النهي ، وأصلُ انتهَوا : انتهَيُوا ، فاستُثْقِلَتْ الضمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ساكنان فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين ، أو تقول : تَحَرَّكَتِ الياء وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان ، فَحُذِفَتِ الألفُ وبَقِيَتِ الفتحة تَدُلُّ عليها .

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

قوله تعالى : { حتى لاَ تَكُونَ } : يجوزُ في « حتى » أن تكونَ معنى كي ، وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ بمعنى إلى ، وأَن مضمرةٌ بعدَها في الحالين . و « تكونُ » هنا تامةٌ و « فتنةٌ » فاعلٌ بها ، وأمَّا { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } فيجوزُ أن تكونَ تامةً أيضاً ، وهو الظاهرُ ، ويتعلَّقُ « لله » بها ، وأن تكونَ ناقصةً و « لله » الخبرَ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائناً لله . و { إِلاَّ عَلَى الظالمين } في محلِّ رفعٍ خبرُ « لا » التبرئةِ ، ويجوزُ أن يكونَ خبرُها محذوفاً تقديرُه : لا عدوانَ على أحد ، فيكونُ « إلا على الظالمين » بدلاً على إعادةِ تكرارِ العامل . وهذه الجملةُ وإنْ كانَتْ بصورةِ النفي فهي في معنى النهي ، لئلا يلزم الخُلْفُ في خبره تعالى ، والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء ، أَبْرَزَتْه في صورةِ النفي المَحْضِ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتةَ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك ، وعكسُه في الإِثباتِ إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشيءِ أبرزوه في صورة الخبرِ نحو : { والوالدات يُرْضِعْنَ } [ البقرة : 17 ] وسيأتي .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر } مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ/ تقديرُه : انتهاكُ حرمةِ الشهرِ الحرام بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ ، والألفُ واللامُ في الشهر الأول والثاني للعهد ، لأنهما معلومان عند المخاطبين ، فإنَّ الأولَ ذو القعدة من سنة سبع ، والثاني من سنة ست .
وقرىء : « والحُرْمات » بسكون الراء ، ويُعْزى للحسن ، وقد تقدَّم أنَّ جمعُ فَعْلَة بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثة أوجه : هذان الاثنانِ وفَتْحُ العين ، عند قوله { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] وقوله : { فَمَنِ اعتدى } يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ فتكونُ الفاء جواباً . والثاني : أن تكونَ موصولةً فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر ، وقد تقدَّم لذلك نظائر .
قوله : { بِمِثْلِ مَا اعتدى } في الباء قولان ، أحدُهما : أن تكونَ غيرَ زائدةٍ ، بل تكونُ متعلقةً باعتدوا ، والمعنى بعقوبةٍ مثلِ جنايةِ اعتدائِه . والثاني : أنها زائدةٌ أي : مثلَ اعتدائه ، فتكون : إمّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي : اعتداء مماثلاُ لاعتدائه ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه أي : فاعتدوا الاعتداء مُشْبِهاً اعتداءَه . و « ما » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ ، وأَنْ تكونَ موصولةً فيكونُ العائدُ محذوفاً ، أي : مثلَ ما اعتدى عليكم به ، وجاز حذفُه لأنَّ المضافَ إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ جُرَّ به العائدُ واتَّحد المتعلَّقان .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } : في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها : أنها زائدةٌ في المفعول به لأن « ألقى » يتعدَّى بنفسه ، قال تعالى : { فألقى موسى عَصَاهُ } [ الشعراء : 45 ] ، وقال :
870 حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ ... وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها
فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله :
871 وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً ... من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة ، وإليه ميلُ الزمخشري ، قال : « والمعنى : ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم » إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله :
872 . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني : أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم ، ويكون معناها السبب كقولِك : لا تُفْسِدْ حالَك برأيك . الثالث : أن يضمَّن « ألقى » معنى ما يتعدَّى بالباء ، فيُعدَّى تعديته ، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره : ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة ، كقولك : أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي : طَرَحْتُه على الأرض ، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس ، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرد أن « ألقى » يتعدَّى بالباء أصلاً من غيرِ تضمينٍ ، فإنه قال : « وقال المبرد : ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ والأوْلى حَمْلُه على ما ذَكَرْتُ » .
والتَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ ، يُقال : هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة . وقال الزمخشري « ويجوزُ أن يقال : أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة ، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار والجُوار » ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذ ودَعْوى إبدالٍ لا دليل عليها ، وذلك أنه جَعَله تَفْعِلة بالكسر مصدر فَعَّل بالتشديد ، ومصدرُه إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على تَفْعيل ، وتَفْعِلة فيه شاذٌّ . وأمَّا تنظيرُه له بالجِوار والجُوار فليس بشيء ، لأن الضمَّ فيه شاذٌّ ، فالأَولى أن يقال : إنَّ الضمَّ أصلٌ غيرُ مُبْدَلٍ من كسر . وقد حكى سيبويه مِمَّا جاء من المصادر على ذلك التَضُرَّة والتَّسُرَّة . قال ابن عطية : « وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام » وهذا يَقَوِّي قولَ الزمخشري .
وزعم ثعلب أن « تَهْلُكَه » لا نظير لها ، وليس كذلك لِما حكى سيبويه . ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن : التَّنْفُلة والتنصُبة .
والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك ، وقال قومٌ : التَّهْلُكَة : ما أمكن التحرُّزُ منه ، والهَلاكُ ما لا يمكن . وقيل : هي نفسُ الشيء المُهْلِك . وقيل : هي ما تَضُرُّ عاقبتُه . والهمزة في « ألقى » للجَعلِ على صفة نحو : أَطْرَدْتُه أي : جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها ، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول ، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول ، كأنه قيل : لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

قوله تعالى : { والعمرة للَّهِ } : الجمهورُ على نصب « العمرة » على العطفِ على ما قبلها و « لله » متعلقٌ بأتِمُّوا ، واللامُ لامُ المفعولِ من أجله . ويجوزُ أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ من الحج والعمرة ، تقديره : أتِمُّوها كائنين لله . وقرأ عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت : « والعمرةُ » بالرفع على الابتداء ، و « لله » الخبر ، على أنها جملةٌ مستأنفةٌ .
قوله : { فَمَا استيسر } ما موصولةٌ بمعنى الذي ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً ، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها في محلِّ نصبٍ أي : فَلْيَهْدِ أو فلينْحَر ، وهذا مذهبُ ثعلب . والثاني : ويُعْزى للأخفش أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : فعليه ما استَيْسر . والثالث : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : فالواجبُ ما استَيْسر واستَيْسر هنا بمعنى يَسَر المجرد كصَعُب واستصعَبَ وغَنِيَ واستغنى ، ويجوزُ أن يكون بمعنى تَفَعَّل نحو : تكَّبر واستكبر ، وتَعَظَّم واستعظم . وقد تقدَّم ذلك في أولِ الكتاب .
والحَصْرُ : المَنْعُ ، ومنه قيل للمَلِك : الحَصِير ، لأنه ممنوعٌ من الناس ، وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنىً أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ بين أهلِ العلمِ . فقال الفراء والزجاج والشيباني إنهما بمعنىً ، يُقالان في المرضِ والعَدُوِّ جميعاً وأنشدوا :
873 وما هَجْرُ ليلى أَنْ تكونَ تباعَدَتْ ... عليكَ ولا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وفَرَّق بعضُهم ، فقال الزمخشري : يقال : أُحْصِر فلانٌ إذا معه أمرٌ من خوف أو مرض أو عجز ، قال تعالى : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] ، وقال ابن ميادة : « وما هَجْرُ ليلى أن تكون تباعَدَتْ » ، وحُصِر إذا حبسه عدوٌّ أو سجن ، هذا هو الأكثرُ في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في كل شيء/ مثل : صَدَّه وأصدَّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضاً فإنه قال : « والمشهورُ من اللغة : أُحْصِر بالمرضِ وحُصِر بالعَدُوِّ . وعكس ابن فارس في » مجمله « فقال » حُصِر بالمرضِ وأُحْصِر بالعَدُوّ « وقال ثعلب : » حُصِر في الحَبْسِ أقوى من أُحْصِر « ، ويقال : حَصِرَ صدرُه أي : ضاق؛ ورجل حَصِر : لا يبوحُ بسرِّه ، قال جرير :
874 وَلَقَد تَكَنَّفني الوُشاةُ فصادَفُوا ... حَصِراً بسرِّك يا أُمَيْمَ حَصُورا
والحَصيرُ معروفٌ لامتناعِ بعضه ببعض ، والحصير أيضاً المِلك كما تقدَّم لاحتجابه . قال لبيد :
875 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... جِنٌّ لدى باب الحصيرِ قِيامُ
قوله : { مِنَ الهدي } فيه وجهان : أحدُهما : أن تكونَ » مِنْ « تبعيضيةً ويكونَ محلُّها النصبَ على الحال من الضمير المستتر في » اسْتَيْسر « العائدِ على » ما « أي : حالَ كَوْنِهِ بعض الهَدْي . والثاني : أن تكون » مِنْ « لبيان الجنس فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أيضاً .
وفي الهَدْي قولان ، أحدُهما : أنه جمعُ هَدْيَة كجَدْي جمع جَدْيَة السَّرْج . والثاني : أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع المفعول أي : المُهْدَى ، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجمعِ .

قال أبو عمرو بن العلاء : « لا أعْرف لهذه اللفظة نظيراً » .
وقرأ مجاهد والزهري : « الهَدِيُّ » بتشديد الياء ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا . والثاني : أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول نحو : قتيل بمعنى مَقْتُول .
و « مَحِلَّه » يجوز أَنْ يَكُونَ ظرفَ مكانٍ أو زمانٍ ، ولم يُقْرَأ إلاَّ بكسرِ الحاءِ فيما عَلِمْتُ إلاَّ أنه يجوزُ لغةً فتحُ حائِه إذا كان مكاناً . وفَرَّق الكسائي بينهما ، فقال : « المكسورُ هو الإِحلالُ من الإِحرامِ ، والمفتوحُ هو مكانُ الحلولِ من الإِحصار » .
وقيل : { مِنكُم } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من « مريضاً »؛ لأنه في الأصل صفةٌ له ، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً . وتكونُ « مِنْ » تبعيضيةً ، أي : فَمَنْ كان مريضاً منكم . والثاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً ، قال الشيخ : « وهو لا يكادُ يُعْقَلُ » . « ومَنْ » يجوز أنْ تكونَ شرطيةً وأَنْ تكونَ موصولةً .
قوله : { أَوْ بِهِ أَذًى } يجوز أَنْ يكونَ هذا من بابِ عَطْفِ المفرداتِ وأن يكون من بابِ عطفِ الجمل : أما الأولُ فيكونُ « به » هذا الجَارُّ والمجرور معطوفاً على « مريضاً » الذي هو خبرُ كان ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ . ويكونُ « أذىً » مرفوعاً به على سبيلِ الفاعليةِ ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد رَفَع الفاعل عند الكل ، فيصيرُ التقديرُ : فَمَنْ كان كائناً به أذى من رأسِهِ . وأما الثاني فيكونُ « به » خبراً مقدَّماً ، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ ، وفي الوجهِ الأولِ كان نصباً ، و « أذىً » مبتدأٌ مؤخَّرٌ ، وتكونُ هذه في محلِّ نصبٍ لأنها عَطفٌ على « مريضاً » الواقع خبراً لكان ، فهي وإنْ كانَتْ جملةً لفظاً فهي في محلِّ مفردٍ ، إذ المعطوفُ على المفردِ مفردٌ ، لا يقال : إنه عاد إلى عطفِ المفرداتِ فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفرقِ . وأجازوا أن يكونَ « أذى » معطوفاً على إضمارِ « كان » لدلالةِ « كانَ » الأولى عليها ، وفي اسمِ « كان » المحذوفَةِ حنيئذٍ احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ ضميرَ « مَنْ » المتقدمة ، فيكونُ « به » خبراً مقدماً ، و « أذى » مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لكان المضمرةِ . والثاني : أن يكونَ « أذى » ، و « به » خبرَها ، قُدِّم على اسمِها .
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « أو به أذى » معطوفاً على « كان » ، وأَعْرَبِ « به » خبراً مقدماً متعلِّقاً بالاستقرارِ ، و « أذى » مبتدأ مؤخراً ، والهاءُ في « به » عائدةٌ على مَنْ . وهذا الذي قاله خَطَّأَهُ الشيخُ فيه ، قال : « لأنه كان قد قَدَّمَ أن » مَنْ « شرطيةُ ، وعلى هذا التقدير يكون خطأ ، لأن المعطوفَ على جملةِ الشرط شرطٌ والجملةُ الشرطيةُ لا تكونُ إلا فعليةً ، وهذه كما ترى جملةُ اسميةٌ على ما قَرَّرَهُ .

فكيف تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ التي يجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل : فإذا جَعَلْنَا « مَنْ » موصولةً فهل يَصِحُّ ما قاله من كون « به أذى » معطوفاً على « كان »؟ فالجوابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ « مَنْ » الموصولةَ إذا ضَمِّنَتْ معنى اسم الشرطَ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جملةً فعليةً أو ما هي في قوتها « . والباءُ في » به « يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ للإِلصاق ، والثاني : أن تكونَ ظرفيةً .
قولُهُ : { مِّن رَّأْسِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه في محلِّ رفع لأنه صفةٌ لأذى ، أي أذى كائنٌ من رأسِهِ . والثاني : أن يتعلَّق بما يتعلَّقُ » به « من الاستقرارِ ، وعلى كلا التقديرين تكونُ » مِنْ « لابتداءِ الغاية .
قوله : { فَفِدْيَةٌ } في رفعها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ مبتدأً والخبرُ محذوفٌ ، أي : فعليه فديةٌ . والثاني : أنْ تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف أي : فالواجبُ عليه فديةٌ . والثالثُ : أن يكونَ فاعلَ فعلٍ مقدَّر أي : فَتَجِبُ عليه قديةُ . وقُرىء شاذاً : » فَفِدْيَةً « نصباً ، وهي على إضمارِ فعلٍ أي : فَلْيَفْدِ فديةً . و » مِنْ صيام « في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حسب القراءتين صفةً ل » فدية « ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و » أو « للتخيير ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفاء تقديرهُ : فَخَلقَ فَفِدْيَة .
وقرأ الحسنُ والزهري » نُسْك « بسكون السين ، وهو تخفيفُ المضموم . والأذى مصدرٌ بمعنى الإِيذاء وهو الألمُ ، يقال : آذاه يُؤْذِيه إيذاءً وأذى ، فكأنَّ الأذى مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد أواسمُ مصدرٍ كالعطاء اسم للإِعطاء ، والنبات للإِنبات .
وفي النُّسُك قولان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ يقال : نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضم ، والإِسكان كما قرأه الحسن . والثاني : أنه جمع نَسِيكة ، قال ابن الأعرابي : » النَّسيكة في الأصل سَبيكة الفضة ، وتُسَمَّى العبادةُ بها لأنَّ العبادة مُشْبِهَةٌ سبيكة الفِضَّة في صفائها وخُلوصِها من الآثام ، وكذلك سُمِّي العابدُ ناسكاً ، وقيل للذَّبِيحة « نَسِيكة » لذلك « .
قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } الفاءُ عاطفةٌ على ما تقدَّم ، و » إذا « منصوبةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التقديرَ : فعليه ما اسْتَيْسَرَ ، أي . فاستقرَّ عليه ما استيسر .
وقوله : { فَمَن تَمَتَّعَ } الفاءُ جوابُ الشرطِ بإذا ، والفاءُ في قولِهِ : » فما استيْسَرَ « جوابُ الشرطِ الثاني . ولا نعلمُ خلافاً أنه يقعُ الشرطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ . وقد تقدَّم الكلامُ في » فما استَيْسَرَ « / فأغنى عن إعادته .
قوله : { فَصِيَامُ } في رفعِه الأوجهُ الثلاثةُ المذكورةُ في قولِهِ : » فَفِدْيَةٌ « .

وقرىء « فصيام » نصباً ، على تقديرِ فَلْيَصُمْ ، وأُضيف المصدرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً ، وهو في اللفظِ مفعولٌ به على السَّعِةِ . و « في الحج » متعلقٌ بصيام . وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي : في وقتِ الحَجِّ . ومنهم مَنْ قَدَّر مضافين ، أي : وقتَ أفعالِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرفَ مكانٍ أي : مكانَ الحج ، ويترتَّب على ذلك أحكامٌ .
قوله : { وَسَبْعَةٍ } الجمهورُ على جَرِّ « سبعة » عطفاً على ثلاثة . وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة : « وسبعةً » بالنصب . وفيها تخريجان ، أحدهما : قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفاً على محلَّ « ثلاثة » كأنه قيل : فصيامُ ثلاثة ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، يعني أن المضافَ إليه المصدرُ منصوبٌ معنى بدليلِ ظهورِ عملِ المُنَوَّنِ النصبَ في « يتيماً » . والثاني : أن ينتصبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : « فَلْيَصُومُوا » ، قال الشيخ : « وهذا مُتَعَيَّنٌ ، لأنَّ العطفَ على الموضعِ يُشْتَرَطُ فيه وجودُ المُحْرِزِ » يعني على مذهب سيبويه .
قوله : { إِذَا رَجَعْتُمْ } منصوبٌ بصيام أيضاً ، وهي هنا لِمَحْضِ الظرفِ ، وليس فيها معنى الشرط . لا يقال : يَلْزَمُ أن يعملَ عامِلٌ واحدٌ في ظرفي زمان ، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطفِ والبدلِ ، وهنا يكونُ عَطَفَ شيئين على شيئين ، فَعَطَفَ « سبعةٍ » على « ثلاثة » وعطف « إذا » على « في الحج » .
وفي قوله : { رَجَعْتُمْ } شيئان : أحدُهما التفاتٌ ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى ، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبلَه « فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ » فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على « مَنْ » ، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل : « إذا رجع » بضميرِ الغَيْبَةِ . وأمَّا الحملُ : فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى « منْ » ، ولو راعى اللفظَ لأفردَ ، فقال : « رَجَعَ » .
وقوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ } مبتدأ وخبرٌ ، والمشارُ إليه هي السبعةُ والثلاثةُ ، ومميِّزُ السبعةِ والعشرةِ محذوفٌ للعلمِ به . وقد أثبت تاءَ التأنيثِ في العددِ مع حَذْفِ التمييزِ ، وهو أحسنُ الاستعمالَيْنِ ، ويجوزُ إسقاطُ التاءِ حينئذٍ ، وفي الحديث : « وأَتْبَعَهُ بستٍ من شوال » ، وحكى الكسائي : « صُمْنَا من الشهرِ خمساً »
وفي قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ } - مع أن من المعلوم أن الثلاثةَ والسبعة عشرة - أقوالٌ كثيرةٌ لأهلِ المعاني ، منها قولُ ابن عرفة : « العرب إذا ذكرت عددين ، فمذهبُهم أن يُجملوهما » ، وحَسَّن هذا القولَ الزمخشري بأَنْ قال : « فائدةُ الفَذْلَكَةِ في كل حساب أن يُعْلَمَ العددُ جملةً كام يُعْلَمُ تفصيلاً ، لِيُحْتَاط به من جهتين فيتأكَّد العِلمُ ، وفي أمثالهم » علمان خيرٌ من علم « . قال ابن عرفة : » وإنما تَفْعَلُ العربُ ذلك لأنَّها قليلةُ المعرفة بالحساب ، وقد جاء : « لا نَحْسُب ولا نكتُب »

، وَوَرَدَ ذلك في أشعارِهِم ، قال النابغة :
876 تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفَتُها ... لستةِ أيامٍ وذا العامُ سابعُ
وقال الفرزدق :
877 ثلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ ... وسادسةٌ تَميلُ إلى شَمَام
وقال الأعشى :
878 ثلاثٌ بالغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبي ... وسِتٌّ حين يُدْرِكُني العِشاءُ
فذلك تِسْعَةٌ في اليومِ رِيِّي ... وشُرْبُ المرءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ
وقال آخر :
879 فَسِرْتُ إليهمُ عِشْرِينَ شهراً ... وأربعةً فذلك حِجَّتانِ
وعن المبرد : « فتلك عشَرَةٌ : ثلاثةٌ في الحج وسبعةٌ إذا [ رجعتم ] فَقَدَّم وأخَّر » ، ومثله لا يَصِحُّ عنه . وقال ابن الباذش : « جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها ، لا أنها هي الخبرُ المستقلُّ بفائدةِ الإِسناد كما تقول : » زيدٌ رجل صالح « يعني أن المقصودَ الإِخبارُ بالصلاح ، وجيء برجلٍ توطئةً ، إذ معلومٌ أنه رجل . وقال الزجاج » جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازِ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثلاثةً أو سبعةً؛ لأنَّ الواوَ قد تقوم مَقامَ أو ، ومنه : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] فأزال احتمالَ التخيير ، وهذا إنما يتمشَّى عند الكوفيين ، فإنهم يُقيمون الواوَ مُقامَ أو . وقال الزمخشري : « الواوُ قد تجيء للإِباحةِ في قولِك : » جالس الحسنَ ابن سيرين « ألا ترى أنه لو جالَسَهما معاً أو أحدَهما كان ممتثلاُ فَفُذْلِكَتْ نفياً لِتَوَهُّم الإِباحة » قال الشيخ : « وفيه نظرٌ لأنه لا تُتَوَهَّمُ الإِباحه ، فإنَّ السياق سياقُ إيجاب ، فهو ينافي الإِباحة ، ولا ينافي التخييرَ ، فإن التخييرَ يكون في الواجبات ، وقد ذكر النحويون الفرقَ بين التخييرِ والإِباحةِ » .
قوله : { ذلك لِمَن } « ذلك » مبتدأٌ ، والجارُّ بعدَه الخبرُ . وفي اللامِ قولان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها ، أي ذلك لازمٌ لِمَنْ . والثاني : أنها بمعنى على ، كقولِهِ : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله } ، [ البقرة : 161 ] ولا حاجةَ إلى هذا . و « مَنْ » يجوز أن تكونَ موصولةً وموصوفةً . و « حاضري » خبرُ « يكن » وحُذِفَت نونُه للإِضافة و « شديدُ العقاب » من باب إضافةِ الصفةِ المشبهة إلى مرفوعها ، وقد تقدَّم أن الإِضافة لا تكون إلا مِنْ نَصْبِ ، والنصبُ والإِضافةُ أبلغُ من الرفعِ؛ لأن فيها إسنادَ الصفةِ للموصوفِ ثم ذكر مَنْ هي له حقيقةٌ ، والرفعُ إنما فيه إسنادُها لمَنْ هي له حقيقةٌ ، دونَ إسنادٍ إلى موصوف .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ } : « الحَجُّ » مبتدأ و « أشهرٌ » خبرهُ ، والمبتدأ والخبرُ لا بد أَنْ يَصْدُقَا على ذاتٍ واحدة ، و « الحَجُّ » فِعْلٌ من الأفعال ، و « أشهرٌ » زمانٌ ، فهما غَيْران ، فلا بُدَّ من تأويل ، وفيه ثلاثةُ احتمالاتٍ ، أحدُهما : أنه على حَذْف مضافٍ من الأول ، تقديره : أشهرُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ . الثاني : الحَذْفُ من الثاني تقديرُه : الحَجُّ حَجُّ أشهرٍ ، فيكونُ حَذَفَ من كلِّ واحدٍ ما أَثْبَتَ نظيرَهُ . الثالث : ان تَجْعَلَ الحدثَ نفسَ الزمانِ مبالغةً ، ووجهُ المجازِ كونُه حالاً فيه ، فلما اتُّسِعَ في الظرفِ جُعِلَ نفسَ الحدثِ ، ونظيرُها : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] / وإذا كان ظرفُ الزمانِ نكرةً مُخْبَراً به عن حَدَثٍ جاز فيه الرفعُ والنصبُ مطلقاً ، أي : سواءً كان الحدث مستوعباً للظرفِ أم لا ، هذا مذهبُ البصريين .
وأمَّا الكوفيون فقالوا : إنْ كانَ الحدثُ مستوعباً فالرفعُ فقط نحو : « الصومُ يومٌ » وإن لم يكن مستوعباً فهشام يلتزم رفعَه أيضاً نحو : « ميعادُك يومُ » والفراءُ يجيز نصبَهُ مثلَ البصريين ، وقد نُقِلَ عنه أنه مَنَع نصْبَ « أشهر » يعني في الآية لأنها نكرةٌ ، فيكونُ له في المسألة قولان ، وهذه المسألةُ بعيدةُ الأطرافِ تضُمُّها كتبُ النحويين . قال ابن عطية : « ومَنْ قَدَّر الكلامَ : [ الحج ] في أشهر فيلزَمُهُ مع سقوطِ حرفِ الجر نصبُ الأشهر ، ولم يقرأ به أحدٌ » قال الشيخ : « ولا يلزم ذلك ، لأنَّ الرفعَ على جهةِ الاتساعِ ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ بفي » .
قوله : { فَمَنْ } : « مَنْ » يجوزُ فيها أن تكون شرطيةً ، وأَنْ تكونَ موصولةً كما تقدَّم في نظائرها ، و « فيهن » متعلِّقٌ ب « فَرَضَ » ، والضميرُ في « فيهن » يعودُ على « أشهر » ، وجيء به كضمير الإِناث لما تَقَدَّم مِنْ أَنَّ جمعَ غير العاقلِ في القلَّةِ يُعامَل معاملةَ جمْعِ الإِناثِ على الأفصحِ ، فلذلك جاء « فيهنَّ » دونَ « فيها » ، وهذا بخلافِ قولِهِ { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] لأنه هناك جمعُ كثرة .
قوله : { فَلاَ رَفَثَ } الفاءُ : إمَّا جوابُ الشرطِ ، وإمَّا زائدةٌ في الخبرِ على حَسَبِ النحويين المتقدمين . وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين « رفث » و « فُسوق » ورفعِهما وفتحِ « جدال » ، والباقون بفتح الثلاثة ، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين ، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين .
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان ، أظهرُهما : أنَّ « لا » ملغاةٌ وما بعدها رفعٌ بالابتداء ، وسَوَّغ الابتداء بالنكرةِ تقدُّم النفيِ عليها . و « في الحجّ » خبرُ المبتدأ الثالث ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثاني لدلالةِ خبرِ الثالثِ عليهما ، أو يكونُ « في الحج » خبرَ الأول ، وحُذِفَ خبرُ الثاني والثالث لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « في الحج » خبرَ الثلاثة .

ولا يجوزُ أن يكونَ « في الحج » خبرَ الثاني ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثالثِ لقُبْحِ مثل هذا التركيب ، ولتَأْدِيَتِهِ إلى الفَصْلِ .
والثاني : أن تكون « لا » عاملَةً عملَ ليس ، ولعملِها عملَها شروطٌ : تنكيرُ الاسم ، وألاّ يتقدَّم الخبرُ ولا ينتقض النفيُ ، فيكونُ « رفث » اسمَها وما بعدَه عطفٌ عليه ، و « وفي الحجِّ » الخبرُ على حسَبِ ما تقدَّم من التقادير فيما قبلَه . وابنُ عطية جَزَمَ بهذا الوجهِ ، وهو ضعيفٌ لأنَّ إعمالَ « لا » عَمَلَ ليس لم يَقُمْ عليه دليلٌ صريحٌ ، وإنما أنشدوا أشياءَ محتملةً ، أنشد سيبويه :
880 مَنْ صَدَّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ
وأنشد غيره :
881 تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا ... ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِيَا
وقول الآخر :
882 - أَنْكَرْتُها بعد أعوامٍ مَضَيْنَ لها ... لا الدارُ داراً ولا الجيرانُ جيرانا
وأنشدَ ابنُ الشجري :
883 وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً ... سِواها ولا في حُبِّها متراخِيا
والكلامُ في هذه الأبيات له موضعٌ غيرُ هذا .
وأمَّا مَنْ نَصَبَ الثلاثةَ منونةً فتخريجُها على أن تكونَ منصوبة على المصدرِ بأفعالٍ مقدرةٍ من بفظِها ، تقديرُه : فلا يَرْفُثُ رَفَثَاً ولا يَفْسُقُ فُسوقاً ولا يجدال جِدالاً ، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها ، وإنما هي نافيةٌ للجمل المقدرة ، و « في الحجِّ » متعلِّقٌ بأيِّ المصادرِ الثلاثةِ شِئْتَ ، على أن المسألة من التنازعِ ، ويكونُ هذا دليلاً على تنازع أكثرَ مِنْ عاملين ، وقد يمكنُ أن يُقَال : إن هذه « لا » هي التي للتبرئِة على مَذْهَبِ مَنْ يرى أنَّ اسمهَا معربٌ منصوب ، وإنما حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً ، فروجعُ الأصلُ في هذه القراءة الشاذةِ كما روجع في قوله :
884 ألا رجلاً جَزاه اللهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحريرُ هذا المذهبِ .
وأمَّا قراءةُ الفتحِ في الثلاثةِ فهي « لا » التي للتبرئةِ . وهل فتحةُ الاسمِ فتحةُ إعرابٍ أم بناءٍ؟ قولان ، الثاني للجمهورِ . وإذا بُني معها فهل المجموع منها ومن اسمِها في موضعِ رفعٍ بالابتداء ، وإن كَانَتْ عاملةً في الاسمِ النصبَ على الموضع ولا خبرَ لها؟ أو ليس المجموعُ في موضعِ مبتدأ ، بل « لا » عاملةٌ في الاسمِ النصبَ على الموضعِ وما بعدها خبرٌ ل « لا » ، لأنها أُجْرِيَتْ مُجْرى « أنَّ » في نصبِ الاسمِ ورفعِ الخبر؟ قولان ، الأولُ قولُ سيبويه ، والثاني قولُ الأخفش . وعلى هذين المذهبين يترتَّب الخلافُ في قوله « في الحج » فعلى مذهبِ سيبويه يكونُ في موضعِ خبرِ المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش يكونُ في موضعِ خبرِ « لا » ، وقد تقدَّم ذلك أولَ الكتابِ ، وإنما أُعيدُ بعضَه تنبيهاً عليه .

وأمَّا مَنْ رفع الأوَّلَيْن وفتحَ الثالث : فالرفعُ على ما تقدَّم ، وكذلك الفتحُ ، إلا أنه ينبغي أَنْ يُتَنَبَّه لشيءٍ : وهو أنَّا إذا قلنا بمذهبِ سيبويه من كونِ « لا » وما بُني معها في موضعِ المبتدأ يكونُ « في الحج » خبراً عن الجميع ، إذ ليس فيه إلا عَطْفُ مبتدأٍ على مبتدأ . وأمَّا على مذهبِ الأخفشِ فلا يجوز أن يكونَ « في الحج » إلا خبراً للمبتدأيْنِ أو خبراً ل « لا » . ولا يجوزُ أن يكونَ خبراً للكلِّ لاختلافِ الطالبِ ، لأنَّ المبتدأ يَطْلُبه خبراً له ولا يطلبُه خبراً له .
وإنما قُرِىء كذلك ، قال الزمخشري : « لأنهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ ، والثالِثُ على معنى الإِخبار بانتفاءِ الجدال ، كأنه قيل : ولا شكَّ ولا خلافَ في الحج » واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفثُ والفسوقُ دونَ الجدالِ بقولِه عليه السلام : « مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ » وأنه لم يَذْكُرِ الجدالَ . وهذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحبُ هذه القراءة ، إلا أنه أفصحَ عن مرادِه ، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها - : الرفعُ بمعنى فلا يكونُ رفثٌ ولا فسوقٌ؛ أَيْ شيءٌ يَخْرُج من الحَجِّ ، ثم ابتدأ النفيَ فقال : « ولا جدالَ » ، فأبو عمرو لم يجعل النفيَيْن الأوَّلَيْن نهياً ، بل تركهما على النفي الحقيقي؛ فمِنْ ثَمَّ كان في قولِه هذا نظرٌ؛ فإنَّ جملة النفيِ بلا التبرئةِ قد يرادُ بها النهيُ أيضاً ، وقيل ذلك في قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] . والذين يظهر في الجوابِ عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : « وقيل : الحُجَّةُ لمَنْ رفعهما أنَّ النفي فيهما ليس بعامٍّ ، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعضِ الناسِ بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عامٌّ . . . » وهذا يتمشَّى على عُرْفِ النحويين فإنهم يقولون : لا العاملةُ عملَ « ليس » لنفي الوَحْدة ، والعاملةُ عملَ « إنَّ » لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يُقال : لا رجلَ فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت ، ولا يَحْسُن ذلك إذا بَنَيْتَ اسمَها أو نَصَبْتَ بها . وتوسَّط بعضُهم فقال : التي للتبرئة نصٌّ في العمومِ ، وتلك ليست نَصَّاً ، والظاهرُ أنَّ النكرةَ في سياق النفي مطلقاً للعموم .
وقد تقدَّم معنى الرَّفَثِ والفِسْق . وقرأ عبد الله « الرَّفُوث » وهو مصدر بمعنى الرَّفث .
وقوله : { فَلاَ رَفَثَ } وما في حَيِّزه في محلِّ جَزْمٍ إن كانت « مَنْ » شرطيةٌ ، ورفع إن كانت موصولةً ، وعلى كِلا التقديرين فلا بُدَّ من رابطٍ يَرْجِع إلى « مَنْ »؛ لأنها إنْ كانَتْ شرطيةً فقد تقدَّم أنه لا بد من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرط ، وإنْ كانت موصولةً فهي مبتدأٌ والجملةُ خبرُها ولا رابطَ في اللفظِ ، فلا بدَّ من تقديرِه وفيه احتمالان ، أحدُهما : أن تقدِّره بعد « جدال » تقديرُه : ولا جدالَ منه ويكون « منه » صفةً ل « جدال » ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، فيصيرُ نظيرَ قولِهم : « السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم » تقديره : منوانِ منه .

والثاني : أنْ يُقَدَّرَ بعد الحج « تقديره : ولا جدالَ في الحجِّ منه ، أو : له . ويكونُ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من » الحج « . وللكوفيين في هذا تأويلٌ آخرُ/ وهو أنَّ الألفَ واللامَ نابت منابَ الضميرِ ، والأصلُ : في حَجِّه ، كقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 40 ] ثم قال : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مَأْواه .
وكَرَّر الحجَّ وَضْعاً للظاهر موضعَ المضمر تفخيماً كقوله :
885 لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكأنَّ نظمَ الكلام يقتضي : » فَمَنْ فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَث فيه « ، وحَسَّنَ ذلك في الآيةِ الفصلُ بخلاف البيت .
والجِدال مصدر » جادَلَ « . والجدالُ : أشدُّ الخصام مشتقٌّ من الجَدالة ، وهي الأرض؛ كأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلَيْن يرمي صاحبه بالجَدالَةِ ، قال الشاعر :
886 قد أَرْكَبُ الآلَةَ بعدَ الآلَهْ ... وأترُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ
ومنه : » الأجْدل « الصقر ، لشِدَّته . والجَدْلُ فَتْلُ الحَبْل ، ومنه : زِمامٌ مجدولٌ أي مُحْكَمُ الفَتْلِ .
قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } تقدَّم الكلامُ على نظيرتها ، وهي : { مَا نَنسَخْ } ، فكلُّ ما قيلَ ثَمَّ يُقال هنا . قال أبو البقاء : » ونزيدُ هنا وجهاً آخرَ : وهو أن يكونَ « منْ خير » في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديرُه : وما تفعلوا فعلاً كائناً مِنْ خيرٍ « .
و » يَعْلَمْه « جزمٌ على جوابِ الشرطِ ، ولا بُدَّ من مجازٍ في الكلام : فإمَّا أن يكون عَبَّر بالعلمِ عن المُجازاة على فِعْلِ الخير ، كأنه قيل : يُجازِكم ، وإمَّا أَنْ تُقَدِّر المجازاةَ بعد العلمِ أي : فيثيبه عليه .
وفي قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ } التفاتٌ؛ إذ هو خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ في قولِه : » فَمَنْ فَرَض « . وحُمِلَ على معنى » مَنْ « إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرِدْه .
وقد خَبَط بعضُ المُعْرِبين فقال : » مِنْ خير « متعلقٌ بتَفْعلوا ، وهو في موضعِ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقدرُه : » وما تفعلوه فعلاً مِنْ خير « والهاءُ في » يَعْلَمْه « تعودُ إلى » خير « . وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه من حيثُ عَلَّقه بالفعلِ قبلَه كيف يَجْعَلُه نعت مصدرٍ محذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعود إلى » خير « يلزم منه خلوُّ جملةِ الجوابِ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ ، وذلك لا يجوز أمَّا لو كانَتْ أداةُ الشرط حرفاً فلا يُشْترط فيه ذلك فالصوابُ ما تقدَّم . وإنما ذكرتُ لك هذا لئلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه . والهاءُ عائدةٌ على » ما « التي هي اسمُ الشرط . وألفُ » الزاد « منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم : تَزَوَّدَ .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ } : « أَنْ » في محلِّ نصبٍ عند سيبويه والفراء ، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأخفش؛ لأنَّها على إضمار حرفِ الجَرِّ ، في أَنْ ، وهذا الجارُّ متعلَّقٌ : إمَّا بجُناحِ لما فيه من معنى الفعلِ وهو الميلُ والإِثمُ ، وما كانَ في معناهما ، وإمَّا بمحذوفٍ ، لأنه صفةٌ ل « جُناح » ، فيكونُ مرفوعَ المحلِّ أي : جناحٌ كائنٌ في كذا . ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلقٌ ب « ليس » ، واستضعفه ، ولا ينبغي ذلك ، بل يُحْكَمُ بتخطئتِه البتة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا ، وأن يكونَ صفةً ل « فضلاً » ، فيكونُ منصوبَ المحل ، متعلقاً بمحذوفٍ . و « مِنْ » في الوجهين لابتداءِ الغاية ، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي : فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم .
قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم } العاملُ فيها جوابُها وهو « فاذكروا » قال أبو البقاء . « ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ » . وقد منع الشيخ مِنْ ذلك بِما معناه أنَّ مكانَ إنشاء الإِفاضة غيرُ مكانِ الذكر؛ لأنَّ ذلك عرفات وهذا المَشْعَرَ الحرام ، وإذا اختلف المكانُ لزم منه اختلافُ الزمانِ ضرورةً ، فلا يجوزُ أَنْ يكونَ الذكر عند المشعر الحرام واقعاً عند إنشاء الإِفاضة .
قوله : { مِّنْ عَرَفَاتٍ } متعلِّقٌ ب « أَفَضْتُم » والإِفاضةُ في الأصل : الصبُّ ، يقال : فاضَ الماء وأَفَضْتُه ، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً . والهمزة في « أَفَضْتُم » فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم ، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري ، وقَدَّره الزجاج فقال : « معناه : دَفَع بعضُكم بعضاً » . والثاني : أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به . قال الشيخ : « لأنه لا يُحفظ : أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه ، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة .
وأصل أَفَضْتُم : أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره ، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ لك ، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم : فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ .
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل؟ قولان أحدهما : أنه مرتجلٌ وإليه ذهب الزمخشري قال : » لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عارف « . والثاني : أنه مشتقٌّ ، واختُلِفَ في اشتقاقه ، فقيل : من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال : عَرَفْتُ عَرَفْتُ ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما سارةُ في غَيْبته فوجَدهما بها ، أو لأنَّ آدم عَرَف بها حواء .

وقيل : مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة ، وقيل : من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك ، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد . وقيل : عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان ، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال ، أظهرُها : أنه تنوينُ مقابلةٍ ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع/ الذكور ، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين ، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب . والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : « فإن قلت : فهلاَّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان : التعريفُ والتأنيثُ . قلت : لا يخلو التأنيثُ : إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها وإما بتاء مقدرة كما في » سعاد « فالتي في لفظِها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث ، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها ، لأنَّ [ هذه ] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها » فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ . والثالث : أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعٌ مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلاَّ فللصرفِ كعرفات .
والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين : الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً ، وفيه لغة ثانية : وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً وإعرابُه بالكسرةِ نصباً . والثالثة : إعرابُه غيرَ منصرف بالفتحة جراَ ، وحكاها الكوفيون والأخفش ، وأنشدَ قول امرىء القيس :
887 تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها ... بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي
بالفتح .
قوله : { عِندَ المشعر الحرام } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ باذكروا . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ « اذكروا » أي : اذكروه كائنين عند المشعِر .
قوله : { كَمَا هَدَاكُمْ } فيه خمسةُ أقوالٍ ، أحدُها : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة ، وهذا تقدير الزمخشري . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ ، وهو مذهبُ سيبويه . والثالث : أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجلِ هدايته إياكم ، حكى سيبويه « كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه » . ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ .
و « ما » في « كما » يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ مصدريةً ، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ ، أي : كهدايته . والثاني : - وبه قال الزمخشري وابن عطية - أن تكونَ كافةً للكافِ عن العملِ ، فلا يكونُ للجملة التي بعدها محلُّ من الإِعرابِ ، بل إنْ وَقَع بعدَها اسمٌ رُفِعَ على الابتداء كقوله :

888 ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه ... كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ
وقال آخر :
889 لعمرك إنني وأبا حميدٍ ... كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ
أريد هجاءَه وأخاف ربي ... وأعلم أنه عبدٌ لئيم
وقد منع صاحبُ « المستوفى » كونَ « ما » كافةً للكافِ ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم .
والرابع : أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل « اذكروا » تقديرُه : مُشْبِهين لكم حين هداكم . قال أبو البقاء : « ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ . والخامس : أن تَكونَ الكافُ بمعنى » على « كقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] .
قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } : » إنْ « هذه هي المخففةُ من الثقيلة ، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ ، وجازَ دخولُ » إنْ « على الفعل لأنه ناسخٌ . وهل هذه اللامُ لام الابتداءُ التي كانت تصحبُ » إنَّ « أو لامٌ أخرى غيرُها ، اجتُلِبَتْ للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فالفراءُ يزعم أنها بمعنى » إنْ « النافية واللامُ بمعنى إلاَّ أي : ما كنتم من قبلِه إلا من الضالين ، ومذهبُ الكسائي التفصيلُ : بين أنْ تدخُلَ على جملةٍ فعليةٍ فتكونَ » إنْ « بمعنى قد ، واللامُ زائدة للتوكيدِ وبين أن تدخلَ على جملةٍ اسمية فتكون كقولِ الفراء ، وقد تقدَّم طرفٌ من هذه الأقوال .
و » من قبله « متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه » لمن الضالين « ، تقديرُه : كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين . ولا يتعلَّق بالضالِّين بعده ، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف ، وقد تقدم تحقيقه . والهاء في » قبله « عائدةٌ على » الهدى « المفهومِ من قوله » كما هداكم .

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...