ج9. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وقوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ } : يجوز في هذا الموصول أن يكون مرفوعاً على النعت للموصول ، وعلى البدل ، أو على البيان له ، وأن يكون منصوباً على القطع المُشْعِر بالمدح . وقوله : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } : التقديمُ يفيدُ الاختصاصَ أي : عليه لا على غيره . وهذه الجملةُ يُحتمل أن يكون لها محلٌّ من الإِعراب وهو النصبُ على الحال مِنْ مفعول « زادَتْهم » ويُحتمل أن تكونَ مستأنفةً ، ويحتمل أن تكون معطوفةً على الصلة قبلها فتدخلَ في حَيِّزِ الصلاتِ المتقدمةِ ، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ لها من الإِعراب .
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قوله
تعالى : { حَقّاً } : يجوز أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوف أي : هم المؤمنون إيماناً
حقاً . ويجوز أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولك : هو عبد الله حقاً ،
والعاملُ فيه على كلا القولين مقدَّرٌ أي : أحقُّه حقاً . ويجوز وهو ضعيف جداً أن
يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي « لهم درجات » ويكون الكلامُ قد
تمَّ عند قوله « هم المؤمنون » ثم ابتدئ ب « حقاً » لهم درجات « . وهذا إنما يجوز
على رأيٍ ضعيف ، أعني تقديمَ المصدرِ المؤكِّد/ لمضمون جملة عليها .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } يجوز أن يكونَ متعلقاً ب » درجات « لأنها بمعنى » أُجُورٌ
« ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل » درجات « أي : استقرَّت عند ربهم ، وأن
يتعلَّق بما تعلَّق به » لهم « من الاستقرار .
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
قوله
تعالى : { كَمَآ أَخْرَجَكَ } : فيه عشرون وجهاً : أحدها : أن الكافَ نعتٌ لمصدر
محذوف تقديره : الأنفالُ ثابتةٌ لله ثبوتاً كما أخرجك أي : ثبوتاً بالحق كإخراجك
من بيتك بالحق ، يعني أنه لا مِرْيَةَ في ذلك . الثاني : أن تقديره : وأصلحوا ذاتَ
بينكم إصلاحاً كما أخرجك . وقد التفت من خطابِ الجماعةِ إلى خطاب الواحد . الثالث
: تقديرُه : وأطيعوا اللهَ ورسولَه طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك أي : كما أن
إخراج الله إياك لا مِرْيَةَ فيه ولا شبهة . الرابع : تقديرُه : يتوكلون توكلاً
حقيقياً كما أخرجك ربك . الخامس : تقديره : هم : المؤمنون حقاً كما أخرجك فهو صفة
ل « حقاً » .
السادس : تقديره : استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك .
السابع : أنه متعلقٌ بما بعده تقديره : يجادلونك مجادلةً كما أخرجك ربك . الثامن :
تقديرُه : لكارهون كراهيةً ثابتة كما أخرجك ربك أي : إن هذين الشيئين : الجدالَ
والكراهيةَ ثابتان لا محالة ، كما أن إخراجك ثابت لا محالة . التاسع : أن الكافَ
بمعنى إذ ، و « ما » مزيدة . التقدير : اذكر إذ أخرجك . وهذا فاسدٌ جداً إذ لم
يَثْبُتْ في موضعٍ أن الكاف تكون بمعنى إذ ، وأيضاً فإنَّ « ما » لا تُزادُ إلا في
مواضعَ ليس هذا منها .
العاشر : أن الكاف بمعنى واو القسم و « ما » بمعنى الذي ، واقعةٌ على ذي العلم
مُقْسَماً به ، وقد وقعت على ذي العلم في قوله : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [
الشمس : 5 ] { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] والتقدير : والذي أخرجك
، ويكون قوله « يجادلونك » جوابَ القسم . وهذا قول أبي عبيدة . وقد ردَّ الناس
عليه قاطبةً . وقالوا : كان ضعيفاً في النحو ، ومتى ثبت كونُ الكافِ حرفَ قسمٍ
بمعنى الواو؟ وأيضاً فإن « يجادلونك » لا يَصِحُّ كونُه جواباً؛ لأنه على مذهب
البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً وَجَب فيه شيئان : اللام وإحدى النونين ، نحو {
لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً } [ يوسف : 32 ] ، وعند الكوفيين : إمَّا اللامُ
وإمَّا إحدى النونين ، و « يجادلونك » عارٍ عنهما .
الحادي عشر : أن الكاف بمعنى على ، و « ما » بمعنى الذي والتقدير : امْضِ على الذي
أخرجَك . وهو ضعيفٌ لأنه لم يثبتْ كونُ الكاف بمعنى « على » البتةَ إلا في موضعٍ
يحتمل النزاع كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] أي على هدايته
إياكم . الثاني عشر : أن الكافَ في محل رفع ، والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا
الله ، كأنه ابتداءٌ وخبر . قال ابن عطية : « وهذا المعنى وَضَعه هذا المفسِّر ،
وليس من ألفاظ الآية في وِرْدٍ ولا صَدَر » .
الثالث عشر : أنها في موضعِ رفعٍ أيضاً والتقدير : لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة
ورزق كريم ، هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك . وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر ، ولو صَرَّح
بذلك لم يلتئم التشبيهُ ولم يَحْسُنْ .
الرابع
عشر : أنها في موضع رفعٍ أيضاً . والتقدير : وأصلِحوا ذاتَ بينكم ذلكم خيرٌ لكم
كما أخرجك ، فالكاف في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف . وهو ضعيف لطول الفصل بين
قوله : « وأَصْلِحوا » وبين قوله « كما أَخْرَجَك » .
الخامس عشر : أنها في محل رفع أيضاً على خبر ابتداء مضمر والمعنى : أنه شبَّه
كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروجَ قريشٍ
للدفع عن أبي سفيان وحِفْظِ عِيره بكراهيتهم لنزع الغنائم مِنْ أيديهم وجَعْلِها
لله ورسوله يَحْكم فيها ما يشاء . واختار الزمخشري هذا الوجهَ وحَسَّنه ، فقال : «
يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره : هذه الحالُ كحالِ إخراجك .
يعني أن حالَهم في كراهة ما رأيت من تَنْفيل الغزاة مثلُ حالهم في كراهة خروجهم
للحرب » وهذا الذي حَسَّنه الزمخشري هو قول الفراء وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدَّم
مِن الألفاظ فإن الفراء قال : « هذه الكاف شَبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من
بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال » .
السادس عشر : أنها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً/ وقد حُذف ذلك المبتدأ وخبره . والتقدير
: قِسْمتك الغنائمَ حقٌّ كما كان إخراجُك حقاً . السابع عشر : أنَّ التشبيه وقع
بين إخراجين أي : إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كارهٌ لخروجك ، وكان عاقبة
ذلك الإِخراج النصرَ والظفرَ كإخراجه إياك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ ، يكون
عقيبَ ذلك الخروجِ الظفرُ والنصر والخير كما كانت عقيبَ ذلك الخروجِ الأول .
الثامن عشر : أن تتعلق الكاف بقوله « فاضربوا » . وبَسْطُ هذا على ما قاله صاحب
هذا الوجه : الكاف للتشبيه على سبيل المجاز ، كقول القائل لعبده : « كما رَجَعْتك
إلى أعدائي فاستضعفوك وسألتَ مدداً فَأَمْدَدْتُك وأَزَحْتُ عِلَلك فَخُذْهم الآن
وعاقِبْهم كما أَحْسَنْتُ إليك وأَجْرَيْتُ عليك الرزق فاعملْ كذا واشكرْني عليه ،
فتقدير الآية : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغَشَّاكم النعاسَ أمَنَةً منه ،
وأنزل عليكم من السماء ماءً ليطَهِّرَكم به ، وأنزل عليكم من السماء ملائكة
مُرْدفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان ، كأنه يقول : قد أَزَحْتُ
عِلَلكم وأَمْدَدْتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتلُ لتبلغوا
مرادَ الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل . وهذا الوجه بَعْدَ طولِه لا طائل تحته
لبُعْده من المعنى وكثرة الفواصل .
التاسع عشر : أن التقدير : كا أخرجك ربك مِنْ بيتك بالحق أي : بسبب إظهار دين الله
وإعْزازِ شريعته وقد كرهوا خروجك تهيُّباً للقتال وخوفاً من الموت؛ إذ كانَ أُمِرَ
عليه السلام بخروجهم بغتةً ولم يكونوا مستعدِّين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه
نَصَرَكَ الله وأَمَدَّك بملائكته ، ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده وهو
قوله :
{
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] الآيات . وهذا الوجهُ استحسنه
الشيخ ، وزعم أنه لم يُسْبق به ، ثم قال : « ويظهر أن الكافَ ليست لمحضِ التشبيه
بل فيها معنى التعليل . وقد نصَّ النحويون على أنها للتعليل ، وخرَّجوا عليه قولَه
تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وأنشدوا :
2382 لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ ... أي : لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم
. ومن الكلام الشائع : » كما تطيع الله يدخلك الجنة « أي : لأجل طاعتك الله يدخلك
، فكذا الآية ، والمعنى : لأَنْ خرجت لإِعزاز دين الله وقَتْل أعدائه نَصَرك
وأَمَدَّك بالملائكة » .
العشرون : تقديرُه : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجُك في الطاعة
خيرٌ لكم ، كما كان إخراجُك خيراً لهم . وهذه الأقوال مع كثرتها غالبُها ضعيف ،
وقد بَيَّنْت ذلك . قوله : { بالحق } فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بالفعل أي
بسبب الحق أي : إنه إخراجٌ بسبب حقٍ يظهر وهو علوُّ كلمة الإِسلام والنصرُ على
أعداء الله . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول « أَخْرَجَكَ » أي :
ملتبساً بالحق .
قوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً } الواو للحال ، والجملة في محل نصب ، ولذلك كُسِرت «
إنَّ » . ومفعول « كارهون » محذوف أي : لكارهون الخروج ، وسببُ الكراهة : إمَّا
نفرة الطبع ممَّا يُتَوقَّع من القتال ، وإمَّا لعدم الاستعداد .
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قوله
تعالى : { يُجَادِلُونَكَ } : يُحتمل أن يكونَ مستأنفاً إخباراً عن حالهم
بالمجادلة . ويُحتمل أن يكونَ حالاً ثانية أي : أخرجك في حال مجادلتهم إياك .
ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في « لكارهون » أي : لكارهون في حال جدال .
والظاهر أن الضمير المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم ، ومعنى المجادلة قولهم :
كيف نقاتل ولم نعتَدَّ للقتال؟ ويجوز أن يعود على الكفار وجدالُهم ظاهر . قوله : «
بعدما تبيَّن » منصوب بالجدال و « ما » مصدرية أي : بعد تبيُّنِه ووضوحِه ، وهو أقبحُ
من الجدال في الشيء قبل اتِّضاحه . وقرأ عبد الله « بُيِّن » مبنياً للمفعول مِنْ
بَيَّنْتُه أي أظهرته .
قوله : { وَهُمْ يَنظُرُونَ } حالٌ من مفعول « يُساقُون » .
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } : « إذ » منصوب بفعل مقدر أي : اذكر إذ . والجمهور على رفع الدال لأنه مضارع مرفوع . وقرأ/ مسلم ابن محارب بسكونها على التخفيف لتوالي الحركات . وقرأ ابن محيصن « يعدكم الله احدى » بوصل همزة « إحدى » تخفيفاً على غير قياس ، وهي نظير قراءة مَنْ قرأ : « إنها لاحدى » بإسقاط الهمزة ، أجرى همزة القطع مُجْرى همزة الوصل . وقرأ أيضاً « أحد » بالتذكير ، لأن الطائفة مؤنث مجازي . وقرأ مسلم بن محارب « بكلمته » على التوحيد ، والمراد به اسم الجنس ، فيؤدي مؤدَّى الجمع .
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قوله
تعالى : { لِيُحِقَّ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ بما قبله أي : ويقطع ليحق
الحق . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره : ليحقَّ الحق فَعَل ذلك أي : ما
فعله إلا لهما وهو إثباتُ الإِسلام وإظهارُه وزوالُ الكفر ونحوه .
قال الزمخشري : « ويجب أن يُقَدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيدَ الاختصاص وينطبقَ عليه
المعنى » . قلت : وهذا على رأيه ، وهو الصحيح .
قوله : { أَنَّها لكم } منصوبُ المحل على البدل من « إحدى » أي : يَعِدُكم أن إحدى
الطائفتين كائنة لكم أي : تَتَسلَّطون عليها تَسَلُّطَ المُلاَّكِ فهي بدلُ اشتمال
.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قوله
تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه منصوب باذكر
مضمراً ، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي : إنه مقتطعٌ عما قبله . الثاني : أنه
منصوب بيحقُّ أي : يحقُّ الحق وقت استغاثتكم . وهو قول ابن جرير . وهو غلط ، لأنَّ
« ليحقَّ » مستقبل لأنه منصوب بإضمار « أَنْ » ، و « إذ » ظرف لما مضى ، فكيف يعمل
المستقبل في الماضي؟ الثالث : أنه بدلٌ من « إذ » الأولى ، قاله الزمخشري وابن
عطية وأبو البقاء . وكان قد قَدَّموا أن العامل في « إذا » الأولى « اذكر » مقدراً
. الرابع : أنه منصوب ب « يعدكم » قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري . الخامس : أنه
منصوب بقوله « تَوَدُّون » قاله أبو البقاء . وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل .
و « استغاث » يتعدى بنفسه وبالباء . ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى
نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله . وقد
أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر :
2383 حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له ... من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه ... ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ
كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ ... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره .
قوله : { أَنِّي } العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي : فاستجاب بأني .
وقرأ عيسى بن عمر ويُروى عن أبي عمرو أيضاً « إني » بكسرها . وفيها مذهبان : مذهَب
البصريين أنه على إضمار القول أي : فقال إني ممدُّكم . ومذهب الكوفيين أنها
محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه .
قوله : { بِأَلْفٍ } العامَّة على التوحيد . وقرأ الجحدري : « بآلُفٍ » بزنة
أفْلُس . وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال . وفي الجمع بين هاتين القراءتين
وقراءة الجمهور : أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه ،
وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم في
هاتين القراءتين . أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم
يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات .
قوله : { مُرْدِفِينَ } قرأ نافع ويُروى عن قنبل أيضاً « مُرْدَفين » بفتح الدال
والباقون بكسرها . وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ
مَلَكٌ رديفاً له . فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم ، وقراءة
الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه ، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل
تارةً واسمِ المفعول أخرى . وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ « مُرْدِفين » يعني بالكسر
محذوفاً أي : مُرْدِفين أمثالهم . وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد
الأوائل أي : جُعِلوا رِدْفاً للأوائل .
ويُطلب
جوابٌ عن كيفية الجمع/ بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران ، حيث قال هناك « بخمسة » ،
وقال هنا « بأَلْف » والقصة واحدة . والجواب : أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك
الخمسة فيكون المجموعُ ستةَ آلاف ، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة « مُرْدِفين » بكسر
الدال .
وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي : ركَّبَتْ خلفها غيرها من
الملائكة . وقال الفارسي : « مَنْ كسر الدال احتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونوا
مُرْدِفين مثلَهم كما تقول : » أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي « فيكون المفعولُ الثاني
محذوفاً ، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ . والوجه الآخر : أن يكونوا جاؤوا بعد المسلمين
. وقال الأخفش : » بنو فلان يَرْدِفوننا أي : يجيئون بعدنا « ، وقال أبو عبيدة : »
مُرْدِفين : جاؤوا بعدُ ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد « . قال الفارسي : » هذا الوجه
كأنه أَبْيَنُ لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } ، قولُه «
مُرْدِفين » أي جائين بعدُ لاستغاثتِكم . ومَنْ فتح الدال فهم مُرْدَفون على :
أُرْدِفوا الناسَ أي : أُنْزِلوا بعدهم « .
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل » مُرَدِّفين « بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ
مشدَّدة ، والأصل : مُرْتَدِفين فأدغم . وقال أبو البقاء : » إن هذه القراءةَ
مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير ، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة
كأَفْرَحْتُه وفرَّحته « وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم
كقولهم : مُخُضِم بضم الخاء ، وقد قُرِئ بها شذوذاً .
وقُرئ » مُرِدِّفين « بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً . وكسرُ الراء يَحْتمل
وجهين : إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع . قال ابن عطية : » ويجوز على هذه
القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء ، ولا أحفظه قراءة « ، قلت : وكذلك الفتحة في »
مُرَدِّفين « في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين . أحدهما : وهو الظاهر
أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء حين قصد إدغامَها إلى الراء . والثاني : أنها فُتِحَتْ
تخفيفاً ، وإن كان الأصلُ الكسرَ على أصل التقاء الساكنين كما قد قُرئ به . وقُرِئ
» مِرْدِفين « بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء .
والوَجَل : الفَزَعُ . وقيل : استشعار الخوف يُقال منه : وَجِل يَوْجَل وياجَل
ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً ، فهو وَجِل . والشَّوْكَة : السلاح كسِنان الرُّمْح
والنَّصْل والسيف ، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان ، يُقال
منه : رجلٌ شائكٌ ، فالهمزةُ من واو كقائم ، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه ،
فيقال : » شاكٍ « ، فيصير كغازٍ ، ووزنُه حينئذ فالٍ قال زهير :
2384 لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ
ويُوصَفُ السِّلاحُ بالشاكي كما يُوصف به الرجل فيُقال : رجلٌ شاكٌ وشاكٍ ، وسلاحٌ
شاكٌ وشاكٍ . فأمَّا شاكٌ فصحيحٌ غيرُ معتلٍّ ، وألفُه منقلبةٌ عن عين الكلمة ،
ووزنُه في الأصل على فَعِل بكسر العين ، ولكن قُلِبَتْ ألفاً كما قالوا كَبْشٌ
صافٌ أي صَوِف ، وكذلك شاكٌ أي شَوِكٌ .
ويُحتمل
أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ
ووزنُه على هذا فال . وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم . ومِنْ وصف
السلاح بالشاك قوله :
2385 وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي ... سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا
فهذا يُحْتمل أن يكونَ محذوفَ العين ، وأن يكون أصله شَوِكاً كصَوِف . ويُقال
أيضاً : هو شاكٌّ في السلاح بتشديد الكاف مِنَ الشِكَّة وهي السلاح أجمع ، نقله
الهروي والراغب .
والاستغاثة : طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل : الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة
وقت الحاجة . وقيل : هي الاستجارةُ . ويقال : غَوْثٌ وغُواث وغَواث ، والغيث من
المطر والغَوْث من النصرة ، فعلى هذا يكونُ « استغاث » مشتركاً بينهما ، ولكن
الفرقَ بينهما في الفعل فيقال : استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث ، وغاثَني مِن
الغَيْث . والإِردافُ : الإِتباع والإِركاب وراءك . قال الزجاج : « أَرْدَفْتُ
الرجل إذا جئت بعده » . ومنه { تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 7 ] ، ويقال :
رَدِف وأَرْدَف . واختلف اللغويون فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو قولُ ابنِ الأعرابي
نقله عنه ثعلب ، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال : « يُقال : رَدِفْتُ الرجلَ
وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه » ، وأنشد :
2386 إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا
أي جَاءَتْ على رِدْفِها . وقيل : بل بينهما فرقٌ ، فقال الزجاج : « يقال :
رَدِفْتُ الرجلَ : رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه : أركبتُه خلفي » وهذا يناسِبُ
قولَ مَنْ يُقَدِّر مفعولاً في « مُرْدِفين » بكسرِ الدال ، وأَرْدَفْتُه « إذا
جِئْتَ بعده أيضاً ، فصار أَرْدَفَ على هذا مشتركاً بين معنيين . وقال شمر : »
رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك ، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما/ بغيرك
فَأَرْدَفْتُ لا غير « . وقوله : { مُرْدَفِينَ } بفتح الدالِ فيه وجهان ، أظهرهما
: أنه صفةٌ لأَلْف أي أَرْدَف بعضُهم لبعض . والثاني : أنه حالٌ من ضمير المخاطبين
في » يمدُّكم « قال ابن عطية : » ويُحتمل أن يُراد بالمُرْدَفين المؤمنون أي :
أُرْدِفوا بالملائكة « وهذا نصٌّ فيما ذكرته من الوجه الثاني . وقال الزمخشري : »
وقرئ « مُرْدَِفين » بكسر الدال وفتحها مِنْ قولك : رَدِفه إذا تبعه ، ومنه قوله
تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، أي : رَدِفَكم ، وأَرْدَفْتُه إياه إذا
تَبِعْتَه ، ويقال : أَرْدَفته كقولك : اتَّبَعْته إذا جئت بعده ، فلا يخلُو
المكسورُ الدالِ مِنْ أن يكون بمعنى مُتْبِعين أو مُتَّبِعين . فإن كان بمعنى
مُتْبِعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعِيْن بعضَهم بعضاً ، أو مُتْبِعين
بعضهم لبعض ، أو بمعنى مُتْبعين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدَّمونهم فيُتْبعونهم
أنفسهم أو مُتْبِعين لهم يُشَيِّعونهم ويُقَدِّمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم
ليكونوا على أعينهم وحِفْظهم ، أو بمعنى مُتْبِعين أنفسهم ملائكةً آخرين ، أو
متبعين غيرهم من الملائكة . ويعضد هذا الوجهَ قولُه تعالى في سورة آل عمران
{
بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين } [ آل عمران : 124 ] { بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ
الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، ومن قرأ « مُرْدَفين » بالفتح فهو
بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين « .
قلت : وهذا الكلامُ على طوله شرحُه أنَّ » أَتْبع « بالتخفيف يتعدَّى إلى مفعولين
، و » اتَّبع « بالتشديد يتعدى لواحدٍ ، وأَرْدَف قد جاء بمعناهما ، ومفعولُه أو
مفعولاه محذوفٌ لفهم المعنى ، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به . إلا أنَّ الشيخ
عابَ عليه قوله » مُتْبِعين إياهم المؤمنين وقال : « هذا ليس من مواضعِ فَصْلِ
الضمير بل مما يتصل وتُحْذف له النون ، لا يقال : هم كاسون إياك ثوباً ، بل كاسوك
، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين أو مُتْبعين أنفسَهم المؤمنين » .
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ } : الهاء تعود على الإِمداد أي : وما جعل اللهُ الإِمدادَ . ثم هذا الإِمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله { أَنِّي مُمِدُّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] ، إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم . ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله « مُمِدُّكم » كما دلَّ عليه فِعْلُه في قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . وهذا الثاني أَوْلى لأنه مُتَأَتٍّ على قراءة الفتح والكسر في « إني » بخلاف الأول فإنه لا يتجه عَوْدُه على الإِمداد على قراءة الكسر إلا بتأويلٍ ذكره الزمخشري وهو أنه مفعولُ القول المضمر فهو في معنى القول . وقيل يعود على المَدَد قاله الزجاج . قال الواحدي : « وهذا أَوْلَى لأنَّ بالإِمداد بالملائكة كانت البشرى » . وقال الفراء : « إنه يعودُ على الإِرداف المدلول عليه بمردفين » . وقيل : يعودُ على الألف . وقيل : على الوعد المدلول عليه ب { يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . وقيل : على جبريل أو على الاستجابة ، لأنها مؤنث مجازي ، أو على الإِخبار بالإِمداد . وهي كلُّها محتملة وأرجحها الأولُ ، والجَعْل هنا تصييرٌ .
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قوله
تعالى : { إذ يَغْشاكم } : في « إذ » وجوه أحدها : أنه بدل من « إذ » في قوله : {
وَإِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . قال الزمخشري : « إذ يغشاكم بدلٌ ثانٍ من »
إذ يَعِدكم « . قوله : » ثان « لأنه أبدل منه » إذ « في قوله » إذ تَسْتغيثون «
ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء . الثاني : أنه منصوبٌ بالنصر . الثالث : ب {
مِنْ عِندِ الله } [ الأنفال : 10 ] من معنى الفعل . الرابع : ب { مَا جَعَلَهُ
الله } [ الأنفال : 10 ] . الخامس : بإضمار » اذكر « . ذكر ذلك الزمخشري . وقد
سبقه إلى الرابع الحوفيُّ .
وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها : أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ
المقرون بأل قال : » وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل . الثاني من الأوجه
المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله : « إلا من عند الله »
، ولو قلت : « ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً » لم يَجُزْ . الثالث : أنه عَمل ما قبل «
إلا » فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها ، لأنه لا يعمل ما قبلها
فيما بعدها إلا أن يكونَ مستثنى أو مستثنى منه أو صفةً له . وقد جوَّز الكسائي
والأخفش إعمالَ ما قبل « إلا » فيما بعدها مطلقاً ، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من
أنه أخبر عن الموصول قبل تمامِ صلته .
وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً/ بهذا الظرفِ ،
والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت . وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ
بهذا النصرِ نصرٌ خاص ، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف . وضعَّف
الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل « إلا » .
السادس : أنه منصوبٌ بقوله : « ولتطمئنَّ به » قاله الطبري . السابع : أنه منصوبٌ
بما دلَّ عليه « عزيز حكيم » قاله أبو البقاء . ونحا إليه ابن عطية قبله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « يَغْشاكم النعاسُ » . نافع : « يُغْشِيكم » بضم الياء
وكسر الشينِ خفيفةً . « النعاسَ » نصباً . والباقون « يُغَشِّيكم » كالذي قبله ،
إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى ، و « النعاس » فاعل .
وفي الثانية مِنْ « أغشى » ، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى ، وكذا في الثالثة مِنْ «
غَشَّى » بالتشديد . و « النعاس » فيهما مفعول به ، وأغشى وغشَّى لغتان .
قوله : « أَمَنَةً » في نصبِها ثلاثةُ [ أوجه ] أحدُها : أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي
: فَأَمِنْتُم أَمَنةً . الثاني : أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال :
إمَّا من الفاعل ، فإن كان الفاعلُ « النعاس » فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ ، وإن كان
الباريَ تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقةٌ ، وإمَّا من المفعولِ
على المبالغة أي : جَعْلهم نفسَ الأمنة ، أو على حَذْفِ مضاف أي : ذوي أمنة .
الثالث
: أنه مفعولٌ من أجله وذلك : إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على
الأولى ، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ
من الله تعالى ، والأمنةُ منه أيضاً ، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول
له . وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل « يغشى » النعاسُ ، وفاعل « الأمنة » الباري
تعالى . ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ
، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز .
وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال : « وأَمَنَةً » مفعولٌ له . فإن قلت : أما وجب أن
يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً؟ قلت : بلى ولكن لمَّا كان معنى «
يَغْشاكم النعاسُ » تَنْعَسون انتصب « أَمَنةً » على معنى : أنَّ النعاسَ
والأَمَنَة لهم ، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً « . ثم قال : » فإن قلت : هل يجوزُ
أن ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي هو يغشاكم أي : يَغْشاكم النعاسُ لأمنة ،
على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على
الحقيقة ، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن
لا يُقَدَّمَ على غشيانكم ، وإنما غَشَّاكم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم
يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل « . قلت : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله ، وله
فيه نظائرُ ، وقد ألمَّ به من قال :
2387 يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً ... تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ
وقوله : { مِنْه } في محلِّ نصبٍ صفةً ل » أَمَنَة « ، والضمير في » منه « يجوزُ
أن يعودَ على الباري تعالى ، وأَنْ يعودَ على النعاس بالمجاز المذكور آنفاً .
وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر » أَمْنَةً « بسكون الميم . ونظير أَمِنَ
أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة ، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً .
قوله : { مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ } العامَّةُ على » ماءً « بالمد . و » ليطهركم «
متعلِّقٌ ب » يُنَزِّل « . وقرأ الشعبي » ما ليطهركم « بألفٍ مقصورة ، وفيها
تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أنَّ » ما « بمعنى الذي ، و »
ليطهِّرَكم « صلتُها ، وقال بعضهم : تقديره : الذي هو ليطهركم ، فقدَّر الجارَّ
خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، والجملةُ صلة ل » ما « . وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن
لامَ » كي « لا تقعُ صلةً . والثاني : أن » ما « هو ماء بالمد ، ولكن العرب قد
حَذَفَتْ همزتَه فقالوا : » شربت ماً « بميم منونة ، حكاه ابن مقسم ، وهذا لا
نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد .
إذا
عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها ، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى
الوقف . ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ/ وهذه الألفُ
بدلٌ مِنَ الواو التي في « مَوَهَ » في الأصل ، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من
التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف . والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن
لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو « مُرٍ » اسم فاعل مِنْ أرى يُري .
قوله : « ويُذْهِبَ » نسقٌ على « ليطهِّركم » . وقرأ عيسى بن عمر « ويُذْهِبْ »
بسكون الباء ، وهو تخفيف سمَّاه الشيخ جزماً . والعامة على « رِجز » بكسرِ الراء
والزاي . وقرأ ابن محيصن بضم الراء ، وابنُ أبي عبلة بالسين . وقد تقدَّم الكلامُ
على كل واحد منها . ومعنى « رجز الشيطان » هنا ما ينشأُ عن وسوسته .
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
قوله
تعالى : { إِذْ يُوحِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ ثالث من قوله { وَإِذْ
يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . والثاني : أن ينتصب بقوله « ويثبِّتَ » ، قالهما
الزمخشري ، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير . وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد
الضمير في قوله « به » ، فقال : « العاملُ في » إذ « العاملُ الأول على ما تقدَّم
فيما قبلها ، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله » ويُثَبِّتَ « على تأويل عَوْده على
الرَّبط ، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل » ويثبت « في إذ »
، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر
وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ
النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال .
قوله : { أَنِّي مَعَكُمْ } مفعول ب « يوحي » ، أي : يوحي كوني معكم بالغلبة
والنصر . وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه « إني معكم » بكسرِ الهمزة . وفيه وجهان ،
أحدهما : أن ذلك على إِضمارِ القول ، وهو مذهب البصريين . والثاني : إجراء « يوحي
» مُجْرى القول لأنه بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين . قوله : { فَوْقَ الأعناق } فيه
أوجه ، أحدها : أن « فوق » باقيةٌ على ظرفيتها ، والمفعولُ محذوفٌ أي : فاضربوهم
فوق الأعناق ، عَلَّمَهم كيف يضربونهم . والثاني : أن « فوق » مفعولٌ به على
الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل : فاضربوا رؤوسَهم . وهذا ليس بجيدٍ لأنه
لا يَتَصَرَّف . وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول : فوقُك رأسُك برفع « فوقك
» ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال : « فوق الأعناق : أراد أعالي الأعناق التي
هي المذابح التي هي مفاصل » . الثالث : وهو قول أبي عبيدة أنها بمعنى على أي : على
الأعناق ، ويكون المفعول محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من
الأول . الرابع : قال ابن قتيبة : « هي بمعنى دون » . قال ابن عطية : « وهذا خطأ
بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش ، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] ، أي : فما دونها ، وليست » فوق « هنا بمعنى دون ،
وإنما المرادُ : فما فوقها في القلة والصغر . الخامس : أنها زائدة أي اضربوا
الأعناق وهو قول أبي الحسن ، وهذا عند الجمهورِ خطأ ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا
تجوز .
قوله : { مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوز أن يتعلَّق » منهم « بالأمر قبله أي :
ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم . ويجوز أن
يتعلَّق بمحذوف على أنه حال مِنْ » كلِّ بنان «؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً
له لو تأخَّر قال أبو البقاء : » ويَضْعُف أن يكون حالاً من « بنان » إذ فيه تقديمُ
حالِ المضاف إليه على المضاف « فكأن المعنى : اضربوهم كيف ما كان .
قال
الزمخشري : « يعني ضَرْبَ الهام » قال :
2388 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ
وقال :
2389 غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ ... عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ
فانفلقا
وقال ابن عطية : « ويُحتمل أن يريد بقوله : » فوق الأعناق « وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات
العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ، ودون عظم الرأس » ، ثم قال : « منه
قوله :
2390 جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه ... وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا »
وقيل : هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة : /
2391 عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما ... خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم
والبَنان : قيل الأصابع ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد بَنانة قال عنترة :
2392 وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما ... وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني
وقال أبو الهيثم : « البنان : المفاصِلُ ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة » . وقيل :
البَنان : الأصابعُ من اليدين والرجلين . وقيل : الأصابع من اليدين والرِّجلين
وجميع المَفَاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة :
2393 وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها ... ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ
وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً . قال رؤبة :
2394 يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ ... وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
قوله
تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ } : مبتدأ وخبر؟ والإِشارةُ إلى الأمر بضَرْبهم ،
والخطابُ يجوز أن يكون للرسول ، ويجوز أن يكونَ للكفار ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً
. كذا قال الشيخ وفيه نظر لوجهين أحدهما : أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب
الواحد وهو ممتنعٌ أو قليل ، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة . والثاني : أن بعده « بأنهم
شاقُّوا » فيكون التفتَ من الغَيْبة إلى الخطاب في كلمة واحدة ، ثم رَجَع إلى
الغَيْبة في الحال وهو بعيد .
قوله : { وَمَن يُشَاقِقِ الله } « مَنْ » مبتدأ والجملة الواقعة بعدها خبرها أو
الجملة الواقعة جزاءً أو مجموعهما . ومَنْ التزم عَوْدَ ضميرٍ مِنْ جملةِ الجزاء
على اسم الشرط قدَّره هنا محذوفاً تقديرُه : فإنَّ الله شديدُ العقاب له . واتفق
القراءُ على فَكِّ الإِدغام هنا في « يُشاقِق » لأن المصاحفَ كَتَبَتْه بقافين
مفكوكَتَيْن ، وفكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز ، والإِدغامُ بشروطه لغة تميم .
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
قوله
تعالى : { ذلكم فَذُوقُوهُ } : يجوز في « ذلكم » أربعةُ أوجه أحدها : أن يكونَ
مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر أي : العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم . الثاني : أن يرتفعَ
بالابتداء والخبرُ محذوفٌ أي : ذلكُ العقابُ . وعلى هذين الوجهين فيكون قولُه «
فذوقوه » لا تَعَلُّق لها بما قبلها مِنْ جهة الإِعراب . والثالث : أن يرتفع
بالابتداء ، والخبرُ قوله : « فذوقوه » ، وهذا على رأي الأخفش فإنه يرى زيادة الفاء
مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشرط أم لا ، وأما غيرُه فلا يُجيز
زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرط ، وقد قَدَّمْتُ تقريرَه غير
مرة . واستدلَّ الأخفش على جواز ذلك بقول الشاعر :
2395 وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما
هيا
وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره : هذه خولان . الرابع : أن يكون منصوباً
بإضمار فعل يُفَسِّره ما بعده ، ويكون من باب الاشتغال . وقال الزمخشري : ويجوز أن
يكون نصباً على « عليكم ذلكم » كقوله : زيداً فاضربه « . قال الشيخ : » ولا
يَصِحُّ هذا التقدير لأنَّ « عليكم » من أسماء الأفعال ، وأسماءُ الأفعالِ لا
تُضْمَر ، فتشبيهُه بقولك : « زيداً فاضرِبْه » ليس بجيد ، لأنهم لم يُقَدِّروه ب
« عليك زيداً فاضربه » وإنما هذا منصوبٌ على الاشتغال « ، قلت : يجوز أن يكون نحا
الزمخشري نَحْوَ الكوفيين ، فإنهم يُجرونه مُجْرى الفعل مطلقاً ، وكذلك يُعْملونه
متأخراً نحو : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
وقال أبو البقاء : » ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي : ذوقوا ذلكم ، ويُجْعَلَ
الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له ، والأحسن أن يكون التقدير : باشروا ذلكم فذوقوه
لتكون الفاءُ عاطفةً « . قلت : ظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون
مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه ، وأيضاً
فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند
قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
قوله : { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار } الجمهور على فتح » أنَّ « وفيها
تخريجات ، أحدها : أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ
تقديره : حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين . والثاني : أنها خبر مبتدأ محذوف
أي : الحتم/ أو الواجب أن للكافرين ، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار . الثالث :
أن تكون عطفاً على » ذلكم « في وجهَيْه ، قاله الزمخشري ، ويعني بقوله » في وجهيه
« ، أي : وجهي الرفع وقد تقدَّما . الرابع : أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة ،
قال الزمخشري : » أو نصب على أن الواو بمعنى مع ، والمعنى : ذوقوا هذا العذابَ
العاجلَ مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر « يعني بقوله »
وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر « أن أصلَ الكلام : فذوقوه وأن لكم ، فوضع » للكافرين
« موضعَ » لكم « ، شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة . الخامس : أن يكون
في محل نصب بإضمار اعلموا ، قال الشاعر :
2396 تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً ... ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا
أي : وترى لليدين بَدَداً ، فأضمر » ترى « ، كذلك فذوقوه : واعلموا أنَّ للكافرين
. وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ وقال : » لو جاز هذا لجاز : « زيد قائم وعمراً
منطلقاً » ، أي : وترى عمراً منطلقاً ، ولا يُجيزه أحد « .
وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
قوله
تعالى : { زَحْفاً } : فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك الناصب
له في محل نصب على الحال ، والتقدير : إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين زحفاً ، أو
يزحفون زحفاً . والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ثم اختلفوا في صاحبِ الحال
فقيل : الفاعل ، أي : وأنتم زَحْف من الزحوف ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم
قليلاً قليلاً على حَسَب ما يُفَسَّر به الزَّحْف وسيأتي . وقيل : هو المفعول أي :
وهم جمٌّ كثير أو يمشون إليكم . وقيل : هي حالٌ منهما أي : لقيتموهم متزاحِفين
بعضَكم إلى بعض .
والزَّحْفُ : الدنوُّ قليلاً قليلاً يقال : زَحَف يَزْحَف إليه بالفتح فيهما فهو
زاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحف وأَزْحَفَ لنا عدوُّنا أي : دَنَوا
لقتالنا . وقال الليث : « الزَّحْفُ : الجماعة يمشون إلى عدوِّهم ، قال الأعشى :
2397 لِمَنِ الظعائنُ سَيَّرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مثلَ السَّفِينِ إذا تقاذَفُ
تَجْدِفُ
وهذا من باب إطلاق المصدر على العين . والزَّحْفُ : الدبيب أيضاً مِنْ » زَحَفَ
الصبيُّ « ، قال امرؤ القيس :
2398 فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ ... فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ
ويجوز جمعُه على زُحوف ومَزاحِف ، لاختلاف النوع ، قال الهذلي :
2399 كأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيه ... قبيل الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ
ومَزاحِف جمع مَزْحَف اسمَ المصدر .
قوله : » الأَدْبار « مفعول ل » تُوَلُّوهم « .
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
وكذا
{ دُبُرَه } مفعول ثان ل { يُوَلِّهم } : وقرأ الحسن بالسكون كقولهم « عُنْق » في
عُنُق ، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ مِنْ فاعلها فأتى
بلفظ الدُّبُر دون الظَّهر لذلك . وبعضهم من أهل علم البيان سَمَّى هذا النوع
كنايةً وليس بشيء .
قوله : { إلا مُتَحرِّفاً } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه حال . والثاني : أنه
استثناء . وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال : « فإن قلت : بمَ انتصبَ » إلا متحرِّفاً
«؟ قلت : على الحال ، و » إلا « لغوٌ ، أو على الاستثناء من المُوَلِّين ، أي :
ومَنْ يُوَلِّهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً » . قال الشيخ : « لا يريد
بقوله » إلا لغوٌ « أنها زائدة ، بل يريد أن العامل وهو » يُوَلِّهم « وَصَلَ لِما
بعدها كقولهم في نحو » جئت بلا زاد « إنها لغو ، وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال
محذوفة والتقدير : ومَنْ يُوَلِّهم مُلْتبساً بأية حال إلا في حال كذا ، وإن لم
تُقَدَّر حالٌ عامةٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ » إلا « لأنَّ الشرطَ عندهم واجبٌ ،
والواجبُ حكمُه أن لا تدخلَ » إلا « فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات ،
لأنه استثناءٌ مفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي ،
أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤَوَّل » ، قلت : قوله : « لا في
المفعول ولا في غيره من الفَضَلات » لا حاجةَ إليه؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يدخل
في الإِيجابِ مطلقاً سواءً كان ما بعد « إلا » فَضْلَةً أم عمدةً ، فَذِكْرُ
الفَضْلةِ والمفعول/ يوهم جوازَه في غيرهما .
وقال ابن عطية : « وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم » مَنْ
« . فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء . وقال جماعة : إن الاستثناء من أنواع
التولِّي . وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ : إلا
تحيُّزاً أو تحرُّفاً .
والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ : الانضمام . وتحوَّزَت الحَيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ
الشيء : ضَمَنْتُه . والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ . ووزنُ متحيِّز :
مُتَفَيْعِل ، والأصل : مُتَحَيْوِز . فاجتمعت الياء والواو وسبقَتْ إحداهما
بالسكون فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمت في الياء بعدها كمَيِّت . ولا يجوز أن يكون
مُتَفَعِّلاً لأنه لو كان كذا لكان متحوُّزاً ، فأمَّا متحوِّز فمتفعِّل .
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قوله
تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } : في هذه الفاء وجهان أحدهما وبه قال الزمخشري :
أنها جوابُ شرطٍ مقدر أي : إن افتخرتم بقَتْلهم فَلَمْ تقتلوهم « ، قال الشيخ : »
وليست جواباً بل لرَبْطِ الكلام بعضِه ببعض « .
قوله : { ولكن الله قَتَلَهُمْ } قرأ الأخَوان وابن عامر » ولكن الله قَتَلهم « »
ولكن الله رمى « بتخفيف » لكن « ورفع الجلالة ، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة .
وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله { ولكن الشياطين } [ البقرة : 104 ]
. وجاءت هنا » لكن « أحسن مجيْءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات ، وقوله : { وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } نفى عنه الرَّميَ وأثبته له ، وذلك باعتبارين : أي : ما
رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهر الحال ، أو ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في
قلوبهم إذ رَمَيْت الحَصَيَات والتراب . وقوله : » وما رَمَيْتَ « هذه الجملة عطفٌ
على قوله » فلم تقتلوهم « لأنَّ المضارع المنفي ب لم في قوة الماضي المنفي ب » ما
« ، فإنك إذا قلت : » لم يَقُم « كان معناه ما قام . ولم يقل هنا : فلم تقتلوهم إذ
قتلتموهم ، كما قال : » إذ رَمَيْت « مبالغةً في الجملة الثانية .
قوله : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } ، متعلِّقٌ بمحذوف أي : وليبليَ فَعَلَ ذلك . أو
يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة أي : ولكن الله رَمَى ليمحق الكفار وليُبْلي
المؤمنين . والبلاء في الخير والشر . قال زهير :
2400 . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو
والهاءُ في » منه « تعود على الظفر بالمشركين . وقيل : على الرمي قالهما مكي . والظاهر
أنها تعود على الله تعالى .
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قوله
تعالى : { ذلكم } : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي : ذلكم الأمر ، والخبرُ محذوف
قاله الحوفي ، والأحسنُ أن يُقَدَّر الخبر : ذلكم البلاءُ حقٌّ وَحَتْمٌ . وقيل :
هو خبر مبتدأ ، أي : الأمر ذلكم وهو تقدير سيبويه . وقيل : محلُّه نصب بإضمار
فِعْلٍ أي : فَعَل ذلك . والإِشارةُ ب « ذلكم » إلى القتل والرمي والإشبلاء .
وقوله « بلاءً » يجوز أن يكونَ اسمَ مصدر أي إبلاء ، ويجوز أن يكون أريد بالبلاء
نفسُ الشيء المبلوِّ به .
قوله : { وَأَنَّ الله } يجوز أن يكون معطوفاً على « ذلكم » فيُحكم على محلِّه بما
يُحْكَمُ على محلِّ « ذلكم » وقد تقدَّم ، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي
: واعلموا أن الله ، وقد تقدَّم ما في ذلك . وقال الزمخشري : « إنه معطوفٌ على »
وليُبْلي « ، يعني أن الغرضَ إبلاء المؤمنين وتوهينُ كيد الكافرين » .
وقرأ ابن عامر والكوفيون « مُوْهِن » بسكون الواو وتخفيف الهاء مِنْ أوهن كأكرم .
ونَوَّن « موهن » غيرُ حفص . وقرأ الباقون « مُوَهِّن » بفتح الواو وتشديد الهاء
والتنوين . ف « كيد » منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص ، ومخفوضٌ في قراءةِ
حَفْص ، وأصلُه النصب . وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثر لأن ما عينُه حرفُ حلقٍ
غيرَ الهمزة تعديتُه بالهمزة ، ولا يُعَدَّى بالتضعيف إلا كَلِمٌ محفوظة نحو :
وهَّنْتُه وضَعَّفْتُه .
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قوله
تعالى : { وَلَن تُغْنِيَ } : قرأ الجمهور بالتاء من فوق لتأنيث الفئة . وقرئ «
ولن يُغْني » بالتاء من تحت لأن تأنيثه مجازي وللفصلِ أيضاً . « ولو كَثُرَت » هذه
الجملةُ الامتناعية حالية ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح
والباقون بالكسر . فالفتح من أوجه أحدها : أنه على لام العلة تقديره : ولأن الله
مع المؤمنين كان كيت وكيت . والثاني : أنَّ التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع
عنادهم . والثالث : أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أن الله مع المؤمنين .
وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَوَلَّوْا } : الأصل : تَتَوَلَّوا/ فحذف إحدى التاءين . وقد
تقدَّم الخلاف في أيهما المحذوفة .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } جملةٌ حالية ، والضمير في « عنه » يعود على
الرسول؛ لأن طاعته من طاعة الله . وقيل : يعود على الله وهذا كقوله تعالى : {
والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] . وقيل : يعود على
الأمر بالطاعة .
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
وقوله
تعالى : { الصم } : إنما جُمِع « الصُمُّ » وهو خبر « شر » لأنه يُراد به الكثرةُ
، فجُمع الخبر على المعنى ، ولو كان الأصم لكان الإِفرادُ على اللفظ ، فالمعنى على
الجمع .
وقوله : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } يجوز رفعُه أو نصبه على القطع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قوله
تعالى : { بَيْنَ المرء } : العامَّةُ على فتح الميم ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرِها
على إتباعها لحركة الهمزة وذلك أن في « المَرْء » لغتين أفصحُهما على فَتْح الميم
مطلقاً . والثانية بإتباع الميم لحركة الإِعراب ، فتقول : هذا مُرْءٌ بضم الميم
ورأيت مَرْءاً بفتحها ، ومررت بمِرْءٍ بكسرها . وقرأ الحسن والزهري بفتح الميم
وتشديد الراء . وتوجيهُها أن يكون نَقَلَ حركة الهمزة إلى الراء ، ثم ضَعَّف الراء
وأجرى الوصل مُجْرى الوقف .
قوله : « وأنه » يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن ، وأن تعودَ على الله تعالى
، وهو الأحسنُ لقوله « الله » .
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قوله
تعالى : { لاَّ تُصِيبَنَّ } : في « لا » وجهان ، أحدهما أنها ناهيةٌ ، وعلى هذا
فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً ل « فتنة »؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً ،
ويجوز أن تكون معمولة لقول ، ذلك القولُ هو الصفةُ أي : فتنةً مقولاً فيها : لا
تصيبنَّ . والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين ، وهو في المعنى كقولهم
: لا أُرَيَنَّك ههنا أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ
ظالمَكم . ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها . ونظيرُ إضمار القولِ قولُه :
2401 جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ ... أي : مقول فيه : هل رأيت . والثاني :
أن « لا » نافية ، والجملةُ صفةٌ ل « فتنة » وهذا واضحٌ من هذه الجهة ، إلا أنه
يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط ، وفيه خلافٌ : هل يَجْري
النفيُ ب « لا » مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم ، واستشهد بقوله :
2402 فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها ... ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ
مُحَوَّلُ
وقال آخر :
2403 فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه ... وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى
ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه ... فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى
فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ ب « لا » مع انفصاله فلأَنْ يؤكَّد المنفيُّ غيرُ
المفصولِ بطريق الأَوْلى . إلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة .
وزعم الفراء أنَّ « لا تصيبَنَّ » جواب للأمر نحو : « انزلْ عن الدابة لا
تَطْرَحَنَّك » ، أي : إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك ، ومنه قوله { لاَ
يَحْطِمَنَّكُمْ } بالنمل : 18 ] ، أي : إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم ، فدخلت
النونُ لِما فيه من معنى الجزاء . قال الشيخ : « وقوله : لا يَحْطِمَنَّكم وهذا
المثالُ ليس نظيرَ » فتنةً لا تصيبنَّ الذين « لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ
وجزاءٌ كما قَدَّر ، ولا ينتظم ذلك هنا ، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير : إنْ
تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا ، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة
المعنى » .
قال الزمخشري : « لا تصيبنَّ » : لا يخلو : إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً
بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة . فإذا كانت جواباً فالمعنى : إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ
الظالمين منكم خاصة ، بل تَعُمُّكم « ، قال الشيخ : » وأخذ الزمخشري قولَ الفراء
فزاده فساداً وخَبَط فيه « ، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال : » فانظر إليه كيف قدَّر
أن يكون جواباً للأمر الذي هو « اتقوا » ، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير
مضارع « اتقوا » فقال : المعنى : إن أصابَتْكم ، يعني الفتنة . وانظر كيف قدَّر
الفراء : انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك ، وفي قوله :
{
ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] ، فأدخل أداةَ شرطٍ
على مضارع فعل الأمر وهكذا [ يُقَدَّر ] ما كان جواباً للأمر « .
وقيل : » لا تصيبنَّ « جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي : فتنة
واللهِ لا تصيبنَّ . ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ . وقال : أبو البقاء :
» ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ « ، وظاهرُ هذا أنه إذا كان
النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ ، وليس كذلك .
وقيل : إن اللامَ لامُ التوكيد ، والفعلُ بعدها مثبتٌ ، وإنما مُطِلت اللام ، أي :
أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً ، فدخول النون فيها قياسٌ . / وتأثَّر هذا
القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة » لتصيبَنَّ « وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود
وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز . وممن وَجَّه ذلك ابن
جني . والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ
العامَّة ، فقال : » ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من «
لا » يعني حُذِفَتْ ألفُ « لا » تخفيفاً ، واكتُفي بالحركة « ، قال : » كما قالوا
: أمَ والله يريدون : أما والله « . قال المهدوي : » كما حُذِفت مِنْ « ما » وهي
أختُ « لا » في نحو « أما والله لأفعلنَّ » وشبهه . قوله « أخت لا » ليس كذلك لأن
« أما » هذه للاستفتاحِ ك « ألا » ، وليست مِنَ النافية في شيءٍ ، فقد تحصَّل من
هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى ، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة
، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي
إلى التعمية .
وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة : « لا تصيبنَّ » : « إنْ الكلامَ
قد تَمَّ عند قوله » فتنة « وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين ، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ
خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة . والمرادُ هنا : لا يتعرَّض
الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة » .
قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه : « وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل :
واحذروا ذنباً أو عقاباً ، ثم قيل : لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ
الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة » .
وقال علي بن سليمان « هو نَهْيٌ على معنى الدعاء ، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء
لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز ، فيصير المعنى : لا أصابَتْ
ظالماً ولا غيرَ ظالم ، فكأنه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ » . وقد
تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال : النهي بتقديرَيْه ،
والدعاء بتقديريْه ، والجواب للأمر بتقديريه ، وكونِها صفةً بتقدير القول .
قوله
: { مِنْكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها للبيان مطلقاً . والثاني : أنها
حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف ، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ ، وللبيان على تقدير
آخر فقال : « فإن قلت : ما معنى » مِنْ « في قوله » الذين ظلموا منكم «؟ قلت :
التبعيضُ على الوجه الأول ، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة
على ظلمكم ، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس » . قلت : يعني بالأولِ
كونَه جواباً لأمر ، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ . وفي تخصيصه التبعيض بأحد
الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع
التبعيضِ والبيان .
قوله : { خَاصَّةً } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ
المستكنِّ في قوله : « لا تصيبنَّ » ، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره :
إصابةً خاصة . الثاني : أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره : لا تصيبنَّ
الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم . والثالث : أنه حالٌ من فاعل « ظلموا »
قاله ابن عطية . قال الشيخ : « ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ » . قلت : ولا أدري ما
عَدَمُ تَعَقُّلِه؟ فإن المعنى : واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم
غيرُهم ، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ
إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة ، وهذا معنًى واضح .
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قوله
تعالى : { إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أوضحها : أنه ظرف ناصبه
محذوف تقديره : واذكروا حالكم الثابتة في وقت قلَّتكم ، قاله ابن عطية . والثاني :
أنه مفعول به . قال الزمخشري : « نصبٌ على أنه مفعولٌ به مذكورٌ لا ظرفٌ/ أي : اذكروا
وقتَ كونِكم أقلةً أذلةً . وفيه نظر لأن » إذ « لا يُتَصَرَّف فيها إلا بما ذكرته
فيما تقدم ، وليس هذا منه . الثالث : أن يكون ظرفاً ل » اذكروا « قاله الحوفي وهو
فاسدٌ ، لأن العاملَ مستقبلٌ ، والظرفُ ماضٍ ، فكيف يتلاقيان؟
قوله : { تَخَافُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها : أنه خبرٌ ثالثٌ . والثاني : أنه
صفةٌ ل » قليل « وقد بُدئ بالوصفِ بالمفرد ثم بالجملة . والثالث : أن يكونَ حالاً
من الضمير المستتر في » مُسْتَضْعَفُون « .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
قوله
تعالى : { وتخونوا } : يجوز فيه أن يكونَ منصوباً بإضمار « أَنْ » على جواب النهي
أي : لا تجمعوا بين الجنايتين كقوله :
2404 لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه ... عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ
والثاني : أن يكونَ مجزوماً نسقاً على الأول ، وهذا الثاني أَوْلى؛ لأنه فيه
النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته بخلاف ما قبله ، فإنه نهيٌ عن الجمع بينهما ، ولا
يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته . وقد
تقدَّم تحريرُ هذا في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] أولَ البقرة
.
و « أماناتِكم » على حَذْف مضاف أي : أصحابَ أماناتكم . ويجوز أن يكونوا نُهوا عن
جناية الأماناتِ مبالغةً كأنها جُعِلت مخونةً . وقرأ مجاهد ورُوِيت عن أبي عمرو «
أمانتكم » بالتوحيد والمرادُ الجمع .
« وأنتم تعلمون » جملة حالية ، ومتعلَّقُ العلم يجوز أن يكون مراداً أي : تعلمونَ
قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها . ويجوز ألاَّ يُقَدَّر أي : وأنتم من ذوي العلم .
والعلمُ يُحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكونَ بمعنى العرفان .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وتقدَّم
الكلامُ على « الفرقان » أول البقرة والمراد به هنا المُخْرج من الضلال ، أو الشيء
الفارق بين الحق والباطل ، قال مزرد ابن ضرار :
2405 بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا ... أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا
وقال آخر :
2406 ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ ... بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا
وقال آخر :
2407 وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي ... وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قوله
تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ } : هذا الظرفُ معطوفٌ على الظرف قبله ، و « ليُثْبتوك
» متعلِّقٌ ب « يَمْكُرُ » . والتثبيتُ هنا الضربُ حتى لا يبقى للمضروبِ حركةٌ قال
:
2408 فقلت وَيْحَكَ ماذا في صحيفتكمْ ... قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وجِعا
وقرأ ابن وثاب « لِيُثَبِّتوك » فعدَّاه بالتضعيف . وقرأ النخعي « ليُبَيِّتُوك »
من البيات .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
قوله
تعالى : { هُوَ الحق } : العامَّةُ على نصب « الحق » وهو خبر الكون و « هو » فصل ،
وقد تقدَّم الكلامُ عليه مُشْبعاً . وقال الأخفش : « هو » زائد ، ومرادُه ما
تقدَّم من كونِه فصلاً . وقرأ الأعمش وزيد بن علي برفع « الحق » ، ووجهُها ظاهرٌ
برفع « هو » بالابتداء و « الحق » خبره ، والجملةُ خبرُ الكون كقوله :
2409 ... تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تركتَها
وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ ... وهي لغةُ تميم . وقال ابن عطية : « ويجوز في العربية
رفع » الحق « على خبر » هو « والجملةُ خبرٌ ل » كان « . وقال الزجاج : » ولا أعلم
أحداً قرأ بهذا الجائزِ « . قلت : قد ظهر مَن قرأ به وهما رجلان جليلان .
وقوله : { مِنْ عِندِكَ } حالٌ من معنى الحق أي : الثابت حالَ كونه مِنْ عندك .
وقوله { مِّنَ السمآء } فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ بالفعل قبله . والثاني :
أنه صفة لحجارة فيتعلقُ بمحذوفٍ . وقولهم » من السماء « مع أن المطر لا يكون إلا
منها ، قال الزمخشري : » كأنه أراد أن يقال : فأمْطر علينا السِّجِّيلَ ، فوضعَ «
حجارة من السماء » موضعَه ، كما يقال : « صبَّ عليه مسرودةً من حديد » تريد : «
درعاً » ، قال الشيخ : « إنه يريد بذلك التأكيد » ، قال : « كما أن قوله » من حديد
« معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا
من السماء » . وقال ابن عطية : « قولهم من السماء مبالغة وإغراق » . قال الشيخ : «
والذي يظهر أنَّ حكمةَ قولِهم من السماء هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة
التي ذَكَر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي : إنك تذكر أن الوحيَ يأتيك
مِن السماء فَأْتِنا بالعذابِ من الجهة التي يأتيك الوحي منها قالوه استبعاداً له
» .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
قوله
تعالى : { لِيُعَذِّبَهُمْ } : قد تقدَّم الكلامُ على هذه اللام المسماة لام
الجحود . والجمهورُ على كسرها . وقرأ أبو السمال بفتحها قال ابن عطية عن أبي زيد :
« سمعت من العرب مَنْ يقول : » لَيعذبهم « بفتح اللام ، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا
مستعملةٍ في القرآن » ، قلت : يعني في المشهور منه ولم يَعْتَدَّ بقراءة أبي
السمال « . وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فتحَ كلِّ لامٍ/ عن بعض العرب إلا في »
الحمد لله « . وروى عبد الوارث عن أبي عمرو فَتْحَ لامِ الأمرِ من قوله {
فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } [ عبس : 24 ] .
وأتى بخبر » كان « الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية ، فإنه : إمَّأ أن يكونَ
محذوفاً وهو الإِرادة كما يقدِّره البصريون أي : ما كان الله مُريداً لتعذيبهم ،
وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب ، وإمَّا أنه أكَّده باللام على رأي
الكوفيين لأنَّ كينونَته فيهم أبلغُ من استغفارهم فشتَّان بين وجودِه عليه السلام
فيهم وبين استغفارِهم .
وقوله : { وَأَنتَ فِيهِمْ } حال ، وكذلك { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } . والظاهر أن
الضمائرَ كلَّها عائدةً على الكفار وقيل : الضمير في » يُعَذِّبهم « و »
مُعَذِّبهم « للكفار ، والضمير من قوله » وهم « للمؤمنين . وقال الزمخشري : » وهم
يستغفرون « في موضع الحال ، ومعناه نفيُ الاستغفارِ عنهم أي : ولو كانوا ممَّن
يؤمن ويَسْتغفر من الكفر لَمَا عذَّبهم كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 114 ] ولكنهم لا
يَسْتغفرون ولا يؤمنون ولا يُتوقَّع ذلك منهم » وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن
قتادة وأبي زيد واختاره ابنُ جرير .
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قوله
تعالى : { أن لا يُعَذِّبَهُمُ } : في « أن » وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنها
مصدريةٌ ، وموضعها : إمَّا نصبٌ أو جرٌّ لأنها على حذف حرف الجر؛ إذ التقدير : في
أن لا يعذبهم . وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّق به « لهم » من الاستقرار .
والتقدير : أيُّ شيء استقرَّ لهم في عدم تعذيبِ اللهِ إياهم ، بمعنى لا حظَّ لهم
في انتفاء العذاب . والثاني : أنها زائدةٌ وهو قول الأخفش . قال النحاس : « لو
كانت كما قال لَرَفع » يُعَذِّبهم « . يعني النحاس فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على
أنه واقعٌ موقعَ الحال كقوله : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } [ المائدة : 84
] ، ولكن لا يلزم من الزيادة عدمُ العمل ، ألا ترى أن » مِنْ « والباء تعملان وهما
مزيدتان . وقال أبو البقاء : » وقيل : هو حال وهو بعيد؛ لأنَّ « أَنْ » تُخَلِّص
الفعلَ للاستقبال « . والظاهر أن » ما « في قوله » وما لهم « استئنافية ، وهو
استفهامٌ معناه التقرير أي : كيف لا يُعَذَّبون وهم متصفون بهذه الحال؟ وقيل : »
ما « نافية فهي إخبارٌ بذلك أي ليس عدمُ التعذيب ، أي : لا ينتفي عنهم التعذيبُ مع
تلبُّسِهم بهذه الحال .
قوله : { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ } في هذه الجملةِ وجهان أحدهما : أنها
استئنافيةٌ ، والهاء تعود على المسجد أي : وما كانوا أولياءَ المسجد . والثاني :
أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي » وهم يَصُدُّون « والمعنى : كيف لا
يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن : صَدِّهم عن المسجد الحرام
وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى ، أي : لم
يكونوا أولياءَ الله .
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } : أي : ما كان شيءٌ مِمَّا يَعُدُّونه
صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلين وهما المُكاء والتَّصْدية ، أي : إن كان لهم صلاةٌ
فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر :
2410 وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه ... أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا
فأقام القيود والسِّياط مُقام العطاء .
والمُكاء : مصدر مَكا يمكو ، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه ، قال الأصمعي :
« قلت لمسجع بن نبهان : ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه
ونفخ فيها . قلت : يريد قول عنترة :
2411 وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً ... تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ
يقال : مَكَتِ الفَريصة ، أي : صَوَّتَتَ بالدم . ومكت اسْتُ الدابة ، أي : نفخت
بالريح . وقال مجاهد : المُكَّاء : صفير على لحنِ طائرٍ أبيضَ يكون بالحجاز قال
الشاعر :
2412 إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ ... فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات
المُكَّاء فُعَّال بناء مبالغة . قال أبو عبيدة : » يقال مكا يمكو مُكُوَّاً ومُكاءً
: صَفَر ، والمُكاء بالضم كالبُكاء والصُّراخ . قيل : ولم يشذَّ من أسماء الأصوات
بالكسرِ إلا الغِناء والنِّداء .
والتَّصْدِية فيها قولان أحدهما : أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت
في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه : صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة ، والمراد بها
هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى . وفي التفسير : أن
المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ويتلو القرآن
صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه
قراءته . وهذا مناسبٌ لقوله : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] / . وقيل : هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدَة
وهي الضجيج والصِّياحُ والتصفيق ، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً ، ويدلُّ
عليه قولُه تعالى : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] في
قراءة مَنْ كسر الصاد أي : يضجُّون ويَلْغَطون . وهذا قول أبي عبيدة . وقد ردَّه
عليه أبو جعفر الرُّسْتمي ، وقال : « إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من
المضعَّف »؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال : « قد ثبت أنَّ يَصُدُّون
مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه ، وتَصْدِية تَفْعِلَة » ، ثم ذكر كلاماً كثيراً .
والثاني : أنها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل : تَصْدِدَة بدالين أيضاً ، فأُبْدِلت
ثانيتهما ياءً . ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ « يَصُدُّون » بالضم أي : يمنعون .
وقرأ العامَّةُ « صلاتُهم » رفعاً ، « مُكاءً » نصباً ، وأبان بن تغلب والأعمش
وعاصم بخلافٍ عنهما « وما كان صلاتَهم » نصباً ، « مكاءٌ » رفعاً . وخطَّأ الفارسي
هذه القراءةَ وقال : « لا يجوز أن يُخْبر عن النكرةِ بالمعرفةِ إلا في ضرورة كقول
حسان :
2413 كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ ... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وخرَّجها أبو الفتح على أن المُكاء والتصدية اسما جنس ، يعني أنهما مصدران قال : »
واسم الجنس تعريفُه وتنكيره متقاربان فلِمَ يُقال ثانيهما جُعل اسماً والآخر
خبراً؟ وهذا يَقْرُب من المعرَّف بأل الجنسية حيث وُصِف بالجملة ، كما يُوصف به
النكرة كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37
] ، وقولِ الآخر :
2414 ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني
وقال بعضهم : « وقد قرأ أبو عمرو » إلا مُكاً « بالقصر والتنوين ، وهذا كما قالوا
: بكاء وبُكى بالمد والقصر . وقال الشاعر فجمع بين اللغتين :
2415 بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها ... وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قوله
تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث } : قد تقدَّم الخلافُ فيه في آل عمران . وقوله :
« ويَجْعل » : يحتمل أن تكون تصييريةً فتنصبَ مفعولين ، وأن تكونَ بمعنى الإِلقاء
فتتعدَّى لواحد ، وعلى كلا التقديرين ف « بعضه » بدلُ بعضٍ من كل ، وعلى القول
الأول يكون « على بعض » في موضع المفعول الثاني ، وعلى الثاني يكون متعلقاً بنفس
الجَعْل نحو قولك : « ألقيْتَ متاعك بعضَه على بعض » . وقال أبو البقاء بعد أن حكم
عليها بأنها تتعدَّى لواحد : « وقيل : الجار والمجرور حالٌ تقديرُه : ويجعل الخبيث
بعضه عالياً على بعض » .
واللام في « ليميز » متعلقة بيُحْشَرون . ويقال : مَيَّزته فتميَّزَ ، ومِزْتُه
فانماز . وقرئ شاذاً { وانمازوا اليوم } [ يس : 59 ] ، وأنشد أبو زيد :
2416 لمَّا نبا اللهُ عني شرَّ غَدْرتِه ... وانْمِزْتُ لا مُنْسِئاً غَدْراً ولا
وَجِلا
وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران .
قوله : { فَيَرْكُمَهُ } نسقٌ على المنصوب قبله . والرَّكْمُ : جَمْعُك الشيءَ فوق
الشيء حتى يَصير رُكاماً ومَرْكوماً ، كما يُركم الرمل والسحاب ، ومنه {
يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] . والمُرْتَكم : جادَّة الطريق
للرَّكْم الذي فيه ، أي : ازدحام السَّابلة وآثارهم . و « جميعاً » حال . ويجوز أن
يكونَ توكيداً عند بعضهم .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قوله
تعالى : { لِلَّذِينَ كفروا } : في هذه اللام الوجهان المشهوران : إمَّا التبليغُ
، أَمَرَ أن يبلِّغهم معنى هذه الجملةِ المحكيةِ بالقول ، وسواءً أوردها بهذا
اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍ لمعناها . والثاني : أنها للتعليل وبه قال الزمخشري ومنع
أن تكون للتبليغ فقال : « أي : قل لأجلهم هذا القولَ إن ينتهوا ، ولو كان بمعنى
خاطبهم به لقيل : إن تَنْتَهوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود ، ونحوه : { وَقَالَ
الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ } [
الأحقاف : 11 ] خاطبوا به غيرَهم [ لأجلهم ] ليسمعوه » .
وقرئ « يَغْفر » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير يعود على الله تعالى .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
قوله تعالى : / « { وَيَكُونَ } : العامةُ على نصبِه نسقاً على المنصوب قبله . وقرأه الأعمشُ مرفوعاً على الاستئناف . وقرأ الحسن ويعقوب وسليمان بن سلام » بما تَعْملون « بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة .
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
قوله تعالى : { أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى } : يجوز في « مولاكم » وجهان ، أظهرُهما : أنَّ « مولاكم » هو الخبر و « نِعْم المولى » جملةٌ مستقلة سِيْقَتْ للمدح . والثاني : أن تكون بدلاً من « الله » والجملةُ المَدْحِيَّةُ خبر ل « أن » والمخصوصُ بالمدح محذوف أي : نِعْم المولَى اللهُ أو ربكم .
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قوله
تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } : الظاهرُ أن « ما » هذه موصولةٌ بمعنى
الذي ، وكان مِنْ حقها أن تُكتب منفصلةً من « أنَّ » كما كُتِبَتْ { إِنَّ مَا
تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلةً ولكن كذا رُسِمت . و « غَنِمْتم »
صلتُها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي : غَنِمْتموه . وقوله : { فأنَّ الله }
الفاءُ مزيدةٌ في الخبر ، لأن المبتدأ ضُمِّن معنى الشرط ، ولا يَضُرُّ دخولُ
الناسخ عليه لأنه لم يغيِّرْ معناه وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ }
[ البروج : 10 ] ثم قال : « فلهم » . والأخفش مع تجويزه زيادةَ الفاء في خبر
المبتدأ مطلقاً يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشرط إذا دخلَتْ عليه « إنَّ »
المكسورة ، وآيةُ البروج حجَّةٌ عليه . وإذا تقرَّر هذا ف « أنَّ » وما عَمِلَتْ
فيه في محلِّ رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : فواجبٌ أن لله خُمُسَه
، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر ل « أنَّ » . وظاهر كلام الشيخ أنه جَعَلَ
الفاءَ داخلةً على « أن لله خُمُسَه » من غير تقديرِ أن تكونَ مبتدأ وخبرها محذوف
، بل جَعَلَها بنفسها خبراً ، وليس مرادُه ذلك ، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ
بل على جملةٍ ، والذي يُقَوِّي إرادَته ما ذكرتُه أنه حكى قولَ الزمخشري أعني
كونَه قَدَّره أنَّ « أنَّ » وما في حَيِّزها مبتدأٌ محذوفُ الخبر ، فَجَعَله
قولاً زائداً على ما قدَّمه .
ويجوز في « ما » أن تكونَ شرطيةً ، وعاملُها « غَنِمْتُم » بعدها ، واسمُ « أنَّ »
حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشأن وهو مذهبُ الفراء . إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين
إلا ضرورةً بشرط أَنْ لا يليها فعل كقوله :
2417 إنَّ مَن يدخلِ الكنيسةِ يوماً ... يَلْقَ فيها جآذِراً وظِباءَ
وقول الآخر :
2418- إنَّ مَنْ لام في بني بنتِ حَسَّا ... نَ أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطوبِ
وقيل : الفاءُ زائدةٌ و « أن » الثانيةُ بدلٌ من الأولى . وقال مكي : « وقد قيل :
إن الثانيةَ مؤكدةٌ للأولى ، وهذا لا يجوز لأن » أنَّ « الأولى تبقى بغير خبرٍ ،
ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد ، وزيادتُها لا تَحْسُن في مثل هذا » .
وقيل : « ما » مصدريةٌ والمصدر بمعنى المفعول أي : أنَّ مَغْنومكم [ هو ] المفعول
به ، أي : واعلموا أنَّ غُنْمكم ، أي مغنومكم .
قوله : { مِّن شَيْءٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ عائد الموصول المقدَّر ،
والمعنى : ما غنمتموه كائناً من شيء أي : قليلاً أو كثيراً . وحكى ابن عطية عن
الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، وحكى غيرُه عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو : « فإن
لله » بكسر الهمزة . ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي « فللَّه خمسُه » فإنها
استئناف .
وخرَّجها
أبو البقاء على أنها وما في حَيِّزها في محل رفع خبراً ل « أنَّ » الأولى .
وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو « خُمْسَه » وهو تخفيفٌ حسن . وقرأ الجعفي «
خِمْسَه » ، قالوا : وتخريجها أنه أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة
مِنْ كلمة أخرى مستقلة قالوا : وهي كقراءة مَنْ قرأ { والسمآء ذَاتِ الحبك } [
الذاريات : 7 ] بكسر الحاء إتباعاً لكسرةِ التاء من « ذات » ولم يَعْتَدُّوا
بالساكن وهو لامُ التعريف لأنه حاجزٌ غيرُ حصين . ليت شعري وكيف يَقْرأ الجعفي
والحالةُ هذه؟ فإنَّه إنْ قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقلِ لخروجه مِنْ
كسرٍ إلى ضم ، وإن قرأ بسكونها وهو الظاهر فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو أو عن
عاصم ، ولكن الذي قرأ « ذاتِ الحِبك » يُبْقي ضمَّة الباء فيؤدي إلى فِعُل بكسر
الفاء وضمِّ العين وهو بناءٌ مرفوض ، وإنما قلت إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر
الباء لَما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإِتباع لأنَّ في « الحبك » لغتين :
ضمَّ الحاء والباء أو كسرَهما ، حتى زعم/ بعضُهم أن قراءة الخروج مِنْ كسرٍ إلى
ضمٍ من التداخل .
والغنيمة أصلُها مِن الغُنْم وهو الفوز ، وأصل ذلك مِن الغَنَم هذا الحيوان
المعروف فإن الظفرَ به يُسَمَّى غُنْماً ثم اتُّسِع في ذلك فسُمِّي كلُّ شيء
مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغنيمةً . قال علقمة بن عبدة :
2419 ومُطْعَمُ الغُنْم يومَ الغُنْمِ مَطْعَمُه ... أنَّى توجَّه والمحرومُ
محرومُ
وقال آخر :
2420 لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى ... رَضِيتُ من الغنيمة بالإِياب
قوله : { إِن كُنتُمْ } شرطٌ جوابه مقدرٌ عند الجمهور لا متقدمٌ ، أي : إن كنتم
آمنتم فاعلموا أن حكمَ الخُمْس ما تقدَّم ، أو فاقبلوا ما أُمِرتم به .
قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا } « ما » عطفٌ على الجلالة فهي مجرورةُ المحلِّ ،
وعائدُها محذوف . وزعم بعضهم أن جوابَ الشرط متقدم عليه ، وهو قوله « فنِعْم
المَولى » وهذا لا يجوزُ على قواعد البصريين .
قوله { يَوْمَ الفرقان } يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أن يكون منصوباً ب «
أَنْزلنا » أي : أَنْزَلْناه في يوم بدر الذي فُرِق فيه بين الحق والباطل . الثاني
: أن ينتصبَ بقوله « آمنتم » ، أي : إن كنتم آمنتمْ في يومِ الفرقان . ذكره أبو
البقاء . والثالث : أنه يجوزُ أن يكون منصوباً بغَنِمْتُمْ . قال الزجاج : « أي ما
غنمتم في يوم الفرقان حكمُه كذا وكذا » . قال ابن عطية : « وهذا تأويلٌ حسنٌ في
المعنى ، ويعترضه أنَّ فيه الفصلَ بين الظرف وما يَعْمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ
الألفاظِ » . قلت : وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصَّ من هذه ، وذلك أن « ما »
: إمَّا شرطية كما هو رأي الفراء ، وإمَّا موصولة ، فعلى الأول يؤدِّي إلى الفصل
بين فعلِ الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلَّقاتها ، وعلى الثاني يؤدِّي إلى
الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر « أنَّ » .
قوله : { يَوْمَ التقى الجمعان } فيه وجهان : أحدهما : أنه بدلٌ من الظرفِ قبله . والثاني : أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدرٌ فكأنه قيل : يومَ فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاءِ الجمعين . وقرأ زيد بن علي « عُبُدنا » بضمتين وهو جمع عَبْد ، وهذا كما قرئ { وَعُبُدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] والمراد بالعُبُدِ في هذه القراءة هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعه من المؤمنين .
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
قوله
تعالى : { إِذْ أَنتُمْ } : في هذا الظرفِ أربعةُ أوجهٍ أحدها : أنه منصوبٌ ب «
اذكروا » مقدراً وهو قول الزجاج . الثاني : أنه بدل من « يوم الفرقان » أيضاً .
الثالث : أنه منصوبٌ ب « قدير » ، وهذا ليس بواضحٍ ، إذ لا يتقيَّد اتصافُه
بالقدرة بظرفٍ من الظروف . الرابع : أنه منصوبٌ بالفرقان أي : فَرَقَ بين الحق
والباطل إذ أنتم بالعُدْوة .
قوله : { بالعدوة } متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ ، والباء بمعنى « في » كقولك «
: زيد بمكة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعِدوة بكسر العين فيهما . والباقون بالضم
فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ
ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزَها أي منعته . قال الشاعر :
2421 عَدَتْني عن زيارتها العَوادي ... وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ
وقرأ الحسن وزيد بن علي وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلُّها لغاتٌ بمعنى
واحد . هذا هو قولُ جمهورِ اللغويين . على أن أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ
ووافقه الأخفش فقال : » لم يُسْمَعْ من العرب إلا الكسرُ « . ونقل أبو عبيد اللغتين
إلا أنه قال : » الضمُّ أكثرهما « . وقال اليزيدي : » الكسر لغة الحجاز « وأنشد
قولَ أوس بن حجر :
2422 وفارسٍ لم يَحُلَّ القوم عِدْوَتَه ... وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقبال
بالكسر والضم ، وهذا هو الذي ينبغي أن يُقال فلا وجهَ لإِنكار الضمِّ ولا الكسر
لتواتر كلٍ منهما . ويُحْمل قول أبي عمرو على أنه لم يَبْلُغْه . ويُحتمل أن يُقال
في قراءةِ مَنْ قرأ بفتح/ العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان .
وقُرئ شاذّاً » بالعِدْية « بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها ، ولا يُعْتبر
الفاصلُ لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا : » هو ابن عمي دِنيا « بكسر
الدال وهو من الدنو ، وكذلك قِنْية وصِبْية ، وأصله السَّلامة كالذِّرْوَة
والصِّفْوة والرِّبوة . وقوله : » الدنيا « قد تقدَّم الكلام على هذه اللفظة
مسبقاً .
قوله : { القصوى } تأنيث الأقصى . والأقصى : الأبعد . والقَصْوُ : البعد .
وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فُعْلى من ذوات الواو : إن كانت اسماً أُبْدِلَتْ
لامُها ياءً ، ثم يُمَثِّلون بنحو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا ، وهذه صفاتٌ
لأنها من باب أفعل التفضيل وكأنَّ العذرَ لهم أن هذه وإن كانت في الأصلِ صفاتٍ إلا
أنها جَرَتْ مجرى الجوامد . قالوا : وإن كانت فُعْلى صفةً أُقِرَّتْ لامُها على
حالها نحو : الحُلْوى تأنيث الأحلى ، ونَصُّوا على أن القُصْوى شاذة وإن كانت لغة
الحجاز ، وأن القُصْيا قياسٌ ، وهي لغة تميم . وممَّن نصَّ على شذوذ القصوى يعقوب
بن السكيت . وقال الزمخشري : » وأما القصوى فكالقَوَد في مجيئه على الأصل ، وقد
جاء القُصْيا إلا أنَّ استعمالَ القُصْوى أكثر ، كما كثر استعمال « استصوب » مع
مجيء « استصاب » وأَغْيلت مع أغالَتْ « انتهى .
وقد
قرأ زيد بن علي « بالعُدْوَة والقُصْيا » فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياسُ عند
هؤلاء .
والعبارة الثانية وهي المغلوبَةُ القليلةُ العكس ، أي : إن كانَتْ صفةً أُبْدِلت
نحو : العُليا والدنيا والقُصْيا ، وإن كانت اسماً أُقِرَّت نحو : حُزْوَى كقوله :
2423 أداراً بحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو
يَتَرَقْرَقُ
وعلى هذا فالحُلْوى شاذة لإِقرار لامها مع كونها صفةً ، وكذا القُصوى أيضاً عند
هؤلاء لأنها صفة .
وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أن « قُصْوى » على خلافِ القياس فيهما ، وأن «
قُصْيا » هي القياس لأنها عند الأوَّلين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء ،
وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم يقلبونها أيضاً ياءً ، وإنما يَظْهر الفرقُ في
الحُلْوى وحُزْوى : فالحُلْوى عند الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صفةً وشاذة
عند الآخرين لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلَبُ واوُها ياءً ، والحُزْوَى عكسُها : فإن
الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماء دون الصفات ، والآخرون عكسُهم . وهذا موضعٌ حَسَنٌ
يختلط على كثير من الناس فلذلك نَقَّحْته . ونعني بالشذوذِ شذوذَ القياسِ لا شذوذَ
الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال المتواتر بالقصوى .
قوله : { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسنُ في هذه الواو ، والواو التي قبلها
الداخلة على « هم » أن تكونَ عاطفةً ما بعدها على « أنتم » لأنها مَبْدأُ تقسيم
أحوالهم وأحوال عدوهم . ويجوز أن تكونا واوَيْ حال . و « أسفل » منصوبٌ على الظرف
النائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوف أي : والركب مكاناً أسفلَ
من مكانكم . وقرأ زيد بن علي « أسفلُ » بالرفع وذلك على سبيل الاتِّساع ، جعل
الظرف نفسَ الركب مبالغة واتساعاً . وقال مكي : « وأجاز الفراء والأخفش والكسائي »
أسفلُ « بالرفع على تقديرِ محذوفٍ أي : موضعُ الركب أسفلُ » . والتخريجُ الأولُ
أبلغُ في المعنى .
والرَّكْبُ اسمُ جمعٍ لراكب لا جمعُ تكسيرٍ له خلافاً للأخفش لقوله :
2424 بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا ... أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا
فصَغَّره على لفظه ، ولو كان جمعاً لَما صُغِّر على لفظه .
قوله : { ولكن لِّيَقْضِيَ } « ليَقْضي » متعلِّقٌ بمحذوف ، أي : ولكن تلاقَيْتُم
ليقضيَ . وقدَّر الزمخشري ذلك المحذوفَ فقال : « أي : ليقضيَ الله أمراً كان
واجباً أن يُفْعل وهو نصرُ أوليائه وقَهْرُ أعدائه دَبَّر ذلك » .
و « كان » يُحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان
الماضي ، وأن تكونَ بمعنى صار ، فتدلَّ على التحوُّل أي : صار مفعولاً بعد أن لم
يكن كذلك .
/ قوله : { لِّيَهْلِكَ } فيه أوجه ، أحدها : أنه بدلٌ من قوله « ليقضيَ » بإعادة
العامل فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول .
الثاني
: أنه متعلقٌ بقوله « مفعولاً » ، أي : فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكيتَ . الثالث :
أنه متعلِّقٌ بما تعلَّق به « ليقضيَ » على سبيل العطف عليه بحرفِ عطفٍ محذوف
تقديره : وليهلك ، فحذف العاطفَ وهو قليلٌ جداً . وقد قدَّمْتُ التنبيهَ عليه .
الرابع : أنه متعلِّقٌ ب « يَقْضي » ذكره أبو البقاء . وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي
بكر عن عاصم « ليهلَكَ » بفتح اللام ، وقياسُ ماضي هذا « هَلِك » بالكسر .
والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { حتى
إِذَا هَلَكَ } [ غافر : 34 ] .
قوله : { مَنْ حَيَّ } قرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم ، والبزي عن ابن كثير
بالإِظهار ، والباقون بالإِدغام . والإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان
مشهورتان : وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو : حَيِي وعَيِيَ
. ومن الإِدغام قولُ المتلمس :
2425 فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه ... . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
2426 عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ... عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ
فأدغم « عيُّوا » ، ويُنْشَدُ : عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام . فَمَنْ
أظهر فلأنه الأصلُ ، ولأن الإِدغامَ يؤدِّي إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في
ذاته ، ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور ، وذلك في مضارع
هذا الفعلِ لانقلاب الثانية ألفاً في يَحْيَا ويَعْيَا ، فَحُمِل الماضي عليه
طَرْداً للبابِ ، ولأن الحركة في الثاني عارضةٌ لزوالها في نحو : حَييت وبابه ،
ولأنَّ الحركتين مختلفتان ، واختلافُ الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا : ولذلك
قالوا : لَحِحَت عينه وضَبِبَ المكان وأَلِلَ السِّقاء ومَشِشَتْ الدابة . قال
سيبويه : « أخبرَنا بهذه اللغة يونس » يعني بلغة الإِظهار . قال : « وسمعت بعض
العرب يقول : أَحْيِياء وأَحْيِيَة فيُظْهر » وإذا لم يُدْغم مع لزومِ الحركةِ فمع
عُروضها أَوْلى . ومَنْ أدغم فلاستثقالِ ظهرِ الكسرة في حرفٍ يُجانسه؛ ولأنَّ
حركةَ الثانية لازمةٌ لأنها حركةُ بناء ، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ ،
كما لا يضرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح نحو : حَلَلْتُ وظَلَلْتُ؛ وهذا
كلُّه فيما كانت حركتُه حركةَ بناءٍ ، ولذلك قُيِّد به بالماضي ، أمَّا إذا كانت
حركةَ إعراب فالإِظهارُ فقط له : يُحْيِيَ ولن يُعْيِيَ .
قوله : { عَن بَيِّنَةٍ } : متعلقٌ ب « يَهْلِكَ » و « يَحْيَا » . والهلاكُ
والحياةُ عبارةٌ عن الإِيمان والكفر . والمعنى : ليصدرَ كفرُ مَنْ كفر عن وضوحٍ
وبيان لا عن مخالجةِ شبهة ، وليصدرَ إسلامُ مَنْ أسلم عن وضوحٍ لا عن مخالجة شبهة
.
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
قوله
تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } : الناصب ل « إذ » يجوز أن يكون مضمراً أي :
اذكر ، ويجوز أن يكون « عليم » وفيه بُعْدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقت .
ويجوز أن تكون « إذ » هذه بدلاً من « إذ » قبلها .
والإِراءة هنا حُلْمية واختلف فيها النحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصَريَّة
أو لاثنين كالظنيَّة؟ فالجمهورُ على الأول . فإذا دخلت همزةُ النقلِ أَكْسَبَتْها
ثانياً أو ثالثاً على حسب القولين ، فعلى الأول تكون الكافُ مفعولاً أول ، و « هم
» مفعول ثان . و « قليلاً » حال ، وعلى الثاني يكون « قليلاً » نصباً على المفعول
الثالث ، وهذا يَبْطُلُ بجواز حَذْفِ الثالث في هذا الباب اقتصاراً ، أي من غيرِ
دليلٍ تقول : أراني الله زيداً في منامي ، ورأيته في النوم ، ولو كانت تتعدَّى
لثلاثةٍ لَمَا حُذِف اقتصاراً لأنه خبر في الأصل .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قوله تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } : الإِراءةُ هنا بَصَرية والإِتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ لاتصالها بضمير . ولا يجوز التسكينُ ولا الضمُّ من غير واو . وقد جوَّز يونس ذلك فيقول : أنتم ضَرَبْتُمه في « ضربتموه » بتسكين الميم وضمها . وقد يتقوَّى بما رُوي عن عثمان رضي الله عنه : « أراهُمُني/ الباطل شيطاناً » . وفي هذا الكلام شذوذٌ من وجهٍ آخرَ : تقديم الضمير غيرِ الأخص على الأخصِّ مع الاتصال .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
قوله تعالى : { فَتَفْشَلُواْ } : يحتمل وجهين ، أحدهما : نصبٌ على جواب النهي . والثاني : الجزم عطفاً على فعل النهي قبله ، وقد تقدَّم تحقيقهما في « وتَخُونوا » قبل ذلك . ويدلُّ على الثاني قراءةُ عيسى ابن عمر « ويَذْهَبُ » بياء الغيبة وجزمه . ونقل أبو البقاء قراءةَ الجزم ولم يُقَيِّدها بياء الغيبة . وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة « ويَذْهَبَ » بياء الغيبة ونصبِه . وقرأ الحسن : فَتَفْشِلوا بكسر الشين . قال أبو حاتم : « هذا غيرُ معروف » وقال غيره : إنها لغةٌ ثانية .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
قوله
تعالى : { بَطَراً وَرِئَآءَ } : منصوبان على المفعول له ، ويجوز أن يكونا
مَصْدرين في موضع نصبٍ على الحال من فاعل « خرجوا » أي : خَرَجُوا بَطِرين
ومُرائين . و « رئاء » مصدرٌ مضاف لمفعولِه .
قوله : { وَيَصُدُّونَ } يجوز أن يكونَ مستأنفاً ، وأن يكون عطفاً على « بطراً »
ورئاء « لأنه مُؤوَّل بالحال أي : بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ ، وحُذِفَ
المفعولُ للدلالة عليه أو تناساه .
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
قوله
تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ } : أي : اذكر وقت تزيين و « قال » يجوز أن تكون عطفاً
على « زَيَّن » ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، و « قد » مضمرةٌ بعد الواو عند مَنْ
يَشْترط ذلك .
قوله : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ } « لكم » خبر « لا » فيتعلَّق بمحذوف و « اليوم »
منصوبٌ بما تعلَّق به الخبر . ولا يجوز أن يكون « لكم » أو الظرف متعلقاً ب « غالب
» لأنه يكونُ مُطوَّلاً ، ومتى كان مُطَوَّلاً أُعرب نصباً .
قوله : { مِنَ الناس } بيان لجنس الغالب . وقيل : هو حال من الضمير في « لكم »
لتضمُّنه معنى الاستقرار . ومنع أبو البقاء أن يكون « من الناس » حالاً من الضمير
في « غالب » قال : « لأن اسم » لا « إذا عمل فيما بعده أُعْرِب » والأمر كذلك .
قوله : { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ معطوفةً على قوله
« لا غالبَ لكم » فيكون قد عطف جملةً منفيةً على أخرى منفيةٍ . ويجوز أن تكونَ
الواو للحال . وألف « جار » من واو لقولهم « تجاوروا » وقد تقدم تحقيقه . و « لكم
» متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل « جار » ، ويجوز أن يتعلق ب « جار » لما فيه من معنى
الفعل « .
و » الريح « في قوله { ريحكم } كنايةٌ عن الدَّوْلة والغلبة قال :
2427 إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنِمْها ... فإنَّ لكلِّ عاصفةٍ سكونا
ورواه أبو عبيد » ركوداً « . وقال آخر :
2428 أتَنْظُران قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أم تَعْدُوانِ فإن الريح للعادي
وقال :
2429 قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم ... ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لَقُوا
وقيل : الريح : الهيبة ، وهو قريبٌ من الأول كقوله :
2430 كما حَمَيْناك يوم النَّعْفِ مِنْ شَطَطٍ ... والفضلُ للقوم مِنْ ريحٍ ومن
عَدَدِ
قوله : » نَكَص « جواب » لمَّا « والنُّكوص : قال النضر بن شميل : » الرجوع قهقرى
هارباً « . قال بعضهم : هذا أصلُه ، إلا أنه قد اتُّسِع فيه حتى استُعْمل في كل
رجوع وإن لم يكن قَهْقَرى قال الشاعر :
2431 هم يضربون حَبِيْكَ البَيْضِ إذ لَحِقُوا ... لا يَنْكُصُون إذا ما
استُلْحِموا لَحِموا
وقال المؤرِّج : » النُّكوص : الرجوعُ بلغة سُلَيْم « وقال الشاعر :
2432 ليس النكوصُ على الأَعْقابِ مَكْرُمَةً ... إن المكارمَ إقدامٌ على الأَسَلِ
فهذا إنما يريد به مُطْلَق الرجوع لأنه كنايةٌ عن الفِرار ، وفيه نظر؛ لأن غالب
الفِرار في القتال إنما هو كما ذُكِر رجوعُ القَهْقَرى . و » على عَقِبيْه « حال :
إمَّا مؤكدةٌ عند مَنْ يَخُصُّه بالقهقرى ، أو مؤسَّسةٌ عند مَنْ يَسْتعمله في
مطلق الرجوع .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
قوله تعالى : { إذ يقولُ } : العامل في « إذ » إمَّا « زَيَّن » ، وإمَّا « نكص » ، وإمَّا « شديد العقاب ، وإمَّا اذكروا . و » غرَّ هؤلاءِ دينَهم « منصوبُ المحل بالقول .
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
قوله
تعالى : { يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ } : قرأ ابن عامر والأعرج « تتوفَّى » بتاء
التأنيث في « تتوفَّى » لتأنيث الجماعة . والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان :
أظهرهما : لموافقة قراءة مَنْ تقدم أن الفاعل الملائكة وإنما ذُكِّر للفصل؛ لأن
التأنيث مجازي . والثاني : أن الفاعل ضمير الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه ، و «
الملائكةُ » مبتدأ و « يَضْربون » خبره . وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان أحدُهما :
أنها حالٌ من المفعول . والثاني : أنها استئنافيةٌ جواباً لسؤالٍ مقدر ، وعلى هذا
فيوقف على « الذين كفروا » بخلاف الوجهين قبله . وضعَّف ابنُ عطية وجهَ الحال
بعدم/ الواو ، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال
خاليةً من واو نظماً ونثراً . وعلى كون « الملائكة » فاعلاً يكون « يَضْربون »
جملةً حاليةً سواءً قرئ بالتأنيث أم بالتذكير . وجوابُ « لو » محذوفٌ للدلالة عليه
أي : لرأيت أمراً عظيماً .
قوله : { وَذُوقُواْ } هذا منصوب بإضمار قول الملائكة أي : يضربونهم ويقولون لهم :
ذوقوا . وقيل : الواو في « يَضْربون » للمؤمنين ، أي : يَضْربونهم حالَ القتال
وحال تَوَفِّي أرواحِهم الملائكة .
قوله : { وَأَنَّ الله } عطفٌ على « ما » المجرورة بالياء أي : ذلك بسببِ تقديم
أيديكم ، وبسبب أنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
وقوله تعالى : { كَدَاْبِ آلِ } : قد تقدَّم نظيره في آل عمران .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ } : مبتدأ وخبر أيضاً كنظيره ، أي : ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أن الله . وقوله : « وأنَّ الله سميعٌ » الجمهورُ على فتح « أنَّ » نَسَقاً على « أنَّ » قبلها ، أي : وسبب أن الله سميع عليم . ويُقْرأ بكسرِها على الاستئناف .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
قوله
تعالى : { كَدَأْبِ } : قال قومٌ : « هو تكريرٌ للأول » . وقال قوم : كُرِّر لغير
تأكيد لوجوهٍ منها : أن الأول دَأْبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا ، وهذا دَأْبٌ في
أَنْ لم يغير الله نعمتهم حتى غَيَّروها هم ، قاله ابن عطية . ومنها : أن الثاني
جارٍ مجرى التفصيل الأول فإن الأولَ متضمِّنٌ لذِكْرِ إجرامهم والثاني متضمِّنٌ
لذكر إغراقهم ، وفي الأولى ما يَنْزِل بهم حالَ الموت من العقوبة ، وفي الثاني ما
يَحُلُّ بهم من العذاب في الآخرة ، وجاء في الأولى بآيات الله إشارةً إلى إنكارِ
ذِكْر دلائلِ الإِلهيَّة . وفي الثاني بآيات ربهم إشارةً إلى إنكارهم مَنْ
رَبَّاهم وأحسنَ إليهم . وقال الكرماني : « يُحتمل أن يكون الضمير في » كفروا « في
الآية الأولى عائداً على قريش ، والضمير في » كذَّبوا « في الثانية عائداً على آلِ
فرعون ومَنْ ذُكِر معهم » .
قوله : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } جُمِع الضميرُ في « كانوا » وجُمع «
ظالمين » مراعاةً لمعنى « كل »؛ لأنَّ « كلاً » متى قُطعت عن الإِضافة جاز مراعاةُ
لفظِها تارةً ومعناها أخرى ، وإنما اختير هنا مراعاةُ المعنى لأجلِ الفواصلِ ، ولو
رُوعي اللفظُ فقيل مثلاً : وكلٌّ كان ظالماً لم تتَّفق الفواصل .
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
قوله تعالى : { الذين عَاهَدْتَّ } : يجوز فيه أوجه ، أحدها : الرفعُ على البدل من الموصولِ قبلَه أو على النعت له ، أو على عطف البيان ، أو النصبُ على الذم ، أو الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ قولُه : « فإمَّا تَثْقَفَنَّ » بمعنى : مَنْ تعاهد منهم أي من الكفار ثم ينقضون عهدهم ، فإن ظفِرْتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت ، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وهذا ظاهر كلام ابن عطية . و « منهم » يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف إذ التقدير : الذي عاهدتهم أي : كائنين منهم ، ف « مِنْ » للتبعيض . وقيل : هي بمعنى مع . وقيل : الكلامُ محمولٌ على معناه ، أي : أَخَذْتَ منهم العهدَ . وقيل : زائدةٌ أي : عاهَدْتَهم . والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ والأول أصحُّ .
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
قوله
تعالى : { فَشَرِّدْ } : العامَّةُ على الدال المهملة والتشريدُ : التطريد
والتفريقُ والتسميع ، وهذه المعاني كلُّها لائقة بالآية . وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه
بالذال المعجمة . قال الشيخ : « وكذا هي في مصحف عبد الله » . قلت : وقد تقدم أن
النَّقْط والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ أحدثه يحيى بن يعمر فكيف يُوْجَد ذلك في مصحف ابن
مسعود؟ قيل : وهذه المادة أعني الشين والراء والذال المعجمة مهملةٌ في لغة العرب .
وفي هذه القراءةِ أوجه أحدها : أن الذالَ بدلٌ من مجاورتها كقولهم : لحم خراديل
وخراذيل . الثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ شذر من قولهم : تفرقوا شَذَر مَذَر ، ومنه
الشَّذْر المُلْتَقَطُ من المعدن لتفرُّقِه ، قال :
2433 غرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمة ... يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً
مُفَقَّرا
الثالث : أنه مِنْ « شَذَر في مقاله » إذا أكثر فيه ، قاله أبو البقاء ، ومعناه
غير لائق هنا . وقال قطرب : « شرذ » بالمعجمة : التنكيل ، وبالمهملة التفريق ،
وهذا يقوِّي قول مَنْ قال : إن هذه المادة ثابتةٌ في لغة العرب .
قوله : « مَنْ خَلْفَهم » مفعولُ « شَرِّد » . وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه وأبو حيوة «
مِنْ خلفِهم » جاراً ومجروراً . والمفعولُ على هذه القراءةِ محذوفٌ أي : فَشَرِّدْ
أمثالَهم من الأعداء أو ناساً يعملون بعملهم . والضميران في « لعلهم يَذَّكَّرون »
الظاهر عَوْدُهما على « مَنْ خلفهم » ، أي إذا رَأَوا ما/ حَلَّ بالناقِضين
تذكَّروا . وقيل : يعودان على المُنْقِضين ، وليس له معنى طائل .
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
قوله
تعالى : { فانبذ إِلَيْهِمْ } : مفعولُه محذوف ، أي : انبِذْ إليهم عهودَهم ، أي :
اطرَحْها ولا تكترِثْ بها . و « على سواء » حال إمَّا : من الفاعِل أي : انبذها
وأنت على طريقٍ قَصْدٍ ، أي : كائناً على عدل فلا تَبْغَتْهُمْ بالقتال ، بل
أَعْلِمْهم به ، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً ، أي : كائنين على استواء في
العلم أو في العداوة . وقرأ العامة بفتح السين ، وزيد بن علي بكسرِها ، وهي لغةٌ
تقدَّمَ التنبيهُ عليها أولَ البقرة .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } يُحتمل أن تكون هذه الجملةُ تعليلاً
معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل ، وهو إعلامُهم ، وأن تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ
لِذَمِّ مَنْ خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَقَضَ عهده .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
قوله
تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم « يَحْسَبَنَّ »
بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله « لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا معجزين [ في
الأرض ] » كذلك خلا حَفْصاً . والباقون بتاء الخطاب .
وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران . ولا بد
مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها : أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ
يُفَسِّره السياق تقديره : ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب
، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم . وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون «
الذين كفروا » مفعولاً أولَ ، و « سبقوا » جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً . وقيل
: الفعلُ مسندٌ إلى « الذين كفروا » ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين : فقال قوم :
الأولُ محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف « هم » مفعول أول
، و « سَبَقوا » في محلِّ الثاني ، أو يكون التقدير : لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا
أنفسَهم سَبَقوا ، وهو في المعنى كالذي قبله . وقال قومٌ : بل « أن » الموصولة
محذوفة ، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبن
الذين كفروا أنْ سبقوا ، فحذفت « أن » الموصولة وبقيت صلتها كقوله { وَمِنْ
آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] ، أي : أن يريكم وقولهم : « تَسْمَعُ
بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه » وقوله :
2434 ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله « أنهم سبقوا » . وقال قوم : « بل » سبقوا « في
محلِّ نصبٍ على الحال ، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين » أنهم لا يعجزون « في قراءة
مَنْ قرأ بفتح » أنهم « وهو ابن عامر ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا سابقين
أنهم لا يعجزون ، وتكون » لا « مزيدةً ليصح المعنى » .
قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ : « وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها
حمزةُ بنيِّرة » . وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ
بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً ،
وعاصمٌ في رواية حفص ، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن
السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى .
وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ « لا يحسبَنَّ » واقع على « أنهم لا يُعْجِزون »
وتكونُ « لا » صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة
يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت : هو لم يلتزم التخريج على
قراءةِ حمزة في الموضعين : أعني « لا يَحْسَبَنَّ » وقولهم « أنهم لا يعجزون » حتى
نُلْزِمه ما ذكر .
وأمَّا
قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي : لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ ، و « الذين كفروا
» مفعولٌ أولُ ، والثاني « سبقوا » ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ : أنه يجوز
أن يكون الفاعلُ الموصولَ ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله : {
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] ، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ
ههنا .
وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ «
أنْ » الموصولة لتعذُّرِ ذلك ، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا : وهو أن
يكون « الذين كفروا » فاعلاً ، و « مُعْجزين » مفعول أول و « في الأرض » الثاني .
أي : لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته . وأمَّا قراءةُ الخطاب
فواضحةٌ على ما قدَّمته لك .
وقرأ الأعمش : « ولا يَحْسَبَ الذين كفروا » بفتح الباء . وتخريجها أن الفعلَ
مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة ، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين ، كما يُحْذَفُ له
التنوين فهو كقول الآخر :
2435 لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ ... كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ
أي : لا تهينَنَّ . ونقل بعضهم : « ولا تحسَبِ الذين » من غير توكيدٍ البتة . وهذه
القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين .
قولهم : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح ، والباقون بالكسر .
فالفتح : إمَّا على حَذْفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم
قراءة ابن عامر . ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي : لا تَحْسَبَنَّهم فائتين
لأنهم لا يُعْجزون ، أي : لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون ، وإمَّا
على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان .
وقال أبو البقاء : « إنه متعلقٌ بتحسب : / إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من » سَبَقوا « ،
وعلى كلا الوجهين تكون » لا « زائدةً . وهو ضعيفٌ لوجهين : أحدهما : زيادة لا ،
والثاني : أن مفعول » حَسِب « إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت » إنَّ «
فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر » .
قوله : { لاَ يُعْجِزُونَ } العامَّةُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع .
وقرأ ابن محيصن « يُعْجِزوني » بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية
أو نون الرفع . وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في { أتحاجواني } . قال
الزجاج : « الاختيارُ الفتحُ في النون ، ويجوز كسرُها على أن المعنى : لا
يُعْجزونني ، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة :
2436 تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
وقال متمم بن نويرة :
2437 ولقد عِلِمْتِ ولا محالةَ أنني ... للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ
قال الأخفش في هذا البيت : » فهذا يجوز على الاضطرار « .
وقرأ ابن محيصن أيضاً « يُعْجِزونِّ » بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة . وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ « عَجَّز » مشدَّداً . قال أبو جعفر : « وهذا خطأٌ من وجهين أحدهما : أن معنى عجَّزه ضعَّفه وضعَّف أمره ، والآخر : كان يجب أن يكون بنونين » قلت : أمَّا تخطئة النحاسِ له فخطأٌ ، لأن الإِتيان بالنونين ليس بواجب ، بل هو جائز ، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضُها . وأما عجَّز بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر بل نَقَل غيرُه من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز ، وأن معناه بَطَّأ وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين . وقرأ طلحة بكسر النونِ خفيفةً .
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
قوله
تعالى : { مِّن قُوَّةٍ } : في محلِّ نصبٍ على الحال ، وفي صاحبها وجهان أحدهما :
أنه الموصولُ . والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقدير : ما استطعتموه حال كونه
بعضَ القوة . ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس . و « رباط » جوَّزوا فيه أن
يكون جمعاً ل « رَبْط » مصدر رَبَط يَرْبُط نحو : كَعْب وكِعاب ، وكلب وكِلاب ،
وأن يكون مصدراً ل « رَبَط » نحو : صاح صِياحاً قالوا : لأن مصادر الثلاثي لا
تنقاس ، وأن يكونَ مصدرَ « رابط » . ومعنى المفاعلة أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ
واحد لفعل الآخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، قال معناه ابن عطية . قال الشيخ
: « قوله » مصادرُ الثلاثي غيرِ المزيد لا تنقاس « ليس بصحيح ، بل لها مصادرُ
منقاسةٌ ذكرها النحويون » قلت : في المسألة خلافٌ مشهور ، وهو لم ينقل الإِجماعَ
على عَدَمِ القياس حتى يَرُدَّ عليه بالخلاف ، فإنه قد يكون اختار أحدَ المذاهب
وقال به ، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر . وقال الزمخشري : « والرِّباط : اسم
للخيل التي تُرْبَطُ في سبيل الله ، ويجوز أن يُسَمَّى بالرباط الذي هو بمعنى
المرابطة ، ويجوز أن يكونَ جمعَ رَبيط ، يعني بمعنى مربوط كفَصِيل وفِصال » .
والمصدر هنا مضافٌ لمفعول له .
قوله : « تُرْهبون » يجوز أن يكونَ حالاً من فاعل « أعِدُّوا » أي : حَصِّلوا لهم
هذا حالَ كونكم مُرْهِبين ، وأن يكون حالاً من مفعوله وهو الموصولُ أي : أعِدُّوه
مُرْهَباً به ، وجاز نسبتُه لكلٍّ منها لأنَّ في الجملة ضميرَيْهما ، هذا إذا
أَعَدْنا الضمير من « به » على « ما » الموصولة . أمَّا إذا أَعَدْناه على
الإِعدادِ المدلول عليه بأَعِدُّوا ، أو على الرِّباط ، أو على القوة بتأويل
الحَوْل فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول . ويجوز أن يكون حالاً من ضمير « لهم »
كذا نقله الشيخ عن غيره فقال : « وتُرْهبون قالوا : حال من ضمير » أعِدُّوا « أو
من ضمير » لهم « ولم يَتَعَقَّبْه بنكير ، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً من الضمير
في » لهم « ولا رابط بينهما؟ ولا يصِحُّ تقديرُ ضمير في جملة » تُرْهبون «
لأَخْذِه معمولَه .
وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو » تُرَهِّبون « مضعَّفاً عدَّاه
بالتضعيف كما عدَّاه العامة بالهمزة ، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف
لأن الفعل قبل النقل بالهمزة/ أو بالتضعيف متعدٍّ لواحد نحو : رَهَّبْتُك ،
والتقدير : تُرَهِّبون عدوَّ الله قتالكم أو لقاءَكم . وزعم أبو حاتم أنَّ أبا
عمرو نَقَلَ قراءةَ الحسن بياء الغيبة وتخفيف » يُرْهبون « وهي قراءة واضحة ، فإن
الضميرَ حينئذٍ يَرْجع إلى من يرجع إليه ضمير » لهم « ، فإنهم إذا خافوا خَوَّفوا
مَنْ وراءهم .
وقرأ
الحسن وأبو حيوة ومالك بن دينار « ومن رُبُط » بضمتين ، وعن الحسن أيضاً رُبْط بضم
وسكون ، وذلك نحو كتاب وكُتُب . قال ابن عطية : « وفي جَمْعِه وهو مصدرٌ غيرُ
مختلفٍ نظرٌ » . قلت : لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر ، بل حكى أبو زيد أن «
رِباطاً » الخَمْسُ من الخيل فما فوقَها وأن جمعها « رُبُط » ، ولو سُلِّم أنه
مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنه لم تختلف أنواعُه ، وقد تقدَّم أن « رباطاً » يجوز أن يكون
جمعاً لرَبْط المصدر ، فما كان جواباً هناك فهو جوابٌ هنا .
قوله : { عَدْوَّ الله } العامَّة قرؤوه بالإِضافة ، وقرأه السلميُّ منوناً ، و «
لله » بلام الجر ، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله . قال صاحب «
اللوامح » : « وإنما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة ، لأنها نكرة أيضاً لم تتعرَّفْ
بالإِضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال ، ولا يتعرَّف
ذلك وإن أُضيف إلى المعارف ، وأمَّا » وعدوَّكم « فيجوز أن يكونَ كذلك نكرةً ،
ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذِكْره ، ومثله : » رأيت صاحباً لكم ، فقال لي
صاحبكم « . يعني أن » عدوَّاً « يجوز أن يُلْمَحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّفُ وأن لا
يُلْمَحَ فيتعرَّفَ .
قوله : { وَآخَرِينَ } نسقٌ على » عدو الله « و » من دونهم « صفةٌ ل » آخرين « .
قال ابن عطية : » من دونهم « بمنزلة قولك » دون أن يكون هؤلاء « ف » دون « في كلام
العرب و » من دون « تقتضي عدمَ المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ، ومنه
المثل : » وأُمِرَّ دون عُبَيْدَةَ الوَذَمُ « يعني أن الظرفيةَ هنا مجازية ، لأن
» دون « لا بد أن تكونَ ظرفاً حقيقةً أو مجازاً .
قوله : { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } في هذه الآية قولان ، أحدهما :
أنَّ » علم « هنا متعديةٌ لواحدٍ ، لأنها بمعنى عرف ولذلك تَعَدَّتْ لواحد .
والثاني : أنها على بابها فتتعدى لاثنين ، والثاني : محذوف ، أي : لا تَعْلَمونهم
قارعين أو محاربين . ولا بد هنا من التنبيه على شيء : وهو أن هذين القولين لا يجوز
أن يكونا في قوله » الله يَعْلمهم « ، بل يجب أن يقال : إنها المتعدية إلى اثنين ،
وإن ثانيهما محذوف ، لِما تقدم لك من الفرق بين العِلْم والمعرفة ، منها : أنَّ
المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل ، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد نصَّ
العلماء على أنه لا يجوز أن يُطْلَقَ ذلك أعني الوصفيةَ بالمعرفةِ على الله تعالى
.
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
قوله
تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ } : الجُنوح : المَيْل ، وجَنَحت الإِبلُ : أمالَتْ
أعناقها ، قال ذو الرمة :
2438 إذا ماتَ فوق الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ روحَه ... بذكراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ
جُنَّحُ
ويقال : جَنَح الليلُ : أقبل . قال النضر بن شميل : « جَنَح الرجل إلى فلان ولفلان
: إذا خضع له » . والجُنوح : الاتِّباع أيضاً لتضمُّن الميلِ ، قال النابغة يصف
طيراً يتبع الجيش :
2439 جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه ... إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ
ومنه « الجوانح » للأضلاع لمَيْلِها على حَشْوة الشخص ، والجناح من ذلك لميلانه
على الطائر . وقد تقدَّم الكلام على شيء من هذه المادة في البقرة . وعلى « السِّلم
» .
وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسرِ السين ، وكذا في القتال : { وتدعوا إِلَى السلم }
. وافقه حمزة على ما في القتال . و « للسِّلْم » متعلق ب « جَنَحوا » فقيل :
يَتَعدَّى بها وب إلى . وقيل : هي هنا بمعنى إلى . وقرأ الأشهب العقيلي « فاجنُحْ
» بضم النون وهي لغة قيس ، والفتح لغة تميم . والضمير في « لها » يعود على « السلم
» لأنها تذكَّر وتؤنَّثُ . ومن التأنيث قولُه :
2440 وأَقْنَيْتُ للحربِ آلاتِها ... وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أوزارَها
/ وقال آخر :
2441 السِّلْمُ تأخذ منها ما رَضِيْتَ به ... والحربُ يَكْفيك من أنفاسها جُرَعُ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
قوله
تعالى : { وَمَنِ اتبعك } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكون « مَنْ » مرفوعَ المحلِّ
عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون ، وبهذا فسَّر الحسن البصري وجماعة
، وهو الظاهر ، ولا مَحْذورَ في ذلك من حيث المعنى ، وإن كان بعضُ الناسِ
استَصْعَبَ كونَ المؤمنين يكونون كافِين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآيةَ
على ما سنذكره .
الثاني : أن « مَنْ » مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في « حَسْبُك » وهو رأيُ
الكوفيين ، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : معناه : وحسبُ مَن اتَّبعك .
الثالث : أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة . قال الزمخشري : « ومَن اتبعك » : الواو
بمعنى مع ، وما بعده منصوبٌ . تقول : « حَسْبُك وزيداً درهمٌ » ولا تَجُرُّ؛ لأن
عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ . وقال :
2442 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ
والمعنى : كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين [ اللهُ ] ناصراً « ، وقال الشيخ : » وهذا
مخالف كلامَ سيبويه فإنه قال : « حَسْبُك وزيداً درهمٌ » لَمَّا كان فيه معنى كفاك
، وقَبُح أن يَحْملوه على المضمر نَوَوا الفعل كأنه قال : بحسبك ويُحْسِب أخاك [
درهمٌ ] « ، ثم قال : » وفي ذلك الفعل المضمرِ ضميرٌ يعودُ على الدرهمِ ، و النيةُ
بالدرهم التقديمُ ، فيكون مِنْ عطفِ الجمل . ولا يجوزُ أن يكونَ من باب الإِعمال ،
لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعملَه فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مَجْراه ولا
عمله فلا يُتَوَّهم ذلك فيه « . قلت : وقد سبق الزمخشري إلى كونه مفعولاً معه
الزجاج ، إلا أنه جَعَل » حسب « اسمَ فعلٍ فإنه قال : » حسبُ : اسمُ فعلٍ ،
والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى مع « وعلى هذا يكون » اللهُ « فاعلاً ، وعلى هذا
التقدير يجوز في » ومَنْ « أن يكونَ معطوفاً على الكاف؛ لأنها مفعول باسم الفعل لا
مجرورةٌ؛ لأن اسم الفعل لا يُضاف . ثم قال الشيخ : » إلا أن مذهب الزجاج خطأٌ
لدخولِ العواملِ على « حَسْب » نحو : بحَسْبك درهم « ، وقال تعالى : { فَإِنَّ
حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ] ، ولم يَثْبُتْ في موضعٍ كونُه اسمَ فعلٍ
فيُحْمل هذا عليه » .
وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى : « ف »
مَنْ « في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف؛ لأن موضعَها نصبٌ على
المعنى ب » يكفيك « الذي سَدَّتْ » حَسبك « مَسَدَّه » . قال الشيخ : « هذا ليس
بجيد؛ لأن » حَسْبك « ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة
ليست مِنْ نصب ، و » حسبك « مبتدأ مضافٌ إلى الضمير ، وليس مصدراً ولا اسم فاعل ،
إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم ، كأنه تَوَهَّم أنه قيل : يكفيك الله أو كفاك
الله ، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ
الشعبي وابنِ زيد أن تكون » مَنْ « مجرورةً ب » حَسْب « محذوفةً لدلالة » حَسْبك «
عليها كقوله :
2443
أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
أي : وكلَّ نارٍ ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور « . قال ابن عطية : »
وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ ، بابُه ضرورةُ الشعر « . قال الشيخ : »
وليس بمكروهٍ ولا ضرورة ، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام «
، قلت : قوله : » بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب « فيه نظر لأن النحويين على أنَّ
إضافةَ » حسب « وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعَلَّلوا ذلك بأنها في قوةِ اسمِ
فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإن » حَسْبك « بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك ، وقيد
الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا : ويدل على ذلك أنها تُوصف بها النكرات فقال : »
مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ « .
وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها : أنه نسقٌ على الجلالةِ كما
تقدَّم ، إلا أنه قال : فيكون خبراً آخر كقولِك : » القائمان/ زيد وعمرو ، ولم
يُثَنِّ « حَسْبك » لأنه مصدرٌ . وقال قوم : هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا
يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : « ما شاء الله وشئت » . و « ثم » هنا
أولى « ، قلت : يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل تأتي
ب » ثم « التي تقتضي التراخي ، والحديثُ دالٌّ على ذلك . الثاني : أن يكونَ خبرَ
مبتدأ محذوف تقديرُه : وحسب مَنْ اتبعك . والثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره
: ومَن اتبعك كذلك أي : حسبهم الله .
وقرأ الشعبي » ومَنْ « بسكون النون » « أَتْبَعَك » بزنة أَكْرمك .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قوله
تعالى : { حَرِّضِ } : أي حُضَّ وحُثَّ . يقال : حَرَّض وحَرَّش وحَرَّك بمعنىً
واحد . وقال الهروي : « يقال حارَضَ على الأمر وأَكَبَّ وواكب وواظب وواصَبَ
بمعنًى قيل : وأصله مِن الحَرَض وهو الهلاك قال :
2444 إني امرؤ رابني همٌّ فأَحْرَضني ... حتى بُلِيْتُ وحتى شفَّني سَقَم
قال أبو إسحاق : » تأويل التحريض في اللغة أن يُحَثَّ الإِنسانُ على شيءٍ حتى
يُعْلَمَ منه أنه حارضٌ ، والحارضُ المقارِبُ للهلاك « ، واستبعد الناسُ هذا منه .
وقد نحا الزمخشري نحوه فقال : » التحريضُ : المبالغَةُ في الحثِّ على الأمر ، من
الحَرَض ، وهو أن يَنْهكه المرض ويتبالغَ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه
حَرَضاً وتقول : ما أراك إلا حَرَضاً « .
قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } الآيات : أثبت في الشرط الأول
قيداً وهو الصبرُ وحَذَفَ من الثاني ، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونُهم مِن
الكفرة وحَذَف من الأول . والتقدير : مئتين من الذين كفروا ومئة صابرة ، فحذف من
كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة .
وقرأ الكوفيون : { وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا } { فإن يكنْ منكم مئة صابرة }
بتذكير » يكن « فيهما . ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما ، وأبو عمرو في
الأولى كالكوفيين ، وفي الثانية كالباقين . فَمَنْ ذَكَّرَ فللفَصْل بين الفعل
وفاعله بقوله » منكم «؛ ولأن التأنيث مجازي ، إذ المراد بالمئة الذُّكور . ومن
أنَّث فلأجلِ الفصلِ ، ولم يلتفت للمعنى ولا للفصل . وأمَّا أبو عمرو فإنما فرَّق
بين الموضعين فَذَكَّر في الأول لِما ذكر ، ولأنَّه لحَظَ قولَه » يَغْلبوا « ،
وأنَّث في الثاني لقوة التأنيث بوصفِه بالمؤنث في قوله » صابرة « .
وأمَّا » إنْ يكنْ منكم عشرون « » وإن يكنْ منكم أَلْفٌ « ، فبالتذكير عند جميع
القرَّاء إلا الأعرج فإنه أنَّث المسند إلى » عشرون « .
وقرأ الأعمش : » حَرِّصْ « بالصاد المهملة وهو من الحِرْص ، ومعناه مقاربٌ لقراءة
العامة . وقرأ المفضل عن عاصم : » وعُلِم « مبنياً للمفعول ، و » أن فيكم ضعفاً «
في محل رفع لقيامه مقامَ الفاعل ، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به في قراءة
العامَّة لأنَّ فاعلَ الفعلِ ضميرٌ يعودُ على الله تعالى . و » يكن « في هذه
الأماكن يجوز أن تكون التامَّةَ ف » منكم « : إمَّا حالٌ من » عشرون « لأنها في
الأصل صفةٌ لها ، وإمَّا متعلق بنفس الفعل لكونه تاماً ، وأن تكونَ الناقصةَ ،
فيكون » منكم « الخبرَ ، والمرفوعُ الاسمَ وهو » عشرون « و » مئة « و » ألف « .
قوله : » ضعفاً « قرأ عاصم وحمزة هنا وفي الروم في كلماتها الثلاث : { اللهُ الذي
خَلَقكم مِنْ ضعف ، ثم جَعَل من بعد ضعفٍ قوة ، ثم جَعَلَ من بعد قوةٍ ضعفاً }
بفتح الضاد ، والباقون بضمها ، وعن حفص وحدَه خلافٌ في الروم خاصةً .
وقرأ عيسى بن عمر « ضُعُفاً » بضم الفاء والعين ، وكلُّها مصادرُ . وقيل : الضَّعْفُ بالفتح في الرأي والعقل ، والضم في البدن ، وهذا قول الخليل بن أحمد ، هكذا نقله الراغب عنه . ولمَّا نقل ابن عطية هذا عن الثعالبي قال : « هذا القول تردُّه القراءة » . وقيل : هما بمعنى واحد ، لغتان : لغةُ الحجاز الضمُّ ، ولغة تميم الفتح ، نقله أبو عمرو فيكونان كالفَّقْر والفُّقر ، والمَكْث والمُكث ، والبُخْل والبَخَل . وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر : ضُعَفاء جمعاً على فُعَلاء كظَريف وظُرَفاء . وقد نَقَلْت عن القرَّاء كلاماً كثيراً في هذا الحرف في شرح « حرز الأماني » فإنه أليقُ به من هذا فعليك به .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
قوله
تعالى : { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } : قرأ أبو عمرو « تكون » بالتأنيث مراعاةً
لمعنى الجماعة . والباقون/ بالتذكير مراعاةً للفظ الجمع . والجمهورُ هنا على «
أَسْرى » وهو قياس فعيل بمعنى مفعول دالاَّ على أنه كجريح وجَرْحى . وقرأ ابن
القعقاع والمفضَّل عن عاصم « أُسَارى » شبَّهوا « أسير » بكَسْلان فجمعوه على
فُعالَى ككُسالى ، كما شبَّهوا به « كسلان » فجمعوه على كَسْلى . وقد تقدَّم
القولُ فيهما في البقرة محققاً .
وقوله : { يُثْخِنَ } قرأ العامة « يُثْخن » مخففاً عدَّوه بالهمزة ، وقرأ أبو
جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر « يُثَخِّن » بالتشديد ، عَدَّوْه بالتضعيف وهو
مشتقٌّ من الثَّخانة ، وهي الغِلْظ و الكثافة في الأجسام ، ثم يُستعار ذلك في كثرة
القتل والجراحات فيقال : أَثْخَنَتْه الجراح أي : أثقلته حتى أَثْبَتَتْه ، ومنه {
حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } [ محمد : 4 ] . وقيل : حتى تقهر . والإِثخان : القهر
. أنشد المفضل :
2445 تُصَلِّي الضُّحى ما دهرُها بتعبُّدٍ ... وقد أَثْخَنَتْ فرعونَ في كفره كفرا
كذا أنشده الهرويُّ شاهداً على القهر وليس فيه معنى ، إذ المعنى على الزيادة
والمبالغةِ المناسِبةِ لأصل معناه وهي الثَّخانة ويقال منه : ثَخُنَ يَثْخُنُ
ثَخَانةً فهو ثَخِين ، كظَرُف يَظْرُف ظَرافةً فهو ظريف .
قوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } الجمهور على نصب « الآخرة » ، وقرأ سليمان بن
جماز المدني بجرها ، وخُرِّجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جَرِّه .
وقدَّره بعضهم : عَرَض الآخرة ، فعيب عليه إذ لا يحسن أن يقال : والله يريد عرض
الآخرة ، فأصلحه الزمخشري بأنْ جَعَله كذلك لأجل المقابلة قال « يعني ثوابها » .
وقدَّره بعضُهم بأعمال أو ثواب . وجعله أبو البقاء كقول الآخر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وقدَّر المضاف « عَرَضَ الآخرة » . قال الشيخ : « ليست الآيةُ مثلَ البيت فإنه
يجوز ذلك إذا لم يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت ، أو يُفصل ب » لا
« نحو : » ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك « ، أمَّا إذا فُصِل بغيرها كهذه
القراءةِ فهو شاذٌّ قليل » .
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
قوله
تعالى : { مِمَّا غَنِمْتُمْ } : يجوز أن تكون مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ
المفعولِ . ويجوز أن تكونَ بمعنى الذي ، وهو في المعنى كالذي قبله ، والعائد على
هذا محذوف .
قوله : { حَلاَلاً } نصبٌ على الحال : إمَّا من « ما » الموصولة أو مِنْ عائدِها
إذا جعلناها اسميةً . وقيل : هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي : أكلاً حلالاً .
قوله : { واتقوا الله } قال ابن عطية : « وجاء قوله : » واتقوا الله « اعتراضاً
فصيحاً في أثناء القول ، لأنَّ قولَه : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } متصلٌ
بقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } يعني أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له
.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
قوله
تعالى : { مِّنَ الأسرى } : قرأه أبو عمرو بزنة فُعالى ، والباقون بزنة فَعْلَى
وقد عُرِفَ ما فيهما . ووافق أبا عمروٍ قتادةُ ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو
جعفر . واختُلف عن الجحدري والحسن . وقرأ ابن محيصن « مِنْ أَسْرى » منكِّراً .
قوله : { يُؤْتِكُمْ } جواب الشرط . وقرأ الأعمش : « يُثِبْكم » من الثواب . وقرأ
الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد « ممَّا أَخَذَ » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى .
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قوله تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ } : الضمير يعود على الأَسْرى لأنهم أقربُ مذكور . وقيل : على الجانحين . وقيل : على اليهود . وقيل : على كفار قريش .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
قوله
تعالى : { فَعَلَيْكُمُ النصر } : مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل عند الأخفش ، ولفظةُ
« على » تُشْعِرُ بالوجوب . وكذلك قدَّره الزمخشري وشبَّهه بقوله :
2446 على مُكْثريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم ... وعند المُقِلِّين السماحةُ
والبَذْلُ
قوله : { مِّن وَلاَيَتِهِم } قرأ حمزة هنا وفي الكهف [ الآية : 44 ] : { الولاية
لِلَّهِ } هو والكسائي بكسر الواو . والباقون بفتحها فقيل : لغتان . وقيل : بالفتح
مِن المَوْلَى ، يقال : مَوْلى بيِّن الوَلاية ، وبالكسر مِنْ وِلاية السلطان ،
قاله أبو عبيدة . وقيل : بالفتح مِنَ النُّصْرَة والنسب ، وبالكسر من الإِمارة
قاله الزجاج . قال : « ويجوز الكسرُ لأنَّ في تَوَلِّي بعضِ القوم بعضاً جنساً من
الصناعة والعمل ، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ مثل الخِياطة والقِصارة .
وقد خَطَّأ/ الأصمعيُّ قراءةَ الكسرِ ، وهو المُخْطِئُ لتواترها .
وقال أبو عبيد : » والذي عندنا الأَخْذُ بالفتح في هذين الحرفين ، لأنَّ معناهما
مِنَ الموالاة في الدين « . وقال الفارسي : » الفتحُ أَجْود لأنها في الدين « ،
وعَكَس الفراء هذا فقال : » يُريد مِنْ مواريثهم ، بكسر الواو أحبُّ إليَّ من
فتحها ، لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة ، وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة ،
وقد سُمع الفتح والكسر في المعنيين جميعاً « . وقرأ السلمي والأعرج » والله بما
يعملون « بالياء للغيبة ، وكأنه التفات أو إخبار عنهم .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
قوله تعالى : { إِنْ لا تَفْعَلُوهُ } : الهاءُ تعود : إمَّا على النصر أو الإِرث أو الميثاق أي : حِفْظه ، أو على جميع ما تقدَّم ذِكْرُه ، وهو معنى قول الزمخشري « إنْ لا تَفْعلوا ما أَمَرْتُكم به » . والعامة قرؤوا [ كبير ] بالباء الموحدة . وقرأ الكسائي فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي : « كثير » بالثاء المثلثة ، وهذا قريبٌ ممَّا في البقرة وهو يقرؤها كذلك .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قوله
تعالى : { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } : زعم بعضهم أن هذه الجملة تكرارٌ للتي
قبلها ، وليس كذلك ، فإن التي قبلها تضمَّنَتْ ولايةَ بعضِهم لبعض ، وتقسيمَ
المؤمنين إلى ثلاثة أقسام ، وبيان حكمهم في ولايتهم وتناصرهم ، وهذه تضمَّنت
الثناء والتشريف والاختصاص ، وما آل إليه حالُهم من المغفرة والرزق الكريم .
قوله في : « كتاب » يجوز أن يتعلَّق بنفس « أَوْلَى » أي : أحقّ في حكم الله أو في
القرآن أو في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هذا الحكمُ
المذكور في كتاب . وما أحسنَ ما جيء بخاتمتها بقوله : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
.
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
الجمهورُ
على رفع « براءة » وفيه وجهان ، أحدهما : أنها رفعٌ بالابتداء ، والخبرُ قولُه : «
إلى الذين » . وجاز الابتداءُ بالنكرة لأنها تخصَّصَتْ بالوصفِ بالجارِّ بعدها .
والثاني : أنها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هذه الآياتُ براءةٌ . ويجوز في : « من
الله » أن يكون متعلقاً بنفس « براءة » لأنها مصدرٌ ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «
مِنْ » تقول : بَرِئت مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَراءة أي : انقطعت العُصْبَةُ بيننا .
وعلى هذا فيجوز أن يكونَ المسَوِّغُ للابتداء بالنكرة في الوجه الأول هذا . و «
إلى الذين » متعلقٌ بمحذوف على الأول لوقوعِه خبراً ، وبنفس « بَراءة » على الثاني
. ويقال : بَرِئْتُ وبَرَأت من الدين بالكسر والفتح . وقال الواحدي : « ليس فيه
إلا لغةٌ واحدة : كسرُ العين في الماضي ، وفتحُها في المستقبل » وليس كذلك ، بل
نَقَلَهما أهلُ اللغة .
وقرأ عيسى بن عمر « براءةً » بالنصب على إضمار فعل أي : اسمعوا براءةً . وقال ابن
عطية : « أي ، الزموا براءةً ، وفيه معنى الإِغراء » .
وقُرىء « مِنِ الله » بكسر نون « مِنْ » على أصلِ التقاءِ الساكنين أو على
الإِتباع لميم « مِنْ » وهي لُغَيَّةٌ ، فإن الأكثرَ فتحُها مع لام التعريف
وكَسْرُها مع غيرها نحو : « مِنِ ابنك » وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما . وحكى أبو
عمرو عن أهل نجران أنهم يَقْرؤون كذلك بكسر النون مع لام التعريف .
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
قوله
تعالى : { فَسِيحُواْ } : هذا على إضمار القول أي : قيل : سيحوا . وهذا التفاتٌ من
الغَيْبة إلى الخطاب . يقال : ساح يَسيح سِياحة وسُيُوحاً وسَيَحاناً أي : انساب
كسَيْح الماءِ في الأماكن المنبسطة . قال طرفة :
2447 لو خِفْتُ هذا منك ما نِلْتَني ... حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ
و « أربعةَ أشهرٍ » ظرف ل « سِيْحوا » . وقرىء { غَيْرُ مُعْجِزِي الله } بنصب
الجلالة على أن النونَ حُذِفَتْ تخفيفاً . وقد تقدَّم تحريرُه .
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قوله
تعالى : { وَأَذَانٌ } : رفع بالابتداء ، و « مِن الله » : إمَّا صفةُ أو متعلقٌ
به . و إلى الناس « الخبر . ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : وهذا إعلامٌ ،
والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في » براءة « . قال الشيخ : » ولا وجهَ لقولِ
مَنْ قال إنه معطوف على « براءة » ، كما لا يُقال « عمرو » معطوف على « زيد » في «
زيد قائم وعمرو قاعد » . وهو [ كما قال ] ، وهذه عبارة [ الزمخشري بعينها ]
وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل : « وإذْن » بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال . وقرأ
العامَّةُ : « أنَّ الله » بفتح الهمزة على أحدِ وجهين : إمَّا كونِه خبراً ل «
أذان » أي : الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم
يذكر تضعيفَه وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجر أي : بأن الله . ويتعلَّقُ هذا الجارُّ
إمَّا بنفس المصدرِ ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه صفتُه . و « يومَ » منصوبٌ بما
تعلَّق به الجارُّ في قوله : « إلى الناس » . وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ ب « أذانٌ »
وهو فاسدٌ من وجهين : أحدهما : وصفُ المصدرِ قبل عمله . الثاني : الفَصْلُ بينه
وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ .
وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة ، وفيه المذهبان المشهوران : مذهبُ البصريين
إضمارُ القول ، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ/ الأذانِ مجرى القول .
قوله : { مِّنَ المشركين } متعلقٌ بنفس « بريء » كما يقال : « بَرِئْتُ منه » ،
وهذا بخلاف { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] فإنها هناك تحتمل هذا ،
وتحتمل أن تكونَ صفةً ل « براءة » .
قوله : { وَرَسُولِهِ } الجمهورُ على رَفْعِه ، وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه
مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي : ورسولُه بريءٌ منهم ، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه .
والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر ، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ
للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية . الثالث : أنه معطوفٌ على محل اسم « أنَّ » ،
وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة . قال ابن عطية : «
ومذهبُ الأستاذ يعني ابن الباذش على مقتضى كلامِ سيبويهِ أن لا موضعَ لِما دخلَتْ
عليه » أنَّ «؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل ، وأنه لا فرقَ بين » أَنَّ
« وبين » ليت « ، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه » . قال
الشيخ : « وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ » أنَّ « لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس
ظهورَ عملِ العامل بدليل : » ليس زيد بقائم « و » ما في الدار مِنْ رجل « فإنه ظهر
عملُ العامل ولهما موضع ، وقولُه : » بالإِجماع « يريد أن » ليت « لا موضعَ لِما
دَخَلَتْ عليه بالإِجماع ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ ، وجعل حكمَ » ليت «
وأخواتِها جميعِها حكمَ » إنَّ « بالكسر » .
قلت
: قوله : « بدليل ليس زيدٌ بقائم » إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا
العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ
معه بخلاف « أنَّ » بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد ، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه
قولُه : « وأن لا فرقَ بين » أنَّ « وبين » ليت « ، فإنَّ الفرقَ قائمٌ ، وذلك أن
حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن
معناه معهما باقٍ .
وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق » ورسولَه « بالنصب . وفيه وجهان ،
أظهرُهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة . والثاني : أنه مفعولٌ معه ، قاله الزمخشري
. وقرأ الحسن » ورسولِه « بالجر وفيها وجهان ، أحدهما : أنه مقسمٌ به أي : ورسولِه
إن الأمر كذلك ، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى . والثاني : أنه على الجِوار ، كما
أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار ، وقد تقدَّم تحقيقُه . وهذه القراءةُ يَبْعُد
صحتُها عن الحسن للإِبهام ، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ » ورسولِه «
بالجر . فقال الأعرابي : إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه ،
فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه ، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ ، فحينئذ
أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية . ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود
الدؤلي . قال أبو البقاء : » ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر « .
وهذا من الوضحات .
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قوله
تعالى : { إِلاَّ الذين } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع .
والتقدير : لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ
فإنه قال : « فإن قلت : مِمَّ استثنى قولَه { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم؟ } قلت :
وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض } لأن الكلامَ خطابٌ
للمسلمين ، ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا
لهم : سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم .
والاستثناءُ بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين : ولكن الذين
لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم » .
الثاني : أنه استثناءٌ متصلٌ ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره : اقتلوا المشركين
المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم . وفيه ضعفٌ .
الثالث : أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ
لأنَّ الفاءَ تزاد في غير موضعها ، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُِناسٍ
بأعيانهم ، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً . والأَوْلَى
أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى
إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة .
قوله : { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } الجمهور « يَنْقُصوكم » بالصاد مهملةً
، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين . ويجوز ذلك فيه هنا ، ف « كُمْ » مفعولٌ ، و «
شيئاً » : إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من النقصان ، أو لا قليلاً و
[ لا ] كثيراً من النقصان . وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع/
وأبو زيد « يَنْقُضوكم » بالضاد المعجمة ، وهي على حَذْفِ مضاف أي : ينقضوا عهدكم
، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه . قال الكرماني : « وهي مناسِبة
لِذِكْرِ العهد » أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ ، وهي قريبة من قراءة العامة؛
فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها
التمام .
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله
تعالى : { الأشهر } : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، والمرادُ بهذه الأشهرِ
الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ،
والعربُ إذا ذكرت نكرةً ، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً ، أتت بمضمرِه أو بلفظه
معرَّفاً بأل ، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : «
رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل » لم تُرِد بالثاني الأولَ ، وإن وَصَفْتَه
بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك : « فأكرمت الرجل المذكور » ، ومنه هذه الآيةُ
فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض
المغايرة . ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد ،
والوجهان مقولان في التفسير .
والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات ، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال : « يُقال :
» أَهْلَلْنا شهرَ كذا « أي : دَخَلَْنا فيه ، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى
مضيِّ نصفِه لباساً ، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ ،
وأنشد :
2448 إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه ... كفى قاتِلاً سَلْخي الشهورَ
وإهلالي
قوله : { كُلَّ مَرْصَدٍ } في انتصابه وجهان أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ
المكاني . قال الزجاج : » نحو : ذهبت مذهباً « . وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا
القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه
بل بواسطة » في « ، نحو : صَلَّيْتُ في الطريق ، وفي البيت ، ولا يَصِلُ بنفسه إلا
في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع ، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه
في بيت ساعِدة :
2449 لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص .
قال الشيخ : » إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى « واقعدوا » لا يُراد به حقيقةُ
القعود ، وإنما يُراد : ارصُدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في
المادة ، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول : جلست مجلسَ
القاضي ، وقعدت مجلسَ القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل « .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو » على « أي : على كلِّ مَرْصَد ،
وهذا قول الأخفش ، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر :
2450 تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ ... وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني
وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ } أي : على صراطك ، اتفق الكل على أنه على تقدير » على « . وقال بعضُهم
: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد ، نقله أبو البقاء : وحينئذٍ تكون الباء بمعنى »
في « فينبغي أن تُقَدَّرَ » في « لأن المعنى عليها ، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر :
2451 نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ... ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ
والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي : رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح
للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل :
2452 ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا ... أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ
والمِرْصاد : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان
مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على المرصود ، وقولُه تعالى : { فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يَحْتمل
كلَّ ذلك ، وكأنه في الأصل مصدرٌ ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير .
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قوله
تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ } : كقوله : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في
كونِه من باب الاشتغال/ عند الجمهور .
قوله : { حتى يَسْمَعَ } « حتى » يجوز أن تكونَ هنا للغاية ، وأن تكونَ للتعليل ،
وعلى كلا التقديرين يتعلَّقُ بقوله : « فَأَجِرْهُ » ، وهل يجوز أن تكونَ هذه
المسألةُ من باب التنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنه يجوزُ من حيث المعنى أن
تُعَلَّق « حتى » بقوله : « استجارك » أو بقوله : « فَأَجِرْهُ » إذ يجوز تقديرُه
: وإن استجارك أحدٌ حتى يسمعَ كلام الله فَأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله . والجوابُ
أنه لا يجوزُ عند الجمهور لأمرٍ لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه
من التنازع ، وأَعْمَلْنا الأول مثلاً لاحتاج الثاني إليه مضمراً على ما تقرر ،
وحينئذٍ يلزم أنَّ « حتى » تجرُّ المضمر ، و « حتى » لا تجرُّه إلا في ضرورة شعر
كقوله :
2453 فلا واللَّهِ لا يَلْقَى أُناسٌ ... فتى حَتَّاك يا ابنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند مَنْ يُجيز أن تجرَّ المضمر فلا يمتنع ذلك عنده ، ويكون من إعمال
الثاني لحذفِه ، ويكون كقولك : « فرحت ومررت بزيد » أي : فرحت به ، ولو كان من
إعمال الأول لم تَحْذِفْه من الثاني .
وقوله : { كَلاَمَ الله } من باب إضافة الصفة لموصوفها لا من باب إضافةِ المخلوق
للخالق . و « مَأْمَنَه » يجوز أن يكون مكاناً أي مكان أَمْنِه ، وأن يكونَ مصدراً
أي : ثمَّ أَبْلِغْه أَمْنَه .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قوله
تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ } : في خبر « يكون » ثلاثةُ أوجه أظهرُها : أنه « كيف »
، و « عهدٌ » اسمُها ، والخبر هنا واجبُ التقديمِ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام
وهو الاستفهامُ ، و « للمشركين » على هذا متعلقة : إمَّا ب « يكون » عند مَنْ
يُجيز في « كان » أن تعمل في الظرفِ وشبهه ، وإمَّا بمحذوف لأنها صفةٌ لعهد في
الأصل ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً ، و « عند » يجوز أن تكون متعلقةً ب « يكون
» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « عَهْد » أو متعلقةً بنفس « عهد » لأنه مصدر .
الثاني : أن يكون الخبر « للمشركين » و « عند » على هذا فيها الأوجهُ المتقدمة .
ونزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوز أن يكونَ ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «
للمشركين » . والثالث : أن يكون الخبرُ « عند الله » و « للمشركين » على هذا :
إمَّا تبيين ، وإمَّا متعلقٌ ب « يكون » عند مَنْ يجيز ذلك كما تقدم ، وإمَّا حال
من « عهد » ، وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر . ولا يبالى بتقديم
معمولِ الخبرِ على الاسم لكونِهِ حرفَ جر . و « كيف » على هذين الوجهين الأخيرين
مُشْبِهةٌ بالظرف أو بالحال كما تقدَّم تحقيقه في { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة
: 28 ] .
ولم يذكروا هنا وجهاً رابعاً وكان ينبغي أن يكونَ هو الأظهر - وهو أن يكونَ الكونُ
تاماً بمعنى : كيف يوجد عهدٌ للمشركين عند الله؟ ، والاستفهامُ هنا بمعنى النفي ،
ولذلك وقع بعده الاستثناء ب « إلا » ، ومِنْ مجيئه بمعنى النفي أيضاً قولُه :
2454 فهذي سيوفٌ يا صُدَيُّ بنَ مالكٍ ... كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضاربُ
أي : ليس ضاربٌ بالسيف .
قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ } فيه وجهان أحداهما : أنه استثناءٌ منقطع أي :
لكن الذين عاهدتم فإنَّ حُكْمَهم كيت وكيت . والثاني : أنه متصلٌ وفيه حينئذٍ
احتمالان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على أصل الاستثناء من المشركين . والثاني : أنه
مجرورٌ على البدل منهم ، لأنَّ معنى الاستفهامِ المتقدمِ نفيٌ ، أي : ليس يكونُ
للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا . فقياسُ قولِ أبي البقاء فيما تقدَّم أن يكون
مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ من قوله « فما استقاموا » خبرُه .
قوله : { فَمَا } يجوز في « ما » أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً ، وهي في محلِّ نصبٍ على
ذلك أي : فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم . ويجوز أن تكونَ شرطيةً ، وحينئذٍ
ففي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الظرف الزماني ، والتقدير :
أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم . ونظَّره أبو البقاء بقولِه تعالى :
{
مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ]
. والثاني : أنها في محل رفع بالابتداء ، وفي الخبر الأقوالُ المشهورة ، و «
فاستقيموا » : جوابُ الشرط . وهذا نحا إليه الحوفي ، ويحتاج إلى/ حذفِ عائد أي :
أيُّ زمانٍ استقاموا لكم فيه ، فاستقيموا لهم . وقد جوَّز الشيخ جمال الدين ابنُ
مالك في « ما » المصدرية الزمانية أن تكونَ شرطيةً جازمة ، وأنشد على ذلك :
2455 فما تَحْيَ لا نسْأَمْ حياةً وإن تَمُتْ ... فلا خيرَ في الدنيا ولا العيشِ
أجمعا
ولا دليل فيه لأنَّ الظاهرَ الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدرية وزمانٍ ، قال أبو
البقاء : « ولا يجوز أن تكونَ نافيةً لفساد المعنى ، إذ يصير المعنى : استقيموا
لهم لأنهم لم يَسْتقيموا لكم » .
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قوله
تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا } : المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه
. فقدَّره أبو البقاء : « كيف تَطْمئنون أو : كيف يكونُ لهم عهدٌ » . وقدَّره غيره
: كيف لا تقاتلونهم . والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ ، لأنه مِنْ
جنس ما تقدَّم ، فالدلالةُ عليه أقوى ، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً ،
وتقدَّم منه قولُه تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [ آل عمران : 25 ] {
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [ النساء : 41 ] ، وقال الشاعر :
2456 وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ
أي : كيف مات؟ ، وقال الحطيئة :
2457 فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ ... على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا
أي : كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ : « وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد » كيف «
بقوله : » كيف تطمئنون « ، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم » . قلت : ولم يقدّره
أبو البقاء بهذا وحدَه ، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه .
قوله : { وَإِن يَظْهَرُوا } هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي : كيف
يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله : {
وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [ الأعراف : 169 ] . و « لا
يرقُبوا » جوابُ الشرط . وقرأ زيد بن علي : « وإن يُظْهَروا » ببنائِه للمفعول ،
مِنْ أظهره عليه أي : جعله غالباً له .
قوله : { إِلاًّ } مفعولٌ به ب « يرقُبوا » أي : لا يَحْفظوا . وفي « الإِلِّ »
أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها : أن المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة وابن زيد
والسدِّي ، ومنه قول الشاعر :
2458 لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي : الحِلْف . وقال آخر :
2459 وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ ... وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر :
2460 أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا ... قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع : « بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ ، كريم الخِلّ ، بَرودُ الظلّ
» أي : وفيُّ العهد .
الثاني : أن المرادَ به القَرابة ، وبه قال الفراء ، وأنشد لحسان رضي الله عنه :
2461 لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ
النَّعامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله :
2462 - . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ
الثالث : أن المرادَ به الله تعالى أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلُّوا على ذلك
بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله : « إنَّ هذا الكلام
لم يَخْرج من إلّ » أي : الله عز وجل . ولم يرتضِ هذا الزجاج قال : « لأن أسماءَه
تعالى معروفة في الكتاب والسنة ، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ افعلْ لي كذا .
الرابع : أن الإِلَّ الجُؤَار ، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ ، وذلك أنهم كانوا
إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً ، ومنه قول أبي جهل :
2463
لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه ... متينٍ قُواه غيرِ منتكثِ الحبلِ
الخامس : أنه مِنْ « ألَّ البرقُ » أي : لَمَع . قال الأزهري : « الأَلِيل :
البريق ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ أي : صفا ولمع » . وقيل : الإِلُّ مِن التحديد ومنه
« الأَلَّةُ » الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها . وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً
مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك ، فقال الزجاج : « حقيقةُ الإِلِّ
عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء ، فَمِنْ ذلك : الأَْلَّةُ : الحَرْبَةُ ،
وأُذُن مُؤَلَّلَة ، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار
من هذا ، فإذا قلت في العهد : » بينهما إلٌّ « فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ
العهود ، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة . وقال الراغب : » الإِلُّ : كلُّ حالةٍ
ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي : تَلْمَع ، وألَّ الفَرَسُ : أسرع ،
والأَْلَّةُ : / الحَرْبَةُ اللامعة « ، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم
فتح مكة :
2464 إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ ... هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ
وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ ... قال : » وقيل : الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله
تعالى ، وليس ذلك بصحيحٍ ، والألَلاَن صفحتا السكين « انتهى . ويُجمع الإِلُّ في
القِلَّة آلٌّ ، والأصل : أَأْلُل بزنة أَفْلُس ، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً
لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأُدْغمت اللامُ في اللام . وفي الكثرة على إلال كذِئْب
وذِئاب . والأَْلُّ بالفتح قيل : شدَّة القنوط . قال الهروي في الحديث : » عَجب
ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم « قال أبو عبيد : » المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة ،
والمحفوظ عندنا فَتْحُها ، وهو أشبهُ بالمصادر ، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم ،
ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً
إذا رفع صوتَه بالبكاء ، ومنه يقال : له الويل والأَلِيل ، ومنه قولُ الكميت :
2465 وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ
الفُضُلُ
انتهى . وقرأت فرقة : « ألاًّ » بالفتح ، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ
ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد . وقرأ عكرمة : « إيلاً » بكسرِ الهمزة ، بعدها ياءٌ ساكنة
، وفيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنه اسمُ الله تعالى ، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في
جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله . والثاني : أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل
يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر ، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي : لا
يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة . وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلِبَتْ
ياءً كريح . الثالث : أنه هو الإِلُّ المضعف ، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل
إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم : أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته . قال : الشاعر :
2466 يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها ... أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ
قوله : { وَلاَ ذِمَّةً } الذِّمَّة : قيل العهد ، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ
لفظِه إذا قلنا : إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً ، فهو كقوله تعالى :
{
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] .
وقوله :
2467 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقوله :
2468 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ
والبعدُ
وقيل : الذِّمَّة : الضَّمان ، يقال : هو في ذمَّتي أي : في ضماني وبه سُمِّي أهلُ
الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين ، ويقال : « له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام
ومَذَمَّة ، وهي الذِّمُّ » . قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحرث :
2469 يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة ... كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ
وقال الراغب : « الذِّمام : ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد ، وكذلك
الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة » يعني بالفتح والكسر وقيل : لي مَذَمَّةٌ فلا
تَهْتكها . وقال غيره : « سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها
الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة » ، وتُجْمع على ذِمّ كقوله :
2470 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما ناشد الذِّمَّ . . . . . .
. . . . .
وعلى ذِمَم وذِمَام . وقال أبو زيد : « مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من
الذَّمِّ » . وقال الأزهري : « الذِّمَّة : الأمان » ، وفي الحديث : « ويَسْعى
بذمَّتِهم أَدْناهم » ، قال أبو عبيد : « الذمَّة الأمانُ ههنا ، يقول : إذا أعطى
أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم ، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على
جميع العسكر » . وقال الأصمعي : « الذِّمَّة : ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى » .
قوله : { يُرْضُونَكُم } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنفٌ ، وهذا هو الظاهر ،
أخبر أن حالهم كذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « لا
يَرْقُبوا » ، قال أبو البقاء : « وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون
المؤمنين » .
قوله : { وتأبى } يقال : أبى يأبى إبىً أي : اشتد امتناعُه : فكلُّ إباءٍ امتناعُ
مِنْ غير عكس قال :
2471 أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه ... فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ
وقال آخر :
2472 أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه ... عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق/ الامتناع بمصيبٍ . ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح
العين شاذٌّ ، ومثله قَلَى يقلى في لغة .
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
قوله تعالى : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } : يجوز أن تكون [ ساء ] على بابِها مِنَ التصرُّف والتعدِّي ومفعولها محذوفٌ أي : ساءهم الذي كانوا يَعْملونه أو عَمَلُهم ، وأن تكون الجارية مَجْرى بئس ، فتُحَوَّل إلى فَعُل بالضم ، ويمتنع تصرُّفها ، وتصير للذم ، ويكون المخصوصُ بالذمِّ محذوفاً كما تقرر ذلك غير مرة .
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
قوله
تعالى : { أَئِمَّةَ الكفر } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « أئمة » بهمزتين
ثانيتهما مُسَهَّلة بينَ بينَ ولا ألفَ بينهما . والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر
بتخفيفهما من غير إدخال ألف بينهما ، وهشام كذلك إلا أنه أَدْخَلَ بينهما ألفاً .
هذا هو المشهور بين القراء السبعة . وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى . ونقل
الشيخ عن نافع ومَنْ معه ، أنهم يُبْدلون الثانية ياء صريحة ، وأنه قد نُقِلَ عن
نافع المدُّ بينهما ، أي بين الهمزة والياء .
فأما قراءةُ التحقيق وبينَ بينَ ، فقد ضعَّفها جماعة من النحويين كأبي علي الفارسي
وتابعيه ، ومن القرَّاء أيضاً مَنْ ضَعَّفَ التحقيقَ مع روايتِه له ، وقراءتِه به
لأصحابه . ومنهم مَنْ أنكر التسهيلَ بينَ بينَ ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ،
وقرؤوا بياءٍ خفيفةٍ الكسرِ ، نصُّوا على ذلك في كتبهم .
وأما القراءة بالياء فهي التي ارتضاها الفارسي وهؤلاء الجماعةُ ، لأنَّ النطقَ
بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزةُ بين بين بزنة المخففة . والزمخشري جعل
القراءة بصريح الياء لحناً ، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين قال : « فإن
قلت : كيف لفظ » أئمة «؟ ، قلت : بهمزةٍ بعدها همزةُ بين بين أي : بين مخرجِ
الهمزةِ والياء ، وتحقيق الهمزتين قراءةٌ مشهورة ، وإن لم تكنْ مقبولةً عند
البصريين . وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوز أن تكون ، ومَنْ قرأ بها فهو لاحِنٌ
مُحَرِّف » . قال الشيخ : « وذلك دأبُه في تلحين المقرئين ، وكيف تكون لحناً ، وقد
قرأ بها رأسُ النحاة البصريين ، أبو عمرو بن العلاء ، وقارىءُ أهلِ مكة ابنُ كثير
، وقارىءُ أهل المدينة نافع؟ » . قلت : لا يُنْقَم على الزمخشري شيءٌ فإنه إنما
قال إنها غير مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يَقْبلها ، غاية ما في
الباب ، أنه نَقَل عن غيره . وأمَّا التصريحُ بالياء ، فإنه معذورٌ فيه لأنه كما
قَدَّمْتُ لك ، إنما اشْتُهِر بين القراء التسهيلُ بين بين لا الإِبدال المحض ،
حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب
القراء لا مذهب النحاة في هذه اللفظة .
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءةَ التسهيلِ بينَ بينَ فقال : « ولا يجوز هنا أن تُجعل
بينَ بينَ ، كما جُعلت همزةُ » أئذا «؛ لأن الكسرةَ هنا منقولةٌ وهناك أصليةٌ ،
ولو خُفِّفَت الهمزةُ الثانية [ هنا ] على القياس لقُلِبت ألفاً لانفتاح ما قبلها
، ولكن تُرِكَ لتتحركَ بحركةِ الميم في الأصل » . قلت : قوله « منقولةٌ » لا يُفيد
لأنَّ النقلَ هنا لازم ، فهو كالأصل . وقوله : « ولو خُفِّفَتْ على القياس إلى
آخره » لا يفيد أيضاً لأن الاعتبار بالإِدغام سابقٌ على الاعتبار بتخفيف الهمزة .
ولذلك
موضعٌ يضيق هذا الموضع عنه .
ووزن أَئِمَّة : أَفْعِلة؛ لأنها جمع إمام ، كحمار وأَحْمِرة ، والأصل أَأْمِمة ،
فالتقى ميمان فأُريد إدغامُهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للساكن قبلَها ، وهو
الهمزة الثانية ، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة : فالنحويون
البصريون يوجبون إبدالَ الثانية ياء ، وغيرُهم يحقق أو يسهِّل بينَ بينَ . ومَنْ
أَدْخَلَ الألفَ فللخِفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين ، والأحسنُ حينئذٍ أن يكونَ
ذلك في التحقيق كما قرأ هشام . وأمَّا ما رواه الشيخ عن نافع مِنْ المدّ مع
نَقْلِه عنه أنه يصرح بالياء فللمبالغة في الخفة .
قوله : { لاَ أَيْمَانَ } قرأ ابن عامر : « لا إيمان » بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ
آمَن يُؤْمن إيماناً . وهل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان أحدهما : أنهم لا
يُؤْمنون في أنفسهم أي : لايُعْطون أماناً بعد نُكثِهم وطَعْنهم ، ولا سبيلَ إلى
ذلك . والثاني : الإِخبار بأنهم لا يُوفون لأحدٍ بعهدٍ يَعْقِدونه له . أو من
التصديق أي : إنهم لا إسلامَ لهم . واختار مكي التأويلَ الأول لِما فيه من تجديد
فائدة لم يتقدَّمْ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ وَصْفَهم بالكفر وعدمِ الإِيمان قد سَبَقَ
وعُرِف .
وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمعُ يمين . وهذا مناسب للنكث ، وقد أُجْمع على فَتْح
الثانية . ومعنى نفي الأيمان عن الكفارِ ، أنهم لا يُوفون بها ، وإن صَدَرَتْ منهم
وَثَبَتَتْ . وهذا كقول الآخر :
2473 وإنْ حَلَفَتْ لا تَنْقُضُ الدهرَ عهدَها ... فليس لمخضوبِ البَنانِ يمينُ
وبذلك قال الشافعي . وحمله أبو حنيفة على حقيقته : أن يمين الكافر لا تكون يميناً
شرعياً ، وعند الشافعي يمينٌ شرعية .
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
قوله
تعالى : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } : نصبٌ على ظرفِ الزمان ، وأصلُها المصدر مِنْ مَرَّ
يَمُرُّ . وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } الجلالةُ مبتدأ ، وفي الخبر أوجهٌ ،
أحدها : أنه « أحقُّ » و « أن تَخْشَوه » على هذا بدلٌ من الجلالة بدلُ اشتمال ،
والمفضَّلُ عليه محذوفٌ؛/ فخشية الله أحقُّ مِنْ خشيتهم . الثاني : أَنَّ « أحقُّ
» خبرٌ مقدمٌ و « أَن تَخْشَوه » مبتدأ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الجلالة . الثالث :
أن « أحقُّ » مبتدأ و « أن تَخْشَوه » خبرُه ، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة . قاله
ابن عطية . وحَسُنَ الابتداءُ بالنكرة لأنها أفعلُ تفضيل . وقد أجاز سيبويه أن
تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه . الرابع : أن «
أنْ تَخْشَوه » في محلِّ نصبٍ ، أو جر بعد إسقاطِ حرفِ الخفض ، إذ التقدير : أحقُّ
بأن تَخْشَوه .
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } شرطٌ حُذِفَ جوابُه ، أو قُدِّم ، على حسب
الخلاف .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
قوله تعالى : { وَيَشْفِ } : قرأ الجمهور بياء الغَيْبَة رَدَّاً على اسم الله تعالى . وقرأ زيد بن علي : « نَشْفِ » بالنون وهو التفاتُّ حسن . وقال : « قوم مؤمنين » شهادةً للمخاطبين بالإِيمان ، فهو من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهرِ مُقام المضمر ، حيث لم يَقُل : « صدوركم » .
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قوله
تعالى : { وَيُذْهِبْ } : الجمهورُ على ضم الياء وكسرِ الهاء مِنْ أَذْهب . و «
غَيْظ » مفعول به . وقرأت طائفةٌ : « ويَذْهَبْ » بفتح الياء والهاء ، جَعَله
مضارعاً لذهب ، « غيظ » فاعل به . وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلا أنه رفع الفعل
مستأنفاً ولم ينسقْه على المجزومِ قبلَه ، كما قرؤوا : « ويتوبُ » بالرفع عند
الجمهور . وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد
، وعيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية ويعقوب : « ويتوبَ » بالنصب .
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ ، وكذلك وقع فإنه قد أَسْلَمَ ناسٌ
كثيرون . قال الزجاج وأبو الفتح : « وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا ،
ولا وجهَ لإِدخال التوبة في جوابِ الشرط الذي في » قاتِلوهم « . يَعْنيان بالشرط
ما فُهِمَ من الجملةِ الأمرية .
وأمَّا قراءةُ زيد وَمَنْ ذُكِر معه ، فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلةً في جوابِ الأمر
من طريقِ المعنى . وفي توجيهِ ذلك غموضٌ : فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ
بالمقاتلة شَقَّ ذلك على بعضِهم ، فإذا أقدموا على المقاتلةِ ، صار ذلك العملُ
جارياً مَجْرى التوبة من تلك الكراهة . قلت : فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهم
ويتبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم . وقال آخرون في توجيه ذلك : إنَّ حصولَ الظفر
وكثرةَ الأموال لذَّةٌ تُطلب بطريقٍ حرامٍ ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ ،
كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة ممَّا تقدم ، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة .
وقال ابن عطية في توجيهِ ذلك أيضاً : » يتوجَّه ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أن التوبةَ
يُراد بها هنا [ أنَّ ] قَتْلَ الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبةٌ لكم أيُّها
المؤمنون وكمالٌ لإِيمانكم ، فتدخلُ التوبة على هذا في شرطِ القتال « . قال الشيخ
: » وهذا الذي قدَّره من كونِ التوبة تدخل تحت جوابِ الأمر ، وهو بالنسبة للمؤمنين
الذين أُمِرُوا بقتال الكفار . والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، والمعنى
: على مَنْ يشاء من الكفار ، لأنَّ قتالَ الكفارِ وغلبةَ المسلمين إياهم ، قد
يكونُ سبباً لإِسلام كثير . ألا ترى إلى فتح مكة كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون ،
وحَسُن إسلامُ بعضِهم جداً ، كابن أبي سرح وغيره « . قلت : فيكون هذا توجيهاً
رابعاً ، ويصيرُ المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على مَنْ يشاء من الكفار أي :
يُسْلِمُ مَنْ شاء منهم .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قوله
تعالى : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } : يجوز في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنَّها
داخلةٌ في حيِّز الصلاة لعطفِها عليها أي : الذين عاهدوا ولم يتَّخذوا . الثاني :
أنَّها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « جاهدوا » أي : جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ
متخذين وَلِيْجَةً .
و « وَلِيجة » مفعول . و { مِن دُونِ الله } : إمَّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذُ
بمعنى التصيير ، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ إن كان على بابه . والوَليجة : فَعِيلة
مِنَ الوُلوج وهو الدخول . والوليجة : مَنْ يُداخِلك في باطن أمورك . وقال أبو
عبيدة : « كُلُّ شيءٍ أَدْخَلْته في شيءٍ وليس منه فهو وليجة ، والرجلُ في القوم
وليس منهم ، يقال له وَليجة » ، ويُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع .
وقد يُجمع على وَلائج ووُلُج كصحيفة وصحائف وصُحُف . وأنشدوا لعبادة بن صفوان
الغنوي :
2474 وَلائِجُهُمْ في كل مبدى ومَحْضَرٍ ... إلى كلِّ مَنْ يرجى ومَنْ يَتَخَوَّفُ
وقرأ الحسن « بما يَعْملون » بالغَيْبةِ على الالتفات ، وبها قرأ يعقوب في رواية
سَلاَّم .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
قوله
تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } : « أن
يَعْمروا » اسم كان . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « مسجد الله » بالإِفراد/ وهي تحملُ
وجهين : أن يُراد به مسجدٌ بعينه ، وهو المسجد الحرام لقوله : { وَعِمَارَةَ
المسجد الحرام } [ التوبة : 19 ] ، وأن يكون اسمَ جنسٍ فتندرجَ فيه سائرُ المساجد
، ويدخل المسجد الحرام دخولاً أَوَّلِيَّاً . وقرأ الباقون « مساجد » بالجمع ، وهي
أيضاً محتملةٌ للأمرين . ووجه الجمع : إمَّا لأنَّ كلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام
يُقال لها مسجدٌ ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد ، فصَحَّ أن يُطْلَقَ عليه لفظُ
الجمع لذلك .
قوله : { شَاهِدِينَ } الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال مِنْ فاعل «
يَعْمُروا » . وقرأ زيد بن علي « شاهدون » بالواو رفعاً على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ،
والجملةُ حالٌ أيضاً . وقرأ ابن السَّمَيْفع « يُعْمِروا » بضم الياء وكسرِ الميم
مِنْ أَعْمَرَ رباعياً ، والمعنى : أن يُعينوا على عمارته .
قوله : { على أَنْفُسِهِمْ } الجمهورُ على « أنفسهم » جمعَ نَفْس . وقُرىء «
أَنْفَسهم » بفتح الفاء ، ووجهُها أن يُراد بالأنْفَس وهو الأشرفُ الأجلُّ ، من
النَّفاسة - رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم . قيل : لأنه ليس بَطْنٌ مِنْ بطون
العرب إلا وله فيهم وِلدة . وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً ،
وهو مع هذه القراءة أوضح .
قوله : { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } هذه جملةٌ مستأنفة ، و « في النار »
متعلقٌ بالخبر ، وقُدِّم للاهتمام به ، ولأجل الفاصلة . وقال أبو البقاء : « أي :
وهم خالدون في النار ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف » . قلت : فيه نظرٌ
من حيث إنه يُوهم أن هذه الجملةَ معطوفةٌ على ما قبلها عَطْفَ المفرد على مثله
تقديراً ، وليس كذلك بل هي مستأنفةٌ ، وإذا كان مستأنفةً ، فلا يُقال فيها فَصَلَ
الظرف بين حرف العطف والمعطوف ، وإنما ذلك في المتعاطَفْين المفردين أو في
تأويلهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله تعالى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا
حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] وفي قوله : { وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] .
وقرأ زيد بن علي : « خالدين » بالياء نصباً على الحال من الضمير المستتر في :
الجارِّ قبله ، لأنَّ الجارَّ صار خبراً كقولك : « في الدار زيد قاعداً » ، فقد
رفع زيد بن علي « شاهدين » ، ونصب « خالدون عكسَ قراءةِ الجمهور فيهما .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله } : جمهورُ القراء من السبعة وغيرهم
على الجمع . وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإِفراد . والتوجيهُ
يُؤْخذ مما تقدم . والظاهر هنا أن الجمعَ هنا حقيقةٌ ، لأن المرادَ جميع المؤمنين
العائدين لجميع مساجد أقطار الأرض .
قوله : { سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ } الجمهور على قراءتهما مصدرين على فِعالة ،
كالصِّيانة والوِقاية والتِّجارة ، ولم تُقْلب الياء همزة ، لتحصُّنها بتاء
التأنيث بخلاف رِداء ، وعَباءة لطُروء تاء التأنيث فيها ، وحينئذٍ فلا بُدَّ مِن
حذف مضاف : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ليتصادقَ المجعولان ، والتقدير :
أجعلتمْ أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعِمارةَ المسجد الحرام كمَنْ آمن ، أو أَجَعَلْتم
السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمن ، أو كعملِ مَنْ آمن .
وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو وَجْرة « سُقاة » و « عَمَرَة » بضم السين وبعد
الألف تاء التأنيث ، وعَمَرة بفتح العين والميم دون ألف . وهما جمع ساقٍ وعامر كما
يُقال : قاضٍ وقُضَاة ورَام ورُماة وبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة . والأصل :
سُقَيَة ، فَقُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . ولا حاجةَ إلى تقديرِ
حذفِ مضافٍ ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور .
وقرأ سعيد بن جبير كذلك إلا أنه نَصَبَ « المسجد الحرام » ب « عَمَرَة » وحَذَفَ
التنوينَ لالتقاء الساكنين كقوله :
2475 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
وقوله : { قُل هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] .
وقرأ الضحاك « سُقاية » بضم السين و « عمرة » ، وهما جمعان أيضاً ، وفي جمع « ساقٍ
» على فُعالة نظرٌ لا يَخْفى . والذي ينبغي أن يُقالَ ولا يُعْدَلَ [ عنه ] أن
يُجعل هذا جمعاً لسِقْي ، والسِّقْي هو الشيء المَسْقِيّ كالرِّعْي والطِّحْن ،
وفِعْل يُجمع على فُعال ، قالوا : ظِئْر وظُؤار ، وكان مِنْ حقه أن لا تدخلَ عليه
تاءُ التأنيث كما لم تدخل في « ظُؤَار » ، ولكنه أنَّث الجمعَ كما أنَّث في قولهم
حِجارة وفُحولة . ولا بد حينئذٍ من تقديرِ مضافٍ أي : أجعلتم أصحابَ الأشياءِ
المَسْقِيَّة كمَنْ آمن .
قوله : { لاَ يَسْتَوُونَ } في وجهان/ أظهرهما : أنها مستأنفة ، أخبر تعالى بعدم
تساوي الفريقين . والثاني : أن يكونَ حالاً من المفعولين للجَعْل والتقدير :
سوَّيْتُهم بينهم في حال تفاوتهم .
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
وقد
تقدَّم اختلافُ القرَّاء في « يبشرهم » وتوجيه ذلك في آل عمران ، وكذلك الخلافُ في
{ وَرِضْوَانٌ } [ آل عمران : 15 ] . وقرأ الأعمش « رضوان » بضمِّ الراء والضاد ،
ورَدَّها أبو حاتم وقال : « لا يجوز » ، وهذا غيرُ لامٍ للأعمش فإنه رواها ، وقد
وُجِد ذلك في لسان العرب قالوا : السُّلُطان بضمّ السين واللام .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ صفةً ل « جنات » ،
وأن تكونَ صفةً ل « رحمة »؛ لأنهم جَوَّزوا في هذه الهاءِ أن تعودَ للرحمة وأن
تعودَ للجنات . وقد جَوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله : «
يُبَشِّرهم » ، كأنه قيل : لهم في تلك البشرى ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك
المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً ، وحالً إن قدَّرْتَه معرفةً . ويجوز أن
يكون « نعيم » فاعلاً بالجارِّ قبله ، وهو أَوْلى لأنه يَصير من قبيل الوصف
بالمفرد ، ويجوز أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُ الجار قبله . وقد تقدَّم تحقيق ذلك غيرَ
مرة . و « خالدين » حالٌ من الضمير في « لهم » .
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قوله
تعالى : { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } : « آباؤكم » وما عُطِف عليه اسمُ كان ، و «
أحبَّ » خبرها فهو منصوب . وكان المتفاصح الحجاجُ ابن يوسف يَقْرؤها بالرفع ،
ولَحَّنه يحيى بن يعمر فنفاه . قال الشيخ : « إنما لَحَّنه باعتبار مخالفةِ القراء
النَّقَلَة وإلا فهي جائزةٌ في العربية ، يُضمر في » كان « اسماً ، وهو ضميرُ
الشأن ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر ، وحينئذٍ تكونُ الجملةُ خبراً عن » كان
« . قلت : فيكون كقول الشاعر :
2476 إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفان ... شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أَصْنَعُ
هذا في أحد تأويلَي البيت . والآخر : أنَّ » صنفان « خبرٌ منصوب ، وجاء به على
لغةِ بني الحرث ومَنْ وافقهم .
والحكاية التي أشار إليها الشيخُ مِنْ تلحين يحيى للحجاج ، هي أن الحجاج كان
يَدَّعي فصاحةً عظيمة ، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هي تجدني ألحن؟ ،
فقال : الأمير أجَلُّ من ذلك ، فقال : عَزَمْتُ عليك إلا ما أخبرتني وكان
يُعَظّمون عزائم الأمراء . فقال : نعم . فقال : في أي شيء؟ ، فقال : في القرآن .
فقال : ويلك!! ذلك أقبحُ بي . في أيِّ آية؟ ، قال : سَمِعْتك تقرأ : قل إن كان
آباؤكم ، إلى أن انتهيت إلى » أحبُّ « فرفعتَها . فقال : إذن لا تسمعني أَلْحَنُ
بعدها ، فنفاه إلى خراسان ، فمكث بها مدةً ، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن
أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتاباً وفيه : » وقد جاءنا العدوُّ
فتركناهم بالحضيض ، وصَعِدنا عُرْعُرَة الجبل « . فقال الحجاج : ما لابن المهلب
ولهذا الكلام؟ ، فقيل له : إنَّ يحيى هناك . فقال : إذن ذلك .
وقرأ الجمهور : » عشيرتكم « بالإِفراد ، وأبو بكر عن عاصم : » عشيراتكم « جمعَ
سلامة . ووجهُ الجمع ، أنَّ لكلٍّ من المخاطبين عشيرةً فَحَسُن الجمع . وزعم
الأخفش أن » عشيرة « لا تجمع بالألف والتاء إنما تُجْمع تكسيراً على عشائر . وهذه
القراءة حجةٌ عليه ، وهي قراءةُ أبي عبد الرحمن السلمي ، وأبي رجاء . وقرأ الحسن »
عشائركم « قيل : وهي أكثر مِنْ عشيراتكم .
والعَشِيرة : هي الأهلُ الأَْدْنَون . وقيل : هم أهل الرجلِ الذين يَتَكثَّر بهم
أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل ، وذلك أن العشيرَة هي العدد الكامل ، فصارت
العشيرة اسماً لأقارب الرجل الذي يَتَكثَّر بهم ، سواءً بلغوا العشرةَ أم فوقها .
وقيل : هي الجماعة المجتمعة بنسَبٍ أو عَقْدٍ أو وِداد كعقد العِشْرة .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
قوله
تعالى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنه عطفٌ على محلِّ قوله «
في مواطنَ » ، عَطَفَ ظرف الزمان من غير واسطة « في » على ظرفِ المكان المجرورِ
بها . ولا غَرْو في نسق ظرف زمان على مكان أو العكسِ تقول : « سرت أمامك يوم
الجمعة » إلا أنَّ الأحسنَ أن يُتْركَ العاطفُ مثله . الثاني : زعم ابن عطية أنه
يجوز أن يُعْطَفَ على لفظ « مواطن » بتقدير : وفي ، فحذف حرفَ الخفض . وهذا لا
حاجةَ إليه . الثالث : قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف عطفَ الزمانَ على المكان ،
وهو » يوم حنين « على » مواطن «؟ ، قلت : معناه : وموطن يوم حنين أو في أيام
مواطنَ كثيرة ويوم حنين » . الرابع : أن يُراد بالمواطن الأوقاتُ ، فحينئذٍ إنما
عُطِف زمانٌ على زمان . قال الزمخشري بعدما قَدَّمْتُه عنه : « ويجوز أن/ يُراد بالمواطن
الوقت كمقتل الحسين ، على أن الواجب أن يكون » يومَ حنين « منصوباً بفعل مضمر لا
بهذا الظاهر . ومُوْجِبُ ذلك أن قولَه : » إذا أعجبتكم « بدلٌ من » يوم حنين « ،
فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك
المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكونَ ناصبُه فعلاً خاصاً به » .
قلت : لا أدري ما حَمَله على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن بالوقت
ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين
على الآخر؟
وأمَّا قولُه : « على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره » كلامٌ حسن ، وتقديره أن
الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان ، فإذا جعلنا « إذ » بدلاً من « يوم » كان معمولاً له؛
لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه ، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم
في مواطن كثيرة ، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة . إلا أنه
قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل : في جميع المواطن حتى يلزم ما قال ، ويمكن أن يكونَ
أراد بالكثرة الجميعَ ، كما يُراد بالقلة العدمُ .
قوله : { بِمَا رَحُبَتْ } « ما » مصدريةٌ أي : رَحْبها وسَعَتها . وقرأ زيد ابن
علي في الموضعين : « رَحْبَت » بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يَسْلُبون عين فَعُل
فيقولون في شَرُف : شَرْف .
والرُّحْب بالضم : السَّعَة ، وبالفتح : الشيء الواسع . يقال : رَحُب المكان
يَرْحُب رُحْباً ورَحَابة وهو قاصر . فأمَّا تعدِّيه في قولهم : « رَحُبَتْكم
الدار » فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم .
وحُنَيْن اسمُ واد ، فلذلك صَرَفَه . وبعضُهم جعله اسماً للبقعة فَمَنَعَه في قوله
:
2477 نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه ... بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال
وهذا كما قال الآخر في « حراء » اسمِ الجبل المعروف اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله
:
2478 ألسنا أكبرَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلاً ... وأَعْظَمَهم ببطنَ حِراءَ نارا
والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين ، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد
قال :
2479 وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى ... بأجرامه مِنْ قُلَّة النِّيْقِ
مُنْهوي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } : على المبالغة ، جُعِلوا نفسَ النَّجَس أو على حذف مضاف . وقرأ أبو حيوة « نِجْسٌ » بكسر النون وسكون الجيم ، ووجهُه أنه اسمُ فاعل في الأصل على فَعِل مثل كَتِف وكَبِد ، ثم خُفِّفَ بسكون عَيْنِه بعد إتباع فائه ، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مَقامه أي : فريق نجس أو جنس نجس . وقرأ ابن السميفع « أنجاس » بالجمع ، وهي تحتمل أن تكونَ جمعَ قراءةِ الجمهور ، أو جمع قراءةِ أبي حيوة .
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قوله تعالى : { مِنَ الذين أُوتُواْ } : بيانٌ للموصول قبلَه . والجِزْية : فِعْلَة لبيان الهيئة كالرِّكْبَة لأنها مِنَ الجزاء على ما أُعْطُوه من الأمن . و « عن يدٍ » حالٌ أي : يُعْطَوها مقهورِين أَذِلاَّء . وكذلك « وهم صاغرون » .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قوله
تعالى : { عُزَيْرٌ ابن الله } : قرأ عاصم والكسائي بتنوين « عُزَيْرٌ » والباقون
من غير تنوين . فأمَّا القراءة الأولى فيُحتمل أن يكونَ اسماً عربيّاً مبتدأً ، و
« ابنُ » خبره ، فتنوينه على الأصل . ويُحتمل أن يكون أعجمياً ، ولكنهُ خفيفُ
اللفظِ كنوح ولوط ، فصُرِفَ لخِفَّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني أنه تصغيرُ «
عَزَر » فحكمُه حكمُ مُكَبَّره . وقد رُدَّ هذا القولُ على أبي عبيد بأنه ليسَ
بتصغيرٍ ، إنما هو أعجمي جاء على هيئة التصغيرِ في لسانِ العربِ ، فهو كسليمان جاء
على مثال عثيمان وعُبَيْدان .
وأمَّا القراءة الثانية فَيَحتمل حَذْفُ التنوينِ ثلاثةَ أوجه أحدها : أنه حُذِفَ
لالتقاء الساكنين على حَدِّ قراءة : { قُلْ هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد } [ الصمد
: 1-2 ] وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء و « ابن » خبره . الثاني : أن تنوينَه
حُذِفَ لوقوع الابن صفة له ، فإنه مرفوعٌ بالابتداء و « ابن » صفته ، والخبرُ
محذوفٌ أي : عزيرٌ ابن الله نبيُّنا أو إمامنا أو رسولنا ، وكان قد تقدَّم أنه متى
وقع الابنُ صفةً بين علمين غيرَ مفصولٍ بينه وبين موصوفه ، حُذِفَتْ ألفُه خطاً
وتنوينُه لفظاً ، ولا تَثْبت إلا ضرورة ، وتقدَّم الإِنشادُ عليه آخر المائدة .
ويجوز أن يكون « عزير » خبر مبتدأ مضمر أي : نبيُّنا عُزَيْر و « ابن » صفةٌ له أو
بدل أو عطف بيان . الثالث : أنه إنما حُذف لكونِه ممنوعاً من الصرف للتعريف
والعجمة ، ولم يُرْسم في المصحف إلا ثابت الألف ، وهي تَنْصُرُ مَنْ/ يجعلُه خبراً
.
وقال الزمخشري : « عزير ابن : مبتدأ وخبره ، كقوله : { المسيح ابن الله } . و »
عُزَيْر « اسم أعجمي كعزرائيل وعيزار ، ولعجمته وتعريفه امتنع مِنْ صرفه ، ومَنْ
صرفه جعله عربياً ، وقول مَنْ قال : سقوطُ التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة { قُلْ
هُوَ الله أَحَدٌ الله } [ الصمد : 1-2 ] ، أو لأنَّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف
وهو » معبودنا « فتمحُّلٌ عند مَنْدوحة .
قوله : { يُضَاهِئُونَ } قرأ العامة : » يضاهِئُون « بضم الهاء بعدها واو ، وعاصم
بهاءٍ مكسورة بعدها همزةٌ مضمومة ، بعدها واو . فقيل : هما بمعنى واحد وهو
المشابهة وفيه لغتان : ضاهَأْتُ وضاهَيْت ، بالهمزة والياء ، والهمزُ لغة ثَقيف .
وقيل : الياء فرع عن الهمز كما قالوا : قرأ وقَرَيْت وتوضَّأت وتوضَّيْت ،
وأَخْطَأْت وأَخْطَيْت . وقيل : بل يضاهِئُون بالهمز مأخوذ من يضاهِيُوْن ، فلمَّا
ضُمَّت الهاءُ قُلِبَتْ همزةً . وهذا خطأ لأن مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا
الموضعِ حتى تُقْلَبَ همزةً ، بل يؤدي تصريفه إلى حذفِ الياء نحو » يُرامُون « من
الرمي و » يُماشُون « من المشي . وزعم بعضُهم أنه مأخوذٌ من قولهم : امرأة ضَهْيَا
بالقصر ، وهي التي لا ثَدْيَ لها ، و التي لا تَحيض ، سُمِّيت بذلك لمشابهتها
الرجال .
يقال
: امرأة ضَهْيَا بالقصر وضَهْيَاء بالمد كحمراء ، وضَهْياءَة بالمدِّ وتاءِ
التأنيث ثلاث لغات ، وشذَّ الجمع بين علامتَي تأنيث في هذه اللفظة . حكى اللغة
الثالث الجرمي عن أبي عمرو الشيباني . قيل : وقولُ مَنْ زعم أنَّ المضاهأة بالهمز
مأخوذةٌ مِنْ امرأة ضَهْياء في لغاتِها الثلاث خطأٌ لاختلاف المادتين ، فإن
الهمزةَ في امرأة ضَهْياء زائدة في اللغاتِ الثلاث وهي في المضاهأة أصلية .
فإن قيل : لِمَ لم يُدَّعَ أن همزةَ ضهياء أصلية وياؤها زائدة؟ ، فالجواب أن
فَعْيَلاً بفتح الياء لم يَثْبت . فإن قيل : فلِمَ لم يُدَّع أن وزنَها فَعْلَل
كجعفر؟ ، فالجواب أنه قد ثبتت زيادة الهمزة في ضَهْياء بالمدِّ فَلْتَثْبت في
اللغة الأخرى ، وهذه قاعدةٌ تصريفية .
والكلامُ على حَذْف مضاف تقديره : يُضاهي قولُهم قول الذين ، فَحُذِف المضاف ،
وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، فانقلب ضميرَ رفع بعد أن كان ضميرَ جَرٍّ .
والجمهور على الوقف على « أفواههم » ويَبْتدئون ب « يضاهئون » وقيل : الباءُ
تتعلَّق بالفعل بعدها . وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ هذا المضافِ . واستضعف أبو
البقاء قراءةَ عاصم وليس بجيدٍ لتواترها .
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قوله تعالى : { والمسيح ابن مَرْيَمَ } : عطف على « رُهْبانَهم » والمفعول الثاني محذوف ، إذ التقدير : اتخذ اليهود أحبارهم أرباباً ، والنصارى رهبانهم والمسيحَ ابن مريم أرباباً ، وهذا لأمْنِ اللَّبس خَلَط الضمير في « اتخذوا » وإن كان مقسماً لليهود والنصارى ، وهذا مراد أبي البقاء في قوله : « أي واتخذوا المسيحَ ربّاً ، فحذف الفعل وأحد المفعولين ، وجَوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعَبَدوا المسيح ابن مريم » .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قوله تعالى : { ويأبى الله } : { إِلاَّ أَن يُتِمَّ } مفعول به ، وإنما دَخَلَ الاستثناء المفرغ في الموجَب لأنه في معنى النفي ، فقال الأخفش الصغير : « معنى يَأْبَى يمنع » . وقال الفراء : « دَخَلَتْ » إلا « لأنَّ في الكلام طَرَفاً من الجحد » . وقال الزمخشري : « أجرى » أبى « مُجرى » لم يُرِدْ « ، ألا ترى كيف قُوبل { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : » ويأبى الله « ، و [ كيف ] أوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يُتِمَّ نوره » . وقال الزجاج : « إن المستثنى منه محذوف تقديره : ويأبى أي ويكره كُلَّ شيء إلا أن يتم نوره » . وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ومذهبِ غيره ، فجعلهما مذهباً واحداً فقال : « يأبى بمعنى يَكْره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لِما فيه من معنى النفي ، والتقدير : يأبى كلَّ شيء إلا إتمام نوره » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
قوله
تعالى : { وَيَصُدُّونَ } : يحتمل أن يكون متعدياً أي : يصدون/ الناس ، وأن يكون
قاصراً ، كذا قال الشيخ . وفيه نظر لأنه متعدٍّ فقط ، وإنما يُحْذف مفعولُه ،
ويراد أو لا يراد كقوله : { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .
قوله : { والذين يَكْنِزُونَ } الجمهورُ على قراءته بالواو . وفيه تأويلان ،
أحدُهما : أنها استئنافيةٌ ، و « الذين » مبتدأ ضُمِّن معنى الشرط؛ ولذلك دَخَلَتْ
الفاءُ في خبره . والثاني : أنه من أوصافِ الكثيرِ من الأحبار والرهبان ، وهو قول
عثمان ومعاوية ، ويجوز أن يكونَ « الذين » منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يفسِّره «
فَبَشِّرْهم » وهو أرجحُ [ لمكان الأمر ]
وقرأ طلحة بن مصرف « الذين » بغير واو ، وهي تحتمل الوجهين المتقدمين ، ولكنَّ
كونَها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرهبان أظهرُ مِنَ الاستئناف عكسَ التي
بالواو .
والكَنْزُ : الجمع والضم ، ومنه ناقة كِناز أي : منضمَّة الخَلْق ، ولا يختص
بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما وإن غلب عليهما قال :
2480 لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ جائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعندي
البُرُّ مَكْنوزُ
وقال آخر :
2481 - على شديدٍ لحُمُه كِنازِ ... باتَ يُنَزِّيني على أَوْفازِ
قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } تقدَّم شيئان وعاد الضمير [ على ] مفرد فقيل : إنه
من بابِ ما حُذِفَ لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يَكْنزون الذهب ولا
يُنْفقونه . وقيل : يعود على المكنوزات ودل على هذا جُزْؤه المذكورٌ؛ لأنَّ
المكنوزَ أعمُّ من النقدَيْن وغيرِهم ، فلمَّا ذَكَر الجزءَ دلَّ على الكل ، فعاد
الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار ، ونظيره قول الآخر :
2482 ولو حَلَفَتْ بين الصَّفا أمُّ عامرٍ ... ومَرْوَتِها بالله بَرَّتْ يمينها
أي : ومروة مكة ، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤُها وهو الصفا . كذا استدل به
ابن مالك ، وفيه احتمال ، وهو أن يكون الضمير عائداً على الصَّفا ، وأُنِّثَ
حَمْلاً على المعنى ، إذ هو في معنى البقعة والحَدَبة . وقيل : الضميرُ يعودُ على
الذهب لأن تأنيثه أشهر ، ويكون قد حُذِفَ بعد الفضة أيضاً . وقيل : يعودُ على
النفقة المدلول عليها بالفعل كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] .
وقيل : يعودُ على الزَّكاة أي : ولا ينفقون زكاةَ الأموال . وقيل : يعودُ على
الكنوز التي يدل عليها الفعل .
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قوله
تعالى : { يَوْمَ يحمى } : منصوبٌ بقوله : « بعذاب أليم » ، وقيل : بمحذوفٍ يدلُّ
عليه عذاب أي : يُعَذَّبون يوم يُحمى ، أو اذكر يومَ يُحْمى . وقيل : هو منصوبٌ
بأليم . وقيل : الأصل : عذاب يوم ، وعذاب بدل مِنْ عذاب الأول ، فلمَّا حُذِفَ
المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامَه . وقيل : منصوبٌ بقولٍ مضمر وسيأتي بيانُه .
و « يُحمى » يجوز أن يكونَ مِنْ حَمَيْتُ أو أَحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً . يقال :
حَمَيْتُ الحديدة وأَحْمَيْتها أي : أَوْقَدَتْ عليها لتَحْمَى . والفاعلُ
المحذوفُ هو النارُ تقديرُه : يوم تُحمى النار عليها ، فلما حُذِفَ الفاعل ذهبت
علامةُ التأنيث لذَهابِه ، كقولك : « رُفِعَت القضيةُ إلى الأمير » ، ثم تقول : «
رُفع إلى الأمير » . وقيل : المعنى : يُحْمَى الوقود .
وقرأ الحسن : « تُحْمَى » بالتاء من فوق أي : النار وهي تؤيد التأويل الأول . وقرأ
أبو حيوة : « يُكوى » بالياء من تحت ، لأن تأنيثَ الفاعلِ مجازيٌّ . والجمهور «
جباهُهم » بالإِظهار ، وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإِدغام كما أَدْغم : {
سَلَكَكُمْ } [ المدثر : 42 ] { مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ومثل :
جباههم : « وجوههم » المشهور الإِظهار .
قوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } معمولٌ لقول محذوف أي : يُقال لهم
ذلك يومَ يحمى . وقوله : { مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي : جزاءَ ما كنتم؛ لأنَّ
المكنوزَ لا يُذاق . و « ما » يجوز أن تكون بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأن
تكونَ مصدرية . وقرىء « تَكْنُزون » بضم عين المضارع ، وهما لغتان يقال : كَنَزَ
يَكْنِز ، وكَنَزَ يَكْنُز .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قوله
تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ } : العِدَّة : مصدر بمعنى العَدَد . و « عند الله »
منصوبٌ به ، أي في حُكْمه . و « اثنا عشر » خبرُ إنَّ . وقرأ هبيرة عن حفص وهي
قراءةُ أبي جعفر اثنا عْشَرَ بسكون العين مع ثبوتِ الألِف قبلَها ، واستُكْرِهَتْ
من حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما كقولهم : « التقت/ حَلْقتا البِطان »
بإثباتِ الألفِ من « حَلْقتا » . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حُمِل عشر في المذكر
على عشرة في المؤنث .
و « شَهْراً » نصبٌ على التمييز ، وهو مؤكِّد لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو
كقولك : « عندي من الدنانير عشرون ديناراً » . والجمع متغاير في قوله : « عدَّة
الشهور » ، وفي قوله : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] لأن هذا جمعُ كثرة ،
وذاك جمعُ قلة .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوز أن يكونَ صفةً لاثنا عشر ، ويجوز أن يكونَ بدلاً
من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ؛ لأنه يلزمُ منه أن يُخْبر عن الموصول
قبل تمامِ صلتِه؛ فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيلِ البدلية ، وعلى تقدير صحةِ
ذلك من جهة الصناعة ، كيف يَصِحُّ من جهة المعنى؟ ، ولا يجوز أن يكون { فِي
كِتَابِ الله } متعلقاً ب « عدة » لئلا يلزمَ الفصلَ بين المصدر ومعمولِه بخبره ،
وقياس مَنْ جوَّز إبدالَه من الظرف أن يجوِّزَ هذا . وقد صَرَّح بجوازه الحوفيُّ .
قوله : { يَوْمَ خَلَقَ } يجوز فيه أن يتعلَّق ب « كتاب » على أنه يُرادُ به
المصدر لا الجثة . ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو { فِي
كِتَابِ الله } ، ويكون الكتابُ جثةً لا مصدراً . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ متعلقاً
ب « عدة » ، وهو مردودٌ بما تقدَّم .
قوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه ، أحدها :
أن تكونَ صفةً ل « اثنا عشر » . الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار .
الثالث : أن تكونَ مستأنفةً . والضمير في « منها » عائدٌ على { اثنا عَشَرَ
شَهْراً } لأنه أقربُ مذكورٍ لا على « الشهور » . والضمير في « فيهنَّ » عائدٌ على
« الاثنا عشر » أيضاً . وقال الفراء وقتادة يعودُ على الأربعةِ الحُرُم ، وهذا
أحسنُ لوجهين ، أحدهما : أنها أقربُ مذكورٍ . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ
معاملةَ جمع القلةِ غيرِ العاقل معاملة جماعةِ الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير
الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس : « الأجذاع انكسَرْن » و « الجذوع انكسرت »
ويجوز العكس .
قوله : { كَآفَّةً } منصوبٌ على الحال : إمَّا مِن الفاعل ، أو من المفعول ، وقد
تقدَّم أن « كافَّة » لا يُتَصَرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنها لا تدخلُها
أل وأنها لا تُثَنَّى ولا تُجْمع ، وكذلك « كافة » الثانية .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا النسياء } : في « النسِيْء » قولان أحدهما : أنه مصدرٌ على
فَعِيل مِنْ أَنْسَأ أي أخَّر ، كالنذير مِنْ أَنْذَر والنكير من أَنْكر . وهذا
ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : « النَّسيء تأخيرُ حرمةِ الشهرِ إلى شهر آخر » ،
وحينئذٍ فالإِخبارُ عنه بقوله : « وزيادة » واضحٌ لا يَحْتاج إلى إضمار . وقال
الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة « . قلت : لأنه تأخير في المدة فيلزمُ منه
الزيادة .
الثاني : أنه فَعِيل بمعنى مَفْعول ، مِنْ نَسَأه أي أخَّره ، فهو منسوءٌ ، ثم
حُوِّل مفعول إلى فعيل كما حُوِّل مفعول إلى فعيل ، وإلى ذلك نحا أبو حاتم
والجوهري . وهذا القول رَدَّه الفارسي بأنه يكون المعنى : إنما المؤخَّر زيادة ،
والمُؤَخَّر الشهر ولا يكون الشهرُ زيادةً في الكفر . وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه
على حذف المضاف : إمَّا من الأول أي : إنما إنساءُ المُنْسَأ زيادة في الكفر ،
وإمَّا من الثاني أي : إنما المُنْسَأ ذو زيادة .
وقرأ الجمهور » النَّسيء « بهمزة بعد الياء . وقرأ ورش عن نافع » النَّسِيّ «
بإبدال الهمزة ياءً وإدغام الياء فيها . ورُويت هذه عن أبي جعفر والزهري وحميد ،
وذلك كما خَفَّفوا » برية « و » خطية « . وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل : »
النَّسْء « بإسكان السين . وقرأ مجاهد والسلمي وطلحة أيضاً : » النَّسُوء « بزنة
فَعُول بفتح الفاء ، وهو التأخير ، وفَعول في المصادر قليل ، قد تقدَّم منه
أُلَيْفاظ في أوائل البقرة ، وتقدم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة ، وهو هنا عبارةٌ
عن تأخير بعض الشهور عن بعض قال :
2483 ألَسْنا الناسئينَ على مَعَدٍّ ... شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما
وقال الآخر :
2484 نَسَؤُوا الشّهور بها وكانوا أهلَها ... مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ
وقوله : { يُضَلُّ بِهِ } قرأ الأخوان وحفص : » يُضَلُّ « مبنياً للمفعول ،
والباقون مبنياً للفاعل والموصول فاعل به . وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة
ويعقوب وعمرو بن ميمون : » يُضِلُّ « مبنياً للفاعل مِنْ أضل . وفي الفاعل وجهان
أحدهما : ضمير الباري تعالى أي : / يُضِلُّ الله الذين كفروا . والثاني : أن
الفاعل » الذين كفروا « وعلى هذا فالمفعول محذوف أي : يُضل الذين كفروا أتباعهم .
وقرأ أبو رجاء » يَضَلُّ « بفتح الياء والضاد ، وهي مِنْ ضَلِلْت بكسر اللام
أضَلُّ بفتحها ، والأصل : أَضْلَلُ ، فنُقِلت فتحة اللام إلى الضاد لأجل الإِدغام
. وقرأ النخعي والحسن في رواية محبوب : » نُضِلُّ « بضم نون العظمة و » الذين «
مفعول ، وهذه تقوِّي أن الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود .
قوله : { يُحِلُّونَهُ } فيه وجهان أحدهما : أن الجملةَ تفسيريةٌ للضلال . والثاني
: أنها حاليةٌ .
قوله : { لِّيُوَاطِئُواْ } في هذه اللامِ وجهان : أنها متعلقةٌ بيُحَرِّفونه .
وهذا
مقتضى مذهبِ البصريين فإنهم يُعْملون الثاني من المتنازعين . والثاني : أن
يتعلَّقَ بيُحِلُّونه ، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين فإنهم يُعْملون الأول لسَبْقِه .
وقولُ مَنْ قال إنها متعلقةٌ بالفعلين معاً ، فإنما يعني من حيث المعنى لا اللفظ .
وقرأ أبو جعفر « ليوطِيُوا » بكسر الطاء وضم الياء الصريحة . والصحيح أنه يَنْبغي
أن يُقْرأ بضم الطاء وحذف الياء؛ لأنه لمَّا أبدل الهمزةَ ياءً استثقل الضمةَ
عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَت الياء وضُمَّت الطاء لتجانِسَ الواو .
والمُواطأة : المُوافَقَةُ والاجتماع يقال : تواطَؤُوا على كذا أي : اجتمعوا عليه
، كأنه كل واحد يطأ حيث يطأ الآخر ، ومنه قولُه تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل
هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [ المزمل : 6 ] ، وقُرىء وِطاءً . وسيأتي إن شاء الله .
وقرأ الزهري « ليواطِيُّوا » بتشديدِ الياء . هكذا ترجموا قراءتَه وهي مشكلةٌ حتى
قال بعضهم : « فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء وتخليصها مِنَ الهمز دون التضعيف ،
فلا أعرف وجهها » . وهو كما قال .
قوله : « زُيِّنَ » الجمهورُ على « زُيِّن » مبنياً للمفعول ، والفاعلُ المحذوف هو
الشيطان . وقرأ زيد بن علي ببنائه للفاعل وهو الشيطان أيضاً ، و « سوء » مفعوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قوله
تعالى : { اثاقلتم } : أصلُه تثاقلتم ، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ
فاجتُلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك في { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] ، والأصل :
تدارأتم . وقرأ الأعمش « تثاقلتم » بهذا الأصل ، و « ما » في قوله « مالكم »
استفهامية وفيها معنى الإِنكار . وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول .
و « اثَّاقلتم » ماضي اللفظ مضارع المعنى أي : يتثاقلون ، وهو في موضع الحال ، وهو
عاملٌ في الظرف أي : مالكم متثاقلين وقت القول . وقال أبو البقاء : « اثَّاقلتم :
ماض بمعنى المضارع أي : مالكم تتثاقلون وهو في موضع نصب أي : أيُّ شيء لكم في
التثاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليل . وقيل : هو في موضع حال » قال الشيخ : «
وهذا ليس بجيدٍ ، لأنه يلزمُ منه حذفُ » أَنْ « ، لأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من
حرفٍ مصدري والفعل ، وحَذْفُ » أَنْ « في نحو هذا قليلٌ جداً ، أو ضرورة ، وإذا
كان التقديرُ : » في التثاقل « فلا يمكن عملُه في » إذا « ، لأنَّ معمول المصدرِ
الموصول لا يتقدَّم عليه ، فيكون الناصب ل » إذا « والمتعلَّق به » في التثاقل «
ما تعلَّق به » لكم « الواقعُ خبراً ل » ما « .
وقرىء » أَثَّاقَلْتم « بالاستفهام الذي معناه الإِنكار ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن
يَعْمل في » إذا «؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكون العاملَ
في هذا الظرف : إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في » لكم « ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه
باللفظ . والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم . وإليه نحا الزمخشري . والظاهر أن
يُقَدَّر : ما لكم تثاقلون إذا قيل ، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى .
وقوله : { إِلَى الأرض } ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد . وقوله : » من الآخرة «
تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ » مِنْ « بمعنى بدل كقوله : {
لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] أي : بدلكم ، ومثلُه قولُ
الآخر :
2485 جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا ... ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا
وقول الآخر :
2486 فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
/ إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى ، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك
والتقديرُ هنا : اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها . وقال أبو
البقاء : » مِن الآخرة في موضع الحال أي : بدلاً من الآخرة « ، فقدَّر المتعلَّقَ
خاصاً ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى .
قوله : { فِي الآخرة } متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره : فما متاعُ الحياة
الدنيا محسوباً في الآخرة . ف » محسوباً « حالٌ مِنْ » متاع « . وقال الحوفي : »
إنه متعلق ب قليل وهو خبر المبتدأ « . قال : » وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله
المقرونِ ب « إلا » لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال . ولو قلت : « ما زيدٌ
عمراً إلا يَضْرب » لم يَجُزْ « .
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قوله
تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ } : هذا الشرط جوابُه محذوف لدلالة
قولِه : « فقد نصره » عليه ، والتقديرُ : إنْ لا تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشري
فيه وجهين ، أحدهما ما تقدم ، والثاني : قال : « إنه أَوْجب له النُّصْرَة ، وجعله
منصوراً في ذلك الوقت فلن يُخْذَلَ مِنْ بعده » . قال الشيخ : « وهذا لا يظهرُ منه
جوابُ الشرط لأنَّ إيجابَ النصرةِ له أمرٌ سَبَق ، والماضي لا يترتَّب على
المستقبل فالذي يَظْهر الوجهُ الأول » .
قوله : { ثَانِيَ اثنين } منصوبٌ على الحال مِنْ مفعول « أخرجه » وقد تقدَّم معنى
الإِضافة في نحو هذا التركيب عند قوله { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
وقرأت جماعة « ثاني اثنين » بسكون الياء . قال أبو الفتح : « حاكها أبو عمرو »
ووجهُها أن يكونَ سَكَّن الياءَ تشبيهاً لها بالألفِ ، وبعضُهم يخصُّه بالضرورة .
قوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } : بدلُ مِنْ « إذ » الأولى فالعاملُ فيها « فقد
نَصَره » ، قال أبو البقاء : « ومَنْ مَنَع أن يكونَ العاملُ في البدلِ هو العامل
في المبدل منه قَدَّرَ عاملاً آخر ، أي : نصره » إذ هما في الغار « .
و » الغار « نَقْبٌ يكونُ في الجبلِ ، ويُجمع على غِيران ومثله : تاج وتِيْجان ،
وقاع وقِيعان . والغارُ أيضاً نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً الجماعة ،
والغاران البطن والفرج . وألف الغار عن واو .
قوله : { إِذْ يَقُولُ } بدلٌ ثانٍ من » إذ « الأولى . وقال أبو البقاء : » إنَّ
إذ هما في الغار ، وإذ يقول ظرفان لثاني اثنين « ، والضمير في » عليه « يعود على
أبي بكر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً . وقد تقدم
القول في { السكينة } [ البقرة : 248 ] . والضمير في » أيَّده « للنبي صلى الله
عليه وسلم . وقرأ مجاهد » وأَيَدَه « . بالتخفيف . و » لم تَرَوْها « صفة لجنود .
قوله : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } الجمهورُ على رفع » كلمة « على الابتداء ،
و » هي « يجوزُ أَنْ تكونَ مبتدأ ثانياً ، و » العُلْيا « خبرها ، والجملة خبر
الأول ، ويجوز أن تكونَ » هي « فصلاً و » العليا « الخبر . وقُرِىء » وكلمةَ الله
« بالنصب نسقاً على مفعولَيْ جَعَلَ ، أي : وجعل كلمة الله هي العليا . قال أبو
البقاء : » وهو ضعيفٌ لثلاثة أوجه ، أحدها : وَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر ، إذ
الوجهُ أن تقولَ : وكَلِمَتُه . الثاني : أن فيه دلالةً على أنَّ كلمة الله كانت
سُفْلى فصارت عليا ، وليس كذلك . الثالث : أن توكيدَ مثلِ ذلك ب « هي » بعيد ، إذ
القياسُ أن يكونَ « إياها » . قلت : أما الأولُ فلا ضعفَ فيه لأنَّ القرآنَ ملآنُ
من هذا النوع وهو مِنْ أحسنِ ما يكون لأن فيه تعظيماً وتفخيماً . وأمّا الثاني فلا
يلزمُ ما ذكر وهو أن يكون الشيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدل التصيير على
انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة . وأمَّا الثالث ف « هي »
ليست تأكيداً البتة إنما « هي » ضمير فصل على حالها ، وكيف يكون تأكيداً وقد نَصَّ
النحويون على أن المضمر لا يؤكد المظهر؟
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
وانتصب { خِفَافاً وَثِقَالاً } : على الحال من فاعل « انفروا » .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
قوله
تعالى : { لَوْ كَانَ عَرَضاً } : اسمُ كان ضميرٌ يعود على دل عليه السِّياق ، أي
: لو كان ما دعوتُهم إليه . وقرأ عيسى بن عمر والأعرج « بَعِدَت » بكسر العين .
وقرأ عيسى « الشِّقَّة » بكسر الشين أيضاً . قال أبو حاتم : « هما لغةُ تميم » .
والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ اشتقاقاً مِنَ الشِّق أو المَشَقَّة .
قوله : { بالله } متعلقٌ ب « سَيَحْلِفُون » ، وقال الزمخشري : « بالله » متعلقٌ ب
« سَيَحْلِفُون » ، أو هو من جملة كلامهم ، والقولُ مرادٌ في الوجهين ، أي :
سيَحْلِفون ، يعني المتخلِّفين عند رجوعِك متعذِّرين يقولون : باللَّهِ لو استطعنا
، أو وسَيحلفون بالله يقولون : لو اسْتَطَعْنا ، وقوله « لَخَرَجْنا » سدَّ
مَسَدَّ جواب القسم و « لو » جميعاً « . قال الشيخ : » قوله : لخَرَجْنا سدَّ
مَسَدَّ جوابِ القسم و « لو » جميعاً ليس بجيد ، بل للنحويين في نحو هذا مذهبان ،
أحدُهما : أنَّ « لَخَرَجْنا » جواب القسم ، وجوابُ « لو » محذوفٌ على قاعدة
اجتماع القسم والشرط ، إذ تقدَّم القسم على الشرط ، وهذا اختيارٌ أبي الحسن ابن
عصفور . والآخر : أنَّ « لَخَرَجْنا » جوابُ « لو » ، و « لو » وجوابها جواب القسم
، وهذا اختيارُ ابنِ مالك ، أمَّا أنَّ « لَخَرَجْنا » سادٌّ مَسَدَّهما فلا أعلمُ
أحداً ذَهَبَ إلى ذلك . ويحتمل أن يُتَأول كلامُه على أنَّه لمَّا حُذِف جواب « لو
» ودَلَّ عليه جوابُ القسم جُعِل كأنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم وجوابِ لو « .
وقرأ الأعمش وزيد بن علي » لوُ اسْتَطَعْنا « بضم الواو ، كأنهما فرَّا من الكسرة
على الواو ، وإن كان الأصلَ ، وشبَّها واوَ » لو « بواو الضمير كما شبَّهوا واوَ
الضمير بواو » لو « ، حيث كسَرُوها نحو { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ]
لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسن » اشْتَرَوا الضلالة « ، و » لوَ استطعنا « بفتح
الواو تخفيفاً .
قوله : { يُهْلِكُونَ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها حالٌ من فاعل »
سَيَحْلِفُون « ، أي : سَيَحْلفون مُهْلِكين أنفسَهم . والثاني : أنها بدلٌ من
الجملةِ قبلها وهي » سَيَحْلِفون « . الثالث : أنها حالٌ من فاعل » لَخَرَجْنا « .
وقد ذكر الزمخشري هذه الأوجه الثلاثة ، فقال : » يُهْلِكون : إمَّا أنَ يكونَ
بدلاً من « سيحلفون » أو حالاً بمعنى مُهْلكين . والمعنى : أنهم يُوْقِعُون في
الهلاكِ أنفسَهم بحلفهم الكاذب . ويحتمل أن يكونَ حالاً من فاعل « خَرَجْنا » ، أي
: لَخَرَجْنا وإنْ أهلكْنا أنفسنا . وجاء بلفظ الغائب لأنه مُخْبِرٌ عنهم ، ألا
ترى أنه لو قيل : سَيَحْلِفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً ، يقال :
حَلَفَ بالله ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبةُ على حكم الإِخبار ، والتكلمُ على الحكاية
« .
قال
الشيخ : « أمَّا كونُ » يُهْلِكون « بدلاً مِنْ » سَيَحْلِفون « فبعيدٌ؛ لأنَّ
الإِهلاكَ ليس مُرادِفاً للحَلف ولا هو نوع منه ، ولا يُبدل فِعْلٌ من فعل إلا إنْ
كان مرادفاً له أو نوعاً منه » قلت : يَصِحُّ البدل على معنى أنه بدلُ اشتمال؛
وذلك لأنَّ الحَلْفَ سببٌ للإِهلاك فهو مشتملٌ عليه ، فأبدل المُسَبَّب مِنْ سببِه
لاشتمالِه عليه ، وله نظائرُ كثيرةٌ منها قولُه :
2487 إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تجيءَ طائعاً
ف « تُؤْخَذ » بدلٌ مِنْ « تبايع » بدلُ اشتمالٍ بالمعنى المذكور ، وليس أحدهما
نوعاً من الآخر . ثم قال الشيخ : « وأمَّا كونُه حالاً من قوله » لخرجنا « [ فالذي
يظهرُ أن ذلك لا يجوز لأنَّ قولَه » لخَرَجْنا « ] فيه ضمير المتكلم ، فالذي يجري
عليه إنما يكون بضمير المتكلم ، فلو كان حالً من فاعل » لخَرَجنا « لكان التركيبُ
: نُهْلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا . وأمَّا قياسُه ذلك على » حَلَفَ زيد ليفعلن « و
» لأفعلنَّ « فليس بصحيحٍ؛ لأنَّه إذا أَجْراه على ضمير الغيبة لا يَخْرُجُ منه
إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : » حَلَفَ زيد ليفعلن وأنا قائم « على أن يكون » وأنا
قائم « حالاً من ضمير » ليفعلن « لم يجز ، وكذا عكسُه نحو : » حَلَفَ زيدٌ لأفعلن
يقوم « تريد : قائماً لم يجز . وأمَّا قولُه » وجاء به على لفظِ الغائب لأنه
مُخْبَرٌ عنهم « فمغالطة ، ليس مخبراً عنهم بقوله { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا } ،
بل هو حاكٍ لفظَ قولِهم . ثم قال : » ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان
سديداً إلى آخره « كلامٌ صحيحٌ لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكايةُ ،
والحالُ من جملةِ كلامِهم المحكيّ ، فلا يجوزُ/ أن يخالفَ بين ذي الحال وحالِه
لاشتراكهما في العامل . لو قلت : » قال زيد خرجت يضرب خالداً « تريد : اضرب خالداً
، لم يجز . ولو قلت : » قالت هند : خرج زيد اضربْ خالداً « تريد : خرج زيد ضارباً
خالداً لم يجز » انتهى .
الرابع : أنها جملةٌ استئنافيةٌ أخبر الله عنهم بذلك .
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
قوله
تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } : « لِمَ » و « لهم » كلاهما متعلقٌ ب أَذِنْتَ .
وجاز ذلك لأنَّ معنى اللامين مختلف ، فالأولى للتعليلِ ، والثانيةُ للتبليغ ،
وحُذِفَتْ ألفُ ما الاستفهاميةِ لانجرارِها . وتقديمُ الجارِّ الأول واجبٌ لأنه
جرَّ ما له صدرُ الكلام . ومتعلَّقُ الإِذْنِ محذوفٌ ، يجوز أن يكونَ القُعود ، أي
: لِمَ أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السِّياق مِن اعتذارهم عن تَخَلُّفِهم عنه
عليه السلام . ويجوز أن يكون الخروج ، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج لأنَّ خروجَهم
فيه مفسدةٌ مِنَ التخذيل وغيرِه يدل عليه { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ
إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] .
قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } « حتى » يجوز أن تكون للغاية ، ويجوزُ أن تكونَ للتعليل
، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ : إمَّا بمعنى إلى وإمَّا اللام ، و « أَنْ »
مضمرةٌ بعدها ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوفٍ . قال أبو البقاء « تقديره : هلاَّ
أخَّرْتَهم إلى أن يتبيَّنَ أو ليتبيَّن . وقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } يدلُّ
على المحذوف ، ولا يجوزُ أن تتعلَّقَ » حتى « ب » أَذِنْتَ « لأن ذلك يوجب أن
يكونَ أَذِن لهم إلى هذه الغاية أو لأجل التبيين ، وذلك لا يُعاتَبُ عليه » . وقال
الحوفي « حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ ، أي : ما كان له أن يأذن لهم حتى
يتبيَّنَ له العُذْر » . قلت : وفي هذه العبارةِ بعَضُ غضاضة .
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
قوله تعالى : { أَن يُجَاهِدُواْ } : فيه وجهان : أظهرهما : أنه متعلَّقُ الاستئذان ، أي : لا يستأذنوك في الجهاد ، بل يَمْضون فيه غير مترددين . والثاني : أن متعلق الاستئذان محذوف و « أن يُجاهدوا » مفعولٌ من أجله تقديره : لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعودِ كراهةَ أن يُجاهدوا بل إذا أَمَرْتهم بشيءٍ بادروا إليه .
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
قوله
تعالى : { لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } : العامَّةُ على « عُدّة » بضم العين وتاء
التأنيث وهي الزَّادُ والراحلةُ وجميعُ ما يَحْتاج إليه المسافرُ .
وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنهُ معاوية « عُدَّةُ » كذلك إلا أنه جعل مكان
تاء التأنيث هاء ضمير غائب تعود على الخروج . واختُلِف في تخريجِها فقيل : أصلُها
كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإِضافةِ كالتنوين . وجعل الفراء من
ذلك قولَه تعالى : { وَإِقَامَ الصلاة } [ النور : 37 ] ، ومنه قولُ زهير :
2488 إنَّ الخَلِيْطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ
الذي وَعدُوا
يريد : عِدَّة الأمرِ . وقال صاحب « اللوامح » : لمَّا أضافَ جعل الكناية نائبةً
عن التاء فأسقطها؛ وذلك لأنَّ العُدَّ بغير تاء ولا تقديرها هو الشيء الذي يخرج في
الوجه « . وقال أبو حاتم : » هو جمع عُدَّة ك بُرّ جمع بُرّة ، ودُرّ جمع دُرَّة ،
والوجهُ فيه عُدَد ، ولكن لا يوافق خطَّ المصحف .
وقرأ زر بن حبيش وعاصم في رواية أبان « عِدَّهُ » بكسر العين مضافةً إلى هاءِ
الكناية . قال ابن عطية : « وهو عندي اسمٌ لِما يُعَدُّ كالذِّبْح والقِتلْ .
وقُرىء أيضاً » عِدَّة « بكسر العين وتاء التأنيث ، والمرادُ عدة من الزاد والسلاح
مشتقاً من العَدَد .
قوله : { ولكن كَرِهَ الله } الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمل؛ ولذلك قال الزمخشري
: » فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلت : لمَّا كان قولُه { وَلَوْ
أَرَادُواْ الخروج } معطياً نفيَ خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : ولكنْ كره الله [
انبعاثَهم ] ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تَثَبَّطوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ،
كما [ تقول : ما ] أحسن زيدٌ إليَّ ولكن أساء إليّ « انتهى . يعني أن ظاهر الآية
يقتضي أنَّ ما بعد » لكن « موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنها لا تقع إلا
بين ضدين أو نقيضين أو خلافين على/ خلاف في هذا الأخير فلذلك احتاج إلى الجواب
المذكور .
قال الشيخ : » وليست الآيةُ نظيرَ هذا المثال يعني : ما أحسن زيداً إليّ ولكن أساء
، لأن المثالَ واقعٌ فيه « لكن » بين [ ضدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها « لكن » بين
] متفقين من جهة المعنى « ، قلت : مُرَادُهم بالنقيضين النفيُ والإِثبات لفظاً وإن
كانا يتلاقيان في المعنى ، ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً .
والتَّثْبيطُ : التَّعْويق . يقال : ثَبَّطْتُ زيداً أي : عُقْتُه عَمَّا يريده من
قولهم : ناقة ثَبِطَة أي بطيئة السير . والمراد بقوله » اقعدوا « التَّخْلية وهو
كنايةٌ عن تباطُئِهم ، وأنهم تشبهوا بالنساء أو الصبيان والزمنى وذوي الأعذار ،
وليس المراد قعوداً كقوله :
2489 دَعِ المكارِم لا تَقْصِدْ لبُغْيَتها ... واقعُدْ فإنَّك أنت الطاعِمُ
الكاسي
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
قوله
تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم } : أي : في جيشكم وفي جمعكم . وقيل : « في »
بمعنى مع ، أي : معكم . وتقدَّم تفسير « الخبال » في آل عمران .
وقوله : { إِلاَّ خَبَالاً } جَوَّزوا فيه أن يكون استثناء متصلاً وهو مفرَّغٌ؛
لأنَّ « زاد » يتعدى لاثنين . قال الزمخشري : « المستثنى منه غيرُ مذكور ،
فالاستثناءُ من أعمِّ العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلاً فإن الخَبال بعضُ
أعمِّ العام كأنه قيل : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً » . وجَوَّزوا فيه أن يكونَ
منقطعاً والمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدةً ولكنْ خبالً ، وهذا يجيءُ على قول مَنْ
قال إنه لم يكن في عَسْكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خَبال ، كذا قال الشيخ .
وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العَسْكر خبالٌ أصلاً فكيف يستثنى شيءٌ لم يكنْ ولم
يُتوهَّم وجوده؟
قوله : { خِلاَلَكُمْ } منصوبٌ على الظرفِ . والخِلال : جمع خَلَل وهو الفُرْجَةُ
بين الشيئين ويُستعار في المعاني فيُقال : في هذا الأمر خَلل .
والإِيُضاع : الإِسْراع يُقال : أَوْضَعَ البعيرُ ، أي : أسرع في سَيْره قال امرؤ
القيس :
2490 أرانا مُوضِعينَ لأَِمْرِ غيبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ والشراب
وقال آخر :
2491 - يا لَيْتَني فيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
ومفعول « أوضعوا » محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي .
ويُقال : وَضَعَتْ الناقةُ تَضَعُ : إذا أَسْرعت ، وأوضعتها أنا . وقرأ ابن أبي
عبلة { ما زادَكم إلا خَبالاً } ، أي : ما زادكم خروجهم . وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد
: « ولأَوْفَضوا » وهو الإِسراع أيضاً من قوله تعالى : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ }
[ المعارج : 43 ] ، وقرأ ابن الزبير « وَلأَرْفَضُوا » بالراء والفاء والضاد
المعجمة مِنْ رَفَضَ ، أي : أسرع أيضاً ، قال حسان :
2492 بزجاجةٍ رَقَصَتْ بما في جَوْفِها ... رَقْصِ القَلوصِ براكبٍ مستعجِلِ
وقال :
2493 . . . . . . . . . . . . . . . . ... والراقصاتِ إلى مِنَىً فالغَبْغَبِ
يُقال : رَفَضَ في مِشْيته رَفْضاً ورَفَضاناً .
قوله : { يَبْغُونَكُمُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « أَوْضَعوا » ، أي :
لأَسْرَعوا فيما بينكم حالَ كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنةَ لكم .
قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول
« يَبْغُونكم » أو مِنْ فاعله ، وجاز ذلك لأن في الجملة ضميريهما . ويجوز أن تكونَ
مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم مَنْ يَسْمع لهم ويُصْغِي لقولِهم . ويجوز أن
يكونَ المرادُ : وفيكم جواسيسُ منهم يسمعون لهم الأخبارَ منكم ، فاللامُ على الأول
للتقوية لكون العاملِ فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم .
ورُسِم في المصحف { ولا أَوْضَعُوا خلالكم } بألف بعد « لا » ، قال الزمخشري : «
كانت الفتحة تُكْتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول
القرآن ، وقد بقي من ذلك أثرٌ في الطباع فكتبوا صورةَ الهمزةِ ألفاً وفتحتَها
ألفاً أخرى ، ونحوه ، { أَوْ لا أَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] يعني في زيادة ألف
بعد » لا « ، وهذا لا يجوزُ القراءة به ، ومَنْ قرأه متعمداً يكفر .
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
وقرأ مسلمة بن محارب « وقَلَبوا » مخففاً . وقوله « وهم كارهون » حالٌ والرابطُ الواو .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
قوله
تعالى : { مَّن يَقُولُ ائذن } : كقوله { يَاصَالِحُ ائتنا } [ الأعراف : 77 ] من
أنه يجوز تحقيقُ الهمزة وإبدالُها واواً لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلةُ من
كلمةٍ أخرى . / وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة ، وقد كان قبلها همزةُ وصل سَقَطت
دَرْجاً . قال أبو جعفر . « إذا دخلت الواو والفاء على » ائذن « فهجاؤها ألفٌ وذال
ونون بغير ياء ، أو » ثم « فالهجاءُ ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونون . والفرقُ أنَّ » ثم «
يوقف عليها ويُنْفَصَل بخلافهما » . قلت : يعني أنه إذا دخلت واوُ العطف أو فاؤه
على هذه اللفظةِ اشتدَّ اتصالُهما بها فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً
، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ فتكتب « فَأْذَنْ ، وَأْذَنْ » ، فهذه الألفُ مِنْ صورةِ
الهمزة التي هي فاءُ الكلمة . وإذا دخلت عليها « ثم » كُتِبَتْ كذا : { ثُمَّ
ائتوا } ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة . قلت : وكأنَّ هذا الحكمَ الذي
ذَكره مع « ثم » يختصُّ بهذه اللفظة ، وإلا فغيرُها مما فاؤُه همزةٌ تسقط صورة
همزة وصلِه خَطَّاً فيُكتب الأمرُ من الإِتيان مع « ثم » هكذا : « ثم أْتُوا »
وكان القياسُ على « ثمَّ ائْذَنْ » : « ثم ائتوا » وفيه نظر .
وقرأ عيسى بن عمر وابن السَّمَيْفع وإسماعيل المكي فيما روى عنه ابن مجاهد : « ولا
تُفْتِينِّي » بضم حرف المضارعة مِنْ أفتنه رباعياً . قال أبو حاتم : « هي لغة
تميم » . وقيل : أفتنه : أدخله فيها . وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال :
2494 لئن فَتَنَتْني فهي بالأمس أفتنتْ ... سعيداً فأمسى قد قلا كلَّ مسلم
ومتعلق الإِذن القعود ، أي : ائذن لي في القعود والخُلْف عن العدو ولا تَفْتِنِّي
بخروجي معك .
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قوله
تعالى : { لَّن يُصِيبَنَآ } قال عمرو بن شقيق : « سمعت أَعْيُنَ قاضي الري يقرأ »
لن يُصيبَنَّا « بتشديد النون » ، قال أبو حاتم : ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النونَ لا
تدخل مع « لن » ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجاز ، لأنها مع « هل » قال الله تعالى :
{ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] ، قلت : يعني أبو حاتم
أنَّ المضارعَ يجوز توكيده بعد أداةِ الاستفهامِ ، وابن مصرف يقرأ « هل » بدل « لن
» ، وهي قراءة ابن مسعود .
وقد اعتُذِر عن هذه القراءة : فإنها حملت « لن » على « لم » و « لا » النافيتين ،
و « لم » و « لا » يجوزُ توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما . أمَّا « لا » فقد تقدم
تحقيق الكلام عليها في الأنفال ، وأمَّا « لم » فقد سُمع ذلك وأنشدوا :
2495 يَحْسَبُه الجاهل ما لم يَعْلما ... شيخاً على كرسيِّه مُعَمَّمَا
أراد « يَعْلَمَنْ » فأبدل الخفيفةَ ألفاً بعد فتحة كالتنوين .
وقرأ القاضي أيضاً وطلحة : « هل يُصَيِّبُنا » بتشديد الياء . قال الزمخشري : «
ووجههُ أن يكونَ يُفَيْعِل لا يُفَعِّل لأنه من بنات الواو لقولهم : الصواب ، وصاب
يصوب ، ومصاوب في جمع مصيبة ، فَحَقُّ يُفَعِّل منه يُصَوِّب . ألا ترى إلى قولهم
: صَوَّب رأيه ، إلا أَنْ يكونَ من لغة من يقول : صاب السهمُ يَصيب كقوله :
2496 أَسْهُمِيَ الصائِبات والصُّيُبْ ... يعني أنه أصله صَوْيِب فاجتمعت الواو
والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقُلبت الواو ياءً وأدغم فيها ، وهذا كما تقدم لك في
تحيَّز أن أصله تَحَيْوَز . وأما إذا أخذناه مِنْ لغةِ مَنْ يقول : صاب السهم
يَصيب فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة فَعَّل .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قوله
تعالى : { إِلاَّ إِحْدَى } : مفعول التربُّص ، فهو استثناء مفرغ . وقرأ ابن محيصن
« إلا احدى » بوصل ألف « احدى » إجراء لهمزة القطع مُجْرى همزة الوصل فهو كقول
الشاعر :
2497 إنْ لم أُقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعا ... وقول الآخر :
2498 يابا المغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُه بالمكر مِنِّي والدَّهَا
وقوله { أَن يُصِيبَكُمُ } مفعول التربُّص .
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قوله
تعالى : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } : مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين أو كارهين
. وقرأ الأخوان « كُرْهاً » بالضم وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء .
وقال الشيخ هنا : « قرأ الأعمش وابن وثاب » كُرْهاً « بضم الكاف » . وهذا يُوهم
أنها لم تُقْرأ في السبعة . قال الزمخشري « هو أمرٌ في معنى الخبر كقوله : {
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] ومعناه : لن يُتقبَّل منكم :
أنفقتم طَوْعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] . وقوله يعني كثيِّر عَزَّة :
2499 أسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلُومَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
أي : لن يغفر الله لهم استغفرت أو لم تستغفر ، ولا نلومك أحسنتِ إلينا أو أَسَأْتِ
، وفي معناه قول القائل :
2500 أخوك الذي إنْ قُمْتَ بالسيفِ عامداً ... لتضربَهُ لم يَسْتَغِشَّك في الودِّ
وقال ابن عطية : » هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ ، وهذا مستمر في كل أمرٍ معه جزاء
والتقدير : إن تنفقوا لن يُتقبَّل منكم ، وأما إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس
يصحبه تضمُّنُ الشرط « قال الشيخ : » ويَقْدح في هذا التخريجِ أنَّ الأمر إذا كان
فيه معنى الشرط كان الجواب لجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : « لن
يُتقبل » بالفاء لأنَّ « لن » لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضُمِّن
معناه ، ألا ترى جزمَه الجوابَ في نحو : اقصد زيداً يُحْسِنْ إليك « . قلت : إنما
أراد أبو محمد تفسير المعنى ، وإلا فلا يَجْهَلُ مثل هذه الواضحات . وأيضاً فلا
يلزمُ لأن يُعْطى الأمرُ التقديري حكمَ الشيء الظاهر من كل وجه .
وقوله : { إِنَّكُمْ } وما بعد جارٍ مَجْرى التعليل .
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
قوله
تعالى : { أَن تُقْبَلَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول ثانٍ ل « منع » :
إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر ، أي : من أن يُقْبل وإمَّا لوصول الفعل إليه
بنفسه ، لأنك تقول : منعتُ زيداً حَقَّه ومِنْ حقه . والثاني : أنه بدلٌ من « هم »
في مَنْعِهم ، قاله أبو البقاء كأنه يريد بدلَ الاشتمال . ولا حاجَة إليه .
وفي فاعل « منع » وجهان ، أحدهما وهو الظاهر أنه { إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } ،
أي : ما منعهم قبولَ نفقتهم إلا كفرُهم . والثاني : إنه ضمير الله تعالى ، أي :
وما منعهم الله ، ويكون « إلا أنهم » منصوباً على إسقاط حرف الجر ، أي : لأنهم
كفروا .
وقرأ الأخَوان : « أن يُقْبَلَ » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، وهما
واضحتان لأنَّ التأنيثَ مجازي ، وقرأ زيد بن علي كالأخوين ، إلا أنه أفرد النفقة .
وقرأ الأعرج : « تُقْبل » بالتاء من فوق ، « نفقتُهم » بالإِفراد . وقرأ السُّلمي
: « يَقبل » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى . وقرىء : « نَقْبل » بنون العظمة ، «
نفقتهم » بالإِفراد .
قوله : { إِلاَّ وَهُمْ كسالى } ، { إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } كلتا الجملتين
حالٌ من الفاعل قبلها .
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
قوله
تعالى : { الحياة الدنيا } : فيه وجهان أحدهما : أنه متعلق ب « تعجبك » ويكون قول
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا } جملةَ اعتراض والتقدير : فلا
تعجبك في الحياة . ويجوز أن يكونَ الجارُّ حالاً من أموالهم . وإلى هذا نحا ابن
عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة قالوا : في الكلام تقديمٌ وتأخير ، والمعنى
: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد ليعذبهم بها في الآخرة
. قال الشيخ : « إلا أنَّ تقييدَ الإِعجابِ المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن
أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فيبقى ذلك كأنه
زيادة تأكيد ، بخلاف التعذيب فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة ، ومع أن
التقديمَ والتأخيرَ يخصُّه أصحابنا بالضرورة » . قلت : كيف يُقال مع نَصِّ مَنْ
قَدَّمْتُ ذكرَهم : « أصحابنا يخصُّون ذلك بالضرورة » على أنه ليس من التقديم
والتأخير الذي يكون في الضرورة في شيءٍ إنما هو اعتراض ، والاعتراض لا يقال فيه
تقديم وتأخير بالاصطلاح الذي يُخَصُّ بالضرورة ، وتسميتهم أعني ابن عباس ومن معه
رضي الله عنهم إنما يريدون فيه الاعتراضَ المشارَ إليه لا ما يخصه أهل الصناعة
بالضرورة .
والثاني : أن « في الحياة » متعلقٌ بالتعذيب ، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ مصائبُ
الدنيا ورزاياها ، أو ما لزمهم من التكاليف الشاقة ، فإنهم لا يرجون عليها ثواباً
. قاله ابن زيد ، أو ما فُرِض عليهم من الزكوات قاله الحسن ، وعلى هذا فالضمير في
« بها » يعود على الأموال فقط ، وعلى الأول يعود على الأولاد والأموال .
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قوله
تعالى : { مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ } : المَلْجَأُ : الحِصْن . وقيل : المَهْرب
. وقيل : الحِرْز وهو مَفْعَل مِنْ لجأ إليه يلجأ ، أي : انحاز يقال : ألجأته إلى
كذا ، أي : اضطررته إليه فالتجأ . والملجأ يَصْلُح للمصدر والزمان والمكان ،
والظاهر منها هنا المكان . والمَغارات جمع مغارة وهي مَفْعَلة مِنْ غار يغور فهي
كالغار في المعنى . وقيل : المغارة : السِّرْب في الأرض كنفق اليربوع . والغار
النَّقْبُ في الجبل .
والجمهور على فتح ميم « مغارات » وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بالضم وهو مِنْ
أغار/ وأغار يكون لازماً ، تقول العرب : أغار بمعنى غار ، أي : دخل ، ويكون
متعدياً تقول : أَغَرْتُ زيداً ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون مِنْ أغار
المتعدي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكنُ يُغيرون فيها أنفسهم ، أي : يُغَيِّبونها
.
والمُدَّخل : مُفْتَعَلِ مِنَ الدخول وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل
مُدْتَخل فأدغمت الدال في تاء الافتعال كادَّان من الدَّين . وقرأ قتادة وعيسى بن
عمر والأعمش مُدَّخَّلاً بتشديد الدال والخاء معاً . وتوجيهُها أن الأصل :
مُتَدَخَّلاً مِنْ تَدخَّل بالتضعيف ، فلما أدغمت التاء في الدال صار اللفظ
مُدَّخَّلاً نحو مُدَّيَّن مِنْ تَدَيَّن . وقرأ الحسن أيضاً ومسلمة بن محارب وابن
أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير في رواية « مَدْخَلاً » بفتح الميم وسكون الدال
وفتح الخاء خفيفة مِنْ دخل . وقرأ الحسن في رواية محبوب كذلك إلا أنه ضَمَّ الميم
جعله مِنْ أدخل .
وهذا من أبرع العلم : ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان ، ثم ذكر
الغَيْران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وفي الجبال ، ثم الأماكن التي يُختفى
فيها في الأماكن السافلة وهي السُّروب وهي التي عبَّر عنها بالمُدَّخل .
وقال الزجاج : « يصح أن تكون المَغَارات مِنْ قولهم : حَبْل مُغار ، أي : مُحْكم
الفتل ، ثم يُستعار ذلك في الأمر المحكم المبرَم فيجيء التأويل على هذا : لو
يَجدون نصرة أو أموراً مسددة مرتبطة تعصِمهم منكم . وجعل المُدَّخَل أيضاً قوماً
يدخلون في جملتهم .
وقرأ أُبَيّ مُنْدَخَلاً بالنون بعد الميم مِنْ اندخل قال :
2501 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يدي في حَمِيتِ السَّمْنِ
تَنْدَخِلُ
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : » إنما هي بالتاء « . قلت وهو معذورٌ لأن
انفعل قاصر لا يتعدى فكيف بُني منه اسمُ مفعول؟
وقرأ الأشهب العقيلي : » لَوَاْلَوا « ، أي : بايعوا وأسرعوا ، وكذلك رواها ابن
أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة من الموالاة . وهذا
ممَّا جاء فيه فَعَّل وفاعَل بمعنى نحو : ضَعَّفْتُه وضاعَفْتُه . قال سعيد بن
مسلم أظنها » لَوَأَلُوا « بهمزة مفتوحة بعد الواو مِنْ وَأَلَ ، أي : التجأ ،
وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء :
والجُّموح : النُّفور بإسراع ومنه فرس جَموح إذا لم يَرُدَّه لِجام قال :
2502
جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها ... كمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُؤْقَدِ
وقال آخر :
2503 - إذا جَمَحَتْ نساؤكُمُ إليه ... أَشَظَّ كأنه مَسَدٌ مُغَارُ
وقال آخر :
2504 وقد جَمَحْتُ جِماحاً في دمائِهمُ ... حتى رأيتُ ذوي أحسابِهم جَهَزوا
وقرأ أنس بن مالك والأعمش « يَجْمِزُون » ، قال ابن عطية : « يُهَرْوِلُون في
مَشْيهِم » . قيل : يَجْمِزُون ويَجْمَحون ويشتدُّون بمعنى « . وفي الحديث : »
فلما أَذْلَقَتْه الحجارة جَمَزَ « ، وقال رؤبة :
2505 إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بين عَنَقي وجَمْزي
وهذا أصلُه في اللغة .
وقوله : { إِلَيْهِ } ، عاد الضميرُ إلى الملجأ أو على المُدَّخل؛ لأن العطف ب أو
» ، ويجوز أن يعودَ على « المَغَارات » لتأويلها بمذكر .
قوله : { مَّن يَلْمِزُكَ } قرأ العامة « يلمزك » بكسر الميم مِنْ لَمَزه يَلْمِزه
، أي : عابه ، وأصله الإِشارة بالعين ونحوها . قال الأزهري : « أصلُه الدفع ،
لَمَزْته : دفعته » ، وقال الليث : « هو الغَمْز في الوجه ومنه هُمَزَةٌ لُمَزَة ،
أي : كثيرُ هذين الفعلين .
وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء ورُويت عن أبي عمرو بضمها
وهما لغتان في المضارع . وقرأ الأعمش يُلْمِزُك مِنْ أَلْمز رباعياً . وروى حماد
بن سلمة : » يُلامِزُك « على المفاعلة من واحدٍ كسافرَ وعاقَب .
وقد تقدَّم الكلام على » إذا « الفجائيةِ مراراً والعامل فيها : قال أبو البقاء :
» يَسْخَطون « لأنه قال : إنها ظرفُ مكان ، وفيه نظر تقدَّم في نظيره .
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ } : الظاهر أن جواب « لو » محذوفٌ تقديره : لكان خيراً لهم . وقيل : جوابُها « وقالوا » ، والواوُ مزيدةٌ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . وقوله « سيُؤْتينا » إنَّا إلى الله راغبون « هاتان الجملتان كالشرح لقولهم : حسبُنا الله ، فلذلك يم يتعاطَفا لأنهما كالشيءِ الواحد ، فشدَّة الاتصال منعت العطف .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
قوله
تعالى : { فَرِيضَةً } : في نصبها وجهان أحدهما : أنها مصدر على المعنى ، لأن معنى
إنما الصدقات للفقراء في قوة : فرض الله ذلك . والثاني : أنها حالٌ من الفقراء ،
قاله الكرماني وأبو البقاء ، يَعنْيان/ من الضمير المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً
، أي : إنما الصدقاتُ كانت لهم حال كونها فريضةً ، أي : مفروضة . ويجوز أن تكون «
فريضة » حينئذ بمعنى مفعولة ، وإنما دخلت التاء لجريانها مجرى الأسماء كالنَّطيحة
. ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ عدل
عن اللام إلى » في « في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإِيذان بأنهم أرسخُ في استحقاق
التصدُّق عليهم مِمَّن سَبَق ذكرُه؛ لأن » في « للوعاء ، فنبَّه على أنهم أحقاءُ
بأن توضع فيهم الصدقات ويُجعلوا مَظِنَّةً لها ومَصَبَّاً » ، ثم قال : « وتكرير »
في « في قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضلُ ترجيحٍ لهذين على
الرقاب والغارمين » .
ونُقِل عن سيبويه أن « فريضة » منصوبٌ بفعلها مقدراً ، أي : فرض الله ذلك فريضة .
ونُقل عن الفراء أنها منصوبة على القطع .
وقرىء « فريضةٌ » بالرفع على : تلك فريضة .
والغُرْم أصله لُزوم شيءٍ شاق ومنه قيل للعشق غرام ، ويُعَبَّر به عن الهلاك في
قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] ، وغَرامَةُ
المال فيها مشقة عظيمة .
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
قوله
تعالى : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } : « أُذُن » خبر مبتدأ محذوف ، أي : قل هو
أُذُنُ خيرٍ . والجمهور على جرِّ « خيرٍ » بالإِضافة . وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن
علي وأبو بكر عن عاصم « أُذنٌ » بالتنوين ، « خيرٌ » بالرفع وفيها وجهان ، أحدهما
: أنها وصف ل « أُذُن » . والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر . و « خير » يجوز أن
تكون وصفاً من غير تفضيل ، أي : أُذُنُ ذو خيرٍ لكم ، ويجوز أن تكونَ للتفضيل على
بابها ، أي : أكثر خير لكم . وجوَّز صاحب « اللوامح » أن يكونَ « أذن » مبتدأ و «
خير » خبرها ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة لأنها موصوفةٌ تقديراً ، أي : أذنٌ لا
يؤاخذكم خير لكم مِنْ أُذُنٍ يؤاخذكم .
ويقال : رَجُلٌ أُذُنٌ ، أي : يسمع كل ما يقال . وفيه تأويلان أحدهما : أنه سُمِّي
بالجارحة لأنها آلة السماع ، وهي معظم ما يُقْصد منه كقولهم للربيئة : عين . وقيل
: المرادُ بالأذن هنا الجارحة ، وحينئذٍ تكونُ على حَذْف مضاف ، أي : ذو أذن .
والثاني : أن الأذن وصفٌ على فُعُل كأُنُف وشُلل ، يقال : أَذِن يَأْذَن فهو أُذُن
، قال :
2506 وقد صِرْتَ أُذْناً للوُشاة سَميعةً ... ينالُون مِنْ عِرْضي ولو شئتَ ما
نالوا
قوله : { وَرَحْمَةٌ } ، قرأ الجمهور : « ورحمة » ، رفعاً نسقاً على « أذن ورحمة »
، فيمن رفع « رحمة » . وقال بعضهم : هو عطف على « يؤمن »؛ لأن يؤمن « في محل رفع
صفة ل » أذن « تقديره : أذن مؤمنٌ ورحمةٌ . وقرأ حمزةُ والأعمش : » ورحمة « بالجر
نسقاً على » خير « المخفوض بإضافة » أذن « إليه . والجملة على هذه القراءة معترضةٌ
بين المتعاطفين تقديره : أذن خير ورحمة . وقرأ ابن أبي عبلة : » ورحمةً نصباً على
أنه مفعول من أجله ، والمعلل محذوف ، أي : يَأْذَنُ لكم رحمةً بكم ، فحذف لدلالة
قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } .
والباءُ واللام في « يؤمن بالله » « ويؤمن للمؤمنين » مُعَدِّيتان قد تقدَّم
الكلامُ عليهما في أول هذه الموضوع . وقال الزمخشري : « قصد التصديقَ بالله الذي
هو نقيض الكفر فعدى بالباء ، وقصد الاستماعَ للمؤمنين ، وأن يُسَلِّم لهم ما
يقولون فعدى باللام ، ألا ترى إلى قوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ
كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] . ما أنباه عن الباء ، ونحوه : { فَمَآ آمَنَ
لموسى } [ يونس : 83 ] { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] {
آمَنتُمْ لَهُ } [ الشعراء : 49 ] . وقال ابن قتيبة : » هما زائدتان ، والمعنى :
يصدِّق الله ويصدِّق المؤمنين « وهذا قولٌ مردودٌ ، ويدلُّ على عدم الزيادة تغايرُ
الحرف الزائد ، فلو لم يُقْصَدْ معنىً مستقلٌ لَمَا غاير بين الحرفين وقال المبرد
: » هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدر من الفعل كأنه قال : وإيمانه للمؤمنين « . وقيل : يقال
: آمنتُ لك بمعنى صَدَّقْتُكَ ، ومنه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } وعندي أن
هذه اللامَ في ضمنها » ما « فالمعنى : ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به . وقال
أبو البقاء : » واللام في للمؤمنين زائدةٌ دَخَلَتْ لتفرِّقَ بين « يؤمن » بمعنى
يُصَدِّق ، وبين يؤمن بمعنى يثبت الإِيمان « .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قوله
تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } : إنما أفرد الضمير في «
يُرْضوه » ، وإن كان الأصل في العطف بالواو المطابقةَ لوجوهٍ أحدُها : أنَّ رضا
الله ورسولِه شيء واحد : مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع [ الله ] ، { إِنَّ الذين
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، فلذلك جَعل
الضميرين ضميراً واحداً مَنْبَهة على ذلك . والثاني : أن الضميرَ عائد على المثنى
بلفظ الواحد بتأويل « المذكور » كقول رؤبة :
2507 فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجلد تَوْلِيْعُ البَهَقْ
أي : كأن ذاك المذكور . وقد تقدَّم لك بيان هذا في أوائل البقرة . الثالث : قال
المبرد : في الكلام تقديمٌ وتأخير تقديره : والله أحقُّ أن يُرْضوه ورسولُه . قلت
: وهذا على رأي مَنْ يدَّعي/ الحَذْفَ من الثاني . الرابع : وهو مذهب سيبويه أنه
حَذَفَ خبر الأول وأبقى خبر الثاني . وهو أحسن من عكسه وهو قولُ المبردِ ، لأن فيه
عدمَ الفصل بين المبتدأ أو خبره ، ولأن فيه أيضاً الإِخبار بالشيء عن الأقرب إليه
، وأيضاً فهو متعيَّنٌ في قول الشاعر :
2508 - نحن بما عندنا وأنت بما ... عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ
أي : نحن راضُون ، حَذَفَ « راضون » لدلالةِ خبر الثاني عليه . قال ابن عطية : «
مذهبُ سيبويهِ أنهما جملتان حُذِفَت الأولى لدلالةِ الثانيةِ عليها » . قال الشيخ
: « إن كان الضمير في » أنهما « عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين فكيف يقول »
حُذفت الأولى « والأُوْلى لم تُحْذَفْ ، إنما حُذِفَ خبرُها ، وإن كان عائداً على
الخبر وهو { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } فلا يكونُ جملةُ إلا باعتقاد أن يكون » أن
يُرْضُوه « مبتدأً وخبره » أحقُّ « مقدَّماً عليه ، ولا يتعيَّنُ هذا القولُ إذ
يجوزُ أن يكونَ الخبرُ مفرداً بأن يكونَ التقدير : أحقُّ بأَنْ تُرْضوه » . قلت :
إنما أراد أبو محمد التقديرَ الأول وهو المشهورُ عند المُعْربين ، يجعلون « أحق »
خبراً مقدماً ، و « أن يرضوه » مبتدأ مؤخراً [ أي ] : واللَّهُ ورسولُه إرضاؤُه
أحقُّ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا قريباً في قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ }
[ التوبة : 13 ] .
و { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } شرطٌ جوابُه محذوفٌ أو متقدم .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قوله
تعالى : { أَلَمْ يعلموا } : الجمهورُ : على « يَعْلموا » بياء الغيبة رَدَّاً على
المنافقين . وقرأ الحسن والأعرج : « تَعْلموا » بتاء الخطاب . فقيل : هو التفاتٌ
من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين . وقيل الخطابُ للنبي عليه
السلام ، وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً كقوله :
2509 وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقيل : الخطابُ للمؤمنين ، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام : فعلى
الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم
، وعلى الثالث يكون للتقرير .
والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ « أَنْ » مسدَّ مفعولَيْن عند
سيبويه ، ومسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش ، وأن يكونَ بمعنى العرفان
فتسدَّ « أنَّ » مسدَّ مفعول . و « مَنْ » شرطية و { فَأَنَّ لَهُ نَارَ } جوابُها
، وفتحت « أنَّ » بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ
خبرِ « أنَّ » الأولى .
وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري :
« ويجوز أن يكونَ » فأنَّ له « معطوفاً على » أنه « على أنَّ جوابَ » مَنْ «
محذوفٌ تقديره : ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ
له » . وقال الجرمي والمبرد : « أنَّ » الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير : فله
نارُ جهنم ، وكُرِّرت « أنَّ » توكيداً . وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى : {
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء } [ النحل : 119 ] ، ثم قال : {
إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } قال : « والفاءُ على هذا جوابُ الشرط » .
وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط
لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً أو مضارعاً مقروناً ب « لم » ، والجوابُ على
قولِه محذوفٌ ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ ب لم « ، وأيضاً فإنَّا نجدُ
الكلامَ تاماً بدون هذا الذي قدَّره » .
وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال : « الثانيةُ بدلٌ من الأولى » ، وهذا لا يَصِحُّ عن
سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع . وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين ، أحدهما : أنَّ الفاءَ
تمنعُ من ذلك ، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ . والثاني : أنَّ جَعْلَها بدلاً يوجب
سقوط جواب « مَنْ » مِن الكلام « . وقال ابن عطية : » وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ
الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى ، والأُْولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ
، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط ، وتلك الجملةُ هي الخبر . وأيضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ
البدلَ ، [ وأيضاً ] فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل « .
وقال بعضهم : » فيجب على تقدير اللام أي : فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلا بد من
إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره : فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم « .
وهذه
كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها ، فالأولى ما تقدم ما ذكره : وهو أن يكونَ {
فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ ، وينبغي
أن تقدِّرَه متقدماً عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي : فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم
. وقدَّره غيرُه متأخراً أي : فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ . كذا قدَّره الأخفش .
ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها ، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء ب «
أنَّ » المفتوحةِ من غير تقديمِ خبر ، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ
تقدُّمِ « أمَّا » نحو : « أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي » أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو :
« عندي/ أنَّك مُنْطَلق » . وقيل : فأنَّ له « خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ
أنَّ له . وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جواباً للشرط .
وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة والحسن وابن لأبي عبلة » فإنَّ « بالكسر وهي
قراءةٌ حسنةٌ قوية ، تقدَّم أنه قرأ [ بها ] بعضُ السبعة في الأنعام ، وتقدَّم
هناك توجيهُها .
والمُحَادَّة : المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة . قيل : مشتقةٌ
مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد . وقيل : من الحدّ الذي هو
الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم : شاقَّه أي : كان في شقٍ غيرِ شقِّ
صاحبه . وعاداه : أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته .
واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار ، ولم يُروَ قولُه :
2510 فَمَنْ يكُ سائلاً عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ
إلا بالكسرِ ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين . و » خالداً « نصبٌ على
الحال .
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قوله
تعالى : { أَن تُنَزَّلَ } : مفعولٌ به ناصبُه يحذر ، فإن « يَحْذَر » متعدٍّ
بنفسِه لقوله تعالى : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 30 ] لولا
أنه متعدٍّ في الأصل لواحدٍ لَما اكتسب التضعيف مفعولاً ثانياً ، ويدلُّ عليه
أيضاً ما أنشده سيبويه :
2511 حَذِرٌ أُموراً لا تَضيرُ وآمِنٌ ... ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ
وفي البيت كلامٌ ، قيل : إنه مصنوع ، وهو فاسد أتقنت حكايته في « شرح التسهيل »
وقال المبرد : « إنَّ » حَذِر لا يتعدى « قال : لأنه من هَيْئات النفسِ كفَزِع ،
وهذا غير لازم فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍ كخاف وخشِي فإنَّ » تُنَزَّل
« عند المبرد على إسقاط الخافض أي : مِنْ أَنْ تُنَزَّل . وقوله » تُنَبِّئهم « في
موضع الرفع صفةً ل » سورة « .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
قوله
تعالى : { أبالله } : متعلقٌ بقوله : « تستهزئون » و « تستهزئون » خبرُ كان . وفيه
دليلٌ على تقديم خبر كان عليها ، لأنَّ تقديمَ المعمول يُؤْذِن بتقديم العامل ،
وقد تقدم معمول الخبر على « كان » فَلْيَجُزْ تقديمُه بطريق الأولى . وفيه بحث :
وذلك أن ابنَ مالك قَدَح في هذا الدليلِ بقوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ
تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9-10 ] قال : « فاليتيم
والسائل قد تَقَدَّما على » لا « الناهية والعاملُ فيهما ما بعدها ، ولا يجوز
تقديم ما بعد » لا « الناهية عليها لكونه مجزوماً بها ، فقد تقدَّم المعمولُ حيث
لا يتقدَّم العامل . ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر ليس بقوله : {
أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] .
والاعتذار : التنصُّل مِنَ الذنب وأصله مِنْ تعذَّرت المنازل أي : دُرِسَت وامحى
أثرها ، قال ابن أحمر :
2512 قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ ... أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ
فالمعتذر يزاول محو ذنبه . وقيل : أصله من العَذْر وهو القطع ، ومنه العُذْرة
لأنها تُقْطع بالافتراع . قال ابن الأعرابي : » يقولون : اعتذرت [ المياه أي :
انقطعت ، وكأن المعتذر يحاول ] قطع الذمّ عنه .
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قوله
تعالى : { إِن نَّعْفُ } : قرأ عاصم « نَعْفُ » بنون العظمة ، « نُعَذِّب » كذلك
أيضاً ، « طائفةً » نصباً على المفعولية ، وهي قراءاتُ أَبي عبد الرحمن السلمي
وزيد بن علي . وقرأ الباقون « يُعفَ » في الموضعين بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول
ورفع « طائفةٌ » على قيامِها مَقام الفاعل . والقائمُ مقامَ الفاعل في الفعل
الأولِ الجارُّ بعده . وقرأ الجحدري : « إن يَعْفُ » بالياء من تحت فيهما مبنياً
للفاعل وهو ضميرُ الله تعالى ، ونصب « طائفة » على المفعول به ، وقرأ مجاهد «
تَعْفُ » بالتاء من فوق فيهما مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى ، ونصبِ « طائفةً
» على المفعول به . وقرأ مجاهد : « تُعفَ » بالتاء من فوق فيهما مبنياً للمفعول
ورفع « طائفة » لقيامها مَقامَ الفاعل .
وفي القائم مقامَ الفاعل في الفعل الأول وجهان أحدهما : أنه ضمير الذنوب أي : إن
تُعْفَ هذه الذنوب . والثاني : أنه الجارُّ ، وإنما أُنِّثَ الفعلُ حَمْلاً على
المعنى . قال الزمخشري : « الوجه التذكير ، لأنَّ المسنَد إليه الظرفُ ، كما تقول
: » سِيْرَ بالدابة « ولا تقول : سِيْرت بالدابة ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل :
إن تُرحَمْ طائفة ، فأنَّث لذلك وهو غريبٌ » .
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
قوله تعالى : { يَأْمُرُونَ } : هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مفسرةٌ لقوله { بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } وكذلك ما عُطِف على « يَأْمرون » .
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
قوله تعالى : { خَالِدِينَ } : حالٌ من المفعول الأول للوعد وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحالَ لم تقارِنْ الوعد ، وقوله : « هي حَسْبُهم » لا محلَّ لهذه الجملةِ الاستئنافية . وقوله : « هي حسبهم » لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية .
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
قوله
تعالى : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ } : فيه أوجه أحدها : هذه الكافَ/ في محلِّ رفعٍ
تقديرُه : إنهم كالذين فهي خبر مبتدأ محذوف . الثاني : أنها في محل نصب . قال
الزجاج : « المعنى : وعدكما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم ، فهو متعلقٌ ب » وَعَدَ « .
قال ابن عطية : » وهذا قَلِقٌ « . وقال أبو البقاء : » ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب
« يَسْتهزئون » . وفي هذا بُعْدٌ كبير .
وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ } تفسيرٌ لشبههم بهم وتمثيل لفعلهم . وجعل الفراءُ
محلَّها نصباً بإضمارِ فعلٍ قال : « التشبيهُ من جهة الفعل أي : فعلتم كما فعل
الذين من قبلكم » فتكون الكافُ في موضع نصب . وقال أبو البقاء : « الكاف في موضع
نصب نعتاً لمصدر محذوف ، وفي الكلام حذفُ مضافٍ تقديرُه » وعداً كوعد الذين « .
وذكر الزمخشري وجهَ الرفع المتقدمَ والوجهَ الذي قدَّمْتُه عن الفراء ، وشبَّهه
بقول النمر بن تولب :
2513 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كاليوم مَطْلوباً ولا طَلَبا
بإضمار : لم أر .
قوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي
: استمتاعاً كاستمتاع الذين .
قوله : كالذي خاضوا } الكافُ كالتي قبله . وفي » الذي « وجوهٌ أحدُها : أن المعنى
: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا ، فحُذفت النونُ تخفيفاً ، أو وقع المفردُ موقعَ
الجمع . وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة ، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ
إلى الموصول ، وعائدُ الموصول تقديرُه : خاضوه ، والأصلُ : خاضوا فيه؛ لأنه يتعدى
ب » في « فاتُّسع فيه ، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه ،
ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد
بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف ، وأن يتحدَ
المتعلَّق ، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم .
الثاني : أنَّ » الذي « صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي : وخضتم خوضاً كخوضِ الفوج
الذي خاضُوا ، أو الفريق الذي خاضوا . والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ .
الثالث : أنَّ » الذي « من صفةِ المصدرِ والتقدير : وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي
خاضوه . وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر . وهذا الوجهُ ينبغي أن
يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه .
الرابع : أن » الذي « تقعُ مصدريةً ، والتقدير : وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله :
2514 فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ ... في المُرْسلين ونَصْراً كالذي
نُصِروا
أي : كنَصْرهم . وقول الآخر :
2515 يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً ... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أي : ككونِه . وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس ، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين
لذلك . قال الزمخشري : » فإن قلتَ : أيُّ فائدة في قوله : { فاستمتعوا
بِخَلاقِهِمْ كَمَا } ، وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }
مُغْنٍ عنه كما أغنى « كالذي خاضوا » [ عن أن يقال : وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي
خاضُوا ] ؟ قلت : فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم
بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع ،
ويُهَجِّن أمرَ الراضي به ، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم .
وأمَّا
« وخُضْتُمْ كالذي خاضوا » فمعطوفٌ على ما قبله ، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده
إليه عن تلك المقدمة « يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ : وخاضوا فخضتم
كالذي خاضوا .
وفي قوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ
: وهو أن كانَ الأصلُ : فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم ، فأبرزهم
بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى : { لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان
كَانَ للرحمن عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] وكقوله قبل ذلك : { المنافقون والمنافقات
بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } ثم قال : { إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } [
التوبة : 67 ] . وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم
يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قوله
تعالى : { قَوْمِ نُوحٍ } : بدلٌ من الموصول قبلَه وهو ويَحْتمل أن يكونَ بدلَ كل
من كل إن كان المرادُ بالذين ما ذُكِر بعده خاصة ، وأن يكونَ بدلٌ بعضً مِنْ كل
إنْ أريد به أعمَّ من ذلك .
والمُؤْتَفكات أي : المُنْقَلبات يُقال : أَفَكْتُه فانتفك أي : قَلَبْته فانقلب ،
والمادةُ تدل على التحوُّل والتصرف ومنه { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ / أُفِكَ } [
الذاريات : 9 ] أي : يُصْرَف . والضمير في « أَتَتْهم » يجوز أن يعودَ على مَنْ
تقدَّم ، وخَصَّه بعضُهم بالمؤتفكات .
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
وقوله تعالى : { [ بَعْضُهُمْ ] أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } : وقال في المنافقين { مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] إذ لا ولايةَ بين المنافقين . وقوله « يَأْمُرون » كما تقدم في نظيره . والسينُ في « سيرحمهم الله » للاستقبال ، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة . وادعى الزمخشري أنها تفيد وجوبَ الرحمةِ وتوكيدَ الوعيد والوعيد نحو : سأنتقم منك .
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وقوله
تعالى : { خَالِدِينَ } : حالٌ مقدرة كما تقدم . والعَدْن : الإِقامة يُقال :
عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عَدْناً أي ثَبَتَ واستقرَّ ، ومنه المَعْدِن لمُسْتَقَرِّ
الجواهر ويُقال : عَدَن عُدُوناً فله مصدران ، هذا أصلُ هذه اللفظة لغةً ، وفي
التفسير ذكروا لها معانيَ كثيرةً . وقال الأعشى في معنى الإِقامة :
2516 وإن يَسْتضيفوا إلى حِلْمِهِ ... يُضافُوا إلى راجِحٍ قد عَدَنْ
أي : ثَبَتَ واستقرَّ ، ومنه « عَدَن » لمدينة باليمن لكثرة المقيمين بها .
قوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } ، التكثير يفيد التعليل ، أي : أقلُّ
شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم مِنَ الجنَّات ومساكنها .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
قوله تعالى : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } : قال أبو البقاء : « إن قيل : كيف حَسُنَتِ الواوُ هنا ، والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أجوبة . أحدُها : أن الوَاوَ واو الحال والتقدير : افعل ذلك في حال استحقاقِهم جهنم ، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم . والثاني : أن الواوَ جيْءَ بها تنبيهاً على إرادة فعلٍ محذوف تقديره : واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم . الثالث : أنَّ الكلامَ قد حُمل على المعنى ، والمعنى : أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلطة وعذابُ الآخرةَ بجَعْلِ جهنم مأواهم » ، ولا حاجةَ إلى هذا كلِّه ، بل هذه جملةٌ استئنافية .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
قوله
تعالى : { إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به ، أي :
وما كَرِهوا وعابُوا إلا إغناءَ الله إياهم ، وهو من بابِ قولِهم : ما لي عندك
ذنبٌ إلا أَنْ أَحْسَنْت إليك ، أي : إن كان ثَمَّ ذنبٌ فهو هذا ، فهو تهكمٌ بهم ،
كقوله :
2517 ولا عيبَ فينا غيرُ عِرْقٍ لمعشرٍ ... كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النمل
وقول الآخر :
2518 ما نقِموا من بني أميةَ إلا ... أنهمْ يَحْلُمون إنْ غَضِبوا
وأنهم سادةُ الملوكِ ولا ... يَصْلحُ إلا عليهم العَرَبُ
والثاني : أنه مفعولٌ من أجله ، وعلى هذا فالمفعول به محذوف تقديره : وما نقموا
منهم الإِيمان إلا لأجلِ إغناء الله إياهم . وقد تقدَّم الكلامُ على نَقِم .
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قوله
تعالى : { مَّنْ عَاهَدَ الله } : فيه معنى القسم فلذلك أُجيب بقوله : «
لنصَّدَّقَنَّ » ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالة هذا الجوابِ عليه ، وقد عَرَفْتَ
قاعدة ذلك . واللام للتوطئة . ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللام الموطئة له .
وقال أبو البقاء؛ « فيه وجهان أحدهما : تقديره فقال : لئن آتانا .
والثاني : أنْ يكونَ » عاهد « بمعنى » قال « فإنَّ العهد قول » . ولا حاجة إلى هذا
الذي ذكره .
قوله : { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ } قرأهما الجمهور بالنون الثقيلة ،
والأعمش بالخفيفة .
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
والجمهور قرؤوا « يَكذبون » مخففاً . وأبو رجاء مثقلاً .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
والجمهورُ على « يَعْلموا » بالياء من تحت . وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والسُّلَمي بالخطاب التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
قوله
تعالى : { الذين يَلْمِزُونَ } : فيه أوجه ، أحدهما : أنه مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ
، أي : هم الذين . الثاني : أنه في محل رفع بالابتداء و « من المؤمنين » حالٌ مِن
« المطَّوِّعين » ، و « في الصدقات » متعلق ب « يَلْمِزون » . و { وَالَّذِينَ لاَ
يَجِدُونَ } نسقٌ على « المطَّوِّعين » أي : يَعيبون المياسير والفقراء .
وقال مكي : « والذين » خفضٌ عطفاً على « المؤمنين » ، ولا يَحْسُن عَطْفُه على «
المطَّوِّعين » ، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد ، لأن « فيسخرون » عطف على « يَلْمِزُون
» هكذا ذكره النحاس في « الإِعراب » له ، وهو عندي وهمٌ منه « . قلت : الأمر فيه
كما ذكر فإن » المطَّوِّعين « قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره .
وقوله : { فَيَسْخَرُونَ } نسقٌ على الصلة ، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله : {
سَخِرَ الله مِنْهُمْ } ، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا . وقيل : { وَالَّذِينَ لاَ
يَجِدُونَ } نسقٌ على » الذين يَلْمزون « ، ذكره أبو البقاء . وهذا لا يجوزُ؛ لأنه
يلزمُ الإِخبارُ عنهم ، بقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } وهذا لا يكون إلا بأَنْ
كان الذين لا يَجِدون منافقين ، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟
وقيل : { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ على المؤمنين ، قاله أبو البقاء . وقال
الشيخ : » وهو بعيدٌ جداً « ، قلت : وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون
ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغايرة فكأنه قيل : يَلْمِزون
المطَّوِّعين من هذين الصنفين : المؤمنين والذين لا يجدون ، فيكون الذين لا يجدون
مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين .
وقال أبو البقاء : » في الصدقات « متعلق ب » يَلْمِزون « ، ولا يتعلق
بالمطَّوِّعين لئلا يُفْصَل بينهما بأجنبي » ، وهذا الردُّ فيه نظر ، إذ قولُه : «
من المؤمنين » حال ، والحال ليست/ بأجنبي ، وإنما يظهر في رَدِّ ذلك أن « يطَّوَّع
» إنما يتعدى بالباء لا ب « في » ، وكونُ « في » بمعنى الباء خلافُ الأصل .
وقيل : { فَيَسْحَرُونَ } خبرُ المبتدأ ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأ
من معنى الشرط ، وفي هذا الوجهِ بُعْدٌ من حيث إنه يَقْرُب من كونِ الخبر في معنى
المبتدأ ، فإنَّ مَنْ عاب إنساناً وغَمَزَه علم أنه يسخر منه فيكون كقولهم : « سيد
الجارية مالكها » .
الثالث : أن يكونَ محلُّه نصباً على الاشتغال بإضمار فعل يُفَسِّره { سَخِرَ الله
مِنْهُمْ } مِنْ طريقِ المعنى نحو : عاب الذين يَلْمِزون سخر الله منهم . الرابع :
أَنْ ينتصبَ على الشتم . الخامس : أن يكونَ مجروراً بدلاً من الضمير في « سِرَّهم
ونجواهم » .
وقرىء « يُلْمزون » بضم الميم ، وقد تقدَّم أنها لغة .
وقوله : { سَخِرَ الله } يُحْتمل أن يكونَ خبراً محضاً ، وأن يكون دعاءً . وقرأ
الجمهور « جُهدهم » بضم الجيم . وقرأ ابن هرمز وجماعة « جَهْدهم » بالفتح . فقيل :
لغتان بمعنى واحد . وقيل : المفتوحُ المشقَّة ، والمضمومُ الطاقةُ قاله القتبي .
وقيل : المضمومُ شيءٌ قليلٌ يُعاشُ به ، والمفتوحُ العملُ .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قوله
تعالى : { سَبْعِينَ مَرَّةً } : منصوبٌ على المصدر كقولك : « ضربتُه عشرين ضربةً
» فهو لعددِ مراته . وقوله : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ، قد
تقدَّم الكلامُ على هذا بُعَيْدَ قوله : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } [ التوبة : 53 ] وأنه نظيرُ قوله :
2519 أَسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلومةٌ ... لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ
تَقَلَّتِ
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
قوله
تعالى : { بِمَقْعَدِهِمْ } : متعلقٌ ب « فرح » ، وهو يصلح لمصدر قعد وزمانِه
ومكانِه ، والمرادُ به ههنا المصدرُ ، أي : بقعودهم وإقامتها بالمدينة .
قوله : { خِلاَفَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ
مدلولٍ عليه بقوله : « مَقْعدهم » ، لأنه في معنى تخلَّفوا ، أي : تخلفوا خلاف
رسول الله . الثاني : أنَّ « خلاف » مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه : إمَّا فرح ،
وإما مَقْعد ، أي : فَرِحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد
وتَخَلَّفوا هم عنه ، أو بقعودِهم لمخالفَتهم له ، وإليه ذهب الطبري والزجاج
ومؤرِّج ، ويؤيد ذلك قراءةُ منْ قرأ « خُلْف » بضم الخاءِ وسكون اللام ، والثالث :
أنْ ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله . يُقال : « أقام زيد خلاف القوم » ، أي
: تخلف بعد ذهابهم ، و « خلافَ » يكون ظرفاً قال :
2520 عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا
وقال الآخر :
2521 فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مضى ... تَهَيَّأْ لأخرى مِثلها وكأنْ قَدِ
وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة
وعمرو بن ميمون « خَلْفَ » بفتح الخاء وسكون اللام .
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
قوله
تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ } : « رجع » يتعدى ، كهذه الآية الكريمة ، ومصدرُه
الرَّجْع ، كقوله : { والسمآء ذَاتِ الرجع } [ الطارق : 11 ] ، ولا يتعدى نحو : {
وَإِلَيْنَا تُرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] ، في قراءة مَنْ بناه للفاعل ،
والمصدر الرجوع كالدخول .
قوله : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، قد تقدَّم ذلك . وقال أبو البقاء : « هي ظرفٌ » ،
قال الشيخ : « ويعني ظرفَ زمان وهو بعيد » . / لأن الظاهرَ أنها منصوبةٌ على
المصدر ، وفي التفسير : أولَ خَرْجَةٍ خَرَجَها رسول الله ، فالمعنى : أولَ مرة من
الخروج . قال الزمخشري : « فإن قلت » مرة « نكرة وُضِعَتْ موضع المرات من التفضيل
، فلِمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيلِ المضافُ إليها وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرات؟ قلت
: أكثر اللغتين : » هند أكبرُ النساء وهي أكبرُهن « ، ثم إنَّ قولَك : » هي كبرى
امرأة « ، لا تكاد تعثر عليه ، ولكن » هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة « .
قوله : { مَعَ الخالفين } هذا الظرفُ يجوز أن يكونَ متعلقاً ب » اقعدوا « ، ويجوز
أن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل » اقعدوا « . والخالِفُ : المتخلِّفُ بعد
القوم . وقيل : الخالف : الفاسد . » مَنْ خَلَفَ « ، أي : فَسَد ، ومنه » خُلوف فم
الصائم « ، والمراد بهم النساءُ والصبيانُ والرجالُ العاجزون ، فلذلك جاز جمعُه
للتغليب . وقال قتادة : » الخالِفُون : النساء « ، وهو مردودٌ لأجل الجمع . وقرأ
عكرمة ومالكُ بن دينار » مع الخَلِفين « مقصوراً مِنَ الخالِفين كقوله :
2523 مثل النَّقَا لَبَّده بَرْدُ الظِّلَلْ ... وقوله :
2524 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . عَرِدا ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . بَرِدا
يريد : الظلال وعارِداً بارداً .
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
قوله تعالى : { مِّنْهُم } : صفةٌ ل « أحد » ، وكذلك الجملة من قوله : « مات » . ويجوز أن يكون « منهم » حالاً من الضمير في « مات » ، أي : مات حال كونِه منهم ، مُتَّصفاً بصفةِ النفاق كقولهم : « أنت مني » ، يَعْني على طريقتي . و « أبداً » ظرف منصوب بالنهي .
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
قوله تعالى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ } : قيل : هذه تأكيد للآية السابقة . وقال الفارسي : « ليست للتأكيد لأن تِيْكَ في قوم ، وهذه في آخرين ، وقد تغاير لفظاً الاثنتين فههنا » ولا « بالواو لمناسبة عطفِ نهيٍ على نهيٍ قبلَه في قوله : » ولا تُصَلِّ ، ولا تَقُمْ ، ولا تُعْجبك « ، فناسب ذلك الواو ، وهناك بالفاءِ لمناسبةِ تعقيبِ قولِه : ولا يُنْفِقون إلا وهم كارهون » ، أي : للإِنفاقِ فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ فنهاه عن الإِعجاب بفاء التعقيبِ . وهنا « وأولادهم » دون « لا » لأنه نهيٌ عن الإِعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادةِ « لا » لأنه نهيٌ عن كل واحد واحد فَدَلَّ مجموعُ الاثنين على النهي بهما مجتمعَيْن ومنفردين . وهنا « أنْ يُعَذِّبهم » وهناك « ليُعَذِّبهم » ، فأتى باللام مُشْعرةً بالغلبة ، ومفعولُ الإِرادةِ محذوفٌ ، أي : إنما يريد الله اختبارَهم بالأموال والأولاد ، وأتى ب « أن » لأنَّ مَصَبَّ الإِرادة التعذيبُ ، أي : إنما يريد الله تعذيبَهم . فقد اختلف متعلَّقُ الإِرادة في الآيتين . هذا هو الظاهر وإن كان يُحتمل أن تكونَ اللامُ زائدة ، وأن تكونَ « أَنْ » على حذف لام علة . وهناك « في الحياة الدنيا » وهنا سقطت « الحياة » ، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدنيا ، وأنها لا تستحق أن تُسَمَّى حياة ، لا سيما وقد ذُكِرَت بعد ذِكر موتِ المنافقين فناسَبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة .
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
قوله
تعالى : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } : « إذا » لا تقتضي تكراراً بوضعها ، وإن
كان بعضُ الناس فَهِمَ ذلك منها ههنا ، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وأنشدْت عليه :
2525 إذا وجدْتُ أوارَ الحُبِّ في كَبِدي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وأنَّ هذا إنما يُفْهَمُ من القرائِن لا مِنْ وَضْع « إذا » له .
قوله : { أَنْ آمِنُواْ } ، فيه وجهان ، أحدهما : أنها تفسيريةٌ لأنه قد تقدَّمها
ما هو بمعنى القول لا حروفه . والثاني : أنها مصدريةٌ على حذف حرف الجر ، أي :
بأنْ آمنوا . وفي قوله : « اسْتَأْذَنَكَ »؛ التفاتٌ من غَيْبة إلى خطاب ، وذلك
أنه قد تقدَّم لفظُ « رسوله » فلو جاء على الأصل لقيل : استأذنه .
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
قوله
تعالى : { مَعَ الخوالف } : الخَوَالِفُ : جمع خالفة من صفة النساء ، وهذه صفةُ
ذَمّ كقول زهير :
2526 وما أَدْري وسوف إخالُ أَدْري ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
فإنْ تكنِ النساءُ مُخَبَّآتٍ ... فَحُقَّ لكل مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وقال آخر :
2527 كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ
وقال النحاس : « يجوز أن تكونَ » الخوالِف « من صفة الرجال ، بمعنى أنها جمع خالفة
. يقال : » رجل خالِفَة « ، أي : لا خير فيه ، فعلى هذا تكونُ جمعاً للذكور
باعتبار لفظهِ » . وقال بعضهم : إنه جمع خالف ، يقال : رجلٌ خالفٌ ، أي : لا خير
فيه ، / وهذا مردودٌ؛ فإن فواعل لا يكونُ جمعاً ل فاعل وَصْفاً لعاقل إلا ما شذَّ
من نحو : فوارس ونواكس وهوالك .
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
والخَيْرات
: جمع خَيْرة على فَعْلة بسكون العين وهو المستحسَنْ من كل شيء ، وغَلَبَ
استعمالُه في النساء ، ومنه قوله تعالى : { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } وقول الشاعر :
2528 ولقد طَعَنْتُ مَجامِع الرَّبَلاتِ ... رَبَلاتِ هندٍ خَيْرةٍ الملَكاتِ
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قوله
تعالى : { المعذرون } : قُرىء بوجوهٍ كثيرة ، فمنها قراءة الجمهور : فَتْحُ العين
وتشديدُ الذال . وهذه القراءة تحتمل وجهين : أن يكون وزنه فَعَّل مضعّفاً ، ومعنى
التضعيف فيه التكلف ، والمعنى : أنه تَوَهَّم أن له عُذْراً ، ولا عُذْرَ له .
والثاني : أن يكون وزنه افتعل والأصل : اعتذرَ فأُدْغمت التاءُ في الذال بأنْ
قُلبت تاءُ الافتعال ذالاً ، ونُقِلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو العين ، ويدلُّ
على هذا قراءةُ سعيد بن جبير « المعتذرون » على الأصل . وإليه ذهب الأخفش والفراء
وأبو عبيدة وأبو حاتم والزجاج .
وقرأ زيدٌ بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال وهي قراءةُ ابنِ عباس
أيضاً ويعقوب والكسائي « المُعْذِرون » بسكون العين وكسرِ الذال مخففةً مِنْ
أَعْذَر يُعْذِر كأكرم يكرم .
وقرأ مسلمة « المُعَّذَّرون » بتشديد العين والذال مِنْ تعذَّر بمعنى اعتذر . قال
أبو حاتم : « أراد المتعذرون ، والتاء لا تدغم في العين لبُعْد المخارج ، وهي غلطٌ
منه أو عليه » .
قوله : { لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } متعلقٌ ب « جاء » وحُذِفَ الفاعلُ وأُقيم الجارُّ
مُقَامه للعلمِ به ، أي : ليأذن لهم الرسول . وقرأ الجمهور « كَذَبوا » بالتخفيف ،
أي : كذبوا في إيمانهم . وقرأ الحسن في المشهور عنه وأُبَيٌّ وإسماعيل « كذَّبوا »
بالتشديد ، أي : لم يُصَدِّقُوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
وقرأ
أبو حيوة : « نصحوا اللَّهَ » بدون لام ، وقد تقدم أن « نَصَح » يتعدَّى بنفسِه
وباللام .
وقوله : { مِن سَبِيلٍ } فاعل بالجارِّ لاعتماده على النفي ، ويجوز أن يكونَ
مبتدأً والجارُّ قبلَه خبرُه ، وعلى كلا القولين ف « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، أي : ما
على المحسنين سبيل .
قال بعضُهم : وفي هذه الآيةِ نوعٌ من البديع يسمى التمليح وهو : أن يُشارَ إلى
قصةٍ مشهورة أو مثلٍ سائرٍ أو شعر نادر في فحوى كلامك من غير ذِكْره ، ومنه قوله :
2529 اليومَ خمرٌ ويبدو بعده خَبَرٌ ... والدهرُ مِنْ بين إنعامٍ وإبْآسِ
يشير لقول امرىء القيس لَمَّا بلغه قَتْلُ أبيه : « اليومَ خمرٌ وغداً أمره » ،
وقول الآخر :
2530 فواللَّهِ ما أدري أأحلامُ نائمٍ ... أَلَمَّت بنا أم كان في الركب يوشَعُ
يُشير إلى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس . وقول الآخر :
2531 لعَمْروٌ مع الرَّمْضاءِ والنارُ تَلْتَظِي ... أرقُّ وأحفى منكَ في ساعة
الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور :
2532 المستجيرُ بعمروٍ عند كُرْبته ... كالمستجير مِنَ الرَّمْضاءِ بالنار
وكأن هذا الكلامَ وهو « ما على المحسنين من سبيل » اشتهُر ما هو بمعناه بين الناس
، فأشار إليه مِنْ غير ذكر لفظه . ولمَّا ذكر الشيخ التمليح لم يُقَيِّده بقوله «
من غير ذكره » ولا بد منه ، لأنه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً .
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
قوله
تعالى : { وَلاَ عَلَى الذين } : فيه أوجه ، أحدها : أن يكون معطوفاً على «
الضعفاء » ، أي : ليس على الضعفاء ولا على الذين إذا ما أَتَوْك ، فيكونون داخلين
في خبر ليس ، مُخبراً بمتعلقهم عن اسمِها وهو « حَرَج » . الثاني : أن يكون
معطوفاً على « المحسنين » فيكونون داخلين فيما أَخْبر به عن قوله « من سبيل » ،
فإنَّ « مِنْ سبيل » يحتمل أن يكون مبتدأً ، وأن يكون اسمَ « ما » الحجازية ، و «
مِنْ » مزيدةٌ في الوجهين . الثالث : أن يكون { وَلاَ عَلَى الذين } خبراً لمبتدأ
محذوف تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخرِ الصلةِ حرجٌ أو سبيل ، وحُذِفَ
لدلالةِ الكلامِ عليه ، قاله أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه لأنه تقديرٌ مُسْتغنىً
عنه ، إذ قد قَدَّر شيئاً يقومُ مقامَه هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى . وهذا
الموصولُ يحتمل أن يكونَ مندرجاً في قوله { وَلاَ عَلَى / الذين لاَ يَجِدُونَ مَا
يُنفِقُونَ } وذُكِروا على سبيل نفي الحرج عنهم وأن لا يكونوا مندرجين ، بأن يكون
هؤلاء وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا مَرْكوباً .
وقرأ معقل بن هرون « لنَحْملهم » بنونِ العظمة . وفيها إشكالٌ ، إذ كان مقتضى
التركيبِ : قلت لا أجدُ ما يَحْملكم عليه الله .
قوله : « قلت » فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه جوابُ « إذا » الشرطية ، و « إذا
» ، وجوابُها في موضعِ الصلة ، وقعت الصلةُ جملةً شرطيةً ، وعلى هذا فيكون قوله «
تَوَلَّوا » جواباً لسؤالٍ مقدرٍ ، كأن قائلاً قال : « ما كان حالُهم إذا أُجيبوا
بهذا الجواب؟ فأُجيب بقوله » تولُّوا « . الثاني : أنه في موضع نصب على الحال من
كاف » أَتَوْك « ، أي : إذا أَتَوْك وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه ، و » قد
« مقدرة عند مَنْ يشترط ذلك في الماضي الواقع حالاً كقوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] في أحد أوجهه ، كما تقدم تحقيقه ، وإلى
هذا نحا الزمخشري . الثالث : أن يكونَ معطوفاً على الشرط ، فيكونَ في محلِّ جرٍ
بإضافة الظرف إليه بطريق النَّسَق ، وحُذِفَ حرفُ العطفِ ، والتقدير : وقلت : وقد
تقدم لك كلامٌ في هذه المسألةِ وما استشهد الناس به عليها . وإلى هذا ذهب
الجرجانيُّ ، وتبعه ابن عطية ، إلا أنه قدَّر العاطفَ فاءً ، أي : فقلت . الرابع :
أن يكونَ مستأنفاً . قال الزمخشري : » فإنْ قلت : هل يجوزُ أن يكونَ قولُه « قلت
لا أجدُ » استئنافاً مثله « يعني مثل { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف }
كأنه قيل : إذا ما أَتَوْك لتحملهم تَوَلَّوا ، فقيل : ما لهم تَوَلَّوا باكين [
فقيل ] قلت : لا أجد ما أحملكم عليه ، إلا أنه وسطٌ بين الشرطِ والجزاءِ كالاعتراض
.
قلت
: نعم ويَحْسُن « انتهى .
قال الشيخ : » ولا يجوزُ ولا يَحْسُن في كلام العرب فكيف في كلام الله؟ وهو فَهْمُ
أعجميٍّ « . قلت : وما أدري ما سَبَبُ منعه وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره
لفظاً ومعنى؟ وذلك لأن تولِّيَهم على حاله ، فيصير الدمع ليس مترتباً على مجردِ
مجيئهم له عليه السلام ليحملَهم ، بل على قوله لهم { لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ
} ، وإذا كان كذلك فقوله عليه السلام لهم ذلك سببٌ في بكائهم ، فَحَسُن أن
يُجْعَلَ قوله { قُلْتَ : لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ } جواباً لمَنْ سأل عن علِة
تَوَلِّيهم وأعينُهم فائضةٌ دمعاً ، وهو المعنى الذي قَصَدَه أبو القاسم . وعلى
هذه الأوجهِ الثلاثة التي قَدَّمتها في » قلت « يكون جوابه قوله » تولَّوا « ،
وقوله » لتحملَهم « علةٌ ل » أَتَوْك « . وقوله » لا أجد « هي المتعديةُ لواحدٍ
لأنها من الوُجْد . و » ما « يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً .
قوله : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل » تَوَلَّوا
« ، قال الزمخشري : » تفيضُ من الدمع « كقولك : تفيض دمعاً ، وقد تقدَّم هذا في
المائدة مستوفىً عند قوله : { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } [ التوبة :
83 ] وأنه جعل » من الدمع « تمييزاً ، و » مِنْ « مزيدةً ، وتقدَّم الردُّ عليه في
ذلك هناك فعليك بالالتفات إليه .
قوله : { حَزَناً } في نصبه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه مفعولٌ مِنْ أجله والعاملُ
في » تفيض « قاله الشيخ . لا يُقال إن الفاعلَ هنا قد اختلف ، فإن الفَيْضَ مسند
للأعين والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين ، وإذا اختلف الفاعل وَجَبَ جرُّه بالحرف لأنَّا
نقول : إن الحزنَ يُسْنَدُ للأعين أيضاً مجازاً يقال : عين حزينةٌ وسخينة ، وعين
مسرورةٌ وقريرة في ضدِّ ذلك . ويجوز أن يكونَ الناصب له » تَوَلَّوا « وحينئذٍ
يتحد فاعلا العلةِ والمعلول حقيقةً . الثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي :
تَوَلَّوا حزينين أو تفيض أعينُهم حزينةً على ما تقدَّم من المجاز . الثالث : أنه
مصدر ناصبُه مقدرٌ مِنْ لفظِه ، أي : يحزنون حزناً قاله أبو البقاء . وهذه/
الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال : إمَّا
من فاعل » تَوَلَّوا « وإمَّا من فاعل » تفيض « .
قوله : { أَلاَّ يَجِدُواْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ من أجله ، والعامل
فيه » حَزَناً « إنْ أعربناه مفعولاً له أو حالً ، وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا
، لأن المصدر لا يعمل إذا كان مؤكداً لعامِله ، وعلى القول بأنَّ » حَزَناً «
مفعول من أجله يكون » أن لا يَجِدوا « علةً العلة ، يعني أنه يكون عَلَّلَ فيْضَ
الدمع بالحزن ، وعَلَّل الحزن بعدم وُجْدان النفقة ، وهذا واضحٌ ، وقد تقدَّم لك
نظيرُ ذلك في قوله { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38
] . والثاني : أنه متعلق ب » تفيض « . قال الشيخ : » قال أبو البقاء : « ويجوز أن
يتعلَّق ب » تفيض « . ثم قال الشيخ : » ولا يجوز ذلك على إعرابه « حزناً » مفعولاً
له ، والعامل فيه « تفيض » ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف
أو البدل « .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
قولُه
تعالى : { رَضُواْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنفٌ كأنه قال قائل : ما
بالُهم استأذنوا في القعود وهم قادرون على الجهاد؟ فَأُجيب بقوله « رَضُوا بأن
يكونوا مع الخوالِفِ » . وإليه مال الزمخشري . والثاني : أنه في محل نصبٍ على
الحال و « قد » مقدرةٌ في قوله [ « رَضُوا » ] .
وقوله : { وَطُبَعَ } نسقٌ على « رضُوا » تنبيهاً على أن السببَ في تخلُّفهم رضاهم
بقعودهم وطَبْعُ الله على قلوبهم .
وقوله { إِنَّمَا السبيل على } فأتى ب « على » وإن كان قد يَصِل ب « إلى » لفَرْقٍ
ذكروه : وهو أنَّ « على » تدل على الاستعلاء وقلة مَنَعَة مَنْ تدخل عليه نحو : لي
سبيل عليك ، ولا سبيلَ لي عليك ، بخلافِ « إلى » . فإذا قلت : « لا سبيل عليك »
فهو مغايرٌ لقولِك : لا سبيلَ إليك . ومن مجيء « إلى » معه ، قوله :
2533 ألا ليت شِعْري هل إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ فأمَّا الصبرُ عنها فلا صبرا
وقوله :
2534 هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشربَها ... أم من سبيل إلى نَصْرِ بن حَجَّاجِ
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قوله
تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } : فيها وجهان ، أحدهما :
أنها المتعديةُ إلى مفعولين أولهما « ن » والثاني : قوله « مِنْ أخباركم » . وعلى
هذا ففي « مِنْ » وجهان ، أحدهما : أنها غيرُ زائدةٍ ، والتقدير : قد نَبَّأنا
اللَّهُ أخباراً مِنْ أخباركم ، أو جملةً من أخباركم ، فهو في الحقيقة صفةٌ
للمفعول المحذوف . والثاني : أن « مِنْ » مزيدةٌ عند الأخفش لأنه لا يَشْترط فيها
شيئاً . والتقدير : قد نبَّأنا الله أخباركم .
الوجه الثاني من الوجهين الأوَّلَيْن : أنها متعديةٌ لثلاثة ك أعلم ، فالأولُ
والثاني ما تقدَّم ، والثالث محذوف اختصاراً للعلم به والتقدير : نَبَّأنا الله
مِنْ أخباركم كَذِباً ونحوه . قال أبو البقاء : « قد تتعدَّى إلى ثلاثةٍ ،
والاثنان الآخران محذوفان ، تقديره : أخباراً مِنْ أخباركم مُثْبَتَة ، و » مِنْ
أخباركم « تنبيه على المحذوف وليست » مِنْ « زائدة ، إذ لو كانت زائدة لكانت
مفعولاً ثانياً ، والمفعول الثالث محذوفٌ ، وهو خطأ لأن المفعول الثاني متى ذُكِر
في هذا البابِ لَزِم ذِكْرُ الثالث . وقيل : » مِنْ « بمعنى عن » . قلت : قوله : «
إنَّ حذف الثالث خطأ » إنْ عنى حَذْفَ الاقتصارِ فمسَلَّم ، وإن عنى حَذْفَ
الاختصار فممنوعٌ ، وقد مَرَّ بك في هذه المسألة مذاهبُ الناس .
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
قوله تعالى : { جَزَاءً } : يجوز أن ينتصبَ على المصدر بفعل مِنْ لفظه مقدرٍ ، أي : يُجْزَوْنَ جزاء ، وأن ينتصب بمضمونِ الجملة السابقة لأنَّ كونَهم يَأْوُوُن في جهنم في معنى المجازاة . ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله .
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
قوله
تعالى : { الأعراب } : صيغة جمعٍ وليس جمعاً لعرب قاله سيبويه؛ وذلك لئلا يلزمَ أن
يكونَ الجمعُ أخصَّ من الواحد ، فإن العرب هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادي أم
سكن القرى ، وأما الأعرابُ فلا يُطْلق إلى على مَنْ يَسْكن البواديَ فقط . وقد
تقدَّم لك في أوائل هذا الموضوع عند قوله تعالى : { رَبِّ العالمين } [ الفاتحة :
1 ] ، ولهذا الفرقِ نُسِب إلى الأعراب على لفظه فقيل : أعرابيّ . ويُجْمع/ على
أعاريب .
وقوله : { وَأَجْدَرُ } ، أي : أحقُّ وأَوْلى ، يقال : هو جديرٌ وأجدر وحقيق وأحقّ
وقمين وأَوْلى وخليق بكذا ، كلُّه بمعنى واحد . قال الليث : « جَدَر يَجْدُر
جَدارةً فهو جديرٌ ، ويؤنَّث ويثنَّى ويُجمع قال الشاعر :
2535 بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جديرون يوماً أن يَنَالوا
وَيَسْتَعْلوا
وقد نبَّه الراغب على أصلِ اشتقاقِ هذه المادة وأنها من الجِدار أي الحائط ، فقال
: » والجديرُ : المنتهى لانتهاء الأمر إليه انتهاءَ الشيء إلى الجدار « والذي يظهر
أن اشتقاقَه مِنَ الجَدْر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجَدرْ في قولك » جدير
بكذا « .
قوله : { أَلاَّ يَعْلَمُواْ } ، أي : بأن لا يَعْلموا فحذف حرفَ الجر فجرى
الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي مع سيبويه والفراء .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
قوله
تعالى : { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } : « مَنْ » مبتدأ وهي : إمَّا
موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ . ومَغْرَماً مفعول ثانٍ لأنَّ « اتخذ » هنا بمعنى صَيَّر
. والمَغْرَمُ : الخُسْران ، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ ، ومنه {
إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل : أصلُه الملازمةُ
ومنه « الغَريمُ » للزومه مَنْ يطالبه .
قوله : { وَيَتَرَبَّصُ } عطفٌ على « يَتَّخِذ » فهو : إمَّا صلة وإمَّا صفة .
والتربُّصُ : الانتظار . والدوائر : جمعُ دائرة ، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ
مصيبة ونكبة ، تصوُّراً من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها . وأصلها
داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور ، أي : أحاط . ومعنى « تربُّص الدوائر » ، أي :
انتظار المصائب قال :
2536 تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي
دعاءٌ على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا « السُّوء » وكذا
الثانية في الفتح بالضم ، والباقون بالفتح . وأما الأولى في الفتح وهي « ظنَّ
السَّوْ » فاتفق على فتحها السبعة . فأما المفتوح ، فقيل : هو مصدر . قال الفراء :
« يقال : سُؤْتُه سُوْءاً ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية ، وبالضم الاسم » قال أبو
البقاء : « وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة » . قلت : يعني أنه في الأصل كالمفتوح
في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ . وقال مكي : « مَنْ فتح السينَ فمعناه
الفساد والرداءة ، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر » . وظاهر هذا
أنهما اسمان لِما ذكر ، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أُطْلِقا على ما ذكر .
وقال غيرُه : الضموم : العذاب والضرر ، والمفتوح : الذم ، ألا ترى أنه أْجُمع على
فتح { ظَنَّ السوء } [ الفتح : 6 ] وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [
مريم : 28 ] ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين .
وقال الزمخشري فأحسن : « المضموم : العذاب ، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة ، كقولك : »
رجلُ سَوْء « في نقيض » رجل عدل « ، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها » يعني أنها
من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً ، ثم
أُضِيْفَتْ لصفتِها كقولِه تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28
] . قال الشيخ : « وقد حُكي بالضم » وأنشد :
2537 وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم
وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما : أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة . وقال الفارسي : «
إنها يجوز أن تكون مصدراً كالعافية » .
وقوله : { بِكُمُ الدوائر } فيه وجهان ، أظهرهُما : أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها
. والثاني : أنها حالٌ من « الدوائر » قاله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ ، وعلى هذا
فيتعلَّقُ/ بمحذوف على ما تقرر غير مرة .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قوله
تعالى : { قُرُبَاتٍ } : مفعولٌ ثان ليتخذ كما مرَّ في « مَغْرَما » . ولم يختلف
قُرَّاء السبعة في ضم الراء من « قُرُبات » مع اختلافهم في راء « قربة » كما سيأتي
، فيحتمل أن تكون هذه جمعاً لقُرُبة بالضم كما هي قراءة ورش عن نافع ، ويحتمل أن
تكون جمعاً للساكنها ، وإنما ضُمَّت اتباعاً ل « غرفات » وقد تقدم التنبيه على هذه
القاعدة وشروطها عند قوله تعالى { فِي ظُلُمَاتٍ } [ الآية : 17 ] أولَ البقرة .
قوله : { عِندَ الله } في هذا الظرفِ ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه متعلقٌ ب «
يَتَّخذ » . والثاني : أنه ظرف ل « قربات » قاله أبو البقاء ، وليس بذاك . الثالث
: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل « قربات » .
قوله : { وَصَلَوَاتِ الرسول } فيه وجهان أظهرهما : أنه نسق على « قربات » وهو
ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال : « والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصور القربات عند
الله » وصلوات الرسول « لأنه كان يدعو للمتصدِّقين بالخير كقوله : » اللهم صل على
آل أبي أوفى « والثاني : وجَوَّزَه ابن عطية ولم يذكر أبو البقاء غيره أنها
منسوقةٌ على » ما ينفق « ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة وصلوات الرسول قربة .
قوله : { ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ } الضمير في » إنها « قيل : عائد على » صلوات «
وقيل : على النفقات أي المفهومة من » يُنفقون « .
وقرأ ورش » قُرُبَة « بضم الراء ، والباقون بسكونها فقيل : لغتان . وقيل : الأصل
السكون والضمة إتباع ، وهذا قد تقدم لك فيه خلاف بين أهل التصريف : هل يجوز تثقيل
فُعْل إلى فُعُل؟ وأن بعضَهم جعل عُسُراً يُسُراً بضم السين فَرْعين على سكونها .
وقيل : الأصل قُرُبة بالضم ، والسكون تخفيف ، وهذا أَجْرى على لغة العرب إذ مبناها
الهرب مِنَ الثِّقَل إلى الخفة .
وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرِها بحرفَيْ التنبيه والتحقيق المُؤْذنين بثبات
الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه ، قال معناه الزمخشري قال
: » وكذلك سيُدْخلهم ، وما في السين من تحقيق الوعد « .
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
قوله
تعالى : { والسابقون } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأ ، وفي خبره ثلاثة أوجه ،
أحدُهما وهو الظاهر أنه الجملة الدعائية من قوله : « رضي الله عنهم » . والثاني :
أن الخبر قوله : « الأوَّلون » والمعنى : والسابقون أي بالهجرة [ هم ] الأوَّلون
مِنْ أهل هذه المِلَّة ، أو السابقون إلى الجنة الأولون من أهل الهجرة . الثالث :
أن الخبرَ قولُه : { مِنَ المهاجرين والأنصار } والمعنى فيه الإِعلام بأن
السَّابقين من هذه/ الأمة من المهاجرين والأنصار ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفي
الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ .
الثاني من وجهي « السابقين » : أن يكون نَسَقاً على { مَن يُؤْمِنُ بالله } أي :
ومنهم السابقون . وفيه بُعْدٌ .
والجمهورُ على جَرِّ « الأنصار » نسقاً على المهاجرين . يعني أن السابقين من هذين
الجنسين . وقرأ جماعة كثيرة أَجِلاَّء : عمر بن الخطاب وقتادة والحسن وسلام وسعيد
بن أبي سعيد وعيسى الكوفي وطلحة ويعقوب : « والأنصارُ » برفعها . وفيه وجهان
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبرُه « رضيَ الله عنهم » . والثاني : عطف على « السابقون »
. وقد تقدم ما فيه فيُحكم عليه بحكمه .
قوله : { بِإِحْسَانٍ } متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل « اتَّبعوهم » . وكان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن الواوَ ساقطةٌ من قوله : « والذين اتبعوهم »
ويقول : إن الموصول صفةٌ لمن قبله ، حتى قال له زيد بن ثابت إنها بالواو فقال :
ائتوني بأُبَيّ . فأتَوه به فقال له : تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة : { وَآخَرِينَ
مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الآية : 3 ] ، وأوسط الحشر : { والذين
جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الآية : 10 ] ، وآخر الأنفال : { والذين آمَنُواْ مِن
بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } [ الآية : 75 ] . ورُوِي أنه سمع رجلاً يقرؤها بالواو فقال
: مَنْ أقرأك؟ قال : أُبَيّ . فدعاه فقال : أَقْرَأنيه رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم وإنك لتبيع القَرَظ بالبقيع . قال : صَدَقْتَ وإن شئت قل : شهدنا وغِبْتم ،
ونَصَرْنا وخَذَلْتم ، وآوَيْنا وطَرَدْتم . ومن ثَمَّ قال عمر : لقد كنتُ أرانا
رُفِعْنا رَفْعةً لا يَبْلُغها أحدٌ بعدنا .
وقرأ ابن كثير : { تجري من تحتها } ب « مِنْ » الجارة ، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكة
. والباقون « تحتها » بدونها ، ولم تُرْسَمْ في مصاحفهم ، وأكثرُ ما جاء القرآن
موافقاً لقراءة ابن كثير هنا : { تجري مِنْ تحتها } في غير موضع .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
قوله
تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } : خبر مقدم . و « منافقون » مبتدأ ، و « مَنْ »
يجوز أن تكون الموصولةَ والموصوفة ، والظرف صلة أو صفة .
وقوله : { مِّنَ الأعراب } لبيان الجنس . وقوله : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } يجوز
أن يكونَ نسقاً على « مَنْ » المجرورة ب « مِنْ » فيكونَ المجروران مشتركَيْن في
الإِخبارِ عن المبتدأ وهو « منافقون » ، كأنه قيل : المنافقون من قومٍ حولَكم
ومِنْ أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات إذ عَطَفَتْ خبراً على خبر ،
وعلى هذا فيكون قوله « مَرَدُوا » مستأنفاً لا محلَّ له . ويجوز أن يكون الكلامُ
تمَّ عند قوله « منافقون » ، ويكون قوله : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } خبراً مقدماً
، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مَقامه/ وحَذْفُ الموصوفِ وإقامةُ صفتِه
مُقامَه وهي جملة مطردُ مع « مِنْ » التبعيضية وقد مَرَّ تحريره نحو « منا ظَعَن
ومنا أقام » والتقدير : ومن أهلِ المدينة قومٌ أو ناسٌ مردوا ، وعلى هذا فهو من عطفِ
الجمل . ويجوز أن يكون « مَرَدُوا » على الوجه الأول صفةً ل « مافقون » ، وقد
فُصِل بينه وبين صفته بقوله : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } . والتقدير : وممَّن
حولَكم ومِنْ أهلِ المدينة منافقون ماردون . قال ذلك الزجاج ، وتبعه الزمخشري وأبو
البقاء أيضاً . واستبعده الشيخ للفصلِ بالمعطوف بين الصفة وموصوفها ، قال : «
فيصير نظيرَ : » في الدار زيدٌ وفي القصرِ العاقلُ « يعني فَفَصَلْتَ بين زيد
والعاقل بقولك : » وفي القصر « . وشبَّه الزمخشري حَذْفَ المبتدأ الموصوف في الوجه
الثاني وإقامة صفته مُقامَه بقولِه :
2538 أنا ابنُ جلا . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : » إن عنى في مطلق حذف الموصوف فَحَسَنٌ ، وإن كان شبَّهه به في
خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأن حَذْفِ الموصوف مع « مِنْ » مطردٌ ، وقوله : « أنا ابن
جلا » ضرورة كقوله :
2539 يَرْمِي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمَى البشَرْ ... قلت : البيتُ المشار إليه هو
قوله :
2540 أنا ابن جَلا وطَلاَّعُ الثَّنايا ... متى أَضَعِ العِمامةَ تعرفونِي
وللنحاةِ في هذا البيت تأويلات ، أحدها : ما تقدم . والآخر : أن هذه الجملة محكية
لأنها قد سُمِّي بها هذا الرجل ، فإنَّ « جلا » فيه ضمير فاعل ، ثم سُمِّيَ بها
وحُكِيَتْ كما قالوا : « شاب قَرْناها » و « ذرى حَبَّا » وقوله :
2541 نُبِّئْتُ أخوالي بني يزيدُ ... ظُلْماً علينا لهمُ فَدِيدُ
والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر أنه فعلٌ فارغ من الضمير ، وإنما لم يُنَوَّنْ
لأنه عنده غيرُ منصرفٍ فإنه يُمْنع بوزن الفعل المشترك ، فلو سُمِّي بضرب وقتل
مَنَعَهما . أمَّا مجردُ الوزنِ من غير نقلٍ مِنْ فعل فلا يُمنع به البتةَ نحو
جَمَل وجَبَل .
و
« مَرَدوا » أي : مَهَروا وتمرَّنوا . وقد تقدم الكلام على هذه المادة في النساء
عند قوله : { شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ الآية : 117 ] .
قوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفة ل « منافقون »
ويجوز أن تكونَ مستأنفةً ، والعلم هنا يحتمل أن يكونَ على بابه فيتعدَّى لاثنين أي
: لا نعلمهم منافقين ، فحذف الثاني للدلالة عليه بتقدُّم ذِكْرِ المنافقين ، ولأن
النافقَ من صفات القلب لا يُطَّلع عليه . وأن تكون العِرْفانية فتتعدَّى لواحد ،
قاله أبو البقاء . وأمَّا « نحن نعلمهم » فلا يجوز أن تكون إلا على بابها لبحثٍ
ذكرتُه لك في الأنفال ، وإن كان الفارسيُّ في « إيضاحه » صرَّح بإسناد المعرفة
إليه تعالى ، وهو محذورٌ لِما عرفته .
وقوله : { مَّرَّتَيْنِ } قد تقدَّم الكلام في نصب « مرة » وأنه من وجهين : إمَّا
المصدريةِ وإمَّا الظرفيةِ فكذلك هذا . وهذه التثنية يحتمل أن يكون المرادُ بها
شَفْعَ الواحد وعليه الأكثر ، واختلفوا في تفسيرهما ، وأن لا يراد بها التثنية
الحقيقية بل يُراد بها التكثيرُ كقوله تعالى : { فارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [
الملك : 4 ] أي : كَرَّاتٍ ، بدليل قوله : « ينقلبْ إليك البصرْ خاسئاً وهو حسير »
أي مزدجراً وهو كليلٌ ، ولا يصيبُه ذلك « إلا بعد كَرَّات ، ومثلُه . لَبَّيْك
وسَعْدَيْك وحنانَيْكَ .
وروى عباس عن أبي عمرو : » سنعذِّبْهم « بسكون الباء وهو على عادته في تخفيفِ
توالي الحركات كينصركم وبابه/ وإن كان باب » ينصركم « أحسنَ تسكيناً لكونِ الراءِ
حرفَ تكرار ، فكأنه توالي ضمَّتان بخلاف غيره . وقد تقدَّم تحريرُ هذا . وقال
الشيخ : » وفي مصحفِ أنس : « سيعذبهم » بالياء « . وقد تقدم أن المصاحف كانت
مهملةً من النَّقْط والضبط بالشكل فكيف يُقال هذا؟
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قوله
تعالى : { وَآخَرُونَ } : نسقٌ على « منافقون » أي : وممن حولكم آخرون ، أو ومن
أهلِ المدينة آخرون . ويجوز أن يكون مبتدأ و « اعترفوا » صفتَه ، والخبر قولُه «
خلطوا » .
قوله : { وَآخَرَ } نسقٌ على « عملاً » . قال الزمخشري : « فإن قلت : قد جُعِل
كلُّ واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت : كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به ،
لأن المعنى : خلط كل واحدٍ منهما بالآخر كقولك : » خَلَطْتُ الماء واللبن « تريد :
خَلَطْتُ كلَّ واحد منهما بصاحبه ، وفيه ما ليس في قولك : » خَلَطْتُ الماءَ باللبن
« لأنك جَعَلْتُ الماءَ مخلوطاً واللبن مخلوطاً به . وإذا قلته بالواو جَعَلْتَ
الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خَلَطْتُ الماء باللبن واللبن
بالماء » . ثم قال : « ويجوز أن يكونَ مِنْ قولهم : » بِعْتُ الشاء : شاةً ودرهماً
« بمعنى : شاة بدرهم » قلت : لا يريد أن الواو بمعنى الباء ، وإنما هذا تفسيرُ
معنى . وقال أبو البقاء : « ولو كان بالباء جاز أن تقول : خلطْتُ الحِنْطة والشعير
، وخلطت الحنطةَ بالشعير » .
قوله : { عسى الله } يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً ، ويجوز أن تكونَ في محل رفع
خبراً ل « آخرون » ، ويكون قولُه : « خلطوا » في محلِّ نصبٍ على الحال ، و « قد »
معه مقدرةٌ أي : قد خلطوا . فتلخَّص في « آخرون » أنه معطوفٌ على « منافقون » ، أو
مبتدأٌ مخبر عنه ب « خلطوا » أو الجملةِ الرجائية .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
قوله
تعالى : { مِنْ أَمْوَالِهِمْ } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب « خُذْ
» و « مِنْ » تبعيضية . والثاني : أن تتعلق بمحذوف لأنها حالٌ مِنْ « صدقة » إذ هي
في الأصل صفةٌ لها فلمَّا قُدِّمت نُصِبَتْ حالاً .
قوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ } يجوز أن تكونَ التاء في « تُطَهِّرهم »
خطاباً للنبي عليه السلام ، وأن تكون للغَيْبة ، والفاعل ضمير الصدقة . فعلى
الأولِ تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « خذ » . ويجوز أيضاً أن
تكونَ صفةً ل « صدقةً » ، ولا بد حينئذ من حذف عائد تقديره تطهِّرهم بها . وحُذِف
« بها » لدلالة ما بعده عليه . وعلى الثاني تكون الجملة صفةً لصدقة ليس إلا . وأما
« وتُزَكّيهم » فالتاءُ فيه للخطاب لا غير لقوله « بها » فإن الضميرَ يعود على الصدقة
فاستحالَ أن يعودَ الضمير مِنْ « تزكِّيهم » إلى الصدقة ، وعلى هذا فتكون الجملةُ
حالاً مِنْ فاعل « خُذْ » على قولنا إنَّ « تُطَهِّرهم » حال منها وإن التاء فيه
للخطاب . ويجوز أيضاً أن تكون صفة إن قلنا إن « تطهِّرهم » صفةٌ ، والعائدُ منها
محذوفٌ .
وجَوَّز مكي أن يكون « تُطَهِّرهم » صفةً لصدقة على أن التاء للغيبة ، و «
تُزَكِّيهم » حالاً من فاعل « خُذْ » على أن التاء للخطاب . وقد رَدُّوه عليه بأن
الواوَ عاطفةٌ أي : صدقةً مطهِّرةً ومُزَكَّيَاً باه ، ولو كان بغير واوٍ جاز .
قلت : ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ فإن الواوَ مُشَرِّكَةٌ لفظاً ومعنى ، فلو كانت «
وتزكيهم » عطفاً على « تُطَهِّرهم » لَلَزِمَ أن تكونَ صفةً كالمعطوف عليه ، إذ لا
يجوز اختلافُهما ، ولكن يجوزُ ذلك على أن « تزكِّيهم » خبر مبتدأ محذوف ، وتكون
الواوُ للحال تقديره : وأنت تزكِّيهم . وفيه ضعفٌ لقلةِ نظيرِه في كلامهم .
فتلخَّص من ذلك أن الجملتين يجوز أن تكونا حالَيْن من فاعل « خُذْ » على أن تكونَ
التاءُ للخطاب ، وأن تكونا صفتين لصدقة ، على أن التاء للغيبة ، والعائد محذوفٌ من
الأولى ، وأن تكون « تطهِّرهم » حالاً أو صفةً ، و « تزكِّيهم » حالاً على ما
جَوَّزه مكي ، وأن تكونَ « تزكِّيهم » خبرَ مبتدأ محذوف ، والواوُ للحال .
وقرأ الحسن : « تُطْهِرهم » مخفَّفاً مِنْ « أطهر » عَدَّاه بالهمزة .
قوله : { إِنَّ صلاوتك } قرأ الأخوان وحفص : « إنَّ صلاتَكَ » ، وفي هود : «
أصلاتك تأمُرك » بالتوحيد ، والباقون : « إنَّ صلواتك » « أصلواتُك » بالجمع فيهما
وهما واضحتان ، إلا أنَّ الصلاةَ هنا الدعاء وفي تِيْكَ العبادة .
والسَّكَنُ : الطمأنينة قال :
2542 يا جارةَ الحيِّ ألاَّ كنتِ لي سَكَناً ... إذ ليس بعضٌ من الجيران أَسْكَنني
ففَعَل بمعنى مفعول كالقَبْض بمعنى المقبوض والمعنى : يَسْكنون إليها . قال أبو
البقاء : « ولذلك لم يؤنِّثْه » لكن الظاهر أنه هنا بمعنى فاعل/ لقولِه « لهم » ،
ولو كان كما قال لكان التركيب « سكنٌ إليها » أي مَسْكون إليها ، فقد ظهر أن
المعنى : مُسَكِّنة لهم .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قوله
تعالى : { هُوَ يَقْبَلُ } : « هو » مبتدأ ، و « يَقْبَلُ » خبره والجملةُ خبر
أنَّ ، وأنَّ وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول . ولا يجوز
أن يكونَ « هو » فصلاً لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة ، وقد تحرَّر مِنْ ذلك
فيما تقدم .
وقرأ الحسن قال الشيخ : وفي مصحف أُبي « ألم تعلموا » بالخطاب . وفيه احتمالات ،
أحدها : أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصية التي اختصَّ بها
هؤلاء؟ و [ الثاني ] : أن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ ، والمرادُ التائبون .
و [ الثالث ] : أن يكون على إضمارِ قولٍ أي : قل لهم يا محمد ألم تعلموا .
قوله : { عَنْ عِبَادِهِ } متعلقٌ ب « يَقْبَل » ، وإنما تعدَّى ب « عن » فقيل :
لأنَّ معنى « مِنْ » ومعنى « عن » متقاربان . قال ابن عطية : « وكثيراً ما
يُتَوَصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه نحو » لا صدقةَ إلا عن غني ومِنْ غني « ، و »
فعل ذلك فلانٌ مِنْ أَشَره وبَطَره ، وعن أَشَره وبَطَره « . وقيل : لفظه » عن «
تُشعر ببُعْدٍ ما ، تقول : » جلس عن يمين الأمير « أي مع نوعٍ من البعد . والظاهرُ
أنَّ » عن « هنا للمجاوزة على بابها ، والمعنى : يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم ،
فإذا قلت : » أخذت العلم عن زيد « ، فمعناه المجاوزةُ ، وإذا قلت : منه فمعناه
ابتداء الغاية .
قوله : { هُوَ التواب } يجوز أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ بخلافِ ما قبلَه .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قوله
تعالى : { مُرْجَوْنَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «
مُرْجَؤُون » بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة . والباقون « مُرْجَوْن » دون تلك
الهمزة ، وهذا كقراءتهم في الأحزاب : « تُرْجِىء » بالهمزة ، والباقون بدونه .
وهما لغتان يقال : أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْتُه كأَعْطيته . ويحتمل أن يكونا أصلين
بنفسِهما ، وأن تكونَ الياءُ بدلاً من الهمزة ، ولأنه قد عُهِد تحقيقُها كثيراً كقَرَأْت
وقَرَيْتُ ، وتوضَّأْت وتوضَّيْت .
قوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل رفع خبراً ، و
« مُرْجَوْن » يكون على هذا نعتاً للمبتدأ ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن
يكونَ في محل نصبٍ على الحال أي : هم مُؤَخَّرون : إمَّا معذَّبين وإمَّا متوباً
عليهم . و « إمَّا » هنا للشك بالنسبة إلى المخاطب ، وإمَّا للإِبهام بالنسبة إلى
أنه أَبْهَمَ على المخاطبين .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
قوله
تعالى : { والذين اتخذوا } : قرأ نافع وابن عامر : « الذين اتخذوا » بغير واو ،
والباقون بواو العطف . فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم ، فإنَّ
مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم . و « الذين »
على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه ، أحدها : أنها بدلٌ مِنْ « آخرون »
قبلها . وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً ، لا يُقال في حَقِّهم
إنهم مُرْجَوْن لأمر الله ، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي
عامر الراهب .
الثاني : أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها : أنه « أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه
» والعائد محذوفٌ تقديره : بنيانَه منهم . الثاني : أنه « لا يزال بنيانُهم » قاله
النحاس والحوفي ، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل . الثالث : أنه « لا تقمْ فيه » قاله
الكسائي . قال ابن عطية : « ويتجه بإضمارٍ : إمَّا في أول الآية ، وإمَّا في آخرها
بتقدير : لا تقم في مسجدهم » . الرابع : أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه : معذَّبون
ونحوه ، قاله المهدوي .
الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص . وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو .
وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم ، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ « آخرون »
لأجل العاطف . وقال الزمخشري : « فإن قلت : » والذين اتخذوا « ما محلُّه من
الإِعراب؟ قلت : محلُّه النصب على الاختصاص ، كقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة }
[ النساء : 162 ] . وقيل : هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه : فيمَنْ وَصَفْنا الذين
اتخذوا ، كقوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] ، قلت : يريد على مذهب
سيبويه فإن تقديره : فيما يُتْلى عليكم السارق ، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه
الآية .
قوله : { ضِرَاراً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : / أنه مفعولٌ من أجله أي :
مُضَارَّةً لإِخوانهم . الثاني : أنه مفعولٌ ثان ل » اتَّخذ « قاله أبو البقاء .
الثالث : أنه مصدر في موضع الحال من فاعل » اتخذوا « أي : اتخذوه مضارِّين
لإِخوانهم ، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي : يَضُرُّون بذلك غيرهم ضِراراً ،
ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي : ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله .
قوله : { مِن قَبْلُ } فيه وجهان ، أحدهما وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره أنه
متعلقٌ بقوله : » اتخذوا « أي : اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء . والثاني
: أنه متعلقٌ ب » حارب « أي : حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد .
قوله : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } لَيَحْلِفُنَّ : جوابُ قسم مقدر أي :
والله ليحلِفُنَّ . وقوله : » إن أَرَدْنا « جوابٌ لقولِه : » ليحلِفُنَّ « فوقع
جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله : » إنْ أَرَدْنا « . » إنْ « نافية
ولذلك وقع بعدها » إلا « . و » الحسنى « صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي : إلا الخصلة
الحسنى أو إلا الإِرادةَ الحسنى . وقال الزمخشري : » ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد
إلا الخَصْلة الحسنى ، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة « . قال الشيخ : » كأنه في
قوله : « إلا الخصلة الحُسْنى » جعله مفعولاً ، وفي قوله : « أو لإِرادة الحسنى »
جعله علةً فكأنه ضَمَّن « أراد » معنى قَصَد أي : ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء
إلا لإِرادة الحسنى « قال : » وهذا وجهٌ متكلف « .
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
قوله
تعالى : { لَّمَسْجِدٌ } : فيه وجهان أحدهما : أنها لام الابتداء . والثاني : أنها
جوابُ قسمٍ محذوف ، وعلى التقديرين فيكون « لَمَسْجِدٌ » مبتدأ ، و « أُسِّس » في
محل رفع نعتاً له ، و « أحقُّ » خبره ، والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرُ المسجد على
حذف مضاف أي : أُسس بنيانه .
« مِنْ أولِ » متعلقٌ به ، وبه استدلَّ الكوفيون على أن « مِنْ » تكون لابتداء
الغاية في الزمان ، واستدلوا أيضاً بقوله :
2543 مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ لا ترى ... من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما
وقوله :
2544 تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ ... إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ
التجاربِ
وتأوَّله البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، ومن طلوع الصبح ، ومن
مجيء أزمان يوم . وقال أبو البقاء : « وهذا ضعيفٌ ، لأن التأسيس المقدر ليس بمكانٍ
حتى تكون » مِنْ « لابتداء غايته . ويدلُّ على جواز ذلك قوله : { لِلَّهِ الأمر
مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] ، وهو كثير في القرآن وغيره » ، قلت :
البصريون إنما فَرُّوا مِنْ كونِها لابتداء الغاية في الزمان ، وليس في هذه العبارة
ما يقتضي أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية في المكان حتى يُرَدَّ عليهم بما ذُكِر
، والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ ، ولأبي علي فيها كلام طويل . وقال ابن عطية : «
ويَحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون » مِنْ « تجرُّ لفظة » أول « لأنها
بمعنى البداءة كأنه قال : مِنْ مبتدأ الأيام ، وقد حُكي لي هذا الذي اخترته عن بعض
أئمة النحو » .
وقوله : { أَحَقُّ } ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق ، إذ لا مفاضلةَ بين المسجدَيْن ،
و « أن تقوم » أي : بأن تقوم ، والتاء لخطاب الرسول عليه السلام ، و « فيه »
متعلقٌ به .
قوله : { فِيهِ رِجَالٌ } يجوز أن يكونَ « فيه » صفةً لمسجد ، و « رجال » فاعل ،
وأن يكونَ حالاً من الهاء في « فيه » ، و « رجالٌ » فاعلٌ به أيضاً ، وهذان أولى
من حيث إن الوصف بالمفرد أصل ، والجارُّ قريبٌ من المفرد . ويجوز أن يكون « فيه »
خبراً مقدماً ، و « رجال » مبتدأ مؤخر . وفيه هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه ، أحدها
: الوصفُ ، والثاني : الحالُ على ما تقدم ، والثالث : الاستئنافُ .
وقرأ عبد الله بن زيد « فيهِ » بكسر الهاء ، و « فيهُ » الثانية بضمها وهو الأصل ،
جَمَعَ بذلك بين اللغتين ، وفيه أيضاً رفعُ توهُّمِ التوكيد ، ورفعُ توهُّمِ أن «
رجالاً » مرفوع ب « تقوم » .
وقوله : { يُحِبُّونَ } صفة ل « رجال » وأن [ يتطهروا ] مفعول به . وقرأ طلحة بن
مصرف والأعمش « يَطَّهَّرُوا » بالإِدغام ، وعلي بن أبي طالب « المتطهِّرين »
بالإِظهار ، عكس قراءات الجمهور في اللفظتين .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قوله
تعالى : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } : قرأ نافع وابن عامر : « أُسِّس »
مبنياً للمفعول ، « بنيانُه » / بالرفع لقيامه مقام الفاعل . والباقون « أَسَّس »
مبنياً للفاعل « بنيانه » مفعول به ، والفاعل ضمير مَنْ . وقرأه عمارة ابن عائذ
الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل ، و « بنيانُه » مرفوع على الأولى
ومنصوب على الثانية لِما تقدم . وقرأ نصر بن علي ونصر بن عاصم « أُسُسُ بنيانِه »
. وقرأ أبو حيوة والنصران أيضاً « أَساسُ بنيانِه » جمع أُسّ ، وروي عن نصر بن
عاصم أيضاً « أَسُّ » بهمزة مفتوحة وسين مشددة مضمومة . وقرىء « إساس » بالكسر وهي
جموع أضيفت إلى البنيان . وقرىء « أساس » بفتح الهمزة ، و « أُسّ » بضم الهمزة
وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان . ونقل صاحب كتاب « اللوامح » فيه «
أَسَسُ » بالتخفيف ورفع السين ، « بنيانِه » بالجر ، فَأَسَسٌ مصدر أسَّ يؤسُّه
أَسَسَاً وأسَّاً فهذه عشر قراءات .
والأُسُّ والأَساس القاعدة التي بُني عليها الشيء ، ويقال : « كان ذلك على أُسِّ
الدهر » كقولهم : « على وجه الدهر » ، ويقال : أَسَّ مضعَّفاً أي : جَعَلَ له
أساساً ، وآسَسَ بزنة فاعَل .
والبُنْيان فيه قولان ، أحدهما : أنه مصدر كالغفران والشكران ، وأُطْلِق على المفعول
كالخَلْق بمعنى المخلوق . والثاني : أنه جمعٌ وواحدُه بُنْيانة قال الشاعر :
2545 كبُنْيانةِ القاريِّ مَوْضِعُ رَحْلِها ... وآثارُ نَسْعَيْها مِنَ الدَّقِّ
أَبْلَقُ
يعنون أنه اسم جنس كقمح وقمحة .
قوله : { على تقوى } يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس « أَسَّس » فهو
مفعوله في المعنى . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالُ من الضميرِ
المستكنِّ في « أَسَّسَ » أي : قاصداً ببنيانه التقوى ، كذا قدَّره أبو البقاء .
وقرأ عيسى بن عمر « تقوىً » منونة . وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يَرْتَضِها
الناسُ لأنَّ ألفَها للتأنيث فلا وَجْهَ لتنوينها ، وقد خرَّجها الناسُ على أن
تكونَ ألفُها للإِلحاق ، قال ابن جني : « قياسُها أن تكونَ ألفُها للإلحاق كأَرْطى
» .
قوله : { خَيْرٌ } خبرُ المبتدأ . والتفضيل هنا باعتبار معتقدِهم . و « أم » متصلة
، و « من » الثانية عطف على « مِنْ » الأولى ، و « أَسَّس بنيانه » كالأول .
قوله : { على شَفَا جُرُفٍ } كقوله : « على تقوى » في وجهيه . والشَّفا تقدم في آل
عمران . وقرأ حمزة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم « جُرْفٍ » بسكون الراء والباقون
بضمها ، فقيل : لغتان . وقيل : الساكن فرعٌ على المضموم نحو : عُنْق في عُنُق
وطُنْب في طُنُب . وقيل بالعكس كعُسُر ويُسُر . والجُرُف : البِئْر التي لم تُطْوَ
.
وقيل
: هو الهُوَّةُ وما يَجْرُفُه السًّيْلُ من الأودية قاله أبو عبيدة . وقيل : هو
المكان الذي يأكله الماء فيَجْرُفه أي يَذْهب به . ورَجُلّ جِرَاف أي : كثير
النكاح كأنه يَجْرُفُ في ذلك العَمَلِ . قاله الراغب .
قوله : { هَارٍ } نعت لجُرُفٍ . وفيه ثلاثة أقوال ، أحدها : وهو المشهور أنه
مقلوبٌ بتقديمِ لامه على عينه ، وذلك أنَّ أصلَه : هاوِرٌ أو هايِرٌ بالواو والياء
لأنه سُمع فيه الحرفان . قالوا : هار يَهُور فانْهارَ ، وهار يَهير . وتَهَوَّر
البناء وتَهَيَّر ، فقُدِّمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء فصار
كغازٍ ورامٍ ، فأُعِلَّ بالنقص كإعلالهما فوزنه بعد القلب فالِع ، ثم تَزِنُه بعد
الحذف ب فالٍ .
الثاني : أنه حُذِفَتْ عينُه اعتباطاً أي لغير موجَبٍ ، وعلى هذا فيجري بوجوه
الإِعراب على لامه ، فيُقال : هذا هارٌ ورأيت هاراً ومررت بهارٍ ، ووزنُه أيضاً
فال .
والثالث : أنه لا قلبَ فيه ولا حذف وأنَّ أصله هَوِر أو هَيِر بزنة كَتِف ، فتحرك
حرف العلة وانفتح ما قبله فقُلِب ألفاً فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ ، أي : صَوِف
أو يومٌ راحٌ ، أي : رَوِح . وعلى هذا فتحرَّك بوجوه الإِعراب أيضاً كالذي قبله
كما تقول : هذا باب ورأيت باباً ومررت ببابٍ . وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من
ادِّعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل ، لولا أنه غير مشهور عند أهل
التصريف . ومعنى « هار » ، أي : ساقط متداعٍ مُنْهار .
قوله : { فانهار } فاعلُه : إمَّا ضميرُ البنيان والهاء في به على هذا ضمير المؤسس
الباني ، أي : فسقط بنيان الباني على شفا جُرُفٍ هار وإما ضمير الجُرُف ، أي فسقط
الشَّفا أو سَقَطَ الجُرُف . والهاء في « به » للبنيان . ويجوز أن / يكون للباني
المؤسس ، والأَوْلى أن يكون الفاعلُ ضميرَ الجرف ، لأنه يلزم مِنْ انهيارِه
الشَّفَا والبنيان جميعاً ، ولا يلزم من انهيارِهما أو انهيارِ أحدهما انهيارُه .
والباء في « به » يجوز أن تكونَ المعدِّيةَ ، وأن تكونَ التي للمصاحبة . وقد
تقدَّم لك خلافٌ أولَ هذا الموضوع : أن المعدِّيَةَ عند بعضهم تَسْتلزم المصاحبةَ
. وإذا قيل إنها للمصاحبة هنا فتتعلقُ بمحذوفٍ لأنها حال ، أي : فانهار مصاحباً له
.
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
وقوله
تعالى : { بُنْيَانُهُمُ } : يحتمل أن يكونَ مصدراً على حاله ، أي : لا يزال هذا
الفعل الصادر منهم . ويحتمل أن يكونَ مراداً به المبني ، وحينئذٍ يُضْطَرُّ إلى
حذف مضاف ، أي : بناء بنيانهم لأن المبنيَّ ليس ريبةً ، و يُقَدَّر الحذف من
الثاني ، أي : لا يزال مبنيُّهم سببَ ريبة . وقوله : « الذي بَنَوا » تأكيدٌ
دَفْعاً لوَهْم مَنْ يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة وإنما دَبَّروا أموراً ، مِنْ
قولهم : « كم أبني وتهدمُ » ، وعليه قوله :
2546 متى يبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه ... إذا كنت تَبْنِيه وغيرك يَهْدِم
قوله : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } المستثنى منه محذوفٌ والتقدير : لا يزال بنيانُهم
ريبةً في كل وقت إلا وقتَ تقطيعِ قلوبهم ، أو في كل حال إلا حالَ تقطيعها . وقرأ
ابن عامر وحمزة وحفص « تَقَطَّع » بفتح التاء ، والأصل : تتقطع بتاءَيْن فحُذفت
إحداهما . وقرأ الباقون « تُقَطَّع » بضمِّها ، وهو مبني للمفعول مضارع قَطَّع
بالتشديد . وقرأ أُبَيّ « تَقْطَع » مخففاً مِنْ قطع . وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة
ويعقوب « إلى أن » بإلى الجارة وأبو حَيْوة كذلك . وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى ،
إلا أن أبا حيوة قرأ « تُقَطِّع » بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً ،
والفاعلُ ضميرُ الرسول . « قلوبَهم » نصباً على المفعول ، والمعنى بذلك أن يقتلهم
ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن . وقيل : الفاعلُ ضمير الرِّيبة ، أي : إلى أن تَقْطَع
الرِّيبةُ قلوبَهم . وفي مصحف عبد الله « ولو قُطِّعَتْ » وبها قرأ أصحابُه ، وهي
مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
قوله
تعالى : { بِأَنَّ لَهُمُ } : متعلقٌ ب « اشترى » ، ودخلت الباءُ هنا على المتروك
على بابها ، وسَمَّاها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض . وقرأ عمر بن
الخطاب « بالجنة » .
قوله : « يُقاتِلُون » يجوز أن يكونَ مستأنفاً ، ويجوز أن يكونَ حالاً . وقال
الزمخشري : « يقاتلون » فيه معنى الأمر ، كقوله تعالى : { وَتُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . قلت : وعلى هذا
فيتعيَّنُ الاستئناف ، لأن الطلب لا يقع حالاً . وقد تقدَّم الخلاف في « فيَقتلون
ويُقتلون » في آل عمران .
قوله : { وَعْداً } منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة لأنَّ معنى « اشترى »
معنى وعدهم بذلك فهو نظير « هذا ابني حقاً » . ويجوز أن يكونَ مصدراً في موضع
الحال ، وفيه ضعف . و « حقاً » نعت له ، و « عليه » حالٌ مِنْ « حقاً » لأنه في
الأصل صفةٌ لو تأخَّرَ .
قوله : { فِي التوراة } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب « اشترى » وعلى هذا
فتكونُ كل أمة قد أُمِرت بالجهاد ووُعِدت عليه الجنة . والثاني : أنه متعلقٌ
بمحذوف لأنه صفةٌ للوعد ، أي : وعداً مذكوراً وكائناً في التوراة ، وعلى هذا فيكون
الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكوراً في كتب الله المُنَزَّلَة . وقال الزمخشري في
أثناءِ كلامه : « لا يجوز عليه قبيحٌ قط » ، قال الشيخ : « استعمل » قط « في غير
موضوعه؛ لأنه أتى به مع قوله : » لا يجوز عليه « و » قط « ظرفٌ ماضٍ؛ فلا يعمل فيه
إلا الماضي » ، قلت : ليس المراد هنا زمناً بعينه .
وقوله : { فاستبشروا } فيه التفاتٌ من الغَيْبَة إلى الخطاب لأنَّ في خطابهم بذلك
تشريفاً لهم ، واستفعل هنا ليس للطلب ، بل بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد . وقوله : {
الذي بَايَعْتُمْ بِهِ } توكيدٌ كقوله : { الذي بَنَوْاْ } [ التوبة : 110 ]
لينصَّ لهم على هذا البيعِ بعينه .
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
قوله
تعالى : { التائبون } : فيه خمسةُ أوجه ، أحدها : أنهم مبتدأٌ ، وخبره « العابدون
» ، وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة عند مَنْ يرى ذلك . الثاني : أنَّ الخبر قوله
: « الآمرون » . الثالث : أنَّ الخبر محذوف ، أي : التائبون الموصوفون بهذه
الأوصاف من أهل الجنة ، ويؤيده قولُه : « وبَشِّر المؤمنين » ، وهذا عند مَنْ يرى
أن هذه الآية منقطعةٌ مما قبلها ، وليست شرطاً في المجاهدة ، وأمَّا مَنْ زعم أنها
شرط في المجاهدة كالضحاك وغيره فيكون إعراب التائبين خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم
التائبون ، وهذا من باب قطع النعوت ، وذلك أن هذه الأوصافَ عند هؤلاء القائلين من
صفات المؤمنين في قوله تعالى : { « اشترى ] مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } [ التوبة
: 111 ] / ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ وابن مسعود والأعمش » التائبين « بالياء . ويجوز
أن تكونَ هذه القراءةُ على القطع أيضاً ، فيكونَ منصوباً بفعل مقدر . وقد صَرَّح
الزمخشري وابن عطية بأن التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ . الخامس : أن » التائبون «
بدل من الضمير المتصل في » يقاتلون « .
ولم يذكر لهذه الأوصافِ متعلَّقاً ، فلم يَقُلْ : التائبون مِنْ كذا ، ولا
العابدون لله لفَهْمِ ذلك إلا صيغتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك ، ولم يأتِ
بعاطفٍ بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضِها إلا في صيغتي الأمر والنهي لتبايُن ما
بينهما ، فإن الأمرَ طلبُ فعل والنهيَ طلبُ تَرْكٍ أو كفٍّ ، وكذا » الحافظون «
عَطفَه وذَكَر متعلَّقه . وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نَظْمٍ
وهو ظاهر بالتأمُّل ، فإنه قَدَّم التوبةَ أولاً ثم ثَنَّى بالعبادة إلى آخره .
وقيل : إنما دخلت الواوُ لأنها واوُ الثمانية ، كقوله : { وَثَامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] . وقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 71
] لَمَّا كان للجنة ثمانية أبواب أتى معها بالواو . وقال أبو البقاء : » إنما دخلت
الواو في الصفة الثامنة إيذاناً بأن السبعة عندهم عددٌ تام ، ولذلك قالوا : « سبع في
ثمانية » ، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبار ، وإنما دَلّت الواوُ على ذلك لأن الواو
تُؤْذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها ، ولذلك دَخَلَت في باب عطفِ النَّسق « ، قلت
: وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً لا تحقيقَ له .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
وقوله تعالى : { وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } : كقوله : « أَعْطوا السائلَ ولو على فرس » ، وقد تقدَّم ما في ذلك ، وأنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قوله
تعالى : { وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } : اختُلِف في الضمير المرفوع والمنصوبِ المنفصل
فقيل : وهو الظاهر إن المرفوع يعود على إبراهيم ، والمنصوبَ على أبيه ، يعني أن
إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفرَ له . ويؤيد هذا قراءةُ الحسن وحماد الرواية وابن
السَّميفع وأبي نهيك ومعاذ القارىء « وعدها أباه » ، بالباء الموحدة . وقيل :
المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب لإِبراهيم ، وفي التفسير أنه كان وَعَدَ إبراهيمَ
أنه يؤمن ، فبذلك طَمِع في إيمانه .
والأَوَّاه . الكثير التأَوُّه ، وهو مَنْ يقول : أَوَّاه ، وقيل : مَنْ يقول
أوَّه ، وهو أَنْسَبُ لأن أَوَّهَ بمعنى أتوجع ، فالأَوَّاه فعَّال ، مثالُ مبالغة
من ذلك ، وقياسُ فعلِه أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة إنما تَطَّرد في
الثلاثي . وقد حكى قطرب فعله ثلاثياً فقال : يقال آهَ يَؤُوه كقام يقوم ، أَوْهاً
. وأنكر النحويون هذا القول على قطرب ، وقالوا : لا يُقال مِنْ أَوَّه بمعنى الوَجَع
فعلٌ ثلاثي ، إنما يقال : أوَّه تأَوْيهاً ، وتَأَوَّه تَأَوُّهاً . قال الراجز :
2547 فأَوَّه الراعي وضوضى أَكْلبُه ... وقال المثقب العبدي :
2548 إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بليلٍ ... تأوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
وقال الزمخشري : « أَوَّاه فَعَّال مِنْ أَوَّه ك لأَل من اللؤلؤ ، وهو الذي يُكثر
التأوُّه » ، قال الشيخ : « وتشبيهه أوَّاه مِنْ أوَّه ك لأَّل من اللؤلؤ ليس
بجيدٍ ، لأنَّ مادةَ أوَّه موجودة في صورة أواه ، ومادة » لؤلؤ « مفقودةٌ في لأل
لاختلاف التركيب إذ » لأل « ثلاثي ، و » لؤلؤ « راعي ، وشرط الاشتقاق التوافق في
الحروف الأصلية » . قلت : لاَّل ولؤلؤ كلاهما من الرباعي المكرر ، أي : إن الأصل
لام وهمزة ، ثم كرَّرْنا ، غاية ما في الباب أنه اجتمع الهمزتان في لآَّل فأُدْغمت
أولاها في الأخرى ، وفُرِّق بينهما في : « لؤلؤ » .
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
قوله
تعالى : { اتبعوه } : يجوز فيه وجهان أحدهما : أنه اتِّباعٌ حقيقي ، ويكون عليه
السلام خَرَج أولاً وتبعه أصحابه ، وأن يكون مجازاً ، أي : اتبعوا أمرَه ونَهْيَه
، وساعةُ العُسْرة عبارةٌ عن وقتِ الخروج إلى الغزو ، وليس المرادُ حقيقةَ الساعة
بل كقولهم : يوم الكُلاب ، وعشيةَ قارعْنَا جُذام ، فاستعيرت السَّاعة لذلك كما استعير
الغداة والعشية في قوله :
2549 - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بكرُ بنُ وائلٍ ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
[ وقوله ] :
2550 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عشية قارَعْنا جُذَام وحميرا
[ وقوله ] :
2551 إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
قوله : { كَادَ يَزِيغُ } ، قرأ حمزة وحفص عن عاصم « يزيغ » بالياء من تحت ،
والباقون بالتاء من فوق . فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكونَ اسمُ « كاد » ضميرَ
الشأن ، و « قلوب » مرفوعٌ بيزيغ ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، وأن يكونَ
اسمُها ضميرَ القوم ، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذِكْرُ المهاجرين والأنصار ، ولذلك
قَدَّره أبو البقاء وابنُ عطية : « من بعد كاد القوم » ، وقال الشيخ في هذه
القراءةِ : « فيتعيَّن أن يكون في » كاد « ضميرُ الشأن وارتفاعُ » قلوب « بيزيغ
لامتناعِ أن يكون » قلوب « اسمَ كاد ، و » يزيغ « في موضع الخبر ، لأنَّ النيةَ به
التأخير ، / ولا يجوز : مِنْ بعد كاد قلوب يزيغ بالياء » . قلت : لا يتعين ما ذكر
في هذه القراءة لِما تقدَّم لك من أنه يجوز أن يكونَ اسمُ كاد ضميراً عائداً على
الجمع أو القوم ، والجملةُ الفعلية خبرها ، ولا محذور يمنع من ذلك . وقوله : «
لامتناع أن يكون » قلوب « اسم كاد » ، يعني أنَّا لو جَعَلْنا « قلوب » اسمَ « كاد
» لَزِم أن يكون « يزيغ » خبراً مقدماً فيلزم أن يرفعَ ضميراً عائداً على « قلوب »
، ولو كان كذلك لَلَزِم تأنيثُ الفعل لأنه حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأن
جمعَ التكسير يجري مجرى المؤنثة مجازاً .
وأمَّا قراءة التاء من فوق فتحتمل أن يكون في « كاد » ، ضميرُ الشأن ، كما تقدم ،
و « قلوب » مرفوعٌ بتزيغ ، وأُنِّث لتأنيث الجمع ، وأن يكون « قلوب » اسمَها ، و «
تزيغ » خبر مقدم ولا محذورَ في ذلك ، لأن الفعلَ قد أُنِّث . قال الشيخ : « وعلى
كلِّ واحدٍ من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علمِ النحو مِنْ أنَّ
خبرَ أفعالِ المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها ، فبعضهم أطلق وبعضهم
قيَّد بغير » عسى « من أفعال المقاربة ، ولا يكون سببَّاً ، وذلك بخلاف » كان «
فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم كان ، فإذا قدَّرْنا فيها ضميَر الشأن كانت
الجملةُ في موضع نصب على الخبر ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم » كاد « بل
ولا سببّاً له .
وهذا
يلزم في قراء التاء أيضاً . وأمَّا توسيط الخبرِ فهو مبنيٌّ على جواز مثل هذا
التركيب في مثل « كان يقوم زيد » وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع . وأمَّا الوجهُ
الأخير فضعيف جداً من حيث أضمر في « كاد » ضميراً ليس له على مَنْ يعود إلا بتوهم
، ومن حيث يكون خبر « كاد » رافعاً سبباً « .
قلت : كيف يقول : » والصحيح المنعُ « وهذا التركيب موجود في القرآن كقولِه تعالى :
{ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] ، و { كَانَ يَقُولُ
سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، وفي قول امرىء القيس :
2552 وإن تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالةَ ، وإنما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر
أم لا؟ فَمَنْ مَنَعَ لأنه كباب المبتدأ والخبر ، والخبرُ الصريح متى كان كذلك
امتنع تقديمُه على المبتدأ لئلا يلتبسَ بباب الفاعل ، فكذلك بعد نَسْخِه . ومن أجاز
فلأَمْنِ اللبس .
ثم قال الشيخ : » ويُخَلِّصُ من هذه الإِشكالات اعتقادُ كونِ « كاد » زائدة ،
ومعناها مرادٌ ، ولا عملَ لها إذ ذاك في اسمٍ ولا خبر ، فتكون مثل « كان » إذا
زِيْدَتْ ، يُراد معناها ولا عملَ لها ، ويؤيد هذا التأويلَ قراءةُ ابن مسعود « من
بعد ما زاغَتْ » ، بإسقاط كاد ، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : {
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، مع تأثُّرِها بالعاملِ وعملِها في ما
بعدها ، فأحرى أن يدعى زيادتُها وهي ليسَتْ عاملةً ولا معمولة « . قلت : زيادتُها
أباه الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفش ، وجَعَلَ منه { أَكَادُ أُخْفِيهَا }
[ طه : 15 ] . وتقدم الكلامُ على ذلك في أوائلِ هذا الكتاب .
وقرأ الأعمش والجحدري » تُزيغ « بضم التاء وكأنه جَعَلَ » أزاغ « و » زاغ « بمعنى
. وقرأ أُبَيّ » كادَتْ « بتاء التأنيث .
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قوله
تعالى : { وَعَلَى الثلاثة } : يجوز أن يُنْسِق على « النبيّ » ، أي : تاب على
النبي وعلى الثلاثة ، وأن يُنسقَ على الضمير في « عليهم » ، أي : ثم تاب عليهم
وعلى الثلاثة ، ولذلك كُرِّر حرفُ الجر .
وقرأ جمهور الناس : « خُلِّفوا » ، مبنياً للمفعول مشدداً مِنْ خلَّفه يُخَلِّفه .
وقرأ أبو مالك كذلك إلا أنه خفف اللام . وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمر بن عبيد
وعكرمة بن هارون المخزومي ومعاذ القارىء : « خَلَفوا » ، مبنياً للفاعل مخففاً
مِنْ خَلَفَه ، والمعنى : الذين خلفوا ، أي : فَسَدوا ، مِنْ خُلوف فم الصائم .
ويجوز أن يكون المعنى : أنهم خلفوا الغازين في المدينة . وقرأ أبو العالية وأبو
الجوزاء كذلك إلا أنهم شدَّدا اللام . وقرأ أبو رزين وعلي ابن الحسين وابناه زيد
ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق : « خالفوا » ، بألف ، أي : لم يوافقوا الغازين في
الخروج . قال الباقر : « ولو خُلِّفوا لم يكن لهم » . والظن هنا بمعنى العلم كقوله
:
2553 فقلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهمُ كالفارِسي المُسَرَّدِ
وقيل : هو على بابه .
قوله : { أَن لاَّ مَلْجَأَ } أنْ هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين ، و « لا »
وما في حيِّزها الخبرُ ، و « من الله » خبرها . ولا يجوز أن تكونَ تتعلقُ ب «
مَلْجَأ » ، ويكون « إلا إليه » الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ، لأنه يكون مطولاً .
وقد قال بعضهم : إنه يجوزُ تشبيهُ الاسمِ المُطَوَّل بالمضاف فيُنْتَزَعُ ما فيه
مِنْ تنوينٍ ونون كقوله :
2554 أراني ولا كفرانَ لله أيَّةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقوله : « لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل » برفع « يوم » وقد تقدَّم القولَ في ذلك .
وقوله : « إلا إليه » استثناءٌ من ذلك العامِّ المحذوفِ ، أي : لا مَلْجَأَ إلى
أحدٍ إلا إليه كقوله : لا إله إلا الله .
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
والظَّمأُ
: العطش ، يُقال : ظَمِىء يَظْمَأُ ظَمَأً ، فهو ظمآنُ وهي/ ظمأى ، وفيه لغتان :
القصر والمدُّ ، وبالمدّ قرأ عمرو بن عبيد ، نحو : سَفِه سَفاهاً ، والظِّمْءُ ما
بين الشَّرْبَتَيْن .
و « مَوْطِئاً » مَفْعِل مِنْ وَطِىءَ ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الوَطْء ،
وأن يكون مكاناً ، والأول أظهر ، لأن فاعل « يغيظ » يعود عليه من غير تأويل بخلاف
كونه مكاناً فإنه يعود على المصدر وهو الوَطْءُ الدال عليه المَوْطِىءُ .
وقرأ زيد بن علي : « يُغيظ » بضم الياء وهما لغتان : غاظَه وأغاظه .
والنَّيْلُ مصدرٌ فيحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكون واقعاً موقعَ المفعول به ،
وليست ياؤه مبدلةً من واو كما زعم بعضهم ، بل ناله ينولُه مادةٌ أخرى ومعنى آخر
وهو المناولة ، يقال : نِلْتُه أَنُوْله ، أي : تناولته ونِلْتُه أنيله ، أي :
أَدْرَكْته .
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
والوادي
: قال الزمخشري : « الوادي : كل منفرَجٍ من جبال وآكام يكون مَنْفذاً للسيل ، وهو
في الأصل فاعِل مِنْ ودى إذا سال ، ومنه الوَدِيّ ، وقد شاع في استعمال العرب
بمعنى الأرض » . وجُمع على أودية وليس بقياس ، كان قياسُه الأَوادي كأَواصل جمع
واصل ، والأصل : وَوَاصِل ، قُلبت الواو الأولى همزة . قال النحاس : « ولا أعرف
فاعلاً وأفْعلِة سواه » ، وقد استُدْرِك هذا عليه فزادوا : نادٍ وأندية وأنشدوا :
2555 وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ ... وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ
والنادي : المجلس . وقال الفراء : إنه يُجمع على أَوْداء كصاحب وأصحاب وأنشد لجرير
:
2556 عَرَفْتُ ببُرْقَةِ الأَوْداءِ رَسْماً ... مُحيلاً طال عهدُكَ مِنْ رسومِ
قلت : وقد زاد الراغب في فاعل وأَفْعِلة : ناجٍ وأنْجِيَة ، فقد كَمُلَتْ ثلاثةُ
ألفاظ في فاعل وأَفْعِلة ، ويقال : وَدَاه ، أي : أهلكه كأنهم تصوَّروا منه إسالة
الدم ، وسُمِّيت الدِّيَةُ دِيَةً لأنها في مقابلة إسالة الدم ، ومنه الوَدْيُ وهو
ماءُ الفحل عند المداعبة وماءٌ يخرج عند البول ، والوَدِيُّ بكسر الدال والتشديد
في الياء : صغار النحل .
وقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ } [ التوبة : 120 ] ، مبتدأ وخبر ، والإِشارة به إلى ما
تضمَّنه انتفاءُ التخلُّف مِنْ وجوب الخروج معه .
وقوله : { إِلاَّ كُتِبَ } ، هذه الجملةُ في محل نصب على الحال مِنْ « ظَمَأ » وما
عُطِف عليه ، أي : لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً . وأَفْرد الضمير في « به » وإن تقدَّمه
أشياء إجراء له مُجْرى اسمِ الإِشارة ، أي : كُتب لهم بذلك عَمَلٌ صالح . والمضمرُ
يُحتمل أن يعودَ على العمل الصالح المتقدم ، وأن يعودَ على أحد المصدرين المفهومين
في « ينفقون » و « يقطعون » ، أي : إلا كُتِب لهم بالإِنفاقِ أو القَطْعِ .
وقوله : { لِيَجْزِيَهُمُ } متعلقٌ ب « كُتِب » . وفي هذه الجملة من البلاغةِ
والفصاحةِ ما لا يخفى على متأمَّله لا سيما لمن تدرَّب بما تقدَّم في هذا الموضوع
.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قوله
تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } : « لولا » تحضيضية والمرادُ به
الأمر . و « منهم » يجوز أن يكون صفةً ل « فرقة » وأن يكون حالاً من « طائفة »
لأنها في الأصل صفة لها ، وعلى كلا التقديرين فيتعلقُ بمحذوف . والذي ينبغي أن
يُقال : إنَّ « من كل فرقة » حالٌ من طائفة ، و « منهم » صفة لفرقة ، ويجوز أن
يكونَ « من كل » متعلقاً ب « نَفَرَ » .
وقوله : { لِّيَتَفَقَّهُواْ } في هذا الضمير قولان ، أحدهما : أنه للطائفة
النافرة على أن المرادَ بالنفور : النفور لطلب العلم ، وهو ظاهر . وقيل : الضمير
في « ليتفَّقهوا » عائد على الطائفة القاعدة ، وفي « رَجَعوا » عائدٌ على النافرة
، والمراد بالنفور نفورُ الجهاد ، والمعنى : أن النافرين للجهاد إذا ذهبوا بقيت
إخوانهم يتعلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقه ، فإذا رَجَع الغازون
أنذرهم المُعَلِّمون ، أي : علَّموهم الفقه والشَّرْع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
قوله
تعالى : { وَلِيَجِدُواْ } : وهو من باب « لا أُرَيَنَّك ههنا » وتقدَّم شرحه .
قوله : { غِلْظَةً } قرأها الجمهور بالكسر وهي لغة أشد . وقرأ الأعمش ، وأبان بن
تغلب والمفضل كلاهما عن عاصم « غَلْظة » بفتحها ، وهي لغة الحجاز . وقرأ أبو حيوة
والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان في رواية عنهما « غُلظة » بالضم وهي لغة تميم
. وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث . والغِلظة : أصلها في الأَجْرام فاستعيرت هنا
للشدة والصبر والتجلُّد .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
قوله تعالى : { زَادَتْهُ } : الجمهور على رفع « أيُكم » بالابتداء وما بعده الخبر . وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالنصب على الاشتغال ، ولكن يُقَدَّر الفعل متأخراً عنه من أجلِ أن له صدرَ الكلام والنصبُ عند الأخفش في هذا النحوِ أحسنُ من الرفع؛ لأنه يُجري اسم الاستفهام مُجرى الأسماءِ المسبوقةِ بأداة الاستفهام نحو : « أزيداً ضربته » في ترجيح إضمار الفعل .
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله تعالى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ } : قرأ حمزة « ترون » بتاء الخطاب وهو خطابٌ للذين آمنوا ، والباقون بياء الغيبة رجوعاً على { الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } . والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبيةً ، وأن تكون بصريةً/ .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قوله تعالى : { هَلْ يَرَاكُمْ } : في محل نصب بقول مضمر ، أي : يقولون : هل يراكم . وجملةُ القول في محل نصب على الحال ، و « مِنْ أحد » فاعلٌ .
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
قوله
تعالى : { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } : صفةٌ لرسول ، أي : من صميم العرب . وقرأ ابن عباس
وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي
ويعقوب من بعض طرقه ، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء ، أي : مِنْ
أَشْرَفِكم ، من النَّفاسة .
وقوله : { عَزِيزٌ } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون « عزيز » صفةً لرسول ، وفيه أنه
تَقَدَّم غيرُ الوصف الصريح على الوصفِ الصريح ، وقد يُجاب بأنَّ « من أنفسكم »
متعلقٌ ب « جاء » ، و « ما » يجوز أن تكون مصدرية أو بمعنى الذي ، وعلى كلا
التقديرين فهي فاعل بعزيز ، أي : يَعِزُّ عليه عَنَتُكم أو الذي عَنِتُّموه ، أي :
عَنَتُهم يُسيئه ، فحذفَ العائدَ على التدريج ، وهذا كقوله :
2557 يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي ... وكان ذهابُهنَّ له ذهاباً
أي : يَسُرُّه ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون « عزيز » خبراً مقدماً ، و « ما
عَنِتُّم » مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ صفةٌ لرسول . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ « عزيز
» مبتدأ ، و « ما » عنتُّم خبره ، وفيه الابتداءُ بالنكرة لأجل عَمَلِها في
الجارِّ بعدها . وتقدَّم معنى العنت . والأرجح أن يكونَ « عزيز » صفةً لرسول؛
لقوله بعد ذلك « حريصٌ » فلم يُجعلْ خبراً لغيره ، وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر
، أي : هو حريصٌ ، لا حاجةَ إليه .
و « بالمؤمنين » متعلقٌ برؤوف . ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ
شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن ، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز : « زيداً
ضربتُ وشتمته » على التنازع ، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال
الثاني لا الأولِ لما عُرِف : أنه متى أُعمل الأول أُضْمِرَ في الثاني من غير حذف
.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
والجمهورُ على جَرِّ الميم من « العظيم » صفةً للعرش . وقرأ ابن محيصن برفعها ، جَعَلَه نعتاً للرب ، ورُويت هذه قراءةً عن ابن كثير . قال أبو بكر الأصمُّ : « وهذه القراءة أعجبُ إليّ لأنَّ جَعْلَ العظيم صفةً لله تعالى أولى مِنْ جعله صفةً للعرش » .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قد
تقدَّم الكلامُ على الحروف المقطعة في أوائل هذا الموضوع ، واختلافُ القُرَّاء في
إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ وهي : را ، وطا ، وها ، ويا ، وحا . فأمال
« را » من جميع سورها إمالةً محضة الكوفيون إلا حفصاً ، وأبو عمر وأبن عامر .
وأمال الأخَوَان وأبو بكر « طا » من جميع سُوَرِها نحو : طس ، طسم ، طه ، و « يا »
من يس . وافقهم ابنُ عامر والسوسي على « يا » من كهيعص ، بخلاف عن السوسي . وأمال
الأخَوان وأبو عمرو وورش وأبو بكر « ها » من طه ، وكذلك أمالها من كهيعص أبو عمرو
والكسائي وأبو بكر دون حمزةَ وورش . وأمال أبو عمرو وورش والأخَوَان وأبو بكر وابن
ذكوان حا من جميع سورها السبع . إلا أن أبا عمروٍ ووَرْشاً يُميلان بين بين ، [
وللقراء في هذا عمل كثير ] بيَّنْتُه في « شرح القصيد » .
و « الحكيم » : يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل ، أي : الحاكم ، وأن يكونَ بمعنى مفعول
، أي : مُحْكَم ، قال الأعشى :
2558 وغريبةٍ تأتي الملوكَ حكيمةً ... قد قلتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ } : الهمزة للإِنكار و « أن
أوحينا » اسمُها . و « عجباً » خبرها . و « للناس » متعلق بمحذوف على أنه حالٌ
مِنْ « عَجَباً » لأنه في الأصل صفة له ، أو متعلِّقٌ ب « عَجَباً » ، ولا يَضُرُّ
كونُه مصدراً لأنه يُتَّسع في الظرف وعديلهِ ما لا يُتَّسع في غيرهما . وقيل : لأن
« عجباً » مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعل أو اسم المفعول ، ومتى كان كذلك جاز
تقديمُ معمولِه . وقيل : هو متعلق ب « كان » الناقصة ، وهذا على رأيِ مَن يُجيز
فيها ذلك . وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة « كان » الناقصة على الحدث ، فإن
قلنا : إنها تدلُّ على ذلك فيجوز وإلا فلا وقيل : هو متعلقٌ بمحذوفٍ على التبين ،
والتقدير في الآية : أكان إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم عجباً لهم . و « منهم » صفة ل «
رجل » .
وقرأ رؤبة « رَجْل » بسكون الجيم ، وهي لغة تميم ، يُسَكِّنون فَعُلاً نحو : سَبُع
وعَضُد . وقرأ عبد الله بن مسعود « عَجَبٌ » . وفيها تخريجان ، أظهرهما : أنها
التامة ، أي : أَحَدَثَ للناس عجب ، و « أنْ أَوْحَيْنا » متعلق ب « عَجَب » على
حَذْف لامِ العلة ، أي : عَجَبٌ لأَِنْ أوحينا ، أو يكون على حَذْف « مِنْ » ، أي
: مِنْ أَنْ أوحينا . والثاني : أن تكون الناقصة ، ويكون قد جعل اسمَها النكرةَ
وخبرَها المعرفةَ ، على حَدِّ قوله :
2559 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال الزمخشري : « والأجودُ أن تكونَ التامةَ ، و » أنْ أَوْحَيْنا « بدلٌ من »
عجب « . يعني به بدلَ اشتمال أو كل من كل؛ لأنه جُعِل هذا نفسَ العَجَب مبالغةً .
والتخريج الثاني لابن عطية .
قوله : { أَنْ أَنذِرِ } يجوز أن تكونَ المصدرية ، وأن تكونَ التفسيريةَ . ثم لك
في المصدرية اعتباران ، أحدهما : أن تجعلَها المخففةَ مِن الثقيلة ، واسمها ضمير
الأمر والشأن محذوف . كذا قال الشيخ ، وفيه نظر من حيث إن أخبارَ هذه الأحرف لا
تكون جملةً طلبية ، حتى لو ورد ما يُوهم ذلك يُؤوَّل على إضمار القول كقوله :
2560 ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْي صادقةٌ ... إنَّ الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ
وقول الآخر :
2561 إنَّ الذين قتلتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تحسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وأيضاً فإن الخبرَ في هذا البابِ إذا وقع جملةً فعلية فلا بد من الفصلِ بأشياءَ
ذكرتُها في المائدة ، ولكن ذلك الفاصلَ هنا متعذَّرٌ . والثاني : أنها التي بصدد
أن/ تنصِبَ الفعلَ المضارعَ ، وهي تُوصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً نحو : » كتبت
إليه بأَنْ قم « . وقد تقدَّم لنا في ذلك بحث أيضاً ولم يُذْكر المُنْذَرُ به ،
وقد ذكر المُبَشَّرَ به كما سيأتي لأنَّ المقامَ يقتضي ذلك .
قوله
: { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ } « أنَّ » وما في حَيِّزها هي المبشَّرُ بها ، أي :
بَشِّرهم باستقرارِ قَدَمِ صِدْق ، فَحُذفت الباء ، فجرى في محلِّها المذهبان .
والمرادُ بقدَمِ صِدْقٍ السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرفيعة . وإليه ذهب الزجاج
والزمخشري ومنه قولُ ذي الرمة :
2562 لهمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أنها ... مع الحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ على
البحر ... لمَّا كان السعي والسَّبْقُ بالقدم سُمِّي السَّعْيُ المحمود قَدَماً ،
كما سُمِّيت اليدُ نِعْمة لمَّا كانت صادرةً عنها ، وأُضيف إلى الصدق دلالةً على
فضلِه ، وهو من باب رجلُ صدقٍ ورجلُ سوءٍ . وقيل : هو سابقةُ الخير التي قَدَّموها
، ومنه قول وضَّاح اليمني :
2563 مالك وضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ... أَلَسْتَ تخشى تقارُبَ الأَجَلِ
صَلِّ لذي العرشِ واتَّخِذْ قَدَماً ... تُنْجيك يوم العِثارِ والزَّلَلِ
وقيل : هو التقدُّمُ في الشرف ، ومنه قول العجاج :
2564 ذَلَّ بنو العَوَّامِ مِنْ آل الحَكَمْ ... وتركوا المُلْكَ لمَلْكٍ ذي
قَدَمْ
أي : ذي تقدُّمٍ وشرفٍ . و « لهم » خبر مقدم ، و « قَدَمَ » اسمُها ، و « عند ربهم
» صفةٌ ل « قَدَم » . ومن جَوَّز أن يتقدَّمَ معمولُ خبرِ « أنَّ » على اسمها إذا
كان حرف جر كقوله :
2565 فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها ... أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بَلابلُهْ
قال : ف « بحبها » متعلقٌ ب « مُصاب » ، وقد تقدَّم على الاسم فكذلك « لهم » يجوز
أن يكونَ متعلقاً ب « عند ربهم » لِما تَضَمَّنَ من الاستقرار ، ويكونُ « عند ربهم
» هو الخبر .
وقرأ نافعٌ وأبو عمرو وابن عامر « لَسِحْرٌ » والباقون « لَساحر » ، ف « هذا »
يجوزُ أن يكونَ إشارةً للقرآن ، وأن يكونَ إشارة للرسول على القراءة الأولى ، ولكن
لا بد من تأويل على قولنا : إن المشار إليه هو النبي عليه السلام ، أي : ذو سحر أو
جعلوه إياه مبالغةً . وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فالإِشارةُ للرسولِ عليه
السلام فقط .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأمر } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل « إنَّ » . الثاني : أنه حالٌ . الثالث : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإِعراب .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قوله
تعالى : { وَعْدَ الله } : منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ ، لأنَّ معنى « إليه
مَرْجِعُكُمْ » : وَعَدَكم بذلك .
وقوله : { حَقّاً } مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد ، وناصبُه مضمر ، أي :
أَحُقُّ ذلك حقاً . وقيل : انتصب « حقاً » ب « وَعْدَ » على تقدير « في » ، أي :
وَعْدَ الله في حق ، يعني على التشبيه بالظرف . وقال الأخفش الصغير : « التقدير :
وقتَ حق » وأنشد :
2566 أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً ... ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ
قوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ } الجمهورُ على كسر الهمزة للاستئناف . وقرأ عبد الله
وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها . وفيها تأويلاتٌ ، أحدها : أن تكونَ
فاعلاً بما نصب « حقاً » ، أي : حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق ، ثم إعادتُه ، كقوله
:
2567 أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
البيت . وهو مذهبُ الفراء فإنه قال : « والتقدير : يحقُّ أنه يبدأ الخلق . الثاني
: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ » وعد الله « أي : وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق
ثم إعادتَه ، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه . الثالث : أنه على حَذْف لام الجر
أي : لأنه ، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره . الرابع : أنه بدلٌ من »
وَعْدَ الله « قاله ابن عطية . الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس » حقاً « أي : بالمصدر
المنون ، وهذا إنما يتأتى على جَعْل » حقاً « غيرَ مؤكدٍ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا
عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه ، وفيه بحثٌ . السادس : أن يكونَ » حقاً « مشبهاً
بالظرف خبراً مقدماً و » أنَّه « في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم : أحقاً أنك
ذاهب قالوا : تقديره : أفي حقٍ ذهابك .
وقرأ ابن أبي عبلة : » حَقٌّ أنه « برفع [ حق ] وفتح » أنَّ « على الابتداء والخبر
. قال الشيخ : » وكونُ « حق » خبرَ مبتدأ ، و « أنه » هو المبتدأ هو الوجه في
الإِعراب ، كما تقول : « صحيحٌ أنك تخرج » لأن [ اسم ] « أنَّ » / معرفة ، والذي
تقدَّمها في هذا المثال نكرة « . قلت : فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس ،
وهذا قد ورد في باب » إنَّ « كقوله :
2568 وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً ... بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
وقوله :
2569 وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل ...
على جَعْل » أنْ سفحتُها « بدلاً من » عبرة « . وقد أخبر في » كان « عن نكرةٍ
بمعرفةٍ كقوله :
2570 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا
وقوله :
2571 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال مكي : » وأجاز الفراء رفع « وعد » ، يجعله خبراً ل « مرجعكم » .
وأجاز
رفعَ « وعد » و « حق » على الابتداء والخبر ، وهو حسنٌ ، ولم يقرأ به أحد « . قلت
: نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد ، وأمَّا رفعُ » حق « وحده فقد تقدم أن ابن أبي
عبلة قرأه ، وتقدَّم توجيهُه . ولا يجوز أن يكون » وعدَ الله « عاملاً في » أنه «
لأنه قد وُصِف بقوله » حقاً « قاله أبو الفتح .
وقرىء » وَعَدَ اللَّهُ « بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً ، وعلى هذه يكون
» أنه يَبْدَأ « معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح » أنه « .
والجمهور على » يَبْدأُ « بفتح الياء مِنْ بدأ ، وابن أبي طلحة » يُبْدِىء « مِنْ
أَبْدأ ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى .
قوله : { لِيَجْزِيَ } متعلق بقوله » ثم يُعيده « ، و » بالقسطِ « متعلقٌ ب »
يَجْزي « . ويجوز أن يكونَ حالاً : إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي : يَجْزيهم
ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به . والقِسْط : العدل .
قوله : { والذين كَفَرُواْ } يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ،
والجملةُ بعده [ خبره ] . الثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه ،
وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم . و » شراب « [ يجوز أَنْ ] يكونَ فاعلاً ،
وأن يكون مبتدأ ، [ والأولُ أولى ] .
قوله : { بِمَا كَانُواْ } الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع
خبراً ، والتقدير : استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا . وجَوَّز أبو
البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما الأول : أن يكونَ صفةً أخرى ل » عذاب « .
والثاني : أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن
الأول .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قوله تعالى : { ضِيَآءً } : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ للتصيير ، وإمَّا حالٌ على أنه بمعنى الإِنشاء . والجمهور على « ضياء » بصريح الياء قبل الألف ، وأصلُها واو لأنه من الضوء . وقرأ قنبل عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص « ضِئاءً » بقلب الياء همزة ، فتصير ألف بين همزتين . وأُوِّلت على أنه مقلوبٌ قُدِّمت لامُه وأُخِّرت عينه فوقعت الياء طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حَدِّ « رداء » . وإن شئت قلتَ : لمَّا قُلِبت الكلمة صار « ضياواً » بالواو ، عادت العين إلى أصلها م