ج9. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وقوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ } : يجوز في هذا الموصول أن يكون مرفوعاً على النعت للموصول ، وعلى البدل ، أو على البيان له ، وأن يكون منصوباً على القطع المُشْعِر بالمدح . وقوله : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } : التقديمُ يفيدُ الاختصاصَ أي : عليه لا على غيره . وهذه الجملةُ يُحتمل أن يكون لها محلٌّ من الإِعراب وهو النصبُ على الحال مِنْ مفعول « زادَتْهم » ويُحتمل أن تكونَ مستأنفةً ، ويحتمل أن تكون معطوفةً على الصلة قبلها فتدخلَ في حَيِّزِ الصلاتِ المتقدمةِ ، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ لها من الإِعراب .
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قوله
تعالى : { حَقّاً } : يجوز أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوف أي : هم المؤمنون إيماناً
حقاً . ويجوز أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولك : هو عبد الله حقاً ،
والعاملُ فيه على كلا القولين مقدَّرٌ أي : أحقُّه حقاً . ويجوز وهو ضعيف جداً أن
يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي « لهم درجات » ويكون الكلامُ قد
تمَّ عند قوله « هم المؤمنون » ثم ابتدئ ب « حقاً » لهم درجات « . وهذا إنما يجوز
على رأيٍ ضعيف ، أعني تقديمَ المصدرِ المؤكِّد/ لمضمون جملة عليها .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } يجوز أن يكونَ متعلقاً ب » درجات « لأنها بمعنى » أُجُورٌ
« ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل » درجات « أي : استقرَّت عند ربهم ، وأن
يتعلَّق بما تعلَّق به » لهم « من الاستقرار .
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
قوله
تعالى : { كَمَآ أَخْرَجَكَ } : فيه عشرون وجهاً : أحدها : أن الكافَ نعتٌ لمصدر
محذوف تقديره : الأنفالُ ثابتةٌ لله ثبوتاً كما أخرجك أي : ثبوتاً بالحق كإخراجك
من بيتك بالحق ، يعني أنه لا مِرْيَةَ في ذلك . الثاني : أن تقديره : وأصلحوا ذاتَ
بينكم إصلاحاً كما أخرجك . وقد التفت من خطابِ الجماعةِ إلى خطاب الواحد . الثالث
: تقديرُه : وأطيعوا اللهَ ورسولَه طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك أي : كما أن
إخراج الله إياك لا مِرْيَةَ فيه ولا شبهة . الرابع : تقديرُه : يتوكلون توكلاً
حقيقياً كما أخرجك ربك . الخامس : تقديره : هم : المؤمنون حقاً كما أخرجك فهو صفة
ل « حقاً » .
السادس : تقديره : استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك .
السابع : أنه متعلقٌ بما بعده تقديره : يجادلونك مجادلةً كما أخرجك ربك . الثامن :
تقديرُه : لكارهون كراهيةً ثابتة كما أخرجك ربك أي : إن هذين الشيئين : الجدالَ
والكراهيةَ ثابتان لا محالة ، كما أن إخراجك ثابت لا محالة . التاسع : أن الكافَ
بمعنى إذ ، و « ما » مزيدة . التقدير : اذكر إذ أخرجك . وهذا فاسدٌ جداً إذ لم
يَثْبُتْ في موضعٍ أن الكاف تكون بمعنى إذ ، وأيضاً فإنَّ « ما » لا تُزادُ إلا في
مواضعَ ليس هذا منها .
العاشر : أن الكاف بمعنى واو القسم و « ما » بمعنى الذي ، واقعةٌ على ذي العلم
مُقْسَماً به ، وقد وقعت على ذي العلم في قوله : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [
الشمس : 5 ] { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] والتقدير : والذي أخرجك
، ويكون قوله « يجادلونك » جوابَ القسم . وهذا قول أبي عبيدة . وقد ردَّ الناس
عليه قاطبةً . وقالوا : كان ضعيفاً في النحو ، ومتى ثبت كونُ الكافِ حرفَ قسمٍ
بمعنى الواو؟ وأيضاً فإن « يجادلونك » لا يَصِحُّ كونُه جواباً؛ لأنه على مذهب
البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً وَجَب فيه شيئان : اللام وإحدى النونين ، نحو {
لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً } [ يوسف : 32 ] ، وعند الكوفيين : إمَّا اللامُ
وإمَّا إحدى النونين ، و « يجادلونك » عارٍ عنهما .
الحادي عشر : أن الكاف بمعنى على ، و « ما » بمعنى الذي والتقدير : امْضِ على الذي
أخرجَك . وهو ضعيفٌ لأنه لم يثبتْ كونُ الكاف بمعنى « على » البتةَ إلا في موضعٍ
يحتمل النزاع كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] أي على هدايته
إياكم . الثاني عشر : أن الكافَ في محل رفع ، والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا
الله ، كأنه ابتداءٌ وخبر . قال ابن عطية : « وهذا المعنى وَضَعه هذا المفسِّر ،
وليس من ألفاظ الآية في وِرْدٍ ولا صَدَر » .
الثالث عشر : أنها في موضعِ رفعٍ أيضاً والتقدير : لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة
ورزق كريم ، هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك . وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر ، ولو صَرَّح
بذلك لم يلتئم التشبيهُ ولم يَحْسُنْ .
الرابع
عشر : أنها في موضع رفعٍ أيضاً . والتقدير : وأصلِحوا ذاتَ بينكم ذلكم خيرٌ لكم
كما أخرجك ، فالكاف في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف . وهو ضعيف لطول الفصل بين
قوله : « وأَصْلِحوا » وبين قوله « كما أَخْرَجَك » .
الخامس عشر : أنها في محل رفع أيضاً على خبر ابتداء مضمر والمعنى : أنه شبَّه
كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروجَ قريشٍ
للدفع عن أبي سفيان وحِفْظِ عِيره بكراهيتهم لنزع الغنائم مِنْ أيديهم وجَعْلِها
لله ورسوله يَحْكم فيها ما يشاء . واختار الزمخشري هذا الوجهَ وحَسَّنه ، فقال : «
يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره : هذه الحالُ كحالِ إخراجك .
يعني أن حالَهم في كراهة ما رأيت من تَنْفيل الغزاة مثلُ حالهم في كراهة خروجهم
للحرب » وهذا الذي حَسَّنه الزمخشري هو قول الفراء وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدَّم
مِن الألفاظ فإن الفراء قال : « هذه الكاف شَبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من
بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال » .
السادس عشر : أنها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً/ وقد حُذف ذلك المبتدأ وخبره . والتقدير
: قِسْمتك الغنائمَ حقٌّ كما كان إخراجُك حقاً . السابع عشر : أنَّ التشبيه وقع
بين إخراجين أي : إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كارهٌ لخروجك ، وكان عاقبة
ذلك الإِخراج النصرَ والظفرَ كإخراجه إياك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ ، يكون
عقيبَ ذلك الخروجِ الظفرُ والنصر والخير كما كانت عقيبَ ذلك الخروجِ الأول .
الثامن عشر : أن تتعلق الكاف بقوله « فاضربوا » . وبَسْطُ هذا على ما قاله صاحب
هذا الوجه : الكاف للتشبيه على سبيل المجاز ، كقول القائل لعبده : « كما رَجَعْتك
إلى أعدائي فاستضعفوك وسألتَ مدداً فَأَمْدَدْتُك وأَزَحْتُ عِلَلك فَخُذْهم الآن
وعاقِبْهم كما أَحْسَنْتُ إليك وأَجْرَيْتُ عليك الرزق فاعملْ كذا واشكرْني عليه ،
فتقدير الآية : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغَشَّاكم النعاسَ أمَنَةً منه ،
وأنزل عليكم من السماء ماءً ليطَهِّرَكم به ، وأنزل عليكم من السماء ملائكة
مُرْدفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان ، كأنه يقول : قد أَزَحْتُ
عِلَلكم وأَمْدَدْتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتلُ لتبلغوا
مرادَ الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل . وهذا الوجه بَعْدَ طولِه لا طائل تحته
لبُعْده من المعنى وكثرة الفواصل .
التاسع عشر : أن التقدير : كا أخرجك ربك مِنْ بيتك بالحق أي : بسبب إظهار دين الله
وإعْزازِ شريعته وقد كرهوا خروجك تهيُّباً للقتال وخوفاً من الموت؛ إذ كانَ أُمِرَ
عليه السلام بخروجهم بغتةً ولم يكونوا مستعدِّين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه
نَصَرَكَ الله وأَمَدَّك بملائكته ، ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده وهو
قوله :
{
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] الآيات . وهذا الوجهُ استحسنه
الشيخ ، وزعم أنه لم يُسْبق به ، ثم قال : « ويظهر أن الكافَ ليست لمحضِ التشبيه
بل فيها معنى التعليل . وقد نصَّ النحويون على أنها للتعليل ، وخرَّجوا عليه قولَه
تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وأنشدوا :
2382 لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ ... أي : لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم
. ومن الكلام الشائع : » كما تطيع الله يدخلك الجنة « أي : لأجل طاعتك الله يدخلك
، فكذا الآية ، والمعنى : لأَنْ خرجت لإِعزاز دين الله وقَتْل أعدائه نَصَرك
وأَمَدَّك بالملائكة » .
العشرون : تقديرُه : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجُك في الطاعة
خيرٌ لكم ، كما كان إخراجُك خيراً لهم . وهذه الأقوال مع كثرتها غالبُها ضعيف ،
وقد بَيَّنْت ذلك . قوله : { بالحق } فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بالفعل أي
بسبب الحق أي : إنه إخراجٌ بسبب حقٍ يظهر وهو علوُّ كلمة الإِسلام والنصرُ على
أعداء الله . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول « أَخْرَجَكَ » أي :
ملتبساً بالحق .
قوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً } الواو للحال ، والجملة في محل نصب ، ولذلك كُسِرت «
إنَّ » . ومفعول « كارهون » محذوف أي : لكارهون الخروج ، وسببُ الكراهة : إمَّا
نفرة الطبع ممَّا يُتَوقَّع من القتال ، وإمَّا لعدم الاستعداد .
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قوله
تعالى : { يُجَادِلُونَكَ } : يُحتمل أن يكونَ مستأنفاً إخباراً عن حالهم
بالمجادلة . ويُحتمل أن يكونَ حالاً ثانية أي : أخرجك في حال مجادلتهم إياك .
ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في « لكارهون » أي : لكارهون في حال جدال .
والظاهر أن الضمير المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم ، ومعنى المجادلة قولهم :
كيف نقاتل ولم نعتَدَّ للقتال؟ ويجوز أن يعود على الكفار وجدالُهم ظاهر . قوله : «
بعدما تبيَّن » منصوب بالجدال و « ما » مصدرية أي : بعد تبيُّنِه ووضوحِه ، وهو أقبحُ
من الجدال في الشيء قبل اتِّضاحه . وقرأ عبد الله « بُيِّن » مبنياً للمفعول مِنْ
بَيَّنْتُه أي أظهرته .
قوله : { وَهُمْ يَنظُرُونَ } حالٌ من مفعول « يُساقُون » .
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } : « إذ » منصوب بفعل مقدر أي : اذكر إذ . والجمهور على رفع الدال لأنه مضارع مرفوع . وقرأ/ مسلم ابن محارب بسكونها على التخفيف لتوالي الحركات . وقرأ ابن محيصن « يعدكم الله احدى » بوصل همزة « إحدى » تخفيفاً على غير قياس ، وهي نظير قراءة مَنْ قرأ : « إنها لاحدى » بإسقاط الهمزة ، أجرى همزة القطع مُجْرى همزة الوصل . وقرأ أيضاً « أحد » بالتذكير ، لأن الطائفة مؤنث مجازي . وقرأ مسلم بن محارب « بكلمته » على التوحيد ، والمراد به اسم الجنس ، فيؤدي مؤدَّى الجمع .
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قوله
تعالى : { لِيُحِقَّ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ بما قبله أي : ويقطع ليحق
الحق . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره : ليحقَّ الحق فَعَل ذلك أي : ما
فعله إلا لهما وهو إثباتُ الإِسلام وإظهارُه وزوالُ الكفر ونحوه .
قال الزمخشري : « ويجب أن يُقَدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيدَ الاختصاص وينطبقَ عليه
المعنى » . قلت : وهذا على رأيه ، وهو الصحيح .
قوله : { أَنَّها لكم } منصوبُ المحل على البدل من « إحدى » أي : يَعِدُكم أن إحدى
الطائفتين كائنة لكم أي : تَتَسلَّطون عليها تَسَلُّطَ المُلاَّكِ فهي بدلُ اشتمال
.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قوله
تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه منصوب باذكر
مضمراً ، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي : إنه مقتطعٌ عما قبله . الثاني : أنه
منصوب بيحقُّ أي : يحقُّ الحق وقت استغاثتكم . وهو قول ابن جرير . وهو غلط ، لأنَّ
« ليحقَّ » مستقبل لأنه منصوب بإضمار « أَنْ » ، و « إذ » ظرف لما مضى ، فكيف يعمل
المستقبل في الماضي؟ الثالث : أنه بدلٌ من « إذ » الأولى ، قاله الزمخشري وابن
عطية وأبو البقاء . وكان قد قَدَّموا أن العامل في « إذا » الأولى « اذكر » مقدراً
. الرابع : أنه منصوب ب « يعدكم » قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري . الخامس : أنه
منصوب بقوله « تَوَدُّون » قاله أبو البقاء . وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل .
و « استغاث » يتعدى بنفسه وبالباء . ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى
نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله . وقد
أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر :
2383 حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له ... من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه ... ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ
كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ ... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره .
قوله : { أَنِّي } العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي : فاستجاب بأني .
وقرأ عيسى بن عمر ويُروى عن أبي عمرو أيضاً « إني » بكسرها . وفيها مذهبان : مذهَب
البصريين أنه على إضمار القول أي : فقال إني ممدُّكم . ومذهب الكوفيين أنها
محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه .
قوله : { بِأَلْفٍ } العامَّة على التوحيد . وقرأ الجحدري : « بآلُفٍ » بزنة
أفْلُس . وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال . وفي الجمع بين هاتين القراءتين
وقراءة الجمهور : أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه ،
وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم في
هاتين القراءتين . أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم
يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات .
قوله : { مُرْدِفِينَ } قرأ نافع ويُروى عن قنبل أيضاً « مُرْدَفين » بفتح الدال
والباقون بكسرها . وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ
مَلَكٌ رديفاً له . فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم ، وقراءة
الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه ، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل
تارةً واسمِ المفعول أخرى . وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ « مُرْدِفين » يعني بالكسر
محذوفاً أي : مُرْدِفين أمثالهم . وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد
الأوائل أي : جُعِلوا رِدْفاً للأوائل .
ويُطلب
جوابٌ عن كيفية الجمع/ بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران ، حيث قال هناك « بخمسة » ،
وقال هنا « بأَلْف » والقصة واحدة . والجواب : أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك
الخمسة فيكون المجموعُ ستةَ آلاف ، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة « مُرْدِفين » بكسر
الدال .
وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي : ركَّبَتْ خلفها غيرها من
الملائكة . وقال الفارسي : « مَنْ كسر الدال احتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونوا
مُرْدِفين مثلَهم كما تقول : » أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي « فيكون المفعولُ الثاني
محذوفاً ، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ . والوجه الآخر : أن يكونوا جاؤوا بعد المسلمين
. وقال الأخفش : » بنو فلان يَرْدِفوننا أي : يجيئون بعدنا « ، وقال أبو عبيدة : »
مُرْدِفين : جاؤوا بعدُ ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد « . قال الفارسي : » هذا الوجه
كأنه أَبْيَنُ لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } ، قولُه «
مُرْدِفين » أي جائين بعدُ لاستغاثتِكم . ومَنْ فتح الدال فهم مُرْدَفون على :
أُرْدِفوا الناسَ أي : أُنْزِلوا بعدهم « .
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل » مُرَدِّفين « بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ
مشدَّدة ، والأصل : مُرْتَدِفين فأدغم . وقال أبو البقاء : » إن هذه القراءةَ
مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير ، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة
كأَفْرَحْتُه وفرَّحته « وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم
كقولهم : مُخُضِم بضم الخاء ، وقد قُرِئ بها شذوذاً .
وقُرئ » مُرِدِّفين « بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً . وكسرُ الراء يَحْتمل
وجهين : إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع . قال ابن عطية : » ويجوز على هذه
القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء ، ولا أحفظه قراءة « ، قلت : وكذلك الفتحة في »
مُرَدِّفين « في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين . أحدهما : وهو الظاهر
أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء حين قصد إدغامَها إلى الراء . والثاني : أنها فُتِحَتْ
تخفيفاً ، وإن كان الأصلُ الكسرَ على أصل التقاء الساكنين كما قد قُرئ به . وقُرِئ
» مِرْدِفين « بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء .
والوَجَل : الفَزَعُ . وقيل : استشعار الخوف يُقال منه : وَجِل يَوْجَل وياجَل
ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً ، فهو وَجِل . والشَّوْكَة : السلاح كسِنان الرُّمْح
والنَّصْل والسيف ، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان ، يُقال
منه : رجلٌ شائكٌ ، فالهمزةُ من واو كقائم ، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه ،
فيقال : » شاكٍ « ، فيصير كغازٍ ، ووزنُه حينئذ فالٍ قال زهير :
2384 لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ
ويُوصَفُ السِّلاحُ بالشاكي كما يُوصف به الرجل فيُقال : رجلٌ شاكٌ وشاكٍ ، وسلاحٌ
شاكٌ وشاكٍ . فأمَّا شاكٌ فصحيحٌ غيرُ معتلٍّ ، وألفُه منقلبةٌ عن عين الكلمة ،
ووزنُه في الأصل على فَعِل بكسر العين ، ولكن قُلِبَتْ ألفاً كما قالوا كَبْشٌ
صافٌ أي صَوِف ، وكذلك شاكٌ أي شَوِكٌ .
ويُحتمل
أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ
ووزنُه على هذا فال . وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم . ومِنْ وصف
السلاح بالشاك قوله :
2385 وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي ... سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا
فهذا يُحْتمل أن يكونَ محذوفَ العين ، وأن يكون أصله شَوِكاً كصَوِف . ويُقال
أيضاً : هو شاكٌّ في السلاح بتشديد الكاف مِنَ الشِكَّة وهي السلاح أجمع ، نقله
الهروي والراغب .
والاستغاثة : طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل : الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة
وقت الحاجة . وقيل : هي الاستجارةُ . ويقال : غَوْثٌ وغُواث وغَواث ، والغيث من
المطر والغَوْث من النصرة ، فعلى هذا يكونُ « استغاث » مشتركاً بينهما ، ولكن
الفرقَ بينهما في الفعل فيقال : استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث ، وغاثَني مِن
الغَيْث . والإِردافُ : الإِتباع والإِركاب وراءك . قال الزجاج : « أَرْدَفْتُ
الرجل إذا جئت بعده » . ومنه { تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 7 ] ، ويقال :
رَدِف وأَرْدَف . واختلف اللغويون فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو قولُ ابنِ الأعرابي
نقله عنه ثعلب ، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال : « يُقال : رَدِفْتُ الرجلَ
وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه » ، وأنشد :
2386 إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا
أي جَاءَتْ على رِدْفِها . وقيل : بل بينهما فرقٌ ، فقال الزجاج : « يقال :
رَدِفْتُ الرجلَ : رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه : أركبتُه خلفي » وهذا يناسِبُ
قولَ مَنْ يُقَدِّر مفعولاً في « مُرْدِفين » بكسرِ الدال ، وأَرْدَفْتُه « إذا
جِئْتَ بعده أيضاً ، فصار أَرْدَفَ على هذا مشتركاً بين معنيين . وقال شمر : »
رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك ، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما/ بغيرك
فَأَرْدَفْتُ لا غير « . وقوله : { مُرْدَفِينَ } بفتح الدالِ فيه وجهان ، أظهرهما
: أنه صفةٌ لأَلْف أي أَرْدَف بعضُهم لبعض . والثاني : أنه حالٌ من ضمير المخاطبين
في » يمدُّكم « قال ابن عطية : » ويُحتمل أن يُراد بالمُرْدَفين المؤمنون أي :
أُرْدِفوا بالملائكة « وهذا نصٌّ فيما ذكرته من الوجه الثاني . وقال الزمخشري : »
وقرئ « مُرْدَِفين » بكسر الدال وفتحها مِنْ قولك : رَدِفه إذا تبعه ، ومنه قوله
تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، أي : رَدِفَكم ، وأَرْدَفْتُه إياه إذا
تَبِعْتَه ، ويقال : أَرْدَفته كقولك : اتَّبَعْته إذا جئت بعده ، فلا يخلُو
المكسورُ الدالِ مِنْ أن يكون بمعنى مُتْبِعين أو مُتَّبِعين . فإن كان بمعنى
مُتْبِعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعِيْن بعضَهم بعضاً ، أو مُتْبِعين
بعضهم لبعض ، أو بمعنى مُتْبعين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدَّمونهم فيُتْبعونهم
أنفسهم أو مُتْبِعين لهم يُشَيِّعونهم ويُقَدِّمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم
ليكونوا على أعينهم وحِفْظهم ، أو بمعنى مُتْبِعين أنفسهم ملائكةً آخرين ، أو
متبعين غيرهم من الملائكة . ويعضد هذا الوجهَ قولُه تعالى في سورة آل عمران
{
بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين } [ آل عمران : 124 ] { بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ
الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، ومن قرأ « مُرْدَفين » بالفتح فهو
بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين « .
قلت : وهذا الكلامُ على طوله شرحُه أنَّ » أَتْبع « بالتخفيف يتعدَّى إلى مفعولين
، و » اتَّبع « بالتشديد يتعدى لواحدٍ ، وأَرْدَف قد جاء بمعناهما ، ومفعولُه أو
مفعولاه محذوفٌ لفهم المعنى ، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به . إلا أنَّ الشيخ
عابَ عليه قوله » مُتْبِعين إياهم المؤمنين وقال : « هذا ليس من مواضعِ فَصْلِ
الضمير بل مما يتصل وتُحْذف له النون ، لا يقال : هم كاسون إياك ثوباً ، بل كاسوك
، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين أو مُتْبعين أنفسَهم المؤمنين » .
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ } : الهاء تعود على الإِمداد أي : وما جعل اللهُ الإِمدادَ . ثم هذا الإِمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله { أَنِّي مُمِدُّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] ، إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم . ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله « مُمِدُّكم » كما دلَّ عليه فِعْلُه في قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . وهذا الثاني أَوْلى لأنه مُتَأَتٍّ على قراءة الفتح والكسر في « إني » بخلاف الأول فإنه لا يتجه عَوْدُه على الإِمداد على قراءة الكسر إلا بتأويلٍ ذكره الزمخشري وهو أنه مفعولُ القول المضمر فهو في معنى القول . وقيل يعود على المَدَد قاله الزجاج . قال الواحدي : « وهذا أَوْلَى لأنَّ بالإِمداد بالملائكة كانت البشرى » . وقال الفراء : « إنه يعودُ على الإِرداف المدلول عليه بمردفين » . وقيل : يعودُ على الألف . وقيل : على الوعد المدلول عليه ب { يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . وقيل : على جبريل أو على الاستجابة ، لأنها مؤنث مجازي ، أو على الإِخبار بالإِمداد . وهي كلُّها محتملة وأرجحها الأولُ ، والجَعْل هنا تصييرٌ .
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قوله
تعالى : { إذ يَغْشاكم } : في « إذ » وجوه أحدها : أنه بدل من « إذ » في قوله : {
وَإِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . قال الزمخشري : « إذ يغشاكم بدلٌ ثانٍ من »
إذ يَعِدكم « . قوله : » ثان « لأنه أبدل منه » إذ « في قوله » إذ تَسْتغيثون «
ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء . الثاني : أنه منصوبٌ بالنصر . الثالث : ب {
مِنْ عِندِ الله } [ الأنفال : 10 ] من معنى الفعل . الرابع : ب { مَا جَعَلَهُ
الله } [ الأنفال : 10 ] . الخامس : بإضمار » اذكر « . ذكر ذلك الزمخشري . وقد
سبقه إلى الرابع الحوفيُّ .
وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها : أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ
المقرون بأل قال : » وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل . الثاني من الأوجه
المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله : « إلا من عند الله »
، ولو قلت : « ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً » لم يَجُزْ . الثالث : أنه عَمل ما قبل «
إلا » فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها ، لأنه لا يعمل ما قبلها
فيما بعدها إلا أن يكونَ مستثنى أو مستثنى منه أو صفةً له . وقد جوَّز الكسائي
والأخفش إعمالَ ما قبل « إلا » فيما بعدها مطلقاً ، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من
أنه أخبر عن الموصول قبل تمامِ صلته .
وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً/ بهذا الظرفِ ،
والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت . وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ
بهذا النصرِ نصرٌ خاص ، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف . وضعَّف
الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل « إلا » .
السادس : أنه منصوبٌ بقوله : « ولتطمئنَّ به » قاله الطبري . السابع : أنه منصوبٌ
بما دلَّ عليه « عزيز حكيم » قاله أبو البقاء . ونحا إليه ابن عطية قبله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « يَغْشاكم النعاسُ » . نافع : « يُغْشِيكم » بضم الياء
وكسر الشينِ خفيفةً . « النعاسَ » نصباً . والباقون « يُغَشِّيكم » كالذي قبله ،
إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى ، و « النعاس » فاعل .
وفي الثانية مِنْ « أغشى » ، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى ، وكذا في الثالثة مِنْ «
غَشَّى » بالتشديد . و « النعاس » فيهما مفعول به ، وأغشى وغشَّى لغتان .
قوله : « أَمَنَةً » في نصبِها ثلاثةُ [ أوجه ] أحدُها : أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي
: فَأَمِنْتُم أَمَنةً . الثاني : أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال :
إمَّا من الفاعل ، فإن كان الفاعلُ « النعاس » فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ ، وإن كان
الباريَ تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقةٌ ، وإمَّا من المفعولِ
على المبالغة أي : جَعْلهم نفسَ الأمنة ، أو على حَذْفِ مضاف أي : ذوي أمنة .
الثالث
: أنه مفعولٌ من أجله وذلك : إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على
الأولى ، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ
من الله تعالى ، والأمنةُ منه أيضاً ، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول
له . وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل « يغشى » النعاسُ ، وفاعل « الأمنة » الباري
تعالى . ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ
، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز .
وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال : « وأَمَنَةً » مفعولٌ له . فإن قلت : أما وجب أن
يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً؟ قلت : بلى ولكن لمَّا كان معنى «
يَغْشاكم النعاسُ » تَنْعَسون انتصب « أَمَنةً » على معنى : أنَّ النعاسَ
والأَمَنَة لهم ، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً « . ثم قال : » فإن قلت : هل يجوزُ
أن ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي هو يغشاكم أي : يَغْشاكم النعاسُ لأمنة ،
على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على
الحقيقة ، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن
لا يُقَدَّمَ على غشيانكم ، وإنما غَشَّاكم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم
يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل « . قلت : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله ، وله
فيه نظائرُ ، وقد ألمَّ به من قال :
2387 يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً ... تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ
وقوله : { مِنْه } في محلِّ نصبٍ صفةً ل » أَمَنَة « ، والضمير في » منه « يجوزُ
أن يعودَ على الباري تعالى ، وأَنْ يعودَ على النعاس بالمجاز المذكور آنفاً .
وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر » أَمْنَةً « بسكون الميم . ونظير أَمِنَ
أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة ، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً .
قوله : { مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ } العامَّةُ على » ماءً « بالمد . و » ليطهركم «
متعلِّقٌ ب » يُنَزِّل « . وقرأ الشعبي » ما ليطهركم « بألفٍ مقصورة ، وفيها
تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أنَّ » ما « بمعنى الذي ، و »
ليطهِّرَكم « صلتُها ، وقال بعضهم : تقديره : الذي هو ليطهركم ، فقدَّر الجارَّ
خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، والجملةُ صلة ل » ما « . وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن
لامَ » كي « لا تقعُ صلةً . والثاني : أن » ما « هو ماء بالمد ، ولكن العرب قد
حَذَفَتْ همزتَه فقالوا : » شربت ماً « بميم منونة ، حكاه ابن مقسم ، وهذا لا
نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد .
إذا
عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها ، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى
الوقف . ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ/ وهذه الألفُ
بدلٌ مِنَ الواو التي في « مَوَهَ » في الأصل ، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من
التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف . والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن
لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو « مُرٍ » اسم فاعل مِنْ أرى يُري .
قوله : « ويُذْهِبَ » نسقٌ على « ليطهِّركم » . وقرأ عيسى بن عمر « ويُذْهِبْ »
بسكون الباء ، وهو تخفيف سمَّاه الشيخ جزماً . والعامة على « رِجز » بكسرِ الراء
والزاي . وقرأ ابن محيصن بضم الراء ، وابنُ أبي عبلة بالسين . وقد تقدَّم الكلامُ
على كل واحد منها . ومعنى « رجز الشيطان » هنا ما ينشأُ عن وسوسته .
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
قوله
تعالى : { إِذْ يُوحِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ ثالث من قوله { وَإِذْ
يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . والثاني : أن ينتصب بقوله « ويثبِّتَ » ، قالهما
الزمخشري ، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير . وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد
الضمير في قوله « به » ، فقال : « العاملُ في » إذ « العاملُ الأول على ما تقدَّم
فيما قبلها ، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله » ويُثَبِّتَ « على تأويل عَوْده على
الرَّبط ، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل » ويثبت « في إذ »
، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر
وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ
النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال .
قوله : { أَنِّي مَعَكُمْ } مفعول ب « يوحي » ، أي : يوحي كوني معكم بالغلبة
والنصر . وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه « إني معكم » بكسرِ الهمزة . وفيه وجهان ،
أحدهما : أن ذلك على إِضمارِ القول ، وهو مذهب البصريين . والثاني : إجراء « يوحي
» مُجْرى القول لأنه بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين . قوله : { فَوْقَ الأعناق } فيه
أوجه ، أحدها : أن « فوق » باقيةٌ على ظرفيتها ، والمفعولُ محذوفٌ أي : فاضربوهم
فوق الأعناق ، عَلَّمَهم كيف يضربونهم . والثاني : أن « فوق » مفعولٌ به على
الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل : فاضربوا رؤوسَهم . وهذا ليس بجيدٍ لأنه
لا يَتَصَرَّف . وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول : فوقُك رأسُك برفع « فوقك
» ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال : « فوق الأعناق : أراد أعالي الأعناق التي
هي المذابح التي هي مفاصل » . الثالث : وهو قول أبي عبيدة أنها بمعنى على أي : على
الأعناق ، ويكون المفعول محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من
الأول . الرابع : قال ابن قتيبة : « هي بمعنى دون » . قال ابن عطية : « وهذا خطأ
بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش ، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] ، أي : فما دونها ، وليست » فوق « هنا بمعنى دون ،
وإنما المرادُ : فما فوقها في القلة والصغر . الخامس : أنها زائدة أي اضربوا
الأعناق وهو قول أبي الحسن ، وهذا عند الجمهورِ خطأ ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا
تجوز .
قوله : { مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوز أن يتعلَّق » منهم « بالأمر قبله أي :
ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم . ويجوز أن
يتعلَّق بمحذوف على أنه حال مِنْ » كلِّ بنان «؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً
له لو تأخَّر قال أبو البقاء : » ويَضْعُف أن يكون حالاً من « بنان » إذ فيه تقديمُ
حالِ المضاف إليه على المضاف « فكأن المعنى : اضربوهم كيف ما كان .
قال
الزمخشري : « يعني ضَرْبَ الهام » قال :
2388 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ
وقال :
2389 غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ ... عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ
فانفلقا
وقال ابن عطية : « ويُحتمل أن يريد بقوله : » فوق الأعناق « وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات
العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ، ودون عظم الرأس » ، ثم قال : « منه
قوله :
2390 جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه ... وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا »
وقيل : هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة : /
2391 عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما ... خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم
والبَنان : قيل الأصابع ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد بَنانة قال عنترة :
2392 وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما ... وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني
وقال أبو الهيثم : « البنان : المفاصِلُ ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة » . وقيل :
البَنان : الأصابعُ من اليدين والرجلين . وقيل : الأصابع من اليدين والرِّجلين
وجميع المَفَاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة :
2393 وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها ... ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ
وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً . قال رؤبة :
2394 يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ ... وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
قوله
تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ } : مبتدأ وخبر؟ والإِشارةُ إلى الأمر بضَرْبهم ،
والخطابُ يجوز أن يكون للرسول ، ويجوز أن يكونَ للكفار ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً
. كذا قال الشيخ وفيه نظر لوجهين أحدهما : أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب
الواحد وهو ممتنعٌ أو قليل ، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة . والثاني : أن بعده « بأنهم
شاقُّوا » فيكون التفتَ من الغَيْبة إلى الخطاب في كلمة واحدة ، ثم رَجَع إلى
الغَيْبة في الحال وهو بعيد .
قوله : { وَمَن يُشَاقِقِ الله } « مَنْ » مبتدأ والجملة الواقعة بعدها خبرها أو
الجملة الواقعة جزاءً أو مجموعهما . ومَنْ التزم عَوْدَ ضميرٍ مِنْ جملةِ الجزاء
على اسم الشرط قدَّره هنا محذوفاً تقديرُه : فإنَّ الله شديدُ العقاب له . واتفق
القراءُ على فَكِّ الإِدغام هنا في « يُشاقِق » لأن المصاحفَ كَتَبَتْه بقافين
مفكوكَتَيْن ، وفكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز ، والإِدغامُ بشروطه لغة تميم .
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
قوله
تعالى : { ذلكم فَذُوقُوهُ } : يجوز في « ذلكم » أربعةُ أوجه أحدها : أن يكونَ
مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر أي : العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم . الثاني : أن يرتفعَ
بالابتداء والخبرُ محذوفٌ أي : ذلكُ العقابُ . وعلى هذين الوجهين فيكون قولُه «
فذوقوه » لا تَعَلُّق لها بما قبلها مِنْ جهة الإِعراب . والثالث : أن يرتفع
بالابتداء ، والخبرُ قوله : « فذوقوه » ، وهذا على رأي الأخفش فإنه يرى زيادة الفاء
مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشرط أم لا ، وأما غيرُه فلا يُجيز
زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرط ، وقد قَدَّمْتُ تقريرَه غير
مرة . واستدلَّ الأخفش على جواز ذلك بقول الشاعر :
2395 وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما
هيا
وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره : هذه خولان . الرابع : أن يكون منصوباً
بإضمار فعل يُفَسِّره ما بعده ، ويكون من باب الاشتغال . وقال الزمخشري : ويجوز أن
يكون نصباً على « عليكم ذلكم » كقوله : زيداً فاضربه « . قال الشيخ : » ولا
يَصِحُّ هذا التقدير لأنَّ « عليكم » من أسماء الأفعال ، وأسماءُ الأفعالِ لا
تُضْمَر ، فتشبيهُه بقولك : « زيداً فاضرِبْه » ليس بجيد ، لأنهم لم يُقَدِّروه ب
« عليك زيداً فاضربه » وإنما هذا منصوبٌ على الاشتغال « ، قلت : يجوز أن يكون نحا
الزمخشري نَحْوَ الكوفيين ، فإنهم يُجرونه مُجْرى الفعل مطلقاً ، وكذلك يُعْملونه
متأخراً نحو : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
وقال أبو البقاء : » ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي : ذوقوا ذلكم ، ويُجْعَلَ
الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له ، والأحسن أن يكون التقدير : باشروا ذلكم فذوقوه
لتكون الفاءُ عاطفةً « . قلت : ظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون
مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه ، وأيضاً
فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند
قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
قوله : { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار } الجمهور على فتح » أنَّ « وفيها
تخريجات ، أحدها : أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ
تقديره : حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين . والثاني : أنها خبر مبتدأ محذوف
أي : الحتم/ أو الواجب أن للكافرين ، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار . الثالث :
أن تكون عطفاً على » ذلكم « في وجهَيْه ، قاله الزمخشري ، ويعني بقوله » في وجهيه
« ، أي : وجهي الرفع وقد تقدَّما . الرابع : أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة ،
قال الزمخشري : » أو نصب على أن الواو بمعنى مع ، والمعنى : ذوقوا هذا العذابَ
العاجلَ مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر « يعني بقوله »
وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر « أن أصلَ الكلام : فذوقوه وأن لكم ، فوضع » للكافرين
« موضعَ » لكم « ، شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة . الخامس : أن يكون
في محل نصب بإضمار اعلموا ، قال الشاعر :
2396 تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً ... ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا
أي : وترى لليدين بَدَداً ، فأضمر » ترى « ، كذلك فذوقوه : واعلموا أنَّ للكافرين
. وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ وقال : » لو جاز هذا لجاز : « زيد قائم وعمراً
منطلقاً » ، أي : وترى عمراً منطلقاً ، ولا يُجيزه أحد « .
وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
قوله
تعالى : { زَحْفاً } : فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك الناصب
له في محل نصب على الحال ، والتقدير : إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين زحفاً ، أو
يزحفون زحفاً . والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ثم اختلفوا في صاحبِ الحال
فقيل : الفاعل ، أي : وأنتم زَحْف من الزحوف ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم
قليلاً قليلاً على حَسَب ما يُفَسَّر به الزَّحْف وسيأتي . وقيل : هو المفعول أي :
وهم جمٌّ كثير أو يمشون إليكم . وقيل : هي حالٌ منهما أي : لقيتموهم متزاحِفين
بعضَكم إلى بعض .
والزَّحْفُ : الدنوُّ قليلاً قليلاً يقال : زَحَف يَزْحَف إليه بالفتح فيهما فهو
زاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحف وأَزْحَفَ لنا عدوُّنا أي : دَنَوا
لقتالنا . وقال الليث : « الزَّحْفُ : الجماعة يمشون إلى عدوِّهم ، قال الأعشى :
2397 لِمَنِ الظعائنُ سَيَّرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مثلَ السَّفِينِ إذا تقاذَفُ
تَجْدِفُ
وهذا من باب إطلاق المصدر على العين . والزَّحْفُ : الدبيب أيضاً مِنْ » زَحَفَ
الصبيُّ « ، قال امرؤ القيس :
2398 فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ ... فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ
ويجوز جمعُه على زُحوف ومَزاحِف ، لاختلاف النوع ، قال الهذلي :
2399 كأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيه ... قبيل الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ
ومَزاحِف جمع مَزْحَف اسمَ المصدر .
قوله : » الأَدْبار « مفعول ل » تُوَلُّوهم « .
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
وكذا
{ دُبُرَه } مفعول ثان ل { يُوَلِّهم } : وقرأ الحسن بالسكون كقولهم « عُنْق » في
عُنُق ، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ مِنْ فاعلها فأتى
بلفظ الدُّبُر دون الظَّهر لذلك . وبعضهم من أهل علم البيان سَمَّى هذا النوع
كنايةً وليس بشيء .
قوله : { إلا مُتَحرِّفاً } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه حال . والثاني : أنه
استثناء . وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال : « فإن قلت : بمَ انتصبَ » إلا متحرِّفاً
«؟ قلت : على الحال ، و » إلا « لغوٌ ، أو على الاستثناء من المُوَلِّين ، أي :
ومَنْ يُوَلِّهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً » . قال الشيخ : « لا يريد
بقوله » إلا لغوٌ « أنها زائدة ، بل يريد أن العامل وهو » يُوَلِّهم « وَصَلَ لِما
بعدها كقولهم في نحو » جئت بلا زاد « إنها لغو ، وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال
محذوفة والتقدير : ومَنْ يُوَلِّهم مُلْتبساً بأية حال إلا في حال كذا ، وإن لم
تُقَدَّر حالٌ عامةٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ » إلا « لأنَّ الشرطَ عندهم واجبٌ ،
والواجبُ حكمُه أن لا تدخلَ » إلا « فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات ،
لأنه استثناءٌ مفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي ،
أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤَوَّل » ، قلت : قوله : « لا في
المفعول ولا في غيره من الفَضَلات » لا حاجةَ إليه؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يدخل
في الإِيجابِ مطلقاً سواءً كان ما بعد « إلا » فَضْلَةً أم عمدةً ، فَذِكْرُ
الفَضْلةِ والمفعول/ يوهم جوازَه في غيرهما .
وقال ابن عطية : « وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم » مَنْ
« . فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء . وقال جماعة : إن الاستثناء من أنواع
التولِّي . وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ : إلا
تحيُّزاً أو تحرُّفاً .
والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ : الانضمام . وتحوَّزَت الحَيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ
الشيء : ضَمَنْتُه . والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ . ووزنُ متحيِّز :
مُتَفَيْعِل ، والأصل : مُتَحَيْوِز . فاجتمعت الياء والواو وسبقَتْ إحداهما
بالسكون فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمت في الياء بعدها كمَيِّت . ولا يجوز أن يكون
مُتَفَعِّلاً لأنه لو كان كذا لكان متحوُّزاً ، فأمَّا متحوِّز فمتفعِّل .
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قوله
تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } : في هذه الفاء وجهان أحدهما وبه قال الزمخشري :
أنها جوابُ شرطٍ مقدر أي : إن افتخرتم بقَتْلهم فَلَمْ تقتلوهم « ، قال الشيخ : »
وليست جواباً بل لرَبْطِ الكلام بعضِه ببعض « .
قوله : { ولكن الله قَتَلَهُمْ } قرأ الأخَوان وابن عامر » ولكن الله قَتَلهم « »
ولكن الله رمى « بتخفيف » لكن « ورفع الجلالة ، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة .
وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله { ولكن الشياطين } [ البقرة : 104 ]
. وجاءت هنا » لكن « أحسن مجيْءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات ، وقوله : { وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } نفى عنه الرَّميَ وأثبته له ، وذلك باعتبارين : أي : ما
رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهر الحال ، أو ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في
قلوبهم إذ رَمَيْت الحَصَيَات والتراب . وقوله : » وما رَمَيْتَ « هذه الجملة عطفٌ
على قوله » فلم تقتلوهم « لأنَّ المضارع المنفي ب لم في قوة الماضي المنفي ب » ما
« ، فإنك إذا قلت : » لم يَقُم « كان معناه ما قام . ولم يقل هنا : فلم تقتلوهم إذ
قتلتموهم ، كما قال : » إذ رَمَيْت « مبالغةً في الجملة الثانية .
قوله : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } ، متعلِّقٌ بمحذوف أي : وليبليَ فَعَلَ ذلك . أو
يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة أي : ولكن الله رَمَى ليمحق الكفار وليُبْلي
المؤمنين . والبلاء في الخير والشر . قال زهير :
2400 . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو
والهاءُ في » منه « تعود على الظفر بالمشركين . وقيل : على الرمي قالهما مكي . والظاهر
أنها تعود على الله تعالى .
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قوله
تعالى : { ذلكم } : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي : ذلكم الأمر ، والخبرُ محذوف
قاله الحوفي ، والأحسنُ أن يُقَدَّر الخبر : ذلكم البلاءُ حقٌّ وَحَتْمٌ . وقيل :
هو خبر مبتدأ ، أي : الأمر ذلكم وهو تقدير سيبويه . وقيل : محلُّه نصب بإضمار
فِعْلٍ أي : فَعَل ذلك . والإِشارةُ ب « ذلكم » إلى القتل والرمي والإشبلاء .
وقوله « بلاءً » يجوز أن يكونَ اسمَ مصدر أي إبلاء ، ويجوز أن يكون أريد بالبلاء
نفسُ الشيء المبلوِّ به .
قوله : { وَأَنَّ الله } يجوز أن يكون معطوفاً على « ذلكم » فيُحكم على محلِّه بما
يُحْكَمُ على محلِّ « ذلكم » وقد تقدَّم ، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي
: واعلموا أن الله ، وقد تقدَّم ما في ذلك . وقال الزمخشري : « إنه معطوفٌ على »
وليُبْلي « ، يعني أن الغرضَ إبلاء المؤمنين وتوهينُ كيد الكافرين » .
وقرأ ابن عامر والكوفيون « مُوْهِن » بسكون الواو وتخفيف الهاء مِنْ أوهن كأكرم .
ونَوَّن « موهن » غيرُ حفص . وقرأ الباقون « مُوَهِّن » بفتح الواو وتشديد الهاء
والتنوين . ف « كيد » منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص ، ومخفوضٌ في قراءةِ
حَفْص ، وأصلُه النصب . وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثر لأن ما عينُه حرفُ حلقٍ
غيرَ الهمزة تعديتُه بالهمزة ، ولا يُعَدَّى بالتضعيف إلا كَلِمٌ محفوظة نحو :
وهَّنْتُه وضَعَّفْتُه .
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قوله
تعالى : { وَلَن تُغْنِيَ } : قرأ الجمهور بالتاء من فوق لتأنيث الفئة . وقرئ «
ولن يُغْني » بالتاء من تحت لأن تأنيثه مجازي وللفصلِ أيضاً . « ولو كَثُرَت » هذه
الجملةُ الامتناعية حالية ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح
والباقون بالكسر . فالفتح من أوجه أحدها : أنه على لام العلة تقديره : ولأن الله
مع المؤمنين كان كيت وكيت . والثاني : أنَّ التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع
عنادهم . والثالث : أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أن الله مع المؤمنين .
وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَوَلَّوْا } : الأصل : تَتَوَلَّوا/ فحذف إحدى التاءين . وقد
تقدَّم الخلاف في أيهما المحذوفة .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } جملةٌ حالية ، والضمير في « عنه » يعود على
الرسول؛ لأن طاعته من طاعة الله . وقيل : يعود على الله وهذا كقوله تعالى : {
والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] . وقيل : يعود على
الأمر بالطاعة .
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
وقوله
تعالى : { الصم } : إنما جُمِع « الصُمُّ » وهو خبر « شر » لأنه يُراد به الكثرةُ
، فجُمع الخبر على المعنى ، ولو كان الأصم لكان الإِفرادُ على اللفظ ، فالمعنى على
الجمع .
وقوله : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } يجوز رفعُه أو نصبه على القطع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قوله
تعالى : { بَيْنَ المرء } : العامَّةُ على فتح الميم ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرِها
على إتباعها لحركة الهمزة وذلك أن في « المَرْء » لغتين أفصحُهما على فَتْح الميم
مطلقاً . والثانية بإتباع الميم لحركة الإِعراب ، فتقول : هذا مُرْءٌ بضم الميم
ورأيت مَرْءاً بفتحها ، ومررت بمِرْءٍ بكسرها . وقرأ الحسن والزهري بفتح الميم
وتشديد الراء . وتوجيهُها أن يكون نَقَلَ حركة الهمزة إلى الراء ، ثم ضَعَّف الراء
وأجرى الوصل مُجْرى الوقف .
قوله : « وأنه » يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن ، وأن تعودَ على الله تعالى
، وهو الأحسنُ لقوله « الله » .
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قوله
تعالى : { لاَّ تُصِيبَنَّ } : في « لا » وجهان ، أحدهما أنها ناهيةٌ ، وعلى هذا
فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً ل « فتنة »؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً ،
ويجوز أن تكون معمولة لقول ، ذلك القولُ هو الصفةُ أي : فتنةً مقولاً فيها : لا
تصيبنَّ . والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين ، وهو في المعنى كقولهم
: لا أُرَيَنَّك ههنا أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ
ظالمَكم . ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها . ونظيرُ إضمار القولِ قولُه :
2401 جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ ... أي : مقول فيه : هل رأيت . والثاني :
أن « لا » نافية ، والجملةُ صفةٌ ل « فتنة » وهذا واضحٌ من هذه الجهة ، إلا أنه
يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط ، وفيه خلافٌ : هل يَجْري
النفيُ ب « لا » مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم ، واستشهد بقوله :
2402 فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها ... ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ
مُحَوَّلُ
وقال آخر :
2403 فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه ... وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى
ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه ... فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى
فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ ب « لا » مع انفصاله فلأَنْ يؤكَّد المنفيُّ غيرُ
المفصولِ بطريق الأَوْلى . إلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة .
وزعم الفراء أنَّ « لا تصيبَنَّ » جواب للأمر نحو : « انزلْ عن الدابة لا
تَطْرَحَنَّك » ، أي : إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك ، ومنه قوله { لاَ
يَحْطِمَنَّكُمْ } بالنمل : 18 ] ، أي : إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم ، فدخلت
النونُ لِما فيه من معنى الجزاء . قال الشيخ : « وقوله : لا يَحْطِمَنَّكم وهذا
المثالُ ليس نظيرَ » فتنةً لا تصيبنَّ الذين « لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ
وجزاءٌ كما قَدَّر ، ولا ينتظم ذلك هنا ، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير : إنْ
تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا ، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة
المعنى » .
قال الزمخشري : « لا تصيبنَّ » : لا يخلو : إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً
بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة . فإذا كانت جواباً فالمعنى : إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ
الظالمين منكم خاصة ، بل تَعُمُّكم « ، قال الشيخ : » وأخذ الزمخشري قولَ الفراء
فزاده فساداً وخَبَط فيه « ، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال : » فانظر إليه كيف قدَّر
أن يكون جواباً للأمر الذي هو « اتقوا » ، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير
مضارع « اتقوا » فقال : المعنى : إن أصابَتْكم ، يعني الفتنة . وانظر كيف قدَّر
الفراء : انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك ، وفي قوله :
{
ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] ، فأدخل أداةَ شرطٍ
على مضارع فعل الأمر وهكذا [ يُقَدَّر ] ما كان جواباً للأمر « .
وقيل : » لا تصيبنَّ « جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي : فتنة
واللهِ لا تصيبنَّ . ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ . وقال : أبو البقاء :
» ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ « ، وظاهرُ هذا أنه إذا كان
النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ ، وليس كذلك .
وقيل : إن اللامَ لامُ التوكيد ، والفعلُ بعدها مثبتٌ ، وإنما مُطِلت اللام ، أي :
أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً ، فدخول النون فيها قياسٌ . / وتأثَّر هذا
القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة » لتصيبَنَّ « وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود
وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز . وممن وَجَّه ذلك ابن
جني . والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ
العامَّة ، فقال : » ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من «
لا » يعني حُذِفَتْ ألفُ « لا » تخفيفاً ، واكتُفي بالحركة « ، قال : » كما قالوا
: أمَ والله يريدون : أما والله « . قال المهدوي : » كما حُذِفت مِنْ « ما » وهي
أختُ « لا » في نحو « أما والله لأفعلنَّ » وشبهه . قوله « أخت لا » ليس كذلك لأن
« أما » هذه للاستفتاحِ ك « ألا » ، وليست مِنَ النافية في شيءٍ ، فقد تحصَّل من
هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى ، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة
، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي
إلى التعمية .
وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة : « لا تصيبنَّ » : « إنْ الكلامَ
قد تَمَّ عند قوله » فتنة « وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين ، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ
خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة . والمرادُ هنا : لا يتعرَّض
الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة » .
قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه : « وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل :
واحذروا ذنباً أو عقاباً ، ثم قيل : لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ
الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة » .
وقال علي بن سليمان « هو نَهْيٌ على معنى الدعاء ، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء
لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز ، فيصير المعنى : لا أصابَتْ
ظالماً ولا غيرَ ظالم ، فكأنه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ » . وقد
تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال : النهي بتقديرَيْه ،
والدعاء بتقديريْه ، والجواب للأمر بتقديريه ، وكونِها صفةً بتقدير القول .
قوله
: { مِنْكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها للبيان مطلقاً . والثاني : أنها
حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف ، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ ، وللبيان على تقدير
آخر فقال : « فإن قلت : ما معنى » مِنْ « في قوله » الذين ظلموا منكم «؟ قلت :
التبعيضُ على الوجه الأول ، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة
على ظلمكم ، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس » . قلت : يعني بالأولِ
كونَه جواباً لأمر ، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ . وفي تخصيصه التبعيض بأحد
الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع
التبعيضِ والبيان .
قوله : { خَاصَّةً } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ
المستكنِّ في قوله : « لا تصيبنَّ » ، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره :
إصابةً خاصة . الثاني : أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره : لا تصيبنَّ
الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم . والثالث : أنه حالٌ من فاعل « ظلموا »
قاله ابن عطية . قال الشيخ : « ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ » . قلت : ولا أدري ما
عَدَمُ تَعَقُّلِه؟ فإن المعنى : واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم
غيرُهم ، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ
إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة ، وهذا معنًى واضح .
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قوله
تعالى : { إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أوضحها : أنه ظرف ناصبه
محذوف تقديره : واذكروا حالكم الثابتة في وقت قلَّتكم ، قاله ابن عطية . والثاني :
أنه مفعول به . قال الزمخشري : « نصبٌ على أنه مفعولٌ به مذكورٌ لا ظرفٌ/ أي : اذكروا
وقتَ كونِكم أقلةً أذلةً . وفيه نظر لأن » إذ « لا يُتَصَرَّف فيها إلا بما ذكرته
فيما تقدم ، وليس هذا منه . الثالث : أن يكون ظرفاً ل » اذكروا « قاله الحوفي وهو
فاسدٌ ، لأن العاملَ مستقبلٌ ، والظرفُ ماضٍ ، فكيف يتلاقيان؟
قوله : { تَخَافُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها : أنه خبرٌ ثالثٌ . والثاني : أنه
صفةٌ ل » قليل « وقد بُدئ بالوصفِ بالمفرد ثم بالجملة . والثالث : أن يكونَ حالاً
من الضمير المستتر في » مُسْتَضْعَفُون « .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
قوله
تعالى : { وتخونوا } : يجوز فيه أن يكونَ منصوباً بإضمار « أَنْ » على جواب النهي
أي : لا تجمعوا بين الجنايتين كقوله :
2404 لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه ... عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ
والثاني : أن يكونَ مجزوماً نسقاً على الأول ، وهذا الثاني أَوْلى؛ لأنه فيه
النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته بخلاف ما قبله ، فإنه نهيٌ عن الجمع بينهما ، ولا
يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته . وقد
تقدَّم تحريرُ هذا في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] أولَ البقرة
.
و « أماناتِكم » على حَذْف مضاف أي : أصحابَ أماناتكم . ويجوز أن يكونوا نُهوا عن
جناية الأماناتِ مبالغةً كأنها جُعِلت مخونةً . وقرأ مجاهد ورُوِيت عن أبي عمرو «
أمانتكم » بالتوحيد والمرادُ الجمع .
« وأنتم تعلمون » جملة حالية ، ومتعلَّقُ العلم يجوز أن يكون مراداً أي : تعلمونَ
قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها . ويجوز ألاَّ يُقَدَّر أي : وأنتم من ذوي العلم .
والعلمُ يُحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكونَ بمعنى العرفان .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وتقدَّم
الكلامُ على « الفرقان » أول البقرة والمراد به هنا المُخْرج من الضلال ، أو الشيء
الفارق بين الحق والباطل ، قال مزرد ابن ضرار :
2405 بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا ... أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا
وقال آخر :
2406 ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ ... بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا
وقال آخر :
2407 وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي ... وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قوله
تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ } : هذا الظرفُ معطوفٌ على الظرف قبله ، و « ليُثْبتوك
» متعلِّقٌ ب « يَمْكُرُ » . والتثبيتُ هنا الضربُ حتى لا يبقى للمضروبِ حركةٌ قال
:
2408 فقلت وَيْحَكَ ماذا في صحيفتكمْ ... قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وجِعا
وقرأ ابن وثاب « لِيُثَبِّتوك » فعدَّاه بالتضعيف . وقرأ النخعي « ليُبَيِّتُوك »
من البيات .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
قوله
تعالى : { هُوَ الحق } : العامَّةُ على نصب « الحق » وهو خبر الكون و « هو » فصل ،
وقد تقدَّم الكلامُ عليه مُشْبعاً . وقال الأخفش : « هو » زائد ، ومرادُه ما
تقدَّم من كونِه فصلاً . وقرأ الأعمش وزيد بن علي برفع « الحق » ، ووجهُها ظاهرٌ
برفع « هو » بالابتداء و « الحق » خبره ، والجملةُ خبرُ الكون كقوله :
2409 ... تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تركتَها
وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ ... وهي لغةُ تميم . وقال ابن عطية : « ويجوز في العربية
رفع » الحق « على خبر » هو « والجملةُ خبرٌ ل » كان « . وقال الزجاج : » ولا أعلم
أحداً قرأ بهذا الجائزِ « . قلت : قد ظهر مَن قرأ به وهما رجلان جليلان .
وقوله : { مِنْ عِندِكَ } حالٌ من معنى الحق أي : الثابت حالَ كونه مِنْ عندك .
وقوله { مِّنَ السمآء } فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ بالفعل قبله . والثاني :
أنه صفة لحجارة فيتعلقُ بمحذوفٍ . وقولهم » من السماء « مع أن المطر لا يكون إلا
منها ، قال الزمخشري : » كأنه أراد أن يقال : فأمْطر علينا السِّجِّيلَ ، فوضعَ «
حجارة من السماء » موضعَه ، كما يقال : « صبَّ عليه مسرودةً من حديد » تريد : «
درعاً » ، قال الشيخ : « إنه يريد بذلك التأكيد » ، قال : « كما أن قوله » من حديد
« معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا
من السماء » . وقال ابن عطية : « قولهم من السماء مبالغة وإغراق » . قال الشيخ : «
والذي يظهر أنَّ حكمةَ قولِهم من السماء هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة
التي ذَكَر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي : إنك تذكر أن الوحيَ يأتيك
مِن السماء فَأْتِنا بالعذابِ من الجهة التي يأتيك الوحي منها قالوه استبعاداً له
» .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
قوله
تعالى : { لِيُعَذِّبَهُمْ } : قد تقدَّم الكلامُ على هذه اللام المسماة لام
الجحود . والجمهورُ على كسرها . وقرأ أبو السمال بفتحها قال ابن عطية عن أبي زيد :
« سمعت من العرب مَنْ يقول : » لَيعذبهم « بفتح اللام ، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا
مستعملةٍ في القرآن » ، قلت : يعني في المشهور منه ولم يَعْتَدَّ بقراءة أبي
السمال « . وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فتحَ كلِّ لامٍ/ عن بعض العرب إلا في »
الحمد لله « . وروى عبد الوارث عن أبي عمرو فَتْحَ لامِ الأمرِ من قوله {
فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } [ عبس : 24 ] .
وأتى بخبر » كان « الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية ، فإنه : إمَّأ أن يكونَ
محذوفاً وهو الإِرادة كما يقدِّره البصريون أي : ما كان الله مُريداً لتعذيبهم ،
وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب ، وإمَّا أنه أكَّده باللام على رأي
الكوفيين لأنَّ كينونَته فيهم أبلغُ من استغفارهم فشتَّان بين وجودِه عليه السلام
فيهم وبين استغفارِهم .
وقوله : { وَأَنتَ فِيهِمْ } حال ، وكذلك { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } . والظاهر أن
الضمائرَ كلَّها عائدةً على الكفار وقيل : الضمير في » يُعَذِّبهم « و »
مُعَذِّبهم « للكفار ، والضمير من قوله » وهم « للمؤمنين . وقال الزمخشري : » وهم
يستغفرون « في موضع الحال ، ومعناه نفيُ الاستغفارِ عنهم أي : ولو كانوا ممَّن
يؤمن ويَسْتغفر من الكفر لَمَا عذَّبهم كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 114 ] ولكنهم لا
يَسْتغفرون ولا يؤمنون ولا يُتوقَّع ذلك منهم » وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن
قتادة وأبي زيد واختاره ابنُ جرير .
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قوله
تعالى : { أن لا يُعَذِّبَهُمُ } : في « أن » وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنها
مصدريةٌ ، وموضعها : إمَّا نصبٌ أو جرٌّ لأنها على حذف حرف الجر؛ إذ التقدير : في
أن لا يعذبهم . وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّق به « لهم » من الاستقرار .
والتقدير : أيُّ شيء استقرَّ لهم في عدم تعذيبِ اللهِ إياهم ، بمعنى لا حظَّ لهم
في انتفاء العذاب . والثاني : أنها زائدةٌ وهو قول الأخفش . قال النحاس : « لو
كانت كما قال لَرَفع » يُعَذِّبهم « . يعني النحاس فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على
أنه واقعٌ موقعَ الحال كقوله : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } [ المائدة : 84
] ، ولكن لا يلزم من الزيادة عدمُ العمل ، ألا ترى أن » مِنْ « والباء تعملان وهما
مزيدتان . وقال أبو البقاء : » وقيل : هو حال وهو بعيد؛ لأنَّ « أَنْ » تُخَلِّص
الفعلَ للاستقبال « . والظاهر أن » ما « في قوله » وما لهم « استئنافية ، وهو
استفهامٌ معناه التقرير أي : كيف لا يُعَذَّبون وهم متصفون بهذه الحال؟ وقيل : »
ما « نافية فهي إخبارٌ بذلك أي ليس عدمُ التعذيب ، أي : لا ينتفي عنهم التعذيبُ مع
تلبُّسِهم بهذه الحال .
قوله : { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ } في هذه الجملةِ وجهان أحدهما : أنها
استئنافيةٌ ، والهاء تعود على المسجد أي : وما كانوا أولياءَ المسجد . والثاني :
أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي » وهم يَصُدُّون « والمعنى : كيف لا
يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن : صَدِّهم عن المسجد الحرام
وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى ، أي : لم
يكونوا أولياءَ الله .
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } : أي : ما كان شيءٌ مِمَّا يَعُدُّونه
صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلين وهما المُكاء والتَّصْدية ، أي : إن كان لهم صلاةٌ
فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر :
2410 وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه ... أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا
فأقام القيود والسِّياط مُقام العطاء .
والمُكاء : مصدر مَكا يمكو ، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه ، قال الأصمعي :
« قلت لمسجع بن نبهان : ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه
ونفخ فيها . قلت : يريد قول عنترة :
2411 وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً ... تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ
يقال : مَكَتِ الفَريصة ، أي : صَوَّتَتَ بالدم . ومكت اسْتُ الدابة ، أي : نفخت
بالريح . وقال مجاهد : المُكَّاء : صفير على لحنِ طائرٍ أبيضَ يكون بالحجاز قال
الشاعر :
2412 إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ ... فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات
المُكَّاء فُعَّال بناء مبالغة . قال أبو عبيدة : » يقال مكا يمكو مُكُوَّاً ومُكاءً
: صَفَر ، والمُكاء بالضم كالبُكاء والصُّراخ . قيل : ولم يشذَّ من أسماء الأصوات
بالكسرِ إلا الغِناء والنِّداء .
والتَّصْدِية فيها قولان أحدهما : أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت
في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه : صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة ، والمراد بها
هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى . وفي التفسير : أن
المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ويتلو القرآن
صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه
قراءته . وهذا مناسبٌ لقوله : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] / . وقيل : هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدَة
وهي الضجيج والصِّياحُ والتصفيق ، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً ، ويدلُّ
عليه قولُه تعالى : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] في
قراءة مَنْ كسر الصاد أي : يضجُّون ويَلْغَطون . وهذا قول أبي عبيدة . وقد ردَّه
عليه أبو جعفر الرُّسْتمي ، وقال : « إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من
المضعَّف »؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال : « قد ثبت أنَّ يَصُدُّون
مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه ، وتَصْدِية تَفْعِلَة » ، ثم ذكر كلاماً كثيراً .
والثاني : أنها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل : تَصْدِدَة بدالين أيضاً ، فأُبْدِلت
ثانيتهما ياءً . ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ « يَصُدُّون » بالضم أي : يمنعون .
وقرأ العامَّةُ « صلاتُهم » رفعاً ، « مُكاءً » نصباً ، وأبان بن تغلب والأعمش
وعاصم بخلافٍ عنهما « وما كان صلاتَهم » نصباً ، « مكاءٌ » رفعاً . وخطَّأ الفارسي
هذه القراءةَ وقال : « لا يجوز أن يُخْبر عن النكرةِ بالمعرفةِ إلا في ضرورة كقول
حسان :
2413 كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ ... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وخرَّجها أبو الفتح على أن المُكاء والتصدية اسما جنس ، يعني أنهما مصدران قال : »
واسم الجنس تعريفُه وتنكيره متقاربان فلِمَ يُقال ثانيهما جُعل اسماً والآخر
خبراً؟ وهذا يَقْرُب من المعرَّف بأل الجنسية حيث وُصِف بالجملة ، كما يُوصف به
النكرة كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37
] ، وقولِ الآخر :
2414 ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني
وقال بعضهم : « وقد قرأ أبو عمرو » إلا مُكاً « بالقصر والتنوين ، وهذا كما قالوا
: بكاء وبُكى بالمد والقصر . وقال الشاعر فجمع بين اللغتين :
2415 بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها ... وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قوله
تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث } : قد تقدَّم الخلافُ فيه في آل عمران . وقوله :
« ويَجْعل » : يحتمل أن تكون تصييريةً فتنصبَ مفعولين ، وأن تكونَ بمعنى الإِلقاء
فتتعدَّى لواحد ، وعلى كلا التقديرين ف « بعضه » بدلُ بعضٍ من كل ، وعلى القول
الأول يكون « على بعض » في موضع المفعول الثاني ، وعلى الثاني يكون متعلقاً بنفس
الجَعْل نحو قولك : « ألقيْتَ متاعك بعضَه على بعض » . وقال أبو البقاء بعد أن حكم
عليها بأنها تتعدَّى لواحد : « وقيل : الجار والمجرور حالٌ تقديرُه : ويجعل الخبيث
بعضه عالياً على بعض » .
واللام في « ليميز » متعلقة بيُحْشَرون . ويقال : مَيَّزته فتميَّزَ ، ومِزْتُه
فانماز . وقرئ شاذاً { وانمازوا اليوم } [ يس : 59 ] ، وأنشد أبو زيد :
2416 لمَّا نبا اللهُ عني شرَّ غَدْرتِه ... وانْمِزْتُ لا مُنْسِئاً غَدْراً ولا
وَجِلا
وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران .
قوله : { فَيَرْكُمَهُ } نسقٌ على المنصوب قبله . والرَّكْمُ : جَمْعُك الشيءَ فوق
الشيء حتى يَصير رُكاماً ومَرْكوماً ، كما يُركم الرمل والسحاب ، ومنه {
يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] . والمُرْتَكم : جادَّة الطريق
للرَّكْم الذي فيه ، أي : ازدحام السَّابلة وآثارهم . و « جميعاً » حال . ويجوز أن
يكونَ توكيداً عند بعضهم .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قوله
تعالى : { لِلَّذِينَ كفروا } : في هذه اللام الوجهان المشهوران : إمَّا التبليغُ
، أَمَرَ أن يبلِّغهم معنى هذه الجملةِ المحكيةِ بالقول ، وسواءً أوردها بهذا
اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍ لمعناها . والثاني : أنها للتعليل وبه قال الزمخشري ومنع
أن تكون للتبليغ فقال : « أي : قل لأجلهم هذا القولَ إن ينتهوا ، ولو كان بمعنى
خاطبهم به لقيل : إن تَنْتَهوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود ، ونحوه : { وَقَالَ
الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ } [
الأحقاف : 11 ] خاطبوا به غيرَهم [ لأجلهم ] ليسمعوه » .
وقرئ « يَغْفر » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير يعود على الله تعالى .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
قوله تعالى : / « { وَيَكُونَ } : العامةُ على نصبِه نسقاً على المنصوب قبله . وقرأه الأعمشُ مرفوعاً على الاستئناف . وقرأ الحسن ويعقوب وسليمان بن سلام » بما تَعْملون « بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة .
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
قوله تعالى : { أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى } : يجوز في « مولاكم » وجهان ، أظهرُهما : أنَّ « مولاكم » هو الخبر و « نِعْم المولى » جملةٌ مستقلة سِيْقَتْ للمدح . والثاني : أن تكون بدلاً من « الله » والجملةُ المَدْحِيَّةُ خبر ل « أن » والمخصوصُ بالمدح محذوف أي : نِعْم المولَى اللهُ أو ربكم .
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قوله
تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } : الظاهرُ أن « ما » هذه موصولةٌ بمعنى
الذي ، وكان مِنْ حقها أن تُكتب منفصلةً من « أنَّ » كما كُتِبَتْ { إِنَّ مَا
تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلةً ولكن كذا رُسِمت . و « غَنِمْتم »
صلتُها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي : غَنِمْتموه . وقوله : { فأنَّ الله }
الفاءُ مزيدةٌ في الخبر ، لأن المبتدأ ضُمِّن معنى الشرط ، ولا يَضُرُّ دخولُ
الناسخ عليه لأنه لم يغيِّرْ معناه وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ }
[ البروج : 10 ] ثم قال : « فلهم » . والأخفش مع تجويزه زيادةَ الفاء في خبر
المبتدأ مطلقاً يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشرط إذا دخلَتْ عليه « إنَّ »
المكسورة ، وآيةُ البروج حجَّةٌ عليه . وإذا تقرَّر هذا ف « أنَّ » وما عَمِلَتْ
فيه في محلِّ رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : فواجبٌ أن لله خُمُسَه
، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر ل « أنَّ » . وظاهر كلام الشيخ أنه جَعَلَ
الفاءَ داخلةً على « أن لله خُمُسَه » من غير تقديرِ أن تكونَ مبتدأ وخبرها محذوف
، بل جَعَلَها بنفسها خبراً ، وليس مرادُه ذلك ، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ
بل على جملةٍ ، والذي يُقَوِّي إرادَته ما ذكرتُه أنه حكى قولَ الزمخشري أعني
كونَه قَدَّره أنَّ « أنَّ » وما في حَيِّزها مبتدأٌ محذوفُ الخبر ، فَجَعَله
قولاً زائداً على ما قدَّمه .
ويجوز في « ما » أن تكونَ شرطيةً ، وعاملُها « غَنِمْتُم » بعدها ، واسمُ « أنَّ »
حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشأن وهو مذهبُ الفراء . إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين
إلا ضرورةً بشرط أَنْ لا يليها فعل كقوله :
2417 إنَّ مَن يدخلِ الكنيسةِ يوماً ... يَلْقَ فيها جآذِراً وظِباءَ
وقول الآخر :
2418- إنَّ مَنْ لام في بني بنتِ حَسَّا ... نَ أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطوبِ
وقيل : الفاءُ زائدةٌ و « أن » الثانيةُ بدلٌ من الأولى . وقال مكي : « وقد قيل :
إن الثانيةَ مؤكدةٌ للأولى ، وهذا لا يجوز لأن » أنَّ « الأولى تبقى بغير خبرٍ ،
ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد ، وزيادتُها لا تَحْسُن في مثل هذا » .
وقيل : « ما » مصدريةٌ والمصدر بمعنى المفعول أي : أنَّ مَغْنومكم [ هو ] المفعول
به ، أي : واعلموا أنَّ غُنْمكم ، أي مغنومكم .
قوله : { مِّن شَيْءٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ عائد الموصول المقدَّر ،
والمعنى : ما غنمتموه كائناً من شيء أي : قليلاً أو كثيراً . وحكى ابن عطية عن
الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، وحكى غيرُه عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو : « فإن
لله » بكسر الهمزة . ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي « فللَّه خمسُه » فإنها
استئناف .
وخرَّجها
أبو البقاء على أنها وما في حَيِّزها في محل رفع خبراً ل « أنَّ » الأولى .
وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو « خُمْسَه » وهو تخفيفٌ حسن . وقرأ الجعفي «
خِمْسَه » ، قالوا : وتخريجها أنه أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة
مِنْ كلمة أخرى مستقلة قالوا : وهي كقراءة مَنْ قرأ { والسمآء ذَاتِ الحبك } [
الذاريات : 7 ] بكسر الحاء إتباعاً لكسرةِ التاء من « ذات » ولم يَعْتَدُّوا
بالساكن وهو لامُ التعريف لأنه حاجزٌ غيرُ حصين . ليت شعري وكيف يَقْرأ الجعفي
والحالةُ هذه؟ فإنَّه إنْ قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقلِ لخروجه مِنْ
كسرٍ إلى ضم ، وإن قرأ بسكونها وهو الظاهر فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو أو عن
عاصم ، ولكن الذي قرأ « ذاتِ الحِبك » يُبْقي ضمَّة الباء فيؤدي إلى فِعُل بكسر
الفاء وضمِّ العين وهو بناءٌ مرفوض ، وإنما قلت إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر
الباء لَما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإِتباع لأنَّ في « الحبك » لغتين :
ضمَّ الحاء والباء أو كسرَهما ، حتى زعم/ بعضُهم أن قراءة الخروج مِنْ كسرٍ إلى
ضمٍ من التداخل .
والغنيمة أصلُها مِن الغُنْم وهو الفوز ، وأصل ذلك مِن الغَنَم هذا الحيوان
المعروف فإن الظفرَ به يُسَمَّى غُنْماً ثم اتُّسِع في ذلك فسُمِّي كلُّ شيء
مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغنيمةً . قال علقمة بن عبدة :
2419 ومُطْعَمُ الغُنْم يومَ الغُنْمِ مَطْعَمُه ... أنَّى توجَّه والمحرومُ
محرومُ
وقال آخر :
2420 لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى ... رَضِيتُ من الغنيمة بالإِياب
قوله : { إِن كُنتُمْ } شرطٌ جوابه مقدرٌ عند الجمهور لا متقدمٌ ، أي : إن كنتم
آمنتم فاعلموا أن حكمَ الخُمْس ما تقدَّم ، أو فاقبلوا ما أُمِرتم به .
قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا } « ما » عطفٌ على الجلالة فهي مجرورةُ المحلِّ ،
وعائدُها محذوف . وزعم بعضهم أن جوابَ الشرط متقدم عليه ، وهو قوله « فنِعْم
المَولى » وهذا لا يجوزُ على قواعد البصريين .
قوله { يَوْمَ الفرقان } يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أن يكون منصوباً ب «
أَنْزلنا » أي : أَنْزَلْناه في يوم بدر الذي فُرِق فيه بين الحق والباطل . الثاني
: أن ينتصبَ بقوله « آمنتم » ، أي : إن كنتم آمنتمْ في يومِ الفرقان . ذكره أبو
البقاء . والثالث : أنه يجوزُ أن يكون منصوباً بغَنِمْتُمْ . قال الزجاج : « أي ما
غنمتم في يوم الفرقان حكمُه كذا وكذا » . قال ابن عطية : « وهذا تأويلٌ حسنٌ في
المعنى ، ويعترضه أنَّ فيه الفصلَ بين الظرف وما يَعْمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ
الألفاظِ » . قلت : وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصَّ من هذه ، وذلك أن « ما »
: إمَّا شرطية كما هو رأي الفراء ، وإمَّا موصولة ، فعلى الأول يؤدِّي إلى الفصل
بين فعلِ الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلَّقاتها ، وعلى الثاني يؤدِّي إلى
الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر « أنَّ » .
قوله : { يَوْمَ التقى الجمعان } فيه وجهان : أحدهما : أنه بدلٌ من الظرفِ قبله . والثاني : أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدرٌ فكأنه قيل : يومَ فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاءِ الجمعين . وقرأ زيد بن علي « عُبُدنا » بضمتين وهو جمع عَبْد ، وهذا كما قرئ { وَعُبُدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] والمراد بالعُبُدِ في هذه القراءة هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعه من المؤمنين .
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
قوله
تعالى : { إِذْ أَنتُمْ } : في هذا الظرفِ أربعةُ أوجهٍ أحدها : أنه منصوبٌ ب «
اذكروا » مقدراً وهو قول الزجاج . الثاني : أنه بدل من « يوم الفرقان » أيضاً .
الثالث : أنه منصوبٌ ب « قدير » ، وهذا ليس بواضحٍ ، إذ لا يتقيَّد اتصافُه
بالقدرة بظرفٍ من الظروف . الرابع : أنه منصوبٌ بالفرقان أي : فَرَقَ بين الحق
والباطل إذ أنتم بالعُدْوة .
قوله : { بالعدوة } متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ ، والباء بمعنى « في » كقولك «
: زيد بمكة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعِدوة بكسر العين فيهما . والباقون بالضم
فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ
ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزَها أي منعته . قال الشاعر :
2421 عَدَتْني عن زيارتها العَوادي ... وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ
وقرأ الحسن وزيد بن علي وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلُّها لغاتٌ بمعنى
واحد . هذا هو قولُ جمهورِ اللغويين . على أن أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ
ووافقه الأخفش فقال : » لم يُسْمَعْ من العرب إلا الكسرُ « . ونقل أبو عبيد اللغتين
إلا أنه قال : » الضمُّ أكثرهما « . وقال اليزيدي : » الكسر لغة الحجاز « وأنشد
قولَ أوس بن حجر :
2422 وفارسٍ لم يَحُلَّ القوم عِدْوَتَه ... وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقبال
بالكسر والضم ، وهذا هو الذي ينبغي أن يُقال فلا وجهَ لإِنكار الضمِّ ولا الكسر
لتواتر كلٍ منهما . ويُحْمل قول أبي عمرو على أنه لم يَبْلُغْه . ويُحتمل أن يُقال
في قراءةِ مَنْ قرأ بفتح/ العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان .
وقُرئ شاذّاً » بالعِدْية « بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها ، ولا يُعْتبر
الفاصلُ لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا : » هو ابن عمي دِنيا « بكسر
الدال وهو من الدنو ، وكذلك قِنْية وصِبْية ، وأصله السَّلامة كالذِّرْوَة
والصِّفْوة والرِّبوة . وقوله : » الدنيا « قد تقدَّم الكلام على هذه اللفظة
مسبقاً .
قوله : { القصوى } تأنيث الأقصى . والأقصى : الأبعد . والقَصْوُ : البعد .
وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فُعْلى من ذوات الواو : إن كانت اسماً أُبْدِلَتْ
لامُها ياءً ، ثم يُمَثِّلون بنحو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا ، وهذه صفاتٌ
لأنها من باب أفعل التفضيل وكأنَّ العذرَ لهم أن هذه وإن كانت في الأصلِ صفاتٍ إلا
أنها جَرَتْ مجرى الجوامد . قالوا : وإن كانت فُعْلى صفةً أُقِرَّتْ لامُها على
حالها نحو : الحُلْوى تأنيث الأحلى ، ونَصُّوا على أن القُصْوى شاذة وإن كانت لغة
الحجاز ، وأن القُصْيا قياسٌ ، وهي لغة تميم . وممَّن نصَّ على شذوذ القصوى يعقوب
بن السكيت . وقال الزمخشري : » وأما القصوى فكالقَوَد في مجيئه على الأصل ، وقد
جاء القُصْيا إلا أنَّ استعمالَ القُصْوى أكثر ، كما كثر استعمال « استصوب » مع
مجيء « استصاب » وأَغْيلت مع أغالَتْ « انتهى .
وقد
قرأ زيد بن علي « بالعُدْوَة والقُصْيا » فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياسُ عند
هؤلاء .
والعبارة الثانية وهي المغلوبَةُ القليلةُ العكس ، أي : إن كانَتْ صفةً أُبْدِلت
نحو : العُليا والدنيا والقُصْيا ، وإن كانت اسماً أُقِرَّت نحو : حُزْوَى كقوله :
2423 أداراً بحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو
يَتَرَقْرَقُ
وعلى هذا فالحُلْوى شاذة لإِقرار لامها مع كونها صفةً ، وكذا القُصوى أيضاً عند
هؤلاء لأنها صفة .
وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أن « قُصْوى » على خلافِ القياس فيهما ، وأن «
قُصْيا » هي القياس لأنها عند الأوَّلين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء ،
وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم يقلبونها أيضاً ياءً ، وإنما يَظْهر الفرقُ في
الحُلْوى وحُزْوى : فالحُلْوى عند الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صفةً وشاذة
عند الآخرين لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلَبُ واوُها ياءً ، والحُزْوَى عكسُها : فإن
الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماء دون الصفات ، والآخرون عكسُهم . وهذا موضعٌ حَسَنٌ
يختلط على كثير من الناس فلذلك نَقَّحْته . ونعني بالشذوذِ شذوذَ القياسِ لا شذوذَ
الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال المتواتر بالقصوى .
قوله : { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسنُ في هذه الواو ، والواو التي قبلها
الداخلة على « هم » أن تكونَ عاطفةً ما بعدها على « أنتم » لأنها مَبْدأُ تقسيم
أحوالهم وأحوال عدوهم . ويجوز أن تكونا واوَيْ حال . و « أسفل » منصوبٌ على الظرف
النائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوف أي : والركب مكاناً أسفلَ
من مكانكم . وقرأ زيد بن علي « أسفلُ » بالرفع وذلك على سبيل الاتِّساع ، جعل
الظرف نفسَ الركب مبالغة واتساعاً . وقال مكي : « وأجاز الفراء والأخفش والكسائي »
أسفلُ « بالرفع على تقديرِ محذوفٍ أي : موضعُ الركب أسفلُ » . والتخريجُ الأولُ
أبلغُ في المعنى .
والرَّكْبُ اسمُ جمعٍ لراكب لا جمعُ تكسيرٍ له خلافاً للأخفش لقوله :
2424 بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا ... أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا
فصَغَّره على لفظه ، ولو كان جمعاً لَما صُغِّر على لفظه .
قوله : { ولكن لِّيَقْضِيَ } « ليَقْضي » متعلِّقٌ بمحذوف ، أي : ولكن تلاقَيْتُم
ليقضيَ . وقدَّر الزمخشري ذلك المحذوفَ فقال : « أي : ليقضيَ الله أمراً كان
واجباً أن يُفْعل وهو نصرُ أوليائه وقَهْرُ أعدائه دَبَّر ذلك » .
و « كان » يُحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان
الماضي ، وأن تكونَ بمعنى صار ، فتدلَّ على التحوُّل أي : صار مفعولاً بعد أن لم
يكن كذلك .
/ قوله : { لِّيَهْلِكَ } فيه أوجه ، أحدها : أنه بدلٌ من قوله « ليقضيَ » بإعادة
العامل فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول .
الثاني
: أنه متعلقٌ بقوله « مفعولاً » ، أي : فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكيتَ . الثالث :
أنه متعلِّقٌ بما تعلَّق به « ليقضيَ » على سبيل العطف عليه بحرفِ عطفٍ محذوف
تقديره : وليهلك ، فحذف العاطفَ وهو قليلٌ جداً . وقد قدَّمْتُ التنبيهَ عليه .
الرابع : أنه متعلِّقٌ ب « يَقْضي » ذكره أبو البقاء . وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي
بكر عن عاصم « ليهلَكَ » بفتح اللام ، وقياسُ ماضي هذا « هَلِك » بالكسر .
والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { حتى
إِذَا هَلَكَ } [ غافر : 34 ] .
قوله : { مَنْ حَيَّ } قرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم ، والبزي عن ابن كثير
بالإِظهار ، والباقون بالإِدغام . والإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان
مشهورتان : وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو : حَيِي وعَيِيَ
. ومن الإِدغام قولُ المتلمس :
2425 فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه ... . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
2426 عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ... عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ
فأدغم « عيُّوا » ، ويُنْشَدُ : عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام . فَمَنْ
أظهر فلأنه الأصلُ ، ولأن الإِدغامَ يؤدِّي إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في
ذاته ، ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور ، وذلك في مضارع
هذا الفعلِ لانقلاب الثانية ألفاً في يَحْيَا ويَعْيَا ، فَحُمِل الماضي عليه
طَرْداً للبابِ ، ولأن الحركة في الثاني عارضةٌ لزوالها في نحو : حَييت وبابه ،
ولأنَّ الحركتين مختلفتان ، واختلافُ الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا : ولذلك
قالوا : لَحِحَت عينه وضَبِبَ المكان وأَلِلَ السِّقاء ومَشِشَتْ الدابة . قال
سيبويه : « أخبرَنا بهذه اللغة يونس » يعني بلغة الإِظهار . قال : « وسمعت بعض
العرب يقول : أَحْيِياء وأَحْيِيَة فيُظْهر » وإذا لم يُدْغم مع لزومِ الحركةِ فمع
عُروضها أَوْلى . ومَنْ أدغم فلاستثقالِ ظهرِ الكسرة في حرفٍ يُجانسه؛ ولأنَّ
حركةَ الثانية لازمةٌ لأنها حركةُ بناء ، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ ،
كما لا يضرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح نحو : حَلَلْتُ وظَلَلْتُ؛ وهذا
كلُّه فيما كانت حركتُه حركةَ بناءٍ ، ولذلك قُيِّد به بالماضي ، أمَّا إذا كانت
حركةَ إعراب فالإِظهارُ فقط له : يُحْيِيَ ولن يُعْيِيَ .
قوله : { عَن بَيِّنَةٍ } : متعلقٌ ب « يَهْلِكَ » و « يَحْيَا » . والهلاكُ
والحياةُ عبارةٌ عن الإِيمان والكفر . والمعنى : ليصدرَ كفرُ مَنْ كفر عن وضوحٍ
وبيان لا عن مخالجةِ شبهة ، وليصدرَ إسلامُ مَنْ أسلم عن وضوحٍ لا عن مخالجة شبهة
.
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
قوله
تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } : الناصب ل « إذ » يجوز أن يكون مضمراً أي :
اذكر ، ويجوز أن يكون « عليم » وفيه بُعْدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقت .
ويجوز أن تكون « إذ » هذه بدلاً من « إذ » قبلها .
والإِراءة هنا حُلْمية واختلف فيها النحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصَريَّة
أو لاثنين كالظنيَّة؟ فالجمهورُ على الأول . فإذا دخلت همزةُ النقلِ أَكْسَبَتْها
ثانياً أو ثالثاً على حسب القولين ، فعلى الأول تكون الكافُ مفعولاً أول ، و « هم
» مفعول ثان . و « قليلاً » حال ، وعلى الثاني يكون « قليلاً » نصباً على المفعول
الثالث ، وهذا يَبْطُلُ بجواز حَذْفِ الثالث في هذا الباب اقتصاراً ، أي من غيرِ
دليلٍ تقول : أراني الله زيداً في منامي ، ورأيته في النوم ، ولو كانت تتعدَّى
لثلاثةٍ لَمَا حُذِف اقتصاراً لأنه خبر في الأصل .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قوله تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } : الإِراءةُ هنا بَصَرية والإِتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ لاتصالها بضمير . ولا يجوز التسكينُ ولا الضمُّ من غير واو . وقد جوَّز يونس ذلك فيقول : أنتم ضَرَبْتُمه في « ضربتموه » بتسكين الميم وضمها . وقد يتقوَّى بما رُوي عن عثمان رضي الله عنه : « أراهُمُني/ الباطل شيطاناً » . وفي هذا الكلام شذوذٌ من وجهٍ آخرَ : تقديم الضمير غيرِ الأخص على الأخصِّ مع الاتصال .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
قوله تعالى : { فَتَفْشَلُواْ } : يحتمل وجهين ، أحدهما : نصبٌ على جواب النهي . والثاني : الجزم عطفاً على فعل النهي قبله ، وقد تقدَّم تحقيقهما في « وتَخُونوا » قبل ذلك . ويدلُّ على الثاني قراءةُ عيسى ابن عمر « ويَذْهَبُ » بياء الغيبة وجزمه . ونقل أبو البقاء قراءةَ الجزم ولم يُقَيِّدها بياء الغيبة . وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة « ويَذْهَبَ » بياء الغيبة ونصبِه . وقرأ الحسن : فَتَفْشِلوا بكسر الشين . قال أبو حاتم : « هذا غيرُ معروف » وقال غيره : إنها لغةٌ ثانية .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
قوله
تعالى : { بَطَراً وَرِئَآءَ } : منصوبان على المفعول له ، ويجوز أن يكونا
مَصْدرين في موضع نصبٍ على الحال من فاعل « خرجوا » أي : خَرَجُوا بَطِرين
ومُرائين . و « رئاء » مصدرٌ مضاف لمفعولِه .
قوله : { وَيَصُدُّونَ } يجوز أن يكونَ مستأنفاً ، وأن يكون عطفاً على « بطراً »
ورئاء « لأنه مُؤوَّل بالحال أي : بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ ، وحُذِفَ
المفعولُ للدلالة عليه أو تناساه .
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
قوله
تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ } : أي : اذكر وقت تزيين و « قال » يجوز أن تكون عطفاً
على « زَيَّن » ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، و « قد » مضمرةٌ بعد الواو عند مَنْ
يَشْترط ذلك .
قوله : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ } « لكم » خبر « لا » فيتعلَّق بمحذوف و « اليوم »
منصوبٌ بما تعلَّق به الخبر . ولا يجوز أن يكون « لكم » أو الظرف متعلقاً ب « غالب
» لأنه يكونُ مُطوَّلاً ، ومتى كان مُطَوَّلاً أُعرب نصباً .
قوله : { مِنَ الناس } بيان لجنس الغالب . وقيل : هو حال من الضمير في « لكم »
لتضمُّنه معنى الاستقرار . ومنع أبو البقاء أن يكون « من الناس » حالاً من الضمير
في « غالب » قال : « لأن اسم » لا « إذا عمل فيما بعده أُعْرِب » والأمر كذلك .
قوله : { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ معطوفةً على قوله
« لا غالبَ لكم » فيكون قد عطف جملةً منفيةً على أخرى منفيةٍ . ويجوز أن تكونَ
الواو للحال . وألف « جار » من واو لقولهم « تجاوروا » وقد تقدم تحقيقه . و « لكم
» متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل « جار » ، ويجوز أن يتعلق ب « جار » لما فيه من معنى
الفعل « .
و » الريح « في قوله { ريحكم } كنايةٌ عن الدَّوْلة والغلبة قال :
2427 إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنِمْها ... فإنَّ لكلِّ عاصفةٍ سكونا
ورواه أبو عبيد » ركوداً « . وقال آخر :
2428 أتَنْظُران قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أم تَعْدُوانِ فإن الريح للعادي
وقال :
2429 قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم ... ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لَقُوا
وقيل : الريح : الهيبة ، وهو قريبٌ من الأول كقوله :
2430 كما حَمَيْناك يوم النَّعْفِ مِنْ شَطَطٍ ... والفضلُ للقوم مِنْ ريحٍ ومن
عَدَدِ
قوله : » نَكَص « جواب » لمَّا « والنُّكوص : قال النضر بن شميل : » الرجوع قهقرى
هارباً « . قال بعضهم : هذا أصلُه ، إلا أنه قد اتُّسِع فيه حتى استُعْمل في كل
رجوع وإن لم يكن قَهْقَرى قال الشاعر :
2431 هم يضربون حَبِيْكَ البَيْضِ إذ لَحِقُوا ... لا يَنْكُصُون إذا ما
استُلْحِموا لَحِموا
وقال المؤرِّج : » النُّكوص : الرجوعُ بلغة سُلَيْم « وقال الشاعر :
2432 ليس النكوصُ على الأَعْقابِ مَكْرُمَةً ... إن المكارمَ إقدامٌ على الأَسَلِ
فهذا إنما يريد به مُطْلَق الرجوع لأنه كنايةٌ عن الفِرار ، وفيه نظر؛ لأن غالب
الفِرار في القتال إنما هو كما ذُكِر رجوعُ القَهْقَرى . و » على عَقِبيْه « حال :
إمَّا مؤكدةٌ عند مَنْ يَخُصُّه بالقهقرى ، أو مؤسَّسةٌ عند مَنْ يَسْتعمله في
مطلق الرجوع .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
قوله تعالى : { إذ يقولُ } : العامل في « إذ » إمَّا « زَيَّن » ، وإمَّا « نكص » ، وإمَّا « شديد العقاب ، وإمَّا اذكروا . و » غرَّ هؤلاءِ دينَهم « منصوبُ المحل بالقول .
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
قوله
تعالى : { يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ } : قرأ ابن عامر والأعرج « تتوفَّى » بتاء
التأنيث في « تتوفَّى » لتأنيث الجماعة . والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان :
أظهرهما : لموافقة قراءة مَنْ تقدم أن الفاعل الملائكة وإنما ذُكِّر للفصل؛ لأن
التأنيث مجازي . والثاني : أن الفاعل ضمير الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه ، و «
الملائكةُ » مبتدأ و « يَضْربون » خبره . وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان أحدُهما :
أنها حالٌ من المفعول . والثاني : أنها استئنافيةٌ جواباً لسؤالٍ مقدر ، وعلى هذا
فيوقف على « الذين كفروا » بخلاف الوجهين قبله . وضعَّف ابنُ عطية وجهَ الحال
بعدم/ الواو ، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال
خاليةً من واو نظماً ونثراً . وعلى كون « الملائكة » فاعلاً يكون « يَضْربون »
جملةً حاليةً سواءً قرئ بالتأنيث أم بالتذكير . وجوابُ « لو » محذوفٌ للدلالة عليه
أي : لرأيت أمراً عظيماً .
قوله : { وَذُوقُواْ } هذا منصوب بإضمار قول الملائكة أي : يضربونهم ويقولون لهم :
ذوقوا . وقيل : الواو في « يَضْربون » للمؤمنين ، أي : يَضْربونهم حالَ القتال
وحال تَوَفِّي أرواحِهم الملائكة .
قوله : { وَأَنَّ الله } عطفٌ على « ما » المجرورة بالياء أي : ذلك بسببِ تقديم
أيديكم ، وبسبب أنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
وقوله تعالى : { كَدَاْبِ آلِ } : قد تقدَّم نظيره في آل عمران .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ } : مبتدأ وخبر أيضاً كنظيره ، أي : ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أن الله . وقوله : « وأنَّ الله سميعٌ » الجمهورُ على فتح « أنَّ » نَسَقاً على « أنَّ » قبلها ، أي : وسبب أن الله سميع عليم . ويُقْرأ بكسرِها على الاستئناف .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
قوله
تعالى : { كَدَأْبِ } : قال قومٌ : « هو تكريرٌ للأول » . وقال قوم : كُرِّر لغير
تأكيد لوجوهٍ منها : أن الأول دَأْبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا ، وهذا دَأْبٌ في
أَنْ لم يغير الله نعمتهم حتى غَيَّروها هم ، قاله ابن عطية . ومنها : أن الثاني
جارٍ مجرى التفصيل الأول فإن الأولَ متضمِّنٌ لذِكْرِ إجرامهم والثاني متضمِّنٌ
لذكر إغراقهم ، وفي الأولى ما يَنْزِل بهم حالَ الموت من العقوبة ، وفي الثاني ما
يَحُلُّ بهم من العذاب في الآخرة ، وجاء في الأولى بآيات الله إشارةً إلى إنكارِ
ذِكْر دلائلِ الإِلهيَّة . وفي الثاني بآيات ربهم إشارةً إلى إنكارهم مَنْ
رَبَّاهم وأحسنَ إليهم . وقال الكرماني : « يُحتمل أن يكون الضمير في » كفروا « في
الآية الأولى عائداً على قريش ، والضمير في » كذَّبوا « في الثانية عائداً على آلِ
فرعون ومَنْ ذُكِر معهم » .
قوله : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } جُمِع الضميرُ في « كانوا » وجُمع «
ظالمين » مراعاةً لمعنى « كل »؛ لأنَّ « كلاً » متى قُطعت عن الإِضافة جاز مراعاةُ
لفظِها تارةً ومعناها أخرى ، وإنما اختير هنا مراعاةُ المعنى لأجلِ الفواصلِ ، ولو
رُوعي اللفظُ فقيل مثلاً : وكلٌّ كان ظالماً لم تتَّفق الفواصل .
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
قوله تعالى : { الذين عَاهَدْتَّ } : يجوز فيه أوجه ، أحدها : الرفعُ على البدل من الموصولِ قبلَه أو على النعت له ، أو على عطف البيان ، أو النصبُ على الذم ، أو الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ قولُه : « فإمَّا تَثْقَفَنَّ » بمعنى : مَنْ تعاهد منهم أي من الكفار ثم ينقضون عهدهم ، فإن ظفِرْتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت ، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وهذا ظاهر كلام ابن عطية . و « منهم » يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف إذ التقدير : الذي عاهدتهم أي : كائنين منهم ، ف « مِنْ » للتبعيض . وقيل : هي بمعنى مع . وقيل : الكلامُ محمولٌ على معناه ، أي : أَخَذْتَ منهم العهدَ . وقيل : زائدةٌ أي : عاهَدْتَهم . والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ والأول أصحُّ .
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
قوله
تعالى : { فَشَرِّدْ } : العامَّةُ على الدال المهملة والتشريدُ : التطريد
والتفريقُ والتسميع ، وهذه المعاني كلُّها لائقة بالآية . وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه
بالذال المعجمة . قال الشيخ : « وكذا هي في مصحف عبد الله » . قلت : وقد تقدم أن
النَّقْط والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ أحدثه يحيى بن يعمر فكيف يُوْجَد ذلك في مصحف ابن
مسعود؟ قيل : وهذه المادة أعني الشين والراء والذال المعجمة مهملةٌ في لغة العرب .
وفي هذه القراءةِ أوجه أحدها : أن الذالَ بدلٌ من مجاورتها كقولهم : لحم خراديل
وخراذيل . الثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ شذر من قولهم : تفرقوا شَذَر مَذَر ، ومنه
الشَّذْر المُلْتَقَطُ من المعدن لتفرُّقِه ، قال :
2433 غرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمة ... يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً
مُفَقَّرا
الثالث : أنه مِنْ « شَذَر في مقاله » إذا أكثر فيه ، قاله أبو البقاء ، ومعناه
غير لائق هنا . وقال قطرب : « شرذ » بالمعجمة : التنكيل ، وبالمهملة التفريق ،
وهذا يقوِّي قول مَنْ قال : إن هذه المادة ثابتةٌ في لغة العرب .
قوله : « مَنْ خَلْفَهم » مفعولُ « شَرِّد » . وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه وأبو حيوة «
مِنْ خلفِهم » جاراً ومجروراً . والمفعولُ على هذه القراءةِ محذوفٌ أي : فَشَرِّدْ
أمثالَهم من الأعداء أو ناساً يعملون بعملهم . والضميران في « لعلهم يَذَّكَّرون »
الظاهر عَوْدُهما على « مَنْ خلفهم » ، أي إذا رَأَوا ما/ حَلَّ بالناقِضين
تذكَّروا . وقيل : يعودان على المُنْقِضين ، وليس له معنى طائل .
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
قوله
تعالى : { فانبذ إِلَيْهِمْ } : مفعولُه محذوف ، أي : انبِذْ إليهم عهودَهم ، أي :
اطرَحْها ولا تكترِثْ بها . و « على سواء » حال إمَّا : من الفاعِل أي : انبذها
وأنت على طريقٍ قَصْدٍ ، أي : كائناً على عدل فلا تَبْغَتْهُمْ بالقتال ، بل
أَعْلِمْهم به ، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً ، أي : كائنين على استواء في
العلم أو في العداوة . وقرأ العامة بفتح السين ، وزيد بن علي بكسرِها ، وهي لغةٌ
تقدَّمَ التنبيهُ عليها أولَ البقرة .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } يُحتمل أن تكون هذه الجملةُ تعليلاً
معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل ، وهو إعلامُهم ، وأن تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ
لِذَمِّ مَنْ خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَقَضَ عهده .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
قوله
تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم « يَحْسَبَنَّ »
بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله « لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا معجزين [ في
الأرض ] » كذلك خلا حَفْصاً . والباقون بتاء الخطاب .
وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران . ولا بد
مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها : أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ
يُفَسِّره السياق تقديره : ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب
، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم . وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون «
الذين كفروا » مفعولاً أولَ ، و « سبقوا » جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً . وقيل
: الفعلُ مسندٌ إلى « الذين كفروا » ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين : فقال قوم :
الأولُ محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف « هم » مفعول أول
، و « سَبَقوا » في محلِّ الثاني ، أو يكون التقدير : لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا
أنفسَهم سَبَقوا ، وهو في المعنى كالذي قبله . وقال قومٌ : بل « أن » الموصولة
محذوفة ، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبن
الذين كفروا أنْ سبقوا ، فحذفت « أن » الموصولة وبقيت صلتها كقوله { وَمِنْ
آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] ، أي : أن يريكم وقولهم : « تَسْمَعُ
بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه » وقوله :
2434 ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله « أنهم سبقوا » . وقال قوم : « بل » سبقوا « في
محلِّ نصبٍ على الحال ، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين » أنهم لا يعجزون « في قراءة
مَنْ قرأ بفتح » أنهم « وهو ابن عامر ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا سابقين
أنهم لا يعجزون ، وتكون » لا « مزيدةً ليصح المعنى » .
قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ : « وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها
حمزةُ بنيِّرة » . وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ
بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً ،
وعاصمٌ في رواية حفص ، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن
السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى .
وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ « لا يحسبَنَّ » واقع على « أنهم لا يُعْجِزون »
وتكونُ « لا » صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة
يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت : هو لم يلتزم التخريج على
قراءةِ حمزة في الموضعين : أعني « لا يَحْسَبَنَّ » وقولهم « أنهم لا يعجزون » حتى
نُلْزِمه ما ذكر .
وأمَّا
قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي : لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ ، و « الذين كفروا
» مفعولٌ أولُ ، والثاني « سبقوا » ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ : أنه يجوز
أن يكون الفاعلُ الموصولَ ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله : {
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] ، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ
ههنا .
وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ «
أنْ » الموصولة لتعذُّرِ ذلك ، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا : وهو أن
يكون « الذين كفروا » فاعلاً ، و « مُعْجزين » مفعول أول و « في الأرض » الثاني .
أي : لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته . وأمَّا قراءةُ الخطاب
فواضحةٌ على ما قدَّمته لك .
وقرأ الأعمش : « ولا يَحْسَبَ الذين كفروا » بفتح الباء . وتخريجها أن الفعلَ
مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة ، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين ، كما يُحْذَفُ له
التنوين فهو كقول الآخر :
2435 لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ ... كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ
أي : لا تهينَنَّ . ونقل بعضهم : « ولا تحسَبِ الذين » من غير توكيدٍ البتة . وهذه
القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين .
قولهم : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح ، والباقون بالكسر .
فالفتح : إمَّا على حَذْفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم
قراءة ابن عامر . ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي : لا تَحْسَبَنَّهم فائتين
لأنهم لا يُعْجزون ، أي : لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون ، وإمَّا
على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان .
وقال أبو البقاء : « إنه متعلقٌ بتحسب : / إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من » سَبَقوا « ،
وعلى كلا الوجهين تكون » لا « زائدةً . وهو ضعيفٌ لوجهين : أحدهما : زيادة لا ،
والثاني : أن مفعول » حَسِب « إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت » إنَّ «
فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر » .
قوله : { لاَ يُعْجِزُونَ } العامَّةُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع .
وقرأ ابن محيصن « يُعْجِزوني » بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية
أو نون الرفع . وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في { أتحاجواني } . قال
الزجاج : « الاختيارُ الفتحُ في النون ، ويجوز كسرُها على أن المعنى : لا
يُعْجزونني ، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة :
2436 تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
وقال متمم بن نويرة :
2437 ولقد عِلِمْتِ ولا محالةَ أنني ... للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ
قال الأخفش في هذا البيت : » فهذا يجوز على الاضطرار « .
وقرأ ابن محيصن أيضاً « يُعْجِزونِّ » بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة . وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ « عَجَّز » مشدَّداً . قال أبو جعفر : « وهذا خطأٌ من وجهين أحدهما : أن معنى عجَّزه ضعَّفه وضعَّف أمره ، والآخر : كان يجب أن يكون بنونين » قلت : أمَّا تخطئة النحاسِ له فخطأٌ ، لأن الإِتيان بالنونين ليس بواجب ، بل هو جائز ، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضُها . وأما عجَّز بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر بل نَقَل غيرُه من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز ، وأن معناه بَطَّأ وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين . وقرأ طلحة بكسر النونِ خفيفةً .
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
قوله
تعالى : { مِّن قُوَّةٍ } : في محلِّ نصبٍ على الحال ، وفي صاحبها وجهان أحدهما :
أنه الموصولُ . والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقدير : ما استطعتموه حال كونه
بعضَ القوة . ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس . و « رباط » جوَّزوا فيه أن
يكون جمعاً ل « رَبْط » مصدر رَبَط يَرْبُط نحو : كَعْب وكِعاب ، وكلب وكِلاب ،
وأن يكون مصدراً ل « رَبَط » نحو : صاح صِياحاً قالوا : لأن مصادر الثلاثي لا
تنقاس ، وأن يكونَ مصدرَ « رابط » . ومعنى المفاعلة أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ
واحد لفعل الآخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، قال معناه ابن عطية . قال الشيخ
: « قوله » مصادرُ الثلاثي غيرِ المزيد لا تنقاس « ليس بصحيح ، بل لها مصادرُ
منقاسةٌ ذكرها النحويون » قلت : في المسألة خلافٌ مشهور ، وهو لم ينقل الإِجماعَ
على عَدَمِ القياس حتى يَرُدَّ عليه بالخلاف ، فإنه قد يكون اختار أحدَ المذاهب
وقال به ، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر . وقال الزمخشري : « والرِّباط : اسم
للخيل التي تُرْبَطُ في سبيل الله ، ويجوز أن يُسَمَّى بالرباط الذي هو بمعنى
المرابطة ، ويجوز أن يكونَ جمعَ رَبيط ، يعني بمعنى مربوط كفَصِيل وفِصال » .
والمصدر هنا مضافٌ لمفعول له .
قوله : « تُرْهبون » يجوز أن يكونَ حالاً من فاعل « أعِدُّوا » أي : حَصِّلوا لهم
هذا حالَ كونكم مُرْهِبين ، وأن يكون حالاً من مفعوله وهو الموصولُ أي : أعِدُّوه
مُرْهَباً به ، وجاز نسبتُه لكلٍّ منها لأنَّ في الجملة ضميرَيْهما ، هذا إذا
أَعَدْنا الضمير من « به » على « ما » الموصولة . أمَّا إذا أَعَدْناه على
الإِعدادِ المدلول عليه بأَعِدُّوا ، أو على الرِّباط ، أو على القوة بتأويل
الحَوْل فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول . ويجوز أن يكون حالاً من ضمير « لهم »
كذا نقله الشيخ عن غيره فقال : « وتُرْهبون قالوا : حال من ضمير » أعِدُّوا « أو
من ضمير » لهم « ولم يَتَعَقَّبْه بنكير ، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً من الضمير
في » لهم « ولا رابط بينهما؟ ولا يصِحُّ تقديرُ ضمير في جملة » تُرْهبون «
لأَخْذِه معمولَه .
وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو » تُرَهِّبون « مضعَّفاً عدَّاه
بالتضعيف كما عدَّاه العامة بالهمزة ، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف
لأن الفعل قبل النقل بالهمزة/ أو بالتضعيف متعدٍّ لواحد نحو : رَهَّبْتُك ،
والتقدير : تُرَهِّبون عدوَّ الله قتالكم أو لقاءَكم . وزعم أبو حاتم أنَّ أبا
عمرو نَقَلَ قراءةَ الحسن بياء الغيبة وتخفيف » يُرْهبون « وهي قراءة واضحة ، فإن
الضميرَ حينئذٍ يَرْجع إلى من يرجع إليه ضمير » لهم « ، فإنهم إذا خافوا خَوَّفوا
مَنْ وراءهم .
وقرأ
الحسن وأبو حيوة ومالك بن دينار « ومن رُبُط » بضمتين ، وعن الحسن أيضاً رُبْط بضم
وسكون ، وذلك نحو كتاب وكُتُب . قال ابن عطية : « وفي جَمْعِه وهو مصدرٌ غيرُ
مختلفٍ نظرٌ » . قلت : لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر ، بل حكى أبو زيد أن «
رِباطاً » الخَمْسُ من الخيل فما فوقَها وأن جمعها « رُبُط » ، ولو سُلِّم أنه
مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنه لم تختلف أنواعُه ، وقد تقدَّم أن « رباطاً » يجوز أن يكون
جمعاً لرَبْط المصدر ، فما كان جواباً هناك فهو جوابٌ هنا .
قوله : { عَدْوَّ الله } العامَّة قرؤوه بالإِضافة ، وقرأه السلميُّ منوناً ، و «
لله » بلام الجر ، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله . قال صاحب «
اللوامح » : « وإنما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة ، لأنها نكرة أيضاً لم تتعرَّفْ
بالإِضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال ، ولا يتعرَّف
ذلك وإن أُضيف إلى المعارف ، وأمَّا » وعدوَّكم « فيجوز أن يكونَ كذلك نكرةً ،
ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذِكْره ، ومثله : » رأيت صاحباً لكم ، فقال لي
صاحبكم « . يعني أن » عدوَّاً « يجوز أن يُلْمَحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّفُ وأن لا
يُلْمَحَ فيتعرَّفَ .
قوله : { وَآخَرِينَ } نسقٌ على » عدو الله « و » من دونهم « صفةٌ ل » آخرين « .
قال ابن عطية : » من دونهم « بمنزلة قولك » دون أن يكون هؤلاء « ف » دون « في كلام
العرب و » من دون « تقتضي عدمَ المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ، ومنه
المثل : » وأُمِرَّ دون عُبَيْدَةَ الوَذَمُ « يعني أن الظرفيةَ هنا مجازية ، لأن
» دون « لا بد أن تكونَ ظرفاً حقيقةً أو مجازاً .
قوله : { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } في هذه الآية قولان ، أحدهما :
أنَّ » علم « هنا متعديةٌ لواحدٍ ، لأنها بمعنى عرف ولذلك تَعَدَّتْ لواحد .
والثاني : أنها على بابها فتتعدى لاثنين ، والثاني : محذوف ، أي : لا تَعْلَمونهم
قارعين أو محاربين . ولا بد هنا من التنبيه على شيء : وهو أن هذين القولين لا يجوز
أن يكونا في قوله » الله يَعْلمهم « ، بل يجب أن يقال : إنها المتعدية إلى اثنين ،
وإن ثانيهما محذوف ، لِما تقدم لك من الفرق بين العِلْم والمعرفة ، منها : أنَّ
المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل ، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد نصَّ
العلماء على أنه لا يجوز أن يُطْلَقَ ذلك أعني الوصفيةَ بالمعرفةِ على الله تعالى
.
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
قوله
تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ } : الجُنوح : المَيْل ، وجَنَحت الإِبلُ : أمالَتْ
أعناقها ، قال ذو الرمة :
2438 إذا ماتَ فوق الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ روحَه ... بذكراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ
جُنَّحُ
ويقال : جَنَح الليلُ : أقبل . قال النضر بن شميل : « جَنَح الرجل إلى فلان ولفلان
: إذا خضع له » . والجُنوح : الاتِّباع أيضاً لتضمُّن الميلِ ، قال النابغة يصف
طيراً يتبع الجيش :
2439 جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه ... إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ
ومنه « الجوانح » للأضلاع لمَيْلِها على حَشْوة الشخص ، والجناح من ذلك لميلانه
على الطائر . وقد تقدَّم الكلام على شيء من هذه المادة في البقرة . وعلى « السِّلم
» .
وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسرِ السين ، وكذا في القتال : { وتدعوا إِلَى السلم }
. وافقه حمزة على ما في القتال . و « للسِّلْم » متعلق ب « جَنَحوا » فقيل :
يَتَعدَّى بها وب إلى . وقيل : هي هنا بمعنى إلى . وقرأ الأشهب العقيلي « فاجنُحْ
» بضم النون وهي لغة قيس ، والفتح لغة تميم . والضمير في « لها » يعود على « السلم
» لأنها تذكَّر وتؤنَّثُ . ومن التأنيث قولُه :
2440 وأَقْنَيْتُ للحربِ آلاتِها ... وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أوزارَها
/ وقال آخر :
2441 السِّلْمُ تأخذ منها ما رَضِيْتَ به ... والحربُ يَكْفيك من أنفاسها جُرَعُ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
قوله
تعالى : { وَمَنِ اتبعك } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكون « مَنْ » مرفوعَ المحلِّ
عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون ، وبهذا فسَّر الحسن البصري وجماعة
، وهو الظاهر ، ولا مَحْذورَ في ذلك من حيث المعنى ، وإن كان بعضُ الناسِ
استَصْعَبَ كونَ المؤمنين يكونون كافِين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآيةَ
على ما سنذكره .
الثاني : أن « مَنْ » مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في « حَسْبُك » وهو رأيُ
الكوفيين ، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : معناه : وحسبُ مَن اتَّبعك .
الثالث : أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة . قال الزمخشري : « ومَن اتبعك » : الواو
بمعنى مع ، وما بعده منصوبٌ . تقول : « حَسْبُك وزيداً درهمٌ » ولا تَجُرُّ؛ لأن
عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ . وقال :
2442 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ
والمعنى : كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين [ اللهُ ] ناصراً « ، وقال الشيخ : » وهذا
مخالف كلامَ سيبويه فإنه قال : « حَسْبُك وزيداً درهمٌ » لَمَّا كان فيه معنى كفاك
، وقَبُح أن يَحْملوه على المضمر نَوَوا الفعل كأنه قال : بحسبك ويُحْسِب أخاك [
درهمٌ ] « ، ثم قال : » وفي ذلك الفعل المضمرِ ضميرٌ يعودُ على الدرهمِ ، و النيةُ
بالدرهم التقديمُ ، فيكون مِنْ عطفِ الجمل . ولا يجوزُ أن يكونَ من باب الإِعمال ،
لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعملَه فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مَجْراه ولا
عمله فلا يُتَوَّهم ذلك فيه « . قلت : وقد سبق الزمخشري إلى كونه مفعولاً معه
الزجاج ، إلا أنه جَعَل » حسب « اسمَ فعلٍ فإنه قال : » حسبُ : اسمُ فعلٍ ،
والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى مع « وعلى هذا يكون » اللهُ « فاعلاً ، وعلى هذا
التقدير يجوز في » ومَنْ « أن يكونَ معطوفاً على الكاف؛ لأنها مفعول باسم الفعل لا
مجرورةٌ؛ لأن اسم الفعل لا يُضاف . ثم قال الشيخ : » إلا أن مذهب الزجاج خطأٌ
لدخولِ العواملِ على « حَسْب » نحو : بحَسْبك درهم « ، وقال تعالى : { فَإِنَّ
حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ] ، ولم يَثْبُتْ في موضعٍ كونُه اسمَ فعلٍ
فيُحْمل هذا عليه » .
وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى : « ف »
مَنْ « في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف؛ لأن موضعَها نصبٌ على
المعنى ب » يكفيك « الذي سَدَّتْ » حَسبك « مَسَدَّه » . قال الشيخ : « هذا ليس
بجيد؛ لأن » حَسْبك « ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة
ليست مِنْ نصب ، و » حسبك « مبتدأ مضافٌ إلى الضمير ، وليس مصدراً ولا اسم فاعل ،
إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم ، كأنه تَوَهَّم أنه قيل : يكفيك الله أو كفاك
الله ، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ
الشعبي وابنِ زيد أن تكون » مَنْ « مجرورةً ب » حَسْب « محذوفةً لدلالة » حَسْبك «
عليها كقوله :
2443
أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
أي : وكلَّ نارٍ ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور « . قال ابن عطية : »
وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ ، بابُه ضرورةُ الشعر « . قال الشيخ : »
وليس بمكروهٍ ولا ضرورة ، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام «
، قلت : قوله : » بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب « فيه نظر لأن النحويين على أنَّ
إضافةَ » حسب « وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعَلَّلوا ذلك بأنها في قوةِ اسمِ
فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإن » حَسْبك « بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك ، وقيد
الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا : ويدل على ذلك أنها تُوصف بها النكرات فقال : »
مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ « .
وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها : أنه نسقٌ على الجلالةِ كما
تقدَّم ، إلا أنه قال : فيكون خبراً آخر كقولِك : » القائمان/ زيد وعمرو ، ولم
يُثَنِّ « حَسْبك » لأنه مصدرٌ . وقال قوم : هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا
يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : « ما شاء الله وشئت » . و « ثم » هنا
أولى « ، قلت : يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل تأتي
ب » ثم « التي تقتضي التراخي ، والحديثُ دالٌّ على ذلك . الثاني : أن يكونَ خبرَ
مبتدأ محذوف تقديرُه : وحسب مَنْ اتبعك . والثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره
: ومَن اتبعك كذلك أي : حسبهم الله .
وقرأ الشعبي » ومَنْ « بسكون النون » « أَتْبَعَك » بزنة أَكْرمك .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قوله
تعالى : { حَرِّضِ } : أي حُضَّ وحُثَّ . يقال : حَرَّض وحَرَّش وحَرَّك بمعنىً
واحد . وقال الهروي : « يقال حارَضَ على الأمر وأَكَبَّ وواكب وواظب وواصَبَ
بمعنًى قيل : وأصله مِن الحَرَض وهو الهلاك قال :
2444 إني امرؤ رابني همٌّ فأَحْرَضني ... حتى بُلِيْتُ وحتى شفَّني سَقَم
قال أبو إسحاق : » تأويل التحريض في اللغة أن يُحَثَّ الإِنسانُ على شيءٍ حتى
يُعْلَمَ منه أنه حارضٌ ، والحارضُ المقارِبُ للهلاك « ، واستبعد الناسُ هذا منه .
وقد نحا الزمخشري نحوه فقال : » التحريضُ : المبالغَةُ في الحثِّ على الأمر ، من
الحَرَض ، وهو أن يَنْهكه المرض ويتبالغَ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه
حَرَضاً وتقول : ما أراك إلا حَرَضاً « .
قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } الآيات : أثبت في الشرط الأول
قيداً وهو الصبرُ وحَذَفَ من الثاني ، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونُهم مِن
الكفرة وحَذَف من الأول . والتقدير : مئتين من الذين كفروا ومئة صابرة ، فحذف من
كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة .
وقرأ الكوفيون : { وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا } { فإن يكنْ منكم مئة صابرة }
بتذكير » يكن « فيهما . ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما ، وأبو عمرو في
الأولى كالكوفيين ، وفي الثانية كالباقين . فَمَنْ ذَكَّرَ فللفَصْل بين الفعل
وفاعله بقوله » منكم «؛ ولأن التأنيث مجازي ، إذ المراد بالمئة الذُّكور . ومن
أنَّث فلأجلِ الفصلِ ، ولم يلتفت للمعنى ولا للفصل . وأمَّا أبو عمرو فإنما فرَّق
بين الموضعين فَذَكَّر في الأول لِما ذكر ، ولأنَّه لحَظَ قولَه » يَغْلبوا « ،
وأنَّث في الثاني لقوة التأنيث بوصفِه بالمؤنث في قوله » صابرة « .
وأمَّا » إنْ يكنْ منكم عشرون « » وإن يكنْ منكم أَلْفٌ « ، فبالتذكير عند جميع
القرَّاء إلا الأعرج فإنه أنَّث المسند إلى » عشرون « .
وقرأ الأعمش : » حَرِّصْ « بالصاد المهملة وهو من الحِرْص ، ومعناه مقاربٌ لقراءة
العامة . وقرأ المفضل عن عاصم : » وعُلِم « مبنياً للمفعول ، و » أن فيكم ضعفاً «
في محل رفع لقيامه مقامَ الفاعل ، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به في قراءة
العامَّة لأنَّ فاعلَ الفعلِ ضميرٌ يعودُ على الله تعالى . و » يكن « في هذه
الأماكن يجوز أن تكون التامَّةَ ف » منكم « : إمَّا حالٌ من » عشرون « لأنها في
الأصل صفةٌ لها ، وإمَّا متعلق بنفس الفعل لكونه تاماً ، وأن تكونَ الناقصةَ ،
فيكون » منكم « الخبرَ ، والمرفوعُ الاسمَ وهو » عشرون « و » مئة « و » ألف « .
قوله : » ضعفاً « قرأ عاصم وحمزة هنا وفي الروم في كلماتها الثلاث : { اللهُ الذي
خَلَقكم مِنْ ضعف ، ثم جَعَل من بعد ضعفٍ قوة ، ثم جَعَلَ من بعد قوةٍ ضعفاً }
بفتح الضاد ، والباقون بضمها ، وعن حفص وحدَه خلافٌ في الروم خاصةً .
وقرأ عيسى بن عمر « ضُعُفاً » بضم الفاء والعين ، وكلُّها مصادرُ . وقيل : الضَّعْفُ بالفتح في الرأي والعقل ، والضم في البدن ، وهذا قول الخليل بن أحمد ، هكذا نقله الراغب عنه . ولمَّا نقل ابن عطية هذا عن الثعالبي قال : « هذا القول تردُّه القراءة » . وقيل : هما بمعنى واحد ، لغتان : لغةُ الحجاز الضمُّ ، ولغة تميم الفتح ، نقله أبو عمرو فيكونان كالفَّقْر والفُّقر ، والمَكْث والمُكث ، والبُخْل والبَخَل . وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر : ضُعَفاء جمعاً على فُعَلاء كظَريف وظُرَفاء . وقد نَقَلْت عن القرَّاء كلاماً كثيراً في هذا الحرف في شرح « حرز الأماني » فإنه أليقُ به من هذا فعليك به .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
قوله
تعالى : { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } : قرأ أبو عمرو « تكون » بالتأنيث مراعاةً
لمعنى الجماعة . والباقون/ بالتذكير مراعاةً للفظ الجمع . والجمهورُ هنا على «
أَسْرى » وهو قياس فعيل بمعنى مفعول دالاَّ على أنه كجريح وجَرْحى . وقرأ ابن
القعقاع والمفضَّل عن عاصم « أُسَارى » شبَّهوا « أسير » بكَسْلان فجمعوه على
فُعالَى ككُسالى ، كما شبَّهوا به « كسلان » فجمعوه على كَسْلى . وقد تقدَّم
القولُ فيهما في البقرة محققاً .
وقوله : { يُثْخِنَ } قرأ العامة « يُثْخن » مخففاً عدَّوه بالهمزة ، وقرأ أبو
جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر « يُثَخِّن » بالتشديد ، عَدَّوْه بالتضعيف وهو
مشتقٌّ من الثَّخانة ، وهي الغِلْظ و الكثافة في الأجسام ، ثم يُستعار ذلك في كثرة
القتل والجراحات فيقال : أَثْخَنَتْه الجراح أي : أثقلته حتى أَثْبَتَتْه ، ومنه {
حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } [ محمد : 4 ] . وقيل : حتى تقهر . والإِثخان : القهر
. أنشد المفضل :
2445 تُصَلِّي الضُّحى ما دهرُها بتعبُّدٍ ... وقد أَثْخَنَتْ فرعونَ في كفره كفرا
كذا أنشده الهرويُّ شاهداً على القهر وليس فيه معنى ، إذ المعنى على الزيادة
والمبالغةِ المناسِبةِ لأصل معناه وهي الثَّخانة ويقال منه : ثَخُنَ يَثْخُنُ
ثَخَانةً فهو ثَخِين ، كظَرُف يَظْرُف ظَرافةً فهو ظريف .
قوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } الجمهور على نصب « الآخرة » ، وقرأ سليمان بن
جماز المدني بجرها ، وخُرِّجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جَرِّه .
وقدَّره بعضهم : عَرَض الآخرة ، فعيب عليه إذ لا يحسن أن يقال : والله يريد عرض
الآخرة ، فأصلحه الزمخشري بأنْ جَعَله كذلك لأجل المقابلة قال « يعني ثوابها » .
وقدَّره بعضُهم بأعمال أو ثواب . وجعله أبو البقاء كقول الآخر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وقدَّر المضاف « عَرَضَ الآخرة » . قال الشيخ : « ليست الآيةُ مثلَ البيت فإنه
يجوز ذلك إذا لم يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت ، أو يُفصل ب » لا
« نحو : » ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك « ، أمَّا إذا فُصِل بغيرها كهذه
القراءةِ فهو شاذٌّ قليل » .
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
قوله
تعالى : { مِمَّا غَنِمْتُمْ } : يجوز أن تكون مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ
المفعولِ . ويجوز أن تكونَ بمعنى الذي ، وهو في المعنى كالذي قبله ، والعائد على
هذا محذوف .
قوله : { حَلاَلاً } نصبٌ على الحال : إمَّا من « ما » الموصولة أو مِنْ عائدِها
إذا جعلناها اسميةً . وقيل : هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي : أكلاً حلالاً .
قوله : { واتقوا الله } قال ابن عطية : « وجاء قوله : » واتقوا الله « اعتراضاً
فصيحاً في أثناء القول ، لأنَّ قولَه : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } متصلٌ
بقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } يعني أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له
.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
قوله
تعالى : { مِّنَ الأسرى } : قرأه أبو عمرو بزنة فُعالى ، والباقون بزنة فَعْلَى
وقد عُرِفَ ما فيهما . ووافق أبا عمروٍ قتادةُ ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو
جعفر . واختُلف عن الجحدري والحسن . وقرأ ابن محيصن « مِنْ أَسْرى » منكِّراً .
قوله : { يُؤْتِكُمْ } جواب الشرط . وقرأ الأعمش : « يُثِبْكم » من الثواب . وقرأ
الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد « ممَّا أَخَذَ » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى .
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قوله تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ } : الضمير يعود على الأَسْرى لأنهم أقربُ مذكور . وقيل : على الجانحين . وقيل : على اليهود . وقيل : على كفار قريش .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
قوله
تعالى : { فَعَلَيْكُمُ النصر } : مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل عند الأخفش ، ولفظةُ
« على » تُشْعِرُ بالوجوب . وكذلك قدَّره الزمخشري وشبَّهه بقوله :
2446 على مُكْثريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم ... وعند المُقِلِّين السماحةُ
والبَذْلُ
قوله : { مِّن وَلاَيَتِهِم } قرأ حمزة هنا وفي الكهف [ الآية : 44 ] : { الولاية
لِلَّهِ } هو والكسائي بكسر الواو . والباقون بفتحها فقيل : لغتان . وقيل : بالفتح
مِن المَوْلَى ، يقال : مَوْلى بيِّن الوَلاية ، وبالكسر مِنْ وِلاية السلطان ،
قاله أبو عبيدة . وقيل : بالفتح مِنَ النُّصْرَة والنسب ، وبالكسر من الإِمارة
قاله الزجاج . قال : « ويجوز الكسرُ لأنَّ في تَوَلِّي بعضِ القوم بعضاً جنساً من
الصناعة والعمل ، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ مثل الخِياطة والقِصارة .
وقد خَطَّأ/ الأصمعيُّ قراءةَ الكسرِ ، وهو المُخْطِئُ لتواترها .
وقال أبو عبيد : » والذي عندنا الأَخْذُ بالفتح في هذين الحرفين ، لأنَّ معناهما
مِنَ الموالاة في الدين « . وقال الفارسي : » الفتحُ أَجْود لأنها في الدين « ،
وعَكَس الفراء هذا فقال : » يُريد مِنْ مواريثهم ، بكسر الواو أحبُّ إليَّ من
فتحها ، لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة ، وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة ،
وقد سُمع الفتح والكسر في المعنيين جميعاً « . وقرأ السلمي والأعرج » والله بما
يعملون « بالياء للغيبة ، وكأنه التفات أو إخبار عنهم .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
قوله تعالى : { إِنْ لا تَفْعَلُوهُ } : الهاءُ تعود : إمَّا على النصر أو الإِرث أو الميثاق أي : حِفْظه ، أو على جميع ما تقدَّم ذِكْرُه ، وهو معنى قول الزمخشري « إنْ لا تَفْعلوا ما أَمَرْتُكم به » . والعامة قرؤوا [ كبير ] بالباء الموحدة . وقرأ الكسائي فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي : « كثير » بالثاء المثلثة ، وهذا قريبٌ ممَّا في البقرة وهو يقرؤها كذلك .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قوله
تعالى : { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } : زعم بعضهم أن هذه الجملة تكرارٌ للتي
قبلها ، وليس كذلك ، فإن التي قبلها تضمَّنَتْ ولايةَ بعضِهم لبعض ، وتقسيمَ
المؤمنين إلى ثلاثة أقسام ، وبيان حكمهم في ولايتهم وتناصرهم ، وهذه تضمَّنت
الثناء والتشريف والاختصاص ، وما آل إليه حالُهم من المغفرة والرزق الكريم .
قوله في : « كتاب » يجوز أن يتعلَّق بنفس « أَوْلَى » أي : أحقّ في حكم الله أو في
القرآن أو في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هذا الحكمُ
المذكور في كتاب . وما أحسنَ ما جيء بخاتمتها بقوله : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
.
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
الجمهورُ
على رفع « براءة » وفيه وجهان ، أحدهما : أنها رفعٌ بالابتداء ، والخبرُ قولُه : «
إلى الذين » . وجاز الابتداءُ بالنكرة لأنها تخصَّصَتْ بالوصفِ بالجارِّ بعدها .
والثاني : أنها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هذه الآياتُ براءةٌ . ويجوز في : « من
الله » أن يكون متعلقاً بنفس « براءة » لأنها مصدرٌ ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «
مِنْ » تقول : بَرِئت مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَراءة أي : انقطعت العُصْبَةُ بيننا .
وعلى هذا فيجوز أن يكونَ المسَوِّغُ للابتداء بالنكرة في الوجه الأول هذا . و «
إلى الذين » متعلقٌ بمحذوف على الأول لوقوعِه خبراً ، وبنفس « بَراءة » على الثاني
. ويقال : بَرِئْتُ وبَرَأت من الدين بالكسر والفتح . وقال الواحدي : « ليس فيه
إلا لغةٌ واحدة : كسرُ العين في الماضي ، وفتحُها في المستقبل » وليس كذلك ، بل
نَقَلَهما أهلُ اللغة .
وقرأ عيسى بن عمر « براءةً » بالنصب على إضمار فعل أي : اسمعوا براءةً . وقال ابن
عطية : « أي ، الزموا براءةً ، وفيه معنى الإِغراء » .
وقُرىء « مِنِ الله » بكسر نون « مِنْ » على أصلِ التقاءِ الساكنين أو على
الإِتباع لميم « مِنْ » وهي لُغَيَّةٌ ، فإن الأكثرَ فتحُها مع لام التعريف
وكَسْرُها مع غيرها نحو : « مِنِ ابنك » وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما . وحكى أبو
عمرو عن أهل نجران أنهم يَقْرؤون كذلك بكسر النون مع لام التعريف .
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
قوله
تعالى : { فَسِيحُواْ } : هذا على إضمار القول أي : قيل : سيحوا . وهذا التفاتٌ من
الغَيْبة إلى الخطاب . يقال : ساح يَسيح سِياحة وسُيُوحاً وسَيَحاناً أي : انساب
كسَيْح الماءِ في الأماكن المنبسطة . قال طرفة :
2447 لو خِفْتُ هذا منك ما نِلْتَني ... حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ
و « أربعةَ أشهرٍ » ظرف ل « سِيْحوا » . وقرىء { غَيْرُ مُعْجِزِي الله } بنصب
الجلالة على أن النونَ حُذِفَتْ تخفيفاً . وقد تقدَّم تحريرُه .
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قوله
تعالى : { وَأَذَانٌ } : رفع بالابتداء ، و « مِن الله » : إمَّا صفةُ أو متعلقٌ
به . و إلى الناس « الخبر . ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : وهذا إعلامٌ ،
والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في » براءة « . قال الشيخ : » ولا وجهَ لقولِ
مَنْ قال إنه معطوف على « براءة » ، كما لا يُقال « عمرو » معطوف على « زيد » في «
زيد قائم وعمرو قاعد » . وهو [ كما قال ] ، وهذه عبارة [ الزمخشري بعينها ]
وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل : « وإذْن » بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال . وقرأ
العامَّةُ : « أنَّ الله » بفتح الهمزة على أحدِ وجهين : إمَّا كونِه خبراً ل «
أذان » أي : الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم
يذكر تضعيفَه وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجر أي : بأن الله . ويتعلَّقُ هذا الجارُّ
إمَّا بنفس المصدرِ ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه صفتُه . و « يومَ » منصوبٌ بما
تعلَّق به الجارُّ في قوله : « إلى الناس » . وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ ب « أذانٌ »
وهو فاسدٌ من وجهين : أحدهما : وصفُ المصدرِ قبل عمله . الثاني : الفَصْلُ بينه
وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ .
وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة ، وفيه المذهبان المشهوران : مذهبُ البصريين
إضمارُ القول ، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ/ الأذانِ مجرى القول .
قوله : { مِّنَ المشركين } متعلقٌ بنفس « بريء » كما يقال : « بَرِئْتُ منه » ،
وهذا بخلاف { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] فإنها هناك تحتمل هذا ،
وتحتمل أن تكونَ صفةً ل « براءة » .
قوله : { وَرَسُولِهِ } الجمهورُ على رَفْعِه ، وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه
مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي : ورسولُه بريءٌ منهم ، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه .
والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر ، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ
للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية . الثالث : أنه معطوفٌ على محل اسم « أنَّ » ،
وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة . قال ابن عطية : «
ومذهبُ الأستاذ يعني ابن الباذش على مقتضى كلامِ سيبويهِ أن لا موضعَ لِما دخلَتْ
عليه » أنَّ «؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل ، وأنه لا فرقَ بين » أَنَّ
« وبين » ليت « ، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه » . قال
الشيخ : « وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ » أنَّ « لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس
ظهورَ عملِ العامل بدليل : » ليس زيد بقائم « و » ما في الدار مِنْ رجل « فإنه ظهر
عملُ العامل ولهما موضع ، وقولُه : » بالإِجماع « يريد أن » ليت « لا موضعَ لِما
دَخَلَتْ عليه بالإِجماع ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ ، وجعل حكمَ » ليت «
وأخواتِها جميعِها حكمَ » إنَّ « بالكسر » .
قلت
: قوله : « بدليل ليس زيدٌ بقائم » إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا
العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ
معه بخلاف « أنَّ » بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد ، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه
قولُه : « وأن لا فرقَ بين » أنَّ « وبين » ليت « ، فإنَّ الفرقَ قائمٌ ، وذلك أن
حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن
معناه معهما باقٍ .
وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق » ورسولَه « بالنصب . وفيه وجهان ،
أظهرُهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة . والثاني : أنه مفعولٌ معه ، قاله الزمخشري
. وقرأ الحسن » ورسولِه « بالجر وفيها وجهان ، أحدهما : أنه مقسمٌ به أي : ورسولِه
إن الأمر كذلك ، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى . والثاني : أنه على الجِوار ، كما
أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار ، وقد تقدَّم تحقيقُه . وهذه القراءةُ يَبْعُد
صحتُها عن الحسن للإِبهام ، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ » ورسولِه «
بالجر . فقال الأعرابي : إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه ،
فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه ، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ ، فحينئذ
أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية . ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود
الدؤلي . قال أبو البقاء : » ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر « .
وهذا من الوضحات .
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قوله
تعالى : { إِلاَّ الذين } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع .
والتقدير : لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ
فإنه قال : « فإن قلت : مِمَّ استثنى قولَه { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم؟ } قلت :
وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض } لأن الكلامَ خطابٌ
للمسلمين ، ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا
لهم : سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم .
والاستثناءُ بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين : ولكن الذين
لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم » .
الثاني : أنه استثناءٌ متصلٌ ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره : اقتلوا المشركين
المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم . وفيه ضعفٌ .
الثالث : أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ
لأنَّ الفاءَ تزاد في غير موضعها ، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُِناسٍ
بأعيانهم ، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً . والأَوْلَى
أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى
إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة .
قوله : { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } الجمهور « يَنْقُصوكم » بالصاد مهملةً
، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين . ويجوز ذلك فيه هنا ، ف « كُمْ » مفعولٌ ، و «
شيئاً » : إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من النقصان ، أو لا قليلاً و
[ لا ] كثيراً من النقصان . وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع/
وأبو زيد « يَنْقُضوكم » بالضاد المعجمة ، وهي على حَذْفِ مضاف أي : ينقضوا عهدكم
، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه . قال الكرماني : « وهي مناسِبة
لِذِكْرِ العهد » أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ ، وهي قريبة من قراءة العامة؛
فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها
التمام .
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله
تعالى : { الأشهر } : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، والمرادُ بهذه الأشهرِ
الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ،
والعربُ إذا ذكرت نكرةً ، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً ، أتت بمضمرِه أو بلفظه
معرَّفاً بأل ، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : «
رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل » لم تُرِد بالثاني الأولَ ، وإن وَصَفْتَه
بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك : « فأكرمت الرجل المذكور » ، ومنه هذه الآيةُ
فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض
المغايرة . ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد ،
والوجهان مقولان في التفسير .
والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات ، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال : « يُقال :
» أَهْلَلْنا شهرَ كذا « أي : دَخَلَْنا فيه ، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى
مضيِّ نصفِه لباساً ، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ ،
وأنشد :
2448 إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه ... كفى قاتِلاً سَلْخي الشهورَ
وإهلالي
قوله : { كُلَّ مَرْصَدٍ } في انتصابه وجهان أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ
المكاني . قال الزجاج : » نحو : ذهبت مذهباً « . وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا
القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه
بل بواسطة » في « ، نحو : صَلَّيْتُ في الطريق ، وفي البيت ، ولا يَصِلُ بنفسه إلا
في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع ، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه
في بيت ساعِدة :
2449 لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص .
قال الشيخ : » إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى « واقعدوا » لا يُراد به حقيقةُ
القعود ، وإنما يُراد : ارصُدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في
المادة ، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول : جلست مجلسَ
القاضي ، وقعدت مجلسَ القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل « .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو » على « أي : على كلِّ مَرْصَد ،
وهذا قول الأخفش ، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر :
2450 تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ ... وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني
وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ } أي : على صراطك ، اتفق الكل على أنه على تقدير » على « . وقال بعضُهم
: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد ، نقله أبو البقاء : وحينئذٍ تكون الباء بمعنى »
في « فينبغي أن تُقَدَّرَ » في « لأن المعنى عليها ، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر :
2451 نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ... ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ
والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي : رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح
للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل :
2452 ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا ... أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ
والمِرْصاد : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان
مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على المرصود ، وقولُه تعالى : { فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يَحْتمل
كلَّ ذلك ، وكأنه في الأصل مصدرٌ ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير .
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قوله
تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ } : كقوله : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في
كونِه من باب الاشتغال/ عند الجمهور .
قوله : { حتى يَسْمَعَ } « حتى » يجوز أن تكونَ هنا للغاية ، وأن تكونَ للتعليل ،
وعلى كلا التقديرين يتعلَّقُ بقوله : « فَأَجِرْهُ » ، وهل يجوز أن تكونَ هذه
المسألةُ من باب التنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنه يجوزُ من حيث المعنى أن
تُعَلَّق « حتى » بقوله : « استجارك » أو بقوله : « فَأَجِرْهُ » إذ يجوز تقديرُه
: وإن استجارك أحدٌ حتى يسمعَ كلام الله فَأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله . والجوابُ
أنه لا يجوزُ عند الجمهور لأمرٍ لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه
من التنازع ، وأَعْمَلْنا الأول مثلاً لاحتاج الثاني إليه مضمراً على ما تقرر ،
وحينئذٍ يلزم أنَّ « حتى » تجرُّ المضمر ، و « حتى » لا تجرُّه إلا في ضرورة شعر
كقوله :
2453 فلا واللَّهِ لا يَلْقَى أُناسٌ ... فتى حَتَّاك يا ابنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند مَنْ يُجيز أن تجرَّ المضمر فلا يمتنع ذلك عنده ، ويكون من إعمال
الثاني لحذفِه ، ويكون كقولك : « فرحت ومررت بزيد » أي : فرحت به ، ولو كان من
إعمال الأول لم تَحْذِفْه من الثاني .
وقوله : { كَلاَمَ الله } من باب إضافة الصفة لموصوفها لا من باب إضافةِ المخلوق
للخالق . و « مَأْمَنَه » يجوز أن يكون مكاناً أي مكان أَمْنِه ، وأن يكونَ مصدراً
أي : ثمَّ أَبْلِغْه أَمْنَه .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قوله
تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ } : في خبر « يكون » ثلاثةُ أوجه أظهرُها : أنه « كيف »
، و « عهدٌ » اسمُها ، والخبر هنا واجبُ التقديمِ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام
وهو الاستفهامُ ، و « للمشركين » على هذا متعلقة : إمَّا ب « يكون » عند مَنْ
يُجيز في « كان » أن تعمل في الظرفِ وشبهه ، وإمَّا بمحذوف لأنها صفةٌ لعهد في
الأصل ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً ، و « عند » يجوز أن تكون متعلقةً ب « يكون
» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « عَهْد » أو متعلقةً بنفس « عهد » لأنه مصدر .
الثاني : أن يكون الخبر « للمشركين » و « عند » على هذا فيها الأوجهُ المتقدمة .
ونزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوز أن يكونَ ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «
للمشركين » . والثالث : أن يكون الخبرُ « عند الله » و « للمشركين » على هذا :
إمَّا تبيين ، وإمَّا متعلقٌ ب « يكون » عند مَنْ يجيز ذلك كما تقدم ، وإمَّا حال
من « عهد » ، وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر . ولا يبالى بتقديم
معمولِ الخبرِ على الاسم لكونِهِ حرفَ جر . و « كيف » على هذين الوجهين الأخيرين
مُشْبِهةٌ بالظرف أو بالحال كما تقدَّم تحقيقه في { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة
: 28 ] .
ولم يذكروا هنا وجهاً رابعاً وكان ينبغي أن يكونَ هو الأظهر - وهو أن يكونَ الكونُ
تاماً بمعنى : كيف يوجد عهدٌ للمشركين عند الله؟ ، والاستفهامُ هنا بمعنى النفي ،
ولذلك وقع بعده الاستثناء ب « إلا » ، ومِنْ مجيئه بمعنى النفي أيضاً قولُه :
2454 فهذي سيوفٌ يا صُدَيُّ بنَ مالكٍ ... كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضاربُ
أي : ليس ضاربٌ بالسيف .
قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ } فيه وجهان أحداهما : أنه استثناءٌ منقطع أي :
لكن الذين عاهدتم فإنَّ حُكْمَهم كيت وكيت . والثاني : أنه متصلٌ وفيه حينئذٍ
احتمالان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على أصل الاستثناء من المشركين . والثاني : أنه
مجرورٌ على البدل منهم ، لأنَّ معنى الاستفهامِ المتقدمِ نفيٌ ، أي : ليس يكونُ
للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا . فقياسُ قولِ أبي البقاء فيما تقدَّم أن يكون
مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ من قوله « فما استقاموا » خبرُه .
قوله : { فَمَا } يجوز في « ما » أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً ، وهي في محلِّ نصبٍ على
ذلك أي : فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم . ويجوز أن تكونَ شرطيةً ، وحينئذٍ
ففي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الظرف الزماني ، والتقدير :
أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم . ونظَّره أبو البقاء بقولِه تعالى :
{
مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ]
. والثاني : أنها في محل رفع بالابتداء ، وفي الخبر الأقوالُ المشهورة ، و «
فاستقيموا » : جوابُ الشرط . وهذا نحا إليه الحوفي ، ويحتاج إلى/ حذفِ عائد أي :
أيُّ زمانٍ استقاموا لكم فيه ، فاستقيموا لهم . وقد جوَّز الشيخ جمال الدين ابنُ
مالك في « ما » المصدرية الزمانية أن تكونَ شرطيةً جازمة ، وأنشد على ذلك :
2455 فما تَحْيَ لا نسْأَمْ حياةً وإن تَمُتْ ... فلا خيرَ في الدنيا ولا العيشِ
أجمعا
ولا دليل فيه لأنَّ الظاهرَ الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدرية وزمانٍ ، قال أبو
البقاء : « ولا يجوز أن تكونَ نافيةً لفساد المعنى ، إذ يصير المعنى : استقيموا
لهم لأنهم لم يَسْتقيموا لكم » .
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قوله
تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا } : المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه
. فقدَّره أبو البقاء : « كيف تَطْمئنون أو : كيف يكونُ لهم عهدٌ » . وقدَّره غيره
: كيف لا تقاتلونهم . والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ ، لأنه مِنْ
جنس ما تقدَّم ، فالدلالةُ عليه أقوى ، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً ،
وتقدَّم منه قولُه تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [ آل عمران : 25 ] {
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [ النساء : 41 ] ، وقال الشاعر :
2456 وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ
أي : كيف مات؟ ، وقال الحطيئة :
2457 فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ ... على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا
أي : كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ : « وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد » كيف «
بقوله : » كيف تطمئنون « ، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم » . قلت : ولم يقدّره
أبو البقاء بهذا وحدَه ، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه .
قوله : { وَإِن يَظْهَرُوا } هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي : كيف
يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله : {
وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [ الأعراف : 169 ] . و « لا
يرقُبوا » جوابُ الشرط . وقرأ زيد بن علي : « وإن يُظْهَروا » ببنائِه للمفعول ،
مِنْ أظهره عليه أي : جعله غالباً له .
قوله : { إِلاًّ } مفعولٌ به ب « يرقُبوا » أي : لا يَحْفظوا . وفي « الإِلِّ »
أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها : أن المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة وابن زيد
والسدِّي ، ومنه قول الشاعر :
2458 لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي : الحِلْف . وقال آخر :
2459 وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ ... وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر :
2460 أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا ... قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع : « بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ ، كريم الخِلّ ، بَرودُ الظلّ
» أي : وفيُّ العهد .
الثاني : أن المرادَ به القَرابة ، وبه قال الفراء ، وأنشد لحسان رضي الله عنه :
2461 لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ
النَّعامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله :
2462 - . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ
الثالث : أن المرادَ به الله تعالى أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلُّوا على ذلك
بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله : « إنَّ هذا الكلام
لم يَخْرج من إلّ » أي : الله عز وجل . ولم يرتضِ هذا الزجاج قال : « لأن أسماءَه
تعالى معروفة في الكتاب والسنة ، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ افعلْ لي كذا .
الرابع : أن الإِلَّ الجُؤَار ، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ ، وذلك أنهم كانوا
إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً ، ومنه قول أبي جهل :
2463
لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه ... متينٍ قُواه غيرِ منتكثِ الحبلِ
الخامس : أنه مِنْ « ألَّ البرقُ » أي : لَمَع . قال الأزهري : « الأَلِيل :
البريق ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ أي : صفا ولمع » . وقيل : الإِلُّ مِن التحديد ومنه
« الأَلَّةُ » الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها . وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً
مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك ، فقال الزجاج : « حقيقةُ الإِلِّ
عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء ، فَمِنْ ذلك : الأَْلَّةُ : الحَرْبَةُ ،
وأُذُن مُؤَلَّلَة ، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار
من هذا ، فإذا قلت في العهد : » بينهما إلٌّ « فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ
العهود ، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة . وقال الراغب : » الإِلُّ : كلُّ حالةٍ
ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي : تَلْمَع ، وألَّ الفَرَسُ : أسرع ،
والأَْلَّةُ : / الحَرْبَةُ اللامعة « ، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم
فتح مكة :
2464 إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ ... هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ
وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ ... قال : » وقيل : الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله
تعالى ، وليس ذلك بصحيحٍ ، والألَلاَن صفحتا السكين « انتهى . ويُجمع الإِلُّ في
القِلَّة آلٌّ ، والأصل : أَأْلُل بزنة أَفْلُس ، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً
لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأُدْغمت اللامُ في اللام . وفي الكثرة على إلال كذِئْب
وذِئاب . والأَْلُّ بالفتح قيل : شدَّة القنوط . قال الهروي في الحديث : » عَجب
ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم « قال أبو عبيد : » المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة ،
والمحفوظ عندنا فَتْحُها ، وهو أشبهُ بالمصادر ، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم ،
ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً
إذا رفع صوتَه بالبكاء ، ومنه يقال : له الويل والأَلِيل ، ومنه قولُ الكميت :
2465 وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ
الفُضُلُ
انتهى . وقرأت فرقة : « ألاًّ » بالفتح ، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ
ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد . وقرأ عكرمة : « إيلاً » بكسرِ الهمزة ، بعدها ياءٌ ساكنة
، وفيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنه اسمُ الله تعالى ، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في
جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله . والثاني : أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل
يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر ، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي : لا
يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة . وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلِبَتْ
ياءً كريح . الثالث : أنه هو الإِلُّ المضعف ، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل
إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم : أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته . قال : الشاعر :
2466 يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها ... أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ
قوله : { وَلاَ ذِمَّةً } الذِّمَّة : قيل العهد ، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ
لفظِه إذا قلنا : إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً ، فهو كقوله تعالى :
{
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] .
وقوله :
2467 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقوله :
2468 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ
والبعدُ
وقيل : الذِّمَّة : الضَّمان ، يقال : هو في ذمَّتي أي : في ضماني وبه سُمِّي أهلُ
الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين ، ويقال : « له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام
ومَذَمَّة ، وهي الذِّمُّ » . قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحرث :
2469 يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة ... كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ
وقال الراغب : « الذِّمام : ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد ، وكذلك
الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة » يعني بالفتح والكسر وقيل : لي مَذَمَّةٌ فلا
تَهْتكها . وقال غيره : « سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها
الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة » ، وتُجْمع على ذِمّ كقوله :
2470 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما ناشد الذِّمَّ . . . . . .
. . . . .
وعلى ذِمَم وذِمَام . وقال أبو زيد : « مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من
الذَّمِّ » . وقال الأزهري : « الذِّمَّة : الأمان » ، وفي الحديث : « ويَسْعى
بذمَّتِهم أَدْناهم » ، قال أبو عبيد : « الذمَّة الأمانُ ههنا ، يقول : إذا أعطى
أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم ، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على
جميع العسكر » . وقال الأصمعي : « الذِّمَّة : ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى » .
قوله : { يُرْضُونَكُم } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنفٌ ، وهذا هو الظاهر ،
أخبر أن حالهم كذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « لا
يَرْقُبوا » ، قال أبو البقاء : « وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون
المؤمنين » .
قوله : { وتأبى } يقال : أبى يأبى إبىً أي : اشتد امتناعُه : فكلُّ إباءٍ امتناعُ
مِنْ غير عكس قال :
2471 أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه ... فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ
وقال آخر :
2472 أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه ... عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق/ الامتناع بمصيبٍ . ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح
العين شاذٌّ ، ومثله قَلَى يقلى في لغة .
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
قوله تعالى : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } : يجوز أن تكون [ ساء ] على بابِها مِنَ التصرُّف والتعدِّي ومفعولها محذوفٌ أي : ساءهم الذي كانوا يَعْملونه أو عَمَلُهم ، وأن تكون الجارية مَجْرى بئس ، فتُحَوَّل إلى فَعُل بالضم ، ويمتنع تصرُّفها ، وتصير للذم ، ويكون المخصوصُ بالذمِّ محذوفاً كما تقرر ذلك غير مرة .
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
قوله
تعالى : { أَئِمَّةَ الكفر } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « أئمة » بهمزتين
ثانيتهما مُسَهَّلة بينَ بينَ ولا ألفَ بينهما . والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر
بتخفيفهما من غير إدخال ألف بينهما ، وهشام كذلك إلا أنه أَدْخَلَ بينهما ألفاً .
هذا هو المشهور بين القراء السبعة . وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى . ونقل
الشيخ عن نافع ومَنْ معه ، أنهم يُبْدلون الثانية ياء صريحة ، وأنه قد نُقِلَ عن
نافع المدُّ بينهما ، أي بين الهمزة والياء .
فأما قراءةُ التحقيق وبينَ بينَ ، فقد ضعَّفها جماعة من النحويين كأبي علي الفارسي
وتابعيه ، ومن القرَّاء أيضاً مَنْ ضَعَّفَ التحقيقَ مع روايتِه له ، وقراءتِه به
لأصحابه . ومنهم مَنْ أنكر التسهيلَ بينَ بينَ ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ،
وقرؤوا بياءٍ خفيفةٍ الكسرِ ، نصُّوا على ذلك في كتبهم .
وأما القراءة بالياء فهي التي ارتضاها الفارسي وهؤلاء الجماعةُ ، لأنَّ النطقَ
بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزةُ بين بين بزنة المخففة . والزمخشري جعل
القراءة بصريح الياء لحناً ، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين قال : « فإن
قلت : كيف لفظ » أئمة «؟ ، قلت : بهمزةٍ بعدها همزةُ بين بين أي : بين مخرجِ
الهمزةِ والياء ، وتحقيق الهمزتين قراءةٌ مشهورة ، وإن لم تكنْ مقبولةً عند
البصريين . وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوز أن تكون ، ومَنْ قرأ بها فهو لاحِنٌ
مُحَرِّف » . قال الشيخ : « وذلك دأبُه في تلحين المقرئين ، وكيف تكون لحناً ، وقد
قرأ بها رأسُ النحاة البصريين ، أبو عمرو بن العلاء ، وقارىءُ أهلِ مكة ابنُ كثير
، وقارىءُ أهل المدينة نافع؟ » . قلت : لا يُنْقَم على الزمخشري شيءٌ فإنه إنما
قال إنها غير مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يَقْبلها ، غاية ما في
الباب ، أنه نَقَل عن غيره . وأمَّا التصريحُ بالياء ، فإنه معذورٌ فيه لأنه كما
قَدَّمْتُ لك ، إنما اشْتُهِر بين القراء التسهيلُ بين بين لا الإِبدال المحض ،
حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب
القراء لا مذهب النحاة في هذه اللفظة .
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءةَ التسهيلِ بينَ بينَ فقال : « ولا يجوز هنا أن تُجعل
بينَ بينَ ، كما جُعلت همزةُ » أئذا «؛ لأن الكسرةَ هنا منقولةٌ وهناك أصليةٌ ،
ولو خُفِّفَت الهمزةُ الثانية [ هنا ] على القياس لقُلِبت ألفاً لانفتاح ما قبلها
، ولكن تُرِكَ لتتحركَ بحركةِ الميم في الأصل » . قلت : قوله « منقولةٌ » لا يُفيد
لأنَّ النقلَ هنا لازم ، فهو كالأصل . وقوله : « ولو خُفِّفَتْ على القياس إلى
آخره » لا يفيد أيضاً لأن الاعتبار بالإِدغام سابقٌ على الاعتبار بتخفيف الهمزة .
ولذلك
موضعٌ يضيق هذا الموضع عنه .
ووزن أَئِمَّة : أَفْعِلة؛ لأنها جمع إمام ، كحمار وأَحْمِرة ، والأصل أَأْمِمة ،
فالتقى ميمان فأُريد إدغامُهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للساكن قبلَها ، وهو
الهمزة الثانية ، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة : فالنحويون
البصريون يوجبون إبدالَ الثانية ياء ، وغيرُهم يحقق أو يسهِّل بينَ بينَ . ومَنْ
أَدْخَلَ الألفَ فللخِفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين ، والأحسنُ حينئذٍ أن يكونَ
ذلك في التحقيق كما قرأ هشام . وأمَّا ما رواه الشيخ عن نافع مِنْ المدّ مع
نَقْلِه عنه أنه يصرح بالياء فللمبالغة في الخفة .
قوله : { لاَ أَيْمَانَ } قرأ ابن عامر : « لا إيمان » بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ
آمَن يُؤْمن إيماناً . وهل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان أحدهما : أنهم لا
يُؤْمنون في أنفسهم أي : لايُعْطون أماناً بعد نُكثِهم وطَعْنهم ، ولا سبيلَ إلى
ذلك . والثاني : الإِخبار بأنهم لا يُوفون لأحدٍ بعهدٍ يَعْقِدونه له . أو من
التصديق أي : إنهم لا إسلامَ لهم . واختار مكي التأويلَ الأول لِما فيه من تجديد
فائدة لم يتقدَّمْ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ وَصْفَهم بالكفر وعدمِ الإِيمان قد سَبَقَ
وعُرِف .
وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمعُ يمين . وهذا مناسب للنكث ، وقد أُجْمع على فَتْح
الثانية . ومعنى نفي الأيمان عن الكفارِ ، أنهم لا يُوفون بها ، وإن صَدَرَتْ منهم
وَثَبَتَتْ . وهذا كقول الآخر :
2473 وإنْ حَلَفَتْ لا تَنْقُضُ الدهرَ عهدَها ... فليس لمخضوبِ البَنانِ يمينُ
وبذلك قال الشافعي . وحمله أبو حنيفة على حقيقته : أن يمين الكافر لا تكون يميناً
شرعياً ، وعند الشافعي يمينٌ شرعية .
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
قوله
تعالى : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } : نصبٌ على ظرفِ الزمان ، وأصلُها المصدر مِنْ مَرَّ
يَمُرُّ . وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } الجلالةُ مبتدأ ، وفي الخبر أوجهٌ ،
أحدها : أنه « أحقُّ » و « أن تَخْشَوه » على هذا بدلٌ من الجلالة بدلُ اشتمال ،
والمفضَّلُ عليه محذوفٌ؛/ فخشية الله أحقُّ مِنْ خشيتهم . الثاني : أَنَّ « أحقُّ
» خبرٌ مقدمٌ و « أَن تَخْشَوه » مبتدأ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الجلالة . الثالث :
أن « أحقُّ » مبتدأ و « أن تَخْشَوه » خبرُه ، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة . قاله
ابن عطية . وحَسُنَ الابتداءُ بالنكرة لأنها أفعلُ تفضيل . وقد أجاز سيبويه أن
تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه . الرابع : أن «
أنْ تَخْشَوه » في محلِّ نصبٍ ، أو جر بعد إسقاطِ حرفِ الخفض ، إذ التقدير : أحقُّ
بأن تَخْشَوه .
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } شرطٌ حُذِفَ جوابُه ، أو قُدِّم ، على حسب
الخلاف .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
قوله تعالى : { وَيَشْفِ } : قرأ الجمهور بياء الغَيْبَة رَدَّاً على اسم الله تعالى . وقرأ زيد بن علي : « نَشْفِ » بالنون وهو التفاتُّ حسن . وقال : « قوم مؤمنين » شهادةً للمخاطبين بالإِيمان ، فهو من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهرِ مُقام المضمر ، حيث لم يَقُل : « صدوركم » .
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قوله
تعالى : { وَيُذْهِبْ } : الجمهورُ على ضم الياء وكسرِ الهاء مِنْ أَذْهب . و «
غَيْظ » مفعول به . وقرأت طائفةٌ : « ويَذْهَبْ » بفتح الياء والهاء ، جَعَله
مضارعاً لذهب ، « غيظ » فاعل به . وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلا أنه رفع الفعل
مستأنفاً ولم ينسقْه على المجزومِ قبلَه ، كما قرؤوا : « ويتوبُ » بالرفع عند
الجمهور . وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد
، وعيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية ويعقوب : « ويتوبَ » بالنصب .
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ ، وكذلك وقع فإنه قد أَسْلَمَ ناسٌ
كثيرون . قال الزجاج وأبو الفتح : « وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا ،
ولا وجهَ لإِدخال التوبة في جوابِ الشرط الذي في » قاتِلوهم « . يَعْنيان بالشرط
ما فُهِمَ من الجملةِ الأمرية .
وأمَّا قراءةُ زيد وَمَنْ ذُكِر معه ، فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلةً في جوابِ الأمر
من طريقِ المعنى . وفي توجيهِ ذلك غموضٌ : فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ
بالمقاتلة شَقَّ ذلك على بعضِهم ، فإذا أقدموا على المقاتلةِ ، صار ذلك العملُ
جارياً مَجْرى التوبة من تلك الكراهة . قلت : فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهم
ويتبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم . وقال آخرون في توجيه ذلك : إنَّ حصولَ الظفر
وكثرةَ الأموال لذَّةٌ تُطلب بطريقٍ حرامٍ ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ ،
كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة ممَّا تقدم ، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة .
وقال ابن عطية في توجيهِ ذلك أيضاً : » يتوجَّه ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أن التوبةَ
يُراد بها هنا [ أنَّ ] قَتْلَ الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبةٌ لكم أيُّها
المؤمنون وكمالٌ لإِيمانكم ، فتدخلُ التوبة على هذا في شرطِ القتال « . قال الشيخ
: » وهذا الذي قدَّره من كونِ التوبة تدخل تحت جوابِ الأمر ، وهو بالنسبة للمؤمنين
الذين أُمِرُوا بقتال الكفار . والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، والمعنى
: على مَنْ يشاء من الكفار ، لأنَّ قتالَ الكفارِ وغلبةَ المسلمين إياهم ، قد
يكونُ سبباً لإِسلام كثير . ألا ترى إلى فتح مكة كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون ،
وحَسُن إسلامُ بعضِهم جداً ، كابن أبي سرح وغيره « . قلت : فيكون هذا توجيهاً
رابعاً ، ويصيرُ المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على مَنْ يشاء من الكفار أي :
يُسْلِمُ مَنْ شاء منهم .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قوله
تعالى : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } : يجوز في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنَّها
داخلةٌ في حيِّز الصلاة لعطفِها عليها أي : الذين عاهدوا ولم يتَّخذوا . الثاني :
أنَّها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « جاهدوا » أي : جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ
متخذين وَلِيْجَةً .
و « وَلِيجة » مفعول . و { مِن دُونِ الله } : إمَّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذُ
بمعنى التصيير ، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ إن كان على بابه . والوَليجة : فَعِيلة
مِنَ الوُلوج وهو الدخول . والوليجة : مَنْ يُداخِلك في باطن أمورك . وقال أبو
عبيدة : « كُلُّ شيءٍ أَدْخَلْته في شيءٍ وليس منه فهو وليجة ، والرجلُ في القوم
وليس منهم ، يقال له وَليجة » ، ويُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع .
وقد يُجمع على وَلائج ووُلُج كصحيفة وصحائف وصُحُف . وأنشدوا لعبادة بن صفوان
الغنوي :
2474 وَلائِجُهُمْ في كل مبدى ومَحْضَرٍ ... إلى كلِّ مَنْ يرجى ومَنْ يَتَخَوَّفُ
وقرأ الحسن « بما يَعْملون » بالغَيْبةِ على الالتفات ، وبها قرأ يعقوب في رواية
سَلاَّم .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
قوله
تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } : « أن
يَعْمروا » اسم كان . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « مسجد الله » بالإِفراد/ وهي تحملُ
وجهين : أن يُراد به مسجدٌ بعينه ، وهو المسجد الحرام لقوله : { وَعِمَارَةَ
المسجد الحرام } [ التوبة : 19 ] ، وأن يكون اسمَ جنسٍ فتندرجَ فيه سائرُ المساجد
، ويدخل المسجد الحرام دخولاً أَوَّلِيَّاً . وقرأ الباقون « مساجد » بالجمع ، وهي
أيضاً محتملةٌ للأمرين . ووجه الجمع : إمَّا لأنَّ كلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام
يُقال لها مسجدٌ ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد ، فصَحَّ أن يُطْلَقَ عليه لفظُ
الجمع لذلك .
قوله : { شَاهِدِينَ } الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال مِنْ فاعل «
يَعْمُروا » . وقرأ زيد بن علي « شاهدون » بالواو رفعاً على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ،
والجملةُ حالٌ أيضاً . وقرأ ابن السَّمَيْفع « يُعْمِروا » بضم الياء وكسرِ الميم
مِنْ أَعْمَرَ رباعياً ، والمعنى : أن يُعينوا على عمارته .
قوله : { على أَنْفُسِهِمْ } الجمهورُ على « أنفسهم » جمعَ نَفْس . وقُرىء «
أَنْفَسهم » بفتح الفاء ، ووجهُها أن يُراد بالأنْفَس وهو الأشرفُ الأجلُّ ، من
النَّفاسة - رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم . قيل : لأنه ليس بَطْنٌ مِنْ بطون
العرب إلا وله فيهم وِلدة . وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً ،
وهو مع هذه القراءة أوضح .
قوله : { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } هذه جملةٌ مستأنفة ، و « في النار »
متعلقٌ بالخبر ، وقُدِّم للاهتمام به ، ولأجل الفاصلة . وقال أبو البقاء : « أي :
وهم خالدون في النار ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف » . قلت : فيه نظرٌ
من حيث إنه يُوهم أن هذه الجملةَ معطوفةٌ على ما قبلها عَطْفَ المفرد على مثله
تقديراً ، وليس كذلك بل هي مستأنفةٌ ، وإذا كان مستأنفةً ، فلا يُقال فيها فَصَلَ
الظرف بين حرف العطف والمعطوف ، وإنما ذلك في المتعاطَفْين المفردين أو في
تأويلهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله تعالى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا
حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] وفي قوله : { وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] .
وقرأ زيد بن علي : « خالدين » بالياء نصباً على الحال من الضمير المستتر في :
الجارِّ قبله ، لأنَّ الجارَّ صار خبراً كقولك : « في الدار زيد قاعداً » ، فقد
رفع زيد بن علي « شاهدين » ، ونصب « خالدون عكسَ قراءةِ الجمهور فيهما .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله } : جمهورُ القراء من السبعة وغيرهم
على الجمع . وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإِفراد . والتوجيهُ
يُؤْخذ مما تقدم . والظاهر هنا أن الجمعَ هنا حقيقةٌ ، لأن المرادَ جميع المؤمنين
العائدين لجميع مساجد أقطار الأرض .
قوله : { سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ } الجمهور على قراءتهما مصدرين على فِعالة ،
كالصِّيانة والوِقاية والتِّجارة ، ولم تُقْلب الياء همزة ، لتحصُّنها بتاء
التأنيث بخلاف رِداء ، وعَباءة لطُروء تاء التأنيث فيها ، وحينئذٍ فلا بُدَّ مِن
حذف مضاف : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ليتصادقَ المجعولان ، والتقدير :
أجعلتمْ أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعِمارةَ المسجد الحرام كمَنْ آمن ، أو أَجَعَلْتم
السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمن ، أو كعملِ مَنْ آمن .
وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو وَجْرة « سُقاة » و « عَمَرَة » بضم السين وبعد
الألف تاء التأنيث ، وعَمَرة بفتح العين والميم دون ألف . وهما جمع ساقٍ وعامر كما
يُقال : قاضٍ وقُضَاة ورَام ورُماة وبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة . والأصل :
سُقَيَة ، فَقُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . ولا حاجةَ إلى تقديرِ
حذفِ مضافٍ ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور .
وقرأ سعيد بن جبير كذلك إلا أنه نَصَبَ « المسجد الحرام » ب « عَمَرَة » وحَذَفَ
التنوينَ لالتقاء الساكنين كقوله :
2475 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
وقوله : { قُل هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] .
وقرأ الضحاك « سُقاية » بضم السين و « عمرة » ، وهما جمعان أيضاً ، وفي جمع « ساقٍ
» على فُعالة نظرٌ لا يَخْفى . والذي ينبغي أن يُقالَ ولا يُعْدَلَ [ عنه ] أن
يُجعل هذا جمعاً لسِقْي ، والسِّقْي هو الشيء المَسْقِيّ كالرِّعْي والطِّحْن ،
وفِعْل يُجمع على فُعال ، قالوا : ظِئْر وظُؤار ، وكان مِنْ حقه أن لا تدخلَ عليه
تاءُ التأنيث كما لم تدخل في « ظُؤَار » ، ولكنه أنَّث الجمعَ كما أنَّث في قولهم
حِجارة وفُحولة . ولا بد حينئذٍ من تقديرِ مضافٍ أي : أجعلتم أصحابَ الأشياءِ
المَسْقِيَّة كمَنْ آمن .
قوله : { لاَ يَسْتَوُونَ } في وجهان/ أظهرهما : أنها مستأنفة ، أخبر تعالى بعدم
تساوي الفريقين . والثاني : أن يكونَ حالاً من المفعولين للجَعْل والتقدير :
سوَّيْتُهم بينهم في حال تفاوتهم .
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
وقد
تقدَّم اختلافُ القرَّاء في « يبشرهم » وتوجيه ذلك في آل عمران ، وكذلك الخلافُ في
{ وَرِضْوَانٌ } [ آل عمران : 15 ] . وقرأ الأعمش « رضوان » بضمِّ الراء والضاد ،
ورَدَّها أبو حاتم وقال : « لا يجوز » ، وهذا غيرُ لامٍ للأعمش فإنه رواها ، وقد
وُجِد ذلك في لسان العرب قالوا : السُّلُطان بضمّ السين واللام .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ صفةً ل « جنات » ،
وأن تكونَ صفةً ل « رحمة »؛ لأنهم جَوَّزوا في هذه الهاءِ أن تعودَ للرحمة وأن
تعودَ للجنات . وقد جَوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله : «
يُبَشِّرهم » ، كأنه قيل : لهم في تلك البشرى ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك
المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً ، وحالً إن قدَّرْتَه معرفةً . ويجوز أن
يكون « نعيم » فاعلاً بالجارِّ قبله ، وهو أَوْلى لأنه يَصير من قبيل الوصف
بالمفرد ، ويجوز أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُ الجار قبله . وقد تقدَّم تحقيق ذلك غيرَ
مرة . و « خالدين » حالٌ من الضمير في « لهم » .
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قوله
تعالى : { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } : « آباؤكم » وما عُطِف عليه اسمُ كان ، و «
أحبَّ » خبرها فهو منصوب . وكان المتفاصح الحجاجُ ابن يوسف يَقْرؤها بالرفع ،
ولَحَّنه يحيى بن يعمر فنفاه . قال الشيخ : « إنما لَحَّنه باعتبار مخالفةِ القراء
النَّقَلَة وإلا فهي جائزةٌ في العربية ، يُضمر في » كان « اسماً ، وهو ضميرُ
الشأن ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر ، وحينئذٍ تكونُ الجملةُ خبراً عن » كان
« . قلت : فيكون كقول الشاعر :
2476 إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفان ... شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أَصْنَعُ
هذا في أحد تأويلَي البيت . والآخر : أنَّ » صنفان « خبرٌ منصوب ، وجاء به على
لغةِ بني الحرث ومَنْ وافقهم .
والحكاية التي أشار إليها الشيخُ مِنْ تلحين يحيى للحجاج ، هي أن الحجاج كان
يَدَّعي فصاحةً عظيمة ، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هي تجدني ألحن؟ ،
فقال : الأمير أجَلُّ من ذلك ، فقال : عَزَمْتُ عليك إلا ما أخبرتني وكان
يُعَظّمون عزائم الأمراء . فقال : نعم . فقال : في أي شيء؟ ، فقال : في القرآن .
فقال : ويلك!! ذلك أقبحُ بي . في أيِّ آية؟ ، قال : سَمِعْتك تقرأ : قل إن كان
آباؤكم ، إلى أن انتهيت إلى » أحبُّ « فرفعتَها . فقال : إذن لا تسمعني أَلْحَنُ
بعدها ، فنفاه إلى خراسان ، فمكث بها مدةً ، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن
أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتاباً وفيه : » وقد جاءنا العدوُّ
فتركناهم بالحضيض ، وصَعِدنا عُرْعُرَة الجبل « . فقال الحجاج : ما لابن المهلب
ولهذا الكلام؟ ، فقيل له : إنَّ يحيى هناك . فقال : إذن ذلك .
وقرأ الجمهور : » عشيرتكم « بالإِفراد ، وأبو بكر عن عاصم : » عشيراتكم « جمعَ
سلامة . ووجهُ الجمع ، أنَّ لكلٍّ من المخاطبين عشيرةً فَحَسُن الجمع . وزعم
الأخفش أن » عشيرة « لا تجمع بالألف والتاء إنما تُجْمع تكسيراً على عشائر . وهذه
القراءة حجةٌ عليه ، وهي قراءةُ أبي عبد الرحمن السلمي ، وأبي رجاء . وقرأ الحسن »
عشائركم « قيل : وهي أكثر مِنْ عشيراتكم .
والعَشِيرة : هي الأهلُ الأَْدْنَون . وقيل : هم أهل الرجلِ الذين يَتَكثَّر بهم
أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل ، وذلك أن العشيرَة هي العدد الكامل ، فصارت
العشيرة اسماً لأقارب الرجل الذي يَتَكثَّر بهم ، سواءً بلغوا العشرةَ أم فوقها .
وقيل : هي الجماعة المجتمعة بنسَبٍ أو عَقْدٍ أو وِداد كعقد العِشْرة .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
قوله
تعالى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنه عطفٌ على محلِّ قوله «
في مواطنَ » ، عَطَفَ ظرف الزمان من غير واسطة « في » على ظرفِ المكان المجرورِ
بها . ولا غَرْو في نسق ظرف زمان على مكان أو العكسِ تقول : « سرت أمامك يوم
الجمعة » إلا أنَّ الأحسنَ أن يُتْركَ العاطفُ مثله . الثاني : زعم ابن عطية أنه
يجوز أن يُعْطَفَ على لفظ « مواطن » بتقدير : وفي ، فحذف حرفَ الخفض . وهذا لا
حاجةَ إليه . الثالث : قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف عطفَ الزمانَ على المكان ،
وهو » يوم حنين « على » مواطن «؟ ، قلت : معناه : وموطن يوم حنين أو في أيام
مواطنَ كثيرة ويوم حنين » . الرابع : أن يُراد بالمواطن الأوقاتُ ، فحينئذٍ إنما
عُطِف زمانٌ على زمان . قال الزمخشري بعدما قَدَّمْتُه عنه : « ويجوز أن/ يُراد بالمواطن
الوقت كمقتل الحسين ، على أن الواجب أن يكون » يومَ حنين « منصوباً بفعل مضمر لا
بهذا الظاهر . ومُوْجِبُ ذلك أن قولَه : » إذا أعجبتكم « بدلٌ من » يوم حنين « ،
فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك
المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكونَ ناصبُه فعلاً خاصاً به » .
قلت : لا أدري ما حَمَله على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن بالوقت
ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين
على الآخر؟
وأمَّا قولُه : « على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره » كلامٌ حسن ، وتقديره أن
الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان ، فإذا جعلنا « إذ » بدلاً من « يوم » كان معمولاً له؛
لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه ، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم
في مواطن كثيرة ، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة . إلا أنه
قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل : في جميع المواطن حتى يلزم ما قال ، ويمكن أن يكونَ
أراد بالكثرة الجميعَ ، كما يُراد بالقلة العدمُ .
قوله : { بِمَا رَحُبَتْ } « ما » مصدريةٌ أي : رَحْبها وسَعَتها . وقرأ زيد ابن
علي في الموضعين : « رَحْبَت » بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يَسْلُبون عين فَعُل
فيقولون في شَرُف : شَرْف .
والرُّحْب بالضم : السَّعَة ، وبالفتح : الشيء الواسع . يقال : رَحُب المكان
يَرْحُب رُحْباً ورَحَابة وهو قاصر . فأمَّا تعدِّيه في قولهم : « رَحُبَتْكم
الدار » فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم .
وحُنَيْن اسمُ واد ، فلذلك صَرَفَه . وبعضُهم جعله اسماً للبقعة فَمَنَعَه في قوله
:
2477 نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه ... بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال
وهذا كما قال الآخر في « حراء » اسمِ الجبل المعروف اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله
:
2478 ألسنا أكبرَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلاً ... وأَعْظَمَهم ببطنَ حِراءَ نارا
والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين ، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد
قال :
2479 وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى ... بأجرامه مِنْ قُلَّة النِّيْقِ
مُنْهوي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } : على المبالغة ، جُعِلوا نفسَ النَّجَس أو على حذف مضاف . وقرأ أبو حيوة « نِجْسٌ » بكسر النون وسكون الجيم ، ووجهُه أنه اسمُ فاعل في الأصل على فَعِل مثل كَتِف وكَبِد ، ثم خُفِّفَ بسكون عَيْنِه بعد إتباع فائه ، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مَقامه أي : فريق نجس أو جنس نجس . وقرأ ابن السميفع « أنجاس » بالجمع ، وهي تحتمل أن تكونَ جمعَ قراءةِ الجمهور ، أو جمع قراءةِ أبي حيوة .
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قوله تعالى : { مِنَ الذين أُوتُواْ } : بيانٌ للموصول قبلَه . والجِزْية : فِعْلَة لبيان الهيئة كالرِّكْبَة لأنها مِنَ الجزاء على ما أُعْطُوه من الأمن . و « عن يدٍ » حالٌ أي : يُعْطَوها مقهورِين أَذِلاَّء . وكذلك « وهم صاغرون » .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قوله
تعالى : { عُزَيْرٌ ابن الله } : قرأ عاصم والكسائي بتنوين « عُزَيْرٌ » والباقون
من غير تنوين . فأمَّا القراءة الأولى فيُحتمل أن يكونَ اسماً عربيّاً مبتدأً ، و
« ابنُ » خبره ، فتنوينه على الأصل . ويُحتمل أن يكون أعجمياً ، ولكنهُ خفيفُ
اللفظِ كنوح ولوط ، فصُرِفَ لخِفَّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني أنه تصغيرُ «
عَزَر » فحكمُه حكمُ مُكَبَّره . وقد رُدَّ هذا القولُ على أبي عبيد بأنه ليسَ
بتصغيرٍ ، إنما هو أعجمي جاء على هيئة التصغيرِ في لسانِ العربِ ، فهو كسليمان جاء
على مثال عثيمان وعُبَيْدان .
وأمَّا القراءة الثانية فَيَحتمل حَذْفُ التنوينِ ثلاثةَ أوجه أحدها : أنه حُذِفَ
لالتقاء الساكنين على حَدِّ قراءة : { قُلْ هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد } [ الصمد
: 1-2 ] وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء و « ابن » خبره . الثاني : أن تنوينَه
حُذِفَ لوقوع الابن صفة له ، فإنه مرفوعٌ بالابتداء و « ابن » صفته ، والخبرُ
محذوفٌ أي : عزيرٌ ابن الله نبيُّنا أو إمامنا أو رسولنا ، وكان قد تقدَّم أنه متى
وقع الابنُ صفةً بين علمين غيرَ مفصولٍ بينه وبين موصوفه ، حُذِفَتْ ألفُه خطاً
وتنوينُه لفظاً ، ولا تَثْبت إلا ضرورة ، وتقدَّم الإِنشادُ عليه آخر المائدة .
ويجوز أن يكون « عزير » خبر مبتدأ مضمر أي : نبيُّنا عُزَيْر و « ابن » صفةٌ له أو
بدل أو عطف بيان . الثالث : أنه إنما حُذف لكونِه ممنوعاً من الصرف للتعريف
والعجمة ، ولم يُرْسم في المصحف إلا ثابت الألف ، وهي تَنْصُرُ مَنْ/ يجعلُه خبراً
.
وقال الزمخشري : « عزير ابن : مبتدأ وخبره ، كقوله : { المسيح ابن الله } . و »
عُزَيْر « اسم أعجمي كعزرائيل وعيزار ، ولعجمته وتعريفه امتنع مِنْ صرفه ، ومَنْ
صرفه جعله عربياً ، وقول مَنْ قال : سقوطُ التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة { قُلْ
هُوَ الله أَحَدٌ الله } [ الصمد : 1-2 ] ، أو لأنَّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف
وهو » معبودنا « فتمحُّلٌ عند مَنْدوحة .
قوله : { يُضَاهِئُونَ } قرأ العامة : » يضاهِئُون « بضم الهاء بعدها واو ، وعاصم
بهاءٍ مكسورة بعدها همزةٌ مضمومة ، بعدها واو . فقيل : هما بمعنى واحد وهو
المشابهة وفيه لغتان : ضاهَأْتُ وضاهَيْت ، بالهمزة والياء ، والهمزُ لغة ثَقيف .
وقيل : الياء فرع عن الهمز كما قالوا : قرأ وقَرَيْت وتوضَّأت وتوضَّيْت ،
وأَخْطَأْت وأَخْطَيْت . وقيل : بل يضاهِئُون بالهمز مأخوذ من يضاهِيُوْن ، فلمَّا
ضُمَّت الهاءُ قُلِبَتْ همزةً . وهذا خطأ لأن مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا
الموضعِ حتى تُقْلَبَ همزةً ، بل يؤدي تصريفه إلى حذفِ الياء نحو » يُرامُون « من
الرمي و » يُماشُون « من المشي . وزعم بعضُهم أنه مأخوذٌ من قولهم : امرأة ضَهْيَا
بالقصر ، وهي التي لا ثَدْيَ لها ، و التي لا تَحيض ، سُمِّيت بذلك لمشابهتها
الرجال .
يقال
: امرأة ضَهْيَا بالقصر وضَهْيَاء بالمد كحمراء ، وضَهْياءَة بالمدِّ وتاءِ
التأنيث ثلاث لغات ، وشذَّ الجمع بين علامتَي تأنيث في هذه اللفظة . حكى اللغة
الثالث الجرمي عن أبي عمرو الشيباني . قيل : وقولُ مَنْ زعم أنَّ المضاهأة بالهمز
مأخوذةٌ مِنْ امرأة ضَهْياء في لغاتِها الثلاث خطأٌ لاختلاف المادتين ، فإن
الهمزةَ في امرأة ضَهْياء زائدة في اللغاتِ الثلاث وهي في المضاهأة أصلية .
فإن قيل : لِمَ لم يُدَّعَ أن همزةَ ضهياء أصلية وياؤها زائدة؟ ، فالجواب أن
فَعْيَلاً بفتح الياء لم يَثْبت . فإن قيل : فلِمَ لم يُدَّع أن وزنَها فَعْلَل
كجعفر؟ ، فالجواب أنه قد ثبتت زيادة الهمزة في ضَهْياء بالمدِّ فَلْتَثْبت في
اللغة الأخرى ، وهذه قاعدةٌ تصريفية .
والكلامُ على حَذْف مضاف تقديره : يُضاهي قولُهم قول الذين ، فَحُذِف المضاف ،
وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، فانقلب ضميرَ رفع بعد أن كان ضميرَ جَرٍّ .
والجمهور على الوقف على « أفواههم » ويَبْتدئون ب « يضاهئون » وقيل : الباءُ
تتعلَّق بالفعل بعدها . وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ هذا المضافِ . واستضعف أبو
البقاء قراءةَ عاصم وليس بجيدٍ لتواترها .
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قوله تعالى : { والمسيح ابن مَرْيَمَ } : عطف على « رُهْبانَهم » والمفعول الثاني محذوف ، إذ التقدير : اتخذ اليهود أحبارهم أرباباً ، والنصارى رهبانهم والمسيحَ ابن مريم أرباباً ، وهذا لأمْنِ اللَّبس خَلَط الضمير في « اتخذوا » وإن كان مقسماً لليهود والنصارى ، وهذا مراد أبي البقاء في قوله : « أي واتخذوا المسيحَ ربّاً ، فحذف الفعل وأحد المفعولين ، وجَوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعَبَدوا المسيح ابن مريم » .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قوله تعالى : { ويأبى الله } : { إِلاَّ أَن يُتِمَّ } مفعول به ، وإنما دَخَلَ الاستثناء المفرغ في الموجَب لأنه في معنى النفي ، فقال الأخفش الصغير : « معنى يَأْبَى يمنع » . وقال الفراء : « دَخَلَتْ » إلا « لأنَّ في الكلام طَرَفاً من الجحد » . وقال الزمخشري : « أجرى » أبى « مُجرى » لم يُرِدْ « ، ألا ترى كيف قُوبل { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : » ويأبى الله « ، و [ كيف ] أوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يُتِمَّ نوره » . وقال الزجاج : « إن المستثنى منه محذوف تقديره : ويأبى أي ويكره كُلَّ شيء إلا أن يتم نوره » . وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ومذهبِ غيره ، فجعلهما مذهباً واحداً فقال : « يأبى بمعنى يَكْره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لِما فيه من معنى النفي ، والتقدير : يأبى كلَّ شيء إلا إتمام نوره » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
قوله
تعالى : { وَيَصُدُّونَ } : يحتمل أن يكون متعدياً أي : يصدون/ الناس ، وأن يكون
قاصراً ، كذا قال الشيخ . وفيه نظر لأنه متعدٍّ فقط ، وإنما يُحْذف مفعولُه ،
ويراد أو لا يراد كقوله : { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .
قوله : { والذين يَكْنِزُونَ } الجمهورُ على قراءته بالواو . وفيه تأويلان ،
أحدُهما : أنها استئنافيةٌ ، و « الذين » مبتدأ ضُمِّن معنى الشرط؛ ولذلك دَخَلَتْ
الفاءُ في خبره . والثاني : أنه من أوصافِ الكثيرِ من الأحبار والرهبان ، وهو قول
عثمان ومعاوية ، ويجوز أن يكونَ « الذين » منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يفسِّره «
فَبَشِّرْهم » وهو أرجحُ [ لمكان الأمر ]
وقرأ طلحة بن مصرف « الذين » بغير واو ، وهي تحتمل الوجهين المتقدمين ، ولكنَّ
كونَها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرهبان أظهرُ مِنَ الاستئناف عكسَ التي
بالواو .
والكَنْزُ : الجمع والضم ، ومنه ناقة كِناز أي : منضمَّة الخَلْق ، ولا يختص
بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما وإن غلب عليهما قال :
2480 لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ جائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعندي
البُرُّ مَكْنوزُ
وقال آخر :
2481 - على شديدٍ لحُمُه كِنازِ ... باتَ يُنَزِّيني على أَوْفازِ
قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } تقدَّم شيئان وعاد الضمير [ على ] مفرد فقيل : إنه
من بابِ ما حُذِفَ لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يَكْنزون الذهب ولا
يُنْفقونه . وقيل : يعود على المكنوزات ودل على هذا جُزْؤه المذكورٌ؛ لأنَّ
المكنوزَ أعمُّ من النقدَيْن وغيرِهم ، فلمَّا ذَكَر الجزءَ دلَّ على الكل ، فعاد
الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار ، ونظيره قول الآخر :
2482 ولو حَلَفَتْ بين الصَّفا أمُّ عامرٍ ... ومَرْوَتِها بالله بَرَّتْ يمينها
أي : ومروة مكة ، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤُها وهو الصفا . كذا استدل به
ابن مالك ، وفيه احتمال ، وهو أن يكون الضمير عائداً على الصَّفا ، وأُنِّثَ
حَمْلاً على المعنى ، إذ هو في معنى البقعة والحَدَبة . وقيل : الضميرُ يعودُ على
الذهب لأن تأنيثه أشهر ، ويكون قد حُذِفَ بعد الفضة أيضاً . وقيل : يعودُ على
النفقة المدلول عليها بالفعل كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] .
وقيل : يعودُ على الزَّكاة أي : ولا ينفقون زكاةَ الأموال . وقيل : يعودُ على
الكنوز التي يدل عليها الفعل .
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قوله
تعالى : { يَوْمَ يحمى } : منصوبٌ بقوله : « بعذاب أليم » ، وقيل : بمحذوفٍ يدلُّ
عليه عذاب أي : يُعَذَّبون يوم يُحمى ، أو اذكر يومَ يُحْمى . وقيل : هو منصوبٌ
بأليم . وقيل : الأصل : عذاب يوم ، وعذاب بدل مِنْ عذاب الأول ، فلمَّا حُذِفَ
المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامَه . وقيل : منصوبٌ بقولٍ مضمر وسيأتي بيانُه .
و « يُحمى » يجوز أن يكونَ مِنْ حَمَيْتُ أو أَحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً . يقال :
حَمَيْتُ الحديدة وأَحْمَيْتها أي : أَوْقَدَتْ عليها لتَحْمَى . والفاعلُ
المحذوفُ هو النارُ تقديرُه : يوم تُحمى النار عليها ، فلما حُذِفَ الفاعل ذهبت
علامةُ التأنيث لذَهابِه ، كقولك : « رُفِعَت القضيةُ إلى الأمير » ، ثم تقول : «
رُفع إلى الأمير » . وقيل : المعنى : يُحْمَى الوقود .
وقرأ الحسن : « تُحْمَى » بالتاء من فوق أي : النار وهي تؤيد التأويل الأول . وقرأ
أبو حيوة : « يُكوى » بالياء من تحت ، لأن تأنيثَ الفاعلِ مجازيٌّ . والجمهور «
جباهُهم » بالإِظهار ، وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإِدغام كما أَدْغم : {
سَلَكَكُمْ } [ المدثر : 42 ] { مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ومثل :
جباههم : « وجوههم » المشهور الإِظهار .
قوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } معمولٌ لقول محذوف أي : يُقال لهم
ذلك يومَ يحمى . وقوله : { مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي : جزاءَ ما كنتم؛ لأنَّ
المكنوزَ لا يُذاق . و « ما » يجوز أن تكون بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأن
تكونَ مصدرية . وقرىء « تَكْنُزون » بضم عين المضارع ، وهما لغتان يقال : كَنَزَ
يَكْنِز ، وكَنَزَ يَكْنُز .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قوله
تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ } : العِدَّة : مصدر بمعنى العَدَد . و « عند الله »
منصوبٌ به ، أي في حُكْمه . و « اثنا عشر » خبرُ إنَّ . وقرأ هبيرة عن حفص وهي
قراءةُ أبي جعفر اثنا عْشَرَ بسكون العين مع ثبوتِ الألِف قبلَها ، واستُكْرِهَتْ
من حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما كقولهم : « التقت/ حَلْقتا البِطان »
بإثباتِ الألفِ من « حَلْقتا » . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حُمِل عشر في المذكر
على عشرة في المؤنث .
و « شَهْراً » نصبٌ على التمييز ، وهو مؤكِّد لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو
كقولك : « عندي من الدنانير عشرون ديناراً » . والجمع متغاير في قوله : « عدَّة
الشهور » ، وفي قوله : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] لأن هذا جمعُ كثرة ،
وذاك جمعُ قلة .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوز أن يكونَ صفةً لاثنا عشر ، ويجوز أن يكونَ بدلاً
من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ؛ لأنه يلزمُ منه أن يُخْبر عن الموصول
قبل تمامِ صلتِه؛ فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيلِ البدلية ، وعلى تقدير صحةِ
ذلك من جهة الصناعة ، كيف يَصِحُّ من جهة المعنى؟ ، ولا يجوز أن يكون { فِي
كِتَابِ الله } متعلقاً ب « عدة » لئلا يلزمَ الفصلَ بين المصدر ومعمولِه بخبره ،
وقياس مَنْ جوَّز إبدالَه من الظرف أن يجوِّزَ هذا . وقد صَرَّح بجوازه الحوفيُّ .
قوله : { يَوْمَ خَلَقَ } يجوز فيه أن يتعلَّق ب « كتاب » على أنه يُرادُ به
المصدر لا الجثة . ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو { فِي
كِتَابِ الله } ، ويكون الكتابُ جثةً لا مصدراً . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ متعلقاً
ب « عدة » ، وهو مردودٌ بما تقدَّم .
قوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه ، أحدها :
أن تكونَ صفةً ل « اثنا عشر » . الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار .
الثالث : أن تكونَ مستأنفةً . والضمير في « منها » عائدٌ على { اثنا عَشَرَ
شَهْراً } لأنه أقربُ مذكورٍ لا على « الشهور » . والضمير في « فيهنَّ » عائدٌ على
« الاثنا عشر » أيضاً . وقال الفراء وقتادة يعودُ على الأربعةِ الحُرُم ، وهذا
أحسنُ لوجهين ، أحدهما : أنها أقربُ مذكورٍ . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ
معاملةَ جمع القلةِ غيرِ العاقل معاملة جماعةِ الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير
الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس : « الأجذاع انكسَرْن » و « الجذوع انكسرت »
ويجوز العكس .
قوله : { كَآفَّةً } منصوبٌ على الحال : إمَّا مِن الفاعل ، أو من المفعول ، وقد
تقدَّم أن « كافَّة » لا يُتَصَرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنها لا تدخلُها
أل وأنها لا تُثَنَّى ولا تُجْمع ، وكذلك « كافة » الثانية .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا النسياء } : في « النسِيْء » قولان أحدهما : أنه مصدرٌ على
فَعِيل مِنْ أَنْسَأ أي أخَّر ، كالنذير مِنْ أَنْذَر والنكير من أَنْكر . وهذا
ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : « النَّسيء تأخيرُ حرمةِ الشهرِ إلى شهر آخر » ،
وحينئذٍ فالإِخبارُ عنه بقوله : « وزيادة » واضحٌ لا يَحْتاج إلى إضمار . وقال
الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة « . قلت : لأنه تأخير في المدة فيلزمُ منه
الزيادة .
الثاني : أنه فَعِيل بمعنى مَفْعول ، مِنْ نَسَأه أي أخَّره ، فهو منسوءٌ ، ثم
حُوِّل مفعول إلى فعيل كما حُوِّل مفعول إلى فعيل ، وإلى ذلك نحا أبو حاتم
والجوهري . وهذا القول رَدَّه الفارسي بأنه يكون المعنى : إنما المؤخَّر زيادة ،
والمُؤَخَّر الشهر ولا يكون الشهرُ زيادةً في الكفر . وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه
على حذف المضاف : إمَّا من الأول أي : إنما إنساءُ المُنْسَأ زيادة في الكفر ،
وإمَّا من الثاني أي : إنما المُنْسَأ ذو زيادة .
وقرأ الجمهور » النَّسيء « بهمزة بعد الياء . وقرأ ورش عن نافع » النَّسِيّ «
بإبدال الهمزة ياءً وإدغام الياء فيها . ورُويت هذه عن أبي جعفر والزهري وحميد ،
وذلك كما خَفَّفوا » برية « و » خطية « . وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل : »
النَّسْء « بإسكان السين . وقرأ مجاهد والسلمي وطلحة أيضاً : » النَّسُوء « بزنة
فَعُول بفتح الفاء ، وهو التأخير ، وفَعول في المصادر قليل ، قد تقدَّم منه
أُلَيْفاظ في أوائل البقرة ، وتقدم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة ، وهو هنا عبارةٌ
عن تأخير بعض الشهور عن بعض قال :
2483 ألَسْنا الناسئينَ على مَعَدٍّ ... شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما
وقال الآخر :
2484 نَسَؤُوا الشّهور بها وكانوا أهلَها ... مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ
وقوله : { يُضَلُّ بِهِ } قرأ الأخوان وحفص : » يُضَلُّ « مبنياً للمفعول ،
والباقون مبنياً للفاعل والموصول فاعل به . وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة
ويعقوب وعمرو بن ميمون : » يُضِلُّ « مبنياً للفاعل مِنْ أضل . وفي الفاعل وجهان
أحدهما : ضمير الباري تعالى أي : / يُضِلُّ الله الذين كفروا . والثاني : أن
الفاعل » الذين كفروا « وعلى هذا فالمفعول محذوف أي : يُضل الذين كفروا أتباعهم .
وقرأ أبو رجاء » يَضَلُّ « بفتح الياء والضاد ، وهي مِنْ ضَلِلْت بكسر اللام
أضَلُّ بفتحها ، والأصل : أَضْلَلُ ، فنُقِلت فتحة اللام إلى الضاد لأجل الإِدغام
. وقرأ النخعي والحسن في رواية محبوب : » نُضِلُّ « بضم نون العظمة و » الذين «
مفعول ، وهذه تقوِّي أن الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود .
قوله : { يُحِلُّونَهُ } فيه وجهان أحدهما : أن الجملةَ تفسيريةٌ للضلال . والثاني
: أنها حاليةٌ .
قوله : { لِّيُوَاطِئُواْ } في هذه اللامِ وجهان : أنها متعلقةٌ بيُحَرِّفونه .
وهذا
مقتضى مذهبِ البصريين فإنهم يُعْملون الثاني من المتنازعين . والثاني : أن
يتعلَّقَ بيُحِلُّونه ، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين فإنهم يُعْملون الأول لسَبْقِه .
وقولُ مَنْ قال إنها متعلقةٌ بالفعلين معاً ، فإنما يعني من حيث المعنى لا اللفظ .
وقرأ أبو جعفر « ليوطِيُوا » بكسر الطاء وضم الياء الصريحة . والصحيح أنه يَنْبغي
أن يُقْرأ بضم الطاء وحذف الياء؛ لأنه لمَّا أبدل الهمزةَ ياءً استثقل الضمةَ
عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَت الياء وضُمَّت الطاء لتجانِسَ الواو .
والمُواطأة : المُوافَقَةُ والاجتماع يقال : تواطَؤُوا على كذا أي : اجتمعوا عليه
، كأنه كل واحد يطأ حيث يطأ الآخر ، ومنه قولُه تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل
هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [ المزمل : 6 ] ، وقُرىء وِطاءً . وسيأتي إن شاء الله .
وقرأ الزهري « ليواطِيُّوا » بتشديدِ الياء . هكذا ترجموا قراءتَه وهي مشكلةٌ حتى
قال بعضهم : « فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء وتخليصها مِنَ الهمز دون التضعيف ،
فلا أعرف وجهها » . وهو كما قال .
قوله : « زُيِّنَ » الجمهورُ على « زُيِّن » مبنياً للمفعول ، والفاعلُ المحذوف هو
الشيطان . وقرأ زيد بن علي ببنائه للفاعل وهو الشيطان أيضاً ، و « سوء » مفعوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قوله
تعالى : { اثاقلتم } : أصلُه تثاقلتم ، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ
فاجتُلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك في { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] ، والأصل :
تدارأتم . وقرأ الأعمش « تثاقلتم » بهذا الأصل ، و « ما » في قوله « مالكم »
استفهامية وفيها معنى الإِنكار . وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول .
و « اثَّاقلتم » ماضي اللفظ مضارع المعنى أي : يتثاقلون ، وهو في موضع الحال ، وهو
عاملٌ في الظرف أي : مالكم متثاقلين وقت القول . وقال أبو البقاء : « اثَّاقلتم :
ماض بمعنى المضارع أي : مالكم تتثاقلون وهو في موضع نصب أي : أيُّ شيء لكم في
التثاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليل . وقيل : هو في موضع حال » قال الشيخ : «
وهذا ليس بجيدٍ ، لأنه يلزمُ منه حذفُ » أَنْ « ، لأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من
حرفٍ مصدري والفعل ، وحَذْفُ » أَنْ « في نحو هذا قليلٌ جداً ، أو ضرورة ، وإذا
كان التقديرُ : » في التثاقل « فلا يمكن عملُه في » إذا « ، لأنَّ معمول المصدرِ
الموصول لا يتقدَّم عليه ، فيكون الناصب ل » إذا « والمتعلَّق به » في التثاقل «
ما تعلَّق به » لكم « الواقعُ خبراً ل » ما « .
وقرىء » أَثَّاقَلْتم « بالاستفهام الذي معناه الإِنكار ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن
يَعْمل في » إذا «؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكون العاملَ
في هذا الظرف : إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في » لكم « ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه
باللفظ . والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم . وإليه نحا الزمخشري . والظاهر أن
يُقَدَّر : ما لكم تثاقلون إذا قيل ، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى .
وقوله : { إِلَى الأرض } ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد . وقوله : » من الآخرة «
تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ » مِنْ « بمعنى بدل كقوله : {
لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] أي : بدلكم ، ومثلُه قولُ
الآخر :
2485 جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا ... ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا
وقول الآخر :
2486 فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
/ إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى ، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك
والتقديرُ هنا : اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها . وقال أبو
البقاء : » مِن الآخرة في موضع الحال أي : بدلاً من الآخرة « ، فقدَّر المتعلَّقَ
خاصاً ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى .
قوله : { فِي الآخرة } متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره : فما متاعُ الحياة
الدنيا محسوباً في الآخرة . ف » محسوباً « حالٌ مِنْ » متاع « . وقال الحوفي : »
إنه متعلق ب قليل وهو خبر المبتدأ « . قال : » وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله
المقرونِ ب « إلا » لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال . ولو قلت : « ما زيدٌ
عمراً إلا يَضْرب » لم يَجُزْ « .
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قوله
تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ } : هذا الشرط جوابُه محذوف لدلالة
قولِه : « فقد نصره » عليه ، والتقديرُ : إنْ لا تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشري
فيه وجهين ، أحدهما ما تقدم ، والثاني : قال : « إنه أَوْجب له النُّصْرَة ، وجعله
منصوراً في ذلك الوقت فلن يُخْذَلَ مِنْ بعده » . قال الشيخ : « وهذا لا يظهرُ منه
جوابُ الشرط لأنَّ إيجابَ النصرةِ له أمرٌ سَبَق ، والماضي لا يترتَّب على
المستقبل فالذي يَظْهر الوجهُ الأول » .
قوله : { ثَانِيَ اثنين } منصوبٌ على الحال مِنْ مفعول « أخرجه » وقد تقدَّم معنى
الإِضافة في نحو هذا التركيب عند قوله { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
وقرأت جماعة « ثاني اثنين » بسكون الياء . قال أبو الفتح : « حاكها أبو عمرو »
ووجهُها أن يكونَ سَكَّن الياءَ تشبيهاً لها بالألفِ ، وبعضُهم يخصُّه بالضرورة .
قوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } : بدلُ مِنْ « إذ » الأولى فالعاملُ فيها « فقد
نَصَره » ، قال أبو البقاء : « ومَنْ مَنَع أن يكونَ العاملُ في البدلِ هو العامل
في المبدل منه قَدَّرَ عاملاً آخر ، أي : نصره » إذ هما في الغار « .
و » الغار « نَقْبٌ يكونُ في الجبلِ ، ويُجمع على غِيران ومثله : تاج وتِيْجان ،
وقاع وقِيعان . والغارُ أيضاً نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً الجماعة ،
والغاران البطن والفرج . وألف الغار عن واو .
قوله : { إِذْ يَقُولُ } بدلٌ ثانٍ من » إذ « الأولى . وقال أبو البقاء : » إنَّ
إذ هما في الغار ، وإذ يقول ظرفان لثاني اثنين « ، والضمير في » عليه « يعود على
أبي بكر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً . وقد تقدم
القول في { السكينة } [ البقرة : 248 ] . والضمير في » أيَّده « للنبي صلى الله
عليه وسلم . وقرأ مجاهد » وأَيَدَه « . بالتخفيف . و » لم تَرَوْها « صفة لجنود .
قوله : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } الجمهورُ على رفع » كلمة « على الابتداء ،
و » هي « يجوزُ أَنْ تكونَ مبتدأ ثانياً ، و » العُلْيا « خبرها ، والجملة خبر
الأول ، ويجوز أن تكونَ » هي « فصلاً و » العليا « الخبر . وقُرِىء » وكلمةَ الله
« بالنصب نسقاً على مفعولَيْ جَعَلَ ، أي : وجعل كلمة الله هي العليا . قال أبو
البقاء : » وهو ضعيفٌ لثلاثة أوجه ، أحدها : وَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر ، إذ
الوجهُ أن تقولَ : وكَلِمَتُه . الثاني : أن فيه دلالةً على أنَّ كلمة الله كانت
سُفْلى فصارت عليا ، وليس كذلك . الثالث : أن توكيدَ مثلِ ذلك ب « هي » بعيد ، إذ
القياسُ أن يكونَ « إياها » . قلت : أما الأولُ فلا ضعفَ فيه لأنَّ القرآنَ ملآنُ
من هذا النوع وهو مِنْ أحسنِ ما يكون لأن فيه تعظيماً وتفخيماً . وأمّا الثاني فلا
يلزمُ ما ذكر وهو أن يكون الشيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدل التصيير على
انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة . وأمَّا الثالث ف « هي »
ليست تأكيداً البتة إنما « هي » ضمير فصل على حالها ، وكيف يكون تأكيداً وقد نَصَّ
النحويون على أن المضمر لا يؤكد المظهر؟
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
وانتصب { خِفَافاً وَثِقَالاً } : على الحال من فاعل « انفروا » .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
قوله
تعالى : { لَوْ كَانَ عَرَضاً } : اسمُ كان ضميرٌ يعود على دل عليه السِّياق ، أي
: لو كان ما دعوتُهم إليه . وقرأ عيسى بن عمر والأعرج « بَعِدَت » بكسر العين .
وقرأ عيسى « الشِّقَّة » بكسر الشين أيضاً . قال أبو حاتم : « هما لغةُ تميم » .
والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ اشتقاقاً مِنَ الشِّق أو المَشَقَّة .
قوله : { بالله } متعلقٌ ب « سَيَحْلِفُون » ، وقال الزمخشري : « بالله » متعلقٌ ب
« سَيَحْلِفُون » ، أو هو من جملة كلامهم ، والقولُ مرادٌ في الوجهين ، أي :
سيَحْلِفون ، يعني المتخلِّفين عند رجوعِك متعذِّرين يقولون : باللَّهِ لو استطعنا
، أو وسَيحلفون بالله يقولون : لو اسْتَطَعْنا ، وقوله « لَخَرَجْنا » سدَّ
مَسَدَّ جواب القسم و « لو » جميعاً « . قال الشيخ : » قوله : لخَرَجْنا سدَّ
مَسَدَّ جوابِ القسم و « لو » جميعاً ليس بجيد ، بل للنحويين في نحو هذا مذهبان ،
أحدُهما : أنَّ « لَخَرَجْنا » جواب القسم ، وجوابُ « لو » محذوفٌ على قاعدة
اجتماع القسم والشرط ، إذ تقدَّم القسم على الشرط ، وهذا اختيارٌ أبي الحسن ابن
عصفور . والآخر : أنَّ « لَخَرَجْنا » جوابُ « لو » ، و « لو » وجوابها جواب القسم
، وهذا اختيارُ ابنِ مالك ، أمَّا أنَّ « لَخَرَجْنا » سادٌّ مَسَدَّهما فلا أعلمُ
أحداً ذَهَبَ إلى ذلك . ويحتمل أن يُتَأول كلامُه على أنَّه لمَّا حُذِف جواب « لو
» ودَلَّ عليه جوابُ القسم جُعِل كأنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم وجوابِ لو « .
وقرأ الأعمش وزيد بن علي » لوُ اسْتَطَعْنا « بضم الواو ، كأنهما فرَّا من الكسرة
على الواو ، وإن كان الأصلَ ، وشبَّها واوَ » لو « بواو الضمير كما شبَّهوا واوَ
الضمير بواو » لو « ، حيث كسَرُوها نحو { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ]
لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسن » اشْتَرَوا الضلالة « ، و » لوَ استطعنا « بفتح
الواو تخفيفاً .
قوله : { يُهْلِكُونَ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها حالٌ من فاعل »
سَيَحْلِفُون « ، أي : سَيَحْلفون مُهْلِكين أنفسَهم . والثاني : أنها بدلٌ من
الجملةِ قبلها وهي » سَيَحْلِفون « . الثالث : أنها حالٌ من فاعل » لَخَرَجْنا « .
وقد ذكر الزمخشري هذه الأوجه الثلاثة ، فقال : » يُهْلِكون : إمَّا أنَ يكونَ
بدلاً من « سيحلفون » أو حالاً بمعنى مُهْلكين . والمعنى : أنهم يُوْقِعُون في
الهلاكِ أنفسَهم بحلفهم الكاذب . ويحتمل أن يكونَ حالاً من فاعل « خَرَجْنا » ، أي
: لَخَرَجْنا وإنْ أهلكْنا أنفسنا . وجاء بلفظ الغائب لأنه مُخْبِرٌ عنهم ، ألا
ترى أنه لو قيل : سَيَحْلِفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً ، يقال :
حَلَفَ بالله ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبةُ على حكم الإِخبار ، والتكلمُ على الحكاية
« .
قال
الشيخ : « أمَّا كونُ » يُهْلِكون « بدلاً مِنْ » سَيَحْلِفون « فبعيدٌ؛ لأنَّ
الإِهلاكَ ليس مُرادِفاً للحَلف ولا هو نوع منه ، ولا يُبدل فِعْلٌ من فعل إلا إنْ
كان مرادفاً له أو نوعاً منه » قلت : يَصِحُّ البدل على معنى أنه بدلُ اشتمال؛
وذلك لأنَّ الحَلْفَ سببٌ للإِهلاك فهو مشتملٌ عليه ، فأبدل المُسَبَّب مِنْ سببِه
لاشتمالِه عليه ، وله نظائرُ كثيرةٌ منها قولُه :
2487 إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تجيءَ طائعاً
ف « تُؤْخَذ » بدلٌ مِنْ « تبايع » بدلُ اشتمالٍ بالمعنى المذكور ، وليس أحدهما
نوعاً من الآخر . ثم قال الشيخ : « وأمَّا كونُه حالاً من قوله » لخرجنا « [ فالذي
يظهرُ أن ذلك لا يجوز لأنَّ قولَه » لخَرَجْنا « ] فيه ضمير المتكلم ، فالذي يجري
عليه إنما يكون بضمير المتكلم ، فلو كان حالً من فاعل » لخَرَجنا « لكان التركيبُ
: نُهْلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا . وأمَّا قياسُه ذلك على » حَلَفَ زيد ليفعلن « و
» لأفعلنَّ « فليس بصحيحٍ؛ لأنَّه إذا أَجْراه على ضمير الغيبة لا يَخْرُجُ منه
إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : » حَلَفَ زيد ليفعلن وأنا قائم « على أن يكون » وأنا
قائم « حالاً من ضمير » ليفعلن « لم يجز ، وكذا عكسُه نحو : » حَلَفَ زيدٌ لأفعلن
يقوم « تريد : قائماً لم يجز . وأمَّا قولُه » وجاء به على لفظِ الغائب لأنه
مُخْبَرٌ عنهم « فمغالطة ، ليس مخبراً عنهم بقوله { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا } ،
بل هو حاكٍ لفظَ قولِهم . ثم قال : » ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان
سديداً إلى آخره « كلامٌ صحيحٌ لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكايةُ ،
والحالُ من جملةِ كلامِهم المحكيّ ، فلا يجوزُ/ أن يخالفَ بين ذي الحال وحالِه
لاشتراكهما في العامل . لو قلت : » قال زيد خرجت يضرب خالداً « تريد : اضرب خالداً
، لم يجز . ولو قلت : » قالت هند : خرج زيد اضربْ خالداً « تريد : خرج زيد ضارباً
خالداً لم يجز » انتهى .
الرابع : أنها جملةٌ استئنافيةٌ أخبر الله عنهم بذلك .
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
قوله
تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } : « لِمَ » و « لهم » كلاهما متعلقٌ ب أَذِنْتَ .
وجاز ذلك لأنَّ معنى اللامين مختلف ، فالأولى للتعليلِ ، والثانيةُ للتبليغ ،
وحُذِفَتْ ألفُ ما الاستفهاميةِ لانجرارِها . وتقديمُ الجارِّ الأول واجبٌ لأنه
جرَّ ما له صدرُ الكلام . ومتعلَّقُ الإِذْنِ محذوفٌ ، يجوز أن يكونَ القُعود ، أي
: لِمَ أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السِّياق مِن اعتذارهم عن تَخَلُّفِهم عنه
عليه السلام . ويجوز أن يكون الخروج ، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج لأنَّ خروجَهم
فيه مفسدةٌ مِنَ التخذيل وغيرِه يدل عليه { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ
إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] .
قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } « حتى » يجوز أن تكون للغاية ، ويجوزُ أن تكونَ للتعليل
، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ : إمَّا بمعنى إلى وإمَّا اللام ، و « أَنْ »
مضمرةٌ بعدها ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوفٍ . قال أبو البقاء « تقديره : هلاَّ
أخَّرْتَهم إلى أن يتبيَّنَ أو ليتبيَّن . وقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } يدلُّ
على المحذوف ، ولا يجوزُ أن تتعلَّقَ » حتى « ب » أَذِنْتَ « لأن ذلك يوجب أن
يكونَ أَذِن لهم إلى هذه الغاية أو لأجل التبيين ، وذلك لا يُعاتَبُ عليه » . وقال
الحوفي « حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ ، أي : ما كان له أن يأذن لهم حتى
يتبيَّنَ له العُذْر » . قلت : وفي هذه العبارةِ بعَضُ غضاضة .
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
قوله تعالى : { أَن يُجَاهِدُواْ } : فيه وجهان : أظهرهما : أنه متعلَّقُ الاستئذان ، أي : لا يستأذنوك في الجهاد ، بل يَمْضون فيه غير مترددين . والثاني : أن متعلق الاستئذان محذوف و « أن يُجاهدوا » مفعولٌ من أجله تقديره : لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعودِ كراهةَ أن يُجاهدوا بل إذا أَمَرْتهم بشيءٍ بادروا إليه .
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
قوله
تعالى : { لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } : العامَّةُ على « عُدّة » بضم العين وتاء
التأنيث وهي الزَّادُ والراحلةُ وجميعُ ما يَحْتاج إليه المسافرُ .
وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنهُ معاوية « عُدَّةُ » كذلك إلا أنه جعل مكان
تاء التأنيث هاء ضمير غائب تعود على الخروج . واختُلِف في تخريجِها فقيل : أصلُها
كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإِضافةِ كالتنوين . وجعل الفراء من
ذلك قولَه تعالى : { وَإِقَامَ الصلاة } [ النور : 37 ] ، ومنه قولُ زهير :
2488 إنَّ الخَلِيْطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ
الذي وَعدُوا
يريد : عِدَّة الأمرِ . وقال صاحب « اللوامح » : لمَّا أضافَ جعل الكناية نائبةً
عن التاء فأسقطها؛ وذلك لأنَّ العُدَّ بغير تاء ولا تقديرها هو الشيء الذي يخرج في
الوجه « . وقال أبو حاتم : » هو جمع عُدَّة ك بُرّ جمع بُرّة ، ودُرّ جمع دُرَّة ،
والوجهُ فيه عُدَد ، ولكن لا يوافق خطَّ المصحف .
وقرأ زر بن حبيش وعاصم في رواية أبان « عِدَّهُ » بكسر العين مضافةً إلى هاءِ
الكناية . قال ابن عطية : « وهو عندي اسمٌ لِما يُعَدُّ كالذِّبْح والقِتلْ .
وقُرىء أيضاً » عِدَّة « بكسر العين وتاء التأنيث ، والمرادُ عدة من الزاد والسلاح
مشتقاً من العَدَد .
قوله : { ولكن كَرِهَ الله } الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمل؛ ولذلك قال الزمخشري
: » فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلت : لمَّا كان قولُه { وَلَوْ
أَرَادُواْ الخروج } معطياً نفيَ خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : ولكنْ كره الله [
انبعاثَهم ] ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تَثَبَّطوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ،
كما [ تقول : ما ] أحسن زيدٌ إليَّ ولكن أساء إليّ « انتهى . يعني أن ظاهر الآية
يقتضي أنَّ ما بعد » لكن « موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنها لا تقع إلا
بين ضدين أو نقيضين أو خلافين على/ خلاف في هذا الأخير فلذلك احتاج إلى الجواب
المذكور .
قال الشيخ : » وليست الآيةُ نظيرَ هذا المثال يعني : ما أحسن زيداً إليّ ولكن أساء
، لأن المثالَ واقعٌ فيه « لكن » بين [ ضدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها « لكن » بين
] متفقين من جهة المعنى « ، قلت : مُرَادُهم بالنقيضين النفيُ والإِثبات لفظاً وإن
كانا يتلاقيان في المعنى ، ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً .
والتَّثْبيطُ : التَّعْويق . يقال : ثَبَّطْتُ زيداً أي : عُقْتُه عَمَّا يريده من
قولهم : ناقة ثَبِطَة أي بطيئة السير . والمراد بقوله » اقعدوا « التَّخْلية وهو
كنايةٌ عن تباطُئِهم ، وأنهم تشبهوا بالنساء أو الصبيان والزمنى وذوي الأعذار ،
وليس المراد قعوداً كقوله :
2489 دَعِ المكارِم لا تَقْصِدْ لبُغْيَتها ... واقعُدْ فإنَّك أنت الطاعِمُ
الكاسي
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
قوله
تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم } : أي : في جيشكم وفي جمعكم . وقيل : « في »
بمعنى مع ، أي : معكم . وتقدَّم تفسير « الخبال » في آل عمران .
وقوله : { إِلاَّ خَبَالاً } جَوَّزوا فيه أن يكون استثناء متصلاً وهو مفرَّغٌ؛
لأنَّ « زاد » يتعدى لاثنين . قال الزمخشري : « المستثنى منه غيرُ مذكور ،
فالاستثناءُ من أعمِّ العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلاً فإن الخَبال بعضُ
أعمِّ العام كأنه قيل : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً » . وجَوَّزوا فيه أن يكونَ
منقطعاً والمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدةً ولكنْ خبالً ، وهذا يجيءُ على قول مَنْ
قال إنه لم يكن في عَسْكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خَبال ، كذا قال الشيخ .
وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العَسْكر خبالٌ أصلاً فكيف يستثنى شيءٌ لم يكنْ ولم
يُتوهَّم وجوده؟
قوله : { خِلاَلَكُمْ } منصوبٌ على الظرفِ . والخِلال : جمع خَلَل وهو الفُرْجَةُ
بين الشيئين ويُستعار في المعاني فيُقال : في هذا الأمر خَلل .
والإِيُضاع : الإِسْراع يُقال : أَوْضَعَ البعيرُ ، أي : أسرع في سَيْره قال امرؤ
القيس :
2490 أرانا مُوضِعينَ لأَِمْرِ غيبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ والشراب
وقال آخر :
2491 - يا لَيْتَني فيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
ومفعول « أوضعوا » محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي .
ويُقال : وَضَعَتْ الناقةُ تَضَعُ : إذا أَسْرعت ، وأوضعتها أنا . وقرأ ابن أبي
عبلة { ما زادَكم إلا خَبالاً } ، أي : ما زادكم خروجهم . وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد
: « ولأَوْفَضوا » وهو الإِسراع أيضاً من قوله تعالى : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ }
[ المعارج : 43 ] ، وقرأ ابن الزبير « وَلأَرْفَضُوا » بالراء والفاء والضاد
المعجمة مِنْ رَفَضَ ، أي : أسرع أيضاً ، قال حسان :
2492 بزجاجةٍ رَقَصَتْ بما في جَوْفِها ... رَقْصِ القَلوصِ براكبٍ مستعجِلِ
وقال :
2493 . . . . . . . . . . . . . . . . ... والراقصاتِ إلى مِنَىً فالغَبْغَبِ
يُقال : رَفَضَ في مِشْيته رَفْضاً ورَفَضاناً .
قوله : { يَبْغُونَكُمُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « أَوْضَعوا » ، أي :
لأَسْرَعوا فيما بينكم حالَ كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنةَ لكم .
قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول
« يَبْغُونكم » أو مِنْ فاعله ، وجاز ذلك لأن في الجملة ضميريهما . ويجوز أن تكونَ
مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم مَنْ يَسْمع لهم ويُصْغِي لقولِهم . ويجوز أن
يكونَ المرادُ : وفيكم جواسيسُ منهم يسمعون لهم الأخبارَ منكم ، فاللامُ على الأول
للتقوية لكون العاملِ فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم .
ورُسِم في المصحف { ولا أَوْضَعُوا خلالكم } بألف بعد « لا » ، قال الزمخشري : «
كانت الفتحة تُكْتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول
القرآن ، وقد بقي من ذلك أثرٌ في الطباع فكتبوا صورةَ الهمزةِ ألفاً وفتحتَها
ألفاً أخرى ، ونحوه ، { أَوْ لا أَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] يعني في زيادة ألف
بعد » لا « ، وهذا لا يجوزُ القراءة به ، ومَنْ قرأه متعمداً يكفر .
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
وقرأ مسلمة بن محارب « وقَلَبوا » مخففاً . وقوله « وهم كارهون » حالٌ والرابطُ الواو .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
قوله
تعالى : { مَّن يَقُولُ ائذن } : كقوله { يَاصَالِحُ ائتنا } [ الأعراف : 77 ] من
أنه يجوز تحقيقُ الهمزة وإبدالُها واواً لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلةُ من
كلمةٍ أخرى . / وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة ، وقد كان قبلها همزةُ وصل سَقَطت
دَرْجاً . قال أبو جعفر . « إذا دخلت الواو والفاء على » ائذن « فهجاؤها ألفٌ وذال
ونون بغير ياء ، أو » ثم « فالهجاءُ ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونون . والفرقُ أنَّ » ثم «
يوقف عليها ويُنْفَصَل بخلافهما » . قلت : يعني أنه إذا دخلت واوُ العطف أو فاؤه
على هذه اللفظةِ اشتدَّ اتصالُهما بها فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً
، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ فتكتب « فَأْذَنْ ، وَأْذَنْ » ، فهذه الألفُ مِنْ صورةِ
الهمزة التي هي فاءُ الكلمة . وإذا دخلت عليها « ثم » كُتِبَتْ كذا : { ثُمَّ
ائتوا } ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة . قلت : وكأنَّ هذا الحكمَ الذي
ذَكره مع « ثم » يختصُّ بهذه اللفظة ، وإلا فغيرُها مما فاؤُه همزةٌ تسقط صورة
همزة وصلِه خَطَّاً فيُكتب الأمرُ من الإِتيان مع « ثم » هكذا : « ثم أْتُوا »
وكان القياسُ على « ثمَّ ائْذَنْ » : « ثم ائتوا » وفيه نظر .
وقرأ عيسى بن عمر وابن السَّمَيْفع وإسماعيل المكي فيما روى عنه ابن مجاهد : « ولا
تُفْتِينِّي » بضم حرف المضارعة مِنْ أفتنه رباعياً . قال أبو حاتم : « هي لغة
تميم » . وقيل : أفتنه : أدخله فيها . وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال :
2494 لئن فَتَنَتْني فهي بالأمس أفتنتْ ... سعيداً فأمسى قد قلا كلَّ مسلم
ومتعلق الإِذن القعود ، أي : ائذن لي في القعود والخُلْف عن العدو ولا تَفْتِنِّي
بخروجي معك .
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قوله
تعالى : { لَّن يُصِيبَنَآ } قال عمرو بن شقيق : « سمعت أَعْيُنَ قاضي الري يقرأ »
لن يُصيبَنَّا « بتشديد النون » ، قال أبو حاتم : ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النونَ لا
تدخل مع « لن » ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجاز ، لأنها مع « هل » قال الله تعالى :
{ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] ، قلت : يعني أبو حاتم
أنَّ المضارعَ يجوز توكيده بعد أداةِ الاستفهامِ ، وابن مصرف يقرأ « هل » بدل « لن
» ، وهي قراءة ابن مسعود .
وقد اعتُذِر عن هذه القراءة : فإنها حملت « لن » على « لم » و « لا » النافيتين ،
و « لم » و « لا » يجوزُ توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما . أمَّا « لا » فقد تقدم
تحقيق الكلام عليها في الأنفال ، وأمَّا « لم » فقد سُمع ذلك وأنشدوا :
2495 يَحْسَبُه الجاهل ما لم يَعْلما ... شيخاً على كرسيِّه مُعَمَّمَا
أراد « يَعْلَمَنْ » فأبدل الخفيفةَ ألفاً بعد فتحة كالتنوين .
وقرأ القاضي أيضاً وطلحة : « هل يُصَيِّبُنا » بتشديد الياء . قال الزمخشري : «
ووجههُ أن يكونَ يُفَيْعِل لا يُفَعِّل لأنه من بنات الواو لقولهم : الصواب ، وصاب
يصوب ، ومصاوب في جمع مصيبة ، فَحَقُّ يُفَعِّل منه يُصَوِّب . ألا ترى إلى قولهم
: صَوَّب رأيه ، إلا أَنْ يكونَ من لغة من يقول : صاب السهمُ يَصيب كقوله :
2496 أَسْهُمِيَ الصائِبات والصُّيُبْ ... يعني أنه أصله صَوْيِب فاجتمعت الواو
والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقُلبت الواو ياءً وأدغم فيها ، وهذا كما تقدم لك في
تحيَّز أن أصله تَحَيْوَز . وأما إذا أخذناه مِنْ لغةِ مَنْ يقول : صاب السهم
يَصيب فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة فَعَّل .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قوله
تعالى : { إِلاَّ إِحْدَى } : مفعول التربُّص ، فهو استثناء مفرغ . وقرأ ابن محيصن
« إلا احدى » بوصل ألف « احدى » إجراء لهمزة القطع مُجْرى همزة الوصل فهو كقول
الشاعر :
2497 إنْ لم أُقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعا ... وقول الآخر :
2498 يابا المغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُه بالمكر مِنِّي والدَّهَا
وقوله { أَن يُصِيبَكُمُ } مفعول التربُّص .
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قوله
تعالى : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } : مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين أو كارهين
. وقرأ الأخوان « كُرْهاً » بالضم وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء .
وقال الشيخ هنا : « قرأ الأعمش وابن وثاب » كُرْهاً « بضم الكاف » . وهذا يُوهم
أنها لم تُقْرأ في السبعة . قال الزمخشري « هو أمرٌ في معنى الخبر كقوله : {
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] ومعناه : لن يُتقبَّل منكم :
أنفقتم طَوْعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] . وقوله يعني كثيِّر عَزَّة :
2499 أسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلُومَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
أي : لن يغفر الله لهم استغفرت أو لم تستغفر ، ولا نلومك أحسنتِ إلينا أو أَسَأْتِ
، وفي معناه قول القائل :
2500 أخوك الذي إنْ قُمْتَ بالسيفِ عامداً ... لتضربَهُ لم يَسْتَغِشَّك في الودِّ
وقال ابن عطية : » هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ ، وهذا مستمر في كل أمرٍ معه جزاء
والتقدير : إن تنفقوا لن يُتقبَّل منكم ، وأما إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس
يصحبه تضمُّنُ الشرط « قال الشيخ : » ويَقْدح في هذا التخريجِ أنَّ الأمر إذا كان
فيه معنى الشرط كان الجواب لجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : « لن
يُتقبل » بالفاء لأنَّ « لن » لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضُمِّن
معناه ، ألا ترى جزمَه الجوابَ في نحو : اقصد زيداً يُحْسِنْ إليك « . قلت : إنما
أراد أبو محمد تفسير المعنى ، وإلا فلا يَجْهَلُ مثل هذه الواضحات . وأيضاً فلا
يلزمُ لأن يُعْطى الأمرُ التقديري حكمَ الشيء الظاهر من كل وجه .
وقوله : { إِنَّكُمْ } وما بعد جارٍ مَجْرى التعليل .
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
قوله
تعالى : { أَن تُقْبَلَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول ثانٍ ل « منع » :
إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر ، أي : من أن يُقْبل وإمَّا لوصول الفعل إليه
بنفسه ، لأنك تقول : منعتُ زيداً حَقَّه ومِنْ حقه . والثاني : أنه بدلٌ من « هم »
في مَنْعِهم ، قاله أبو البقاء كأنه يريد بدلَ الاشتمال . ولا حاجَة إليه .
وفي فاعل « منع » وجهان ، أحدهما وهو الظاهر أنه { إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } ،
أي : ما منعهم قبولَ نفقتهم إلا كفرُهم . والثاني : إنه ضمير الله تعالى ، أي :
وما منعهم الله ، ويكون « إلا أنهم » منصوباً على إسقاط حرف الجر ، أي : لأنهم
كفروا .
وقرأ الأخَوان : « أن يُقْبَلَ » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، وهما
واضحتان لأنَّ التأنيثَ مجازي ، وقرأ زيد بن علي كالأخوين ، إلا أنه أفرد النفقة .
وقرأ الأعرج : « تُقْبل » بالتاء من فوق ، « نفقتُهم » بالإِفراد . وقرأ السُّلمي
: « يَقبل » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى . وقرىء : « نَقْبل » بنون العظمة ، «
نفقتهم » بالإِفراد .
قوله : { إِلاَّ وَهُمْ كسالى } ، { إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } كلتا الجملتين
حالٌ من الفاعل قبلها .
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
قوله
تعالى : { الحياة الدنيا } : فيه وجهان أحدهما : أنه متعلق ب « تعجبك » ويكون قول
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا } جملةَ اعتراض والتقدير : فلا
تعجبك في الحياة . ويجوز أن يكونَ الجارُّ حالاً من أموالهم . وإلى هذا نحا ابن
عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة قالوا : في الكلام تقديمٌ وتأخير ، والمعنى
: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد ليعذبهم بها في الآخرة
. قال الشيخ : « إلا أنَّ تقييدَ الإِعجابِ المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن
أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فيبقى ذلك كأنه
زيادة تأكيد ، بخلاف التعذيب فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة ، ومع أن
التقديمَ والتأخيرَ يخصُّه أصحابنا بالضرورة » . قلت : كيف يُقال مع نَصِّ مَنْ
قَدَّمْتُ ذكرَهم : « أصحابنا يخصُّون ذلك بالضرورة » على أنه ليس من التقديم
والتأخير الذي يكون في الضرورة في شيءٍ إنما هو اعتراض ، والاعتراض لا يقال فيه
تقديم وتأخير بالاصطلاح الذي يُخَصُّ بالضرورة ، وتسميتهم أعني ابن عباس ومن معه
رضي الله عنهم إنما يريدون فيه الاعتراضَ المشارَ إليه لا ما يخصه أهل الصناعة
بالضرورة .
والثاني : أن « في الحياة » متعلقٌ بالتعذيب ، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ مصائبُ
الدنيا ورزاياها ، أو ما لزمهم من التكاليف الشاقة ، فإنهم لا يرجون عليها ثواباً
. قاله ابن زيد ، أو ما فُرِض عليهم من الزكوات قاله الحسن ، وعلى هذا فالضمير في
« بها » يعود على الأموال فقط ، وعلى الأول يعود على الأولاد والأموال .
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قوله
تعالى : { مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ } : المَلْجَأُ : الحِصْن . وقيل : المَهْرب
. وقيل : الحِرْز وهو مَفْعَل مِنْ لجأ إليه يلجأ ، أي : انحاز يقال : ألجأته إلى
كذا ، أي : اضطررته إليه فالتجأ . والملجأ يَصْلُح للمصدر والزمان والمكان ،
والظاهر منها هنا المكان . والمَغارات جمع مغارة وهي مَفْعَلة مِنْ غار يغور فهي
كالغار في المعنى . وقيل : المغارة : السِّرْب في الأرض كنفق اليربوع . والغار
النَّقْبُ في الجبل .
والجمهور على فتح ميم « مغارات » وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بالضم وهو مِنْ
أغار/ وأغار يكون لازماً ، تقول العرب : أغار بمعنى غار ، أي : دخل ، ويكون
متعدياً تقول : أَغَرْتُ زيداً ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون مِنْ أغار
المتعدي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكنُ يُغيرون فيها أنفسهم ، أي : يُغَيِّبونها
.
والمُدَّخل : مُفْتَعَلِ مِنَ الدخول وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل
مُدْتَخل فأدغمت الدال في تاء الافتعال كادَّان من الدَّين . وقرأ قتادة وعيسى بن
عمر والأعمش مُدَّخَّلاً بتشديد الدال والخاء معاً . وتوجيهُها أن الأصل :
مُتَدَخَّلاً مِنْ تَدخَّل بالتضعيف ، فلما أدغمت التاء في الدال صار اللفظ
مُدَّخَّلاً نحو مُدَّيَّن مِنْ تَدَيَّن . وقرأ الحسن أيضاً ومسلمة بن محارب وابن
أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير في رواية « مَدْخَلاً » بفتح الميم وسكون الدال
وفتح الخاء خفيفة مِنْ دخل . وقرأ الحسن في رواية محبوب كذلك إلا أنه ضَمَّ الميم
جعله مِنْ أدخل .
وهذا من أبرع العلم : ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان ، ثم ذكر
الغَيْران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وفي الجبال ، ثم الأماكن التي يُختفى
فيها في الأماكن السافلة وهي السُّروب وهي التي عبَّر عنها بالمُدَّخل .
وقال الزجاج : « يصح أن تكون المَغَارات مِنْ قولهم : حَبْل مُغار ، أي : مُحْكم
الفتل ، ثم يُستعار ذلك في الأمر المحكم المبرَم فيجيء التأويل على هذا : لو
يَجدون نصرة أو أموراً مسددة مرتبطة تعصِمهم منكم . وجعل المُدَّخَل أيضاً قوماً
يدخلون في جملتهم .
وقرأ أُبَيّ مُنْدَخَلاً بالنون بعد الميم مِنْ اندخل قال :
2501 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يدي في حَمِيتِ السَّمْنِ
تَنْدَخِلُ
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : » إنما هي بالتاء « . قلت وهو معذورٌ لأن
انفعل قاصر لا يتعدى فكيف بُني منه اسمُ مفعول؟
وقرأ الأشهب العقيلي : » لَوَاْلَوا « ، أي : بايعوا وأسرعوا ، وكذلك رواها ابن
أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة من الموالاة . وهذا
ممَّا جاء فيه فَعَّل وفاعَل بمعنى نحو : ضَعَّفْتُه وضاعَفْتُه . قال سعيد بن
مسلم أظنها » لَوَأَلُوا « بهمزة مفتوحة بعد الواو مِنْ وَأَلَ ، أي : التجأ ،
وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء :
والجُّموح : النُّفور بإسراع ومنه فرس جَموح إذا لم يَرُدَّه لِجام قال :
2502
جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها ... كمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُؤْقَدِ
وقال آخر :
2503 - إذا جَمَحَتْ نساؤكُمُ إليه ... أَشَظَّ كأنه مَسَدٌ مُغَارُ
وقال آخر :
2504 وقد جَمَحْتُ جِماحاً في دمائِهمُ ... حتى رأيتُ ذوي أحسابِهم جَهَزوا
وقرأ أنس بن مالك والأعمش « يَجْمِزُون » ، قال ابن عطية : « يُهَرْوِلُون في
مَشْيهِم » . قيل : يَجْمِزُون ويَجْمَحون ويشتدُّون بمعنى « . وفي الحديث : »
فلما أَذْلَقَتْه الحجارة جَمَزَ « ، وقال رؤبة :
2505 إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بين عَنَقي وجَمْزي
وهذا أصلُه في اللغة .
وقوله : { إِلَيْهِ } ، عاد الضميرُ إلى الملجأ أو على المُدَّخل؛ لأن العطف ب أو
» ، ويجوز أن يعودَ على « المَغَارات » لتأويلها بمذكر .
قوله : { مَّن يَلْمِزُكَ } قرأ العامة « يلمزك » بكسر الميم مِنْ لَمَزه يَلْمِزه
، أي : عابه ، وأصله الإِشارة بالعين ونحوها . قال الأزهري : « أصلُه الدفع ،
لَمَزْته : دفعته » ، وقال الليث : « هو الغَمْز في الوجه ومنه هُمَزَةٌ لُمَزَة ،
أي : كثيرُ هذين الفعلين .
وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء ورُويت عن أبي عمرو بضمها
وهما لغتان في المضارع . وقرأ الأعمش يُلْمِزُك مِنْ أَلْمز رباعياً . وروى حماد
بن سلمة : » يُلامِزُك « على المفاعلة من واحدٍ كسافرَ وعاقَب .
وقد تقدَّم الكلام على » إذا « الفجائيةِ مراراً والعامل فيها : قال أبو البقاء :
» يَسْخَطون « لأنه قال : إنها ظرفُ مكان ، وفيه نظر تقدَّم في نظيره .
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ } : الظاهر أن جواب « لو » محذوفٌ تقديره : لكان خيراً لهم . وقيل : جوابُها « وقالوا » ، والواوُ مزيدةٌ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . وقوله « سيُؤْتينا » إنَّا إلى الله راغبون « هاتان الجملتان كالشرح لقولهم : حسبُنا الله ، فلذلك يم يتعاطَفا لأنهما كالشيءِ الواحد ، فشدَّة الاتصال منعت العطف .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
قوله
تعالى : { فَرِيضَةً } : في نصبها وجهان أحدهما : أنها مصدر على المعنى ، لأن معنى
إنما الصدقات للفقراء في قوة : فرض الله ذلك . والثاني : أنها حالٌ من الفقراء ،
قاله الكرماني وأبو البقاء ، يَعنْيان/ من الضمير المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً
، أي : إنما الصدقاتُ كانت لهم حال كونها فريضةً ، أي : مفروضة . ويجوز أن تكون «
فريضة » حينئذ بمعنى مفعولة ، وإنما دخلت التاء لجريانها مجرى الأسماء كالنَّطيحة
. ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : لِمَ عدل
عن اللام إلى » في « في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإِيذان بأنهم أرسخُ في استحقاق
التصدُّق عليهم مِمَّن سَبَق ذكرُه؛ لأن » في « للوعاء ، فنبَّه على أنهم أحقاءُ
بأن توضع فيهم الصدقات ويُجعلوا مَظِنَّةً لها ومَصَبَّاً » ، ثم قال : « وتكرير »
في « في قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضلُ ترجيحٍ لهذين على
الرقاب والغارمين » .
ونُقِل عن سيبويه أن « فريضة » منصوبٌ بفعلها مقدراً ، أي : فرض الله ذلك فريضة .
ونُقل عن الفراء أنها منصوبة على القطع .
وقرىء « فريضةٌ » بالرفع على : تلك فريضة .
والغُرْم أصله لُزوم شيءٍ شاق ومنه قيل للعشق غرام ، ويُعَبَّر به عن الهلاك في
قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] ، وغَرامَةُ
المال فيها مشقة عظيمة .
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
قوله
تعالى : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } : « أُذُن » خبر مبتدأ محذوف ، أي : قل هو
أُذُنُ خيرٍ . والجمهور على جرِّ « خيرٍ » بالإِضافة . وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن
علي وأبو بكر عن عاصم « أُذنٌ » بالتنوين ، « خيرٌ » بالرفع وفيها وجهان ، أحدهما
: أنها وصف ل « أُذُن » . والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر . و « خير » يجوز أن
تكون وصفاً من غير تفضيل ، أي : أُذُنُ ذو خيرٍ لكم ، ويجوز أن تكونَ للتفضيل على
بابها ، أي : أكثر خير لكم . وجوَّز صاحب « اللوامح » أن يكونَ « أذن » مبتدأ و «
خير » خبرها ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة لأنها موصوفةٌ تقديراً ، أي : أذنٌ لا
يؤاخذكم خير لكم مِنْ أُذُنٍ يؤاخذكم .
ويقال : رَجُلٌ أُذُنٌ ، أي : يسمع كل ما يقال . وفيه تأويلان أحدهما : أنه سُمِّي
بالجارحة لأنها آلة السماع ، وهي معظم ما يُقْصد منه كقولهم للربيئة : عين . وقيل
: المرادُ بالأذن هنا الجارحة ، وحينئذٍ تكونُ على حَذْف مضاف ، أي : ذو أذن .
والثاني : أن الأذن وصفٌ على فُعُل كأُنُف وشُلل ، يقال : أَذِن يَأْذَن فهو أُذُن
، قال :
2506 وقد صِرْتَ أُذْناً للوُشاة سَميعةً ... ينالُون مِنْ عِرْضي ولو شئتَ ما
نالوا
قوله : { وَرَحْمَةٌ } ، قرأ الجمهور : « ورحمة » ، رفعاً نسقاً على « أذن ورحمة »
، فيمن رفع « رحمة » . وقال بعضهم : هو عطف على « يؤمن »؛ لأن يؤمن « في محل رفع
صفة ل » أذن « تقديره : أذن مؤمنٌ ورحمةٌ . وقرأ حمزةُ والأعمش : » ورحمة « بالجر
نسقاً على » خير « المخفوض بإضافة » أذن « إليه . والجملة على هذه القراءة معترضةٌ
بين المتعاطفين تقديره : أذن خير ورحمة . وقرأ ابن أبي عبلة : » ورحمةً نصباً على
أنه مفعول من أجله ، والمعلل محذوف ، أي : يَأْذَنُ لكم رحمةً بكم ، فحذف لدلالة
قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } .
والباءُ واللام في « يؤمن بالله » « ويؤمن للمؤمنين » مُعَدِّيتان قد تقدَّم
الكلامُ عليهما في أول هذه الموضوع . وقال الزمخشري : « قصد التصديقَ بالله الذي
هو نقيض الكفر فعدى بالباء ، وقصد الاستماعَ للمؤمنين ، وأن يُسَلِّم لهم ما
يقولون فعدى باللام ، ألا ترى إلى قوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ
كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] . ما أنباه عن الباء ، ونحوه : { فَمَآ آمَنَ
لموسى } [ يونس : 83 ] { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] {
آمَنتُمْ لَهُ } [ الشعراء : 49 ] . وقال ابن قتيبة : » هما زائدتان ، والمعنى :
يصدِّق الله ويصدِّق المؤمنين « وهذا قولٌ مردودٌ ، ويدلُّ على عدم الزيادة تغايرُ
الحرف الزائد ، فلو لم يُقْصَدْ معنىً مستقلٌ لَمَا غاير بين الحرفين وقال المبرد
: » هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدر من الفعل كأنه قال : وإيمانه للمؤمنين « . وقيل : يقال
: آمنتُ لك بمعنى صَدَّقْتُكَ ، ومنه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } وعندي أن
هذه اللامَ في ضمنها » ما « فالمعنى : ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به . وقال
أبو البقاء : » واللام في للمؤمنين زائدةٌ دَخَلَتْ لتفرِّقَ بين « يؤمن » بمعنى
يُصَدِّق ، وبين يؤمن بمعنى يثبت الإِيمان « .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قوله
تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } : إنما أفرد الضمير في «
يُرْضوه » ، وإن كان الأصل في العطف بالواو المطابقةَ لوجوهٍ أحدُها : أنَّ رضا
الله ورسولِه شيء واحد : مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع [ الله ] ، { إِنَّ الذين
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، فلذلك جَعل
الضميرين ضميراً واحداً مَنْبَهة على ذلك . والثاني : أن الضميرَ عائد على المثنى
بلفظ الواحد بتأويل « المذكور » كقول رؤبة :
2507 فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجلد تَوْلِيْعُ البَهَقْ
أي : كأن ذاك المذكور . وقد تقدَّم لك بيان هذا في أوائل البقرة . الثالث : قال
المبرد : في الكلام تقديمٌ وتأخير تقديره : والله أحقُّ أن يُرْضوه ورسولُه . قلت
: وهذا على رأي مَنْ يدَّعي/ الحَذْفَ من الثاني . الرابع : وهو مذهب سيبويه أنه
حَذَفَ خبر الأول وأبقى خبر الثاني . وهو أحسن من عكسه وهو قولُ المبردِ ، لأن فيه
عدمَ الفصل بين المبتدأ أو خبره ، ولأن فيه أيضاً الإِخبار بالشيء عن الأقرب إليه
، وأيضاً فهو متعيَّنٌ في قول الشاعر :
2508 - نحن بما عندنا وأنت بما ... عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ
أي : نحن راضُون ، حَذَفَ « راضون » لدلالةِ خبر الثاني عليه . قال ابن عطية : «
مذهبُ سيبويهِ أنهما جملتان حُذِفَت الأولى لدلالةِ الثانيةِ عليها » . قال الشيخ
: « إن كان الضمير في » أنهما « عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين فكيف يقول »
حُذفت الأولى « والأُوْلى لم تُحْذَفْ ، إنما حُذِفَ خبرُها ، وإن كان عائداً على
الخبر وهو { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } فلا يكونُ جملةُ إلا باعتقاد أن يكون » أن
يُرْضُوه « مبتدأً وخبره » أحقُّ « مقدَّماً عليه ، ولا يتعيَّنُ هذا القولُ إذ
يجوزُ أن يكونَ الخبرُ مفرداً بأن يكونَ التقدير : أحقُّ بأَنْ تُرْضوه » . قلت :
إنما أراد أبو محمد التقديرَ الأول وهو المشهورُ عند المُعْربين ، يجعلون « أحق »
خبراً مقدماً ، و « أن يرضوه » مبتدأ مؤخراً [ أي ] : واللَّهُ ورسولُه إرضاؤُه
أحقُّ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا قريباً في قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ }
[ التوبة : 13 ] .
و { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } شرطٌ جوابُه محذوفٌ أو متقدم .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قوله
تعالى : { أَلَمْ يعلموا } : الجمهورُ : على « يَعْلموا » بياء الغيبة رَدَّاً على
المنافقين . وقرأ الحسن والأعرج : « تَعْلموا » بتاء الخطاب . فقيل : هو التفاتٌ
من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين . وقيل الخطابُ للنبي عليه
السلام ، وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً كقوله :
2509 وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقيل : الخطابُ للمؤمنين ، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام : فعلى
الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم
، وعلى الثالث يكون للتقرير .
والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ « أَنْ » مسدَّ مفعولَيْن عند
سيبويه ، ومسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش ، وأن يكونَ بمعنى العرفان
فتسدَّ « أنَّ » مسدَّ مفعول . و « مَنْ » شرطية و { فَأَنَّ لَهُ نَارَ } جوابُها
، وفتحت « أنَّ » بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ
خبرِ « أنَّ » الأولى .
وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري :
« ويجوز أن يكونَ » فأنَّ له « معطوفاً على » أنه « على أنَّ جوابَ » مَنْ «
محذوفٌ تقديره : ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ
له » . وقال الجرمي والمبرد : « أنَّ » الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير : فله
نارُ جهنم ، وكُرِّرت « أنَّ » توكيداً . وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى : {
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء } [ النحل : 119 ] ، ثم قال : {
إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } قال : « والفاءُ على هذا جوابُ الشرط » .
وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط
لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً أو مضارعاً مقروناً ب « لم » ، والجوابُ على
قولِه محذوفٌ ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ ب لم « ، وأيضاً فإنَّا نجدُ
الكلامَ تاماً بدون هذا الذي قدَّره » .
وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال : « الثانيةُ بدلٌ من الأولى » ، وهذا لا يَصِحُّ عن
سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع . وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين ، أحدهما : أنَّ الفاءَ
تمنعُ من ذلك ، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ . والثاني : أنَّ جَعْلَها بدلاً يوجب
سقوط جواب « مَنْ » مِن الكلام « . وقال ابن عطية : » وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ
الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى ، والأُْولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ
، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط ، وتلك الجملةُ هي الخبر . وأيضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ
البدلَ ، [ وأيضاً ] فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل « .
وقال بعضهم : » فيجب على تقدير اللام أي : فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلا بد من
إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره : فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم « .
وهذه
كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها ، فالأولى ما تقدم ما ذكره : وهو أن يكونَ {
فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ ، وينبغي
أن تقدِّرَه متقدماً عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي : فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم
. وقدَّره غيرُه متأخراً أي : فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ . كذا قدَّره الأخفش .
ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها ، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء ب «
أنَّ » المفتوحةِ من غير تقديمِ خبر ، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ
تقدُّمِ « أمَّا » نحو : « أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي » أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو :
« عندي/ أنَّك مُنْطَلق » . وقيل : فأنَّ له « خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ
أنَّ له . وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جواباً للشرط .
وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة والحسن وابن لأبي عبلة » فإنَّ « بالكسر وهي
قراءةٌ حسنةٌ قوية ، تقدَّم أنه قرأ [ بها ] بعضُ السبعة في الأنعام ، وتقدَّم
هناك توجيهُها .
والمُحَادَّة : المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة . قيل : مشتقةٌ
مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد . وقيل : من الحدّ الذي هو
الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم : شاقَّه أي : كان في شقٍ غيرِ شقِّ
صاحبه . وعاداه : أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته .
واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار ، ولم يُروَ قولُه :
2510 فَمَنْ يكُ سائلاً عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ
إلا بالكسرِ ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين . و » خالداً « نصبٌ على
الحال .
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قوله
تعالى : { أَن تُنَزَّلَ } : مفعولٌ به ناصبُه يحذر ، فإن « يَحْذَر » متعدٍّ
بنفسِه لقوله تعالى : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 30 ] لولا
أنه متعدٍّ في الأصل لواحدٍ لَما اكتسب التضعيف مفعولاً ثانياً ، ويدلُّ عليه
أيضاً ما أنشده سيبويه :
2511 حَذِرٌ أُموراً لا تَضيرُ وآمِنٌ ... ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ
وفي البيت كلامٌ ، قيل : إنه مصنوع ، وهو فاسد أتقنت حكايته في « شرح التسهيل »
وقال المبرد : « إنَّ » حَذِر لا يتعدى « قال : لأنه من هَيْئات النفسِ كفَزِع ،
وهذا غير لازم فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍ كخاف وخشِي فإنَّ » تُنَزَّل
« عند المبرد على إسقاط الخافض أي : مِنْ أَنْ تُنَزَّل . وقوله » تُنَبِّئهم « في
موضع الرفع صفةً ل » سورة « .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
قوله
تعالى : { أبالله } : متعلقٌ بقوله : « تستهزئون » و « تستهزئون » خبرُ كان . وفيه
دليلٌ على تقديم خبر كان عليها ، لأنَّ تقديمَ المعمول يُؤْذِن بتقديم العامل ،
وقد تقدم معمول الخبر على « كان » فَلْيَجُزْ تقديمُه بطريق الأولى . وفيه بحث :
وذلك أن ابنَ مالك قَدَح في هذا الدليلِ بقوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ
تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9-10 ] قال : « فاليتيم
والسائل قد تَقَدَّما على » لا « الناهية والعاملُ فيهما ما بعدها ، ولا يجوز
تقديم ما بعد » لا « الناهية عليها لكونه مجزوماً بها ، فقد تقدَّم المعمولُ حيث
لا يتقدَّم العامل . ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر ليس بقوله : {
أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] .
والاعتذار : التنصُّل مِنَ الذنب وأصله مِنْ تعذَّرت المنازل أي : دُرِسَت وامحى
أثرها ، قال ابن أحمر :
2512 قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ ... أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ
فالمعتذر يزاول محو ذنبه . وقيل : أصله من العَذْر وهو القطع ، ومنه العُذْرة
لأنها تُقْطع بالافتراع . قال ابن الأعرابي : » يقولون : اعتذرت [ المياه أي :
انقطعت ، وكأن المعتذر يحاول ] قطع الذمّ عنه .
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قوله
تعالى : { إِن نَّعْفُ } : قرأ عاصم « نَعْفُ » بنون العظمة ، « نُعَذِّب » كذلك
أيضاً ، « طائفةً » نصباً على المفعولية ، وهي قراءاتُ أَبي عبد الرحمن السلمي
وزيد بن علي . وقرأ الباقون « يُعفَ » في الموضعين بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول
ورفع « طائفةٌ » على قيامِها مَقام الفاعل . والقائمُ مقامَ الفاعل في الفعل
الأولِ الجارُّ بعده . وقرأ الجحدري : « إن يَعْفُ » بالياء من تحت فيهما مبنياً
للفاعل وهو ضميرُ الله تعالى ، ونصب « طائفة » على المفعول به ، وقرأ مجاهد «
تَعْفُ » بالتاء من فوق فيهما مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى ، ونصبِ « طائفةً
» على المفعول به . وقرأ مجاهد : « تُعفَ » بالتاء من فوق فيهما مبنياً للمفعول
ورفع « طائفة » لقيامها مَقامَ الفاعل .
وفي القائم مقامَ الفاعل في الفعل الأول وجهان أحدهما : أنه ضمير الذنوب أي : إن
تُعْفَ هذه الذنوب . والثاني : أنه الجارُّ ، وإنما أُنِّثَ الفعلُ حَمْلاً على
المعنى . قال الزمخشري : « الوجه التذكير ، لأنَّ المسنَد إليه الظرفُ ، كما تقول
: » سِيْرَ بالدابة « ولا تقول : سِيْرت بالدابة ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل :
إن تُرحَمْ طائفة ، فأنَّث لذلك وهو غريبٌ » .
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
قوله تعالى : { يَأْمُرُونَ } : هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مفسرةٌ لقوله { بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } وكذلك ما عُطِف على « يَأْمرون » .
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
قوله تعالى : { خَالِدِينَ } : حالٌ من المفعول الأول للوعد وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحالَ لم تقارِنْ الوعد ، وقوله : « هي حَسْبُهم » لا محلَّ لهذه الجملةِ الاستئنافية . وقوله : « هي حسبهم » لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية .
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
قوله
تعالى : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ } : فيه أوجه أحدها : هذه الكافَ/ في محلِّ رفعٍ
تقديرُه : إنهم كالذين فهي خبر مبتدأ محذوف . الثاني : أنها في محل نصب . قال
الزجاج : « المعنى : وعدكما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم ، فهو متعلقٌ ب » وَعَدَ « .
قال ابن عطية : » وهذا قَلِقٌ « . وقال أبو البقاء : » ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب
« يَسْتهزئون » . وفي هذا بُعْدٌ كبير .
وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ } تفسيرٌ لشبههم بهم وتمثيل لفعلهم . وجعل الفراءُ
محلَّها نصباً بإضمارِ فعلٍ قال : « التشبيهُ من جهة الفعل أي : فعلتم كما فعل
الذين من قبلكم » فتكون الكافُ في موضع نصب . وقال أبو البقاء : « الكاف في موضع
نصب نعتاً لمصدر محذوف ، وفي الكلام حذفُ مضافٍ تقديرُه » وعداً كوعد الذين « .
وذكر الزمخشري وجهَ الرفع المتقدمَ والوجهَ الذي قدَّمْتُه عن الفراء ، وشبَّهه
بقول النمر بن تولب :
2513 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كاليوم مَطْلوباً ولا طَلَبا
بإضمار : لم أر .
قوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي
: استمتاعاً كاستمتاع الذين .
قوله : كالذي خاضوا } الكافُ كالتي قبله . وفي » الذي « وجوهٌ أحدُها : أن المعنى
: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا ، فحُذفت النونُ تخفيفاً ، أو وقع المفردُ موقعَ
الجمع . وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة ، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ
إلى الموصول ، وعائدُ الموصول تقديرُه : خاضوه ، والأصلُ : خاضوا فيه؛ لأنه يتعدى
ب » في « فاتُّسع فيه ، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه ،
ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد
بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف ، وأن يتحدَ
المتعلَّق ، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم .
الثاني : أنَّ » الذي « صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي : وخضتم خوضاً كخوضِ الفوج
الذي خاضُوا ، أو الفريق الذي خاضوا . والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ .
الثالث : أنَّ » الذي « من صفةِ المصدرِ والتقدير : وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي
خاضوه . وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر . وهذا الوجهُ ينبغي أن
يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه .
الرابع : أن » الذي « تقعُ مصدريةً ، والتقدير : وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله :
2514 فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ ... في المُرْسلين ونَصْراً كالذي
نُصِروا
أي : كنَصْرهم . وقول الآخر :
2515 يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً ... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أي : ككونِه . وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس ، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين
لذلك . قال الزمخشري : » فإن قلتَ : أيُّ فائدة في قوله : { فاستمتعوا
بِخَلاقِهِمْ كَمَا } ، وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }
مُغْنٍ عنه كما أغنى « كالذي خاضوا » [ عن أن يقال : وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي
خاضُوا ] ؟ قلت : فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم
بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع ،
ويُهَجِّن أمرَ الراضي به ، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم .
وأمَّا
« وخُضْتُمْ كالذي خاضوا » فمعطوفٌ على ما قبله ، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده
إليه عن تلك المقدمة « يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ : وخاضوا فخضتم
كالذي خاضوا .
وفي قوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ
: وهو أن كانَ الأصلُ : فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم ، فأبرزهم
بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى : { لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان
كَانَ للرحمن عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] وكقوله قبل ذلك : { المنافقون والمنافقات
بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } ثم قال : { إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } [
التوبة : 67 ] . وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم
يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قوله
تعالى : { قَوْمِ نُوحٍ } : بدلٌ من الموصول قبلَه وهو ويَحْتمل أن يكونَ بدلَ كل
من كل إن كان المرادُ بالذين ما ذُكِر بعده خاصة ، وأن يكونَ بدلٌ بعضً مِنْ كل
إنْ أريد به أعمَّ من ذلك .
والمُؤْتَفكات أي : المُنْقَلبات يُقال : أَفَكْتُه فانتفك أي : قَلَبْته فانقلب ،
والمادةُ تدل على التحوُّل والتصرف ومنه { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ / أُفِكَ } [
الذاريات : 9 ] أي : يُصْرَف . والضمير في « أَتَتْهم » يجوز أن يعودَ على مَنْ
تقدَّم ، وخَصَّه بعضُهم بالمؤتفكات .
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
وقوله تعالى : { [ بَعْضُهُمْ ] أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } : وقال في المنافقين { مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] إذ لا ولايةَ بين المنافقين . وقوله « يَأْمُرون » كما تقدم في نظيره . والسينُ في « سيرحمهم الله » للاستقبال ، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة . وادعى الزمخشري أنها تفيد وجوبَ الرحمةِ وتوكيدَ الوعيد والوعيد نحو : سأنتقم منك .
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وقوله
تعالى : { خَالِدِينَ } : حالٌ مقدرة كما تقدم . والعَدْن : الإِقامة يُقال :
عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عَدْناً أي ثَبَتَ واستقرَّ ، ومنه المَعْدِن لمُسْتَقَرِّ
الجواهر ويُقال : عَدَن عُدُوناً فله مصدران ، هذا أصلُ هذه اللفظة لغةً ، وفي
التفسير ذكروا لها معانيَ كثيرةً . وقال الأعشى في معنى الإِقامة :
2516 وإن يَسْتضيفوا إلى حِلْمِهِ ... يُضافُوا إلى راجِحٍ قد عَدَنْ
أي : ثَبَتَ واستقرَّ ، ومنه « عَدَن » لمدينة باليمن لكثرة المقيمين بها .
قوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } ، التكثير يفيد التعليل ، أي : أقلُّ
شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم مِنَ الجنَّات ومساكنها .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
قوله تعالى : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } : قال أبو البقاء : « إن قيل : كيف حَسُنَتِ الواوُ هنا ، والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أجوبة . أحدُها : أن الوَاوَ واو الحال والتقدير : افعل ذلك في حال استحقاقِهم جهنم ، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم . والثاني : أن الواوَ جيْءَ بها تنبيهاً على إرادة فعلٍ محذوف تقديره : واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم . الثالث : أنَّ الكلامَ قد حُمل على المعنى ، والمعنى : أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلطة وعذابُ الآخرةَ بجَعْلِ جهنم مأواهم » ، ولا حاجةَ إلى هذا كلِّه ، بل هذه جملةٌ استئنافية .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
قوله
تعالى : { إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به ، أي :
وما كَرِهوا وعابُوا إلا إغناءَ الله إياهم ، وهو من بابِ قولِهم : ما لي عندك
ذنبٌ إلا أَنْ أَحْسَنْت إليك ، أي : إن كان ثَمَّ ذنبٌ فهو هذا ، فهو تهكمٌ بهم ،
كقوله :
2517 ولا عيبَ فينا غيرُ عِرْقٍ لمعشرٍ ... كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النمل
وقول الآخر :
2518 ما نقِموا من بني أميةَ إلا ... أنهمْ يَحْلُمون إنْ غَضِبوا
وأنهم سادةُ الملوكِ ولا ... يَصْلحُ إلا عليهم العَرَبُ
والثاني : أنه مفعولٌ من أجله ، وعلى هذا فالمفعول به محذوف تقديره : وما نقموا
منهم الإِيمان إلا لأجلِ إغناء الله إياهم . وقد تقدَّم الكلامُ على نَقِم .
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قوله
تعالى : { مَّنْ عَاهَدَ الله } : فيه معنى القسم فلذلك أُجيب بقوله : «
لنصَّدَّقَنَّ » ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالة هذا الجوابِ عليه ، وقد عَرَفْتَ
قاعدة ذلك . واللام للتوطئة . ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللام الموطئة له .
وقال أبو البقاء؛ « فيه وجهان أحدهما : تقديره فقال : لئن آتانا .
والثاني : أنْ يكونَ » عاهد « بمعنى » قال « فإنَّ العهد قول » . ولا حاجة إلى هذا
الذي ذكره .
قوله : { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ } قرأهما الجمهور بالنون الثقيلة ،
والأعمش بالخفيفة .
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
والجمهور قرؤوا « يَكذبون » مخففاً . وأبو رجاء مثقلاً .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
والجمهورُ على « يَعْلموا » بالياء من تحت . وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والسُّلَمي بالخطاب التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
قوله
تعالى : { الذين يَلْمِزُونَ } : فيه أوجه ، أحدهما : أنه مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ
، أي : هم الذين . الثاني : أنه في محل رفع بالابتداء و « من المؤمنين » حالٌ مِن
« المطَّوِّعين » ، و « في الصدقات » متعلق ب « يَلْمِزون » . و { وَالَّذِينَ لاَ
يَجِدُونَ } نسقٌ على « المطَّوِّعين » أي : يَعيبون المياسير والفقراء .
وقال مكي : « والذين » خفضٌ عطفاً على « المؤمنين » ، ولا يَحْسُن عَطْفُه على «
المطَّوِّعين » ، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد ، لأن « فيسخرون » عطف على « يَلْمِزُون
» هكذا ذكره النحاس في « الإِعراب » له ، وهو عندي وهمٌ منه « . قلت : الأمر فيه
كما ذكر فإن » المطَّوِّعين « قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره .
وقوله : { فَيَسْخَرُونَ } نسقٌ على الصلة ، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله : {
سَخِرَ الله مِنْهُمْ } ، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا . وقيل : { وَالَّذِينَ لاَ
يَجِدُونَ } نسقٌ على » الذين يَلْمزون « ، ذكره أبو البقاء . وهذا لا يجوزُ؛ لأنه
يلزمُ الإِخبارُ عنهم ، بقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } وهذا لا يكون إلا بأَنْ
كان الذين لا يَجِدون منافقين ، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟
وقيل : { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ على المؤمنين ، قاله أبو البقاء . وقال
الشيخ : » وهو بعيدٌ جداً « ، قلت : وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون
ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغايرة فكأنه قيل : يَلْمِزون
المطَّوِّعين من هذين الصنفين : المؤمنين والذين لا يجدون ، فيكون الذين لا يجدون
مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين .
وقال أبو البقاء : » في الصدقات « متعلق ب » يَلْمِزون « ، ولا يتعلق
بالمطَّوِّعين لئلا يُفْصَل بينهما بأجنبي » ، وهذا الردُّ فيه نظر ، إذ قولُه : «
من المؤمنين » حال ، والحال ليست/ بأجنبي ، وإنما يظهر في رَدِّ ذلك أن « يطَّوَّع
» إنما يتعدى بالباء لا ب « في » ، وكونُ « في » بمعنى الباء خلافُ الأصل .
وقيل : { فَيَسْحَرُونَ } خبرُ المبتدأ ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأ
من معنى الشرط ، وفي هذا الوجهِ بُعْدٌ من حيث إنه يَقْرُب من كونِ الخبر في معنى
المبتدأ ، فإنَّ مَنْ عاب إنساناً وغَمَزَه علم أنه يسخر منه فيكون كقولهم : « سيد
الجارية مالكها » .
الثالث : أن يكونَ محلُّه نصباً على الاشتغال بإضمار فعل يُفَسِّره { سَخِرَ الله
مِنْهُمْ } مِنْ طريقِ المعنى نحو : عاب الذين يَلْمِزون سخر الله منهم . الرابع :
أَنْ ينتصبَ على الشتم . الخامس : أن يكونَ مجروراً بدلاً من الضمير في « سِرَّهم
ونجواهم » .
وقرىء « يُلْمزون » بضم الميم ، وقد تقدَّم أنها لغة .
وقوله : { سَخِرَ الله } يُحْتمل أن يكونَ خبراً محضاً ، وأن يكون دعاءً . وقرأ
الجمهور « جُهدهم » بضم الجيم . وقرأ ابن هرمز وجماعة « جَهْدهم » بالفتح . فقيل :
لغتان بمعنى واحد . وقيل : المفتوحُ المشقَّة ، والمضمومُ الطاقةُ قاله القتبي .
وقيل : المضمومُ شيءٌ قليلٌ يُعاشُ به ، والمفتوحُ العملُ .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قوله
تعالى : { سَبْعِينَ مَرَّةً } : منصوبٌ على المصدر كقولك : « ضربتُه عشرين ضربةً
» فهو لعددِ مراته . وقوله : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ، قد
تقدَّم الكلامُ على هذا بُعَيْدَ قوله : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } [ التوبة : 53 ] وأنه نظيرُ قوله :
2519 أَسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلومةٌ ... لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ
تَقَلَّتِ
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
قوله
تعالى : { بِمَقْعَدِهِمْ } : متعلقٌ ب « فرح » ، وهو يصلح لمصدر قعد وزمانِه
ومكانِه ، والمرادُ به ههنا المصدرُ ، أي : بقعودهم وإقامتها بالمدينة .
قوله : { خِلاَفَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ
مدلولٍ عليه بقوله : « مَقْعدهم » ، لأنه في معنى تخلَّفوا ، أي : تخلفوا خلاف
رسول الله . الثاني : أنَّ « خلاف » مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه : إمَّا فرح ،
وإما مَقْعد ، أي : فَرِحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد
وتَخَلَّفوا هم عنه ، أو بقعودِهم لمخالفَتهم له ، وإليه ذهب الطبري والزجاج
ومؤرِّج ، ويؤيد ذلك قراءةُ منْ قرأ « خُلْف » بضم الخاءِ وسكون اللام ، والثالث :
أنْ ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله . يُقال : « أقام زيد خلاف القوم » ، أي
: تخلف بعد ذهابهم ، و « خلافَ » يكون ظرفاً قال :
2520 عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا
وقال الآخر :
2521 فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مضى ... تَهَيَّأْ لأخرى مِثلها وكأنْ قَدِ
وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة
وعمرو بن ميمون « خَلْفَ » بفتح الخاء وسكون اللام .
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
قوله
تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ } : « رجع » يتعدى ، كهذه الآية الكريمة ، ومصدرُه
الرَّجْع ، كقوله : { والسمآء ذَاتِ الرجع } [ الطارق : 11 ] ، ولا يتعدى نحو : {
وَإِلَيْنَا تُرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] ، في قراءة مَنْ بناه للفاعل ،
والمصدر الرجوع كالدخول .
قوله : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، قد تقدَّم ذلك . وقال أبو البقاء : « هي ظرفٌ » ،
قال الشيخ : « ويعني ظرفَ زمان وهو بعيد » . / لأن الظاهرَ أنها منصوبةٌ على
المصدر ، وفي التفسير : أولَ خَرْجَةٍ خَرَجَها رسول الله ، فالمعنى : أولَ مرة من
الخروج . قال الزمخشري : « فإن قلت » مرة « نكرة وُضِعَتْ موضع المرات من التفضيل
، فلِمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيلِ المضافُ إليها وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرات؟ قلت
: أكثر اللغتين : » هند أكبرُ النساء وهي أكبرُهن « ، ثم إنَّ قولَك : » هي كبرى
امرأة « ، لا تكاد تعثر عليه ، ولكن » هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة « .
قوله : { مَعَ الخالفين } هذا الظرفُ يجوز أن يكونَ متعلقاً ب » اقعدوا « ، ويجوز
أن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل » اقعدوا « . والخالِفُ : المتخلِّفُ بعد
القوم . وقيل : الخالف : الفاسد . » مَنْ خَلَفَ « ، أي : فَسَد ، ومنه » خُلوف فم
الصائم « ، والمراد بهم النساءُ والصبيانُ والرجالُ العاجزون ، فلذلك جاز جمعُه
للتغليب . وقال قتادة : » الخالِفُون : النساء « ، وهو مردودٌ لأجل الجمع . وقرأ
عكرمة ومالكُ بن دينار » مع الخَلِفين « مقصوراً مِنَ الخالِفين كقوله :
2523 مثل النَّقَا لَبَّده بَرْدُ الظِّلَلْ ... وقوله :
2524 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . عَرِدا ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . بَرِدا
يريد : الظلال وعارِداً بارداً .
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
قوله تعالى : { مِّنْهُم } : صفةٌ ل « أحد » ، وكذلك الجملة من قوله : « مات » . ويجوز أن يكون « منهم » حالاً من الضمير في « مات » ، أي : مات حال كونِه منهم ، مُتَّصفاً بصفةِ النفاق كقولهم : « أنت مني » ، يَعْني على طريقتي . و « أبداً » ظرف منصوب بالنهي .
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
قوله تعالى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ } : قيل : هذه تأكيد للآية السابقة . وقال الفارسي : « ليست للتأكيد لأن تِيْكَ في قوم ، وهذه في آخرين ، وقد تغاير لفظاً الاثنتين فههنا » ولا « بالواو لمناسبة عطفِ نهيٍ على نهيٍ قبلَه في قوله : » ولا تُصَلِّ ، ولا تَقُمْ ، ولا تُعْجبك « ، فناسب ذلك الواو ، وهناك بالفاءِ لمناسبةِ تعقيبِ قولِه : ولا يُنْفِقون إلا وهم كارهون » ، أي : للإِنفاقِ فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ فنهاه عن الإِعجاب بفاء التعقيبِ . وهنا « وأولادهم » دون « لا » لأنه نهيٌ عن الإِعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادةِ « لا » لأنه نهيٌ عن كل واحد واحد فَدَلَّ مجموعُ الاثنين على النهي بهما مجتمعَيْن ومنفردين . وهنا « أنْ يُعَذِّبهم » وهناك « ليُعَذِّبهم » ، فأتى باللام مُشْعرةً بالغلبة ، ومفعولُ الإِرادةِ محذوفٌ ، أي : إنما يريد الله اختبارَهم بالأموال والأولاد ، وأتى ب « أن » لأنَّ مَصَبَّ الإِرادة التعذيبُ ، أي : إنما يريد الله تعذيبَهم . فقد اختلف متعلَّقُ الإِرادة في الآيتين . هذا هو الظاهر وإن كان يُحتمل أن تكونَ اللامُ زائدة ، وأن تكونَ « أَنْ » على حذف لام علة . وهناك « في الحياة الدنيا » وهنا سقطت « الحياة » ، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدنيا ، وأنها لا تستحق أن تُسَمَّى حياة ، لا سيما وقد ذُكِرَت بعد ذِكر موتِ المنافقين فناسَبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة .
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
قوله
تعالى : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } : « إذا » لا تقتضي تكراراً بوضعها ، وإن
كان بعضُ الناس فَهِمَ ذلك منها ههنا ، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وأنشدْت عليه :
2525 إذا وجدْتُ أوارَ الحُبِّ في كَبِدي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وأنَّ هذا إنما يُفْهَمُ من القرائِن لا مِنْ وَضْع « إذا » له .
قوله : { أَنْ آمِنُواْ } ، فيه وجهان ، أحدهما : أنها تفسيريةٌ لأنه قد تقدَّمها
ما هو بمعنى القول لا حروفه . والثاني : أنها مصدريةٌ على حذف حرف الجر ، أي :
بأنْ آمنوا . وفي قوله : « اسْتَأْذَنَكَ »؛ التفاتٌ من غَيْبة إلى خطاب ، وذلك
أنه قد تقدَّم لفظُ « رسوله » فلو جاء على الأصل لقيل : استأذنه .
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
قوله
تعالى : { مَعَ الخوالف } : الخَوَالِفُ : جمع خالفة من صفة النساء ، وهذه صفةُ
ذَمّ كقول زهير :
2526 وما أَدْري وسوف إخالُ أَدْري ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
فإنْ تكنِ النساءُ مُخَبَّآتٍ ... فَحُقَّ لكل مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وقال آخر :
2527 كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ
وقال النحاس : « يجوز أن تكونَ » الخوالِف « من صفة الرجال ، بمعنى أنها جمع خالفة
. يقال : » رجل خالِفَة « ، أي : لا خير فيه ، فعلى هذا تكونُ جمعاً للذكور
باعتبار لفظهِ » . وقال بعضهم : إنه جمع خالف ، يقال : رجلٌ خالفٌ ، أي : لا خير
فيه ، / وهذا مردودٌ؛ فإن فواعل لا يكونُ جمعاً ل فاعل وَصْفاً لعاقل إلا ما شذَّ
من نحو : فوارس ونواكس وهوالك .
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
والخَيْرات
: جمع خَيْرة على فَعْلة بسكون العين وهو المستحسَنْ من كل شيء ، وغَلَبَ
استعمالُه في النساء ، ومنه قوله تعالى : { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } وقول الشاعر :
2528 ولقد طَعَنْتُ مَجامِع الرَّبَلاتِ ... رَبَلاتِ هندٍ خَيْرةٍ الملَكاتِ
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قوله
تعالى : { المعذرون } : قُرىء بوجوهٍ كثيرة ، فمنها قراءة الجمهور : فَتْحُ العين
وتشديدُ الذال . وهذه القراءة تحتمل وجهين : أن يكون وزنه فَعَّل مضعّفاً ، ومعنى
التضعيف فيه التكلف ، والمعنى : أنه تَوَهَّم أن له عُذْراً ، ولا عُذْرَ له .
والثاني : أن يكون وزنه افتعل والأصل : اعتذرَ فأُدْغمت التاءُ في الذال بأنْ
قُلبت تاءُ الافتعال ذالاً ، ونُقِلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو العين ، ويدلُّ
على هذا قراءةُ سعيد بن جبير « المعتذرون » على الأصل . وإليه ذهب الأخفش والفراء
وأبو عبيدة وأبو حاتم والزجاج .
وقرأ زيدٌ بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال وهي قراءةُ ابنِ عباس
أيضاً ويعقوب والكسائي « المُعْذِرون » بسكون العين وكسرِ الذال مخففةً مِنْ
أَعْذَر يُعْذِر كأكرم يكرم .
وقرأ مسلمة « المُعَّذَّرون » بتشديد العين والذال مِنْ تعذَّر بمعنى اعتذر . قال
أبو حاتم : « أراد المتعذرون ، والتاء لا تدغم في العين لبُعْد المخارج ، وهي غلطٌ
منه أو عليه » .
قوله : { لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } متعلقٌ ب « جاء » وحُذِفَ الفاعلُ وأُقيم الجارُّ
مُقَامه للعلمِ به ، أي : ليأذن لهم الرسول . وقرأ الجمهور « كَذَبوا » بالتخفيف ،
أي : كذبوا في إيمانهم . وقرأ الحسن في المشهور عنه وأُبَيٌّ وإسماعيل « كذَّبوا »
بالتشديد ، أي : لم يُصَدِّقُوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
وقرأ
أبو حيوة : « نصحوا اللَّهَ » بدون لام ، وقد تقدم أن « نَصَح » يتعدَّى بنفسِه
وباللام .
وقوله : { مِن سَبِيلٍ } فاعل بالجارِّ لاعتماده على النفي ، ويجوز أن يكونَ
مبتدأً والجارُّ قبلَه خبرُه ، وعلى كلا القولين ف « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، أي : ما
على المحسنين سبيل .
قال بعضُهم : وفي هذه الآيةِ نوعٌ من البديع يسمى التمليح وهو : أن يُشارَ إلى
قصةٍ مشهورة أو مثلٍ سائرٍ أو شعر نادر في فحوى كلامك من غير ذِكْره ، ومنه قوله :
2529 اليومَ خمرٌ ويبدو بعده خَبَرٌ ... والدهرُ مِنْ بين إنعامٍ وإبْآسِ
يشير لقول امرىء القيس لَمَّا بلغه قَتْلُ أبيه : « اليومَ خمرٌ وغداً أمره » ،
وقول الآخر :
2530 فواللَّهِ ما أدري أأحلامُ نائمٍ ... أَلَمَّت بنا أم كان في الركب يوشَعُ
يُشير إلى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس . وقول الآخر :
2531 لعَمْروٌ مع الرَّمْضاءِ والنارُ تَلْتَظِي ... أرقُّ وأحفى منكَ في ساعة
الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور :
2532 المستجيرُ بعمروٍ عند كُرْبته ... كالمستجير مِنَ الرَّمْضاءِ بالنار
وكأن هذا الكلامَ وهو « ما على المحسنين من سبيل » اشتهُر ما هو بمعناه بين الناس
، فأشار إليه مِنْ غير ذكر لفظه . ولمَّا ذكر الشيخ التمليح لم يُقَيِّده بقوله «
من غير ذكره » ولا بد منه ، لأنه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً .
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
قوله
تعالى : { وَلاَ عَلَى الذين } : فيه أوجه ، أحدها : أن يكون معطوفاً على «
الضعفاء » ، أي : ليس على الضعفاء ولا على الذين إذا ما أَتَوْك ، فيكونون داخلين
في خبر ليس ، مُخبراً بمتعلقهم عن اسمِها وهو « حَرَج » . الثاني : أن يكون
معطوفاً على « المحسنين » فيكونون داخلين فيما أَخْبر به عن قوله « من سبيل » ،
فإنَّ « مِنْ سبيل » يحتمل أن يكون مبتدأً ، وأن يكون اسمَ « ما » الحجازية ، و «
مِنْ » مزيدةٌ في الوجهين . الثالث : أن يكون { وَلاَ عَلَى الذين } خبراً لمبتدأ
محذوف تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخرِ الصلةِ حرجٌ أو سبيل ، وحُذِفَ
لدلالةِ الكلامِ عليه ، قاله أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه لأنه تقديرٌ مُسْتغنىً
عنه ، إذ قد قَدَّر شيئاً يقومُ مقامَه هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى . وهذا
الموصولُ يحتمل أن يكونَ مندرجاً في قوله { وَلاَ عَلَى / الذين لاَ يَجِدُونَ مَا
يُنفِقُونَ } وذُكِروا على سبيل نفي الحرج عنهم وأن لا يكونوا مندرجين ، بأن يكون
هؤلاء وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا مَرْكوباً .
وقرأ معقل بن هرون « لنَحْملهم » بنونِ العظمة . وفيها إشكالٌ ، إذ كان مقتضى
التركيبِ : قلت لا أجدُ ما يَحْملكم عليه الله .
قوله : « قلت » فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه جوابُ « إذا » الشرطية ، و « إذا
» ، وجوابُها في موضعِ الصلة ، وقعت الصلةُ جملةً شرطيةً ، وعلى هذا فيكون قوله «
تَوَلَّوا » جواباً لسؤالٍ مقدرٍ ، كأن قائلاً قال : « ما كان حالُهم إذا أُجيبوا
بهذا الجواب؟ فأُجيب بقوله » تولُّوا « . الثاني : أنه في موضع نصب على الحال من
كاف » أَتَوْك « ، أي : إذا أَتَوْك وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه ، و » قد
« مقدرة عند مَنْ يشترط ذلك في الماضي الواقع حالاً كقوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] في أحد أوجهه ، كما تقدم تحقيقه ، وإلى
هذا نحا الزمخشري . الثالث : أن يكونَ معطوفاً على الشرط ، فيكونَ في محلِّ جرٍ
بإضافة الظرف إليه بطريق النَّسَق ، وحُذِفَ حرفُ العطفِ ، والتقدير : وقلت : وقد
تقدم لك كلامٌ في هذه المسألةِ وما استشهد الناس به عليها . وإلى هذا ذهب
الجرجانيُّ ، وتبعه ابن عطية ، إلا أنه قدَّر العاطفَ فاءً ، أي : فقلت . الرابع :
أن يكونَ مستأنفاً . قال الزمخشري : » فإنْ قلت : هل يجوزُ أن يكونَ قولُه « قلت
لا أجدُ » استئنافاً مثله « يعني مثل { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف }
كأنه قيل : إذا ما أَتَوْك لتحملهم تَوَلَّوا ، فقيل : ما لهم تَوَلَّوا باكين [
فقيل ] قلت : لا أجد ما أحملكم عليه ، إلا أنه وسطٌ بين الشرطِ والجزاءِ كالاعتراض
.
قلت
: نعم ويَحْسُن « انتهى .
قال الشيخ : » ولا يجوزُ ولا يَحْسُن في كلام العرب فكيف في كلام الله؟ وهو فَهْمُ
أعجميٍّ « . قلت : وما أدري ما سَبَبُ منعه وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره
لفظاً ومعنى؟ وذلك لأن تولِّيَهم على حاله ، فيصير الدمع ليس مترتباً على مجردِ
مجيئهم له عليه السلام ليحملَهم ، بل على قوله لهم { لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ
} ، وإذا كان كذلك فقوله عليه السلام لهم ذلك سببٌ في بكائهم ، فَحَسُن أن
يُجْعَلَ قوله { قُلْتَ : لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ } جواباً لمَنْ سأل عن علِة
تَوَلِّيهم وأعينُهم فائضةٌ دمعاً ، وهو المعنى الذي قَصَدَه أبو القاسم . وعلى
هذه الأوجهِ الثلاثة التي قَدَّمتها في » قلت « يكون جوابه قوله » تولَّوا « ،
وقوله » لتحملَهم « علةٌ ل » أَتَوْك « . وقوله » لا أجد « هي المتعديةُ لواحدٍ
لأنها من الوُجْد . و » ما « يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً .
قوله : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل » تَوَلَّوا
« ، قال الزمخشري : » تفيضُ من الدمع « كقولك : تفيض دمعاً ، وقد تقدَّم هذا في
المائدة مستوفىً عند قوله : { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } [ التوبة :
83 ] وأنه جعل » من الدمع « تمييزاً ، و » مِنْ « مزيدةً ، وتقدَّم الردُّ عليه في
ذلك هناك فعليك بالالتفات إليه .
قوله : { حَزَناً } في نصبه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه مفعولٌ مِنْ أجله والعاملُ
في » تفيض « قاله الشيخ . لا يُقال إن الفاعلَ هنا قد اختلف ، فإن الفَيْضَ مسند
للأعين والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين ، وإذا اختلف الفاعل وَجَبَ جرُّه بالحرف لأنَّا
نقول : إن الحزنَ يُسْنَدُ للأعين أيضاً مجازاً يقال : عين حزينةٌ وسخينة ، وعين
مسرورةٌ وقريرة في ضدِّ ذلك . ويجوز أن يكونَ الناصب له » تَوَلَّوا « وحينئذٍ
يتحد فاعلا العلةِ والمعلول حقيقةً . الثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي :
تَوَلَّوا حزينين أو تفيض أعينُهم حزينةً على ما تقدَّم من المجاز . الثالث : أنه
مصدر ناصبُه مقدرٌ مِنْ لفظِه ، أي : يحزنون حزناً قاله أبو البقاء . وهذه/
الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال : إمَّا
من فاعل » تَوَلَّوا « وإمَّا من فاعل » تفيض « .
قوله : { أَلاَّ يَجِدُواْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ من أجله ، والعامل
فيه » حَزَناً « إنْ أعربناه مفعولاً له أو حالً ، وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا
، لأن المصدر لا يعمل إذا كان مؤكداً لعامِله ، وعلى القول بأنَّ » حَزَناً «
مفعول من أجله يكون » أن لا يَجِدوا « علةً العلة ، يعني أنه يكون عَلَّلَ فيْضَ
الدمع بالحزن ، وعَلَّل الحزن بعدم وُجْدان النفقة ، وهذا واضحٌ ، وقد تقدَّم لك
نظيرُ ذلك في قوله { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38
] . والثاني : أنه متعلق ب » تفيض « . قال الشيخ : » قال أبو البقاء : « ويجوز أن
يتعلَّق ب » تفيض « . ثم قال الشيخ : » ولا يجوز ذلك على إعرابه « حزناً » مفعولاً
له ، والعامل فيه « تفيض » ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف
أو البدل « .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
قولُه
تعالى : { رَضُواْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنفٌ كأنه قال قائل : ما
بالُهم استأذنوا في القعود وهم قادرون على الجهاد؟ فَأُجيب بقوله « رَضُوا بأن
يكونوا مع الخوالِفِ » . وإليه مال الزمخشري . والثاني : أنه في محل نصبٍ على
الحال و « قد » مقدرةٌ في قوله [ « رَضُوا » ] .
وقوله : { وَطُبَعَ } نسقٌ على « رضُوا » تنبيهاً على أن السببَ في تخلُّفهم رضاهم
بقعودهم وطَبْعُ الله على قلوبهم .
وقوله { إِنَّمَا السبيل على } فأتى ب « على » وإن كان قد يَصِل ب « إلى » لفَرْقٍ
ذكروه : وهو أنَّ « على » تدل على الاستعلاء وقلة مَنَعَة مَنْ تدخل عليه نحو : لي
سبيل عليك ، ولا سبيلَ لي عليك ، بخلافِ « إلى » . فإذا قلت : « لا سبيل عليك »
فهو مغايرٌ لقولِك : لا سبيلَ إليك . ومن مجيء « إلى » معه ، قوله :
2533 ألا ليت شِعْري هل إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ فأمَّا الصبرُ عنها فلا صبرا
وقوله :
2534 هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشربَها ... أم من سبيل إلى نَصْرِ بن حَجَّاجِ
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قوله
تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } : فيها وجهان ، أحدهما :
أنها المتعديةُ إلى مفعولين أولهما « ن » والثاني : قوله « مِنْ أخباركم » . وعلى
هذا ففي « مِنْ » وجهان ، أحدهما : أنها غيرُ زائدةٍ ، والتقدير : قد نَبَّأنا
اللَّهُ أخباراً مِنْ أخباركم ، أو جملةً من أخباركم ، فهو في الحقيقة صفةٌ
للمفعول المحذوف . والثاني : أن « مِنْ » مزيدةٌ عند الأخفش لأنه لا يَشْترط فيها
شيئاً . والتقدير : قد نبَّأنا الله أخباركم .
الوجه الثاني من الوجهين الأوَّلَيْن : أنها متعديةٌ لثلاثة ك أعلم ، فالأولُ
والثاني ما تقدَّم ، والثالث محذوف اختصاراً للعلم به والتقدير : نَبَّأنا الله
مِنْ أخباركم كَذِباً ونحوه . قال أبو البقاء : « قد تتعدَّى إلى ثلاثةٍ ،
والاثنان الآخران محذوفان ، تقديره : أخباراً مِنْ أخباركم مُثْبَتَة ، و » مِنْ
أخباركم « تنبيه على المحذوف وليست » مِنْ « زائدة ، إذ لو كانت زائدة لكانت
مفعولاً ثانياً ، والمفعول الثالث محذوفٌ ، وهو خطأ لأن المفعول الثاني متى ذُكِر
في هذا البابِ لَزِم ذِكْرُ الثالث . وقيل : » مِنْ « بمعنى عن » . قلت : قوله : «
إنَّ حذف الثالث خطأ » إنْ عنى حَذْفَ الاقتصارِ فمسَلَّم ، وإن عنى حَذْفَ
الاختصار فممنوعٌ ، وقد مَرَّ بك في هذه المسألة مذاهبُ الناس .
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
قوله تعالى : { جَزَاءً } : يجوز أن ينتصبَ على المصدر بفعل مِنْ لفظه مقدرٍ ، أي : يُجْزَوْنَ جزاء ، وأن ينتصب بمضمونِ الجملة السابقة لأنَّ كونَهم يَأْوُوُن في جهنم في معنى المجازاة . ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله .
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
قوله
تعالى : { الأعراب } : صيغة جمعٍ وليس جمعاً لعرب قاله سيبويه؛ وذلك لئلا يلزمَ أن
يكونَ الجمعُ أخصَّ من الواحد ، فإن العرب هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادي أم
سكن القرى ، وأما الأعرابُ فلا يُطْلق إلى على مَنْ يَسْكن البواديَ فقط . وقد
تقدَّم لك في أوائل هذا الموضوع عند قوله تعالى : { رَبِّ العالمين } [ الفاتحة :
1 ] ، ولهذا الفرقِ نُسِب إلى الأعراب على لفظه فقيل : أعرابيّ . ويُجْمع/ على
أعاريب .
وقوله : { وَأَجْدَرُ } ، أي : أحقُّ وأَوْلى ، يقال : هو جديرٌ وأجدر وحقيق وأحقّ
وقمين وأَوْلى وخليق بكذا ، كلُّه بمعنى واحد . قال الليث : « جَدَر يَجْدُر
جَدارةً فهو جديرٌ ، ويؤنَّث ويثنَّى ويُجمع قال الشاعر :
2535 بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جديرون يوماً أن يَنَالوا
وَيَسْتَعْلوا
وقد نبَّه الراغب على أصلِ اشتقاقِ هذه المادة وأنها من الجِدار أي الحائط ، فقال
: » والجديرُ : المنتهى لانتهاء الأمر إليه انتهاءَ الشيء إلى الجدار « والذي يظهر
أن اشتقاقَه مِنَ الجَدْر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجَدرْ في قولك » جدير
بكذا « .
قوله : { أَلاَّ يَعْلَمُواْ } ، أي : بأن لا يَعْلموا فحذف حرفَ الجر فجرى
الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي مع سيبويه والفراء .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
قوله
تعالى : { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } : « مَنْ » مبتدأ وهي : إمَّا
موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ . ومَغْرَماً مفعول ثانٍ لأنَّ « اتخذ » هنا بمعنى صَيَّر
. والمَغْرَمُ : الخُسْران ، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ ، ومنه {
إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل : أصلُه الملازمةُ
ومنه « الغَريمُ » للزومه مَنْ يطالبه .
قوله : { وَيَتَرَبَّصُ } عطفٌ على « يَتَّخِذ » فهو : إمَّا صلة وإمَّا صفة .
والتربُّصُ : الانتظار . والدوائر : جمعُ دائرة ، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ
مصيبة ونكبة ، تصوُّراً من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها . وأصلها
داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور ، أي : أحاط . ومعنى « تربُّص الدوائر » ، أي :
انتظار المصائب قال :
2536 تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي
دعاءٌ على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا « السُّوء » وكذا
الثانية في الفتح بالضم ، والباقون بالفتح . وأما الأولى في الفتح وهي « ظنَّ
السَّوْ » فاتفق على فتحها السبعة . فأما المفتوح ، فقيل : هو مصدر . قال الفراء :
« يقال : سُؤْتُه سُوْءاً ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية ، وبالضم الاسم » قال أبو
البقاء : « وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة » . قلت : يعني أنه في الأصل كالمفتوح
في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ . وقال مكي : « مَنْ فتح السينَ فمعناه
الفساد والرداءة ، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر » . وظاهر هذا
أنهما اسمان لِما ذكر ، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أُطْلِقا على ما ذكر .
وقال غيرُه : الضموم : العذاب والضرر ، والمفتوح : الذم ، ألا ترى أنه أْجُمع على
فتح { ظَنَّ السوء } [ الفتح : 6 ] وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [
مريم : 28 ] ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين .
وقال الزمخشري فأحسن : « المضموم : العذاب ، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة ، كقولك : »
رجلُ سَوْء « في نقيض » رجل عدل « ، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها » يعني أنها
من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً ، ثم
أُضِيْفَتْ لصفتِها كقولِه تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28
] . قال الشيخ : « وقد حُكي بالضم » وأنشد :
2537 وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم
وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما : أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة . وقال الفارسي : «
إنها يجوز أن تكون مصدراً كالعافية » .
وقوله : { بِكُمُ الدوائر } فيه وجهان ، أظهرهُما : أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها
. والثاني : أنها حالٌ من « الدوائر » قاله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ ، وعلى هذا
فيتعلَّقُ/ بمحذوف على ما تقرر غير مرة .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قوله
تعالى : { قُرُبَاتٍ } : مفعولٌ ثان ليتخذ كما مرَّ في « مَغْرَما » . ولم يختلف
قُرَّاء السبعة في ضم الراء من « قُرُبات » مع اختلافهم في راء « قربة » كما سيأتي
، فيحتمل أن تكون هذه جمعاً لقُرُبة بالضم كما هي قراءة ورش عن نافع ، ويحتمل أن
تكون جمعاً للساكنها ، وإنما ضُمَّت اتباعاً ل « غرفات » وقد تقدم التنبيه على هذه
القاعدة وشروطها عند قوله تعالى { فِي ظُلُمَاتٍ } [ الآية : 17 ] أولَ البقرة .
قوله : { عِندَ الله } في هذا الظرفِ ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه متعلقٌ ب «
يَتَّخذ » . والثاني : أنه ظرف ل « قربات » قاله أبو البقاء ، وليس بذاك . الثالث
: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل « قربات » .
قوله : { وَصَلَوَاتِ الرسول } فيه وجهان أظهرهما : أنه نسق على « قربات » وهو
ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال : « والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصور القربات عند
الله » وصلوات الرسول « لأنه كان يدعو للمتصدِّقين بالخير كقوله : » اللهم صل على
آل أبي أوفى « والثاني : وجَوَّزَه ابن عطية ولم يذكر أبو البقاء غيره أنها
منسوقةٌ على » ما ينفق « ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة وصلوات الرسول قربة .
قوله : { ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ } الضمير في » إنها « قيل : عائد على » صلوات «
وقيل : على النفقات أي المفهومة من » يُنفقون « .
وقرأ ورش » قُرُبَة « بضم الراء ، والباقون بسكونها فقيل : لغتان . وقيل : الأصل
السكون والضمة إتباع ، وهذا قد تقدم لك فيه خلاف بين أهل التصريف : هل يجوز تثقيل
فُعْل إلى فُعُل؟ وأن بعضَهم جعل عُسُراً يُسُراً بضم السين فَرْعين على سكونها .
وقيل : الأصل قُرُبة بالضم ، والسكون تخفيف ، وهذا أَجْرى على لغة العرب إذ مبناها
الهرب مِنَ الثِّقَل إلى الخفة .
وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرِها بحرفَيْ التنبيه والتحقيق المُؤْذنين بثبات
الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه ، قال معناه الزمخشري قال
: » وكذلك سيُدْخلهم ، وما في السين من تحقيق الوعد « .
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
قوله
تعالى : { والسابقون } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأ ، وفي خبره ثلاثة أوجه ،
أحدُهما وهو الظاهر أنه الجملة الدعائية من قوله : « رضي الله عنهم » . والثاني :
أن الخبر قوله : « الأوَّلون » والمعنى : والسابقون أي بالهجرة [ هم ] الأوَّلون
مِنْ أهل هذه المِلَّة ، أو السابقون إلى الجنة الأولون من أهل الهجرة . الثالث :
أن الخبرَ قولُه : { مِنَ المهاجرين والأنصار } والمعنى فيه الإِعلام بأن
السَّابقين من هذه/ الأمة من المهاجرين والأنصار ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفي
الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ .
الثاني من وجهي « السابقين » : أن يكون نَسَقاً على { مَن يُؤْمِنُ بالله } أي :
ومنهم السابقون . وفيه بُعْدٌ .
والجمهورُ على جَرِّ « الأنصار » نسقاً على المهاجرين . يعني أن السابقين من هذين
الجنسين . وقرأ جماعة كثيرة أَجِلاَّء : عمر بن الخطاب وقتادة والحسن وسلام وسعيد
بن أبي سعيد وعيسى الكوفي وطلحة ويعقوب : « والأنصارُ » برفعها . وفيه وجهان
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبرُه « رضيَ الله عنهم » . والثاني : عطف على « السابقون »
. وقد تقدم ما فيه فيُحكم عليه بحكمه .
قوله : { بِإِحْسَانٍ } متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل « اتَّبعوهم » . وكان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن الواوَ ساقطةٌ من قوله : « والذين اتبعوهم »
ويقول : إن الموصول صفةٌ لمن قبله ، حتى قال له زيد بن ثابت إنها بالواو فقال :
ائتوني بأُبَيّ . فأتَوه به فقال له : تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة : { وَآخَرِينَ
مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الآية : 3 ] ، وأوسط الحشر : { والذين
جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الآية : 10 ] ، وآخر الأنفال : { والذين آمَنُواْ مِن
بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } [ الآية : 75 ] . ورُوِي أنه سمع رجلاً يقرؤها بالواو فقال
: مَنْ أقرأك؟ قال : أُبَيّ . فدعاه فقال : أَقْرَأنيه رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم وإنك لتبيع القَرَظ بالبقيع . قال : صَدَقْتَ وإن شئت قل : شهدنا وغِبْتم ،
ونَصَرْنا وخَذَلْتم ، وآوَيْنا وطَرَدْتم . ومن ثَمَّ قال عمر : لقد كنتُ أرانا
رُفِعْنا رَفْعةً لا يَبْلُغها أحدٌ بعدنا .
وقرأ ابن كثير : { تجري من تحتها } ب « مِنْ » الجارة ، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكة
. والباقون « تحتها » بدونها ، ولم تُرْسَمْ في مصاحفهم ، وأكثرُ ما جاء القرآن
موافقاً لقراءة ابن كثير هنا : { تجري مِنْ تحتها } في غير موضع .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
قوله
تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } : خبر مقدم . و « منافقون » مبتدأ ، و « مَنْ »
يجوز أن تكون الموصولةَ والموصوفة ، والظرف صلة أو صفة .
وقوله : { مِّنَ الأعراب } لبيان الجنس . وقوله : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } يجوز
أن يكونَ نسقاً على « مَنْ » المجرورة ب « مِنْ » فيكونَ المجروران مشتركَيْن في
الإِخبارِ عن المبتدأ وهو « منافقون » ، كأنه قيل : المنافقون من قومٍ حولَكم
ومِنْ أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات إذ عَطَفَتْ خبراً على خبر ،
وعلى هذا فيكون قوله « مَرَدُوا » مستأنفاً لا محلَّ له . ويجوز أن يكون الكلامُ
تمَّ عند قوله « منافقون » ، ويكون قوله : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } خبراً مقدماً
، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مَقامه/ وحَذْفُ الموصوفِ وإقامةُ صفتِه
مُقامَه وهي جملة مطردُ مع « مِنْ » التبعيضية وقد مَرَّ تحريره نحو « منا ظَعَن
ومنا أقام » والتقدير : ومن أهلِ المدينة قومٌ أو ناسٌ مردوا ، وعلى هذا فهو من عطفِ
الجمل . ويجوز أن يكون « مَرَدُوا » على الوجه الأول صفةً ل « مافقون » ، وقد
فُصِل بينه وبين صفته بقوله : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } . والتقدير : وممَّن
حولَكم ومِنْ أهلِ المدينة منافقون ماردون . قال ذلك الزجاج ، وتبعه الزمخشري وأبو
البقاء أيضاً . واستبعده الشيخ للفصلِ بالمعطوف بين الصفة وموصوفها ، قال : «
فيصير نظيرَ : » في الدار زيدٌ وفي القصرِ العاقلُ « يعني فَفَصَلْتَ بين زيد
والعاقل بقولك : » وفي القصر « . وشبَّه الزمخشري حَذْفَ المبتدأ الموصوف في الوجه
الثاني وإقامة صفته مُقامَه بقولِه :
2538 أنا ابنُ جلا . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : » إن عنى في مطلق حذف الموصوف فَحَسَنٌ ، وإن كان شبَّهه به في
خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأن حَذْفِ الموصوف مع « مِنْ » مطردٌ ، وقوله : « أنا ابن
جلا » ضرورة كقوله :
2539 يَرْمِي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمَى البشَرْ ... قلت : البيتُ المشار إليه هو
قوله :
2540 أنا ابن جَلا وطَلاَّعُ الثَّنايا ... متى أَضَعِ العِمامةَ تعرفونِي
وللنحاةِ في هذا البيت تأويلات ، أحدها : ما تقدم . والآخر : أن هذه الجملة محكية
لأنها قد سُمِّي بها هذا الرجل ، فإنَّ « جلا » فيه ضمير فاعل ، ثم سُمِّيَ بها
وحُكِيَتْ كما قالوا : « شاب قَرْناها » و « ذرى حَبَّا » وقوله :
2541 نُبِّئْتُ أخوالي بني يزيدُ ... ظُلْماً علينا لهمُ فَدِيدُ
والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر أنه فعلٌ فارغ من الضمير ، وإنما لم يُنَوَّنْ
لأنه عنده غيرُ منصرفٍ فإنه يُمْنع بوزن الفعل المشترك ، فلو سُمِّي بضرب وقتل
مَنَعَهما . أمَّا مجردُ الوزنِ من غير نقلٍ مِنْ فعل فلا يُمنع به البتةَ نحو
جَمَل وجَبَل .
و
« مَرَدوا » أي : مَهَروا وتمرَّنوا . وقد تقدم الكلام على هذه المادة في النساء
عند قوله : { شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ الآية : 117 ] .
قوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفة ل « منافقون »
ويجوز أن تكونَ مستأنفةً ، والعلم هنا يحتمل أن يكونَ على بابه فيتعدَّى لاثنين أي
: لا نعلمهم منافقين ، فحذف الثاني للدلالة عليه بتقدُّم ذِكْرِ المنافقين ، ولأن
النافقَ من صفات القلب لا يُطَّلع عليه . وأن تكون العِرْفانية فتتعدَّى لواحد ،
قاله أبو البقاء . وأمَّا « نحن نعلمهم » فلا يجوز أن تكون إلا على بابها لبحثٍ
ذكرتُه لك في الأنفال ، وإن كان الفارسيُّ في « إيضاحه » صرَّح بإسناد المعرفة
إليه تعالى ، وهو محذورٌ لِما عرفته .
وقوله : { مَّرَّتَيْنِ } قد تقدَّم الكلام في نصب « مرة » وأنه من وجهين : إمَّا
المصدريةِ وإمَّا الظرفيةِ فكذلك هذا . وهذه التثنية يحتمل أن يكون المرادُ بها
شَفْعَ الواحد وعليه الأكثر ، واختلفوا في تفسيرهما ، وأن لا يراد بها التثنية
الحقيقية بل يُراد بها التكثيرُ كقوله تعالى : { فارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [
الملك : 4 ] أي : كَرَّاتٍ ، بدليل قوله : « ينقلبْ إليك البصرْ خاسئاً وهو حسير »
أي مزدجراً وهو كليلٌ ، ولا يصيبُه ذلك « إلا بعد كَرَّات ، ومثلُه . لَبَّيْك
وسَعْدَيْك وحنانَيْكَ .
وروى عباس عن أبي عمرو : » سنعذِّبْهم « بسكون الباء وهو على عادته في تخفيفِ
توالي الحركات كينصركم وبابه/ وإن كان باب » ينصركم « أحسنَ تسكيناً لكونِ الراءِ
حرفَ تكرار ، فكأنه توالي ضمَّتان بخلاف غيره . وقد تقدَّم تحريرُ هذا . وقال
الشيخ : » وفي مصحفِ أنس : « سيعذبهم » بالياء « . وقد تقدم أن المصاحف كانت
مهملةً من النَّقْط والضبط بالشكل فكيف يُقال هذا؟
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قوله
تعالى : { وَآخَرُونَ } : نسقٌ على « منافقون » أي : وممن حولكم آخرون ، أو ومن
أهلِ المدينة آخرون . ويجوز أن يكون مبتدأ و « اعترفوا » صفتَه ، والخبر قولُه «
خلطوا » .
قوله : { وَآخَرَ } نسقٌ على « عملاً » . قال الزمخشري : « فإن قلت : قد جُعِل
كلُّ واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت : كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به ،
لأن المعنى : خلط كل واحدٍ منهما بالآخر كقولك : » خَلَطْتُ الماء واللبن « تريد :
خَلَطْتُ كلَّ واحد منهما بصاحبه ، وفيه ما ليس في قولك : » خَلَطْتُ الماءَ باللبن
« لأنك جَعَلْتُ الماءَ مخلوطاً واللبن مخلوطاً به . وإذا قلته بالواو جَعَلْتَ
الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خَلَطْتُ الماء باللبن واللبن
بالماء » . ثم قال : « ويجوز أن يكونَ مِنْ قولهم : » بِعْتُ الشاء : شاةً ودرهماً
« بمعنى : شاة بدرهم » قلت : لا يريد أن الواو بمعنى الباء ، وإنما هذا تفسيرُ
معنى . وقال أبو البقاء : « ولو كان بالباء جاز أن تقول : خلطْتُ الحِنْطة والشعير
، وخلطت الحنطةَ بالشعير » .
قوله : { عسى الله } يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً ، ويجوز أن تكونَ في محل رفع
خبراً ل « آخرون » ، ويكون قولُه : « خلطوا » في محلِّ نصبٍ على الحال ، و « قد »
معه مقدرةٌ أي : قد خلطوا . فتلخَّص في « آخرون » أنه معطوفٌ على « منافقون » ، أو
مبتدأٌ مخبر عنه ب « خلطوا » أو الجملةِ الرجائية .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
قوله
تعالى : { مِنْ أَمْوَالِهِمْ } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب « خُذْ
» و « مِنْ » تبعيضية . والثاني : أن تتعلق بمحذوف لأنها حالٌ مِنْ « صدقة » إذ هي
في الأصل صفةٌ لها فلمَّا قُدِّمت نُصِبَتْ حالاً .
قوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ } يجوز أن تكونَ التاء في « تُطَهِّرهم »
خطاباً للنبي عليه السلام ، وأن تكون للغَيْبة ، والفاعل ضمير الصدقة . فعلى
الأولِ تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « خذ » . ويجوز أيضاً أن
تكونَ صفةً ل « صدقةً » ، ولا بد حينئذ من حذف عائد تقديره تطهِّرهم بها . وحُذِف
« بها » لدلالة ما بعده عليه . وعلى الثاني تكون الجملة صفةً لصدقة ليس إلا . وأما
« وتُزَكّيهم » فالتاءُ فيه للخطاب لا غير لقوله « بها » فإن الضميرَ يعود على الصدقة
فاستحالَ أن يعودَ الضمير مِنْ « تزكِّيهم » إلى الصدقة ، وعلى هذا فتكون الجملةُ
حالاً مِنْ فاعل « خُذْ » على قولنا إنَّ « تُطَهِّرهم » حال منها وإن التاء فيه
للخطاب . ويجوز أيضاً أن تكون صفة إن قلنا إن « تطهِّرهم » صفةٌ ، والعائدُ منها
محذوفٌ .
وجَوَّز مكي أن يكون « تُطَهِّرهم » صفةً لصدقة على أن التاء للغيبة ، و «
تُزَكِّيهم » حالاً من فاعل « خُذْ » على أن التاء للخطاب . وقد رَدُّوه عليه بأن
الواوَ عاطفةٌ أي : صدقةً مطهِّرةً ومُزَكَّيَاً باه ، ولو كان بغير واوٍ جاز .
قلت : ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ فإن الواوَ مُشَرِّكَةٌ لفظاً ومعنى ، فلو كانت «
وتزكيهم » عطفاً على « تُطَهِّرهم » لَلَزِمَ أن تكونَ صفةً كالمعطوف عليه ، إذ لا
يجوز اختلافُهما ، ولكن يجوزُ ذلك على أن « تزكِّيهم » خبر مبتدأ محذوف ، وتكون
الواوُ للحال تقديره : وأنت تزكِّيهم . وفيه ضعفٌ لقلةِ نظيرِه في كلامهم .
فتلخَّص من ذلك أن الجملتين يجوز أن تكونا حالَيْن من فاعل « خُذْ » على أن تكونَ
التاءُ للخطاب ، وأن تكونا صفتين لصدقة ، على أن التاء للغيبة ، والعائد محذوفٌ من
الأولى ، وأن تكون « تطهِّرهم » حالاً أو صفةً ، و « تزكِّيهم » حالاً على ما
جَوَّزه مكي ، وأن تكونَ « تزكِّيهم » خبرَ مبتدأ محذوف ، والواوُ للحال .
وقرأ الحسن : « تُطْهِرهم » مخفَّفاً مِنْ « أطهر » عَدَّاه بالهمزة .
قوله : { إِنَّ صلاوتك } قرأ الأخوان وحفص : « إنَّ صلاتَكَ » ، وفي هود : «
أصلاتك تأمُرك » بالتوحيد ، والباقون : « إنَّ صلواتك » « أصلواتُك » بالجمع فيهما
وهما واضحتان ، إلا أنَّ الصلاةَ هنا الدعاء وفي تِيْكَ العبادة .
والسَّكَنُ : الطمأنينة قال :
2542 يا جارةَ الحيِّ ألاَّ كنتِ لي سَكَناً ... إذ ليس بعضٌ من الجيران أَسْكَنني
ففَعَل بمعنى مفعول كالقَبْض بمعنى المقبوض والمعنى : يَسْكنون إليها . قال أبو
البقاء : « ولذلك لم يؤنِّثْه » لكن الظاهر أنه هنا بمعنى فاعل/ لقولِه « لهم » ،
ولو كان كما قال لكان التركيب « سكنٌ إليها » أي مَسْكون إليها ، فقد ظهر أن
المعنى : مُسَكِّنة لهم .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قوله
تعالى : { هُوَ يَقْبَلُ } : « هو » مبتدأ ، و « يَقْبَلُ » خبره والجملةُ خبر
أنَّ ، وأنَّ وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول . ولا يجوز
أن يكونَ « هو » فصلاً لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة ، وقد تحرَّر مِنْ ذلك
فيما تقدم .
وقرأ الحسن قال الشيخ : وفي مصحف أُبي « ألم تعلموا » بالخطاب . وفيه احتمالات ،
أحدها : أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصية التي اختصَّ بها
هؤلاء؟ و [ الثاني ] : أن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ ، والمرادُ التائبون .
و [ الثالث ] : أن يكون على إضمارِ قولٍ أي : قل لهم يا محمد ألم تعلموا .
قوله : { عَنْ عِبَادِهِ } متعلقٌ ب « يَقْبَل » ، وإنما تعدَّى ب « عن » فقيل :
لأنَّ معنى « مِنْ » ومعنى « عن » متقاربان . قال ابن عطية : « وكثيراً ما
يُتَوَصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه نحو » لا صدقةَ إلا عن غني ومِنْ غني « ، و »
فعل ذلك فلانٌ مِنْ أَشَره وبَطَره ، وعن أَشَره وبَطَره « . وقيل : لفظه » عن «
تُشعر ببُعْدٍ ما ، تقول : » جلس عن يمين الأمير « أي مع نوعٍ من البعد . والظاهرُ
أنَّ » عن « هنا للمجاوزة على بابها ، والمعنى : يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم ،
فإذا قلت : » أخذت العلم عن زيد « ، فمعناه المجاوزةُ ، وإذا قلت : منه فمعناه
ابتداء الغاية .
قوله : { هُوَ التواب } يجوز أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ بخلافِ ما قبلَه .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قوله
تعالى : { مُرْجَوْنَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «
مُرْجَؤُون » بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة . والباقون « مُرْجَوْن » دون تلك
الهمزة ، وهذا كقراءتهم في الأحزاب : « تُرْجِىء » بالهمزة ، والباقون بدونه .
وهما لغتان يقال : أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْتُه كأَعْطيته . ويحتمل أن يكونا أصلين
بنفسِهما ، وأن تكونَ الياءُ بدلاً من الهمزة ، ولأنه قد عُهِد تحقيقُها كثيراً كقَرَأْت
وقَرَيْتُ ، وتوضَّأْت وتوضَّيْت .
قوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل رفع خبراً ، و
« مُرْجَوْن » يكون على هذا نعتاً للمبتدأ ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن
يكونَ في محل نصبٍ على الحال أي : هم مُؤَخَّرون : إمَّا معذَّبين وإمَّا متوباً
عليهم . و « إمَّا » هنا للشك بالنسبة إلى المخاطب ، وإمَّا للإِبهام بالنسبة إلى
أنه أَبْهَمَ على المخاطبين .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
قوله
تعالى : { والذين اتخذوا } : قرأ نافع وابن عامر : « الذين اتخذوا » بغير واو ،
والباقون بواو العطف . فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم ، فإنَّ
مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم . و « الذين »
على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه ، أحدها : أنها بدلٌ مِنْ « آخرون »
قبلها . وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً ، لا يُقال في حَقِّهم
إنهم مُرْجَوْن لأمر الله ، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي
عامر الراهب .
الثاني : أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها : أنه « أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه
» والعائد محذوفٌ تقديره : بنيانَه منهم . الثاني : أنه « لا يزال بنيانُهم » قاله
النحاس والحوفي ، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل . الثالث : أنه « لا تقمْ فيه » قاله
الكسائي . قال ابن عطية : « ويتجه بإضمارٍ : إمَّا في أول الآية ، وإمَّا في آخرها
بتقدير : لا تقم في مسجدهم » . الرابع : أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه : معذَّبون
ونحوه ، قاله المهدوي .
الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص . وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو .
وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم ، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ « آخرون »
لأجل العاطف . وقال الزمخشري : « فإن قلت : » والذين اتخذوا « ما محلُّه من
الإِعراب؟ قلت : محلُّه النصب على الاختصاص ، كقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة }
[ النساء : 162 ] . وقيل : هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه : فيمَنْ وَصَفْنا الذين
اتخذوا ، كقوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] ، قلت : يريد على مذهب
سيبويه فإن تقديره : فيما يُتْلى عليكم السارق ، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه
الآية .
قوله : { ضِرَاراً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : / أنه مفعولٌ من أجله أي :
مُضَارَّةً لإِخوانهم . الثاني : أنه مفعولٌ ثان ل » اتَّخذ « قاله أبو البقاء .
الثالث : أنه مصدر في موضع الحال من فاعل » اتخذوا « أي : اتخذوه مضارِّين
لإِخوانهم ، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي : يَضُرُّون بذلك غيرهم ضِراراً ،
ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي : ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله .
قوله : { مِن قَبْلُ } فيه وجهان ، أحدهما وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره أنه
متعلقٌ بقوله : » اتخذوا « أي : اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء . والثاني
: أنه متعلقٌ ب » حارب « أي : حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد .
قوله : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } لَيَحْلِفُنَّ : جوابُ قسم مقدر أي :
والله ليحلِفُنَّ . وقوله : » إن أَرَدْنا « جوابٌ لقولِه : » ليحلِفُنَّ « فوقع
جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله : » إنْ أَرَدْنا « . » إنْ « نافية
ولذلك وقع بعدها » إلا « . و » الحسنى « صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي : إلا الخصلة
الحسنى أو إلا الإِرادةَ الحسنى . وقال الزمخشري : » ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد
إلا الخَصْلة الحسنى ، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة « . قال الشيخ : » كأنه في
قوله : « إلا الخصلة الحُسْنى » جعله مفعولاً ، وفي قوله : « أو لإِرادة الحسنى »
جعله علةً فكأنه ضَمَّن « أراد » معنى قَصَد أي : ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء
إلا لإِرادة الحسنى « قال : » وهذا وجهٌ متكلف « .
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
قوله
تعالى : { لَّمَسْجِدٌ } : فيه وجهان أحدهما : أنها لام الابتداء . والثاني : أنها
جوابُ قسمٍ محذوف ، وعلى التقديرين فيكون « لَمَسْجِدٌ » مبتدأ ، و « أُسِّس » في
محل رفع نعتاً له ، و « أحقُّ » خبره ، والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرُ المسجد على
حذف مضاف أي : أُسس بنيانه .
« مِنْ أولِ » متعلقٌ به ، وبه استدلَّ الكوفيون على أن « مِنْ » تكون لابتداء
الغاية في الزمان ، واستدلوا أيضاً بقوله :
2543 مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ لا ترى ... من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما
وقوله :
2544 تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ ... إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ
التجاربِ
وتأوَّله البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، ومن طلوع الصبح ، ومن
مجيء أزمان يوم . وقال أبو البقاء : « وهذا ضعيفٌ ، لأن التأسيس المقدر ليس بمكانٍ
حتى تكون » مِنْ « لابتداء غايته . ويدلُّ على جواز ذلك قوله : { لِلَّهِ الأمر
مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] ، وهو كثير في القرآن وغيره » ، قلت :
البصريون إنما فَرُّوا مِنْ كونِها لابتداء الغاية في الزمان ، وليس في هذه العبارة
ما يقتضي أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية في المكان حتى يُرَدَّ عليهم بما ذُكِر
، والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ ، ولأبي علي فيها كلام طويل . وقال ابن عطية : «
ويَحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون » مِنْ « تجرُّ لفظة » أول « لأنها
بمعنى البداءة كأنه قال : مِنْ مبتدأ الأيام ، وقد حُكي لي هذا الذي اخترته عن بعض
أئمة النحو » .
وقوله : { أَحَقُّ } ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق ، إذ لا مفاضلةَ بين المسجدَيْن ،
و « أن تقوم » أي : بأن تقوم ، والتاء لخطاب الرسول عليه السلام ، و « فيه »
متعلقٌ به .
قوله : { فِيهِ رِجَالٌ } يجوز أن يكونَ « فيه » صفةً لمسجد ، و « رجال » فاعل ،
وأن يكونَ حالاً من الهاء في « فيه » ، و « رجالٌ » فاعلٌ به أيضاً ، وهذان أولى
من حيث إن الوصف بالمفرد أصل ، والجارُّ قريبٌ من المفرد . ويجوز أن يكون « فيه »
خبراً مقدماً ، و « رجال » مبتدأ مؤخر . وفيه هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه ، أحدها
: الوصفُ ، والثاني : الحالُ على ما تقدم ، والثالث : الاستئنافُ .
وقرأ عبد الله بن زيد « فيهِ » بكسر الهاء ، و « فيهُ » الثانية بضمها وهو الأصل ،
جَمَعَ بذلك بين اللغتين ، وفيه أيضاً رفعُ توهُّمِ التوكيد ، ورفعُ توهُّمِ أن «
رجالاً » مرفوع ب « تقوم » .
وقوله : { يُحِبُّونَ } صفة ل « رجال » وأن [ يتطهروا ] مفعول به . وقرأ طلحة بن
مصرف والأعمش « يَطَّهَّرُوا » بالإِدغام ، وعلي بن أبي طالب « المتطهِّرين »
بالإِظهار ، عكس قراءات الجمهور في اللفظتين .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قوله
تعالى : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } : قرأ نافع وابن عامر : « أُسِّس »
مبنياً للمفعول ، « بنيانُه » / بالرفع لقيامه مقام الفاعل . والباقون « أَسَّس »
مبنياً للفاعل « بنيانه » مفعول به ، والفاعل ضمير مَنْ . وقرأه عمارة ابن عائذ
الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل ، و « بنيانُه » مرفوع على الأولى
ومنصوب على الثانية لِما تقدم . وقرأ نصر بن علي ونصر بن عاصم « أُسُسُ بنيانِه »
. وقرأ أبو حيوة والنصران أيضاً « أَساسُ بنيانِه » جمع أُسّ ، وروي عن نصر بن
عاصم أيضاً « أَسُّ » بهمزة مفتوحة وسين مشددة مضمومة . وقرىء « إساس » بالكسر وهي
جموع أضيفت إلى البنيان . وقرىء « أساس » بفتح الهمزة ، و « أُسّ » بضم الهمزة
وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان . ونقل صاحب كتاب « اللوامح » فيه «
أَسَسُ » بالتخفيف ورفع السين ، « بنيانِه » بالجر ، فَأَسَسٌ مصدر أسَّ يؤسُّه
أَسَسَاً وأسَّاً فهذه عشر قراءات .
والأُسُّ والأَساس القاعدة التي بُني عليها الشيء ، ويقال : « كان ذلك على أُسِّ
الدهر » كقولهم : « على وجه الدهر » ، ويقال : أَسَّ مضعَّفاً أي : جَعَلَ له
أساساً ، وآسَسَ بزنة فاعَل .
والبُنْيان فيه قولان ، أحدهما : أنه مصدر كالغفران والشكران ، وأُطْلِق على المفعول
كالخَلْق بمعنى المخلوق . والثاني : أنه جمعٌ وواحدُه بُنْيانة قال الشاعر :
2545 كبُنْيانةِ القاريِّ مَوْضِعُ رَحْلِها ... وآثارُ نَسْعَيْها مِنَ الدَّقِّ
أَبْلَقُ
يعنون أنه اسم جنس كقمح وقمحة .
قوله : { على تقوى } يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس « أَسَّس » فهو
مفعوله في المعنى . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالُ من الضميرِ
المستكنِّ في « أَسَّسَ » أي : قاصداً ببنيانه التقوى ، كذا قدَّره أبو البقاء .
وقرأ عيسى بن عمر « تقوىً » منونة . وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يَرْتَضِها
الناسُ لأنَّ ألفَها للتأنيث فلا وَجْهَ لتنوينها ، وقد خرَّجها الناسُ على أن
تكونَ ألفُها للإِلحاق ، قال ابن جني : « قياسُها أن تكونَ ألفُها للإلحاق كأَرْطى
» .
قوله : { خَيْرٌ } خبرُ المبتدأ . والتفضيل هنا باعتبار معتقدِهم . و « أم » متصلة
، و « من » الثانية عطف على « مِنْ » الأولى ، و « أَسَّس بنيانه » كالأول .
قوله : { على شَفَا جُرُفٍ } كقوله : « على تقوى » في وجهيه . والشَّفا تقدم في آل
عمران . وقرأ حمزة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم « جُرْفٍ » بسكون الراء والباقون
بضمها ، فقيل : لغتان . وقيل : الساكن فرعٌ على المضموم نحو : عُنْق في عُنُق
وطُنْب في طُنُب . وقيل بالعكس كعُسُر ويُسُر . والجُرُف : البِئْر التي لم تُطْوَ
.
وقيل
: هو الهُوَّةُ وما يَجْرُفُه السًّيْلُ من الأودية قاله أبو عبيدة . وقيل : هو
المكان الذي يأكله الماء فيَجْرُفه أي يَذْهب به . ورَجُلّ جِرَاف أي : كثير
النكاح كأنه يَجْرُفُ في ذلك العَمَلِ . قاله الراغب .
قوله : { هَارٍ } نعت لجُرُفٍ . وفيه ثلاثة أقوال ، أحدها : وهو المشهور أنه
مقلوبٌ بتقديمِ لامه على عينه ، وذلك أنَّ أصلَه : هاوِرٌ أو هايِرٌ بالواو والياء
لأنه سُمع فيه الحرفان . قالوا : هار يَهُور فانْهارَ ، وهار يَهير . وتَهَوَّر
البناء وتَهَيَّر ، فقُدِّمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء فصار
كغازٍ ورامٍ ، فأُعِلَّ بالنقص كإعلالهما فوزنه بعد القلب فالِع ، ثم تَزِنُه بعد
الحذف ب فالٍ .
الثاني : أنه حُذِفَتْ عينُه اعتباطاً أي لغير موجَبٍ ، وعلى هذا فيجري بوجوه
الإِعراب على لامه ، فيُقال : هذا هارٌ ورأيت هاراً ومررت بهارٍ ، ووزنُه أيضاً
فال .
والثالث : أنه لا قلبَ فيه ولا حذف وأنَّ أصله هَوِر أو هَيِر بزنة كَتِف ، فتحرك
حرف العلة وانفتح ما قبله فقُلِب ألفاً فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ ، أي : صَوِف
أو يومٌ راحٌ ، أي : رَوِح . وعلى هذا فتحرَّك بوجوه الإِعراب أيضاً كالذي قبله
كما تقول : هذا باب ورأيت باباً ومررت ببابٍ . وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من
ادِّعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل ، لولا أنه غير مشهور عند أهل
التصريف . ومعنى « هار » ، أي : ساقط متداعٍ مُنْهار .
قوله : { فانهار } فاعلُه : إمَّا ضميرُ البنيان والهاء في به على هذا ضمير المؤسس
الباني ، أي : فسقط بنيان الباني على شفا جُرُفٍ هار وإما ضمير الجُرُف ، أي فسقط
الشَّفا أو سَقَطَ الجُرُف . والهاء في « به » للبنيان . ويجوز أن / يكون للباني
المؤسس ، والأَوْلى أن يكون الفاعلُ ضميرَ الجرف ، لأنه يلزم مِنْ انهيارِه
الشَّفَا والبنيان جميعاً ، ولا يلزم من انهيارِهما أو انهيارِ أحدهما انهيارُه .
والباء في « به » يجوز أن تكونَ المعدِّيةَ ، وأن تكونَ التي للمصاحبة . وقد
تقدَّم لك خلافٌ أولَ هذا الموضوع : أن المعدِّيَةَ عند بعضهم تَسْتلزم المصاحبةَ
. وإذا قيل إنها للمصاحبة هنا فتتعلقُ بمحذوفٍ لأنها حال ، أي : فانهار مصاحباً له
.
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
وقوله
تعالى : { بُنْيَانُهُمُ } : يحتمل أن يكونَ مصدراً على حاله ، أي : لا يزال هذا
الفعل الصادر منهم . ويحتمل أن يكونَ مراداً به المبني ، وحينئذٍ يُضْطَرُّ إلى
حذف مضاف ، أي : بناء بنيانهم لأن المبنيَّ ليس ريبةً ، و يُقَدَّر الحذف من
الثاني ، أي : لا يزال مبنيُّهم سببَ ريبة . وقوله : « الذي بَنَوا » تأكيدٌ
دَفْعاً لوَهْم مَنْ يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة وإنما دَبَّروا أموراً ، مِنْ
قولهم : « كم أبني وتهدمُ » ، وعليه قوله :
2546 متى يبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه ... إذا كنت تَبْنِيه وغيرك يَهْدِم
قوله : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } المستثنى منه محذوفٌ والتقدير : لا يزال بنيانُهم
ريبةً في كل وقت إلا وقتَ تقطيعِ قلوبهم ، أو في كل حال إلا حالَ تقطيعها . وقرأ
ابن عامر وحمزة وحفص « تَقَطَّع » بفتح التاء ، والأصل : تتقطع بتاءَيْن فحُذفت
إحداهما . وقرأ الباقون « تُقَطَّع » بضمِّها ، وهو مبني للمفعول مضارع قَطَّع
بالتشديد . وقرأ أُبَيّ « تَقْطَع » مخففاً مِنْ قطع . وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة
ويعقوب « إلى أن » بإلى الجارة وأبو حَيْوة كذلك . وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى ،
إلا أن أبا حيوة قرأ « تُقَطِّع » بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً ،
والفاعلُ ضميرُ الرسول . « قلوبَهم » نصباً على المفعول ، والمعنى بذلك أن يقتلهم
ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن . وقيل : الفاعلُ ضمير الرِّيبة ، أي : إلى أن تَقْطَع
الرِّيبةُ قلوبَهم . وفي مصحف عبد الله « ولو قُطِّعَتْ » وبها قرأ أصحابُه ، وهي
مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
قوله
تعالى : { بِأَنَّ لَهُمُ } : متعلقٌ ب « اشترى » ، ودخلت الباءُ هنا على المتروك
على بابها ، وسَمَّاها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض . وقرأ عمر بن
الخطاب « بالجنة » .
قوله : « يُقاتِلُون » يجوز أن يكونَ مستأنفاً ، ويجوز أن يكونَ حالاً . وقال
الزمخشري : « يقاتلون » فيه معنى الأمر ، كقوله تعالى : { وَتُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . قلت : وعلى هذا
فيتعيَّنُ الاستئناف ، لأن الطلب لا يقع حالاً . وقد تقدَّم الخلاف في « فيَقتلون
ويُقتلون » في آل عمران .
قوله : { وَعْداً } منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة لأنَّ معنى « اشترى »
معنى وعدهم بذلك فهو نظير « هذا ابني حقاً » . ويجوز أن يكونَ مصدراً في موضع
الحال ، وفيه ضعف . و « حقاً » نعت له ، و « عليه » حالٌ مِنْ « حقاً » لأنه في
الأصل صفةٌ لو تأخَّرَ .
قوله : { فِي التوراة } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب « اشترى » وعلى هذا
فتكونُ كل أمة قد أُمِرت بالجهاد ووُعِدت عليه الجنة . والثاني : أنه متعلقٌ
بمحذوف لأنه صفةٌ للوعد ، أي : وعداً مذكوراً وكائناً في التوراة ، وعلى هذا فيكون
الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكوراً في كتب الله المُنَزَّلَة . وقال الزمخشري في
أثناءِ كلامه : « لا يجوز عليه قبيحٌ قط » ، قال الشيخ : « استعمل » قط « في غير
موضوعه؛ لأنه أتى به مع قوله : » لا يجوز عليه « و » قط « ظرفٌ ماضٍ؛ فلا يعمل فيه
إلا الماضي » ، قلت : ليس المراد هنا زمناً بعينه .
وقوله : { فاستبشروا } فيه التفاتٌ من الغَيْبَة إلى الخطاب لأنَّ في خطابهم بذلك
تشريفاً لهم ، واستفعل هنا ليس للطلب ، بل بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد . وقوله : {
الذي بَايَعْتُمْ بِهِ } توكيدٌ كقوله : { الذي بَنَوْاْ } [ التوبة : 110 ]
لينصَّ لهم على هذا البيعِ بعينه .
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
قوله
تعالى : { التائبون } : فيه خمسةُ أوجه ، أحدها : أنهم مبتدأٌ ، وخبره « العابدون
» ، وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة عند مَنْ يرى ذلك . الثاني : أنَّ الخبر قوله
: « الآمرون » . الثالث : أنَّ الخبر محذوف ، أي : التائبون الموصوفون بهذه
الأوصاف من أهل الجنة ، ويؤيده قولُه : « وبَشِّر المؤمنين » ، وهذا عند مَنْ يرى
أن هذه الآية منقطعةٌ مما قبلها ، وليست شرطاً في المجاهدة ، وأمَّا مَنْ زعم أنها
شرط في المجاهدة كالضحاك وغيره فيكون إعراب التائبين خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم
التائبون ، وهذا من باب قطع النعوت ، وذلك أن هذه الأوصافَ عند هؤلاء القائلين من
صفات المؤمنين في قوله تعالى : { « اشترى ] مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } [ التوبة
: 111 ] / ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ وابن مسعود والأعمش » التائبين « بالياء . ويجوز
أن تكونَ هذه القراءةُ على القطع أيضاً ، فيكونَ منصوباً بفعل مقدر . وقد صَرَّح
الزمخشري وابن عطية بأن التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ . الخامس : أن » التائبون «
بدل من الضمير المتصل في » يقاتلون « .
ولم يذكر لهذه الأوصافِ متعلَّقاً ، فلم يَقُلْ : التائبون مِنْ كذا ، ولا
العابدون لله لفَهْمِ ذلك إلا صيغتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك ، ولم يأتِ
بعاطفٍ بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضِها إلا في صيغتي الأمر والنهي لتبايُن ما
بينهما ، فإن الأمرَ طلبُ فعل والنهيَ طلبُ تَرْكٍ أو كفٍّ ، وكذا » الحافظون «
عَطفَه وذَكَر متعلَّقه . وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نَظْمٍ
وهو ظاهر بالتأمُّل ، فإنه قَدَّم التوبةَ أولاً ثم ثَنَّى بالعبادة إلى آخره .
وقيل : إنما دخلت الواوُ لأنها واوُ الثمانية ، كقوله : { وَثَامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] . وقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 71
] لَمَّا كان للجنة ثمانية أبواب أتى معها بالواو . وقال أبو البقاء : » إنما دخلت
الواو في الصفة الثامنة إيذاناً بأن السبعة عندهم عددٌ تام ، ولذلك قالوا : « سبع في
ثمانية » ، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبار ، وإنما دَلّت الواوُ على ذلك لأن الواو
تُؤْذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها ، ولذلك دَخَلَت في باب عطفِ النَّسق « ، قلت
: وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً لا تحقيقَ له .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
وقوله تعالى : { وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } : كقوله : « أَعْطوا السائلَ ولو على فرس » ، وقد تقدَّم ما في ذلك ، وأنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قوله
تعالى : { وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } : اختُلِف في الضمير المرفوع والمنصوبِ المنفصل
فقيل : وهو الظاهر إن المرفوع يعود على إبراهيم ، والمنصوبَ على أبيه ، يعني أن
إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفرَ له . ويؤيد هذا قراءةُ الحسن وحماد الرواية وابن
السَّميفع وأبي نهيك ومعاذ القارىء « وعدها أباه » ، بالباء الموحدة . وقيل :
المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب لإِبراهيم ، وفي التفسير أنه كان وَعَدَ إبراهيمَ
أنه يؤمن ، فبذلك طَمِع في إيمانه .
والأَوَّاه . الكثير التأَوُّه ، وهو مَنْ يقول : أَوَّاه ، وقيل : مَنْ يقول
أوَّه ، وهو أَنْسَبُ لأن أَوَّهَ بمعنى أتوجع ، فالأَوَّاه فعَّال ، مثالُ مبالغة
من ذلك ، وقياسُ فعلِه أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة إنما تَطَّرد في
الثلاثي . وقد حكى قطرب فعله ثلاثياً فقال : يقال آهَ يَؤُوه كقام يقوم ، أَوْهاً
. وأنكر النحويون هذا القول على قطرب ، وقالوا : لا يُقال مِنْ أَوَّه بمعنى الوَجَع
فعلٌ ثلاثي ، إنما يقال : أوَّه تأَوْيهاً ، وتَأَوَّه تَأَوُّهاً . قال الراجز :
2547 فأَوَّه الراعي وضوضى أَكْلبُه ... وقال المثقب العبدي :
2548 إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بليلٍ ... تأوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
وقال الزمخشري : « أَوَّاه فَعَّال مِنْ أَوَّه ك لأَل من اللؤلؤ ، وهو الذي يُكثر
التأوُّه » ، قال الشيخ : « وتشبيهه أوَّاه مِنْ أوَّه ك لأَّل من اللؤلؤ ليس
بجيدٍ ، لأنَّ مادةَ أوَّه موجودة في صورة أواه ، ومادة » لؤلؤ « مفقودةٌ في لأل
لاختلاف التركيب إذ » لأل « ثلاثي ، و » لؤلؤ « راعي ، وشرط الاشتقاق التوافق في
الحروف الأصلية » . قلت : لاَّل ولؤلؤ كلاهما من الرباعي المكرر ، أي : إن الأصل
لام وهمزة ، ثم كرَّرْنا ، غاية ما في الباب أنه اجتمع الهمزتان في لآَّل فأُدْغمت
أولاها في الأخرى ، وفُرِّق بينهما في : « لؤلؤ » .
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
قوله
تعالى : { اتبعوه } : يجوز فيه وجهان أحدهما : أنه اتِّباعٌ حقيقي ، ويكون عليه
السلام خَرَج أولاً وتبعه أصحابه ، وأن يكون مجازاً ، أي : اتبعوا أمرَه ونَهْيَه
، وساعةُ العُسْرة عبارةٌ عن وقتِ الخروج إلى الغزو ، وليس المرادُ حقيقةَ الساعة
بل كقولهم : يوم الكُلاب ، وعشيةَ قارعْنَا جُذام ، فاستعيرت السَّاعة لذلك كما استعير
الغداة والعشية في قوله :
2549 - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بكرُ بنُ وائلٍ ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
[ وقوله ] :
2550 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عشية قارَعْنا جُذَام وحميرا
[ وقوله ] :
2551 إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
قوله : { كَادَ يَزِيغُ } ، قرأ حمزة وحفص عن عاصم « يزيغ » بالياء من تحت ،
والباقون بالتاء من فوق . فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكونَ اسمُ « كاد » ضميرَ
الشأن ، و « قلوب » مرفوعٌ بيزيغ ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، وأن يكونَ
اسمُها ضميرَ القوم ، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذِكْرُ المهاجرين والأنصار ، ولذلك
قَدَّره أبو البقاء وابنُ عطية : « من بعد كاد القوم » ، وقال الشيخ في هذه
القراءةِ : « فيتعيَّن أن يكون في » كاد « ضميرُ الشأن وارتفاعُ » قلوب « بيزيغ
لامتناعِ أن يكون » قلوب « اسمَ كاد ، و » يزيغ « في موضع الخبر ، لأنَّ النيةَ به
التأخير ، / ولا يجوز : مِنْ بعد كاد قلوب يزيغ بالياء » . قلت : لا يتعين ما ذكر
في هذه القراءة لِما تقدَّم لك من أنه يجوز أن يكونَ اسمُ كاد ضميراً عائداً على
الجمع أو القوم ، والجملةُ الفعلية خبرها ، ولا محذور يمنع من ذلك . وقوله : «
لامتناع أن يكون » قلوب « اسم كاد » ، يعني أنَّا لو جَعَلْنا « قلوب » اسمَ « كاد
» لَزِم أن يكون « يزيغ » خبراً مقدماً فيلزم أن يرفعَ ضميراً عائداً على « قلوب »
، ولو كان كذلك لَلَزِم تأنيثُ الفعل لأنه حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأن
جمعَ التكسير يجري مجرى المؤنثة مجازاً .
وأمَّا قراءة التاء من فوق فتحتمل أن يكون في « كاد » ، ضميرُ الشأن ، كما تقدم ،
و « قلوب » مرفوعٌ بتزيغ ، وأُنِّث لتأنيث الجمع ، وأن يكون « قلوب » اسمَها ، و «
تزيغ » خبر مقدم ولا محذورَ في ذلك ، لأن الفعلَ قد أُنِّث . قال الشيخ : « وعلى
كلِّ واحدٍ من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علمِ النحو مِنْ أنَّ
خبرَ أفعالِ المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها ، فبعضهم أطلق وبعضهم
قيَّد بغير » عسى « من أفعال المقاربة ، ولا يكون سببَّاً ، وذلك بخلاف » كان «
فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم كان ، فإذا قدَّرْنا فيها ضميَر الشأن كانت
الجملةُ في موضع نصب على الخبر ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم » كاد « بل
ولا سببّاً له .
وهذا
يلزم في قراء التاء أيضاً . وأمَّا توسيط الخبرِ فهو مبنيٌّ على جواز مثل هذا
التركيب في مثل « كان يقوم زيد » وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع . وأمَّا الوجهُ
الأخير فضعيف جداً من حيث أضمر في « كاد » ضميراً ليس له على مَنْ يعود إلا بتوهم
، ومن حيث يكون خبر « كاد » رافعاً سبباً « .
قلت : كيف يقول : » والصحيح المنعُ « وهذا التركيب موجود في القرآن كقولِه تعالى :
{ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] ، و { كَانَ يَقُولُ
سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، وفي قول امرىء القيس :
2552 وإن تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالةَ ، وإنما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر
أم لا؟ فَمَنْ مَنَعَ لأنه كباب المبتدأ والخبر ، والخبرُ الصريح متى كان كذلك
امتنع تقديمُه على المبتدأ لئلا يلتبسَ بباب الفاعل ، فكذلك بعد نَسْخِه . ومن أجاز
فلأَمْنِ اللبس .
ثم قال الشيخ : » ويُخَلِّصُ من هذه الإِشكالات اعتقادُ كونِ « كاد » زائدة ،
ومعناها مرادٌ ، ولا عملَ لها إذ ذاك في اسمٍ ولا خبر ، فتكون مثل « كان » إذا
زِيْدَتْ ، يُراد معناها ولا عملَ لها ، ويؤيد هذا التأويلَ قراءةُ ابن مسعود « من
بعد ما زاغَتْ » ، بإسقاط كاد ، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : {
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، مع تأثُّرِها بالعاملِ وعملِها في ما
بعدها ، فأحرى أن يدعى زيادتُها وهي ليسَتْ عاملةً ولا معمولة « . قلت : زيادتُها
أباه الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفش ، وجَعَلَ منه { أَكَادُ أُخْفِيهَا }
[ طه : 15 ] . وتقدم الكلامُ على ذلك في أوائلِ هذا الكتاب .
وقرأ الأعمش والجحدري » تُزيغ « بضم التاء وكأنه جَعَلَ » أزاغ « و » زاغ « بمعنى
. وقرأ أُبَيّ » كادَتْ « بتاء التأنيث .
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قوله
تعالى : { وَعَلَى الثلاثة } : يجوز أن يُنْسِق على « النبيّ » ، أي : تاب على
النبي وعلى الثلاثة ، وأن يُنسقَ على الضمير في « عليهم » ، أي : ثم تاب عليهم
وعلى الثلاثة ، ولذلك كُرِّر حرفُ الجر .
وقرأ جمهور الناس : « خُلِّفوا » ، مبنياً للمفعول مشدداً مِنْ خلَّفه يُخَلِّفه .
وقرأ أبو مالك كذلك إلا أنه خفف اللام . وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمر بن عبيد
وعكرمة بن هارون المخزومي ومعاذ القارىء : « خَلَفوا » ، مبنياً للفاعل مخففاً
مِنْ خَلَفَه ، والمعنى : الذين خلفوا ، أي : فَسَدوا ، مِنْ خُلوف فم الصائم .
ويجوز أن يكون المعنى : أنهم خلفوا الغازين في المدينة . وقرأ أبو العالية وأبو
الجوزاء كذلك إلا أنهم شدَّدا اللام . وقرأ أبو رزين وعلي ابن الحسين وابناه زيد
ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق : « خالفوا » ، بألف ، أي : لم يوافقوا الغازين في
الخروج . قال الباقر : « ولو خُلِّفوا لم يكن لهم » . والظن هنا بمعنى العلم كقوله
:
2553 فقلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهمُ كالفارِسي المُسَرَّدِ
وقيل : هو على بابه .
قوله : { أَن لاَّ مَلْجَأَ } أنْ هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين ، و « لا »
وما في حيِّزها الخبرُ ، و « من الله » خبرها . ولا يجوز أن تكونَ تتعلقُ ب «
مَلْجَأ » ، ويكون « إلا إليه » الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ، لأنه يكون مطولاً .
وقد قال بعضهم : إنه يجوزُ تشبيهُ الاسمِ المُطَوَّل بالمضاف فيُنْتَزَعُ ما فيه
مِنْ تنوينٍ ونون كقوله :
2554 أراني ولا كفرانَ لله أيَّةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقوله : « لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل » برفع « يوم » وقد تقدَّم القولَ في ذلك .
وقوله : « إلا إليه » استثناءٌ من ذلك العامِّ المحذوفِ ، أي : لا مَلْجَأَ إلى
أحدٍ إلا إليه كقوله : لا إله إلا الله .
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
والظَّمأُ
: العطش ، يُقال : ظَمِىء يَظْمَأُ ظَمَأً ، فهو ظمآنُ وهي/ ظمأى ، وفيه لغتان :
القصر والمدُّ ، وبالمدّ قرأ عمرو بن عبيد ، نحو : سَفِه سَفاهاً ، والظِّمْءُ ما
بين الشَّرْبَتَيْن .
و « مَوْطِئاً » مَفْعِل مِنْ وَطِىءَ ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الوَطْء ،
وأن يكون مكاناً ، والأول أظهر ، لأن فاعل « يغيظ » يعود عليه من غير تأويل بخلاف
كونه مكاناً فإنه يعود على المصدر وهو الوَطْءُ الدال عليه المَوْطِىءُ .
وقرأ زيد بن علي : « يُغيظ » بضم الياء وهما لغتان : غاظَه وأغاظه .
والنَّيْلُ مصدرٌ فيحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكون واقعاً موقعَ المفعول به ،
وليست ياؤه مبدلةً من واو كما زعم بعضهم ، بل ناله ينولُه مادةٌ أخرى ومعنى آخر
وهو المناولة ، يقال : نِلْتُه أَنُوْله ، أي : تناولته ونِلْتُه أنيله ، أي :
أَدْرَكْته .
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
والوادي
: قال الزمخشري : « الوادي : كل منفرَجٍ من جبال وآكام يكون مَنْفذاً للسيل ، وهو
في الأصل فاعِل مِنْ ودى إذا سال ، ومنه الوَدِيّ ، وقد شاع في استعمال العرب
بمعنى الأرض » . وجُمع على أودية وليس بقياس ، كان قياسُه الأَوادي كأَواصل جمع
واصل ، والأصل : وَوَاصِل ، قُلبت الواو الأولى همزة . قال النحاس : « ولا أعرف
فاعلاً وأفْعلِة سواه » ، وقد استُدْرِك هذا عليه فزادوا : نادٍ وأندية وأنشدوا :
2555 وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ ... وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ
والنادي : المجلس . وقال الفراء : إنه يُجمع على أَوْداء كصاحب وأصحاب وأنشد لجرير
:
2556 عَرَفْتُ ببُرْقَةِ الأَوْداءِ رَسْماً ... مُحيلاً طال عهدُكَ مِنْ رسومِ
قلت : وقد زاد الراغب في فاعل وأَفْعِلة : ناجٍ وأنْجِيَة ، فقد كَمُلَتْ ثلاثةُ
ألفاظ في فاعل وأَفْعِلة ، ويقال : وَدَاه ، أي : أهلكه كأنهم تصوَّروا منه إسالة
الدم ، وسُمِّيت الدِّيَةُ دِيَةً لأنها في مقابلة إسالة الدم ، ومنه الوَدْيُ وهو
ماءُ الفحل عند المداعبة وماءٌ يخرج عند البول ، والوَدِيُّ بكسر الدال والتشديد
في الياء : صغار النحل .
وقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ } [ التوبة : 120 ] ، مبتدأ وخبر ، والإِشارة به إلى ما
تضمَّنه انتفاءُ التخلُّف مِنْ وجوب الخروج معه .
وقوله : { إِلاَّ كُتِبَ } ، هذه الجملةُ في محل نصب على الحال مِنْ « ظَمَأ » وما
عُطِف عليه ، أي : لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً . وأَفْرد الضمير في « به » وإن تقدَّمه
أشياء إجراء له مُجْرى اسمِ الإِشارة ، أي : كُتب لهم بذلك عَمَلٌ صالح . والمضمرُ
يُحتمل أن يعودَ على العمل الصالح المتقدم ، وأن يعودَ على أحد المصدرين المفهومين
في « ينفقون » و « يقطعون » ، أي : إلا كُتِب لهم بالإِنفاقِ أو القَطْعِ .
وقوله : { لِيَجْزِيَهُمُ } متعلقٌ ب « كُتِب » . وفي هذه الجملة من البلاغةِ
والفصاحةِ ما لا يخفى على متأمَّله لا سيما لمن تدرَّب بما تقدَّم في هذا الموضوع
.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قوله
تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } : « لولا » تحضيضية والمرادُ به
الأمر . و « منهم » يجوز أن يكون صفةً ل « فرقة » وأن يكون حالاً من « طائفة »
لأنها في الأصل صفة لها ، وعلى كلا التقديرين فيتعلقُ بمحذوف . والذي ينبغي أن
يُقال : إنَّ « من كل فرقة » حالٌ من طائفة ، و « منهم » صفة لفرقة ، ويجوز أن
يكونَ « من كل » متعلقاً ب « نَفَرَ » .
وقوله : { لِّيَتَفَقَّهُواْ } في هذا الضمير قولان ، أحدهما : أنه للطائفة
النافرة على أن المرادَ بالنفور : النفور لطلب العلم ، وهو ظاهر . وقيل : الضمير
في « ليتفَّقهوا » عائد على الطائفة القاعدة ، وفي « رَجَعوا » عائدٌ على النافرة
، والمراد بالنفور نفورُ الجهاد ، والمعنى : أن النافرين للجهاد إذا ذهبوا بقيت
إخوانهم يتعلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقه ، فإذا رَجَع الغازون
أنذرهم المُعَلِّمون ، أي : علَّموهم الفقه والشَّرْع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
قوله
تعالى : { وَلِيَجِدُواْ } : وهو من باب « لا أُرَيَنَّك ههنا » وتقدَّم شرحه .
قوله : { غِلْظَةً } قرأها الجمهور بالكسر وهي لغة أشد . وقرأ الأعمش ، وأبان بن
تغلب والمفضل كلاهما عن عاصم « غَلْظة » بفتحها ، وهي لغة الحجاز . وقرأ أبو حيوة
والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان في رواية عنهما « غُلظة » بالضم وهي لغة تميم
. وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث . والغِلظة : أصلها في الأَجْرام فاستعيرت هنا
للشدة والصبر والتجلُّد .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
قوله تعالى : { زَادَتْهُ } : الجمهور على رفع « أيُكم » بالابتداء وما بعده الخبر . وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالنصب على الاشتغال ، ولكن يُقَدَّر الفعل متأخراً عنه من أجلِ أن له صدرَ الكلام والنصبُ عند الأخفش في هذا النحوِ أحسنُ من الرفع؛ لأنه يُجري اسم الاستفهام مُجرى الأسماءِ المسبوقةِ بأداة الاستفهام نحو : « أزيداً ضربته » في ترجيح إضمار الفعل .
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله تعالى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ } : قرأ حمزة « ترون » بتاء الخطاب وهو خطابٌ للذين آمنوا ، والباقون بياء الغيبة رجوعاً على { الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } . والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبيةً ، وأن تكون بصريةً/ .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قوله تعالى : { هَلْ يَرَاكُمْ } : في محل نصب بقول مضمر ، أي : يقولون : هل يراكم . وجملةُ القول في محل نصب على الحال ، و « مِنْ أحد » فاعلٌ .
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
قوله
تعالى : { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } : صفةٌ لرسول ، أي : من صميم العرب . وقرأ ابن عباس
وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي
ويعقوب من بعض طرقه ، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء ، أي : مِنْ
أَشْرَفِكم ، من النَّفاسة .
وقوله : { عَزِيزٌ } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون « عزيز » صفةً لرسول ، وفيه أنه
تَقَدَّم غيرُ الوصف الصريح على الوصفِ الصريح ، وقد يُجاب بأنَّ « من أنفسكم »
متعلقٌ ب « جاء » ، و « ما » يجوز أن تكون مصدرية أو بمعنى الذي ، وعلى كلا
التقديرين فهي فاعل بعزيز ، أي : يَعِزُّ عليه عَنَتُكم أو الذي عَنِتُّموه ، أي :
عَنَتُهم يُسيئه ، فحذفَ العائدَ على التدريج ، وهذا كقوله :
2557 يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي ... وكان ذهابُهنَّ له ذهاباً
أي : يَسُرُّه ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون « عزيز » خبراً مقدماً ، و « ما
عَنِتُّم » مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ صفةٌ لرسول . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ « عزيز
» مبتدأ ، و « ما » عنتُّم خبره ، وفيه الابتداءُ بالنكرة لأجل عَمَلِها في
الجارِّ بعدها . وتقدَّم معنى العنت . والأرجح أن يكونَ « عزيز » صفةً لرسول؛
لقوله بعد ذلك « حريصٌ » فلم يُجعلْ خبراً لغيره ، وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر
، أي : هو حريصٌ ، لا حاجةَ إليه .
و « بالمؤمنين » متعلقٌ برؤوف . ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ
شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن ، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز : « زيداً
ضربتُ وشتمته » على التنازع ، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال
الثاني لا الأولِ لما عُرِف : أنه متى أُعمل الأول أُضْمِرَ في الثاني من غير حذف
.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
والجمهورُ على جَرِّ الميم من « العظيم » صفةً للعرش . وقرأ ابن محيصن برفعها ، جَعَلَه نعتاً للرب ، ورُويت هذه قراءةً عن ابن كثير . قال أبو بكر الأصمُّ : « وهذه القراءة أعجبُ إليّ لأنَّ جَعْلَ العظيم صفةً لله تعالى أولى مِنْ جعله صفةً للعرش » .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قد
تقدَّم الكلامُ على الحروف المقطعة في أوائل هذا الموضوع ، واختلافُ القُرَّاء في
إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ وهي : را ، وطا ، وها ، ويا ، وحا . فأمال
« را » من جميع سورها إمالةً محضة الكوفيون إلا حفصاً ، وأبو عمر وأبن عامر .
وأمال الأخَوَان وأبو بكر « طا » من جميع سُوَرِها نحو : طس ، طسم ، طه ، و « يا »
من يس . وافقهم ابنُ عامر والسوسي على « يا » من كهيعص ، بخلاف عن السوسي . وأمال
الأخَوان وأبو عمرو وورش وأبو بكر « ها » من طه ، وكذلك أمالها من كهيعص أبو عمرو
والكسائي وأبو بكر دون حمزةَ وورش . وأمال أبو عمرو وورش والأخَوَان وأبو بكر وابن
ذكوان حا من جميع سورها السبع . إلا أن أبا عمروٍ ووَرْشاً يُميلان بين بين ، [
وللقراء في هذا عمل كثير ] بيَّنْتُه في « شرح القصيد » .
و « الحكيم » : يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل ، أي : الحاكم ، وأن يكونَ بمعنى مفعول
، أي : مُحْكَم ، قال الأعشى :
2558 وغريبةٍ تأتي الملوكَ حكيمةً ... قد قلتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ } : الهمزة للإِنكار و « أن
أوحينا » اسمُها . و « عجباً » خبرها . و « للناس » متعلق بمحذوف على أنه حالٌ
مِنْ « عَجَباً » لأنه في الأصل صفة له ، أو متعلِّقٌ ب « عَجَباً » ، ولا يَضُرُّ
كونُه مصدراً لأنه يُتَّسع في الظرف وعديلهِ ما لا يُتَّسع في غيرهما . وقيل : لأن
« عجباً » مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعل أو اسم المفعول ، ومتى كان كذلك جاز
تقديمُ معمولِه . وقيل : هو متعلق ب « كان » الناقصة ، وهذا على رأيِ مَن يُجيز
فيها ذلك . وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة « كان » الناقصة على الحدث ، فإن
قلنا : إنها تدلُّ على ذلك فيجوز وإلا فلا وقيل : هو متعلقٌ بمحذوفٍ على التبين ،
والتقدير في الآية : أكان إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم عجباً لهم . و « منهم » صفة ل «
رجل » .
وقرأ رؤبة « رَجْل » بسكون الجيم ، وهي لغة تميم ، يُسَكِّنون فَعُلاً نحو : سَبُع
وعَضُد . وقرأ عبد الله بن مسعود « عَجَبٌ » . وفيها تخريجان ، أظهرهما : أنها
التامة ، أي : أَحَدَثَ للناس عجب ، و « أنْ أَوْحَيْنا » متعلق ب « عَجَب » على
حَذْف لامِ العلة ، أي : عَجَبٌ لأَِنْ أوحينا ، أو يكون على حَذْف « مِنْ » ، أي
: مِنْ أَنْ أوحينا . والثاني : أن تكون الناقصة ، ويكون قد جعل اسمَها النكرةَ
وخبرَها المعرفةَ ، على حَدِّ قوله :
2559 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال الزمخشري : « والأجودُ أن تكونَ التامةَ ، و » أنْ أَوْحَيْنا « بدلٌ من »
عجب « . يعني به بدلَ اشتمال أو كل من كل؛ لأنه جُعِل هذا نفسَ العَجَب مبالغةً .
والتخريج الثاني لابن عطية .
قوله : { أَنْ أَنذِرِ } يجوز أن تكونَ المصدرية ، وأن تكونَ التفسيريةَ . ثم لك
في المصدرية اعتباران ، أحدهما : أن تجعلَها المخففةَ مِن الثقيلة ، واسمها ضمير
الأمر والشأن محذوف . كذا قال الشيخ ، وفيه نظر من حيث إن أخبارَ هذه الأحرف لا
تكون جملةً طلبية ، حتى لو ورد ما يُوهم ذلك يُؤوَّل على إضمار القول كقوله :
2560 ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْي صادقةٌ ... إنَّ الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ
وقول الآخر :
2561 إنَّ الذين قتلتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تحسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وأيضاً فإن الخبرَ في هذا البابِ إذا وقع جملةً فعلية فلا بد من الفصلِ بأشياءَ
ذكرتُها في المائدة ، ولكن ذلك الفاصلَ هنا متعذَّرٌ . والثاني : أنها التي بصدد
أن/ تنصِبَ الفعلَ المضارعَ ، وهي تُوصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً نحو : » كتبت
إليه بأَنْ قم « . وقد تقدَّم لنا في ذلك بحث أيضاً ولم يُذْكر المُنْذَرُ به ،
وقد ذكر المُبَشَّرَ به كما سيأتي لأنَّ المقامَ يقتضي ذلك .
قوله
: { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ } « أنَّ » وما في حَيِّزها هي المبشَّرُ بها ، أي :
بَشِّرهم باستقرارِ قَدَمِ صِدْق ، فَحُذفت الباء ، فجرى في محلِّها المذهبان .
والمرادُ بقدَمِ صِدْقٍ السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرفيعة . وإليه ذهب الزجاج
والزمخشري ومنه قولُ ذي الرمة :
2562 لهمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أنها ... مع الحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ على
البحر ... لمَّا كان السعي والسَّبْقُ بالقدم سُمِّي السَّعْيُ المحمود قَدَماً ،
كما سُمِّيت اليدُ نِعْمة لمَّا كانت صادرةً عنها ، وأُضيف إلى الصدق دلالةً على
فضلِه ، وهو من باب رجلُ صدقٍ ورجلُ سوءٍ . وقيل : هو سابقةُ الخير التي قَدَّموها
، ومنه قول وضَّاح اليمني :
2563 مالك وضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ... أَلَسْتَ تخشى تقارُبَ الأَجَلِ
صَلِّ لذي العرشِ واتَّخِذْ قَدَماً ... تُنْجيك يوم العِثارِ والزَّلَلِ
وقيل : هو التقدُّمُ في الشرف ، ومنه قول العجاج :
2564 ذَلَّ بنو العَوَّامِ مِنْ آل الحَكَمْ ... وتركوا المُلْكَ لمَلْكٍ ذي
قَدَمْ
أي : ذي تقدُّمٍ وشرفٍ . و « لهم » خبر مقدم ، و « قَدَمَ » اسمُها ، و « عند ربهم
» صفةٌ ل « قَدَم » . ومن جَوَّز أن يتقدَّمَ معمولُ خبرِ « أنَّ » على اسمها إذا
كان حرف جر كقوله :
2565 فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها ... أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بَلابلُهْ
قال : ف « بحبها » متعلقٌ ب « مُصاب » ، وقد تقدَّم على الاسم فكذلك « لهم » يجوز
أن يكونَ متعلقاً ب « عند ربهم » لِما تَضَمَّنَ من الاستقرار ، ويكونُ « عند ربهم
» هو الخبر .
وقرأ نافعٌ وأبو عمرو وابن عامر « لَسِحْرٌ » والباقون « لَساحر » ، ف « هذا »
يجوزُ أن يكونَ إشارةً للقرآن ، وأن يكونَ إشارة للرسول على القراءة الأولى ، ولكن
لا بد من تأويل على قولنا : إن المشار إليه هو النبي عليه السلام ، أي : ذو سحر أو
جعلوه إياه مبالغةً . وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فالإِشارةُ للرسولِ عليه
السلام فقط .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأمر } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل « إنَّ » . الثاني : أنه حالٌ . الثالث : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإِعراب .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قوله
تعالى : { وَعْدَ الله } : منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ ، لأنَّ معنى « إليه
مَرْجِعُكُمْ » : وَعَدَكم بذلك .
وقوله : { حَقّاً } مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد ، وناصبُه مضمر ، أي :
أَحُقُّ ذلك حقاً . وقيل : انتصب « حقاً » ب « وَعْدَ » على تقدير « في » ، أي :
وَعْدَ الله في حق ، يعني على التشبيه بالظرف . وقال الأخفش الصغير : « التقدير :
وقتَ حق » وأنشد :
2566 أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً ... ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ
قوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ } الجمهورُ على كسر الهمزة للاستئناف . وقرأ عبد الله
وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها . وفيها تأويلاتٌ ، أحدها : أن تكونَ
فاعلاً بما نصب « حقاً » ، أي : حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق ، ثم إعادتُه ، كقوله
:
2567 أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
البيت . وهو مذهبُ الفراء فإنه قال : « والتقدير : يحقُّ أنه يبدأ الخلق . الثاني
: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ » وعد الله « أي : وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق
ثم إعادتَه ، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه . الثالث : أنه على حَذْف لام الجر
أي : لأنه ، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره . الرابع : أنه بدلٌ من »
وَعْدَ الله « قاله ابن عطية . الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس » حقاً « أي : بالمصدر
المنون ، وهذا إنما يتأتى على جَعْل » حقاً « غيرَ مؤكدٍ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا
عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه ، وفيه بحثٌ . السادس : أن يكونَ » حقاً « مشبهاً
بالظرف خبراً مقدماً و » أنَّه « في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم : أحقاً أنك
ذاهب قالوا : تقديره : أفي حقٍ ذهابك .
وقرأ ابن أبي عبلة : » حَقٌّ أنه « برفع [ حق ] وفتح » أنَّ « على الابتداء والخبر
. قال الشيخ : » وكونُ « حق » خبرَ مبتدأ ، و « أنه » هو المبتدأ هو الوجه في
الإِعراب ، كما تقول : « صحيحٌ أنك تخرج » لأن [ اسم ] « أنَّ » / معرفة ، والذي
تقدَّمها في هذا المثال نكرة « . قلت : فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس ،
وهذا قد ورد في باب » إنَّ « كقوله :
2568 وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً ... بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
وقوله :
2569 وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل ...
على جَعْل » أنْ سفحتُها « بدلاً من » عبرة « . وقد أخبر في » كان « عن نكرةٍ
بمعرفةٍ كقوله :
2570 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا
وقوله :
2571 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال مكي : » وأجاز الفراء رفع « وعد » ، يجعله خبراً ل « مرجعكم » .
وأجاز
رفعَ « وعد » و « حق » على الابتداء والخبر ، وهو حسنٌ ، ولم يقرأ به أحد « . قلت
: نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد ، وأمَّا رفعُ » حق « وحده فقد تقدم أن ابن أبي
عبلة قرأه ، وتقدَّم توجيهُه . ولا يجوز أن يكون » وعدَ الله « عاملاً في » أنه «
لأنه قد وُصِف بقوله » حقاً « قاله أبو الفتح .
وقرىء » وَعَدَ اللَّهُ « بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً ، وعلى هذه يكون
» أنه يَبْدَأ « معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح » أنه « .
والجمهور على » يَبْدأُ « بفتح الياء مِنْ بدأ ، وابن أبي طلحة » يُبْدِىء « مِنْ
أَبْدأ ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى .
قوله : { لِيَجْزِيَ } متعلق بقوله » ثم يُعيده « ، و » بالقسطِ « متعلقٌ ب »
يَجْزي « . ويجوز أن يكونَ حالاً : إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي : يَجْزيهم
ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به . والقِسْط : العدل .
قوله : { والذين كَفَرُواْ } يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ،
والجملةُ بعده [ خبره ] . الثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه ،
وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم . و » شراب « [ يجوز أَنْ ] يكونَ فاعلاً ،
وأن يكون مبتدأ ، [ والأولُ أولى ] .
قوله : { بِمَا كَانُواْ } الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع
خبراً ، والتقدير : استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا . وجَوَّز أبو
البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما الأول : أن يكونَ صفةً أخرى ل » عذاب « .
والثاني : أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن
الأول .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قوله
تعالى : { ضِيَآءً } : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ للتصيير ، وإمَّا
حالٌ على أنه بمعنى الإِنشاء . والجمهور على « ضياء » بصريح الياء قبل الألف ،
وأصلُها واو لأنه من الضوء . وقرأ قنبل عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص «
ضِئاءً » بقلب الياء همزة ، فتصير ألف بين همزتين . وأُوِّلت على أنه مقلوبٌ
قُدِّمت لامُه وأُخِّرت عينه فوقعت الياء طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على
حَدِّ « رداء » . وإن شئت قلتَ : لمَّا قُلِبت الكلمة صار « ضياواً » بالواو ،
عادت العين إلى أصلها مِن الواو لعدم موجِبِ قَلْبِها ياءً وهو الكسرُ السابقُها ،
ثم أُبْدلت الواوُ همزةً على حَدِّ كساء . وقال أبو البقاء : « إنها قُلبت ألفاً
ثم قُلِبت الألفُ همزةً لئلا تجتمعَ ألفان » .
واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إن اللغةَ مبنيَّة على تسهيلِ الهمزِ فكيف
يَتَخَيَّلون في قَلْب الحرفِ الخفيف إلى أثقلَ منه؟ قلت : لا غَرْو في ذلك ، فقد
قلبوا حرف العلةِ الألف والواو والياء همزة في مواضع لا تُحصرُ إلا بعُسْرٍ ، إلا
أنه هنا ثقيلٌ لاجتماع همزتين . قال أبو شامة : « وهذه قراءة ضعيفةٌ ، فإن قياسَ
اللغة الفِرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يُتَخَيَّل بتقديم
وتأخيرٍ يؤدي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللغة . » .
وقال أبو بكر ابن مجاهد وهو ممَّن على قنبل : « ابنُ كثير وحدَه » ضِئاء « بهمزتين
في كل القرآن : الهمزة الأولى قبل الألف ، والثانية بعدها ، كذلك قَرَأْتُ على
قنبل وهو غلط ، وكان أصحاب البزي وابن فليح يُنْكرون هذا ويَقْرؤون » ضياء « مثلَ
الناس » . قلت : كثيراً ما يتجرأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه ، وسيمُّر بك مواضعُ
من ذلك ، وهذا لا ينبغي أن يكون ، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يَمنع أن يتكلَّمَ
فيه أحد .
وقوله في جانب الشمس « ضياء » لأن الضوء أقوى من النور ، وقد تقدَّم ذلك في أول
البقرة . و « ضياء ونوراً » يُحْتمل أن يكونا مصدرين ، وجُعِلا نفسَ الكوكبين
مبالغةً ، أو على حَذْف مضاف أي : ذات ضياء وذا نور . وضياء يحتمل أن يكونَ جمع «
ضوء » كسَوْط وسِياط ، وحَوْض حياض .
و « منازل » نُصِب على ظرف المكان ، وجعله الزمخشري على حذف مضاف : إمَّا من الأول
أي : قَدَّره مَسيره ، وإمَّا من الثاني أي : قدَّره ذا منازل ، فعلى التقدير
الأول يكون « منازل » ظرفاً كما مر ، وعلى الثانى يكون مفعولاً ثانياً على تضمين «
قَدَّر » معنى : صَيَّره ذا منازل بالتقدير . وقال الشيخ بعد أن ذكرَ التقديرين ،
ولم يَعْزُهما للزمخشري : « أو قدَّر له منازل ، فحذفَ ، وأوصل الفعل إليه فانتصب
بحسب هذه التقاديرِ عل الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : { والقمر / قَدَّرْنَاهُ
مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] وقد سبقَه إلى ذلك أبو البقاء أيضاً .
والضمير في » قَدَّرناه « يعود على القمر وحده؛ لأنه هو عمدةُ العربِ في تواريخهم
. وقال ابن عطية : » ويُحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرَّفان في معرفة عدد
السنين والحساب ، لكنه اجتُزِىءَ بذِكْر أحدهما كقوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وكما قال الشاعر :
2572 رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي ... بريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رماني
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
قوله
تعالى : { لِتَعْلَمُواْ } : متعلق ب « قَدَّره » . وسُئل أبو عمرو عن الحساب : «
أتنصِبُه أم تجرُّه؟ فقال : » ومَنْ يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سُئل : هل تعطفه
على « عَددَ » فتنصبَه أم على « السنين » فتجرَّه؟ فكأنه قال : لا يمكنُ جَرُّه؛
إذ يقتضي ذلك أن يُعلم عدد الحساب ، ولا يقدر أحد أَنْ يعلمَ عددَه . و « ذلك »
إشارةٌ إلى ما تقدم أي : ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحق فيكون حالاً :
إمَّا من الفاعل وإما من المفعول . وقيل : الباء بمعنى اللام أي : للحق ، ولا حاجة
إليه .
وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو « يُفَصِّل » بياء الغيبة جَرْياً على اسم الله تعالى ،
والباقون بنون العظمة التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلُّم للتعظيم .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
قوله تعالى : { واطمأنوا } : يجوز أن يكون عطفاً على الصلة ، وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ الواوُ للحال ، والتقدير : وقد اطمأنُّوا . وقوله : « والذين هم » يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات ، بمعنى أنَّهم جامعون بين عدم رجال لقاءِ الله وبين الغَفْلة عن الآيات ، وأن يكون هذا الموصولُ غيرَ الأول ، فيكونَ عطفاً على اسم « إن » أي : إن الذين لا يَرْجُون ، وإن الذين هم .
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
و : { أولئك } : مبتدأ و « مَأْواهم » مبتدأ ثانٍ ، و « النار » خبرُ هذا الثاني ، والثاني وخبره خبر « أولئك » و « أولئك » وخبره خبر « إن الذين » . و « بما كانوا » متعلقٌ بما تضمَّنته الجملة من قوله : « مَأْواهم النار » والباءُ سببيةٌ ، و « ما » مصدريةٌ ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرارِ ذلك في كل زمان . وقال أبو البقاء : « إن الباء تتعلَّق بمحذوف أي : جُوزوا بما كانوا » .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
قوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } : يجوز أن يكونَ حالاً من مفعول « يَهْديهم » ، وأن يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ معطوفاً على ما قبله ، حُذِف منه حرفُ العطف . قوله « في جنات » يجوز أن يتعلَّق ب « تَجْري » وأن يكون حالاً من « الأنهار » ، وأن يكونَ خبراً بعد خبر ل « إنَّ » ، وأن يكون متعلِّقاً ب « يَهْدي » .
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
قوله
تعالى : { دَعْوَاهُمْ } : مبتدأٌ و « سبحانَك » معمول لفعلٍ مقدر لا يجوز إظهارُه
هو الخبر ، والخبرُ هنا هو نفس المبتدأ ، والمعنى : أن دعاءَهم هذا اللفظُ ، ف «
دعوى » يجوز أن يكون بمعنى الدعاء ، ويدلُّ عليه « اللهم » لأنه نداء في معنى يا
الله ، ويجوز أن يكون هذا الدعاءً هنا بمعنى العبادة ، ف « دَعْوى » مصدرٌ مضاف
للفاعل ، ثم إنْ شِئْتَ أن تجعلَ هذا من باب الإِسناد اللفظي أي : دعاؤهم في الجنة
هذا اللفظُ ، فيكون نفسُ « سبحانك » هو الخبرَ ، وجاء به مَحْكياً على نصبه بذلك
الفعل ، وإن شِئْتَ جَعَلْتَه من باب الإِسناد المعنوي فلا يلزمُ أن يقولوا هذا
اللفظَ فقط ، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جميع صفات التنزيهِ والتقديس ، وقد
تقدم لك نظيرُ هذا عند قولِه تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] ،
فعليك بالالتفات إليه .
و « تحيَّتُهم » مبتدأٌ ، و « سَلامٌ » خبرُها ، وهو كالذي قبله ، والمصدرُ هنا
يحتمل أن يكونَ مضافاً لفاعله أي : تحيتهم التي يُحَيُّون بها بعضَهم سلامٌ ،
ويُحتمل أن يكونَ مضافاً لمفعوله أي : تحيتهم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلام
، ويدلُّ له { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ
عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] . و « فيها » في الموضعين متعلقٌ بالمصدرِ قبله ، و «
قبل » يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده فيتعلَّقَ بمحذوف ، وليس بذاك . وقال بعضُهم
: « يجوز أن يكون » تحيتهم « مِمَّا أضيف فيه المصدرُ لفاعله ومفعوله معاً؛ لأنَّ
المعنى : يُحَيِّي بعضُهم بعضاً ، ويكون كقوله تعالى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] حيث أضافَه لداود وسليمان وهما الحاكمان ، وإلى
المحكوم عليه ، وهذا مبنيٌّ على مسألةٍ أخرى وهو أنه : هل يجوز الجمعُ بين
الحقيقةِ والمجازِ أم لا؟ فإن قلنا : نعم ، جاز ذلك لأن إضافةَ المصدرِ لفاعله
حقيقةٌ ولمفعوله مجاز ، ومَنْ منع ذلك أجاب بأن أَقَلَّ الجمعِ اثنان فلذلك قال :
/ » لحكمهم « .
قوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } مبتدأ ، و » أَنْ « هي المخففة من الثقيلة ،
واسمُها ضميرُ الأمر والشأن حُذِف ، والجملةُ الاسميةُ بعدَها في محلِّ الرفع
خبراً لها كقول الشاعر :
2573 في فتية كسيوفِ الهند قد علموا ... أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يحفى ويَنْتَعِلُ
و » أنْ « واسمُها وخبرها في محلَّ رفعٍ خبراً للمبتدأ الأول . وزعم الجرجانيُّ أن
» أَنْ « هنا زائدة والتقدير : وآخر دعواهم الحمد لله ، وهي دعوى لا دليلَ عليها
مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويين . وزعم المبرد أيضاً أن » أَنْ « المخففة يجوز
إعمالُها مخففةً كهي مشددةً ، وقد تقدم ذلك .
وتخفيفُ » أَنْ « ورفعُ » الحمد « هو قراءةُ العامة . وقرأ عكرمة وأبو مجلز وأبو
حيوة وقتادة ومجاهد وابنُ يعمر وبلال بن أبي بردة وابن محيصن ويعقوب بتشديدها
ونصبِ دال » الحمد « على أنه اسمُها . وهذه تؤيدُ أنها المخففةُ في قراءة العامةِ
، وتردُّ على الجرجاني .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
قوله
تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ } : هذا الامتناعُ نفي في المعنى تقديره : لا
يُعَجِّلُ لهم الشرَّ . قال الزمخشري : « فإن قلت : كيفَ اتَّصل به قولُه : »
فَنَذَرُ الذين لا يَرْجُون لقاءَنا وما معناه؟ قلت : قولُه : « ولو يُعَجِّل »
متضمِّنٌ معنى نفي التعجيل كأنه قيل : ولا نُعَجِّل لهم بالشرِّ ولا نَقْضي إليهم
أجلَهم « .
قوله : { استعجالهم } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ على المصدرِ التشبيهيِّ
تقديرُه : استعجالاً مثلَ استعجالِهم ، ثم حَذَفَ الموصوفَ وهو » استعجال « وأقامَ
صفتَه مُقامه وهي » مثل « فبقي : ولو يعجل اللَّهُ مثل استعجالِهم ، ثم حَذَفَ
المضافَ وأقام المُضاف إليه مُقامه . قال مكي : » وهذا مذهبُ سيبويه « قلت : وقد
تقدَّم غيرَ مرةٍ أن مذهبَ سيبويه في مثل هذا أنه منصوبٌ على الحالِ من ذلك
المصدرِ المقدَّرِ ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْرِبين غيرَه ، ففي نسبةِ ما
ذكرته أولاً لسيبويه نظرٌ .
الثاني : أن تقديرَه : تعجيلاً مثلَ استعجالهم ، ثم فُعِل به ما تقدَّم قبلَه .
وهذا تقديرُ أبي البقاء ، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلَه ، فإنَّ »
تعجيلاً « مصدر ل » عَجَّل « وما ذكره مكي موافقٌ للمصدر الذي بعده ، والذي يظهر
ما قدَّره أو البقاء لأن موافقةَ الفعلِ أولى ، ويكون قد شبَّه تعجيلَه تعالى
باستعجالهم ، بخلاف ما قدَّره مكي فإنه لا يظهر ، إذ ليس » استعجال « مصدراً ل »
عجَّل « .
وقال الزمخشري : أصلُه : ولو يُعَجِّل الله للناسِ الشرَّ تعجيلَه لهم الخير ،
فوضع » استعجالهم بالخير « موضعَ » تعجيله لهم الخيرَ « إشعاراً بسرعة إجابته لهم
وإسعافِه بطلبهم ، كأنَّ استعجالَهم بالخير تعجيلٌ لهم » . قال الشيخ : « ومدلولُ
» عَجَّل « غيرُ مدلولِ » استعجل « لأنَّ » عَجَّل « يدلُّ على الوقوع ، و »
استعجل « يدلُّ على طلب التعجيل ، وذلك واقعٌ من الله ، وهذا مضافٌ إليهم ، فلا
يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون التقدير :
تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبَّه التعجيلَ بالاستعجال؛ لأن طلبَهم [ للخير ]
ووقوعَ تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كل شيء . والثاني : أن يكون ثَمَّ محذوفٌ يدلُّ
عليه المصدرُ تقديرُه : ولو يعجِّل اللَّهُ للناسِ الشرَّ إذا استعجلوا به
استعجالَهم بالخير ، لأنهم كانوا يستعجلون بالشرِّ ووقوعِه على سبيل التهكم كما
كانوا يستعجلون بالخير » . الثالث : أنه منصوبٌ على إسقاط كافِ التشبيهِ ،
والتقدير : كاستعجالهم . قال أبو البقاء . « وهو بعيدٌ ، إذ لو جاز ذلك لجاز » زيد
غلامَ عمرو « أي : كغلام عمرو » وبهذا ضَعَّفه جماعةٌ وليس بتضعيفٍ صحيحٍ ، إذ ليس
في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدى بنفسه عند حذف الجار ، وفي الآيةِ فعلٌ يَصِحُّ فيه
ذلك وهو قوله « يُعَجِّل » .
وقال
مكي : « وَيَلْزَمُ مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ حرفِ الجر منه أن يجيز » زيدُ الأسدُ «
أي : كالأسدِ » قلت : قوله « ويلزم إلى آخره » لا ردَّ فيه على هذا القائل إذ
يلتزمه ، وهو التزام صحيح سائغ ، إذ لا ينكر أحد « زيد الأسدُ » على معنى « كالأسد
» ، وعلى تقدير التسليمِ فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء أي : إن الفعل يطلب مصدراً
مشبَّهاً فصار مدلولاً عليه . وقال بعضهم : تقديره : في استعجالهم ، نقله مكي ،
فلمَّا حُذِفت « في » انتصبَ ، وهذا لا معنى له .
قوله : { لَقُضِي } / قرأ ابن عامر « لقضى » بفتح الفاء والعين مبنياً للفاعل وهو
الله تعالى ، « أجلهم » نصباً . والباقون « لقُضِيَ » بالضم والكسر مبنياً للمفعول
، « أَجَلُهم » رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعل . وقرأ الأعمش « لقَضَيْنا » مسنداً
لضمير المعظِّم نفسَه ، وهي مؤيدةٌ لقراءةِ ابن عامر .
قوله : { فَنَذَرُ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على قوله { وَلَوْ
يُعَجِّلُ الله } على معنى أنه في قوة النفي ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سؤال
الزمخشري وجوابِه فيه . إلا أن أبا البقاء ردَّ عطفه على « يُعَجِّل » فقال : «
ولا يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على » يُعَجِّل « إذ لو كان كذلك لدَخَلَ في الامتناع
الذي تقتضيه » لو « وليس كذلك ، لأنَّ التعجيلَ لم يقع ، وتَرْكَهم في طغيانهم وقع
» . قلت : إنما يَتمُّ هذا الردُّ لو كان معطوفاً على « يُعَجِّل » فقط باقياً على
معناه ، وقد تقدَّم أن الكلامَ صار في قوةِ { لا نعجِّل لهم الشرَّ فَنَذَرُهم }
فيكون « فَنَذَرُهم » معطوفاً على جملة النفي لا على الفعلِ الممتنع وحدَه حتى
يلزمَ ما قال . والثاني : أنه معطوفٌ على جملةٍ مقدرة : « ولكن نُمْهِلُهم
فَنَذَرُ » قاله أبو البقاء . والثالث : أن تكون جملةً مستأنفةً ، أي : فنحن
نَذَرُ الذين . قاله الحوفي .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قوله
تعالى : { لِجَنبِهِ } : في محلِّ نصبٍ على الحال ، ولذلك عَطَفَ الحالَ الصريحة ،
والتقدير : دعانا مضطجعاً لجنبه ، أو مُلْقِياً لجَنْبه . واللامُ على بابها عند
البصريين ، وزعم بعضهم أنها بمعنى « على » ، ولا حاجةَ إليه . واختُلف في ذي الحال
، فقيل : الإِنسان ، والعامل فيها « مَسَّ » قاله ابن عطية . ونَقَله أبو البقاء
عن غيره ، واستضعفه من جهين ، أحدهما : أن الحالَ على هذا واقعةٌ بعد جواب « إذا »
وليس بالوجهِ . قلت : كأنه يعني أنه ينبغي ألاَّ يجابَ الشرطُ إلا إذا استوفى
معمولاتِه ، وهذه الحالُ معمولة للشرط وهو « مَسَّ » ، وقد أُجيب قبل أن يَسْتوفي
معموله . ثم قال : « والثاني : أن المعنى : كثرةُ دعائِه في كل أحواله لا على أن
الضرَّ يصيبه في كل أحوالِه ، وعليه جاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ في القرآن » .
قال الشيخ : « وهذا الثاني يلزم فيه مِنْ مَسِّه الضرُّ في هذه الأحوالِ دعاؤه في
هذه الأحوال ، لأنه جوابُ ما ذُكِرت فيه هذه الأحوال [ فالقيد في الشرط قيدٌ في
الجواب كما تقول : » إذا جاءنا زيدٌ فقيراً فقد أَحْسَنَّا إليه « فالمعنى : ]
أَحْسَنَّا إليه في حال فقرِه » .
وقيل : صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في « دعانا » وهو واضحٌ ، أي : دعانا في جميع
أحواله لأن هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإِنسان عن واحدة منها . ثم قيل : المراد
بالإِنسان الجنسُ ، وهذه الأحوالُ بالنسبة إلى المجموع ، أي : منهم مَنْ يدعو
مُسْتلقياً ، ومنهم مَنْ يدعو قائماً ، أو يُراد به شخصٌ واحد جَمَع بين هذه
الأحوال الثلاثة بحسبِ الأوقاتِ ، فيدعو في وقتٍ على هذه الحال ، وفي وقت على أخرى
.
قوله : { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ } قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا عند قوله : {
كَأَنْ لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } قال الزمخشري : « فَحَذفَ ضميرَ الشأن كقوله :
2574 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنْ ثَدْياه حُقَّانِ »
يعني على روايةِ مَنْ رواه « ثَدْيان » بالألف ، ويُروى « كأنْ ثَدْيَيْه »
بالياءِ على أنها أُعملت في الظاهر وهو شاذٌّ ، وصدر هذا البيت :
وصَدْرٍ مُشْرقِ النَّحْرِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
وهذه الجملةُ التشبيهيةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « مرَّ » ، أي : مضى على
طريقته مشبهاً مَنْ لم يَدْعُ إلى كشف ضر . و « مَسَّه » صفةٌ ل « ضُرّ » ، قال
صاحب النظم : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان } وَصْفُه للمستقبل ، و « فلمَّا كشفنا »
للماضي ، فهذا النَّظْم يدلُّ على معنى الآية أنه كان هكذا فيما مضى ، وهكذا يكون
مما يُستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل «
.
والكافُ مِنْ » كذلك زُيِّن « في موضع نصب على المصدر ، أي : مثلَ ذلك التزيين
والإِعراض عن الابتهال . وفاعل » زُيِّن « المحذوف : إمَّا الله تعالى وإمَّا
الشيطان . و { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في محل رفع لقيامه مقام الفاعل . و » ما
« يجوزُ أن تكون مصدريةً ، وأن تكونَ بمعنى الذي .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
قوله
تعالى : { مِن قَبْلِكُمْ } : متعلقٌ ب « أَهْلكنا » ، ولا يجوز أن يكونَ حالاً من
« القرون » لأنه ظرف زمان فلا يقع حالاً عن الجثة كما لا يقع خبراً عنها . وقد
تقدَّم تحقيق هذا في أول البقرة ، وقد تقدَّم الكلامُ على « لمَّا » أيضاً .
قوله : { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم } يجوز أن يكون معطوفاً على « ظلموا » فلا محلَّ
له عند سيبويه ، ومحله الجر عند غيره ، لأنه عطف على ما هو في محلِّ جرٍ بإضافة
الظرف إليه ، ويجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : ظلموا بالتكذيب وقد
جاءتهم رسلُهم بالحُجَجِ والشواهد على صدقهم و « بالبينات » يجوزُ أن يتعلَّق ب «
جاءتهم » ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « رسلهم » [ أي : ] جاؤوا
ملتبسين بالبينات مصاحبين لها .
قوله : { وَمَا كَانُواْ } الظاهرُ عَطْفه على « ظلموا » . وجَوَّز الزمخشري أن
يكونَ/ اعتراضاً قال : « واللامُ لتأكيد فني إيمانهم ، ويعني بالاعتراض كونَه وقع
بين الفعل ومصدرهِ التشبيهي في قوله » كذلك نَجزي « . والضميرُ في » كانوا « عائد
على » القرون « . وجَوَّز مقاتل أن يكونَ ضميرَ أهل مكة ، وعلى هذا يكونُ التفاتاً
إذ فيه خروجٌ من ضمير الخطاب في قوله » قبلكم « إلى الغَيْبة ، والمعنى : وما كنتم
لتؤمنوا ، و » كذلك « نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي مثلَ ذلك الجزاء نجزي . وقُرِىء »
يَجْزي « بياء الغيبة ، وهو التفاتٌ من التكلم في قوله » أَهْلكنا « إلى الغَيْبة
.
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
قوله
تعالى : { لِنَنظُرَ } : متعلق بالجَعْل . وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة وتشديد
الظاء . وقال يحيى : « هكذا رأيته في مصحف عثمان » يعني أنه رآها بنون واحدة ، ولا
يعني أنه رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشكل الخاص إنما حَدَث بعد عثمان . وخرَّجوها على
إدغامِ النون الثانية في الظاء وهو رديءٌ جداً ، وأحسنُ ما يقال فيه : إنه بالغ في
إخفاءِ غُنَّة النون الساكنة فظنَّه السامع إدغاماً ، ورؤيتُه له بنونٍ واحدة لا
يدلُّ على قراءته إياه مشددَ الظاء ولا مخفَّفَها . قال الشيخ : « ولا يدلُّ » على
حَذْفَ النون من اللفظ « . وفيه نظرٌ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف
الذي رآه؟
وقوله : { كَيْفَ } منصوبٌ ب » تعملون « على المصدر ، أي : أيَّ عملٍ تعملون ، وهي
معلِّقة للنظر .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قوله
تعالى : { أَوْ بَدِّلْهُ } : يحتمل التبديلُ في الذات والتبديلُ في الصفات ، يعني
اجعلْ آيةَ عذاب مكانَ آية رحمة . فإن قيل : يلزمُ على الأولِ التكرار في قوله : {
ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ } ، فالجوابُ أن معنى الأول : ائت بقرآن غيره مع بقائه
، أو بَدِّله بأنْ تُزيل ذاتَه بالكلية ، فيتغاير المطلوبان .
و « تِلْقاء » مصدرٌ على تِفْعال ، ولم يجيء مصدر بكسر التاء إلا هذا والتِّبْيان
. وقرىء شاذاً بفتح التاء ، وهو قياسُ المصادر الدالة على التكرار كالتَّطْواف
والتَّجوال . وقد يُسْتعمل التِّلقاء بمعنى قبالتك ، فينتصبُ انتصابَ الظروف
المكانية .
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
قوله
تعالى : { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } : أي : ولا أَعْلمكم الله به ، مِنْ دَرَيْتُ
، أي : علمتُ . ويقال : دَرَيْتُ بكذا وأَدْرَيْتك بكذا ، أي : أحطت به بطريق
الدِّراية ، وكذلك في « علمت به » فَتَضَمَّن العلمُ معنى الإِحاطة فتعَدَّى
تَعْدِيَتَها .
وقرأ ابنُ كثير بخلاف عن البزي « ولأَدْراكم » بلام داخلة على « أَدْراكم » مثبتاً
. والمعنى : ولأُعْلِمَكم به من غير وساطتي : إمَّا بوساطة مَلَكٍ أو رسولٍ غيري
من البشر ، ولكنه خَصَّني بهذه الفضيلة . وقراءةُ الجمهور « لا » فيها مؤكدةٌ؛
لأنَّ المعطوفَ على المنفيّ منفيّ ، وليست « لا » هذه هي التي يُنْفَى بها الفعل ،
لأنه لا يَصِحُّ نفيُ الفعل بها إذا وقع جواباً ، والمعطوفُ على الجواب جواب ، ولو
قلت : « لو كان كذا لا كان كذا » لم يَجُزْ ، بل تقول : « ما كان كذا » . وقرأ ابن
عباس والحسن وابن سيرين وأبو رجاء : { ولا أَدْرَأْتُكم به } بهمزةٍ ساكنةٍ بعد
الراء . وفي هذه القراءةِ تخريجان ، أحدهما : أنها مُبْدَلةٌ من ألف ، والألف منقلبةٌ
عن ياءٍ لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعُقَيْلٍ حكاها قطرب ، يقولون في أعطيتك :
أعطأتك . وقال أبو حاتم : « قَلَبَ الحسنُ الياءَ ألفاً ، كما في لغة بني الحرث
يقولون : عَلاَك وإلاك ، ثم هَمَزَ على لغة من قال في العالم : العَأْلَم ، وقيل :
بل أُبْدلت الهمزة من نفس الياء نحو : » لَبَأْتُ بالحج « و » رثَأْت فلاناً « ،
أي : لبَّيْتُ ورَثَيْتُ . والثاني : أن الهمزة أصلية وأن اشتقاقه مِنَ الدَّرْء
وهو الدّفْع كقوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } [ النور : 8 ] ، ويقال :
أَدْرأته ، أي : جَعَلْته دارِئاً ، والمعنى : ولأَجْعَلَنَّكم بتلاوته خُصَماء
تَدْرَؤُونني بالجدال . قال أبو البقاء : » وقيل : هو غلط « ، لأنَّ قارِئَها
ظَنَّ أنها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ . وقيل : ليس بغلطٍ والمعنى : لو شاء
اللَّه لدَفَعَكم عن الإِيمان به » .
وقرأ شهر بن حوشب والأعمش : « ولا أَنْذَرْتُكم » من الإِنذار ، وكذلك/ هي في حرف
عبد الله .
والضمير في « قبله » عائد على القرآن . وقيل : على النزول . وقيل : على وقت النزول
. و « عُمُراً » مشبهٌ بظرف الزمان فانتصبَ انتصابَه ، أي : مدة متطاولة . وقيل :
هو على حَذْف مضاف ، أي : مقدار عُمُر . وقرأ الأعمش « عُمْراً » بسكون الميم
كقولهم : « عَضْد » في « عَضُد » .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
قوله
تعالى : { مَا لاَ يَضُرُّهُمْ } : « ما » موصولة ، أو نكرةٌ موصوفةٌ وهي واقعةٌ
على الأصنام ، ولذلك راعى لفظها ، فأفرد في قوله : { مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ
يَنفَعُهُمْ } ومعناها فجمع في قوله « هؤلاء شفعاؤنا » .
قوله : { أَتُنَبِّئُونَ } قرأ بعضهم : « أتُنْبِئون » مخففاً مِنْ أنبأ ، يقال :
أنبأ ونبَّأ كأخبرَ وخبَّر . وقوله : { بِمَا لاَ يَعْلَمُ } « ما » موصولةٌ بمعنى
الذي أو نكرة موصوفة كالتي تقدمت . وعلى كلا التقديرين فالعائد محذوف ، أي : يعلمه
. والفاعل هو ضمير الباري تعالى ، والمعنى : أتنبِّئوون الله بالذي لا يعلمه الله
، وإذا لم يعلم الله شيئاً استحال وجودُ ذلك الشيء ، لأنه تعالى لا يَعْزُب عن
علمه شيء ، وذلك الشيء هو الشفاعة ، ف « ما » عبارة عن الشفاعة .
والمعنى : أن الشفاعةَ لو كانَتْ لَعَلِمَهَا الباري تعالى . وقوله : { فِي
السماوات وَلاَ فِي الأرض } تأكيدٌ لنفيه ، لأنَّ كل موجود لا يَخْرج عنهما .
ويجوزُ أن تكونَ « ما » عبارةً عن الأصنام . وفاعل « يعلمُ » ضميرٌ عائد عليها .
والمعنى : أَتُعَلِّمون اللَّهَ بالأصنامِ التي لا تَعْلَم شيئاً في السموات ولا
في الأرض ، وإذا ثَبَتَ أنها لا تعلم فكيف تشفع؟ والشافع لا بد وأن يعرفَ المشفوعَ
عنده ، والمشفوعَ له ، هكذا أعربه الشيخ ، فجعل « ما » عبارة عن الأصنام لا عن
الشفاعة ، والأول أظهر . و « ما » في « عَمَّا يشركون » يُحتمل أن تكونَ بمعنى الذي
، أي : عن شركائهم الذي يُشْركونهم به في العبادة . أو مصدريةٌ ، أي : عن إشراكهم
به غيره .
وقرأ الأخَوان هنا « عَمَّا يُشْركون » ، وفي النحل موضعين ، الأول : {
سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملائكة } [ الآية : 1 ] ،
والثاني : { بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الآية : 3 ] . وفي الروم : { هَلْ
مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الآية : 40 ] بالخطاب . والباقون بالغَيْبة في الجميع .
والخطاب والغيبة واضحتان .
وأتى هنا ب « يُشْركون » مضارعاً دون الماضي تنبيهاً على استمرار حالِهم كما جاؤوا
يعبدون ، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في
الماضي .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
قوله
تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا } : شرطيةٌ جوابُها « إذا الفجائيةُ في قوله : {
إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ } ، والعاملُ في » إذا « الفجائيةِ الاستقرارُ الذي في » لهم
« . وقد تقدَّم لك خلافٌ في » إذا « هذه : هل هي حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها أو
ظرفُ مكان؟ وقال أبو البقاء : » وقيل : « إذا » الثانية زمانيةٌ أيضاً ، والثانية
وما بعدها جواب الأولى « . وهذا الذي حكاه قولٌ ساقط لا يُفهم معناه .
وقوله : { في آيَاتِنَا } متعلقٌ ب » مَكْر « جعل الآيات مَحَلاًّ للمكر والمبالغة
، ويَضْعف أن يكون الجارُّ صفةً ل » مكر « . وقوله : » مكراً « نصبٌ على التمييز .
وهو واجبُ النصبِ ، لأنك لو صُغْتَ مِنْ » أَفْعل « فعلاً وأَسْنَدْتَه إلى
تمييزِه فاعلاً لصَحَّ أن يُقال : » سَرُع مَكْرُه « وأيضاً فإنَّ شرطَ جوازِ الخفضِ
صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التفضيل نحو : » زيدٌ أحسنُ فقيه « . و » أَسْرَعُ
« مأخوذٌ مِنْ سَرُع ثلاثياً ، حكاه الفارسي . وقيل : بل مِنْ أسرع ، وفي بناء
أفعل وفعلي التعجب مِنْ أفعل ثلاثةُ مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، المنعُ مطلقاً ،
التفضيلُ : بين أن تكونَ الهمزةُ للتعدية فيمتنعَ ، أو لا فيجوزَ ، وتحريرُها في
كتب النحاة . وقال بعضُهم : » أَسْرع هنا ليست للتفضيل « وهذا ليس بشيءٍ إذ السياق
يردُّه . وجعله ابن عطية : أعني كونَ أسرع للتفضيل نظيرَ قوله : » لهي أسودُ مِنَ
القار « . قال الشيخ : » وأما تنظيره « أسود من القار » ب « أسرع » ففاسد/ لأن «
أسود » ليس فعلُه على وزِن أَفْعَل ، وإنما هو على وزن فَعِل نحو : سَوِدَ فهو
أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين مِنْ نحو سَوِدَ
وحَمِرَ وأَدِمَ إلا لكونه لوناً . وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً ،
وبعضهم في السواد ، والبياض فقط « ، قلت : تنظيره به ليس بفاسد ، لأنَّ مرادَه
بناءُ أفعل مما زاد على ثلاثة أحرف وإن لم يكن على وزن أَفْعَل ، وسَوِد وإن كان
على ثلاثةٍ لكنه في معنى الزائد على ثلاثة ، إذ هو في معنى أسود ، وحَمِرَ في معنى
أحمر ، نصَّ على ذلك النحويون ، وجعلوه هو العلةَ المانعةَ من التعجب في الألوان .
وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد والأعرج ونافعٌ في روايةٍ : » يَمْكرون « بياء الغيبة
جَرْياً على ما سَبَق . والباقون بالخطابِ مبالغةً في الإِعلام بمكرهم والتفاتاً
لقوله : » قل الله « ، إذ التقديرُ : قل لهم ، فناسَبَ الخطابَ . وفي قوله : » إنْ
رسلَنا « التفاتٌ أيضاً ، إذ لو جرى على قوله : » قل الله « ، لقيل : إنَّ رسله .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
قوله
تعالى : { يُسَيِّرُكُمْ } : قراءةُ ابنِ عامر مِن النَّشْر ضد الطيّ ، والمعنى :
يُفَرِّقكم ويَبُثُّكم . وقرأ الحسن : « يُنْشِركم » مِنْ أَنْشَر ، أي : أَحْيا
وهي قراءةُ ابنِ مسعود أيضاً . وقرأ بعض الشاميين « يُنْشِّركم » بالتشديد للتكثير
مِن النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار . وقرأ الباقون « يُسَيِّركم » من التَّسْيير
، والتضعيفُ فيه للتعديةِ تقول : سار الرجل وسَيَّرْتُه أنا . وقال الفارسي : « هو
تضعيفُ مبالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ ، لأنَّ العربَ تقول : » سِرْتُ الرجلَ وسيَّرته
« ، ومنه قول الهذلي :
2575 فلا تجزعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتها ... فأولُ راضٍ سنةٍ مَنْ يَسِيْرُها
وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر؛ لأن الأكثر في لسان العرب أنَّ » سار « قاصرٌ ،
فَجَعْلُ المضعفِ مأخوذاً من الكثير أَوْلَى . وقال ابنُ عطية : » وعلى هذا البيتِ
اعتراضٌ حتى لا يكونَ شاهداً في هذا ، وهو أن يكون الضميرُ كالظرفُ ، كما تقول : «
سِرْتُ الطريق » . قال الشيخ : « وأمَّا جَعْلُ ابن عطية الضميرَ كالظرفِ كما تقول
: » سِرْتَ الطريقَ « فهذا لا يجوزُ عند الجمهور ، لأنَّ » الطريقَ « عندهم ظرفٌ
مختصٌّ كالدار فلا يَصِلُ إليها الفعلُ غيرَ » دخلت « عند سيبويه ، و » انطلقت « و
» ذهبت « عند الفراء إلا بوساطة » في « إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميرُه
أَحْرى أَنْ لا يتعدى إليه الفعل » . وزعم ابن الطراوة أنَّ « الطريق » ظرفٌ غيرُ
مختصٍ فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه ، وأباه النحاة .
قوله : { حتى إِذَا } « حتى » متعلقةٌ ب « يُسَيِّركم » . وقد تقدَّم الكلامُ على
« حتى » هذه الداخلةِ على « إذا » وما قيل فيها . قال الزمخشري : « كيف جَعَلَ
الكونَ في الفلك غايةَ التسييرِ في البحر ، والتسيُير في البحر إنما هو بالكون في
الفُلْك؟ قلت : لم يجعلِ الكونَ في الفلك غايةَ التسيير ، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ
الشرطيةِ الواقعةِ بعد » حتى « بما في حيِّزها كأنه قال : يُسَيِّركم حتى إذا وقعت
هذه الحادثةُ فكان كيت وكيتَ مِنْ مجيء الريحِ العاصفةِ وتراكُمِ الأمواج والظن
للهلاك والدعاء بالإِنجاء » .
وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء « في الفُلْكيّ » بياء النسب . وتخريجُها
يَحْتمل وجهين ، أحدهما : أن يُراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ الذي لا يَجْْري
الفُلْكُ إلا فيه ، كأنه قيل : كنتم في اللُّلجِّ الفُلْكِيِّ ، ويكونُ الضمير في
« جَرَيْنَ » عائداً على الفلك لدلالةِ « الفلكي » عليه لفظاً ولزوماً . والثاني :
أن يكونَ من باب النسبةِ إلى الصفة لقولهم : « أَحْمَريّ » كقوله :
2576 أَطَرَباً وأنت قِنَّسْرِيُّ ... والدهرُ بالإِنسان دوَّارِيُّ
وكنِسْبَتهم
إلى العَلَم في قولهم : « الصَّلَتَانيّ » كقوله :
2577 أَنَا الصَّلَتَانِيُّ الذي قد عَلِمْتُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
فزاد ياءَي النسبِ في اسمه .
قوله : { وَجَرَيْنَ } يجوز أن يكونَ نسقاً على « كنتم » ، وأن يكونَ حالاً على
إضمار « قد » . والضميرُ عائدٌ على « الفلك » ، والمرادُ به هنا الجُمع ، وقد
تقدَّم أنه مكسرَّ ، وأن تغييره تقديريٌّ ، فضمَّتُه كضمةِ « بُدْن » ، وأنه ليس
باسم جمع ، كما زعم الأخفش .
وقوله : { بِهِم } فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة . قال الزمخشري : / « فإن
قلت : ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت : المبالغةُ كأنه
يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح » .
وقال ابن عطية : « بهم » خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله : {
كُنتُمْ فِي الفلك } هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن « انتهى
. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف ، فالضميرُ الغائب يعود عليه .
ومثلُه { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ النور : 40
] تقديره : أو كذي ظلمات » وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ . وقال الشيخ : «
والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ }
خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين ، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون
وكفَّار ، والخطابُ شاملٌ ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ ،
ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا
نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين
بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق »
قوله : { بِرِيحٍ } متعلقٌ ب « جَرَيْنَ » ، فيقال : كيف يتعدى فعلٌ واحدٌ إلى
معمولَيْن بحرفِ جرٍ متحدٍ لفظاً ومعنى؟ . فالجوابُ أن الباءَ الأولى للتعدية كهي
في « مررت بزيد » والثانية للسبب فاختلف المعنيان ، فلذلك تعلَّقا بعاملِ واحدٍ .
يجوز أن تكونَ الباءُ الثانيةُ للحالِ فتتعلقَ بمحذوف ، والتقدير : جَرَيْنَ بهم
ملتبسةً بريح ، فتكونُ الحالُ من ضمير الفلك .
قوله : { وَفَرِحُواْ بِهَا } ، يجوز أن تكون هذه الجملةُ نَسَقاً على « جَرَيْنَ
» ، وأن تكونَ حالاً ، و « قد » معها مضمرةٌ عند بعضهم ، أي : وقد فَرِحوا ،
وصاحبُ الحال الضمير في « بهم » .
قوله : { جَآءَتْهَا } الظاهرُ أن هذه الجملةَ الفعلية جواب « إذا » ، وأن الضميرَ
في « جاءَتْها » ضميرُ الريح الطيبة ، أي : جاءَتِ الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصفٌ ، أي
: خَلَفَتْها . وبهذا بدأ الزمخشري ، وسبقه إليه الفراء وجَوَّز أن يكونَ الضميرُ
للفلك ، ورجَّح هذا بأن الفُلْكَ هو المُحَدَّث عنه .
قوله : { وظنوا } يجوز أن يكونَ معطوفاً على « جاءتها » الذي هو جوابُ « إذا » ،
ويجوز أن يكونَ معطوفاً على « كنتم » وهو قولُ الطبريّ ولذلك قال : « وظنُّوا »
جوابُه « دَعَوا الله » .
قال
الشيخ : « ظاهره العطف على جواب » إذا « لا أنَّه معطوفٌ على » كنتم « لكنه محتمل
كما تقول : » إذا زارك فلانٌ فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسِنْ إليه « وأنَّ أداةَ
الشرط مذكورة » . وقرأ زيد ابن عليّ « حِيط » ثلاثياً .
قوله : { دَعَوُاْ الله } ، قال أبو البقاء : « هو جواب ما اشتمل عليه المعنى مِنْ
معنى الشرط ، تقديره : لما ظَنُّوا أنهم أُحيط بهم دَعَوُا الله » ، وهذا كلامٌ
فارغ . وقال الزمخشري : « هي بدلٌ مِنْ » ظنُّوا « لأنَّ دعاءهم مِنْ لوازم ظنِّهم
الهلاكَ فهو متلبسٌ به » . ونقل الشيخ عن شيخه أبي جعفر أنه جوابٌ لسؤال مقدر ،
كأنه قيل : فماذا كان حالُهم إذ ذاك؟ فقيل : دَعَوُا الله « . و » مخلصين « حال .
و » له « متعلقٌ به . و » الدين « مفعوله .
قوله : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } اللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوف ، و » لنكونَنَّ «
جوابه ، والقسمُ وجوابهُ في محل نصب بقول مقدر ، وذلك القولُ المقدرُ في محلِّ
نصبٍ على الحال ، والتقدير : دَعَوا قائلين : لئن أَنْجَيْتنا من هذه لنكوننَّ .
ويجوزُ أن يجرى » دَعَوا « مجرى » قالوا « ، لأن الدعاء بمعنى القول ، إذ هو نوعٌ
مِنْ أنواعه ، وهو مذهب كوفي .
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قوله
تعالى : { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } : جوابُ « لمَّا » ، وهي « إذا » الفجائية .
وقوله : « بغير الحق » حالٌ ، أي : ملتبسين بغير الحق . قال الزمخشري : « فإنْ
قلتَ : ما معنى قوله : » بغير الحق « والبغيُ لا يكونُ بحق؟ قلت : بلى وهو استيلاء
المسلمين على أرضِ الكفار وهَدْمُ دورِهم وإحراقُ زروعِهم وقَطْعُ أشجارهم ، كما
فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة » ، وكان قد فَسَّر البغيَ بالفسادِ
والإِمعان فيه ، مِنْ « بغى الجرحُ : إذا ترامى للفساد » . ولذلك قال الزجاج : «
إنه الترقّي في الفساد » ، وقال الأصمعيُّ أيضاً : « بغى الجرحُ : ترقى إلى الفساد
، وبَغَت المرأة : فَجَرَت » ، قال الشيخ/ « ولا يَصِحُّ أن يُقال في المسلمين
إنهم باغُون على الكفرة ، إلا إنْ ذُكر أنَّ صلَ البغيِ هو الطلبُ مطلقاً ، ولا
يتضمَّن الفسادَ ، فحينئذ ينقسم إلى طلبٍ بحق وطلب بغير حق » ، قلت : وقد تقدَّم
أنَّ هذه الآيةَ تَرُدُّ على الفارسي أنَّ « لمَّا » ظرف بمعنى حين؛ لأن ما بعد «
إذا » الفجائية لا يَعْمل فيما قبلها ، وإذ قد فَرَضَ كونَ « لمَّا » ظرفاً لزمَ
أن يكونَ لها عاملٌ .
قوله : { مَّتَاعَ الحياة } قرأ حفص « متاعَ » نصباً ، ونصبُه على خمسة أوجه ،
أحدُها : أنه منصوب على الظرف الزماني نحو « مَقْدَم الحاج » ، أي : زَمَن متاع
الحياة . والثاني : أنه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : مُتَمتعين .
والعاملُ في هذا الظرف وهذه الحالِ الاستقرار الذي في الخبر ، وهو « عليكم » . ولا
يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر لأنه يلزم منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر
، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلا بعد تمامِ صلته . والثالث : نصبُه
على المصدرِ المؤكِّد بفعلٍ مقدر ، أي : يتمتعون متاع الحياة . الرابع : أنه منصوبٌ
على المفعول به بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر ، أي : يبغون متاعَ الحياة . ولا
جائزٌ أن ينتصِبَ بالمصدر لِما تقدم . الخامس : أن ينتصب على المفعولِ مِنْ أجله ،
أي : لأجلِ متاع والعامل فيه : إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في « عليكم » ، وإمَّا
فعلٌ مقدر . ويجوز أن يكونَ الناصبُ له حالَ جعله ظرفاً أو حالاً او مفعولاً من
أجله نفسَ البغي لا على جَعْل « على أنفسكم » خبراً بل على جَعْله متعلقاً بنفس
البغي ، والخبرُ محذوفٌ لطول الكلام ، والتقدير : إنما بَغْيُكم على أنفسكم متاعَ
الحياة مذومٌ أو مكروهٌ أو منهيٌّ عنه .
وقرأ باقي السبعة « متاعُ » بالرفع . وفيه أوجه ، أحدُها : وهو الأظهر أنه خبرُ «
بَغْيكم » و « على أنفسِكم » متعلقٌ بالبغي .
ويجوز
أن [ يكونَ ] « عليكم » خبراً ، و « متاع » خبراً ثانياً ، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ
مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو متاع . ومعنى « على أنفسكم » ، أي : على بعضِكم وجنسِكم
كقوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ
} [ الحجرات : 11 ] ، أو يكونُ المعنى : إنَّ وبالَ البغي راجعٌ عليكم لا
يتعدَّاكم كقولِه : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] { وَمَنْ أَسَآءَ
فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] .
وقرأ ابنُ أبي إسحاق « متاعاً الحياة » بنصب « متاعاً » و « الحياةَ » . ف «
متاعاً » على ما تقدَّم . وأما « الحياة » فيجوز أن تكونَ مفعولاً بها ، والناصب
لها المصدر ، ولا يجوز والحالةُ هذه أن يكونَ « متاعاً » مصدراً مؤكداً لأنَّ
المؤكِّد لا يعمل . ويجوزُ أَنْ تنتصبَ « الحياة » على البدل من « متاعاً » لأنها
مشتملةٌ عليه .
وقُرىء أيضاً « متاعِ الحياة » بجرِّ « متاع » ، وخُرِّجت على النعت لأنفسكم ، ولا
بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذ تقديرُه : على أنفسكم ذواتِ متاع الحياة ، كذا خرَّجه
بعضهم . ويجوز أن يكونَ ممَّا حُذِف منه حرفُ الجر وبقي عملُه ، أي : إنما
بَغْيُكم على أنفسِكم لأجِل متاع ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ النصب في وجه مَنْ يجعله
مفعولاً من أجله ، وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ عملِه قليلٌ ، وهذه القراءةُ لا
تتباعَدُ عنه . وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ بمعنى اسم الفاعل ،
أي : متمتعات » يعني أنه يَجْعل المصدرَ نعتاً ل « أنفسكم » من غيرِ حَذْفِ مضافٍ
بل على المبالغة أو على جَعْلِ المصدر بمعنى اسم الفاعل . ثم قال : « ويَضْعُفُ أن
يكونَ بدلاً إذ أمكن أن يُجْعَلَ صفةً » ، قلت : وإذا جُعِل بدلاً على ضعفه فمِنْ
أيِّ قبيل البدلِ يُجعل؟ والظاهر أنه مِنْ بدل الاشتمال ، ولا بد من ضميرٍ محذوفٍ
حنيئذ ، أي : متاع الحياة الدنيا لها .
وقرىء « فيُنَبِّئَكُم » بياءِ الغَيْبة ، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى .
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
قوله
تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ } : هذه الجملةُ سِيْقَتْ لتشبيهِ الدنيا بنباتِ الأرض
، وقد شَرَحَ الله تعالى وجهَ التشبيه بما ذكر . قال الزمخشري : « وهذا مِنْ/
التشبيهِ المركب ، شُبِّهَتْ حالُ الدنيا في سرعةِ تَقَضِّيها وانقراضِ نعيمِها
بعد الإِقبال بحالِ نبات الأرض في جَفَافه وذهابه حُطاماً بعدما التفَّ وتكاتَف
وزيَّن الأرض بخضرتِه ورفيفه » ، قلت : التشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين : إمَّا
أن يكون طرفاه مركبين ، أي : تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد :
2578 كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُهْ
وذلك أنه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مشرقة مستطيلةٍ متناسبةِ
المقدارِ متفرقةٍ في جوانبِ شيءٍ مظلم بليلٍ سقطت كواكبُه ، وإمَّا أن يكونَ طرفاه
مختلفَيْن بالإِفراد والتركيب . وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع .
وقوله : { كَمَآءٍ } هو خبرُ المبتدأ ، و « أنزلناه » صفةٌ ل « ماء » ، و « من
السماء » متعلقٌ ب « أَنْزلناه » ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب .
وقوله : « فاختلطَ به » في هذه الباءِ وجهان ، أحدهما : أنها سببيَّةٌ . قال
الزمخشري : « فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً » ، وقال ابن عطية : « وَصَلَتْ
فِرْقَةٌ » النباتَ « بقوله : » فاختلط « ، أي : اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب
الماء » . والثاني : أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرى الغذاء له فهو
مصاحبه . وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه : « فاختلط » على أن الفعلَ ضميرٌ عائد
على الماء ، وتَبْتَدىء { بِهِ نَبَاتُ الأرض } على الابتداء والخبر . والضمير في
« به » على هذا يجوز عَوْدُه على الماء ، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه
الفعل ، قاله ابن عطية . قال الشيخ : « الوقف على قوله : » فاختلط « لا يجوزُ ،
وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ ، وذهابٌ إلى
اللُّغْز والتعقيد » .
قوله : { مِمَّا يَأْكُلُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب « اختلط » وبه قال
الحوفي . والثاني : أنه حالٌ من « النبات » وبه قال أبو البقاء ، وهو الظاهرُ ،
والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة ، أي : كائناً أو مستقراً ممَّا يأكل .
ولو قيل « مِنْ » لبيان الجنس لجاز . وقوله : « حتى » غايةٌ فلا بد لها من شيءٍ
مُغَيَّا ، والفعلُ الذي قبلها وهو « اختلط » لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ
زمنهِ .
فقيل : ثَمَّ فعل محذوف ، أي : لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت . وقيل :
يُتَجَوَّزُ في « فاختلط » بمعنى : فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت . و « إذا »
بعد « حتى » هذه تقدَّم التنبيهُ عليها .
قوله
: { وازينت } قرأ الجمهور « ازَّيَّنَتْ » بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء ،
والأصلُ « وتَزَيَّنت » فلمَّا أريد إدغامُ التاء في الزاي بعدها قُلبت زاياً
وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار « ازَّيَّنت » كما
ترى ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه تعالى : { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72
] . وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش « وتَزَيَّنَتْ » على
تَفَعَّلَتْ ، وهو الأصلُ المشار إليه . وقرأ سعد ابن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر
والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي : « وأَزْيَنَتْ
على وزن أَفْعلَتْ وأفْعَل هنا بمعنى صار ذا كذا كأَحُصَدَ الزرعُ وأَغَدَّ
البعيرُ ، والمعنى : صارت ذا زينة ، أي : حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ
الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفاً فيقال : أَزَانَتْ ، كأَنَابت فَتُعَلُّ
بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفاً كما
تقدَّم ذلك في نحو : أقام وأناب ، إلا أنها صَحَّتْ شذوذاً كقولِه : » أَغْيَمت
السماء ، وأَغْيَلَت المرأة « ، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو : { استحوذ } [
المجادلة : 19 ] وقياسُه استحاذَ كاستقام .
وقرأ أبو عثمان النهدي وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة » وازْيَأَنَّتْ « بهمزة
وصل بعدها زايٌ ساكنة ، / بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة ، بعدها همزةٌ مفتوحة ، بعدها
نون مشددة . قالوا : وأصلها : وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة ، ولكنهم
كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة » الضألّين « و » جَأَنْ
« . وعليه قولهم : » احمأرَّت « بالهمز وأنشد :
2579 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ
احمأرَّتِ
وقد تقدم لك هذا مشبعاً في أواخر الفاتحة . وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : »
وازْيأنَّتْ « بالأصل المشار إليه ، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي . وقرىء »
وازَّايَنَتْ « والأصلُ : تزاينت فأدغم .
وقوله : { أَهْلُهَآ } ، أي : أهل نباتها . و » أتاها « هو جوابُ » إذا « فهو
العاملُ فيها . وقيل : الضميرُ عائد على الزينة . وقيل : على الغَلَّة ، أي :
القُوت فلا حَذْفَ حينئذ .
و » ليلاً ونهاراً « ظرفان للإِتيان أو للأمر . والجَعْل هنا تصيير . وحصيد : فعيل
بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم : امرأة جريح
.
قوله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول »
جَعَلْناها « الأول ، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر . وقرأ مروان ابن الحكم
» تتغَنَّ « بتاءين بزنة تنفَعَّل ، ومثله قول الأعشى :
2580 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... طويلَ الثَّواءِ طويلَ
التَّغَنّ
وهو بمعنى الإِقامة ، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف . وقرأ الحسن وقتادة { كأن لم
يَغْنَ } بياء الغيبة ، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أجودُها : أن يعودَ على
الحصيد لأنه أقرب مذكور . وقيل : يعودُ على الزخرف ، أي : كأن لم يَقُم الزخرف .
وقيل : يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً ، أي : كأن لم يَغْنَ
زَرْعُها ونباتها .
و » بالأمس « المرادُ به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك ، فهو كقول زهير :
2581 وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ
لم يَقْصد بها حقائقَها ، والفرقُ بين الأَمْسَيْن أن الذي يراد به قبل يومِك
مبنيٌّ لتضمُّنه معنى الألف واللام ، وهذا مُعْرب تدخل عليه أل ويضاف .
وقوله : { كذلك نُفَصِّلُ } نعت مصدر محذوف ، أي : مثل هذا التفصيل الذي
فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
قوله
تعالى : { وَلاَ يَرْهَقُ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مستأنفةٌ . والثاني :
أنها في محل نصب على الحال ، والعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه الجارُّ
، وهو « للذين » لوقوعه خبراً عن « الحسنى » قاله أبو البقاء ، وقدَّره بقوله : «
استقرَّ لهم الحسنى مضموماً لهم السَّلامة » ، وهذا ليس بجائز لأن المضارعَ متى
وقع حالاً منفيَّاً ب « لا » امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت ، وإن وَرَدَ ما
يُوهم ذلك يُؤَوَّل بإضمار مبتدأ ، وقد تقدم تحقيقُه غيرَ مرة . والثالث : أنه في
محلِّ رفع نسقاً على « الحسنى » ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدري يَصِحُّ
جَعْلُه معه مخبراً عنه بالجارّ ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى ، وأنْ لا يرهق
، أي : وعدم رَهَقِهم ، فلمَّا حُذِفت « أن » رُفع الفعلُ المضارع لأنه ليس من
مواضع إضمار « أنْ » ناصبة وهذا كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [
الروم : 24 ] ، أي : أن يُرِيَكم ، وقوله : « تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن
تراه » ، وقوله :
2582 ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
أي : أن أحضر . رُوي برفع « أحضر » ونصبه . ومنع أبو البقاء هذا الوجه ، فقال : «
ولا يجوز أن يكون معطوفاً على » الحسنى « لأن الفعل إذا عُطِفَ على المصدر احتاج
إلى » أَنْ « ذِكْراً أو تقديراً ، و » أنْ « غيرُ مقدرة لأن الفعلَ مرفوع » ،
فقوله : « وأَنْ غيرُ مقدرةٍ ، لأن الفعل مرفوع » ليس بجيد لأن قوله تعالى : {
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] معه « أنْ » مقدرة مع أنه مرفوع ، ولا
يَلْزم من إضمار « أنْ » نصب المضارع ، بل المشهورُ أنه إذا أُضْمرت « أن » في غير
المواضع التي نصَّ النحويون على إضمارها ناصبة ارتفعَ الفعلُ ، والنصبُ قليلٌ جدا
.
والرَّهَق : الغِشْيان . يقال : رَهِقَه يَرْهَقُه رَهَقا ، أي : غَشِيَهُ بسرعة ،
ومنه { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي } [ الكهف : 37 ] { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً
وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] / يقال : رَهِقْتُه وأَرْهَقْتُه نحو : رَدِفْتُه
وأَرْدَفْتُه ، فَفَعَل وأَفْعل بمعنىً ، ومنه : « أَرْهَقْت الصلاةَ » إذا
أخَّرْتَها حتى غَشِي وقتُ الأخرى ، ورجلٌ مُرْهَق ، أي : يغشاه الأضياف . وقال
الأزهري : « الرَّهَق » اسمٌ من الإِرهاق ، وهو أن يَحْمِلَ الإِنسانُ على نفسه ما
لا يُطيق ، ويقال : « أَرْهَقْتُه عن الصلاة » ، أي : أَعْجَلْتُه عنها . وقال
بعضهم . أصلُ الرَّهَق : المقاربة ، ومنه غلامٌ مراهِق ، أي : قارب الحُلُم ، وفي
الحديث : « ارهَقُوا القِبلة » ، أي : اقرُبوا منها ، ومنه « رَهِقَتِ الكلابُ
الصيدَ » ، أي : لحقته .
والقَتَر والقَتَرة : الغبار معه سوادٌ وأنشدوا للفرزدق :
2583 مُتَوَّجٌ برِداء المُلك يَتْبَعُه ... موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقترا
أي : غبار العسكر . وقيل : القَتَرُ : الدخان ، ومنه « قُتار القِدْر » . وقيل :
القَتْر : التقليل ومنه { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ]
، ويقال : قَتَرْتُ الشيء وأَقْتَرْتُه وقتَّرته ، أي : قَلَّلْته ، ومنه {
وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] ، وقد تقدم . والقُتْرَةُ : ناموس
الصائد . وقيل : الحفرة ، ومنه قول امرىء القيس :
2584 رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ
أي : في حفرته التي يَحْفرها . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء والأعمش «
قَتْرٌ » بسكونِ التاء وهما لغتان قَتْر وقَتَرَ كقَدْر وقَدَر .
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
قوله
تعالى : { والذين كَسَبُواْ } : فيه سبعةُ أوجه : أحدُها : « أن يكونَ » والذين «
نسقاً على » للذين أحسنوا « أي : للذين أحسنوا الحسنى ، واللذين كسبوا السيئاتِ
جزاءُ سيئةٍ بمثلها ، فيتعادل التقسيم كقولك : » في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ « ،
وهذا يسميه النحويون عطفاً على معمولي عاملين . وفيه ثلاثة مذاهب ، أحدها : الجواز
مطلقاً ، وهو قول الفراء . والثاني : المنعُ مطلقاً وهو مذهب سيبويه . والثالث :
التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو : » في الدار زيد والحجرةِ عمرو « ، فيجوز ،
أو لا ، فيمتنع نحو : » إن زيداً في الدار وعمراً القصر « ، أي : وإن عمراً في
القصر . وسيبويه وأتباعه يُخَرِّجون ما ورد منه على إضمار الجارِّ كقوله تعالى : {
واختلاف الليل والنهار . . . لآيَاتٍ } [ الجاثية : 5 ] بنصب » آيات « في قراءة
الأخوين على ما سيأتي ، وكقوله :
2585 أكلَّ امرىءٍ تحسبين امرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل نارا
وقول الآخر :
2586 أَوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قلباً حُرَّاً ... بالكلبِ خيراً والحماةِ شَرَّا
وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف . وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ
مجرور عطفاً على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري . الثاني : أن »
الذين « مبتدأ ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ ، وخبره » بمثلها « ، والباء فيه زائدة ،
أي : وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله :
2587 فلا تطمعْ أبيت اللعنَ - فيها ... ومَنْعُكها بشيءٍ يُسْتطاع
أي : شيء يستطاع ، كقول امرىء القيس :
2588 فإن تَنْأَ عنها حقبةً لا تلاقِها ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثْتَ بالمجرِّب
أي : المجرِّب ، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية . الثالث : أن الباءَ ليست بزائدةٍ
والتقدير : مُقَدَّر بمثلها أو مستقر بمثلها ، والمبتدأ الثاني وخبرُه خبرٌ عن
الاول . الرابع : أن خبرَ » جزاء سيئة « محذوفٌ ، فقدَّره الحوفي بقوله : » لهم
جزاء سيئة « قال : ودَلَّ على تقدير » لهم « قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ
الحسنى } حتى تتشاكلَ هذه بهذه . وقدَّره أبو البقاء : جزاء سيئة بمثلها واقع ،
وهو وخبره أيضاً خبر عن الأول . وعلى هذين التقديرين فالباءُ متعلقةٌ بنفس جزاء ،
لأن هذه المادةَ تتعدَّى بالباء ، قال تعالى : { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ }
[ سبأ : 17 ] { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } [ الإنسان : 12 ] إلى غير ذلك . فإن
قلت : أين الرابطُ ين هذه الجملةِ والموصولِ الذي هو المبتدأ؟ ، قلت : على تقديرِ
الحوفي هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً ، وعلى تقديرِ أبي البقاء هو
الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً ، وعلى تقدير أبي البقاء هو محذوف/ تقديرُه :
جزاءُ سيئة بمثلها منهم واقعٌ ، نحو : » السَّمْن مَنَوان بدرهم « وهو حَذْفٌ
مُطَّرد لِما عرفْتَه غيرَ مرة .
الخامس : أن يكونَ الخبرُ الجملةَ المنفية من قوله : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله
مِنْ عَاصِمٍ } ، ويكون » مِنْ عاصم « إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على
النفي ، وإمَّا مبتدأً ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه ، و » مِنْ « مزيدة فيه على
كلا القولين .
و
« من الله » متعلقٌ ب « عاصم » . وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فَصَلَ
بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ . وفي ذلك خلافٌ عن الفارسي تقدَّم التنبيهُ
عليه وما استدلَّ به عليه .
السادس : أن الخبرَ هو الجملةُ التشبيهية من قوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ } ، و « كأنما » حرف مكفوف ، و « ما » هذه زائدة تسمَّى كافَّةً
ومهيِّئة ، وتقدَّم ذلك . وعلى هذا الوجه فيكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره
بثلاثِ جملِ اعتراض .
السابع : أن الخبر هو الجملة من قوله : { أولئك أَصْحَابُ النار } ، وعلى هذا
القولِ فيكونُ قد فصل بأربعِ جمل معترضة وهي : { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا }
، والثانية : « وتَرْهَقُهم ذلة » ، والثالث : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ
عَاصِمٍ } ، الرابع : « كأنما أُغْشيت » . وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاثِ جملٍ
فضلاً عن أربع .
وقوله : { وَتَرْهَقُهُمْ } فيها وجهان أحدهما : أنها في محل نصب على الحال . ولم
يُبَيِّنْ أبو البقاء صاحبَها ، وصاحبُها هو الموصولُ أو ضميرُه . وفيه ضعفٌ
لمباشرته الواو ، إلا أن يُجْعَلَ خبرَ مبتدأ محذوف . الثاني : أنها معطوفة على «
كسبوا » . قال أبو البقاء : « وهو ضعيف لأن المستقبلَ لا يُعْطَفُ على الماضي .
فإن قيل : هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً » . وقرىء : « ويَرْهقهم » بالياء من تحت ،
لأنَّ تأنيثَها مجازي .
قوله : { قِطَعاً } قرأ ابن كثير والكسائي « قِطْعاً » بسكون الطاء ، والباقون
بفتحها . فأما القراءة الأولى فاختلفت عبارات الناس فيها ، فقال أهل اللغة : «
القِطْع » ظلمة آخر الليل . وقال الأخفش في قوله : « بقِطْع من الليل » بسواد من
الليل . وقال بعضهم : « طائف من الليل » ، وأنشد الأخفش :
2589 افتحي الباب فانظري في النجومِ ... كم علينا من قِطْعِ ليلٍ بَهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ « قِطْعة » نحو : دِمْنة وَدِمَن ، وكِسْرة وكِسَر
وعلى القراءتين يختلف إعراب « مظلماً » ، فإنه على قراءةِ الكسائي وابن كثير يجوز
أن يكونَ نعتاً ل « قِطْعاً » ، ووُصِف بذلك مبالغةً في وَصْف وجوهِهم بالسواد ،
ويجوز أن يكونَ حالاً فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه حالٌ من « قِطْعاً » ، وجاز
ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو « من الليل » ، والثاني : أنه حالٌ من «
الليل » ، والثالث : أنه حالٌ من الضميرِ المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة .
قال الزمخشري : « فإن قلت : إذا جعلت » مظلماً « حالاً من » الليل « فما العاملُ
فيه؟ قلت : لا يخلو : إما أن يكونَ » أُغْشِيَتْ « من قِبل أنَّ » من الليل « صفةٌ
لقوله : » قِطْعاً « ، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة ، وإما أن
يكونَ معنى الفعل في » من الليل « .
قال
الشيخ : « أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصلَ أن يكون العاملُ في الحال هو
العاملَ في ذي الحال ، والعاملُ في » من الليل « هو الاستقرار ، و » أُغْشِيَتْ «
عاملٌ في قوله : » قطعاً « الموصوف بقوله : » من الليل « فاختلفا ، فلذلك كان
الوجهُ الأخير أَوْلى ، أي : قطعاً مستقرةً من الليل ، أو كائنةً من الليل في حال
إظلامه » . قلت : ولا يَعْني الزمخشري بقوله : « إنَّ العامل أُغْشِيَتْ » إلا
أنَّ الموصوفَ وهو « قِطْعاً » معمول لأُِغْشِيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في
الصفة ، والصفة هي « من الليل » فهي معمولةٌ ل « أُغْشِيَتْ » ، وهي صاحبةُ الحال
، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال ، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال
هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ . ويجوز أن يكونَ « قِطْعاً » جمع قطعة ، أي :
اسم جنس ، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو : « نَخْلٌ مُنْقَعِر » والتأنيث نحو :
« نخل خاوية » .
وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره : « إنَّ » مظلماً « حال من » الليل « فقط .
ولا يجوز أن يكون صفةً ل » قِطَعاً « ، ولا حالاً منه ، ولا من الضمير في » من
الليل « ، لأنه كان يجب أن يقال فيه : مظلمة » . قلت : يَعْنُون أنَّ الموصوف
حينئذ جمعٌ ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ . وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا
: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير ، وهذا فيه تعسُّفٌ .
وقرأ أُبَي/ { تغشى وجوهَهم قِطْعٌ } بالرفع ، « مظلمٌ » . وقرأ ابن أبي عبلة كذلك
، إلا أنه فتح الطاء . وإذا جَعَلْتَ « مُظْلماً نعتاً ل » قطعاً « ، فتكون قد
قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح . قال ابن عطية : » فإذا كان نعتاً يعني
مظلماً نعتاً لقطع فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة ، ولكن قد يجيءُ بعد هذا ، وتقدير
الجملة : قطعاً استقرَّ من الليل مظلماً على نحو قوله : { وهذا كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] . قال الشيخ : « ولا يتعيَّنُ تقديرُ
العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة ، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من
قبيل الوصف بالمفرد ، والتقدير : قطعاً كائناً من الليل مظلماً » . قلت : المحذورُ
تقديمُ غيرِ الصريحِ على الصريح ولو كان مقدَّراً بمفرد .
و « قطعاً » منصوبٌ ب « أُغْشِيَتْ » مفعولاً ثانياً .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
قوله
تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } : « يوم » منصوب بفعلٍ مقدر ، أي : خَوِّفْهم ،
أو ذكِّرْهم يوم . والضميرُ عائد على الفريقين ، أي : الذين أحسنوا والذين كسبوا .
و « جميعاً » حال . ويجوز أن تكون تأكيداً عند مَنْ عَدَّها مِنْ ألفاظ التأكيد .
قوله : { مَكَانَكُمْ } ، « مكانكم » اسمُ فعل ، ففسَّره النحويون ب « اثبتوا »
فيحمل ضميراً ، ولذلك أُكِّد بقوله : « أنتم » وعُطِف عليه « شركاؤكم » ، ومثله
قول الشاعر :
2590 وقَوْلِي كلما جَشَأَتْ وجاشَتْ ... مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتريحي
أي : اثبتي ، ويدلُّ على جزمُ جوابِه وهو « تُحْمَدي » . وفسَّره الزمخشري ب «
الزموا » قال : « مكانكم » أي : الزموا مكانكم ، ولا تَبْرحوا حتى تنظروا ما
يُفْعل بكم « . قال الشيخ : » وتقديره له ب « الزموا » ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك
لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنه ، فإنَّ اسمَ الفعلِ يُعامل معاملةَ مسمَّاه ،
ولذلك لمَّا قدَّروا « عليك » بمعنى « الزم » عدَّوْه تعديتَه نحو : عليك زيداً .
و [ عند ] الحوفي « مكانكم » نُصب بإضمار فعل ، أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا « .
قلت : فالزمخشري قد سُبِق بهذا التفسير . والعذرُ لمَنْ فسَّره بذلك أنه قصد تفسير
المعنى ، وكذلك فَسَّره أبو البقاء فقال : » مكانكم « ظرفٌ مبنيٌّ لوقوعِه موقعَ
الأمر ، أي : الزموا » .
وهذا الذي ذكره مِنْ كونه مبنياً فيه خلاف للنحويين : منهم مَنْ ذهب إلى ما ذَكَر
، ومنهم مَنْ ذهب إلى أنها حركةُ إعراب ، وهذان الوجهان مبنيَّان على خلافٍ في
أسماء الأفعال : هل لها محلٌّ من الإِعراب أو لا؟ ، فإن قلنا لها محلٌّ كانت
حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب ، وإن قلنا : لا موضع لها كانت حركاتِ بناء . وأمَّا
تقديرُه ب « الزموا » فقد تقدَّم جوابه .
وقوله : { أَنتُمْ } فيه وجهان أحدهما : أنه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرفِ
لقيامِه مقامَ الفاعلِ كما تقدَّم التنبيه عليه . والثاني : أجازه ابن عطية ، وهو
أن يكونَ مبتدأً ، و « شركاؤكم » معطوف عليه ، وخبرُه محذوفٌ قال : « تقديرُه :
أنتم وشركاؤكم مُهاون أو مُعَذَّبون » ، وعلى هذا فيُوقَفُ على قوله : « مكانكم »
ثم يُبتدأ بقوله : « أنتم » ، وهذا لا يَنْبغي أن يقال ، لأن فيه تفكيكاً لأفصحِ
كلام وتبتيراً لنظمه من غير داعيةٍ إلى ذلك ، ولأن قراءةَ مَنْ قرأ « وشركاءَكم »
نصباً تدل على ضعفه ، إذ لا تكونُ إلا من الوجه الأول ، ولقولِه : « فزيَّلْنا
بينهم » ، فهذا يدلُّ على أنهم أُمِروا هم وشركاؤهم بالثبات في مكانٍ واحدٍ حتى
يحصلَ التَّزْيِِيْلُ بينهم .
وقال ابن عطية أيضاً : « ويجوزُ أن يكون » أنتم « تأكيداً للضمير الذي في الفعل
المقدر الذي هو » قفوا « ونحوه » .
قال
الشيخ « وهذا ليس بجيدٍ ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز
تقديمُه على الظرف ، إذ الظرفُ لم يتحمَّلْ ضميراً على هذا القول فيلزمُ تأخيرُه [
عنه ] وهو غير جائز ، لا تقول : » أنت مكانَك « ولا يُحْفظ من كلامهم . والأصحُّ
أنه لا يجوز حَذْفُ المؤكَّد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا لأن التأكيدَ ينافي
الحذف ، وليس من كلامهم : » أنت زيداً « لمَنْ رأيته قد شَهَرَ سَيْفاً ، وأنت
تريد : » اضرب أنت زيداً « إنما كلامُ العرب : » زيداً « تريد : اضرب زيداً » . قلت
: لم يَعْنِ ابنُ عطية أن « أنت » تأكيد لذلك الضمير في « قفوا » من/ حيث إنَّ
الفعلَ مرادٌ غير منوبٍ عنه ، بل لأنه نابَ عنه هذا الظرفُ ، فهو تأكيدٌ له في
الأصلِ قبل النيابة عنه بالظرف ، وإنما قال : الذي هو « قفوا » تفسيراً للمعنى
المقدر .
وقرأ فرقةُ « وشكركاءَكم » نصباً على المعية . والناصبُ له اسم الفعل .
قوله : { فَزَيَّلْنَا } ، أي : فرَّقْنا وميَّزْنا كقوله تعالى : { لَوْ
تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا } [ الفتح : 25 ] . واختلفوا في « زيَّل » هل وزنُه
فَعَّل أو فَيْعَل؟ والظاهرُ الأول ، والتضعيفُ فيه للتكثيرِ لا للتعديةِ لأنَّ
ثلاثيَّه متعدٍّ بنفسِه . حكى الفراء « زِلْتُ الضَّأن من المَعِز فلم تَزِل » ،
ويقال : زِلْت الشيء مِنْ مكانه أَزيله ، وهو على هذا من ذواتِ الياء . والثاني :
أنه فَيْعَل كبَيْطَر وبَيْقَر وهو مِنْ زال يَزُول ، والأصل : زَيْوَلْنا فاجتمعت
الياء والواو وسَبَقَت إحداهما بالسكون فأُعِلَّت الإِعلالَ المشهورَ وهو قَلْبُ
الواوِ ياءً وإدغامُ الياء فيها كميِّت وسَيّد في مَيْوِت وسَيْودِ ، وعلى هذا فهو
من مادة الواو . وإلى هذا ذهبَ ابن قتيبة ، وتبعه أبو البقاء .
وقال مكي : « ولا يجوز أن يكون فَعَّلْنا مِنْ زال يزول لأنه [ يلزم ] فيه الواوُ
فيكون زَوَّلنا » ، قلت : هذا صحيحٌ ، وقد تقدم تحريرُ ذلك في قوله : { أَوْ
مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } [ الأنفال : 16 ] . وقد ردَّ الشيخ كونَه فيْعَل بأنَّ
فعَّل أكثر من فَيْعَل ، ولأن مصدره التزييل ، ولو كان فَيْعَل لكان مصدرُه
فَيْعَلة كبَيْطَرة؛ لأن فَيْعَل ملحقٌ بفَعْلَل ، ولقولهم في معناه زايَل ، ولم
يقولوا : زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط « . وحكى الفراء » «
فزايَلْنا » وبها قرأت فرقة . قال الزمخشري : « مثل صاعَرَ خَدَّه وصَعَّره ،
وكالمتُه وكلَّمْته » ، قلت : يعني أن فاعَل بمعنى فَعَّل . وزايَلَ بمعنى فارَقَ
. قال :
2591 وقال العذارى إنَّما أنت عَمُّنا ... وكان الشبابُ كالخليطِ نُزايِلُهْ
وقال آخر :
2592 لعَمْري لَمَوْتٌ لا عقوبةَ بعده ... لِذي البَثِّ أَشْفَى مِنْ هوىً لا
يُزايلُهْ
وقوله : { فَزَيَّلْنَا } و « قال » هذان الفعلان ماضيان لفظاً مستقبلان معنىً
لعطفِهما على مستقبل وهو « ويوم نحشرهم » وهما نظيرُ قولِه تعالى : { يَقْدُمُ
قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ } [ هود : 98 ] . و « إيَّانا » مفعولٌ
مقدمٌ قُدِّم للاهتمام به والاختصاص ، وهو واجبُ التقديمِ على ناصبِه لأنه ضميرٌ
منفصل لو تأخر عنه لَزِمَ اتصالُه .
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا مِنْ { وكفى } [ النساء : 6 ] و « إنْ » المخففة ، واللام التي بعدها بما يُغْني عن إعادته .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قوله
تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } : في « هنالك » وجهان ، الظاهرُ
بقاؤه على أصلِه مِنْ دلالته على ظرف المكان ، أي : في ذلك الموقفِ الدَّحْض
والمكان الدَّهِش . وقيل : هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة ، ومثله {
هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] ، أي : في ذلك الوقت وكقوله :
2593 وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ ... فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ
وإذا أمكنَ بقاءُ الشيءِ على موضوعِه فهو أولى .
وقرأ الأخَوان « تَتْلو » بتاءَيْن منقوطتين من فوق ، أي : تطلُب وتتبَع ما
أسلفَتْه مِنْ أعمالها ، ومن هذا قوله :
2594 إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا ... كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا
أي : يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه . ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة ، أي : تقرأ
كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالى : { ياويلتنا مَالِ
هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف
: 49 ] ، وقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً
اقرأ كتابك } [ الإسراء : 13 ] .
وقرأ الباقون : « تَبْلو » مِن البَلاء وهو الاختبار ، أي : يَعْرف عملَها : أخيرٌ
هو أم شر . وقرأ عاصم في روايةٍ « نبلو » بالنون والباءِ الموحدة ، أي : نختبر نحن
. و « كل » منصوب على المفعول به . وقوله : « وما أَسْلَفَتْ » على هذه القراءةِ
يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض ، أي : بما أسْلَفَتْ ، فلمَّا
سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله :
2595 تمرُّون الديار ولم تعوجوا ... كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من « كل نفس » ويكون من بدلِ الاشتمال . ويجوز
أن يكون « نَبْلو » من البلاء وهو العذاب ، أي : نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ .
و « ما » يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفة ، والعائدُ
محذوفٌ على التقدير/ الأول والآخِر دون الثاني على المشهور .
وقرأ ابن وثاب « ورِدُّوا » بكسر الراء تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة ، نحو :
« قيل » و « بيع » ، ومثله :
2596 وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
بكسر الحاء ، وقد تقدَّم بيانُ ذلك بأوضحَ من هذا .
وقوله : { إِلَى الله } لا بدَّ من مضاف ، أي : إلى جزاء الله ، أو موقفِ جزائه .
والجمهور على « الحق » جَرَّاً . وقرىء منصوباً على أحد وجهين : إمَّا القطعِ ،
وأصلُه أنه تابعٌ فقُطع بإضمارِ « أمدح » كقولهم : الحمدُ للَّهِ أهلِ الحمد « ،
وإمَّا أنه مصدر مؤكد لمضمونِ الجملةِ المتقدمةِ وهو { وردوا إِلَى الله } وإليه
نحا الزمخشري ، قال : » كقولك : « هذا عبد الله الحق لا الباطل » على التأكيد
لقوله { وردوا إِلَى الله } . وقال مكي : « ويجوز نصبه على المصدر ولم يُقْرأ به »
، قلت : كأنه لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة .
وقوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } « ما » تحتمل الأوجه الثلاثة .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
قوله
تعالى : { مِّنَ السمآء } : « مِنْ » يجوز أَنْ تكونَ لابتداء الغاية ، وأن تكونَ
للتبعيضِ ، وأن تكونَ لبيان الجنس ، ولا بد على هذين الوجهين من تقديرِ مضافٍ
محذوف ، أي : من أهل السماء .
قوله : { أَمْ } هذه « أم » المنقطعة لأنه لم تتقدَّمْها همزةُ استفهام ولا تسوية
، ولكن إنما تُقَدَّر هنا ب « بل » وحدها دونَ الهمزة . وقد تقرَّر أن المنقطعةَ
عند الجمهور تُقَدَّر بهما ، وإنما لم تتقدَّرْ هنا ب « بل » والهمزةِ ، لأنَّها
وقع بعدها اسم استفهام صريح وهو « مَنْ » ، فهو كقوله تعالى : { أَمَّا ذَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 84 ] . والإِضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في
القرآن أنه إضرابُ انتقالٍ لا إضرابُ إبطالٍ
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
قوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ } : يجوز أن يكونَ « ماذا » كلُّه اسماً واحداً لتركُّبهما ، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإِشارة ، وصار معنى الاستفهامِ هنا النفيَ ولذلك أوجب بعده ب « إلا » ، ويجوز أن يكون « ذا » موصولاً بمعنى الذي ، والاستفهام أيضاً بمعنى النفي ، والتقدير : ما الذي بعد الحق إلا الضلال؟
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
قوله
تعالى : { كَذَلِكَ حَقَّتْ } : الكافُ في محلِّ نصب نعتاً لمصدر محذوف ،
والإِشارةُ ب « ذلك » إلى المصدرِ المفهوم مِنْ « تُصْرفون » ، أي : مثلَ صَرْفِهم
عن الحق بعد الإِقرار به في قوله تعالى : { فَسَيَقُولُونَ الله } [ يونس : 31 ] .
وقيل إشارةٌ إلى الحق . قال الزمخشري : « كذلك : مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ كلمةُ
ربك » .
قوله : { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنَّها في
محلِّ رفعِ بدلاً من « كلمةُ » ، أي : حَقَّ عليهم انتفاء الإِيمان . الثاني :
أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر عدمُ إيمانِهم . الثالث :
أنها في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الحرف الجارّ . الرابع : أنها في محلِّ جرٍّ على
إعمالِه محذوفاً إذا الأصل : لأنهم لا يُؤْمنون . قال الزمخشري : « أو أراد
بالكلمة العِدَة بالعذاب ، و { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تعليل ، أي : لأنهم »
.
وقرأ أبو عمرو وابنُ كثير والكوفيون « كلمة » بالإِفراد ، وكذا في آخر السورة .
وقد تقدَّم ذلك في الأنعام . وقرأ ابن أبي عبلة { أَنهم لا يُؤْمنون } بكسر « إنَّ
» على الاستئناف وفيها معنى التعليل ، وهذه مقويِّةُ للوجه الصائر إلى التعليل .
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
قوله تعالى : { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق } : هذه الجملةُ جواب لقوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ } وإنما أتى بالجواب جملةً اسميةً مُصَرَّحاً بجزأيها مُعَاداً فيها الخبر مطابقاً لخبر اسم الاستفهام للتأكيدِ والتثيبتِ ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا لا مَنْدوحةَ لهم عن الاعتراف به جاءَت الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جُزْأَيْها في قوله { فَسَيَقُولُونَ الله } [ يونس : 31 ] ، ولم يَحْتَجْ إلى التأكيد بتصريح جزأيها .
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
قوله
تعالى : { يهدي إِلَى الحق } : قد تقدم في أول هذا الموضوع أنَّ « هدى » يتعدى إلى
اثنين ثانيهما : إمَّا باللام أو بإلى ، وقد يُحْذَفُ الحرفُ تخفيفاً . وقد جُمع
بين التعديتين هنا بحرف الجر فَعَدَّى الأول والثالث ب « إلى » والثاني باللام ،
وحُذِف المفعولُ الأول من الأفعال الثلاثة ، والتقدير : هل مِنْ شركائكم مَنْ
يَهْدي غيره إلى الحق قل اللَّهُ يَهْدي مَنْ يشاء للحق ، أفَمَنْ يهدي غيرَه إلى
الحق . وزعم الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري أنَّ « يهدي » الأولَ قاصرٌ ، وأنه
بمعنى اهتدى . وفيه نظر ، لأن مُقابلَه وهو { قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ }
متعدٍّ . وقد أنكر المبرد أيضاً مقالة الكسائي والفراء وقال : « لا نَعْرِفُ هَدَى
بمعنى اهتدى » قلت : الكسائي والفراء أَثْبتاه بما نقلاه ، ولكن إنما ضَعُف ذلك
هنا لِما ذَكَرْت لك من مقابلته بالمتعدي ، وقد تقدَّم أن التعديةَ ب « إلى » أو
اللام من باب التفنُّن في البلاغة ، ولذلك قال الزمخشري : « يقال : هَدَاه للحق
وإلى الحق ، فجمع بين اللغتين » . وقال غيره : « إنما عدى المسندَ إلى الله
باللام/ لأنها أَدَلُّ في بابها على المعنى المرادِ من » إلى «؛ إذ أصلُها
لإِفادةِ المُلْك ، فكأن الهداية مملوكة لله تعالى » وفيه نظر ، لأن المراد بقوله
: { أَفَمَن يهدي إِلَى الحق } هو الله تعالى مع تَعدِّي الفعلِ المسند إليه ب «
إلى » .
قوله : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } خبرٌ لقوله : « أَفَمَنْ يَهْدي » و « أَنْ » في
موضعِ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الخافض ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، وتقديرُ هذا كله :
« أَفَمَنْ يهْدي إلى الحقّ أَحَقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يَهْدي » . ذكر ذلك مكي
ابن أبي طالب ، فجعل « أحقّ » هنا على بابها من كونها للتفضيل . وقد منع الشيخ
كونَها هنا للتفضيل فقال : « وأحق » ليست للتفضيل ، بل المعنى : حقيقٌ بأن يُتَّبع
« . وجوَّز مكي أيضاً في المسألة وجهين آخرين أحدهما : أن تكون » مَنْ « مبتدأ
أيضاً ، و » أنْ « في محلِّ رفع بدلاً منها بدلَ اشتمال ، و » أحقُّ « خبرٌ على ما
كان . والثاني : أن يكون » أن يُتَّبع « في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و » أحقُّ «
خبرُه مقدَّم عليه . وهذه الجملةُ خبر ل » مَنْ يَهْدي « ، فَتَحَصَّل في المسألة
ثلاثة أوجه .
قوله : { أَمَّن لاَّ يهدي } نسقٌ على » أفمن « ، وجاء هنا على الأفصحِ مِنْ حيث
إنَّه قد فُصِل بين » أم « وما عُطِفَتْ عليه بالخبر كقولك : » زيدٌ قائم أم عمرو
« ومثله :
{
أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } [ الفرقان : 15 ] . وهذا بخلاف قوله تعالى : {
أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 109 ] وسيأتي هذا في موضعه
.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر ياء « يهدي » وهائه . وحفص بكسر الهاء دون الياء .
فأمَّا كسر الهاء فلالتقاء الساكنين ، وذلك أن أصلَه يَهْتدي ، فلما قُصِد إدغامُه
سكنَتْ التاء ، والهاءُ قبلَها ساكنة فكُسِرَتْ الهاءُ لالتقاء الساكنين . وأبو
بكر أتبع الياء للهاء في الكسر . وقال أبو حاتم في قراءة حفص « هي لغة سُفْلَى
مُضَر » ، ونَقَل عن سيبويه أنه لا يُجيز « يِهْدي » ويجيز « تِهْدي ونِهْدي وإهدي
» ، قال : « لأن الكسرةَ تَثْقُل في الياء » ، قلت : يعني أنه يُجيز كَسْرَ حرفِ
المضارعة من هذا النحو نحو : تِهْدي ونِهدي وإهدي إذ لا ثِقَلَ في ذلك ، ولم
يُجِزْهُ في الياء لثقل الحركةِ المجانسةِ لها عليها . وهذا فيه غَضٌّ من قراءة
أبي بكر ، ولكنه قد تواتَرَ قراءةً فهو مقبول .
وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع بفتح الياء واختلاس فتحة الهاء وتَشْديد الدال ،
وذلك أنهما لَمَّا ثقَّلا الفتحة لإِدغام اختلسا الفتحة تنبيهاً على أن الهاءَ ليس
أصلُها الحركةَ بل السكون . وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بإكمال فتحة الهاء على
أصل النقل . وقد رُوي عن أبي عمرو وقالون اختلاسُ كسرةِ الهاءِ على أصل التقاء
الساكين ، والاختلاس للتنبيه على أنَّ أصلَ الهاءِ السكون كما تقدم .
وقرأ أهلُ المدينة خلاورشاً بفتح الياء وسكون الهاء وتشديدِ الدال . وهذه القراءةُ
استشكلها جماعةٌ من حيث الجمعُ بين الساكنين . قال المبرد : « مَنْ رام هذا لا بد
أن يُحَرِّكَ حركةً خفيَّة » . وقال أبو جعفر النحاس : « لا يقدر أحدٌ أن يَنْطِقَ
به » ، قلت : وقد قال في « التيسير » : « والنصُّ عن قالون بالإِسكان » ، قلت :
ولا بُعْدَ في ذلك فقد تقدَّم أن بعضَ القُرَّاء يَقْرأ { نِعِمَّا } [ النساء :
58 ] و { لاَ تَعْدُواْ } [ النساء : 154 ] بالجمع بين الساكنين ، وتقدَّمت لك
قراءاتٌ كثيرة في قوله : { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [ البقرة : 20 ] ، وسيأتي لك
مثلُ هذا في { يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] .
وقرأ الأخَوان « يَهْدي » بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيفِ الدال مِنْ هدى يَهْدي
وفيه قولان ، أحدهما : أنَّ « هدى » بمعنى اهتدى . والثاني : أنه متعدٍّ ،
ومفعولُه محذوف كما تقدَّم تحريره . وقد تقدم قول الكسائي والفراء في ذلك ورَدَّ
المبرد عليهما . وقال ابن عطية : « والذي أقوال : قراءةُ حمزة والكسائي تحتمل أن
يكون المعنى : أَمْ مَنْ لا يهدي أحداً إلا أن يهدى ذلك الأحدُ بهداية الله ،
وأمَّا على غيرِها مِنَ القراءات التي مقتضاها » أم لا يَهْتدي إلا أن يهدى «
فيتجه المعنى على ما تقدَّم » ثم قال : « وقيل : تمَّ الكلامُ عند قوله : » أم
مَنْ لا يَهِدِّي ، أي : لا يَهِدِّي غيره « .
ثم
قال : { إِلاَّ أَن يهدى } استثناءٌ منقطع ، أي : لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول
: فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع ، أي : لكنه يحتاج إلى أن يَسمع « . انتهى .
ويجوز أن يكونَ استثناءً متصلاً ، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ
الأصنام . ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له ، أي : لا يهدي لشيءٍ من
الأشياءِ إلا لأَجْل أن يهدى بغيره .
وقوله : { فَمَا لَكُمْ } مبتدأ وخبر . ومعنى الاستفهام هنا الإِنكارُ والتعجبُ ،
أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذ هؤلاء إذ كانوا عاجزين عن هدايةِ أنفسهم فكيف يمكن أن
يَهْدُوا غيرَهم؟ وقد تقدَّم أن بعضَ النحويين نصَّ على أن مثل هذا التركيبِ لا
يتمُّ إلا بحالٍ بعده ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر
: 49 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] إلى غير ذلك ، وهنا لا يمكن
أن تُقَدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً لأنها استفهامية ، والاستفهامية لا تقع
حالاً . وقوله : » كيف تحكمون « استفهامٌ آخرُ ، أي : كيف تحكمون بالباطل وتجعلون
لله أنداداً وشركاء؟ .
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
قوله تعالى : { لاَ يُغْنِي } : خبرُ « إن » ، و « شيئاً » / منصوبٌ على المصدر ، أي : شيئاً من الإِغناء . و « من الحق » نصبٌ على الحال من « شيئاً » لأنه في الأصلِ صفةٌ له . ويجوز أن تكونَ « مِنْ » بمعنى « بدل » ، أي : لا يُغنْي بدلَ الحق . وقرأ الجمهور « يَفْعلون » على الغيبة . وقرأ عبد الله « تَفْعلون » خطاباً وهو التفاتٌ بليغ .
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
قوله
تعالى : { أَن يفترى } : فيه وجهان أحدهما : أنه خبرٌ « كان » تقديرُه : وما كان
هذا القرآن افتراء ، أي : ذا افتراء ، إذ جُعِل نفسُ المصدر مبالغةً ، أو يكونُ
بمعنى مفترى . والثاني : زعم بعضهم أنَّ « أنْ » هذه هي المضمرة بعد لامِ الجحود ،
والأصل : وما كان هذا القرآنُ ليفترى ، فلمَّا حُذِفَتْ لامُ الجحود ظهرت « أن » .
وزعم أن اللامَ و « أنْ » يتعاقبان ، فتُحْذف هذه تارة ، وتَثْبُت الأخرى . وهذا
قولٌ مرغوبٌ عنه ، وعلى هذا القولِ يكون خبر « كان » محذوفاً ، وأنْ وما في
حَيِّزها متعلقةٌ بذلك الخبر ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك محرراً . و « مِنْ دون »
متعلقٌ ب « يفترى » والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائد على القرآن .
قوله { ولكن تَصْدِيقَ } « تَصْديق » عطف على خبر كان ، ووقعت « لكن » أحسنَ موقع
إذ هي بين نقيضين : وهما التكذيبُ والتصديقُ المتضمِّن للصدق . وقرأ الجمهور «
تصديق » و « تفصيلَ » بالنصب وفيه أوجهٌ ، أحدُها : العطف على خبر « كان » وقد
تقدَّم ذلك ، ومثله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن
رَّسُولَ الله } [ الأحزاب : 40 ] . والثاني : أنه خبر « كان » مضمرة تقديره :
ولكن كان تصديقَ ، وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج . وهذا كالذي
قبله في المعنى . والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدر ، أي : وما
كان هذا القرآنُ أن يفترى ، ولكن أُنزل للتصديق . والرابع : أنه منصوبٌ على المصدر
بفعل مقدر أيضاً . والتقدير : ولكن يُصَدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب .
وقرأ عيسى بن عمر : « تَصْديقُ » بالرفع ، وكذلك التي في يوسف . ووجهُه الرفعُ على
خبر مبتدأ محذوف ، أي : ولكن هو تصديق ، ومثله قوله الشاعر :
2597 ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ ... ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِ
برفع « مِدْرَه » على تقدير : أنا مِدْره . وقال مكي : « ويجوز عندهما أي عند
الكسائي والفراء الرفع على تقدير : ولكن هو تصديق » ، قلت : كأنه لم يَطَّلِعْ على
أنها قراءة .
وزعم الفراء وجماعةٌ أن العرب إذا قالت : « ولكن » بالواو آثَرَتْ تشديد النون ،
وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيفَ . وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيفُ . وقد
وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيف والتشديد نحو { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ]
{ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيه أوجه أحدها : أن يكون حالاً من « الكتاب » وجاز
مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنه مفعولٌ في المعنى . والمعنى : وتفصيل الكتاب
منتفياً عنه الرَّيْب . والثاني : أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب . والثالث
: أنه معترضٌ بين « تصديق » وبين { مِن رَّبِّ العالمين } إذ التقديرُ : ولكن
تصديق الذين بين يديه مِنْ رب العالمين .
قال
الزمخشري : فإن قلت : بم اتَّصَلَ قولُه { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين }
؟ قلت : هو داخلٌ في حَيِّز الاستدراك كأنه قيل : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً
منتفياً عنه الريبُ كائناً من رب العالمين . ويجوز أن يراد به « ولكن كان تصديقاً
من رب العالمين [ وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك ، فيكون من رب العالمين ] متعلقاً ب
» تصديق « و » تفصيل « ويكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراضاً كما تقول : زيدٌ لا
شكَّ فيه كريم » انتهى .
قوله : { مِن رَّبِّ } يجوز فيه أوجهٌ أحدُها : أن يكونَ متعلقاً ب « تصديق » أو ب
« تفصيل » ، وتكون المسألة من باب التنازع؛ إذ يَصِحُّ أَنْ يتعلَّقَ بكلٍ من
العاملين من جهة المعنى . وهذا هو الذي أراد الزمخشري بقوله : « فيكون » مِنْ رب «
متعلِّقاً ب » تصديق « و » تفصيل « يعني أنه متعلقٌ بكلٍ منهما من حيث المعنى .
وأمَّا من حيث الإِعرابُ فلا يتعلَّق إلا بأحدهما ، وأمَّا الآخرُ فيعمل في ضميره
كما تقدَّم تحريره غيرَ مرة ، والإِعمالُ هنا حينئذ إنما هو للثاني بدليلِ
الحَذْفِ من الأول . والوجه الثاني : أنَّ » مِنْ رب « حال ثانية . والثالث : إنه
متعلقٌ بذلك الفعلِ المقدرِ ، أي : أُنْزِل للتصديق من ربَّ العالمين .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
قوله
تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ } : في « أم » وجهان أحدهما : أنها منقطعةٌ فتتقدر ب «
بل » والهمزة عند الجمهور : سيبويه وأتباعهِ ، والتقديرُ : بل أتقولون ، انتقل عن
الكلام الأول وأَخَذَ في إنكارِ قولٍ آخر . والثاني : أنها متصلةٌ ولا بدَّ حينئذٍ
مِنْ حَذْفِ جملةٍ ليصِحَّ التعادلُ والتقدير : أيقرُّون به أم يقولون افتراه .
وقال بعضُهم : / هذه بمنزلة الهمزةِ فقط . وعَبَّر بعضهم عن ذلك فقال : « الميمُ
زائدة على الهمزة » وهذا قولٌ ساقط ، إذ زيادة الميم قليلة جداً لا سيما هنا .
وزعم أبو عبيدة أنها بمعنى الواو والتقدير : ويقولون افتراه .
قوله : { قُلْ فَأْتُواْ } جوابُ شرطٍ مقدر قال الزمخشري : « قل : إن كان الأمرُ
كما تَزْعمون فَأْتوا أنتم على وجه الافتراءِ بسورةِ مثلِه في العربية والفصاحة
والأَبْلغيَّة » . وقرأ عمرو بن فائد « بسورة مثلِه » بإضافة « سورة » إلى « مثله
» على حَذْف الموصول وإقامة الصفة مُقامَه ، والتقدير : بسورةِ كتابٍ مثلِه أبو
بسورةِ كلام مثله . ويجوز أن يكون التقديرُ : فَأْتوا بسورةِ بشرٍ مثلِه فالضمير
يجوز أن يعودَ في هذه القراءةِ على القرآن ، وأن يعودَ على النبي صلى الله عليه
وسلم . وأمَّا في قراءة العامة فالضمير للقرآن فقط .
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
قوله
تعالى : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ } : جملةٌ حالية من الموصول أي : سارعوا إلى
تكذيبهِ حالَ عدم إتيان التأويل . قال الزمخشري : « فإن قلت : ما معنى التوقُّع في
قوله تعالى : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؟ قلت : معناه أنهم كذَّبوا به
على البديهة قبل التدبُّر ومعرفةِ التأويل » ، ثم قال أيضاً : « ويجوز أن يكونَ
المعنى : ولم تأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإِخبار بالغيوب ، أي : عاقبته حتى
يتبيَّنَ لهم أَكَذِبٌ هو أم صدقٌ » انتهى . وفي وَضْعه « لم » موضعَ « لَمَّا »
نظرٌ لِمَا عَرَفْت ما بينهما من الفرق . ونُفِيَتْ جملةُ الإِحاطة ب « لم »
وجملةُ إتيانِ التأويل ب « لمَّا » لأن « لم » للنفي المطلق على الصحيح ، و « لَمَّا
» لنفي الفعل المتصل بزمن الحال ، فالمعنى : أنَّ عَدَمَ التأويل متصل بزمن
الإِخبار .
و « كذلك » نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : مثل ذلك التكذيب كَذَّب الذين من قبلهم ، أي
: قبل النظر والتدبُّر .
وقوله : { فانظر كَيْفَ كَانَ } « كيف » خبر ل « كان » ، والاستفهامُ معلِّقٌ
للنظر . قال ابن عطية : « قال الزجاج : » كيف « في موضع نصب على خبر كان ، ولا
يجوز أن يعمل فيها » انظر « لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يَعْمل فيه ، هذا قانونُ
النحويين لأنهم عاملوا » كيف « في كل مكان معاملةَ الاستفهامِ المَحْض في قولك »
كيف زيد « و ل » كيف « تصرُّفاتٌ غيرُ هذا فتحلُّ محلَّ المصدرِ الذي هو » كيفية «
وتخلعُ معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكونَ منها . ومن تصرُّفاتها
قولُهم : » كن كيف شئت « وانظر قول البخاري : » كيف كان بدء الوحي « فإنه لم
يستفهم » . انتهى . فقول الزجاج « لا يجوز أن تعمل » انظر « في » كيف « يعني لا
تتسلَّط عليها ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحبِ عليها حكمُ الاستفهام وهكذا
سبيلُ كلِّ تعليقٍ .
قال [ الشيخ ] : » وقولُ ابن عطية : هذا قانون النحويين إلى آخره ليس كما ذكر بل ل
« كيف » معنيان ، أحدُهما : الاستفهامُ المحض ، وهو سؤال عن الهيئة إلا أن
يُعَلَّق عنها العامل ، فمعناها معنى الأسماء التي يُستفهم بها إذا عُلِّق عنها
العاملُ . والثاني : الشرط كقول العرب : « كيف تكونُ أكونُ » . وقوله : « ول » كيف
« تصرفات إلى آخره ليس » كيف « تحلُّ محلَّ المصدر ، ولا لفظ » كيفية « هو مصدرٌ ،
إنما ذلك نسبةٌ إلى » كيف « ، وقوله : » ويحتمل أن يكونَ هذا الموضعُ منها ، ومِنْ
تصرفاتها قولهم : « كن كيف شئت » لا يَحْتمل أن يكون منها؛ لأنه لم يثبتْ لها
المعنى الذي ذكر مِنْ كونِ « كيف » بمعنى كيفية وادِّعاءُ مصدرية « كيفية » .
وأمَّا
« كن كيف شئت » ف « كيف » ليست بمعنى كيفية ، وإنما هي شرطيةٌ وهو المعنى الثاني
الذي لها ، وجوابها محذوف ، التقدير : كيف شئت فكن ، كما تقول : « قم متى شئت » ف
« متى » اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه « قم » والجواب محذوف تقديره : متى شئت فقم ،
وحُذِفَ الجوابُ لدلالة ما قبله عليه كقولِهم : « اضربْ زيداً إن أساء إليك » ،
التقدير : إن أساءَ إليك فاضرِبْه ، وحُذِف « فاضربه » لدلالة « اضرِبْ »
المتقدِّم عليه . وأمَّا قولُ البخاري : « كيف كان بدء الوحي » فهو استفهامٌ
مَحْضٌ : إمَّا على سبيل الحكاية كأن سائلاً سأله فقال : كيف كان بَدْءُ الوحي ، [
وإما أن يكونَ من قوله هو ، كأنه سأل نفسه : كيف كان بدء الوحي؟ ] فأجاب بالحديثِ
الذي فيه كيفيةُ ذلك « .
وقوله : { الظالمين } مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمر ، ويجوز أن يرادَ به ضميرُ
مَنْ عاد عليه ضمير » بل كَذَّبوا « ، وأن يُرادَ به { الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
قوله
تعالى : { مَّن يَسْتَمِعُونَ } : مبتدأ وخبرهُ الجار قبله وأعاد الضميرَ جمعاً
مراعاة لمعنى « مَنْ » ، والأكثرُ مراعاةُ لفظه كقوله :
{ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ }
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } : قال ابن عطية : « جاء » ينظر « على لفظ » مَنْ « ، وإذا جاء على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخرُ على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن/ يُعْطَفَ آخرُ على اللفظ لأنَّ الكلامَ يُلْبَسُ حينئذ » . قال الشيخ : وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعيَ المعنى أولاً فتعيدَ الضميرَ على حسبِ ما تريد من المعنى مِنْ تأنيثٍ وتثنية وجمعٍ ، ثم تراعي اللفظَ فتعيدُ الضميرَ مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيلٌ ذُكر في النحو « ، قلت : قد تقدَّم تحريره أولَ البقرة .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
قوله
تعالى : { لاَ يَظْلِمُ الناس شيئاً } : يجوز أن ينتصب « شيئاً » على المصدر ، أي
: شيئاً من الظلم قليلاً ولا كثيراً ، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل « يَظْلم »
بمعنى : لا يُنْقِص الناسَ شيئاً من أعمالهم .
قوله : { ولكن الناس } قرأ الأخَوان بتخفيف « لكن » ، ومن ضرورة ذلك كسرُ النونِ
لالتقاء الساكنين وَصْلاً ورفع « الناس » ، والباقون بالتشديد ونصب « الناس »
وتقدم توجيه ذلك في البقرة .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
قوله
تعالى : { وَيَوْمَ } : منصوب على الظرف . وفي ناصبه أوجه ، أحدُها : أنه منصوبٌ
بالفعل الذي تضمَّنه قوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } الثاني : أنه منصوبٌ ب «
يتعارفون » . والثالث : أنه منصوبٌ بمقدر ، أي : اذكر يومَ . وقرأ الأعمش «
يَحْشُرهم » بياء الغيبة ، والضمير لله تعالى لتقدُّم اسمه في قوله : { إِنَّ الله
لاَ يَظْلِمُ } .
قوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } قد تقدَّم الكلامُ على « كأنْ » هذه . ولكن اختلفوا
في محلِّ هذه الجملة على أوجهٍ ، أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف وهو « يوم
» قاله ابن عطية . قال الشيخ : « لا يَصِحُّ لأنَّ » يومَ يحشرُهم « معرفةٌ
والجملَ نكرات ، ولا تُنْعَتُ المعرفةُ بالنكرة ، لا يقال : إن الجملَ التي يُضاف
إليها أسماءُ الزمانِ نكرةٌ على الإِطلاق لأنها إن كانَتْ في التقدير تَنْحَلُّ
إلى معرفة فإن ما أُضيف إليها يتعرَّفُ ، وإن كانت تَنْحَلُّ إلى نكرة كان ما
أُضيف إليها نكرةً ، تقول » مررت في يوم قَدِم زيدٌ الماضي « فتصِفُ » يوم «
بالمعرفة ، و » جئت ليلةَ قَدِم زيدٌ المباركة علينا « وأيضاً فكأنَّ لم يلبثوا لا
يمكن أن يكون صفة لليوم من جهةِ المعنى؛ لأنَّ ذلك من وصف المحشورين لا مِنْ وصف
يوم حشرهم . وقد تكلَّفَ بعضُهم تقديرَ رابطٍ يَرْبطه فقدَّره » كأن لم يَلْبثوا
قبله « فحذف » قبله « ، أي : قبل اليوم ، وحَذْفُ مثلِ هذا الرباطِ لا يجوز » ،
قلت : قوله : « بعضهم » ، هو مكي ابن أبي طالب فإنه قال : « الكافُ وما بعدها مِنْ
» كأنْ « صفةٌ لليوم ، وفي الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ تقديرُه :
كأنْ لم يَلْبثوا قبلَه ، فحذف » قبل « فصارت الهاءُ متصلةً ب » يَلْبثوا «
فحُذِفَتْ لطولِ الاسم كما تُحْذَفُ من الصِّلات » ونَقَل هذا التقدير أيضاً أبو
البقاء ولم يُسَمِّ قائلَه فقال : « وقيل » فذكره .
والوجه الثاني : أن تكونَ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول « يَحْشُرهم »
، أي : يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يلبث إلا ساعةً ، هذا تقديرُ الزمخشري .
وممَّنْ جَوَّز الحالية أيضاً ابنُ عطية ومكي وأبو البقاء ، وجعله بعضُهم هو
الظاهر .
الوجه الثالث : أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف ، والتقدير : يَحْشُرهم
حَشْراتً كأنْ لم يَلْبَثُوا « ذكر ذلك ابن عطية وأبو البقاء ومكي . وقدّر مكي
وأبو البقاء العائد محذوفاً كما قَدَّراه حالَ جَعْلِهما الجملةَ صفةً لليوم ، وقد
تقدَّم ما في ذلك .
الرابع : قال ابن عطية : » ويَصِحُّ أن يكونَ قوله { كَأَن لَّمْ يلبثوا } كلاماً
مجملاً « ولم يُبَيِّنْ الفعلَ الذي يتضمَّنه { كَأَن لَّمْ يلبثوا } .
قال
الشيخ : « ولعلَّه أرادَ ما قاله الحوفي مِنْ أنَّ الكاف في موضعِ نصبٍ بما
تضمَّنَتْه من معنى الكلام وهو السرعة » انتهى . قال : « فيكونُ التقدير : ويوم
يحشرهم يُسْرعون كأنْ لم يَلْبثوا » قلت : فيكونُ « يسرعون » حالاً من مفعول «
يَحْشرهم » ويكون { كَأَن لَّمْ يلبثوا } حالاً من فاعل « يُسْرعون » ، ويجوز أن
تكونَ « كأنْ لم » مفسرةً ل « يُسْرعون » المقدرة .
قوله : { يَتَعَارَفُونَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن الجملةَ في محل نصبٍ على الحال
من فاعل « يَلْبثوا » . قال الحوفي : « يتعارفون » فعل مستقبلٌ في موضع الحال من
الضمير في « يلبثوا » وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، والمعنى اجتمعوا
متعارفين « . والثاني : أنها حالٌ من مفعول » يَحْشُرهم « أي : يَحْشُرهم متعارفين
والعاملُ فعلُ الحشر ، وعلى هذا فَمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جوَّز أن تكونَ »
كأَنْ لم « حالاً أولى ، وهذه حالٌ ثانية ، ومَنْ مَنَعَ ذلك جَعَلَ » كأَنْ لم «
على ما تقدم من غيرِ الحالية . قال أبو البقاء : » وهي حالٌ مقدرة لأنَّ التعارفَ
لا يكونُ حالَ الحشر « . والثالث : مستأنفةٌ ، أخبر تعالى عنهم بذلك قال الزمخشري
: » فإن قلت : كأن لم يَلْبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ قلت : أمَّا الأولى فحالٌ
منهم أي : يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يَلْبث إلا ساعةً ، وأمَّا الثانية :
فإمَّا أن تتعلق بالظرف يعني فتكون حالاً وإما أن تكونَ مبينةً لقوله : كأن لم
يَلْبثوا إلا ساعةً؛ لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً « .
قوله : { قَدْ خَسِرَ } فيها وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة أخبر تعالى بأن
المكذِّبينَ بلقائِه خاسرون لا محالة ، ولذلك أتى بحرفِ التحقيق . والثاني : أن
يكونَ في محل نصبٍ بإضمارِ قولٍ أي : قائلين قد خسر الذين . ثم لك في هذا القول
المقدر/ وجهان ، أحدهما : أنه حال مِنْ مفعول » يحشرهم « أي : يحشرهم قائلين ذلك .
والثاني : أنه حالٌ من فاعل » يتعارفون « . وقد ذهب إلى الاستئناف والحالية مِنْ فاعل
» يتعارفون « الزمخشري فإنه قال : » هو استئنافٌ فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما
أحشرهم « ثم قال : » قد خَسِر « على إرادة القولِ أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك
» ، وذهبَ إلى أنها حالٌ من مفعول « يحشرهم » ابن عطية .
قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ
معطوفةً على قولِه « قد خَسِر » فيكونُ حكمُه حكمَه . والثاني : أن تكونَ معطوفةً
على صلةِ الذين ، وهي كالتوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ مَنْ كذَّب بلقاء
الله غيرُ مهتدٍ .
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
قوله
تعالى : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } : « إمَّا » هذه قد تقدَّم الكلامُ عليها
مستوفىً . وقال ابن عطية : « ولأجلها أي : لأجل زيادةِ » ما « جاز دخولُ النونِ
الثقيلة ولو كانَتْ » إنْ « وحدَها لم يَجُزْ » يعني أن توكيد الفعل بالنونِ
مشروطٌ بزيادة « ما » بعد « إنْ » ، وهو مخَالفٌ لظاهرِ كلامِ سيبويه ، وقد جاء
التوكيد في الشرط بغير « إنْ » كقوله :
2598 مَنْ نثقفَنْ منهم فليس بآيبٍ ... أبداً وقَتْل بني قتيبةَ شافي
قال ابن خروف : « أجاز سيبويهِ الإِتيانَ ب » ما « وأن لا يؤتى بها ، والإِتيانُ
بالنون مع » ما « وأن لا يؤتى بها » والإِراءَةُ هنا من البصر؛ ولذلك تعدَّى
الفعلُ إلى اثنين بالهمزة أي : نجعلك رائياً بعضَ الموعودين « .
قوله : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيه وجهان أظهرهما : أنه جوابٌ
للشرط وما عُطف عليه ، إذ معناه صالحٌ لذلك . وإلى هذا ذهب الحوفي وابن عطية .
والثاني : أنه جوابٌ لقوله » أو نتوفَيَنَّك « ، وجواب الأول محذوف قال الزمخشري :
» كأنه قيل : وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذاك ، أو نتوفينَّك قبل أن
نريك فنحن نُريك في الآخرة « . قال الشيخ : » فجعل الزمخشري في الكلام شرطين لهما
جوابان ، ولا حاجةَ إلى [ تقدير ] جواب محذوف لأنَّ قولهَ « فإلينا مَرْجعهم »
صالحٌ لأن يكونَ جواباً للشرط والمعطوفِ عليه ، وأيضاً فقولُ الزمخشري « فذاك » هو
اسمٌ مفردٌ لا يَنْعقد منه جوابُ شرطٍ فكان ينبغي أن يأتي بجملةٍ يَصِحُّ منها
جوابُ الشرط إذ لا يُفْهَمُ مِنْ قوله « فذاك » الجزء الذي حُذِف ، المتحصَّل به
فائدةُ الإِسناد « . قلت : قد تقررَّ أنَّ اسمَ الإِشارة قد يُشار به إلى شيئين
فأكثر وهو بلفظِ الإِفراد ، فكأنَّ ذاك واقعٌ موقعَ الجملة الواقعة جواباً ،
ويجوزُ أن يكونَ قد حُذِفَ الخبر لدلالة المعنى عليه إذ التقديرُ : فذاك المراد أو
المتمنَّى أو نحوه . وقوله : » إذ لا يُفْهم الجزء الذي حُذِف « إلى آخره ممنوعٌ
بل هو مفهومٌ كما رأيت ، وهي شيءٌ يَتبارد إليه الذهن .
قوله : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } ليست هنا للترتيب الزماني بل هي لترتيبِ الأخبارِ
لا لترتيبِ القصصِ في أنفسها . قال أبو البقاء : » كقولك زيدٌ عالم ثم هو كريم « .
وقال الزمخشري : » فإن قلت : اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون في الدارَيْن فما معنى
ثم؟ قلت : ذُكِرَت الشهادة ، والمراد مقتضاها ونتيجتها ، وهو العقاب ، كأنه قيل :
ثم الله معاقِبٌ على ما يفعلونه « .
وقرأ إبرهيم ابن أبي عبلة » ثَمَّ « بفتح الثاء جعله ظرفاً لشهادة الله ، فيكون »
ثَمَّ « منصوباً ب » شهيد « أي : اللَّهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان ، وهو مكانُ
حَشْرِهم . ويجوز أن يكونَ ظرفاً لمَرْجِعهم أي : فإلينا مَرْجِعُهم يعني رجوعهم
في ذلك المكانِ الذي يُثاب فيه المُحْسِن ويُعاقَبُ فيه المسيءُ .
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
قوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } : فيه وجهان أحدهما : أنه استثناءٌ متصل تقديرُه : إلا ما شاء الله أن أَمْلكه وأٌقْدِر عليه . والثاني : أنه منقطعٌ . قال الزمخشري : « هو استثناءٌ منقطع أي : ولكنْ ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أَمْلك لكم الضررَ وجَلْبَ العذاب؟ » .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
قوله
تعالى : { أَرَأَيْتُمْ } : قد تقدَّم الكلام على/ « أَرَأَيْتَ » هذه ، وأنها
تتضمَّن معنى أخبرني فتتعدى إلى اثنين ، ثانيهما غالباً جملة استفهامية فينعقد
منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ كقولِهم : « أرأيتَك زيداً ما صنع » وتقدَّم مذاهبُ
الناسِ فيها في سورة الأنعام فعليك باعتباره ثَمَّة . ومفعولُها الأول في هذه
الآية الكريمة محذوفٌ ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنه تنازع أرأيت وأتاكم في «
عذاب » ، والمسألةُ من إعمال الثاني ، إذ هو المختار عند البصريين ، ولمَّا أعمله
أضمر في الأول وحَذَفَه ، لأنَّ إبقاءَه مخصوصٌ بالضرورة ، أو جائزُ الذكرِ على
قلةٍ عند آخرين ، ولو أعمل الأول لأضمرَ في الثاني؛ إذ الحذف منه لا يكون إلا في
ضرورة أو في قليلٍ من الكلام ، ومعنى الكلام : قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب
الله إن أتاكم ، أيُّ شيءٍ تستعجلون منه ، وليس شيءٌ من العذاب يُسْتعجل به
لمرارته وشدة إصابته فهو مُقْتَضٍ لنفورِ الطَّبَع منه . قال الزمخشري « فإن قلت :
بم يتعلَّق الاستفهامُ وأين جوابُ الشرط؟ قلت : تعلَّق ب » أرأيتم « لأن المعنى :
أخبروني ماذا يَسْتعجل منه المجرمون ، وجوابُ الشرط محذوف وهو » تَنْدموا على
الاستعجال « أو » تعرفوا الخطأ فيه « . قال الشيخ : » وما قَدَّره غيرُ سائغ لأنه
لا يُقَدَّر الجوابُ إلا ممَّا تقدَّمَه لفظاً أو تقديراً تقول : « أنت ظالمٌ إن
فعلت » التقدير : إن فعلت فأنت ظالم ، وكذلك : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله
لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] التقدير : إن شاءَ الله نَهْتَدِ ، فالذي
يُسَوِّغ أن يُقَدَّر : إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون « .
وقال الزمخشري أيضاً : » ويجوزُ أن يكونَ « ماذا يَسْتعجل منه المجرمون » جواباً
للشرط كقولك : إنْ أَتَيْتك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب « أرأيتم » ، وأن
يكونَ « أثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به » . جواباً للشرط ، و « ماذا يَسْتعجل منه
المجرمون » اعتراضاً ، والمعنى : إنْ أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعِه حينَ لا
ينفعكم الإِيمان « . قال الشيخ : » أمَّا تجويزُه أن يكون « ماذا » جواباً للشرط
فلا يَصِح ، لأن جوابَ الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء تقول : إنْ
زارنا فلان فأيُّ رجل هو ، وإن زارَنا فلانٌ فأيُّ يدٍ له بذلك ، ولا يجوز حذفها
إلا إن كان في ضرورةٍ ، والمثالُ الذي ذكره وهو « إن أتيتك ما تُطْعمني؟ » هو مِنْ
تمثيلهِ لا من كلام العرب . وأمَّا قوله : « ثمَّ تتعلَّق الجملةُ ب » أرأيتم « إن
عنى بالجملة » ماذا يَسْتعجل « فلا يصحُّ ذلك ، لأنه قد جعلها جواباً للشرط ، وإن
عَنَى بالجملة جملةَ الشرط فقد فسَّر هو » أرأيتم « بمعنى أخبروني ، و » أخبرني «
يطلب متعلقاً مفعولاً ، ولا تقع جملةُ الشرط موقعَ مفعول أخبرني .
وأمَّا
تجويزُه أن يكون « أثم إذا ما وقع آمنتم به » جواباً للشرط و « ماذا يستعجل منه
المجرمون » اعتراضاً فلا يَصِحُّ أيضاً لِما ذكرناه مِنْ أنَّ جملةَ الاستفهام لا
تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاءُ الجواب ، وأيضاً ف « ثم » هنا هي حرف عطفٍ
تَعْطِفُ الجملةَ التي بعدها على التي قبلها ، فالجملةُ الاستفهامية معطوفةٌ ،
وإذا كانت معطوفة لم يَصِحَّ أن تقعَ جوابَ الشرط ، وأيضاً ف « أرأيتم » بمعنى «
أخبروني » تحتاج إلى مفعول ، ولا تقعُ جملةُ شرط موقعَه « .
وكونُ » أرأيتم « بمعنى » أخبروني « هو الظاهر المشهور . وقال الحوفي : » الرؤيةُ
مِنْ رؤية القلب التي بمعنى العلم لأنها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي
معناها التقرير ، وجوابُ الشرط محذوفٌ ، وتقديرُ الكلام : أرأيتم ما يستعجل من
العذاب المجرمون إنْ أتاكم عذابه « . انتهى ، فهذا ظاهرٌ في أنَّ » أرأيتم « غيرُ
مضمنةٍ معنى الإِخبار ، وأن الجملةَ الاستفهامية سَدَّت مَسَدَّ المفعولين ، ولكن
المشهور الأول . /
قوله : { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ } قد تقدَّم الكلام على هذه الكلمة ومذاهبِ الناس
فيها . وجَوَّز بعضُهم هنا أن تكون » ما « مبتدأً و » ذا « خبره ، وهو موصولٌ بعني
الذي ، و » يستعجل « صلتُه وعائدُه محذوفٌ تقديره : أيُّ شيء الذي يستعجله منه أي
من العذاب ، أو من الله تعالى . وجوَّز آخرون كمكي وأنظارِه أن يكونَ » ماذا «
كلُّه مبتدأً أي : يُجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحد ، والجملةُ بعده خبره . وقال
أبو علي : » وهو ضعيفٌ لخلوِّ الجملةِ من ضمير يعود على المبتدأ « . وقد أجاب أبو
البقاء عن هذا فقال : » ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في « منه » تعودُ على
المبتدأ كقولك : « زيدٌ أَخَذْتُ منه درهماً » . قلت : ومِثْلُ أبي علي لا يخفى
عليه مثل ذلك ، إلا أنه لا يَرَى عَوْدَ الهاءِ على الموصولِ لأن الظاهرِ عَوْدُها
على العذاب . قال الشيخ : « والظاهرُ عَوْدُ الضمير في » منه « على العذاب ، وبه
يَحْصُل الربطُ لجملةِ الاستفهامِ بمفعول » أرأيتم « المحذوف الذي هو مبتدأٌ في
الأصل » . وقال مكي : « وإن شئت جعلت » ما « و » ذا « بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع
رفع بالابتداء ، والجملةُ التي بعده الخبر ، والهاءُ في » منه « تعود أيضاً على العذاب
» . قلت : فقد تُرك المبتدأُ بلا رابطٍ لفظي حيث جَعَل الهاءَ عائدةً على غير
المبتدأ فيكون العائدُ عند محذوفاً . لكنه قال بعد ذلك : « فإنْ جعلت الهاء في »
منه « تعود على الله جلَّ ذكره و » ما « و » ذا « اسماً واحداً كانت » ما « في
موضع نصب ب » يستعجل « والمعنى : أيَّ شيء يستعجل المجرمون من الله » فقوله هذا
يؤذنَ بأن الضميرَ لمَّا عاد على غير المبتدأ جعله مفعولاً مقدماً ، وهذا الوجهُ
بعينه جائزٌ فيما إذا جُعل الضمير عائداً على العذاب . ووجهُ الرفعِ على الابتداء
جائزٌ فيما إذا جُعِل الضمير عائداً على الله تعالى إذ العائدُ الرابطُ مقدرٌ كما
تقدم التنبيهُ عليه .
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
قوله
تعالى : { أَثُمَّ } : قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك ، حيث يقدِّر
جملةً بين همزة الاستفهام وحرف العطف . و « ثمَّ » حرفُ عطف ، وقد قال الطبري ما
لا يوافَق عليه فقال : « وأثُمَّ هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى العطف ، وإنما
هي بمعنى هنالك » فإن كان قَصَدَ تفسير المعنى وهو بعيدٌ فقد أبهم في قوله ، لأن
هذا المعنى لا يُعْرَفُ في « ثُمَّ » بضم الثاء ، إلا أنه قد قرأ طلحة بن مصرف «
أثَمَّ » بفتح الثاء ، وحينئذ يَصِحُّ تفسيرها بمعنى هنالك .
قوله : { الآنَ } قد تقدَّم الكلام في « الآن » . وقرأ الجمهور « ألآن » بهمزة
استفهام داخلة على « الآن » وقد تقدم مذاهب القراء في ذلك . و « الآن » نصبٌ بمضمر
تقديره : الآن آمنتم . ودلَّ على هذا الفعلِ المقدرِ الفعلُ الذي تقدَّمه وهو
قولُه : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ } . ولا يجوز أن يعملَ فيه «
آمنتم » الظاهرُ؛ لأنَّ ما قبلَ الاستفهام لا يَعْمل فيما بعده ، كما أنَّ ما
بعدَه لا يعملُ فيما قبله لأنَّ له صدرَ الكلام ، وهذا الفعلُ المقدرُ ومعمولُه
على إضمار قول أي : قِيل لهم إذ آمنوا بعد وقوعِ العذابِ : آمنتم الآن به .
والقراءةُ بالاستفهامِ هي قراءةُ العامة ، وقد عَرَفْتَ تخريجَها . وقرأ عيسى
وطلحة « آمنتم به الآن » بوصل الهمزة من غيرِ استفهامٍ ، وعلى هذه القراءةِ ف « الآن
» منصوبٌ ب « آمنتم » هذا الظاهر .
قولُه : { وَقَدْ كُنتُم } جملةٌ حاليةٌ . قال الزمخشري : { وَقَدْ كُنتُم بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ } يعني تُكَذِّبون ، لأنَّ استعجالَهم كان على جهةِ التكذيبِ
والإِنكارِ « . قلت : فَجَعَله من باب الكناية لأنه دلالةٌ على الشيءِ بلازِمِه
نحو » هو طويلُ النِّجاد « كَنَيْتَ به عن طولِ قامتِه؛ لأنَّ طولَ نِجادِه لازمٌ
لطول قامتِه وهو باب بليغ .
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
وقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } : هذه الجملةُ على قراءةِ العامة عطفٌ على ذلك الفعلِ المقدَّرِ الناصبِ ل « الآن » ، وعلى قراءةِ طلحة هو استئنافُ إخبارٍ عَمَّا يُقال لهم يومَ القيامة ، و « ذوقوا » ، و « هل تُجْزَوْن » كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول ، وقوله « إلا بما » هو المفعولُ الثاني ل « تُجْزَون » ، والأولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، وهو استثناءٌ/ مفرغ .
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
قوله
تعالى : { أَحَقٌّ هُوَ } : يجوز أن يكونَ « حَقٌّ » مبتدأ و « هو » مرفوعاً
بالفاعلية سدَّ مَسَدَّ الخبر ، و « حق » وإن كان في الأصلِ مصدراً ليس بمعنى اسم
فاعل ولا مفعول ، لكنه في قوةِ « ثابت » فلذلك رَفَعَ الظاهرَ . ويجوز أن يكون «
حَقٌّ » خبراً مقدماً و « هو » مبتدأً مؤخراً .
واختلف في « يَسْتَنْبِئُونك » هذه هل هي متعديةٌ إلى واحد أو إلى اثنين أو إلى
ثلاثة؟ فقال الزمخشري : « ويَسْتَنْبِئونك فيقول : أحقٌّ هو » فظاهرُ هذه العبارةِ
أنها متعديةٌ لواحد ، وأن الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ بذلك القولِ المضمرِ
المعطوفِ على « يَسْتَنْبِئُونك » وكذا فَهِم عنه الشيخ أعني تعدِّيَها لواحدٍ .
وقال مكي : « أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضعِ المفعولِ الثاني إذا جَعَلْتَ »
يستنبؤنك « بمعنى يَسْتَخْبِرونك ، فإذا جَعَلْتَ » يستنبئونك « بمعنى
يَسْتَعْلِمونك كان » أحقٌّ هو « ابتداءً وخبراً في موضع المفعولَيْن لأنَّ »
أَنْبأ « إذا كان بمعنى أَعْلَم كان متعدياً إلى ثلاثةِ مفعولِيْن يجوزُ الاكتفاءُ
بواحدٍ ، ولا يجوزُ الاكتفاء باثنين دون الثالث ، وإذا كانت » أنبأ « بمعنى أَخْبر
تَعَدَّتْ إلى مفعولَيْن ، لا يجوز الاكتفاءُ بواحد دون الثاني : وأنبأ ونبَّأ في
التعدِّي سواءٌ » . وقال ابنُ عطية : « معناه يَسْتَخْبرونك ، وهو على هذا يتعدَّى
إلى مفعولين أحدهما الكافُ ، والآخرُ في الابتداء والخبر » فعلى ما قال تكون «
يَسْتنبئونك » معلقة بالاستفهام ، وأصل استنبأ أن يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما ب «
عن » ، تقول : اسْتَنْبأت زيداً عن عمرو أي : طلبت منه أن يُنْبِئَني عن عمرو . ثم
قال : « والظاهر أنها تحتاج إلى مفعولِين ثلاثةٍ أحدُهما الكافُ ، والابتداءُ
والخبرُ سَدَّ مَسَدَّ المفعولَيْن » . قال الشيخ : « وليس كما ذكر لأن » استعلم «
لا يُحْفظ كونُها متعديةً إلى مفاعيلَ ثلاثةٍ ، لا يُحْفظ » استعملت زيداً عمراً قائماً
« فتكونُ جملةُ الاستفهامِ سَدَّتْ مَسدَّ المفعولين ، ولا يَلْزَمُ مِنْ كونها
بمعنى » يَسْتعلمونك « أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ » استعلم « لا يتعدَّى إلى
ثلاثةٍ كما ذكرنا » .
قلت : قد سَبَقَ أبا محمد إلى هذا مكي بن أبي طالب كما قدَّمْتُ حكايته عنه ، والظاهرُ
جوازُ ذلك ، ويكون التعدي إلى ثالث قد حَصَلَ بالسين ، لأنهم نَصُّوا على أن السين
تُعَدّي ، فيكونُ الأصلُ : « علم زيدٌ عمراً قائماً » ثم تقول : « استعلمْتُ زيداً
عمراً قائماً » ، إلا أنَّ النحويين نَصُّوا على أنه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلا «
عَلِم » و « رأى » المنقولَيْن بخصوصيةِ همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ ، وأنبأ ونَبَّأ
وأخبر وخبَّر وحدَّث .
وقرأ
الأعمش « آلحقُّ » بلامِ التعريف . قال الزمخشري : « وهو أَدْخَلُ في الاستهزاء
لتضمُّنه معنى التعريض بأنه باطلٌ ، ذلك أن اللامُ للجنس وكأنه قيل : أهو الحقُّ
لا الباطلُ ، أو : أهو الذي سَمَّيْتموه الحق » .
قوله : { إي } حرفُ جوابٍ بمعنى نعم ولكنها تختصُّ بالقسم أي : لا تُسْتعمل إلا في
القسم بخلافِ نعم . قال الزمخشري : « وإي بمعنى نعم في القسم خاصةً كما كان » هل «
بمعنى » قد « في الاستفهامِ خاصةً ، وسَمِعْتهم يقولون في التصديق » إيْوَ «
فَيَصِلُونه بواو القسم ولا يَنْطِقون به وحده » . قال الشيخ : « لا حجَّةَ فيما
سمعه لعدمِ الحُجة في كلامِ مَنْ سمعه لفسادِ كلامه وكلامِ مَنْ قبله بأزمانٍ
كثيرة » . وقال ابن عطية : « وهي لفظةٌ تتقدَّم القسمَ بمعنى نعم ، ويجيءُ بعدها حرفُ
القسم وقد لا يجيءُ تقول : إي وربي ، إي ربي » .
قوله : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } يجوزُ أن تكونَ الحجازيةَ ، وأن تكونَ
التميميةَ ، لخفاءِ النصبِ أو الرفع في الخبر . وهذا عند غيرِ الفارسي وأتباعِه ،
عني جوازَ زيادةِ الباء في خبر التميمية . وهذه الجملةُ تحتملُ وجهين ، أحدهما :
أن تكون معطوفةً على جوابِ القسم ، فيكونَ قد أجاب القسم بجملتين إحداهما مثبتةٌ
مؤكَّدةٌ ب « إنَّ » واللام ، والأخرى منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباء . والثاني :
أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للإِخبار بعَجْزهم عن التعجيز . و « مُعْجز » مِنْ أعجز
فهو متعدٍّ لواحدٍ كقوله تعالى : { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } [ الجن : 12 ]
فالمفعول هنا محذوفٌ أي : بمعجزين الله . وقال الزجاج : « أي : ما أنتم مِمَّن
يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبكم » . ويجوز أن يكونَ استُعْمل استعمَال اللازم؛ لأنه قد
كثُر فيه حَذْفُ المفعولِ حتى قالت العرب : « أعْجزَ فلانٌ » : إذا ذهب في الأرض
فلم يُقْدَرْ عليه .
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
قوله
تعالى : { لاَفْتَدَتْ بِهِ } : « افتدى » يجوز أن يكون متعدياً وأن يكونَ قاصراً
، فإذا كان مطاوعاً ل « فَدَى » كان قاصراً تقول : فَدَيْتُه فافتدى ، ويكونُ
بمعنى فَدَى فيتعدى لواحد . والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين : فإنْ جعلناه متعدياً
فمفعولُه محذوفٌ تقديرُه : لافتدَتْ به نفسَها ، وهو في المجاز كقولِه : { كُلُّ
نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .
وقوله : { وَأَسَرُّواْ } / قيل : « أسرَّ » مِنَ الأضداد ، يُسْتعمل بمعنى أظهر ،
كقوله الفرزدق :
2599 ولمَّا رأى الحجَّاجَ جرَّد سيفَه ... أسَرَّ الحَرُوريُّ الذي كانوا أضمرا
وقول الآخر :
2600 فأسرَرْتُ الندامةَ يوم نادى ... بِرَدِّ جِمالِ غاضِرةَ المُنادي
ويُسْتعمل بمعنى : « أخفى » وهو المشهورُ في اللغةِ كقوله : { يَعْلَمُ مَا
تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النحل : 19 ] وهو في الآيةِ يحتمل الوجهين .
وقيل : إنه ماض على بابه قد وقع . وقيل : بل هو بمعنى المستقبل . وقد أبعدَ بعضُهم
فقال : « أسرُّوا الندامةَ » أي : بَدَتْ بالندامة أسِرَّةُ وجوهِهم أي : تكاسيرُ
جباهِهم .
و { لَمَّا رَأَوُاْ } يجوز أن تكونَ حرفاً ، وجوابُها محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه
، وهو المتقدمُ عند مَنْ يَرى تقديمَ جواب الشرط جائزاً . ويجوز أن تكونَ بمعنى
حين والناصبُ لها « أسَرُّوا » . وقوله : « ظلَمْت » في محل جرِّ صفةٍ ل « نفس »
أي : لكل نفس ظالمة . و { مَّا فِي الأرض } اسمُ أن ، و « لكلٍ » هو الخبر .
وقوله : { وَقُضِيَ } يجوزُ أن يكونَ مستأنفاً ، وهوالظاهر ، ويجوز أن يكونَ
معطوفاً على « رأوا » فيكونَ داخلاً في حَيِّز « لَمَّا » والضميرُ في « بينهم »
يعودُ على « كل نفس » في المعنى . وقال الزمخشري : « بين الظالمين والمظلومين ،
دلَّ على ذلك ذِكْرُ الظلم » وقال بعضُهم : إنه يعود على الرؤساء والأتباع . و «
بالقسط » يجوز أن تكونَ الباءُ للمصاحبةِ ، وأن تكونَ للآلة .
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
وقوله تعالى : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } : قدَّمَ الجارَّ للاختصاص أي : إليه لا إلى غيرِه تُرْجَعون ولأجل الفواصل . وقرأ العامَّةُ : « تُرْجَعون » بالخطاب . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر « يُرْجَعُون » بياء الغَيْبة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
قوله
تعالى : { مِّن رَّبِّكُمْ } : يجوز أن تكونَ « مِنْ » لابتداء الغاية فتتعلَّقَ
حينئذ ب « جاءَتْكم » ، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ ، ويجوز أن تكونَ للتبعيضِ
فتتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفة لموعظة أي : موعظةٌ كائنةٌ مِنْ مواعظِ ربكم .
وقوله : { مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ } من باب ما عُطِف فيه الصفات بعضُها على بعض أي : قد جاءتكم موعظةٌ
جامعةٌ لهذه الأشياءِ كلِّها .
و « شِفاء » في الأصلِ مصدرٌ جُعِل وَصْفاً مبالغة ، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به أي
: يداوى ، فهو كالدواءِ لما يداوى . و { لِّمَا فِي الصدور } يجوزُ أن يكونَ صفةً
ل « شفاء » فيتعلَّقَ بمحذوف ، وأن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأن العاملَ
فرعٌ إذا قلنا بأنه مصدرٌ . وقوله : « للمؤمنين » محتملٌ لهذين الوجهين وهو من
التنازع؛ لأنَّ كلاً من الهدى والرحمة يَطْلبه .
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قوله
تعالى : { بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } : في تعلُّق هذا الجارِّ أوجهٌ ، أحدُها
: أنَّ « بفضل » و « برحمته » متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه : بفضل الله وبرحمته
ليَفْرحوا بذلك فَلْيفرحوا ، فحذفَ الفعلَ الأولَ لدلالة الثاني عليه ، فهما
جملتان ، ويدلُّ على ذلك قولُ الزمخشري : « أصلُ الكلام : بفضل الله وبرحمته
فَلْيفرحوا فبذلك والتكرير للتأكيد والتقريرِ وإيجابِ اختصاص الفضل والرحمة بالفرح
دونَ ما عَداهما من فوائدِ الدنيا ، فحُذِفَ أحدُ الفعَلْين لدلالةِ المذكورِ عليه
، والفاء داخلةٌ لمعنى الشرط كأنه قيل : إنْ فَرِحوا بشيءٍ فَلْيَخُصُّوهما بالفرح
فإنه لا مفروحَ به أحقُّ منهما .
الثاني : أن الجارَّ الأولَ متعلقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السياقُ والمعنى ، لا
نفس الفعلِ الملفوظِ به والتقديرُ : بفضل الله وبرحمتِه فَلْيَعْتَنوا فبذلك
فليفرحوا قاله الزمخشري .
الثالث : أن يتعلق الجارُّ الأول ب » جاءتكم « قال الزمخشري : » ويجوز أن يُراد «
قد جاءَتْكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، أي فبمجيئِها فَلْيفرحوا
» . قال الشيخ : « أما إضمار » فليعتنوا « فلا دليلَ عليه » قلت : الدلالةُ عليه
من السياق واضحةٌ ، وليس شرطُ الدلالةِ أن تكونَ لفظية .
وقال الشيخ : « وأمَّا تعلُّقه بقوله : » قد جاءتكم « فينبغي أن يقدَّرَ محذوفاً
بعد » قل « ، ولا يكونُ متعلِّقاً ب » جاءتكم « الأولى للفصل بينهما ب » قل « .
قلت : هذا إيرادٌ واضحٌ ، ويجوزُ أن تكونَ » بفضل الله « صفةً ل » موعظة « أي :
موعظةٌ مصاحبةٌ أو ملتبسَةٌ بفضل الله .
الرابع : قال الحوفي : » الباءُ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه المعنى أي : قد جاءتكم
الموعظةُ بفضل الله « .
الخامس : أنَّ الفاءَ الأولى زائدةٌ ، وأن قولَه » بذلك « بدلٌ مِمَّا قبله وهو {
بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } وأُشير بذلك إلى اثنين وهما الفضلُ والرحمةُ كقوله
: / { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ، وكقوله :
2601 إنَّ للخيرِ وللشرِ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
وفي هاتين الفاءَيْن أوجهٌ ، أحدُهما : أنَّ الأولى زائدةٌ ، وقد تقدَّم تحريرُه
في الوجه الخامس . الثاني : أن الفاءَ الثانية مكررةٌ للتوكيد ، فعلى هذا لا تكونُ
الأولى زائدةً ، ويكونُ أصلُ التركيبِ : فبذلك ليفرحوا ، وعلى القولِ الأول قبله
يكون أصلُ التركيب : بذلك فَلْيفرحوا . الثالث : قال أبو البقاء : » الفاءُ الأولى
مرتبطةٌ بما قبلها ، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : فليَعْجبوا بذلك فَلْيفرحوا
كقولهم : « زيداً فاضربه أي : تَعمَّدْ زيداً فاضْرِبه » .
والجمهورُ على « فَلْيفرحوا » بياء الغيبة . وقرأ عثمان بن عفان وأبيّ وأنس والحسن
وأبو رَجاء وابن هرمز وابن سيرين بتاء الخطاب ، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم . قال الزمخشري : « وهو الأصلُ والقياسُ » .
وقال
الشيخ : « إنها لغةٌ قليلة » يعني أن القياسَ أن يُؤْمَرَ المخاطب بصيغة افعل ،
وبهذا الأصلِ قرأ أُبَيُّ « فافرحوا » وهي في مصحفِه كذلك ، وهذه قاعدةٌ كليةٌ :
وهي أن الأمر باللام يَكْثُر في الغائب والمخاطبِ المبني للمفعول مثال الأول : «
ليقم زيداً » وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور ، ومثال الثاني : ليُعْنَ بحاجتي ،
ولتُضْرَبْ يا زيد . فإن كان مبنياً للفاعل كان قليلاً كقراءة عثمان ومن معه . وفي
الحديث « لتأخذوا مصافَّكم » بل الكثيرُ في هذا النوع الأمرُ بصيغة افْعَلْ نحو :
قم يا زيد وقوموا ، وكذلك يَضْعُف الأمر باللام للمتكلم وحده أو ومعه غيره ،
فالأول نحو « لأقُمْ » تأمر نفسك بالقيام ، ومنه قوله عليه السلام : « قوموا
فلأصلّ لكم » .
ومثالُ الثاني : لنقمْ أي : نحن وكذلك النهي ، ومنه قول الشاعر :
2602 إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ ... بها أبداً ما دام فيها الجُراضِمُ
ونَقَل ابن عطية عن ابنِ عامر أنه قرأ « فَلْتَفْرحوا » خطاباً ، وهذه ليست
مشهورةً عنه . وقرأ الحسن وأبو التيَّاح « فَلِيفرحوا » بكسرِ اللام ، وهو الأصل .
قوله : { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } « هو » عائدٌ على الفضل والرحمة ، وإن
كانا شيئين؛ لأنهما بمعنى شيء واحد ، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ، ولذلك
أُشير إليهما بإشارة الواحد . وقرأ ابن عامر « تَجْمعون » بالتاء خطاباً وهو يحتمل
وجهين أحدُهما : أن يكونَ من باب الالتفات فيكونَ في المعنى كقراءة الجماعة ، فإن
الضمير يُراد به مَنْ يراد بالضمير في قولِه : « فَلْيفرحوا » . والثاني : أنه
خطابٌ لقوله : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ } [ يونس : 57 ] ، وهذه القراءةُ
تناسبُ قراءةَ الخطاب في قوله : « فَلْيفرحوا » ، وقد تقدَّم أن ابنَ عطية نقلها
عنه أيضاً .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
قوله
تعالى : { أَرَأَيْتُمْ } : هذه بمعنى أخبروني . وقوله « ما أنزل » يجوزُ أن تكونَ
« ما » موصولةً بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفُ أي : ما أنزله ، وهي في محل نصبٍ
مفعولاً أول ، والثاني هو الجملةُ من قوله : { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } والعائدُ
من هذه الجملةِ على المفعولِ الأول محذوفٌ تقديرُه : اللَّهُ أَذِن لكم فيه .
واعتُرِضَ على هذه بأنَّ قولَه « قُلْ » يمنع من وقوع الجملةِ بعده مفعولاً ثانياً
. وأُجيب عنه بأنه كُرِّر توكيداً . ويجوز أن تكونَ « ما » استفهامية منصوبةً
المحلِّ ب « أَنْزَلَ » وهي حينئذ مُعَلِّقَةٌ ل « أَرَأَيْتم » ، وإلى هذا ذهب
الحوفي والزمخشري . ويجوز أن تكونَ « ما » الاستفهاميةُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ،
والجملةُ من قوله : { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } خبره ، والعائدُ محذوفٌ كما
تقدَّم أي : أَذِن لكم فيه ، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقَةٌ ل « أَرَأَيتم »
، والظاهرُ من هذه الوجهِ هو الوجهُ الأولُ ، لأنَّ فيه إبقاءَ « أرأيت » على
بابها مِنْ تَعَدِّيها إلى اثنين ، وأنها مؤثرةٌ في أولِهما بخلافِ جَعْلِ « ما »
استفهاميةً فإنها معلقةٌ ل « أرأيت » وسادَّةٌ مَسَدَّ المفعولين .
وقوله : { مِّن رِّزْقٍ } يجوزُ أن يكونَ حالاً من الموصول ، وأن تكونَ « مِنْ »
لبيان الجنس و « أنزل » على بابها وهو على حَذْف مضاف أي : أنزله من سببِ رزقٍ وهو
المطر . وقيل : تُجُوِّز بالإِنزال عن الخلقِ كقولِه { وَأَنزْلْنَا الحديد } [
الحديد : 25 ] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام } [ الزمر : 6 ] .
قوله : { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } في « أم » هذه وجهان أحدهما : أنها متصلةٌ
عاطفةٌ/ تقديرُه : أخبروني : آللَّهُ أَذِنَ لكم في التحليلِ والتحريم ، فإنهم
يفعلون ذلك بإذنه أم يَكْذِبون على الله في نسبة ذلك إليه . والثاني : أن تكونَ
منقطعةً . قال الزمخشري : « ويجوز أن تكونَ الهمزةُ للإِنكار و » أم « منقطعةٌ
بمعنى : بل أَتَفْترون على الله ، تقريراً للافتراء » . والظاهر هو الأول إذ
المعادلةُ بين هاتين الجملتين اللتين بمعنى المفردين واضحةٌ ، إذ التقدير : أيُّ
الأمرينِ وَقَعَ : إذْنُ اللَّهِ لكم في ذلك أم افتراؤكم عليه؟
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قوله
تعالى : { وَمَا ظَنُّ } : « ما » مبتدأةٌ استفهامية ، و « ظنُّ » خبرُها ، و «
يومَ » منصوبٌ بنفس الظن ، والمصدرُ مضافٌ لفاعلِه ، ومفعولا الظن محذوفان ،
والمعنى : وأيُّ شيءٍ يَظُنُّ الذين يَفْترون يومَ القيامة أني فاعلٌ بهم
أَأُنجيهم من العذاب أم أنتقمُ منهم؟
وقرأ عيسى بن عمر : « وما ظَنَّ الذين » جَعَلَه فعلاً ماضياً والموصولُ فاعلُه ،
و « ما » على هذه القراءة استفهاميةٌ أيضاً في محلِّ نصبٍ على المصدرِ ، وقُدّمَتْ
لأنَّ الاستفهامَ له صدرُ الكلام والتقدير : أيَّ ظنٍ ظنَّ المفترون ، و « ما »
الاستفهاميةُ قد تَنُوب عن المصدر ، ومنه قول الشاعر :
2603 - ماذا يَغيرُ ابنَتْي رَبْعٍ عويلُهما ... لا تَرْقُدان ولا بؤسى لمَنْ
رَقَدا
وتقول : « ما تَضْرب زيداً » ، تريد : أيَّ ضربٍ تَضْربه . قال الزمخشري : أتى به
فعلاً ماضياً ، لأنه واقعٌ لا محالةَ ، فكأنه قد وقع وانقضى « وهذا لا يستقيمُ هنا
لأنه صار نصاً في الاستقبال لعملهِ في الظرف المستقبل وهو يومُ القيامة ، وإن كان
بلفظ الماضي .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
قوله
تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ } : « ما » نافية في الموضعين
، ولذلك عَطَفَ بإعادة « لا » النافية ، وأَوْجب ب « إلا » بعد الأفعال لكونها
منفيةً . و « في شأن » خبر « تكون » والضميرُ في « منه » عائدٌ على « شأن » و «
مِنْ قرآن » تفسير للضمير ، وخُصَّ من العمومِ ، لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شؤونه صلى
الله عليه وسلم . وقيل : يعودُ على التنزيل ، وفُسِّر بالقرآن لأنَّ كلَّ جزء منه
قرآن ، وإنما أَضْمَرَ قبل الذكرِ تعظيماً له . وقيل : يعود على الله ، أي : وما
تتلو مِنْ عند الله من قرآنٍ . وقال أبو البقاء : « من الشأن » ، أي : مِنْ أجله ،
و « من قرآن » مفعول « تتلو » و « مِنْ » زائدةٌ « . يعني أنها زِيْدت في المفعول
به ، و » من « الأولى جارةٌ للمفعولِ مِنْ أجله ، تقديره : وما تتْلو من أجل الشأن
قرآناً ، وزِيْدَت لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ والمجرور نكرةٌ . وقال مكي : » منه «
الهاء عند الفراء تعود على الشأن على تقديرِ حَذْفِ مضافٍِ تقديرُه : وما تتلو من
أجل الشأن ، أي : يحدث لك شأنٌ فتتلو القرآنَ من أجله » .
والشَّأْنُ مصدرُ شَأنَ يَشْأَنُ شَأَنَه ، أي : قَصَد يَقْصِدُ قَصْدَه ، وأصلُه
الهمز ، ويجوز تخفيفه . والشأن أيضاً الأمرُ ، ويُجْمع على شُؤُون .
وقوله : { إِلاَّ كُنَّا } هذه الجملةُ حاليةٌ وهو استثناء مفرغ ، وولي « إلا »
هنا الفعلُ الماضي دون قد لأنه قد تقدَّمها فعلٌ وهو مُجَوِّز لذلك .
وقوله : « إذ » هذا الظرفُ معمولٌ ل « شُهودا » ولمَّا كانت الأفعالُ السابقةُ
المرادُ بها الحالةُ الدائمةُ وتنسحب على الأفعالِ الماضيةِ كان الظرفُ ماضياً ،
وكان المعنى : وما كنت ، وما تكون ، ولا عَمِلْتم ، إلا كنا عليكم شهوداً ، إلا
أفضتم فيه . و « إذ » تُخَلِّصُ المضارعَ لمعنى الماضي .
قوله : { وَمَا يَعْزُبُ } قرأ الكسائي هنا وفي سبأ « يَعْزِب » بكسرِ العين ،
والباقون بضمها ، وهما لغتان في مضارع عَزَبَ ، يقال : عَزَب يَعْزِب العين ،
ويَعْزُب ، أي : غابَ حتى خفي ، ومنه الروضُ العازِبُ . قال أبو تمام :
2604 وقَلْقَلَ نَأْيٌ مِنْ خراسانَ جَأْشَها ... فقلتُ اطمئنِّي أَنْضَرُ الروضِ
عزِبُه
وقيل للغائب عن أهله : عازِب ، حتى قالوا لمن لا زوجَ له : عازب . وقال الراغب : «
العازِبُ : المتباعِدُ في طلب الكلأ . ويقال : رجل عَزَبٌ وامرأة عَزَبة ، وعَزَب
عنه حِلْمُه ، أي : غاب ، وقوم مُعَزَّبون ، أي : عَزَبَتْ عنهم إبلُهم ، وفي
الحديث : » من قرأ القرآن في أربعين يوماً فقد عَزَب « ، أي : فقد بَعُد عهدُه
بالخَتْمة . وقال قريباً منه الهروي فإنه قال : / » أي : بَعُدَ عهدُه بما ابتدأ
منه وأبطأ في تلاوتِه « ، وفي حديث أم مَعْبد : » والشاءُ عازِبٌ حِيال « ، قال :
» والعازِب : البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى .
والحائلُ
: التي ضَرَبَها الفحلُ فلم تَحْمل لجُدُوبة السَّنة . وفي الحديث أيضاً :
« أصبحنا بأرضٍ عَزيبةٍ صحراءَ » ، أي : بعيدةِ المرعى . ويقال للمال الغائب :
عازِب ، وللحاضرِ عاهِن . والمعنى في الآية : وما يَبْعُد أو ما يخفى أو ما يَغيب
عن ربك .
و « مِنْ مِثْقال » فاعل ، و « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، أي : ما يبعد عنه مثقالُ .
والمثْقال هنا : اسمٌ لا صفةٌ ، والمعنيُّ به الوزنُ ، أي : وزن ذرة .
قوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ } قرأ حمزة برفع راء « أَصْغر » و «
أكبر » ، والباقون بفتحها . فأما الفتحُ ففيه وجهان ، أحدهما : وعليه أكثر
المُعْربين أنه جَرٌّ ، وإنما كان بالفتحةِ لأنه لا يَنْصَرف للوزن والوصف ،
والجرُّ لأجلِ عطفِه على المجرور وهو : إمَّا « مثقال » ، وإمَّا « ذرة » . وأمَّا
الوجهُ الثاني فهو أنَّ « لا » نافيةٌ للجنس ، و « أصغر » و « أكبر » اسمُها ،
فهما مَبْنيان على الفتح . وأمَّا الرفعُ فمن وجهين أيضاً ، أشهرهُما عند
المُعْربين : العطفُ على محل « مثقال » إذ هو مرفوعٌ بالفاعلية و « مِنْ » مزيدة
فيه كقولك : « ما قام مِنْ رجل ولا امرأة » بجرِّ « امرأة » ورَفِعْها . والثاني :
أنه مبتدأ ، قال الزمخشري : « والوجهُ النصبُ على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء
ليكون كلاماً برأسِه ، وفي العطفِ على محل » مثقال ذرة « ، أو على لفظ » مثقال ذرة
« فتحاً في موضع الجرِّ لامتناع الصرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولَك : » لا يَعْزُب عنه
شيءٌ إلا في كتاب مشكل « انتهى . وهذان الوجهان اختيار الزجاج ، وإنما كان هذا
مُشْكلاً عنده لأنه يصير التقدير : إلا في كتاب مبين فيعزبُ ، وهو كلامٌ لا يصحُّ
. وقد يزول هذا الإِشكالُ بما ذكره أبو البقاء : وهو أن يكون { إِلاَّ فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ } استثناءٌ منقطعاً ، قال : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } ، أي : إلا هو في
كتاب ، والاستثناءُ منقطع » . وقال الإِمام فخر الدين بعد حكايته الإِشكالَ
المتقدم : « أجاب بعضُ المحققين مِنْ وجهين ، أحدهما : أن الاستثناءَ منقطع ،
والآخر : أن العُزوبَ عبارةٌ عن مُطْلق البعد ، والمخلوقاتِ قسمان ، قسمٌ أوجده
اللهُ ابتداءً مِنْ غير واسطةٍ كالملائكة والسمواتِ والأرض ، وقسمٌ أوجده بواسطةِ
القسم الأول مثلِ الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعدُ في
سلسلةِ العِلِّيَّة والمعلولِيَّة عن مرتبة وجود واجبِ الوجود ، فالمعنى : لا
يَبْعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ،
كتبه الله وأثبت فيه صورَ تلك المعلومات » .
قلت
: فقد آل الأمرُ إلى أنه جَعَله استثناءً مفرغاً ، وهو حال من « أصغر » و « أكبر »
، وهو في قوة الاستثناءِ المتصل ، ولا يُقال في هذا : إنه متصل ولا منقطع ، إذ
المفرَّغُ لا يُقال فيه ذلك .
وقال الجرجاني : « إلا » بمعنى الواو ، أي : وهو في كتاب مبين ، والعربُ تضعُ «
إلا » موضعَ واو النسق كقوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] { إِلاَّ
الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ البقرة : 150 ] . وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ
جداً ، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة ، وأنه شيءٌ قال به الأخفش ،
ولم يَثْبُت ذلك بدليل صحيح . وقال الشيخ أبو شامةَ : « ويُزيل الإِشكالَ أن
تُقَدِّر قبلَ قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } » ليس شيء من ذلك إلا في كتاب « وكذا
تقدِّر في آية الأنعام .
ولم يُقرأ في سبأ إلا بالرفع ، وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ يقول إنه معطوف على » مثقال
« ويُبَيِّنه أن » مثقال « فيها بالرفع ، إذ ليس قبله حرفُ جر . وقد تقدَّمَ
الكلامُ على نظير هذه المسألة والإِشكالُ فيها في سورة الأنعام في قوله : { وَمَا
تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } [ يونس : 59 ] ، إلى قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ } [ يونس : 59 ] ، وأنَّ صاحبَ » النظم « الجرجانيَّ هذا أحال الكلامَ
فيها على الكلامِ في هذه السورة ، وأن أبا البقاء قال : » لو جَعَلْناه كذا
لفَسَدَ المعنى « ، وقد بيَّنْتُ تقريرَ فسادِه والجوابَ عنه في كلام طويل هناك
فعليك باعتبارِه ونَقْلِ ما يمكن نَقْلُه إلى هنا .
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ } : في محلِّه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مرفوعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمر ، أي : هم الذين آمنوا ، أو على أنه خيرٌ ثانٍ ل « إنَّ » ، أو على الابتداءِ ، والخبرُ الجملةُ من قوله : « لهم البشرى » ، أو على النعت على موضع « أولياء » لأنَّ موضعَه رفعٌ بالابتداء قبل دخول « إنَّ » أو على البدل من الموضع أيضاً ، ذكرهما مكي . وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين لأنهم يُجْرون التوابعَ كلَّها مُجرى عطفِ النسق في اعتبار المحل/ محلِّ الجر بدلاً من الهاء والميم في « عليهم » . وقيل : منصوبُ المحلِّ نعتاً ل « أولياء » ، أو بدلاً منهم على اللفظ أو على إضمارِ فعلٍ لائقٍ وهو « أمدحُ » ، فقذ تَحَصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ : الرفعُ من خمسة ، والجرُّ من وجه واحد ، والنصبُ من ثلاثة . وإذا لم تجعلِ الجملةَ من قوله : « لهم البشرى » ، خبراً للذين جاز فيها الاستئنافُ ، وأن تكونَ خبراً ثانياً ل « إنَّ » أو ثالثاً .
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
قوله تعالى : { فِي الحياة الدنيا } : يجوز فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلقٌ بالبشرى ، أي : البشرى تقع في الدنيا ، وفُسِّرت بالرؤيا الصالحةِ . والثاني : أنها حالٌ من « البشرى » فتتعلق بمحذوف ، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في « لهم » لوقوعه خبراً . وقوله : « لا تبديلَ » جملةٌ مستأنفة . وقوله : « ذلك » إشارةُ للبشرى وإن كانت مؤنثةً لأنها في معنى التبشير . وقيل : هو إشارةٌ إلى النعيم ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : « ذلك » إشارةٌ إلى كونهم مبشَّرين في الدارين « .
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
قوله
تعالى : { إِنَّ العزة } : العامَّةُ على كسرِ « إنَّ » استئنافاً وهو مُشْعِرٌ
بالعِلِّيَّة . وقيل : هو جوابُ سؤالٍ مقدرٍ كأنَّ قائلاً قال : لِمَ لا يُحْزِنُه
قولُهم ، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله : { إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } ، ليس
لهم منها شيءٌ فكيف تبالي بهم وبقولهم؟ .
والوقفُ على قولِه : { قَوْلُهُمْ } ينبغي أن يُعْتمد ويُقْصَدَ ثم يُبتدأ بقوله :
« إن العزَّة » وإن كان من المستحيلِ أن يتوهَّم أحد أن هذا مِنْ مقولهم ، إلا
مَنْ لا يُعْتَبَرُ بفهمه .
وقرأ أبو حيوة : « أنَّ العزة » بفتح « أنَّ » . وفيها تخريجان ، أحدهما : أنها
على حَذْفِ لام العلة ، أي : لا يَحْزنك قولهم لأجل أن العزة لله جميعاً . والثاني
: أنَّ « أنَّ » وما في حيِّزها بدل من « قولهم » كأنه قيل : ولا يَحْزُنك أن
العَّزة لله ، وكيف يَظْهَرُ هذا التوجيهُ أو يجوز القول به ، وكيف ينهى رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في المعنى وهو لم يَتَعاطَ شيئاً من تلك الأسباب ،
وأيضاً فمِنْ أيِّ قبيلٍ الإِبدالُ هذا؟ قال الزمخشري : « ومَنْ جعله بدلاً من »
قولهم « ثم أنكره فالمُنْكَر هو تخريجُه لا ما أنكره من القراءة به » ، يعني أن
إنكارَه للقراءة مُنْكَرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذَكَرْتُ لك مِنَ التعليلِ ،
وإنما المُنْكَر هذا التخريجُ .
وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ونَسَبُوها للغلَط ولأكثر منه . قال القاضي : «
فَتْحُها شاذٌّ يُقارِبُ الكفر ، وإذا كُسِرت كان استئنافاً وهذا يدلُّ على فضيلة
علم الإِعراب » . وقال ابن قتيبة : « لا يجوز فتحُ » إنَّ « في هذا الموضعِ وهو
كفرٌ وغلوٌّ » ، وقال الشيخ : « وإنما قالا ذلك بناءً منهما على أن » أنَّ «
معمولةٌ ل » قولهم « . قلت : كيف تكون معمولةً ل » قولهم « وهي واجبةُ الكسرِ بعد
القول إذا حُكِيَتْ به ، كيف يُتَوَهَّم ذلك؟ وكما لا يُتَوَهَّم هذا المعنى مع كسرِها
لا يُتَوَهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيح .
و » جميعاً « حال من » العِزَّة « ويجوز أن يكون توكيداً ولم يؤنَّثْ بالتاءِ ،
لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث لشبهه بالمصادرِ ، وقد تقدَّم تحريرُه في
قوله : { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ } [ الأعراف : 56 ] .
وقوله : { قَوْلُهُمْ } ، قيل : حُذِفَتْ صفتُه لِفَهْم المعنى ، إذ التقديرُ :
ولا يَحْزنك قولُهم الدالُّ على تكذيبك ، وحَذْفُ الصفةِ وإبقاءُ الموصوفِ قليلٌ
بخلافِ عكسِه . وقيل : بل هو عامٌّ أُريد به الخاص .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
وقوله
تعالى : { مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض } : يجوزُ أن يُرادَ [ به ] العقلاءُ
خاصةً ، ويكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، وذلك أنه تعالى إذا كان يملك
أشرفَ المخلوقات وهما الثَّقَلان العقلاءُ من الملائكة والإِنس والجن فَلأَنْ
يملكَ ما سواهم بطريق الأَْوْلى والأَْحْرى . ويجوز أن يُرادَ العمومُ ، وغَلَّبَ
العاقلَ على غيرِه .
قوله : { وَمَا يَتَّبِعُ } يجوز في « ما » هذه أن تكون نافيةً وهو الظاهرُ . و «
شركاء » مفعولُ « يَتَّبع » ، ومفعولُ « يَدْعون » محذوفٌ لفَهْمِ المعنى ،
والتقدير : وما يتبع الذين يَدْعُون مِنْ دون الله آلهةً شركاءَ ، فآلهةً مفعول «
يَدْعون » و « شركاءَ » مفعول « يتبع » ، وهو قولُ الزمخشري ، قال : « ومعنى وما
يَتَّبعون شركاءَ : وما يتَّبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يُسَمُّونها شركاءَ؛ لأن
شركةَ الله في الربوبيةِ مُحال ، إن يتبعونَ إلا ظنَّهم أنها شركاءُ » . ثم قال :
« ويجوز أن تكون » ما « استفهاماً ، يعني : وأيَّ شيءٍ يَتَّبعون ، و » شركاء «
على هذا نُصِب ب » يدعون « ، وعلى الأول ب » يَتَّبع « وكان حقُّه » وما يتبع
الذين يَدْعُون من دون الله شركاءَ شركاءَ « فاقتصر على أحدهما للدلالة » .
وهذا الذي/ ذكره الزمخشري قد رَدَّه مكي ابن أبي طالب وأبو البقاء . أمَّا مكيٌّن
فقال : « انتصَبَ شركاء ب » يَدْعون « ومفعول » يَتَّبع « قام مقامَه » إنْ يتبعون
إلا الظنَّ لأنه هو ، ولا ينتصِبُ الشركاء ب « يَتَّبع » لأنك تَنْفي عنهم ذلك ،
والله قد أَخْبر به عنهم « . وقال أبو البقاء : » وشركاء مفعولٌ « يَدْعون » ولا
يجوزُ أن يكونَ مفعول « يتبعون »؛ لأنَّ المعنى يَصير إلى أنَّهم لم يَتَّبعوا
شركاء ، وليس كذلك .
قلت : معنى كلامِهما أنه يَؤُول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاءَ ، والواقعُ
أنهم قد اتَّبعوا الشركاء . وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى أنهم وإن اتَّبعوا
شركاءَ فليسوا بشركاءَ في الحقيقة؛ بل في تسميتهم هم لهم بذلك ، فكأنهم لم
يَتَّخذوا شركاءَ ولا اتَّبعوهم لسلب الصفة الحقيقية عنهم ، ومثلُه قولُك : « ما
رأيتُ رجلاً » ، أي : مَنْ يستحقُّ أن يُسَمَّى رجلاً ، وإن كنت قد رأيت الذَّكر
من بني آدم . ويجوز أن تكونَ « ما » استفهامية ، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها ،
وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك . وقال مكي : « لو جعلتَ » ما « استفهاماً بمعنى
الإِنكار والتوبيخ كانت اسماً في موضعِ نصبٍ ب » يتَّبع « . وقال أبو البقاء نحوه
.
ويجوزُ أنَ تكونَ » ما « موصولةً بمعنى الذي نسقاً على » مَنْ « في قوله : { ألا
إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات } ، قال الزمخشري : » ويجوز أن تكونَ « ما »
موصولةً معطوفةً على « مَنْ » ، كأنه قيل : وللَّهِ ما يتَّبعه الذين يَدْعون من
دونَ الله شركاء ، أي : وله شركاؤكم « .
ويجوز
أن تكون « ما » هذه الموصولةَ في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه :
والذي يَتَّبعه المشركون باطلٌ . فهذه أربعةُ أوجهٍ .
وقرأ السلمي « تَدْعُون » بالخطاب ، وعزاها الزمخشري لعليّ ابن أبي طالب . قال ابن
عطية : « وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة » قلت : قد ذكرِ توجيهَها أبو القاسم ، فقال : «
ووجهُه أن يُحْمل » وما يتَّبع « على الاستفهام ، أي : وأيُّ شيء يتَّبع الذين
تَدْعونهم شركاءَ من الملائكة والنبيين ، يعني أنهم يتَّبعون الله تعالى ويطيعونه
، فما لكم لا تَفْعلون مثلَ فعلِهم كقوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [ الإسراء : 57 ] .
قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ } » إنْ « نافية ، و » الظن « مفعولٌ به ، فهو استثناءٌ
مفرَّغ ، ومفعولُ الظن محذوفٌ تقديرُه : إن يتبعون إلا الظنَّ أنهم شركاءُ ، وعند
الكوفيين تكون أل عوضاً من الضمير تقديره : » إن يَتَّبعون إلا ظنَّهم أنهم شركاءُ
. والأحسنُ أن لا يُقَدَّر للظن معمولٌ؛ إذ المعنى : إن يتبعون إلا الظن لا اليقين
.
وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ } مَنْ قرأ « يَدْعُون » بياء الغيبة فقد جاء ب «
يَتَّبعون » مطابقاً له ، ومَنْ قرأ « تدعون » بالخطاب فيكون « يتبعون » التفاتاً
، إذ هو خروج من خطاب إلى غَيْبة .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
قوله
تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ الليل } : . . . الآية . انظر إلى فصاحة هذه الآية ، حيث
حَذَفَ من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى ، وذلك أنه ذكر علة جَعْل الليل لنا ، وهي
قوله « لتسكنوا » وحَذَفها مِنْ جَعْل النهار ، وذَكَر صفةَ النهار وهي قوله «
مُبْصِراً » وحَذَفَها من الليل لدلالة المقابل عليه ، والتقدير : هو الذي جَعَل
لكم الليل مُظْلماً لتَسْكُنوا فيه والنهارَ مُبْصِراً للتحرَّكوا فيه لمعاشِكم ،
فحذف « مُظْلماً » لدلالة « مبصراً » عليه ، وحذف « لتتحَرَّكوا » لدلالة «
لتسكنوا » وهذا أفصحُ كلامٍ .
وقوله : { مُبْصِراً } أسند الإِبصارَ إلى الظرف مجازاً كقولِهم « نهارُه صائم
وليله قائم ونائم » قال :
2605 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيِّ بنائمِ
وقال قطرب : « يقال : أَظْلَمَ الليلُ : صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار : صار ذا ضياء
، فيكون هذا من باب النسبِ كقولهم لابن وتامر ، وقوله تعالى : { عِيشَةٍ
رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 20 ] ، إلا أن ذلك إنما جاء في الثلاثي ، وفي فعَّل
بالتضعيف عند بعضِهم في قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [
فصلت : 46 ] ، في أحد الأوجه .
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
قوله تعالى : { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } : « إنْ » نافية و « عندكم » يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً ، و « مِنْ سلطان » مبتدأ مؤخراً ، ويجوز أن يكونَ « مِنْ سلطان » مرفوعاً بالفاعلية بالظرف قبلَه لاعتمادِه على النفي ، و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا التقديرين ، وبهذا يجوز أن يتعلَّقَ بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان ، وأن يتعلَّقَ بمحذوف صفةً له ، فيُحكمَ على موضعه بالجرِّ على اللفظ ، وبالرفعِ على المحل؛ لأنَّ موصوفَه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ ، وأن يتعلق بالاستقرار . قال الزمخشري : « الباءُ حقُّها أن تتعلَّقَ بقوله : » إنْ عندكم « على أن يُجْعَلَ القولُ مكاناً للسلطان كقولك : » ما عندكم بأرضِكم مَوْزٌ « كأنه قيل : إنْ عندكم/ بما تقولون سُلْطان » . وقال الحوفي : « وبهذا » متعلقٌ بمعنى الاستقرار « ، يعني الذي تَعَلَّق به الظرف .
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قوله
تعالى : { مَتَاعٌ فِي الدنيا } : يجوز رفع « متاع » مِنْ وجهين ، أحدهما : أنه
خبرُ مبتدأ محذوف ، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدر فهي استئنافيةٌ كأن قائلاً قال :
كيف لا يَعْلمون وهم في الدنيا مُفْلحون بأنواعٍ ممَّا يتلذذون به؟ فقيل : ذلك
متاع . والثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ تقديرُه ، لهم متاعٌ ، و « في الدنيا »
يجوز أن يتعلقَ بنفس « متاع » ، أي : تَمَتُّعٌ في الدنيا ، ويجوز أن يتعلَّقَ
بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل « متاع » فهو في محلِّ رفعٍ . ولم يُقرأ بنصبه هنا بخلاف
قوله : « متاع الحياة » في أول السورة .
وقوله : { بِمَا كَانُواْ } الباءُ للسببية ، و « ما » مصدريةٌ ، أي : بسببِ كونهم
كافرين .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
قوله
تعالى : { إِذْ قَالَ } : يجوز أن تكونَ « إذ » معمولةً ل « نَبأ » ، ويجوز أن
تكونَ بدلاً مِنْ « نبأ » بدلَ اشتمال . وجوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من «
نبأ » وليس بظاهرٍ ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً ب « اتلُ » لفساده ، إذ « اتلُ »
مستقبلٌ ، و « إذا » ماض ، و « لقومه » اللام : إمَّا للتبليغ وهو الظاهرُ ،
وإمَّا للعلة وليس بظاهرٍ .
وقوله : { كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي } من باب الإِسناد المجازي كقولهم : «
ثَقُل عليَّ ظلُّه » .
وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وأبو الجوزاء « مُقامي » بضم الميم ، و « المقام » بالفتح
مكان القيام ، وبالضم مكان الإِقامة أو الإِقامة نفسها . وقال ابن عطية : « ولم
يُقرأ هنا بضم الميم » كأنه لم يَطَّلع على قراءةِ هؤلاء الآباء .
قوله : { فَعَلَى الله } جواب الشرط .
وقوله : { فأجمعوا } عطف على الجواب ، ولم يذكر أبو البقاء غيرَه . واستُشْكِل
عليه أنه متوكلٌ على الله دائماً كَبُر عليهم مقامُه أو لم يكبر . وقيل : جوابُ
الشرط قوله « فأجمعوا » وقوله { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } جملةٌ اعتراضية بين
الشرط وجوابه ، وهو كقول الشاعر :
2606 إمَّا تَرَيْني قد نَحَلْتُ ومَنْ يكنْ ... غَرَضاً لأطراف الأَسِنَّة
يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بادِنٍ ... ضخمٍ على ظهر الجَوادِ مُهَبَّلِ
وقيل : الجوابُ محذوف ، أي : فافعلوا ما شئتم .
وقرأ العامة : « فَأَجْمعوا » أمراً مِنْ « أَجْمع » بهمزة القطع يقال : أَجْمع في
المعاني ، وجَمَع في الأعيان ، فيقال : أجمعت أمري وجمعت الجيش ، هذا هو الأكثر .
قال الحارث بن حلزة :
2607 أَجْمَعُوا أمرهم بليلٍ فلمَّا ... أصبحوا أصبحت لهم ضَوْضَاءُ
وقال آخر :
2608 يا ليت شعري والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ
وهل أَجْمَعَ متعدٍّ بنفسه أو بحرف جر ثم حُذِف اتِّساعاً؟ فقال أبو البقاء : «
مِنْ قولك » أجمعتُ على الأمر : إذا عَزَمْتَ عليه ، إلا أنه حُذِفَ حرفُ الجر
فوصل الفعل إليه . وقيل : هو متعدٍّ بنفسه في الأصل « وأنشد قولَ الحارث . وقال
أبو فيد السدوسي : » أَجْمعت الأمر « أفصحُ مِنْ أَجْمعت عليه » وقال أبو الهثيم :
« أجمعَ أمرَه جَعَله مجموعاً بعدما كان متفرقاً » قال : « وَتفْرِقَتُه أن يقولُ
مرةً افعل كذا ، ومرة افعل كذا ، وإذا عَزَم على أمرٍ واحد فقد جَمَعه أي : جعله
جميعاً ، فهذا هو الأصلُ في الإِجماع ، ثم صار بمعنى العَزْم حتى وصل ب » على «
فقيل : أَجْمَعْتُ على الأمر أي : عَزَمْتُ عليه ، والأصل : أجمعت الأمر .
وقرأ العامَّةُ : » وشركاءَكم « نصباً وفيه أوجه ، أحدها : أنه معطوفٌ على »
أَمْرَكم « بتقدير حذف مضاف ، أي : وأمر شركاءكم كقوله :
{
وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] ، ودلَّ على ذلك ما قدَّمْتُه من أن « أَجْمع »
للمعاني . والثاني : أنه عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف ، قيل : لأنه يقال أيضاً
: أجمعت شركائي . الثالث : أنه منصوب بإضمار فعلٍ لائق ، أي : وأجمعوا شركاءكم
بوصل الهمزة . وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أُبَيّ « وادعوا »
فأضمرَ فعلاً لائقاً كقوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر
: 9 ] ، أي : واعتقدوا الإِيمانَ ، ومثلُه قولُ الآخر :
2609 فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها
وكقوله :
2610 يا ليت زوجَك قد غدا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً
/ وقول الآخر :
2611 إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوماً ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
يريد : ومُعْتَقِلاً رُمْحاً ، وكحَّلْنَ العيونا . وقد تقدم أن في هذه الأماكن
غيرَ هذا التخريج . الرابع : أنه مفعولٌ معه ، أي : مع « شركائكم » قال الفارسي :
« وقد يُنْصب الشركاء بواو مع ، كما قالوا : جاء البردُ والطَّيالسةَ » ، ولم يذكر
الزمخشري غيرَ قولِ أبي علي . قال الشيخ : « وينبغي أَنْ يكونَ هذا التخريجُ على
أنه مفعول معه من الفاعل ، وهو الضمير في » فَأَجْمعوا « لا من المفعول الذي هو »
أَمْرَكُمْ « وذلك على أشهرِ الاستعمالين ، لأنه يقال : » أجمع الشركاءُ أمرَهم ،
ولا يقال : « جَمَع الشركاء أمرهم » إلا قليلاً ، قلت : يعني أنه إذا جعلناه
مفعولاً معه من الفاعل كان جائزاً بلا خلافٍ ، لأنَّ مِن النحويين مَنْ اشترط في
صحةِ نصبِ المفعول معه أن يصلح عَطْفُه على ما قبله ، فإن لم يَصْلُحْ عطفُه لم
يَصِحَّ نصبُه مفعولاً معه ، فلو جعلناه من المفعول لم يَجُزْ على المشهور ، إذ لا
يَصْلُح عَطْفُه على ما قبله ، إذ لا يقال : أجمعت شركائي ، بل جَمَعْت .
وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع «
فأجْمَعُوا » بوصل الألف وفتح الميم من جَمَع يَجْمَع ، و « شركاءَكم » على هذه
القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله ، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من
الأوجه . قال صاحب « اللوامح » : « أَجْمَعْتُ الأمر : أي : جَعَلْتُه جميعاً ،
وجَمَعْتُ الأموال جمعاً ، فكان الإِجماعُ في الأحداث والجمع في الأعيان ، وقد
يُسْتعمل كلُّ واحد مكان الآخر ، وفي التنزيل : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ]
. قلت : وقد اختلف القراء في قوله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64
] ، فقرأ الستة بقطع الهمزة ، جعلوه مِنْ أجمع وهو موافقٌ لِما قيل : » إنَّ «
أجمع » في المعاني . وقرأ أبو عمرو وحدَه « فاجمعوا » بوصل الألفِ ، وقد اتفقوا
على قولِه « فَجَمع كيدَه ثم أتى » فإنه مِن الثلاثي ، مع أنه متسلِّطٌ على معنى
لا عَيْنٍ . ومنهم مَنْ جَعَل للثلاثي معنىً غيرَ معنى الرباعي فقال في قراءة أبي
عمرو مِنْ جَمَع يَجْمع ضد فرَّق يُفَرِّق ، وجَعَلَ قراءةَ الباقين مِنْ « أجمع
أمرَه » إذا أحكمه وعزم عليه ، ومنه قول الشاعر :
2612
يا ليت شعري والمنى لا تَنْفَعُ ... هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ
وقيل : المعنى : فاجْمَعوا على كيدكم ، فحذف حرف الجر .
وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب « وشركاؤكم » رفعاً
. وفيه تخريجان ، أحدهما : أنه نسقٌ على الضمير المرفوع بأَجْمِعُوا قبله ، وجاز
ذلك إذ الفصلُ بالمفعولِ سَوَّغ العطف ، والثاني : أنه مبتدأ محذوف الخبر ،
تقديرُه : وشركاؤكم فَلْيُجْمِعوا أمرهم .
وشَذَّتْ فرقةٌ فقرأت : « وشركائكم » بالخفض ووُجِّهَتْ على حذف المضاف وإبقاء
المضاف إليه مجروراً على حاله كقوله :
2613 أكلَّ امرِىءٍ تحسبين أمرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا
أي : وكل نار ، فتقدير الآية : وأمر شركائكم ، فحذف الأمر وأبقى ما بعدَه على حاله
، ومَنْ رأى برأي الكوفيين جوَّز عطفه على الضمير في « أمركم » من غيرِ تأويل ،
وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب أعني العطفَ على الضميرِ المجرور مِنْ غير إعادة
الجارِّ في سورة البقرة .
قوله : { غُمَّةً } يقال : غَمٌّ وغُمَّة نحو كَرْبٌ وكُرْبَةٌ . قال أبو الهيثم :
« هو مِنْ قولهم : » غَمَّ علينا الهلالُ فهو مغموم إذا التُمِس فلم يُر . قال
طرفة ابن العبد .
2614 لعَمْرك ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ ... نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَدِ
وقال الليث : « يُقال : هو في غُمَّة مِنْ أمره إذا لم يتبيَّنْ له .
قوله : { ثُمَّ اقضوا } مفعول » اقضوا « محذوف ، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر/
الذي تريدون إيقاعه كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ]
فعدَّاه لمفعولٍ صريح . وقرأ السَّرِيُّ » ثم أفْضُوا « بقطع الهمزة والفاء ، مِنْ
أفضى يُفْضي إذا انتهى ، يقال : أَفْضَيْتُ إليك ، قال تعالى : { وَقَدْ أفضى
بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] فالمعنى : ثم افضُوا إلى سِرِّكم ، أي :
انتهوا به إليَّ . وقيل : معناه : أَسْرِعوا به إليَّ . وقيل : هو مِنْ أفضى ، أي
: خَرَج إلى الفضاء ، أي : فأصحِروا به إليَّ ، وأَبْرِزوه لي كقوله :
2615 أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَه ... عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنه مِنْ فَضَا يَفْضُو ، أي : اتَّسَع . وقوله : » لا
تُنْظِرون « ، أي : لا تُؤَخِّرون من النَّظِرة وهي التأخير .
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
وقوله
تعالى : { فِي الفلك } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بأَنْجَيْناه ، أي :
وقع الإِنْجاء في هذا المكان . والثاني : أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تعلَّق به
الظرفُ ، وهو « معه » لوقوعه صلةً ، أي : والذين استقروا معه في الفلك .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ } ، أي : صَيَّرناهم ، وجُمع الضميرُ في « جَعَلْناهم »
حَمْلا على معنى « مِنْ » ، و « خلائف » جمع خَلِيفة ، أي : يَخْلُفون الغارقين .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
قوله
تعالى : { مِن بَعْدِهِ } : أي : بعد نوح . « بالبينات » متعلقٌ ب « جاؤُوهم » ،
أو بمحذوفٍ على أنه حال ، أي : ملتبسين بالبينات . وقوله : « ليؤمِنوا » أتى بلام
الجحود توكيداً . والضمير في « كَذَّبوا » عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في «
كانوا » وهم قومُ الرسل . والمعنى : أنَّ حالَهم بعد بعثِ الرسل كحالِهم قبلها في
كونهم أهلَ جاهلية ، وقال أبو البقاء ومكي : « إن الضميرَ في » كانوا « يعود على
قوم الرسل ، وفي » كَذَّبوا « يعودُ على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قومُ الرسلِ
ليؤمنوا بما كَذَّب به قومُ نوح ، أي : بمثلِه . ويجوز أن تكونَ الهاءُ عائدةً على
نوح نفسه من غير حَذْفِ مضافٍ ، والتقدير : فما كان قومُ الرسلِ بعد نوح ليؤمنوا
بنوحٍ ، إذ لو آمنوا به لآمنوا بأنبيائهم . و » من قبل « متعلقٌ ب » كَذَّبوا « أي
من قبل بعثة الرسل . وقيل : الضمائرُ كلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو
أنهم بادروا رسلَهم بالتكذيب ، كلما جاءَ رسولٌ لَجُّوا في الكفرِ وتمادَوْا عليه
فلم يكونوا لِيؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم من قبلِ لَجِّهم في الكفر وتمادِيهم .
وقال ابن عطية : » ويحتمل اللفظُ عندي معنى آخر ، وهو أن تكونَ « ما » مصدرية ،
والمعنى : فكذَّبوا رسلَهم فكان عقابهم من الله أَنْ لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم
مِنْ قبل ، أي : من سببه ومن جزائه ، ويؤيِّد هذا التأويلَ « كذلك نطبع » ، وهو
كلامٌ يحتاج لتأمُّل « . قال الشيخ : » والظاهرُ أنَّ « ما » موصولةٌ ، ولذلك عاد
الضمير عليها في قوله : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } ولو كانت مصدريةً بقي الضميرُ
غيرَ عائدٍ على مذكور ، فتحتاج أن يتُكلَّفَ ما يعود عليه الضمير « . قلت : الشيخ
بناه على قولِ جمهورِ النحاة في عدمِ كونِ » ما « المصدرية اسماً فيعود عليها
ضميرٌ ، وقد نبَّهْتُك غيرَ مرةٍ أن مذهبَ الأخفش وابن السراج أنها اسمٌ فيعود
عليها الضمير .
وقرأ العامَّةُ » نَطْبع « بالنون الدالة على تعظيم المتكلم . وقرأ العباس بن
الفضل بياء الغيبة وهو الله تعالى ، ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخرَ { كَذَلِكَ
يَطْبَعُ الله } [ الأعراف : 101 ] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ضمير
ذلك المصدرِ على حسبِ ما عرفته من الخلاف ، أي : مثلَ ذلك الطَّبْع المُحْكمِ
الممتنعِ زوالُه نطبع على قلوب المُعْتدين على خَلْق الله .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش « لساحر » اسم فاعل ، والإِشارة ب « هذا » حينئذٍ إلى موسى ، أُشير إليه لتقدُّم ذكره ، وفي قراءةِ الجماعةِ المشارُ إليه الشيءُ الذي جاء به موسى من قَلْبِ العصا حَيَّةً وإخراج يده بيضاء كالشمس . ويجوز أن يُشارَ ب « هذا » في قراءةِ ابن جبير إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً ، حيث وَصَفوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ كقولهم : « شعرٌ شاعرٌ » و « جَدَّ جَدُّه » .
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
قوله
تعالى : { أَتقُولُونَ } : في معمولِ هذا القولِ وجهان/ ، أحدهما : أنه مذكورٌ ،
وهو الجملةُ من قوله : « أسحرٌ هذا » إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر
تطلبانِ به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون ، كقولِ موسى على نبيِّنا وعليه وعلى سائر
الأنبياء أفضلُ الصلاة والسلام للسحرة : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله
سَيُبْطِلُهُ } . والثاني : أن معموله محذوفٌ ، وهو مدلولٌ عليه بما تقدَّم ذكرُه
، وهو : إن هذا لسحرٌ مبين . ومعمولُ القول يُحذف للدلالةِ عليه كثيراً ، كما
يُحذف نفسُ القولِ كثيراً ، ومثلُ الآية في حَذْفِ المقول قولُ الشاعر :
2616 لَنحن الأُلى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... برؤيتنا قبلَ اهتمامٍ بكمْ
رُعْبا
وفي كتاب سيبويه : « متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً » على إعمال الأول ، وحَذْفِ
معمولِ القول ، ويجوز إعمالُ القولِ بمعنى الحكاية به فيقال : « متى رأيت أو قلت
زيد منطلق » ، وقيل : القول في الآية بمعنى العَيْب والطعن ، والمعنى : أتعيبون
الحق وتَطْعنون فيه ، وكان مِنْ حَقِّكم تعظيمُه والإِذعانُ له مِنْ قولهم : «
فلان يخاف القالة » ، و « بين الناس تقاوُلٌ » ، إذا قال بعضهم لبعض ما يسْوءُه ،
ونَحْوُ القولِ الذكرُ في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء :
60 ] وكلُّ هذا ملخَّصٌّ من كلام الزمخشري .
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
قوله
تعالى : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } : اللامُ متعلقةٌ بالمجيء أي : أجئت لهذا
الغرض ، أنكروا عليه مجيئَه لهذه العلة . واللَّفْتُ : الَّليُّ والصَرْفُ ،
لَفَتَه عن كذا أي : صَرَفَه ولواه عنه . وقال الأزهري : « لَفَتَ الشيءَ وفَتَلَه
: لواه ، وهذا من المقلوب » قلت : ولا يدعى فيه قَلْبٌ حتى يَرْجَعَ أحدُ اللفظين
في الاستعمال على الآخر ، ولذلك لم يَجْعلوا جَذَبَ وجَبَذَ وحَمِدَ ومَدَح من هذا
القبيل لتساويهما . ومطاوعُ لَفَتَ : التَفَتَ . وقيل : انفتل ، وكأنهم استَغْنَوا
بمطاوع « فَتَل » عن مطاوع لَفَتَ ، وامرأة لَفُوت : أي : تَلْتَفِتُ لولدها عن
زوجها إذا كان الولد لغيره ، واللَّفِيْتَةُ : ما يَغْلُظُ من العَصِيدة .
قوله : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء } الكِبْرياء : اسم كان ، و « لكم » الخبر ،
و « في الأرض » : جَوَّز فيها أبو البقاء خمسةَ أوجه أحدها : أن تكونَ متعلقةً
بنفس الكبرياء . الثاني : أن يُعَلَّق بنفس « تكون » . الثالث : أن يتعلَّقَ
بالاستقرار في « لكم » لوقوعه خبراً . الرابع : أن يكونَ حالاً من « الكبرياء » .
الخامس : أن يكون حالاً من الضمير في « لكما » لتحمُّلِه إياه .
والكِبْرياء مصدرٌ على وزنِ فِعْلِياء ، ومعناها العظمة . قال عديّ ابن الرِّقاع :
2617 سُؤْدُدٌ غيرُ فاحِشٍ لا يُدا ... نِيه تَجْبارَةٌ ولا كِبْرِيا
وقال ابن الرقيات :
2618 مُلْكُه مُلْكُ رأفةٍ ليس فيه ... جَبَروتٌ منهُ ولا كِبْرِياءُ
يعني : ليس هو ما عليه الملوكُ من التجبُّر والتعظيم .
والجمهورُ على « تكون » بالتأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ . وقرأ ابن مسعود والحسن
وإسماعيل وأبو عمرو وعاصم في روايةٍ : « ويكون » بالياء من تحتُ ، لأنه تأنيثٌ
مجازي .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
وقوله تعالى : { بِكُلِّ سَاحِرٍ } : قرأ الأخَوان « سَحَّار » وهي قراءةُ ابنِ مُصَرِّف وابن وثاب وعيسى بن عمر .
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
قوله
تعالى : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } : قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة «
آلسحرُ » بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضةٌ ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الداخلةِ
على لام التعريف ، ويجوز أن تُسَهَّل بينَ بينَ ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين
في قوله : { ءَآلذَّكَرَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] وهي قراءةُ مجاهدٍ وأصحابه وأبي
جعفر . وقرأ باقي السبعة بهمزةِ وصلٍ تَسْقط في الدَّرْج . فأمَّا قراءة أبي عمرو
ففيها أوجهٌ ، أحدها : أنَّ « ما » استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و «
جِئْتُمْ به » الخبرُ ، والتقديرُ : أيُّ شيءٍ جئتم ، كأنه استفهامُ إنكارٍ
وتقليلٌ للشيءِ المُجَاء به . و « السحر » بدلٌ من اسم الاستفهام ، ولذلك أُعِيد
معه أداتُه لما قرَّرْتُه في كتب النحو . الثاني : أن يكون « السحر » مبتدأً خبرُه
محذوف ، تقديره : أهو السحر . الثالث : أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر تقديره :
السحر هو . ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكي ، وفيهما بُعد . الرابع
: أن تكونَ « ما » موصولةً بمعنى الذي ، وجئتم به صلتُها ، والموصولُ في محلِّ
رفعٍ بالابتداء ، و « السحر » على وجهيه من كونِه خبرَ مبتدأ محذوف ، أو مبتدأً
محذوفَ الخبر ، تقديره : الذي جئتم به/ أهو السحر ، أو الذي جئتم به السحر هو ،
وهذا الضميرُ هو الرابط كقولك : الذي جاءك أزيدٌ هو ، قاله الشيخ .
قلت : قد منع مكي أن تكونَ « ما » موصولةً على قراءة أبي عمرو فقال : « وقد قرأ
أبو عمرو » آلسحرُ « بالمد ، فعلى هذه القراءةِ تكون » ما « استفهاماً مبتدأ ، و »
جئتم به « الخبر ، و » السحر « خبرُ ابتداء محذوف ، أي : أهو السحر ، ولا يجوزُ أن
تكونَ » ما « بمعنى الذي على هذه القراءةِ إذا لا خبر لها » . قلت : ليس كما ذكر ،
بل خبرُها الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزْأيها ، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم
يُجيزا كونَها موصولةً إلا في قراءة غيرِ أبي عمرو ، لكنهما لم يتعرَّضا لعدمِ
جوازه .
الخامس : أن تكونَ « ما » استفهاميةً في محلِّ نصب بفعل مقدرٍ بعدها لأنَّ لها
صدرَ الكلام ، و « جئتم به » مفسِّر لذلك الفعل المقدر ، وتكون المسألةُ حينئذٍ من
باب الاشتغال ، والتقدير : أيُّ شيءٍ أَتَيْتُمْ جئتم به ، و « السحر » على ما تقدم
، ولو قرىء بنصب « السحر » على أنه بدلٌ مِنْ « ما » بهذا التقديرِ لكان له وجه ،
لكنه لم يُقرأ به فيما عَلِمْت ، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء مِنْ جواز نصبِه
لمَدْرَكٍ آخرَ على أنها قراءةٌ منقولة [ عن الفرَّاء ] .
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجهٌ أيضاً ، أحدها : أن تكون « ما » بمعنى الذي في
محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و « جئتم به » صلةٌ وعائدُه ، و « السحرُ » خبرهُ ،
والتقدير : الذي جئتم به السحرُ ، ويؤيِّد هذا التقديرَ قراءةُ أُبَيّ وما في
مصحفه : { ما أتيتم به سحرٌ } وقراءةُ عبد الله والأعمش { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر
} .
الثاني
: أن تكونَ « ما » استفهاميةً في محلِّ نصبٍ بإضمارِ فعل على ما تقرَّر ، و «
السحر » خبر ابتداء مضمر أو مبتدأٌ مضمرُ الخبر . الثالث : أن تكونَ « ما » في
محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « السحر » على ما تقدَّم مِنْ كونِه مبتدأً أو خبراً ،
والجملةُ خبر « ما » الاستفهامية . قال الشيخ بعدما ذكر الوجه الأول : « ويجوز
عندي أن تكونَ في هذا الوجهِ استفهاميةً في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصبٍ
على الاشتغال ، وهو استفهامٌ على سبيل التحقيرِ والتقليلِ لِما جاؤوا به ، و »
السحر « خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو السحر » .
قلت : ظاهرُ عبارتِه أنه لم يَرَه غيرُه ، حيث قال « عندي » ، وهذا قد جوَّزه أبو
البقاء ومكي . قال أبو البقاء : لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو « ويُقرأ بلفظِ
الخبر ، وفيه وجهان » ، ثم قال : « ويجوزُ أن تكونَ » ما « استفهاماً ، و » السحر
« خبر مبتدأ محذوف » . وقال مكي في قراءةِ غيرِ أبي عمرو بعد ذِكره كونَ « ما »
بمعنى الذي : « ويجوز أن تكونَ » ما « رفعاً بالابتداء وهي استفهامُ ، و » جئتم به
« الخبر ، و » السحر « خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : هو السحر ، ويجوز أن تكونَ » ما «
في موضعِ نصبٍ على إضمارِ فعلٍ بعد » ما « تقديرُه : أيُّ شيء جئتم [ به ] ، و »
السحرُ « خبر ابتداء محذوف » .
الرابع : أن تكونَ هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : إنها على نيةِ
الاستفهام ، ولكن حُذِفَتْ أداتُه للعلم بها ، قال أبو البقاء : « ويُقرأ بلفظِ
الخبر ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه استفهامٌ في المعنى أيضاً : وحُذِفَتْ الهمزةُ
للعِلْم بها » ، وعلى هذا الذي ذكره يكونُ الإِعرابُ على ما تقدم . واعلم أنَّك
إذا جَعَلْتَ « ما » موصولةً بمعنى الذي امتنع نصبُها بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال .
قال مكي : « ولا يجوز أن تكونَ » ما « بمعنى الذي في موضعِ نصبٍ لأن ما بعدها
صلتُها ، والصلةُ لا تعملُ في الموصول ، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول » ،
وهو كلامٌ صحيح ، فتلخَّص من هذا أنها إذا كانَتْ استفهاميةً جاز أن تكونَ في محل
رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولةً تعيَّن أن يكون مَحَلُّها الرفع بالابتداء .
وقال
مكي : « وأجاز الفراءُ نصبَ » السحر « ، تجعل » ما « شرطاً ، وتنصِبُ » السحرَ «
على المصدر ، وتضمرُ الفاء مع » إن الله سيُبْطِله « ، وتجعلُ الألفَ واللامَ في »
السحر « زائدتين ، وذلك كلُّه بعيدٌ ، وقد أجاز علي ابن سليمان حَذْفَ الفاءِ من
جواب الشرط في الكلام ، واستدلَّ على جوازه بقوله تعالى : / { وَمَآ أَصَابَكُمْ
مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، ولم يُجِزْه
غيره إلا في ضرورة شعر » . قلت : وإذا مَشَيْنا مع الفراء فتكون « ما » شرطاً
يُراد بها المصدرُ ، تقديره : أيَّ سحر جئتم به فإن الله سيبطله ، ويُبَيِّن أن «
ما » يراد بها السحر قولُه : « السحر » ، ولكن يَقْلَقُ قولُه : « إن نصب » السحر
« على المصدرية » ، فيكون تأويله أنه منصوبٌ على المصدرِ الواقعِ موقعَ الحال ،
ولذلك قدَّره بالنكرة ، وجَعَلَ أل مزيدةً منه .
وقد نُقِلَ عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفراء
: « وإنما قال » السحر « بالألف واللام لأنَّ النكرةَ إذا أُعيدت أعيدَتْ بالألِفِ
واللام » ، يعني أن النكرةَ قد تَقَدَّمَتْ في قوله : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ
مُّبِينٌ } ، وبهذا شَرَحَه ابنُ عطية . قال ابن عطية : « والتعريفُ هنا في »
السحر « أَرْتَبُ لأنه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم : » إنَّ هذا لسِحْر « ، فجاء
هنا بلام العهد ، كما يقال أول الرسالة » سلامٌ عليك « . قال الشيخ : » وما ذكراه
هنا في « السحر » ليس مِنْ تقدُّم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأنَّ شَرْطَ
هذا أن يكون المعرَّفُ بأل هو المنكَّرَ المتقدَّمَ ، ولا يكون غيره ، كقوله تعالى
: { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل
: 15-16 ] ، وتقول : « زارني رجلٌ فأكرمت الرجل » لَمَّا كان إياه جاز أن يُؤْتى
بضميره بَدَلَه ، فتقول : فأكرمتُه ، والسحرُ هنا ليس هو السحرَ الذي في قولهم : «
إنَّ هذا لسحر » لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحرٌ هو ما ظهر على يَدَي موسى من معجزة
العصا والسحر الذي في قولِ موسى ، إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف
المدلولان ، إذ قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عَمَّا جاؤوا به ، ولذلك لا
يجوز أن يُؤْتى هنا بالضمير بدلَ السحر ، فيكونَ عائداً على قولهم : « لسِحْر » .
قلت : والجوابُ أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدمَ الذِّكر في اللفظ ،
وإن كان الثاني هو غيرَ عينِ الأول في المعنى ، ولكن لمَّا أُطْلِق عليهما لفظ «
السحر » جاز أن يُقال ذلك ، ويدلُّ على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى : { والسلام
عَلَيَّ } [ مريم : 33 ] : إن الألفَ واللام للعهد لتقدُّم ذكر السلام في قوله
تعالى : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ مريم : 15 ] ، وإن كان السلامُ الواقعُ على عيسى
هو غيرَ السلام الواقع على يحيى ، لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصُه به ،
وهذا النقل المذكورُ عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نَقَله عنه مكيٌّ فيهما ،
اللهم إلا أن يُقال : يُحتمل أن يكونَ له مقالتان ، وليس ببعيدٍ فإنه كلما كَثُر
العلمُ اتسعت المقالاتُ .
وقوله : { المفسدين } مِنْ وقوع الظاهرِ موقعَ ضمير المخاطب إذ الأصلُ : لا يُصلح
عملَكم ، فأبرزهم في هذه الصفةِ الذَّميمةِ شهادةً عليهم بها .
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
وقرىء « بكلمته » بالتوحيد ، وقد تقدَّم نظيرُه .
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
قوله
تعالى : { فَمَآ آمَنَ } : الفاءُ للتعقيب ، وفيها إشعارٌ بأن إيمانَهم لم يتأخر
عن الإِلقاء ، بل وقع عقيبه ، لأنَّ الفاءَ تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ
تَعْدِيةِ « آمن » باللام . والضمير في « قومه » فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهرُ
عودُه على موسى لأنه هو المحدَّث عنه ، ولأنه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون لم
يكرِّر لفظَه ظاهراً ، بل كان التركيب « على خوفٍ منه » ، وإلى هذا ذهب ابنُ عباس
وغيرُه .
والثاني : أنه يعود على فرعون ، ويُروى عن ابن عباس أيضاً ، ورَجَّح ابنُ عطية هذا
، وضَعَّف الأول فقال : « ومما يُضَعِّف عودَ الضمير على موسى أن المعروفَ من
أخبارِ بني إسرائيل أنهم كانوا قد فَشَتْ فيهم النبواتُ ، وكانوا قد نالهم ذلٌّ
مُفْرِط ، وكانوا يَرْجُوْن كَشْفَه بظهورِ مولود ، فلمَّا جاءهم موسى أَصْفقوا
عليه وتابعوه ، ولم يُحْفَظ أن طائفةً من بني إسرائيل كفرت بموسى ، فكيف تعطي هذه
الآيةُ أنَّ الأقلَ منهم كان الذي آمن؟ ، فالذين يَتَرَجَّح عَوْدُه على فرعون ،
ويؤيِّده أيضاً ما تقدَّم مِنْ محاورة/ موسى ورَدِّه عليهم وتوبيخهم » .
قوله : { على خَوْفٍ } حال ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضمير في « وملئهم »
فيه أوجه ، أحدُها : أنه عائدٌ على الذرِّيَّة ، وهذا قولُ أبي الحسن واختيارُ ابن
جرير ، أي : خوفٍ من مَلأَ الذرية ، وهم أشرافُ بني إسرائيل .
الثاني : أنه يعودُ على قومِه بوجهيه ، أي : سواءٌ جَعَلْنا الضمير في « قومه »
لموسى أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون .
الثالث : أن يعودَ على فرعون ، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على
مفرد؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين ، أحدُهما : أنَّ فرعونَ لمَّا كان
عظيماً عندهم عاد الضمير عليه جميعاً ، كما يقول العظيم ، نحن نأمرُ ، وهذا فيه
نظرٌ ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيَّاً عنهم لاحتمل ذلك . والثاني :
أنَّ فرعونَ صار اسماً لأتباعه ، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها « . وقال مكي
وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنهما أخلصُ منهما ، قال : » إنما جُمع الضميرُ في
« مَلَئهم » لأنه إبخار عن جبّار ، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع ، وقيل :
لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه ، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه
« . قلت : وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ
الناس } [ آل عمران : 173 ] ، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود ، لأنه لا يَخْلو من
مُساعدٍ له على ذلك القول .
الرابع : أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ مِنْ آل فرعون
ومَلَئهم ، قاله الفراء ، كما حُذِف في قوله
{
وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] . قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزُه
لأحد : « وهذا عندنا غَلَط ، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير ، إذ لو جاز ذلك
لجاز أن يقول : » زيد قاموا « وأنت تريد » غلمان زيد قاموا « . قلت : قوله » لأن
المحذوف لا يعودُ إليه ضمير « ممنوعٌ ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان :
الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الأكثر ، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في
قوله { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قريةٍ ، ثم
قال : » أو هم قائلون « وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه . وقوله : »
لجاز زيد قاموا « ليس نظيرَه ، فإنَّ فيه حَذْفاً من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية .
وقال الشيخ بعد أن حكى كلامَ الفراء » ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون ،
ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل ، وقد يقال :
ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في « ومَلَئهم » . قلت : يعني أنهم
رَدُّوا على الفراء بالفرق بين { وَسْئَلِ القرية } وبين هذه الآيةِ بأنَّ سؤالَ
القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية ، فإن الخوف
تَمَكَّن مِنْ فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف . وجوابُ هذا أنَّ
الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنه قيل في « واسأل القرية » إنه
حقيقةٌ ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه .
الخامس : أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً حُذِف للدلالة عليه ، والدليلُ كونُ المَلِك لا
يكونُ وحدَه ، بل له حاشية وعساكر وجندٌ ، فكان التقدير : على خَوْفٍ مِنْ فرعون
وقومه ومَلَئهم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفراء أيضاً . قلت :
حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم قولُه تعالى { تَقِيكُمُ الحر }
[ النحل : 81 ] أي : والبرد ، وقول الآخر :
2619 كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها ... إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا
أي : ويدُها .
قوله : { أَن يَفْتِنَهُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه في محلِّ جرٍ على
البدل مِنْ « فرعون » ، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره : على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه
كقولك : « أعجبني زيد علْمُه » . الثاني : أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به
بالمصدر أي : خوفٍ فتنتَه ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله : { أَوْ
إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14-15 ] . وقولِ الآخر
:
2620 فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد
الثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام ، ويَجْري فيها الخلافُ
المشهورُ .
وقرأ الحسن ونبيح « يُفْتِنَهم » بضمِّ الياء وقد تقدَّم ذلك .
و « في الأرض » متعلقٌ ب « عالٍ » أي : قاهر فيها أو ظالم كقوله :
2621 فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي ... لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ
أي : لِما تَقْهر . ويجوز أن يكون « في الأرض » متعلقاً بمحذوف لكونه صفة ل « عالٍ
» فيكون مرفوع المحل ، ويُرَجِّح الأولَ قولُه : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي
الأرض } .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلوا } : جوابُ الشرط الأول ، والشرطُ الثاني وهو إن كنتم مسلمين شرطٌ في الأول ، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود فالشرطُ الثاني شرطٌ في الأول ، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
قوله
تعالى : { أَن تَبَوَّءَا } : يجوز في « أَنْ » أن تكون المفسِّرة؛ لأنه قد تقدَّمها
ما هو بمعنى القول وهو الإِيحاء ، ويجوز أن تكونَ المصدريةَ فتكونَ في موضع نصب
بأوحينا مفعولاً به أي : أَوْحَيْنا إليهما التبوُّءَ .
والجمهورُ على الهمزة في « تبوَّآ » . وقرأ حفص « تَبَوَّيا » بياءٍ خالصة ، وهي
بدلٌ عن الهمزة ، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي ، إذ قياسُ تخفيفِ مثلِ هذه الهمزة أن
تكونَ بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الروايةَ عن حفص جماعةٌ من القراء ، وقد
خَصَّها بعضُهم بحالةِ الوقف ، وهو الذي لم يَحْكِ أبو عمرو الداني والشاطبي غيرَه
. وبعضُهم يُطْلق إبدالَها عنه ياءً وصلاً ووقفاً ، وعلى الجملةِ فهي قراءةٌ ضعيفة
في العربية وفي الرواية ، وتركتُ نصوصَ أهل القراءة خوفَ السآمة ، واستغناءً بما
وضَعْتُه في « شرح القصيد » .
والتبوُّءُ : النزولُ والرجوعُ ، وقد تقدَّم تحقيق المادة في قوله { تُبَوِّىءُ
المؤمنين } [ آل عمران : 121 ] .
قوله : { لِقَوْمِكُمَا } يجوزُ أن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول الأول ، و «
بيوتاً » مفعولٌ ثان بمعنى بَوِّآ قومكما بيوتاً ، أي : أنْزِلوهم ، وفَعَّل
وتفعَّل بمعنىً مثل « عَلَّقَها » و « تَعَلَّقها » قاله أبو البقاء . وفيه ضعفٌ
من حيث إنه زِيدت اللام ، والعاملُ غير فرع ، ولم يتقدَّم المعمول . الثاني : أنها
غير زائدة ، وفيها حينئذ وجهان ، أحدهما : أنها حالٌ من « البيوت » . والثاني :
أنها وما بعدها مفعول « تَبَوَّآ » .
قوله : { بِمِصْرَ } جَوَّز فيه أبو البقاء أوجهاً ، أحدها : أنه متعلِّق ب «
تَبَوَّآ » ، وهو الظاهرُ . الثاني : أنه حالٌ من ضمير « تبوَّآء » ، واستضعفه ،
ولم يبيِّن وجهَ ضعفهِ لوضوحه . الثالث : أنه حالٌ من « البيوت » . الرابع : أنه
حالٌ من « لِقومكما » ، وقد ثنى الضميرَ في « تبوَّآ » وجمع في قوله « واجعلوا » و
« أقيموا » ، وأفرد في قوله : « وبشِّر »؛ لأن الأولَ أمرٌ لهما ، والثاني لهما
ولقومهما ، والثالث لموسى فقط؛ لأن أخاه تَبَعٌ له ، ولمَّا كان فِعْلُ البِشارة
شريفاً خَصَّ به موسى لأنه هو الأصل .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
قوله
تعالى : { لِيُضِلُّواْ } : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها لامُ العلة
، والمعنى : أنك أتيتَهم ما أتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإِيتاءُ لهذه العلة
. والثاني : أنها لام الصيرورة والعاقبة كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . وقولِه :
2622 لِدُوا للموت وابنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِه :
2623 فللموتِ تَغْذو الوالداتُ سِخالَها ... كما لخرابِ الدُّوْرِ تُبْنَى
المساكنُ
وقوله :
2624 وللمنايا تُرَبِّى كلُّ مُرْضِعَةٍ ... وللخرابِ يَجِدُّ الناسُ عِمْرانا
والثالث : أنها للدعاء عليهم بذلك ، كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال
وليكونوا ضُلاَّلاً ، وإليه ذهب الحسن البصري وبدأ به الزمخشري . وقد استُبْعِد
هذا التأويلُ بقراءة الكوفيين « ليُضِلُّوا » بضم الياء فإنه يَبْعُد أن يَدْعُوَ
عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم ، وقرأ الباقون بفتحها ، وقرأ الشعبي بكسرها ، فوالى
بين ثلاث كسَرات إحداها في ياء . وقرأ [ أبو ] الفضل الرياشي « أإنك أَتَيْتَ »
على الاستفهام . وقال الجبائي : إنَّ « لا » مقدرةٌ بين اللام والفعل تقديره :
لئلا يَضِلوا « ، ورأيُ البصريين في مثل هذا تقديرُ » كراهةَ « أي : كراهة أن
يَضِلُّوا .
قوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } يحتمل النصبَ والجزم ، فالنصب من وجهين ، أحدُهما :
عطفُه على » ليضلُّوا « . والثاني : نصبه على جواب الدعاء في قوله » اطمِسْ « .
والجزم على أنَّ » لا « للدعاء كقولك : » لا تعذِّبْني يا رب « وهو قريبٌ من معنى
» ليُضلوا « في كونِه دعاءً ، هذا في جانب شبه النهي ، وذلك في جانب شبه الأمر ، و
» حتى يَرَوا « غايةٌ لنفي إيمانهم ، والأول قول الأخفش ، والثاني بدأ به الزمخشري
، والثالث قول الكسائي والفراء ، وأنشد قولَ الشاعر :
2625 فلا يَنْبَسِطْ من بين عينِك ما انزوى ... ولا تَلْقَني إلا وأنفُكَ راغِمُ
وعلى القول بأنه معطوفٌ على » ليَضِلُّوا « يكون ما بينهما اعتراضاً .
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قوله
تعالى : { أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } : الضمير لموسى وهرون ، وفي التفسير : كان
موسى يدعو وهرون يُؤَمِّن ، فنسب الدعاء إليهما . وقال بعضُهم : المرادُ موسى
وحدَه ، ولكن كنى عن الواحد بضمير الاثنين . وقرأ السلميُّ والضحاك « دَعَواتكما »
على/ الجمع . وقرأ ابن السَّمَيْفَع « قد أَجَبْتُ دعوتكما » بتاء المتكلم وهو
الباري تعالى ، و « دعوتَكما » نصب على المفعول به . وقرأ الربيع « أَجَبْتُ
دَعْوَتَيْكما » بتاء المتكلم أيضاً . ودَعْوَتَيْكما تثنيةٌ ، وهي تدلُّ لمن قال
: إن هرون شارك موسى في الدعاء .
قوله : { وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ } قرأ العامة بتشديد التاء والنون ، وقرأ حفص بتخفيف
النونِ مكسورةً مع تشديد التاء وتخفيفها ، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنسبة
للنقل عنه . فأمَّا قراءةُ العامَّة ف « لا » فيها للنهي ولذلك أَكَّد الفعلَ
بعدها ، ويَضْعُف أن تكونَ نافيةً لأنَّ تأكيدَ المنفيِّ ضعيفٌ ، ولا ضرورة بنا
إلى ادِّعائه ، وإن كان بعضُهم قد ادعى ذلك في قولِه : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين
ظَلَمُواْ } [ الأنفال : 25 ] لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك هناك ، وقد تقدَّم تحريرُه
ودليلُه في موضعه ، وعلى الصحيح تكون هذه جملةَ نهيٍ معطوفةً على جملة أمر .
وأمَّا قراءة حفص ف « لا » تحتمل أن تكون للنفي وأن تكونَ للنهي . فإن كانت للنفي
كانت النونُ نونَ رفعٍ ، والجملةُ حينئذٍ فيها أوجه ، أحدُها : أنها في موضع الحال
أي : فاستقيما غيرَ مُتَّبِعَيْنِ ، إلا أنَّ هذا معترَض بما قَدَّمْتُه غيرَ مرة
مِنْ أنَّ المضارع المنفي ب « لا » كالمثبت في كونِه لا تباشره واوُ الحال ، إلا
أنْ يُقَدَّر قبلَه مبتدأ فتكونَ الجملةُ اسميةً أي : وأنتما لا تَتَّبعان .
والثاني : أنه نفيٌ في معنى النهي كقولِه تعالى : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله }
[ البقرة : 83 ] . الثالث : أنه خبرٌ محضٌ مستأنف لا تَعَلُّقَ له بما قبله ،
والمعنى : أنهما أُخْبِرا بأنهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون ، وإن كانت
للنهي كانت النونُ للتوكيد ، وهي الخفيفة ، وهذا لا يَراه سيبويه والكسائي ، أعني
وقوعَ النونِ الخفيفة بعد الألف ، سواءً كانت الألفُ ألفَ تثنية أو ألفَ فصلٍ بين
نونِ الإِناث ونونِ التوكيد نحو : « هل تَضْرِبْنان يا نسوة » . وقد أجاز يونس
والفراء وقوعَ الخفيفةِ بعد الألف وعلى قولِهما تتخرَّج القراءةُ . وقيل : أصلُها
التشديد وإنما خُفِّفت للثقل فيها كقولهم : « رُبَ » في « رُبَّ » . وأمَّا تشديدُ
التاء وتخفيفُها فلغتان مِن اتَّبع يَتَّبع وتَبع يَتْبَع ، وقد تقدم هل هما بمعنى
واحد أو مختلفان في المعنى؟ وملخصُه أنَّ تَبِعه بشيءٍ : خَلَفه ، واتَّبَعَه كذلك
، إلا أنه حاذاه في المَشْي ، وأَتْبعه : لحقه .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قوله
تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني } : قد تقدَّم الكلام فيه . وقرأ الحسن « وجَوَّزْنا
» بتشديدِ الواو ، قال الزمخشري : « وجَوَّزْنا : مِنْ أجاز المكان وجاوَزَه
وجَوَّزه ، وليس مِنْ جَوَّز الذي في بيت الأعشى :
2626 وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة ... أَخَذْتَ من الأخرى إليك حبالَها
لأنه لو كان منه لكان حَقُّه أن يقال : وجَوَّزْنا بني إسرائيل في البحر كما قال :
2627 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما جَوَّز السَّكَّيَّ في الباب
فَيْتَقُ
يعني أن فَعَّل بمعنى فاعَلَ وأَفْعَل ، وليس التضعيفُ للتعدية ، إذ لو كان كذلك
لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء .
وقرأ الحسن » فاتَّبَعَهُم « بالتشديد ، وقد تقدم الفرق .
قوله : { بَغْياً وَعَدْواً } يجوز أن يكونا مفعولين مِنْ أجلهما أي : لأجلِ
البَغْي والعَدْوِ ، وشروطُ النصب متوفرةٌ ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال
أي : باغين متعدِّين . وقرأ الحسن » وعُدُوَّاً « بضم العين والدال المشددة ، وقد
تقدَّم ذلك في سورة الأنعام .
قوله : { حتى إِذَآ } غايةٌ لاتِّباعه .
قوله : { آمَنتُ أَنَّهُ } قرأ الأخَوان بكسر إنَّ وفيها أوجه ، أحدها : أنها
استئنافُ إخبار ، فلذلك كُسِرت لوقوعِها ابتداءَ كلام . والثاني : أنه على إضمار
القول أي : فقال إنه ، ويكون هذا القولُ مفسراً لقوله آمنت . والثالث : أن تكون
هذه الجملةُ بدلاً من قوله : » آمنت « ، وإبدالُ الجملةِ الاسمية من الفعلية جائزٌ
لأنها في معناها ، وحينئذ تكون مكسورةً لأنها محكيَّة ب » قال « هذا الظاهر .
والرابع : أن » آمنتُ « ضُمِّن معنى القول لأنه قولٌ . وقال الزمخشري : » كَرَّر
المخذولُ المعنى الواحدَ ثلاثَ مرات في ثلاث عبارات حِرْصاً على القبول « يعني أنه
قال : » آمنتُ « ، فهذه مرة ، وقال : { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ
بنوا إِسْرَائِيلَ } فهذه ثانيةٌ ، وقال : { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } فهذه ثالثةٌ
، والمعنى واحد » وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئنافِ في « إنه » .
وقرأ الباقون بفتحِها وفيها أوجهٌ أيضاً ، أحدُها : أنها في محلِّ نصب على
المفعولِ به أي : آمَنْتُ توحيدَ ، لأنه بمعنى صدَّقْتُ . الثاني : أنها في موضع
نصبٍ بعد إسقاط الجارِّ أي : لأنه . الثالث : أنها في محل جر بذلك الجارِّ وقد
عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف .
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
قوله
تعالى : { الآنَ } : منصوبٌ بمحذوفٍ أي : آمنْتَ الآن ، أو/ أتؤمن الآن . وقوله :
« وقد عَصَيْتَ » جملةٌ حالية ، وقد تقدَّم نظيرُ ذلك قريباً .
قوله : { بِبَدَنِكَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها باءُ المصاحبةِ بمعنى مصاحباً
لبدنك وهي الدِّرْع ، وفي التفسير : لم يُصَدِّقوا بغرقه ، وكانت له دِرْعُ
تُعْرَفُ فأُلقي بنَجْوة من الأرض وعليه دِرْعُه ليعرفوه ، والعربُ تطلِقُ البدنَ
على الدرع ، قال عمرو بن معد يكرب :
2628 أعاذِلُ شِكَّتي بدني وسيفي ... وكلّ مُقَلَّصٍ سَلِس القِيادِ
وقال آخر :
2629 ترى الأبْدانَ فيها مُسْبَغَاتٍ ... على الأبطالِ واليَلَبَ الحصينا
وقيل : ببدنك أي عُرْيانَ لا شيءَ عليه ، وقيل : بدناً بلا روح .
والثاني : أن تكونَ سببيةً على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنه سبب في تنجيته ، وذلك على
قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع « بندائك » من النداء وهو الدعاءِ أي : بما
نادى به في قومه من كفرانه في قولِه { ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف :
51 ] { فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 23-24 ] {
ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] .
وقرأ يعقوب « نُنْجِيْك » مخففاً مِنْ أنجاه . وقرأ أبو حنيفة « بأبدانك » جمعاً :
إمَّا على إرادة الأدْراع لأنه كان يلبس كثيراً منها خوفاً على نفسِه ، أو جعل
كلَّ جزء مِنْ بدنه بدناً كقوله : « شابت مَفارِقُه » قال :
2630 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شابَ المَفارِقُ
واكتَسَيْنَ قَتِيرا
وقرأ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع ويزيد البربري « نُنَحِّيْكَ » بالحاء المهملةِ
من التَّنْحِيَة أي : نُلْقيك بناحيةٍ فيما يلي البحر ، وفي التفسير : أنَّه رماه
إلى ساحل البحر كالثور . وهل ننجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعدك ممَّا وقع فيه قومُك
مِنْ قعر البحر وهو تهكُّم بهم ، أو مِنْ ألقاه على نَجْوة أي : رَبْوة مرتفعة ،
أو مِن النجاة وهو التَّرْكُ أو من النجاء وهو العلامة ، وكلُّ هذه معانٍ لائقة
بالقصة . والظاهر أن قوله : « فاليوم نُنَجِّيك » خبرٌ محض . وزعم بعضهم أنه على
نية همزةِ الاستفهام وفيه بُعْدٌ لحَذْفِها من غيرِ دليل ، ولأنَّ التعليلَ بقوله
« لتكونَ » لا يناسب الاستفهام .
و « لتكون » متعلِّقٌ ب « نُنَجِّيك » و « آية » أي : علامة ، و « لمَنْ خلفك » في
محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « آية » لأنه في الأصلِ صفةٌ لها .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
وقوله تعالى : { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } : يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر تقديرُه : بَوَّأناهم مُبَوَّأ صِدْقٍ ، وأن يكونَ مكاناً أي : مكان تبوُّء صدق . وقرىء « لمَنْ خَلَفَك » بفتح اللام جعله فعلاً ماضياً ، والمعنى : لمَنْ خَلَفَك من الجبابرة ليتَّعِظوا بذلك . وقرىء « لمَنْ خَلَقَك » بالقاف فعلاً ماضياً وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آيةً في عباده . ويجوز أن ينتصب « مُبَّوَّأ » على أنه مفعولٌ ثانٍ كقولِه تعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } أي : لنُنْزِلَنَّهُمْ .
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
قوله
تعالى : { فَإِن كُنتَ } : في « إنْ » هذه وجهان ، الظاهر منهما : أنها شرطيةٌ ،
ثم استشكلوا على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكنْ في شك قط . قال
الزمخشري : « فإن قلت كيف قال لرسوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } مع قوله للكفرة
: { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ هود : 110 ] ؟ قلت : فرقٌ عظيم
بين إثباته الشكَّ لهم على سبيل التوكيد والتحقيق ، وبين قوله : » فإن كنت « بمعنى
الفَرَض والتمثيل » . وقال الشيخ : « وإذا كانت شرطيةً فقالوا : إنها تدخُل على
الممكنِ وجودُه أو المحقَّقِ وجودُه المبهمِ زمنُ وقوعِه كقوله تعالى : { أَفَإِنْ
مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] . قال » والذي أقولُه إنَّ « إنْ »
الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيء ، ولا تستلزمُ تحتُّمَ وقوعِه ولا إمكانَه ، بل
قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقولِه تعالى : { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ
أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، ومستحيلٌ أن يكونَ له ولدٌ فكذلك [ هذا ] ،
مستحيلٌ أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادةً كقوله تعالى : { فَإِن استطعت أَن
تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض } [ الأنعام : 35 ] لكنَّ وقوعَها في تعليق المستحيل
قليلٌ « . ثم قال : » ولمَّا خَفِي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه
الآية ، فقال ابن عطية : « الصواب أنها مخاطبةٌ ، والمرادُ مَنْ سواه مِنْ أمته
ممَّن يمكن أن يَشُكَّ أو يعارِض » . وقيل : كنى بالشك عن الضيق . وقيل : كنى به
عن العجب ، ووجه المجازِ فيه أن كلاً منهما فيه تَرَدُّد ، وقال الكسائي : إنْ كنت
في شك أنَّ هذا عادتُهم مع الأنبياء فَسَلْهُمْ كيف كان صبر موسى عليه السلام؟
الوجه الثاني مِنْ وجهي « إنْ » أنها نافية . قال الزمخشري : « أي : فما كنت في شك
فاسأل ، يعني لا نأمرك بالسؤال لكونِك شاكَّاً ولكن لتزداد يقيناً كما ازدادَ
إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى . وهذا القولُ سبقه إليه الحسنُ البصري
والحسين بن الفضل وكأنه فرارٌ من الإِشكال المتقدِّم في جَعْلها شرطيةً ، وقد
تقدَّم جوابُه مِنْ وجوهٍ .
وقرأ يحيى وإبراهيم : » يَقْرؤون الكتب « بالجمع ، وهي مبينة أن المرادَ بالكتاب
الجنسُ لا كتابٌ واحد .
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
قوله
تعالى : { فَلَوْلاَ } : « لولا » هنا تحضيضية وفيها معنى التوبيخ ، كقول الفرزدق
:
2631 تَعُدُّون عقر النيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ ... بني ضَوْطَرى لولا الكَمِيَّ
المقنَّعا
وفي مصحف أُبَي وعبد الله وقرأ كذلك « فهلاَّ » وهي نصُّ في التحضيض . و « كانت »
هنا تامة ، و « آمنَتْ » صفة لقرية ، و « فَنَفَعَها » نسقٌ على الصفة .
قوله : { إِلاَّ قَوْمَ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه استثناء منقطعٌ وإليه ذهبَ
سيبويه والكسائي والأخفش/ والفراء ، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا
النصبُ لانقطاعِه ، وإنما كان منقطعاً؛ لأن ما بعد « إلا » لا يندرجُ تحت لفظ «
قرية » . والثاني : أنه متصل . قال الزمخشري : « استثناءٌ من القرى لأن المرادَ
أهاليها ، ويجوز أن يكون متصلاً ، والجملةُ في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت
قريةٌ من القرى الهالكة إلا قوم يونس » .
وقال ابن عطية : « هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطع ، وكذلك رسمه النحويون ، وهو
بحسبِ المعنى متصلٌ لأن تقديره : ما آمنَ أهل قريةٍ إلا قومَ يونس » . قلت :
وتقديرُ هذا المضافِ هو الذي صَحَّح كونَه استثناء متصلاً ، وكذلك قال أبو البقاء
ومكي وابن عطية وغيرهُم . وأمَّا الزمخشري فإن ظاهرَ عبارتِه أنَّ المصحِّحَ لكونه
متصلاً كونُ الكلام في معنى النفي ، وليس كذلك بل المسوِّغ كونُ القرى يراد بها
أهاليها من بابِ إطلاق المحلِّ على الحالِّ ، وهو أحد الأوجهِ المذكورة في قوله :
{ وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] .
وقرأت فرقة : « إلا قومُ » بالرفع . قال الزمخشري « وقُرىء بالرفعِ على البدل ،
رُوي ذلك عن الجرميّ والكسائي . وقال المهدوي : » والرفعُ على البدل من « قرية » .
فظاهر هاتين العبارتين أنها قراءةٌ منقولةٌ ، وظاهرُ قول مكي وأبي البقاء أنها
ليسَتْ قراءة ، وإنما ذلك من الجائز ، وجعلا الرفعَ على وجهٍ آخرَ غيرِ البدل وهو
كونُ « إلا » بمعنى : « غير » في وقوعها صفةً . قال مكي : « ويجوزُ الرفعُ على أن
تُجْعل » إلا « بمعنى » غير « صفةً للأهل المحذوفين في المعنى ثم يُعْرَبَ ما بعد
» إلا « بإعراب » غير « لو ظهَرَتْ في موضع » إلا « . وقال أبو البقاء : وأظنه أخذه
منه » ولو كان قد قُرىء بالرفع لكانت « إلا » فيه بمنزلة « غير » فتكون صفة « .
وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث قراءات قُرىء بها .
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
قوله تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ } : يجوز في « أنت » وجهان أحدهما : أن يرتفعَ بفعلٍ مقدرٍ مفسَّرٍ بالظاهر بعده وهو الأرجح؛ لأن الاسمَ قد ولي أداةً هي بالفعل أولى . والثاني : أنه مبتدأ والجملة بعده خبرُه ، وقد عُرِف ما في ذلك من ذلك من كون الهمزة مقدمةً على العاطف أو ثَمَّ جملةٌ محذوفة كما هو رأي الزمخشري . وفائدة إيلاءِ الاسمِ للاستفهام إعلامٌ بأن الإِكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه ، وإنما الشأنُ في المُكْرِه مَنْ هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشاركه فيه غيرُه . و « حتى » غايةٌ للإِكراه .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
وقوله
تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ } : كقوله : « أن تموتَ » وقد تقدَّم
ذلك في آل عمران .
قوله : { وَيَجْعَلُ } قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة . والباقون بياء الغيبة
وهو الله تعالى . وقرأ الأعمش فصرَّح به { ويجعل اللَّهُ الرِّجْزَ } بالزاي دون
السين ، وقد تقدَّم هل هما بمعنى أو بينهما فرقٌ؟
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
قوله
تعالى : { مَاذَا فِي السماوات } : يجوز أن يكون « ماذا » كله استفهاماً مبتدأ ، و
« في السموات » خبرُه أي : أيُّ شيءٍ في السموات؟ ويجوزُ أن تكونَ « ما » مبتدأً و
« ذا » بمعنى الذي ، و « في السموات » صلتُه وهو خبرُ المبتدأ ، وعلى التقديرين
فالمبتدأُ وخبرُه في محلِّ نصبٍ بإسقاط الخافضِ؛ لأن الفعلَ قبله مُعَلَّقٌ
بالاستفهام ، ويجوزُ على ضَعْفٍ أن يكونَ « ماذا » كله موصولاً بمعنى الذي وهو في
محل نصب ب « انظروا » . ووجهُ ضعفِه أنه لا يخلو : إمَّا أن يكونَ النظر بمعنى
البصر فيعدى ب « إلى » ، وإمَّا أن يكونَ قلبيَّاً فيعدَّى ب « في » وقد تقدَّم
الكلام في « ماذا » .
قوله : { وَمَا تُغْنِي } ، يجوز في « ما » أن تكون استفهامية ، وهي واقعةٌ موقعَ
المصدر أي : أيَّ غَناءٍ تُغْني الآيات؟ ويجوز أن تكونَ نافيةً ، وهذا هو الظاهر .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكونَ « ما » في قوله : « وما تغني » مفعولةً بقوله : «
انظروا » ، معطوفةً على قوله : « ماذا » أي : تأمَّلوا قَدْر غَناء الآيات
والنُّذُر عن الكفار « . قال الشيخ : » وفيه ضعفٌ ، وفي قوله : « معطوفة على »
ماذا « تجُّوزٌ ، يعني أن الجملةَ الاستفهامية التي هي { مَاذَا فِي السماوات } في
موضع المفعول ، إلا أن » ماذا « وحده منصوب ب » انظروا « فتكون » ماذا « موصولةً ،
و » انظروا « بصرية لما تقدم » يعني لِما تقدم مِنْ أنه لو كانت بصرية لتعدَّتْ ب
« إلى » .
و « النُّذُرُ » يجوز أن يكونَ جمعَ نذير ، والمراد به المصدر فيكونَ التقدير :
وما تُغْني الآيات والإِنذارات ، وأن يكونَ جمعَ « نذير » مراداً به اسمَ الفاعل
بمعنى مُنْذِر فيكون التقدير : والمنذرون وهم الرسل .
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
قوله
تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي } : قال الزمخشري : « هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ
عليه » إلا مثلَ أيامِ الذين خَلَوا من قبلهم « كأنه قيل : نُهْلك الأمم ثم ننجِّي
رسلَنا ، معطوفٌ على حكايةِ الأحوال الماضية .
قوله : { كَذَلِكَ } في هذه الكاف وجهان ، أظهرهُما : أنه في محلِّ نصب تقديرُه :
مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نَجَّينا الرسلَ ومؤمنيهم ننجي مَنْ آمن بك يا محمد .
والثاني : أنها في/ محل رفع على خبر ابتداء مضمر ، وقدَّره ابن عطية وأبو البقاء
بقولك : الأمر كذلك .
قوله : { حَقّاً } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : حَقَّ ذلك
حقاً . والثاني : أن يكون بدلاً من المحذوف النائب عنه الكافُ تقديره : إنجاءً مثل
ذلك حقاً والثالث : أن يكونَ » كذلك « و » حقاً « منصوبين ب » نُنْجِ « الذي
بعدهما . والرابع : أن يكونَ » كذلك « منصوباً ب » نُنَجِّي « الأولى ، و » حقاً «
ب » نُنْج « الثانية . وقال الزمخشري : » مثلَ ذلك الإِنجاء ننجي المؤمنين منكم
ونهلك المشركين ، و « حَقّاً علينا » اعتراض ، يعني حَقَّ ذلك علينا حقاً « .
وقرأ الكسائي وحفص » نُنْجي المؤمنين « مخففاً مِنْ أنجى يقال : أنجى ونجى
كأَبْدَلَ وبَدَّل ، وجمهورُ القراء لم ينقلوا الخلافَ إلا في هذا دون قوله : {
فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [ يونس : 92 ] ودونَ قوله : { ثُمَّ نُنَجِّي
رُسُلَنَا } . وقد نقل أبو علي الأهوازي الخلافَ فيهما أيضاً ، ورُسِم في المصاحف
» نُنْجِ « بجيمٍ دون ياء .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
قوله
تعالى : { فَلاَ أَعْبُدُ } : جواب الشرط ، والفعل خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنا
لا أعبد ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب « لا » دون فاء لَجُزِمَ ، ولكنه مع الفاءِ
يُرْفَع على ما ذكرت لك ، وكذا لو لم يُنْفَ ب « لا » كقولِه تعالى : { وَمَنْ
عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] . أي : فهو ينتقم .
قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ } ، قال الزمخشري : « أصله بأن أكونَ » ،
فحُذِفَ الجارُّ ، وهذا الحذفُ يحتمل أن يكونَ مِنَ الحذف المطَّرد الذي هو حَذْفُ
الحروفِ الجارَّةِ مع أَنْ [ وأنَّ ] ، وأن يكونَ مِن الحذفِ غيرِ المطرد وهو قوله
:
2632 أَمَرْتُكَ الخيرَ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] . قلت : يعني بغيرِ المطَّرد أنَّ حذفَ
حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوز القياسُ عليها وهي : أمر واستغفر ، وقد ذكرتُها
فيما تقدَّم ، وأشار بقوله : « أمرتك » إلى البيت المشهور :
أَمَرْتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقد قاس ذلك بعضُ النحويين ، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ويتعيَّن موضعُه
أيضاً ، وهو رأي علي بن سليمان فيُجيز « بريتُ القلمَ السكين » بخلاف « صَكَكْت
الحجرَ بالخشبة » .
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
قوله
تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ } : يجوزُ أن يكونَ على إضمار فعل أي : وأُوحي إليَّ أَنْ
أقم . ثم لك في « أنْ » وجهان ، أحدهما : أن تكونَ تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدرة
، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ ، إذ المفسَّرُ لا يجوز حَذْفُه ، وقد رَدَّ هو بذلك
في موضعٍ غير هذا . والثاني : أن تكونَ المصدرية فتكون هي وما في حَيِّزها في محل
رفع بذلك الفعل المقدر . ويحتمل أن تكون « أن » مصدريةً فقط ، وهي على هذا معمولةٌ
لقوله : « أمرْتُ » مراعى فيها معنى الكلام ، لأنَّ قوله : « أن أكون » كونٌ من
أكوان المؤمنين ، ووصْلُ « أَنْ » بصيغة الأمرِ جائزٌ ، وقد تقدم تحرير بذلك .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : عَطْفُ قولِه : » وأَنْ أقم « على » أن أكونَ « فيه
إشكالٌ؛ لأن » أنْ « لا تخلو : إمَّا أَنْ تكونَ التي للعبارة ، أو التي تكونُ مع
الفعل في تأويل المصدر ، فلا يَصِحُّ أن تكونَ التي للعبارة وإن كان الأمر ممَّا
يتضمَّن معنى القول؛ لأن عطفَها على الموصولة يأبى ذلك ، والقولُ بكونِها موصولةً
مثلَ الأولى لا يساعدُ عليه لفظُ الأمر وهو » أَقِمْ «؛ لأنَ الصلة حقُّها أن
تكونَ جملةً تحتمل الصدق والكذب . قلت : قد سَوَّغ سيبويه أن توصلَ » أنْ « بالأمر
والنهي ، وشَبَّهَ ذلك بقولهم : » أنت الذي تفعل « على الخطابِ لأن الغرضَ
وَصْلُها بما تكونُ معه في تأويل المصدر ، والأمرُ والنهيُ دالاَّن على المصدر دلالةَ
غيرهما من الأفعال » . قلت : قد قدَّمْتُ الإِشكال في ذلك وهو أنه إذا قُدِّرَتْ
بالمصدرِ فاتت الدلالةُ على الأمر والنهي .
ورجَّح الشيخُ كونَها مصدريةً على إضمار فعل كما تقدم تقريره قال : « ليزولَ
قَلَقُ العطفِ لوجود الكاف ، إذ لو كان » وأنْ أَقِمْ « عطفاً على » أن أكون «
لكان التركيب » وجهي « بياء المتكلم ، ومراعاةُ المعنى فيه ضَعْفٌ ، وإضمارُ الفعل
أكثر » .
قوله : { حَنِيفاً } يجوز أن يكونَ حالاً من « الذين » ، وأن يكون حالاً من فاعل «
أَقِمْ » أو مفعوله .
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَدْعُ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً ، ويجوز أن
تكونَ عطفاً على جملة الأمر وهي : « أَقِمْ » / فتكونَ داخلةً في صلة « أنْ »
بوجهيها ، أعني كونَها تفسيريةً أو مصدريةً وقد تقدَّم تحريره . وقوله : { مَا لاَ
يَنفَعُكَ } يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً ، وأن تكونَ موصولةً .
قوله : { فَإِنَّكَ } هو جواب الشرط و « إذن » حرفُ جوابٍ توسَّطت بين الاسمِ
والخبر ، ورُتْبَتُها التأخيرُ عن الخبر ، وإنما وُسِّطَتْ رَعْياً للفواصل . وقال
الزمخشري : « إذن » جواب الشرط وجوابٌ لسؤال مقدر ، كأن سائلاً سأل عن تَبِعة
عبادة الأوثان « . وفي جَعْله » إذن « جزاءً للشرط نظرٌ ، إذ جوابُ الشرط محصورٌ
في أشياءَ ليس هذا منها .
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ } : قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام . وقال هنا في جواب الشرط الأول بنفي عام وإيجاب ، وفي جواب الثاني بنفي عام دونَ إيجاب ، لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ ، لا هو ولا غيره؛ لأن إرادتَه قديمةٌ لا تتغيَّر ، فلذلك لم يَجِيْء التركيب فلا رادَّ له إلا هو ، هذه عبارةُ الشيخ ، وفيها نظرٌ ، وكأنه يقول بخلاف الكشف فإنه هو الفاعل لذلك وحدَه دون غيره بخلافِ إرادته تعالى ، فإنها لا يُتَصَوَّر فيها الوقوعُ على خلافها ، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل السنة والاعتزال . قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ ذُكِر المَسُّ في أحدهما والإِرادةُ في الثاني؟ قلت : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإِرادة والإِصابة في كلِّ واحد من الضُّر والخير ، وأنه لا رادَّ لِما يريده منهما ، ولا مُزيلَ لما يُصيب به منهما ، فأوجزَ الكلام بأنْ ذكرَ المَسَّ وهو الإِصابةُ في أحدهما والإِرادة في الآخر ليدلَّ بما ذَكَرَ على ما تَرَك ، على أنه قد ذَكَر الإِصابة في الخير في قوله : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
وقوله
تعالى : { مِن رَّبِّكُمْ } : يجوز أن يتعلَّقَ ب « جاءكم » و « مِنْ » لابتداء
الغاية مجازاً ، ويجوز أن يكونَ حالاً من « الحق » .
قوله : { فَمَنُ اهتدى } « ومَنْ ضَلَّ » يجوز أن تكون « مَنْ » شرطاً ، فالفاءُ
واجبةُ الدخول ، وأن تكونَ موصولةً فالفاءُ جائزتُه .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ } ، يجوزُ أن تكون الحجازية أو التميميةَّ؛ لخفاء النصب في
الخبر . وباقيها واضح .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قوله
تعالى : { كِتَابٌ } : يجوز أن يكون خبراً ل « ألر » أَخْبر عن هذه الأحرفِ بأنها
كتابٌ موصوفٌ ب كيتَ وكيتَ/ وأن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : ذلك كتابٌ ،
يدلُّ على ذلك ظهوره في قوله تعالى : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] ، وقد
تقدَّم في أولِ هذا التصنيف ما يكفيك في ذلك .
قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفعٍ صفةً ل « كتاب » ، والهمزةُ في «
أُحْكِمَتْ » يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ « حَكُمَ » بضم الكاف ، أي : صار حكيماً
بمعنى جُعِلَتْ حكيمة ، كقوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ لقمان :
2 ] . ويجوز أنْ يكونَ من قولهم : « أَحْكَمْتُ الدابة » إذا وَضَعْتَ عليها
الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير :
2633 أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ ... إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا
فالمعنى أنها مُنِعَتْ من الفساد . ويجوز أَنْ يكونَ لغير النقل ، مِن الإِحكام
وهو الإِتقان كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ ، والمعنى : أنهى نُظِمَتْ نَظْماً
رصيناً متقناً .
قوله : { ثُمَّ فُصِّلَتْ } « ثم » على بابها مِن التراخي لأنها أُحكمَتْ ثم
فُصِّلَتْ بحسب أسبابِ النزول . وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد ابن علي وابن
كثير في روايةٍ « فَصَلَتْ » بفتحتين خفيفةَ العين . قال أبو البقاء : « والمعنى :
فَرَقَتْ ، كقوله : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [ البقرة : 249 ] ، أي : فارق »
. وفَسَّر هنا غيرُه بمعنى فَصَلَتْ بين المُحِقِّ والمُبْطِل وهو أحسنُ . وجعل
الزمخشري « ثم » للترتيب في الإِخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان فقال : « فإن قلت
: ما معنى » ثم «؟ قلت : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول :
هي مُحْكَمَةٌ أحسنَ الإِحكام ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيل ، وفلانٌ كريمٌ الأصل
ثم كريمُ الفعل » وقُرِىء أيضاً : « أحْكَمْتُ آياتِه ثم فَصَّلْتُ » بإسناد
الفعلين إلى تاء المتكلم ونَصْبِ « آياته » مفعولاً بها ، أي : أحكمتُ أنا آياتِه
ثم فَصَّلْتُها ، حكى هذه القراءةَ الزمخشري .
قوله : { مِن لَّدُنْ } يجوز أن تكونَ صفةً ثانية ل « كتاب » ، وأن تكون خبراً
ثانياً عند مَنْ يرى جوازَ ذلك ، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين
أعني « أُحْكِمَتْ » أو « فُصِّلَتْ » ويكون ذلك من بابِ التنازع ، ويكون من إعمال
الثاني ، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزمخشري في [ قوله ] :
« وأن يكون صلةَ » أُحْكِمت « و » فُصَّلَتْ « ، أي : من عندِ أحكامُها وتفصيلُها
، وفيه طباق حسن لأن المعنى : أحكمها حكيم وفصَّلها ، أي : شَرَحها وبيَّنها خبيرٌ
بكيفيات الأمور » . قال الشيخ : « لا يريد أنَّ » مِنْ لدن « متعلقٌ بالفعلين معاً
من حيث صناعةُ الإِعراب بل يريد أن ذلك من بابِ الإِعمال فهي متعلقةٌ بهما من حيث
المعنى » وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً « ويجوز أن يكونَ مفعولاً ، والعاملُ فيه
» فُصِّلَتْ « .
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
قوله
تعالى : { أَن لاَّ تعبدوا } : فيها أوجهٌ ، أحدُها : أن تكون مخففةً من الثقيلة ،
و « لا تَعْبُدوا » جملةُ نهيٍ في محلِّ رفعٍ خبراً ل « أنْ » المخففةِ ، واسمُها
على ما تقرَّر ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ . والثاني : أنها المصدريةُ الناصبة ،
ووُصِلَتْ هنا بالنهي ويجوزُ أَنْ تكون « لا » نافيةً ، والفعلُ بعدها منصوبٌ ب «
أَنْ » نفسها ، وعلى هذه التقادير ف « أَنْ » : إمَّا في محل جر أو نصب أو رفع ، فالنصبُ
والجرُّ على أنَّ الأصل : لأنْ لا تَعْبدوا ، أو بأن لا تعبدوا ، فلمَّا حُذِفَ
الخافضُ جرى الخلافُ المشهور ، والعامل : إمَّا « فُصِّلَتْ » وهو المشهور ،
وإمَّا « أُحْكِمَتْ » عند الكوفيين ، فتكون المسألة من الإِعمال ، لأن المعنى :
أُحْكِمَتْ لئلا تَعْبدوا أو بأن لا تعبدوا أو فُصِّلَتْ لأنْ لا تعبدوا ، أو بأن
لا تعبدوا . وقيل : نصب بفعل مقدر تقديره ضَمَّن آيَ الكتابِ أن لا تعبدوا ، ف «
أنْ لا تعبدوا » هو المفعولُ الثاني ل « ضَمَّن » والأولُ قام مقام الفاعل .
والرفعُ فمِنْ أوجه ، أحدها : أنها مبتدأٌ ، وخبرُها محذوفٌ فقيل : تقديرُه : مِن
النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه . وقيل : تقديره : في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا
اللَّهَ . والثاني : خبرُ مبتدأ محذوف ، فقيل : تقديرُه : تفصيلُه أن لا تعبدوا
إلا اللَّه . وقيل : تقديرُه : هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه . والثالث : أنه مرفوعٌ
على البدل من « آياته » قال الشيخ : « وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ » آيات « أو
مِنْ موضعها » قلت : يعني أنها في الأصل مفعولٌ بها/ فموضعُها نصبٌ وهي مسألةُ
خلاف : هل يجوز أن يراعى أصلُ المفعولِ القائمِ مقامَ الفاعلِ فيُتبعَ لفظُه تارة
وموضعُه أخرى فيُقال : « ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة » بنصب « العاقلة » باعتبار
المحلِّ ، ورفعِها باعتبار اللفظ ، أم لا ، مذهبان ، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فقط
.
والثالث : أن تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول ، فكأنه قيل : لا
تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم ، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار .
قوله : « منه » في هذا الضمير وجهان : أحدهما وهو الظاهرُ أنه يعودُ على اللَّه
تعالى ، أي : إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير . قال الشيخ : « فيكون في موضع
الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائن من جهته » . وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن
الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً ل « نذير »؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في
الأصلِ لو تأخَّر ، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالاً ، وكذا صَرَّح به أبو البقاء ،
فكان صوابه أن يقول : فيكون في موضع الحال ، والتقدير : كائناً مِنْ جهته . الثاني
: أنه يعودُ على الكتاب ، أي : نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل
صالحاً .
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضاً وجهان ، أحدهما : أنه حال من « نذير » ، فيتعلَّق
بمحذوف كما تقدم . والثاني : أنه متعلق بنفس « نذير » أي : أُنْذركم مِنْه ومِنْ
عذابِه إنْ كفرتم ، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم . وقدَّم الإِنذار لأنَّ التخويف
أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار .
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
قوله
تعالى : { وَأَنِ استغفروا } : فيها وجهان : أحدهما : أنه عطفٌ على « أنْ » الأولى
سواءً كانت « لا » بعدها نفياً أو نهياً ، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى «
أَنْ » هذه . والثاني : أن تكونَ منصوبةً على الإِغراء . قال الزمخشري في هذا
الوجه : « ويجوز أن يكونَ كلاماً مبتدأً منقطعاً عَمَّا قبلَه على لسان النبي صلى
اللَّه عليه وسلم إغراءً منه على اختصاص اللَّه تعالى بالعبادة ، ويدل عليه قولُه
: إني لكم منه نذيرٌ وبشير كأنه قال : تركَ عبادةَ غيرِ اللَّه إنني لكم منه نذيرٌ
كقولِه تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] .
قوله : { ثُمَّ توبوا } عطفٌ على ما قبلَه من الأمر بالاستغفار و » ثم « على
بابِها من التراخي لأنه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذنبِ
المستغفَرِ منه . قال الزمخشري : » فإن قلتَ : ما معنى « ثم » في قوله { ثُمَّ
توبوا إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة ، أو
استغفروا والاستغفارُ توبةٌ ثم أَخْلِصوا التوبةَ واستقيموا عليها كقوله تعالى : {
ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] . قلت : قوله : « أو استغفروا » إلى آخره يعني
أن بعضَهم جَعَلَ الاستغفارَ والتوبةَ بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل « توبوا
» ب « أَخْلِصوا التوبة » .
قوله : { يُمَتِّعْكُمْ } جوابُ الأمر . وقد تقدَّم الخلافُ في الجازم : هل هو
نفسُ الجملةِ الطلبية أو حرفُ شرطٍ مقدَّر . وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي
وابن محيصن « يُمْتِعْكم » بالتخفيف مِنْ أَمْتَعَ ، وقد تقدَّم أن نافعاً وابن
عامر قرأ { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] في البقرة بالتخفيف كهذه
القراءة .
قوله : { مَّتَاعاً } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب على المصدرِ بحذفِ
الزوائد ، إذ التقدير : تمتيعاً فهو كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً }
[ نوح : 17 ] . والثاني : أنه ينتصبَ على المفعول به ، والمراد بالمتاعِ اسمُ ما
يُتَمَتَّع به فهو كقولك : « متَّعْتُ زيداً أثواباً » .
قوله : { كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } « كلَّ » مفعول أول ، و « فضلَه » مفعولٌ
ثانٍ ، وقد تقدَّم للسهيلي خلافٌ في ذلك . والضمير في « فضله » يجوز أن يعودَ على
اللَّه تعالى ، أي : يعطي كلَّ صاحب فضلٍ فضلَه ، أي : ثوابَه ، وأن يعودَ على لفظ
كل ، أي : يعطي كلَّ صاحبِ فضلٍ جزاءَ فَضْلِهِ ، لا يَبْخَسُ منه شيئاً أي : جزاء
عمله .
قوله : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } قرأ الجمهور « تَوَلَّوا » بفتح التاء والواو
واللامِ المشددة ، وفيها احتمالان ، أحدهما : أن الفعلَ مضارعُ تَوَلَّى ، وحُذِف
منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو : تَنَزَّلُ ، وقد تقدَّم : أيتُهما المحذوفةُ ،
وهذا هو الظاهر ، ولذلك جاء الخطاب في قوله « عليكم » . والثاني : أنه فعلٌ ماضٍ
مسندٌ لضمير الغائبين ، وجاء الخطابُ على إضمار القول ، أي : فقل لهم : إني أخاف
عليكم ، ولولا ذلك لكان التركيب : فإني أخاف عليهم .
وقرأ
اليماني وعيسى بن عمر : « تُوَلُّوا » بضم التاء وفتح الواو وضم اللام ، وهو
مضارعُ ولَّى كقولك زكَّى يزكِّي . ونقل صاحب « اللوامح » عن اليماني وعيسى : «
وإن تُوُلُّوا » بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول . قلت : ولم يُبَيِّن ما هو ولا
تصريفَه؟ وهو فعلٌ ماضٍ ، ولما بُني للمفعول ضُمَّ أولُه على الفاعل ، وضُمَّ
ثانيه أيضاً؛ لأنه مفتتحٌ بتاءِ مطاوَعَةٍ/ وكلُّ ما افْتُتِح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمًّ
أولُه وثانيه ، وضُمَّت اللام أيضاً وإن كان أصلُها الكسرَ لأجل واو الضمير ،
والأصل « تُوُلِّيُوا » نحو : تُدُحْرِجوا ، فاسْتُثْقِلت الضمةُ على الياء ،
فحُذِفت فالتقى ساكنان ، فحُذِفت الياءُ لأنها أولهما ، فبقي ما قبل واوِ الضمير
مكسوراً فَضُمَّ ليجانِسَ الضميرَ ، فصار وزنُه تُفُعُّوا بحَذْف لامِه ، والواوُ
قائمةٌ مقامَ الفاعل .
وقرأ الأعرج « تُوْلُوا » بضم التاء وسكون الواو وضم اللام مضارعَ أَوْلَى ، وهذه
القراءةُ لا يظهر لها معنى طائلٌ هنا ، والمفعولُ محذوفٌ يُقَدَّر لائقاً بالمعنى
و « كبير » صفةٌ ل « يوم » مبالغةً لما يقع فيه من الأهوال وقيل : بل « كبير »
صفةٌ ل « عذاب » فهو منصوبٌ وإنما خُفِضَ على الجِوار كقولهم : « هذا جُحْرُ ضَبٍّ
خَرِبٍ » بجرِّ « خَرِبٍ » وهو صفةٌ ل « جُحر » وقولِ امرىء القيس :
2634 كأن ثَبِيراً في عَرانين وَبْلِه ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّل
بجر « مُزَمّل » وهو صفةٌ ل « كبيرُ » . وقد تقدَّمَ القولُ في ذلك مشبعاً في سورة
المائدة .
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
قوله
تعالى : { يَثْنُونَ } : قراءةُ الجمهورِ بفتح الياء وسكونِ الثاءِ المثلثةِ ، وهو
مضارعُ ثنى يَثْني ثَنْياً ، أي : طوى وزوى ، و « صدورَهم » مفعول به والمعنى : «
يَحْرِفون صدورَهم ووجوههم عن الحق وقبولِه » والأصل : يَثْنِيُون فأُعِلَّ بحذفِ
الضمةِ عن الياء ، ثم تُحْذَفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين .
وقرأ سعيد بن جبير « يُثْنُون » بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم . واستشكل الناسُ
هذه القراءةَ فقال أبو البقاء : « ماضيه أَثْنى ، ولا يُعرف في اللغة ، إلا أن
يُقالَ : معناه عَرَضوها للانثناء ، كما يُقال : أَبَعْتُ الفرسَ : إذا عَرَضْتَه
للبيع » . وقال صاحب « اللوامح » : « ولا يُعرف الإِثناء في هذا الباب ، إلا أن
يُرادَ بها : وَجَدْتُها مَثْنِيَّة ، مثل : أَحْمَدْتُه وأَمْجَدْتُه ، ولعله فتح
النون ، وهذا ممَّا فُعِل بهم فيكون نصب » صدورَهم « بنزع الجارِّ ، ويجوز إلى ذلك
أن يكون » صدورهم « رَفْعاً على البدلِ بدلِ البعض من الكل » . قلت : يعني بقوله :
« فلعله فتح النون » ، أي : ولعل ابنَ جبير قرأ ذلك بفتح نونِ « يُثْنَون » فيكون
مبنياً للمفعول ، وهو معنى قولِه « وهذا مما فُعِل بهم ، أي : وُجِدوا كذلك ، فعلى
هذا يكون » صدورَهم « منصوباً بنزع الخافض ، أي : في صدورهم ، أي : يوجد الثَّنْيُ
في صدورهم ، ولذلك جَوَّز رفعَه على البدل كقولك : » ضُرِب زيدٌ الظهرُ « . ومَنْ
جوَّز تعريفَ التمييز لا يَبْعُدُ عنده أن ينتصبَ » صدورَهم « على التمييز بهذا
التقديرِ الذي قدَّره .
وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد
الرحمن بن أبزى وأبو الأسود : » تثنونى « مضارع » اثنونى « على وزن افْعَوْعَل من
الثَّنْي كاحلولى من الحَلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ ، » صدورُهم « بالرفع على
الفاعلية ، ونُقِل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : » يثنونى
صدورُهم « بالتاء والياء ، لأن التأنيثَ مجازيٌّ ، فجاز تذكيرُ الفعلِ باعتبار
تأوُّل فاعلِه بالجمع ، وتأنيثُه باعتبار تَأْويل فاعلِه بالجماعة .
وقرأ ابن عباس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعشى » تَثْنَوِنُّ « بفتح التاء وسكونِ
الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصلُ : تَثْنَوْنِنُ بوزن
تَفْعَوْعِلُ وهو الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضَعُفَ مِن الكلأ ، يريد مطاوعةَ نفوسِهم
للثَّنْي كما يُثْنى الهشُّ من النبات ، أو أراد ضَعْفَ إيمانهم ومرض قلوبهم . و »
صدورُهم « بالرفع على الفاعلية .
وقرأ مجاهد وعروة أيضاً كذلك ، إلا أنهما جَعَلا مكانَ الواوِ المكسورة همزةً
مكسورةً فأخرجاها مثل » تطمئن « . وفيها تخريجان ، أحدهما : أنَّ الواوَ قُلِبَتْ
همزةً لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وِعاء ووشاح ، لَمَّا استثقلوا
الكسرةَ على الواو أبدلوها همزةً .
والثاني
: أن وزنه تَفْعَيلُّ من الثِّن وهو ما ضَعُف من النبات كما تقدم ، وذلك أنه مضارع
ل « اثْنانَّ » مثل احْمارَّ واصْفارَّ ، وقد تقدَّم لك أن مِن العرب مَنْ يقلبُ
مثلَ هذه الألفِ همزةً كقوله :
2635 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . بالعَبيطِ
ادْهَأَمَّتِ
فجاء مضارع اثْنَأَنَّ على ذلك كقولك : احْمَأَرَّ يَحْمَئِرُّ كاطمأَنَّ يطمئِنُّ
. وأمَّا « صدورُهم » فبالرفع على ما تقدم .
وقرأ الأعشى أيضاً « تَثْنَؤُوْنَ » بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزةٍ
مضمومةٍ وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كتَرْهَبُون . « صدورَهم » بالنصب . قال
صاحب « اللوامح » ولا أعرفُ وجهَه لأنه يُقال « ثَنَيْتُ » ولم أسمعْ « ثَنَأْت »
، ويجوز أنه قلبَ الياءَ ألفاً على لغة مَنْ يقول « أَعْطَات » في أَعْطَيْت ، ثم
هَمَز الألفَ على لغةِ مَنْ يقول { وَلاَ الضألين } [ الفاتحة : 7 ] .
وقرأ ابنُ عباس أيضاً « تَثْنَوي » بفتح التاء وسكون/ المثلثة وفَتْحِ النونِ
وكسرِ الواو بعدها ياءٌ ساكنةً بزِنَة تَرْعَوي وهي قراءةٌ مُشْكلة جداً حتى قال
أبو حاتم : « وهذه القراءةُ غلطٌ لا تتَّجه » وإنما قال : إنها غلط؛ لأنه لا معنى
للواو في هذا الفعل إذ لا يُقال : « ثَنَوْتُه فانثوى كرَعَوْته ، أي : كفَفْتُه
فارعوى ، أي : فانكفَّ ووزنه افعلَّ كاحمرَّ .
وقرأ نصر بن عاصم وابن يَعْمر وابن أبي إسحاق » يَثْنُون « بتقديم النون الساكنة
على المثلثة .
وقرأ ابنُ عباس أيضاً » لتَثْنَوْنِ « بلام التأكيد في خبر » إنَّ « وفتح التاءِ
وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة تَفْعَوْعِلُ ،
كما تقدَّم ، إلا أنها حُذِفَت التاء التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم : لا أدرِ
وما أَدْرِ . و » صدورُهم « فاعلٌ كما تقدم .
وقرأ طائفةٌ : » تَثْنَؤُنَّ « بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نونٍ مفتوحةٍ ثم
همزةٍ مضمومةٍ ثم نون مشددة ، مثل تَقْرَؤُنَّ ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ ، إلا أنه
قَلَبَ الياءَ واواً لأن الضمةَ تنافِرُها ، فجُعِلَت الحركةُ على مجانِسها ، فصار
اللفظُ تَثْنَوُوْنَ ثم قُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً كقولهم : » أُجوه « في »
وُجوه « و » أُقِّتَتْ « في » وقِّتت « فصار » تَثْنَؤُون « ، فلمَّا أُكِّد
الفعلُ بنونِ التوكيد حُذِفَتْ نونُ الرفع فالتقى ساكنان : وهما واوُ الضمير
والنون الأولى مِنْ نون التوكيد ، فحُذِفَتْ الواو وبقيت الضمةُ تدلُّ عليها فصار
تَثْنَؤُنَّ كما ترى . و » صدورَهم « منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً
بالغْتُ في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها؛ لأني رأيتها في الكتب مهملةً من الضبط
باللفظ وغالبِ التصريف ، وكأنهم اتَّكلوا في ذلك على الضبطِ بالشكل في الكتابة
وهذا متعبٌ جداً .
قوله { لِيَسْتَخْفُواْ } فيه وجهان ، أحدهما : أن هذه اللام متعلقةٌ ب » يَثْنُون
« وكذا قاله الحوفي ، والمعنى أنهم يفعلون ثَنْي الصدورِ لهذه العلة .
وهذا
المعنى منقولٌ في التفسير ولا كُلْفَةَ فيه . والثاني : أن اللام متعلقةٌ بمحذوفٍ
، قال الزمخشري : « ليَسْتَخْفُوا منه » يعني ويريدون : ليستَخْفُوا من اللَّه فلا
يُطْلِعُ رسولَه والمؤمنين على ازْوِرارهم ، ونظيرُ إضمارِ « يريدون » لعَوْدِ
المعنى إلى إضماره الإِضمارُ في قولِه تعالى : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر
فانفلق } [ الشعراء : 63 ] معناه : « فضرب فانفلق » قلت : ليس المعنى الذي يقودُنا
إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا؛ لأن ثَمَّ لا بد منْ حذفِ معطوفٍ يُضْطر العقلُ
إلى تقديره؛ لأنه ليس مِن لازم الأمر بالضرب انفلاقُ البحر فلا بد أن يُتَعقَّل «
فضرب فانفلق » ، وأمَّا في هذه فالاستخفاف علة صالحةٌ لتَثْنيهم صدورَهم فلا
اضطرار بنا إلى إضمار الإِرادة .
والضميرُ في « منه » فيه وجهان ، أحدهما : أنه عائد على رسولِ اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللام ب « يَثْنون » . والثاني : أنه عائدٌ على
اللَّه تعالى كما قال الزمخشري .
قوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ } في هذا الظرف وجهان ، أحدهما : أنَّ ناصبَه
مضمرٌ ، فقدَّره الزمخشري ب « يريدون » كما تقدَّم ، فقال : « ومعنى ألا حين
يَسْتَغْشُون ثيابهم : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابَهم أيضاً كراهةً
لاستماع كلامِ اللَّه كقولِ نوحٍ عليه السلام { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ
واستغشوا ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، وقدَّره أبو البقاء فقال : » ألا حين
يَسْتَغْشون ثيابهم يَسْتخفون « . والثاني : أن الناصبَ له » يَعْلَمُ « ، أي :
ألا يعلمُ سِرَّهم وعَلَنهم حين يفعلون كذا ، وهو معنى واضح ، وكأنهم إنما جوَّزوا
غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعَلَنِهم بهذا الوقت الخاص ، وهو تعالى
عالمٌ بذلك في كل وقت . وهذا غيرُ لازمٍ ، لأنه إذا عُلِم سِرُهم وعلنُهم في وقتِ
التغشية الذي يخفى فيه السرُّ فأَوْلى في غيره ، وهذا بحسب العادةِ وإلا فاللَّهُ
تعالى لا يتفاوتُ عِلْمُه . و » ما « يجوز أن تكونَ » مصدريةً « ، وأن تكونَ بمعنى
الذي ، والعائد محذوف ، أي : تُسِرُّونه وتُعْلِنونه .
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
قوله
تعالى : { مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } : يجوز أن يكونا مصدَرْين ، أي :
استقرارها واستيداعها ، ويجوز أن يكونا مكانين ، أي : مكان استقرارها واستيداعها .
ويجوز أن يكون مستودعها اسمَ مفعول لتعدِّي فِعْلِه ، ولا يجوز ذلك في « مستقر »
لأنَّ فعلَه لازمٌ ، ونظيرُه في المصدرية قولُ الشاعر :
2636 ألم تعلمْ مُسَرَّحِيَ القوافي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
أي : تَسْريحي .
قوله : { كُلٌّ } المضافُ إليه محذوفٌ تقديرُه : كل دابةٍ وزرقُها ومستقرُّها
ومستودَعُها في كتاب مبين .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله
تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ } : في هذه اللام وجهان ، أحدهما : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ
فقيل : تقديرُه : أَعْلَمَ بذلك ليبلوَكم . وقيل : ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير :
وكان خلقُه لهما لمنافعَ يعودُ عليكم نفعُها في الدنيا دون الآخرة وفَعَل ذلك
لِيَبْلُوَكم . وقيل : / تقديرُه : وخلقكم ليبلوَكم . والثاني : أنها متعلقةٌ ب «
خلق » قال الزمخشري : « أي : خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أَنْ يَجْعَلَها مساكنَ
لعباده وينعمَ عليهم فيها بصنوف النِّعَمِ ويُكَلِّفهم فعلَ الطاعاتِ واجتنابَ
المعاصي ، فَمَنْ شكر وأطاع أثابه ، ومَنْ كفر وعصى عاقبه ، ولمَّا أَشْبَهَ ذلك
اختبارَ المُخْتبر قال » ليبلوَكم « ، يريد : ليفعلَ بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم
.
قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } مبتدأٌ وخبر في محل نصب بإسقاط الخافضِ؛ لأنه
مُعَلِّقٌ لقوله » ليبلوكم « . قال الزمخشري : » فإن قلت : كيف جاز تعليقُ فعلِ
البلوى؟ قلت : لما في الاختيار من معنى العلم؛ لأنه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما
تقول : « انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً ، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً » لأن النظر
والاستماع من طرق العلم « . وقد واخذه الشيخُ في تمثيله بقوله » واسمع « قال : »
لم أعلمْ أحداً ذكر أنَّ « استمع » يُعَلَّق ، وإنما ذكروا من غيرِ أفعالِ القلوب
« سَلْ » ، و « انظر » ، وفي جواز تعليق « رأى » البصريةِ خلافٌ « .
قوله : { وَلَئِن قُلْتَ } : هذه لامُ التوطئة للقسم ، و » ليقولُنَّ « جوابُه ،
وحُذِفَ جوابُ الشرط لدلالة جواب القسم عليه ، و » إنكم « محكيٌّ بالقول ، ولذلك
كُسِرت في قراءة الجمهور . وقُرىء بفتحها ، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري ،
أحدهما : أنها بمعنى لعلَّ ، قال : » مِنْ قولهم : « ائت السُّوق أنك تشتري لحماً
» ، أي : لعلك ، أي : ولئن قلت لهم : لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعوا بَعْثَكم
وظُنُّوه ، ولا تَبُثُّوا القولَ بإنكاره ، لقالوا « . والثاني : أن تُضَمِّنَ »
قلتَ « معنى » ذَكَرْتَ « يعنى فتفتح الهمزة لأنها مفعول » ذكرْتَ « .
قوله : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ } قد تقدم أنه قُرىء » سِحْر « و » ساحر « ،
فَمَنْ قَرَأَ » سِحْر « ف » هذا « إشارةٌ إلى البعث المدلولِ عليه بما تقدَّم ،
أو إشارةٌ إلى القرآن لأنه ناطق بالبعث . ومَنْ قرأ » ساحر « فالإِشارةُ ب » هذا «
إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويجوز أن يُرادَ ب » هذا « في القراءة الأولى
النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم أيضاً ، ويكون جَعَلوه سِحْراً مبالغةً ، أو على حذف
مضاف ، أي : إلا ذو سحر . ويجوز أن يُراد ب » ساحر « نفسُ القرآنِ مجازاً كقولهم »
شعرٌ شاعرٌ « و » جَدَّ جَدُّه « .
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
قوله
تعالى : { لَّيَقُولُنَّ } : هذا الفعلُ معربٌ على المشهور لأن النونَ مفصولةٌ
تقديراً ، إذا الأصلُ : ليقولونَنَّ : النون الأولى للرفع ، وبعدها نونٌ مشددة ،
فاستثقلَ توالي ثلاثةِ أمثال ، فحُذِفَتْ نونُ الرفع لأنها لا تدلُّ مِن المعنى
على ما تدل عليه نون التوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل
لالتقائِهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
و « ما يَحْبِسُه » استفهامٌ ، ف « ما » مبتدأ ، و « يحبسُه » خبره ، وفاعلُ الفعل
ضميرُ اسم الاستفهام ، والمنصوب يعود على العذاب ، والمعنى : أيُّ شيءٍ من الأشياء
يَحْبِسُ العذاب؟ .
قوله : { يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } منصوبٌ ب « مصروفاً » الذي هو خبر « ليس » ، وقد
استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر « ليس عليها ، ووجهُ ذلك أن تقديمَ
المعمول يُؤْذن بتقديم العامل ، و » يومَ « منصوب ب » مصروفاً « وقد تقدَّم على »
ليس « فليَجُزْ تقديمُ الخبرِ بطريق الأولى؛ لأنه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن
يتقدَّم الأصلُ . وقد رَدَّ بعضهم هذا الدليلَ بشيئين ، أحدهما : أن الظرفَ
يُتوسَّع فيه ما لا يُتوسَّع في غيره . والثاني : أن هذه القاعدةَ منخرمةٌ ، إذ
لنا مواضعُ يتقدم فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العامل ، وأوردَ مِنْ ذلك نحوَ
قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ }
[ الضحى : 9-10 ] فاليتيمَ منصوب ب » تقهرْ « ، و » السائلَ « منصوبٌ ب » تَنْهَرْ
« وقد تَقَدَّما على » لا « الناهية ، ولا يتقدَّمُ العاملُ وهو المجزوم على » لا
« ، وللبحث في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ به . قال الشيخ : » وقد تَتَبَّعْتُ
جملةً من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر « ليس » عليها ولا بمعموله إلا ما دلَّ
عليه ظاهرُ هذه الآية وقولِ الشاعر :
2637 فيأبى فما يَزْدادُ إلا لَجاجَةً ... وكنتُ أَبِيَّاً في الخَفَا لستُ أُقْدِمُ
واسمُ « ليس » ضميرٌ عائد على « العذاب » ، وكذلك فاعل « يأَْتيهم » ، والتقدير :
ألا ليسَ العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب . وحكى أبو البقاء عن بعضهم أن
العاملَ في « يومَ يأتيهم » محذوف ، تقديره : أي : لا يُصْرَفُ عنهم العذابُ يوم
يأتيهم ، ودلَّ على هذا المحذوفِ سياق الكلام .
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
قوله تعالى : { لَفَرِحٌ } : قرأ الجمهور بكسرِ الراء ، وهو قياسُ اسمِ الفاعل من فَعِل اللازم بكسر العين نحو : أَشِرَ فهو أَشِرٌ ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ . وقرىء شاذاً « لَفَرُح » بضم الراء نحو : يَقِظ ويَقُظ ، ونَدِس ونَدُس .
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
قوله تعالى : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل؛ إذ المرادُ به جنس/ الإِنسانِ لا واحدٌ بعينه . والثاني : أنه منقطعٌ ، إذ المراد بالإِنسان شخصٌ معين ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحل . والثالث : أنه مبتدأ ، والخبرُ الجملةُ من قوله { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } وهو منقطعٌ أيضاً . وقوله : « مغفرةٌ » يجوز أن يكونَ مبتدأ ، و « لهم » الخبر ، والجملةُ خبرُ « أولئك » ، ويجوز أن يكونَ « لهم » خبرَ « أولئك » و « مغفرة » فاعلٌ بالاستقرار .
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
قوله
تعالى : { فَلَعَلَّكَ } : الأحسنُ أن تكونَ على بابها من الترجِّي بالنسبة إلى
المخاطب . وقيل : هي للاستفهام كقوله عليه السلام : « لعلنا أعجلناك »
قوله : { وَضَآئِقٌ } نسقٌ على « تارك » . وعَدَلَ عن « ضيّق » وإن كان أكثر من «
ضائق » قال الزمخشري : « ليدلَّ على أنه ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابت ، ومثلُه سَيِّد
وجَواد ، فإذا أردْتَ الحدوثَ قلت : سائدٌ وجائد » . قال الشيخ : « وليس هذا
الحكمُ مختصاً بهذه الألفاظ ، بل كلُّ ما بُني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على
غير فاعِل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حاسِن وثاقِل وسامِن في
حَسُن وثَقُل وسَمُنَ » وأنشد :
2638 بمنزلةٍ أمَا اللئيمُ فسامِنٌ ... بها وكرامُ الناسِ بادٍ شُحوبُها
وقيل : إنما عَدَل عن ضيِّق إلى ضائق ليناسب وزن تارك .
والهاءُ في « به » تعود على « بعض » . وقيل : على « ما » . وقيل : على التكذيب . و
« صدرُك » فاعل ب « ضائق » . ويجوز أن يكون « ضائقٌ » خبراً مقدماً ، و « صدرك »
مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملة خبرٌ عن الكاف في « لعلك » ، فيكون قد أخبر بخبرين ،
أحدهما مفرد ، والثاني جملة عُطِفت على مفرد ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : « إنَّ
زيداً قائم وأبوه منطلق » ، أي : إن زيداً أبوه منطلق .
قوله : { أَن يَقُولُواْ } في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في « أنْ »
بعد حَذْف حرف الجر أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافةَ أَنْ يقولوا ، أو لئلا
يقولوا ، أو بأن يقولوا . وقال أبو البقاء : « لأن يقولوا ، أي : لأَنْ قالوا ،
فهو بمعنى الماضي » وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يدعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٍّ في
الاستقبال وهو الناصب؟ و « لولا » تحضيضيةٌ ، وجملةُ التحضيضِ منصوبةٌ بالقول .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
قوله
تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ } : في « أم » هذه وجهان ، أحدهما : أنها منقطعةٌ
فتقدَّر ب « بل » والهمزة ، فالتقدير : بل أتقولون افتراه . والضمير في « افتراه »
لما يوحى . والثاني : أنها متصلة ، فقدَّروها بمعنى : أيكتفون بما أوحينا إليك من
القرآن أم يقولون إنه ليس من عند اللَّه؟ .
قوله : { مِّثْلِهِ } نعت ل « سُوَر » و « مثل » وإن كانت بلفظ الإِفراد فإنها
يُوصف بها المثنى والمجموعُ والمؤنث ، كقوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 47 ] ، ويجوز المطابقةُ قال تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ
كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 23 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم }
[ محمد : 38 ] والهاءُ في « مثلِه » تعود لما يوحي أيضاً ، و « مفتريات » صفة ل «
سُوَر » جمع مُفْتراة كمُصْطَفَيات في « مصطفاة » فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية .
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
قوله
تعالى : { أَنَّمَآ أُنزِلِ } : « ما » يجوز أن تكون كافةً مهيِّئة . وفي «
أُنْزِل » ضميرٌ يعود على ما يوحى إليك ، و « بعلمٍ » حال أي : ملتبساً بعلمِه ،
ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفية اسماً ل « إنَّ » فالخبرُ الجارُّ
تقديرُه : فاعلموا أن تنزيلَه ، أو أنَّ الذي أُنْزِل ملتبسٌ بعلمٍ .
وقرأ زيد بن علي « نَزَّل » بفتح النون والزاي المشددة ، وفاعل « نَزَّل » ضميرُ
اللَّه تعالى ، و { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } نسقٌ على « أنَّ » قبلها ، ولكن
هذه مخففةٌ فاسمُها محذوفٌ ، وجملةُ النفي خبرُها .
قوله : { نُوَفِّ } الجمهورُ على « نُوَفِّ » بنون العظمة وتشديد الفاء مِنْ
وَفَّى يُوَفِّي ، وطلحة وميمون بياء الغيبة ، وزيد بن علي كذلك إلا أنه خَفَّفَ
الفاءَ مِنْ أوفى يوفي ، والفاعلُ في هاتَيْن القراءتين ضميرُ اللَّه تعالى .
وقرىء « تُوَفَّ » بضم التاء وفتح الفاء مشددةً مِنْ وفى يُوَفِّى مبنياً للمفعول
. « أعمالُهم » بالرفع قائماً مقام الفاعل . وانجزم « نُوَفِّ » على هذه القراءاتِ
لكونِه جواباً للشرط ، كما في قوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة
نَزِدْ لَهُ [ فِي حَرْثِهِ ] وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنهَا
} [ الشورى : 20 ] .
وزعم الفراء أن « كان » زائدة قال : « ولذلك جَزَم جوابَه » ولعلَّ هذا لا يصح إذ
لو كانت زائدةً لكان « يريد » هو الشرط ، ولو كان شرطاً لانجزم ، فكان يُقال :
مَنْ كان يُرِدْ « .
وزعم بعضُهم أنه لا يؤتى بفعل الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً إلا مع » كان « خاصة ،
ولهذا لم يَجِىءْ في القرآن إلا كذلك ، وهذا ليس بصحيحٍ لوروده في غير » كان « قال
زهير :
2639 ومَنْ هاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ... ولو رام أسبابَ السماء بسُلَّمِ
وأما القرآن فجاء من باب الاتفاق أنه كذلك .
وقرأ الحسن البصري » نوفِي « بتخفيف الفاء/ وثبوتِ الياء مِنْ أوفى ، ثم هذه
القراءةُ محتمِلَةٌ : لأن يكون الفعل مجزوماً ، وقُدِّر جزمُه بحذفِ الحركة
المقَّدرة كقوله :
2640 ألم يَأْتيك والأنباءُ تُنْمي ... بما لاقَتْ لَبُونُ بني زياد
على أن ذلك قد يأتي في السَّعَةِ نحو : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [ يوسف : 90 ] ،
وسيأتي محرَّراً في سُورته ، ولأن يكون الفعلُ مرفوعاً لوقوع الشرط ماضياً كقوله :
2641 وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً ... نقولُ جِهاراً ويَلْكُمْ لا
تُنَفِّروا
وكقول زهير :
2642 وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وهل الرفعُ لأنه على نيةِ التقديمِ وهو مذهبُ سيبويه أو على نية الفاءِ ، كما هو
مذهب المبرد؟ خلافٌ مشهور .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قوله
تعالى : { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } : يجوز أن يتعلَّقَ « فيها » ب « حَبِط
» ، والضميرُ على هذا يعود على الآخرة ، أي : وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة . ويجوز
أن يتعلَّقَ ب « صنعوا » فالضمير على هذا يعود على الحياة الدنيا كما عاد عليها في
قوله { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } . و « ما » في « ما صنعوا »
يجوز أن تكون بمعنى الذي فالعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي صنعوه ، وأن تكونَ مصدريةً ،
وحَبِط صُنْعُهم .
قوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ } الجمهورُ قرؤوا برفع الباطل ، وفيه ثلاثة أوجه
، أحدها : أن يكونَ « باطل » خبراً مقدماً ، و { مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
مبتدأٌ مؤخرٌ . و « ما » تحتمل أن تكن مصدريةً ، أي : وباطلٌ كونُهم عاملين ، وأن
تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي : يعملونه ، وهذا على أنَّ الكلامَ من عطفَ
الجمل ، عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلها . الثاني : أن يكونَ « باطل » مبتدأً و {
مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } خبرُه ، هكذا قال مكي بن أبي طالب وهو لا يَبْعُدُ
على الغلط ، والعجبُ أنه لم يّذْكر غيره . الثالث : أن يكونَ « باطل » عطفاً على
الأخبارِ قبله ، أي : أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون ، و { مَّا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ } فاعلٌ ب « باطل » ، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي : { وَبَاطِلٌ
مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على « حَبِط » .
وقرأ أُبَيّ وابن مسعود قال مكي : « وهي في مصحفهما كذلك » ونقلها الزمخشري عن
عاصم « وباطلاً » نصباً وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب « يعملون » و
« ما » مزيدة ، وإلى هذا ذهب مكي وأبو البقاء وصاحب « اللوامح » ، وفيه تقديمُ
معمولِ خبرِ « كان » على « كان » وهي مسألة خلاف ، والصحيحُ جوازُها كقوله تعالى :
{ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] فالظاهرُ أن « إياكم »
منصوب ب « يعبدون » . والثاني : أن تكونَ « ما » إبهاميةً ، وتنتصب ب « يعملون »
ومعناه : « باطلاً أيَّ باطلٍ كانوا يعملون » ، والثالث : أن يكون « باطلاً »
بمعنى المصدر على بَطَلَ بُطْلاناً ما كانوا يعملون ، ذكر هذين الوجهين الزمخشري ،
ومعنى قوله « ما » إبهامية أنها هنا صفةٌ للنكرة قبلها ، ولذلك قَدَّرها ب «
باطلاً أيَّ باطل » فهو كقوله :
2643 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
و « لأمرٍ ما جَدَعَ قصيرٌ أَنْفَه » ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى : {
مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ الزمر : 9 ] .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
قوله
تعالى : { أَفَمَن كَانَ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ ،
تقديره : أفَمَنْ كان على هذه الأشياء كغيره ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وأحسنُ منه
« أَفَمَنْ كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها » ، وحَذْفُ المعادلِ الذي
دخلت عليه الهمزةُ كثيرةٌ نحو : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ } [ فاطر :
8 ] { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] إلى غير ذلك . وهذا الاستفهام بمعنى
التقرير . الثاني وإليه نحا الزمخشري أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله ، تقديره
: أمَّن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها كمَنْ كان على بَيِّنَة ، أي : لا
يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم ، يريد أنَّ بين الفريقين تفاوتاً ، والمرادُ
مَنْ آمَن مِن اليهود كعبد اللَّه بن سلام ، وهذا على قاعدتِه مِنْ تقديره معطوفاً
بين همزة الاستفهام وحرفِ العطف ، وهو مبتدأٌ أيضاً ، والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم
تقريرُه .
قوله : { وَيَتْلُوهُ } اختلفوا في هذه الضمائر ، أعني في « يتلوه » ، وفي « منه »
، وفي « قبله » : فقيل : الهاء في « يتلوه » تعود/ على « مَنْ » ، والمرادُ به
النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكذلك الضميران في « منه » و « قبله » والمرادُ
بالشاهد لسانُه عليه السلام ، والتقدير : ويتلو ذلك الذي على بَيِّنة ، أي : ويتلو
محمداً أي صِدْقَ محمدٍ لسانُه ، ومِنْ قبلِه ، أي قبل محمد . وقيل : الشاهدُ هو
جبريلُ ، والضمير في « منه » للَّه تعالى ، و « من قبله » للنبي . وقيل : الشاهدُ
الإِنجيلُ و « كتاب موسى » عطف على « شاهد » ، والمعنى أن التوراة والإِنجيل
يتلوان محمداً في التصديق ، وقد فَصَلَ بين حرفِ العطف والمعطوف بقوله : « من قبله
» ، والتقدير : شاهدٌ منه ، وكتاب موسى من قبله ، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصل
بين حرف العطفِ والمعطوفِ مُشْبعاً في النساء .
وقيل : الضمير في « يتلوه » للقرآن وفي « منه » لمحمد عليه السلام . وقيل : لجبريل
، والتقدير : ويتلو القرآنَ شاهدٌ من محمدٍ وهو لسانُه ، أو مِن جبريلَ . والهاءُ
في « من قبلِه » أيضاً للقرآن . وقيل : الهاءُ في « يَتْلوه » تعود على البيان
المدلولِ عليه بالبيِّنة . وقيل : المرادُ بالشاهدِ إعجازُ القرآن ، فالضمائر
الثلاثة للقرآن . وهذا كافٍ ، ووراء ذلك أقوالٌ مضطربةٌ غالبُها يَرْجِع لما
ذكرْتُ .
وقرأ محمد بن السائب الكلبي « كتابَ موسى » بالنصبِ وفيه وجهان ، أحدهما وهو
الظاهر أنه معطوف على الهاء في « يتلوه » ، أي : يتلوه ويتلو كتابَ موسى ، وفصلَ
بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ . قال أبو
البقاء : وقيل : تمَّ الكلامُ عند قولِه « منه » و « كتابَ موسى » ، أي : ويتلو
كتابَ موسى « فقدَّر فعلاً مثلَ الملفوظِ به ، وكأنه لم يرَ الفصلَ بين العاطفِ
والمعطوفِ فلذلك قَدَّر فعلاً .
و
« إماماً ورحمةً » منصوبان على الحال من « كتاب موسى » سواءً أقرىء رفعاً أم نصباً
.
والهاءُ في « به » يجوز أن تعودَ على « كتاب موسى » وهو أقربُ مذكورٍ . وقيل :
بالقرآن ، وقيل : بمحمد ، وكذلك الهاء في « به » .
والأَحْزاب : الجماعةُ التي فيها غِلْظَةٌ ، كأنهم لكثرتهم وُصِفوا بذلك ، ومنه
وَصْفُ حمارِ الوحش ب « حَزَابِيَة » لغِلَظِه . والأحزاب : جمع حِزْب وهو جماعةُ
الناس .
و « المِرْية » بكسر الميم وضَمِّها الشكُّ ، لغتان أشهرُهما الكسرُ ، وهي لغة أهل
الحجاز ، وبها قرأ جماهيرُ الناس ، والضمُّ لغةُ أسد وتميم ، وبها قرأ السُّلمي
وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي . و « وأولئك » إشارةٌ إلى مَنْ كان على بَيِّنة ،
جُمِع على معناها ، وهذا إنْ أريد ب « مَنْ كان » النبيُّ وصحابتُه ، وإن أريدَ هو
وحدَه فيجوز أن يكونَ عظَّمه بإشارة الجمع كقوله :
2644 فإن شِئْتِ حَرَمْتُ النساءَ سواكمُ ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا
بَرْدا
و « موعده » اسمُ مكانِ وَعْدِه ، قال حسان رضي اللَّه عنه :
2645 أورَدْتُموها حِياضَ الموتِ ضاحيةً ... فالنارُ موعدُها والموتُ ساقيها
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
والأَشْهاد جمعُ شاهد كصاحب وأَصْحاب ، أو جمعُ شهيد كشريف وأشراف .
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
وقوله تعالى : { وَهُمْ بالآخرة هُمْ } : « هم » الثانية توكيدٌ للأولى توكيداً لفظياً .
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
قوله
تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ } : يجوز في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ،
أحدُها : أن تكونَ نافيةً ، نفى عنهم ذلك لمَّا لم ينتفعوا به ، وإن كانوا ذوي
أسماع وأبصار ، أو يكونُ متعلَّقُ السمعِ والبصرِ شيئاً خاصاً . والثاني : أن تكون
مصدريةً ، وفيها حينئذٍ تأويلان ، أحدهما : أنها قائمة مقامَ الظرف ، أي : مدةَ
استطاعتهم ، وتكون « ما » منصوبةً ب « يُضاعف » ، أي : يضاعف لهم العذاب مدةَ
استطاعتهم السمعَ والأبصار . والتأويل الثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ على إسقاط
حرف الجر ، كما يُحذف من أنْ وأنَّ أختيها ، وإليه ذهب الفراء ، وذلك الجارُّ
متعلقٌ أيضاً ب « يُضاعَف » ، أي : يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ويبصرون ولا
يَنْتفعون . الثالث : أن تكون « ما » بمعنى الذي ، وتكونَ على حذف حرف الجر أيضاً
، أي : بالذي كانوا ، وفيه بُعْدٌ لأنَّ حَذْفَ الحرفِ لا يَطَّرد .
والجملةُ من قوله « يُضاعف » مستأنفة . وقيل : إنَّ الضمير في قوله : « ما كانوا »
يعودُ على « أولياء » وهم آلهتُهم ، أي : فما كان لهم في الحقيقة مِنْ أولياء « ،
وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياءُ ، فعلى هذا يكون { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب }
معترضاً .
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قوله
تعالى : { لاَ جَرَمَ } : في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين ، ويتلخص ذلك في خمسة
أوجه ، أحدها : وهو مذهب/ الخليلِ وسيبويه وجماهير الناس أنهما رُكِّبَتَا من « لا
» النافيةِ و « جَرَم » ، وبُنِيَتَا على تركيبهما تركيبَ خمسةَ عشرَ ، وصار
معناهما معنى فِعْلٍ وهو « حقَّ » ، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية ، فقوله
تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] ، أي حَقَّ وثَبَتَ
كونُ النار لهم ، أو استقرارها لهم . الوجه الثاني : أنَّ « لا جَرَمَ » بمنزلة لا
رجل ، في كون « لا » نافيةً للجنس ، و « جَرَم » اسمُها مبنيٌّ معها على الفتح وهي
واسمُها في محلِّ رفعٍ بالابتداء وما بعدهما خبرُ « لا » النافية ، وصار معناها :
لا محالة ولا بُدَّ .
الثالث : كالذي قبله إلا أن « أنَّ » وما بعدها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف
الجار ، إذ التقدير : لا محالةَ في أنهم في الآخرة ، أي : في خسرانهم . الرابع :
أن « لا » نافيةٌ لكلامٍ متقدمٍ تكلَّم به الكفرة ، فردَّ اللَّه عليهم ذلك بقولِه
: « لا » ، كما تَرُدُّ « لا » هذه قبل القسم في قوله : { لاَ أُقْسِمُ } [
القيامة : 1 ] ، وقوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65
] وقد تقدَّم تحقيقه ، ثم أتى بعدها بجملةٍ فعليةٍ وهي « جرم أنَّ لهم كذا » .
وجَرَمَ فعلٌ ماضٍ معناه كسب ، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلولِ عليه بسياقِ
الكلام ، و « أنَّ » وما في حيِّزها في موضع المفعول به لأنَّ « جَرَم » يتعدى إذ
هو بمعنى كَسَبَ . قال الشاعر :
2646 نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ ... بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا
أي : بما كسبَتْ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة . وجريمةُ القومِ كاسبُهم ،
قال :
2647 جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ ... ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا
فتقديرُ الآية : كَسَبَهم فِعْلُهم أو قولُهم خسرانَهم ، وهذا هو قولُ أبي إسحاق
الزجاج ، وعلى هذا فالوقف على قوله : « لا » ثم يُبتدأ ب « جَرَمَ » بخلاف ما
تقدَّم .
الوجه الخامس : أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ ، وتكون « جَرَمَ » بمعنى القطع ،
تقول : جَرَمْتُ ، أي : قطعت ، فيكون « جرم » اسمَ « لا » مبنيٌّ معها على الفتح
كما تقدم ، وخبرها « أنَّ » وما في حيِّزها ، أو على حَذْف حرف الجر ، أي : لا منع
من خسرانهم ، فيعود فيه الخلافُ المشهور .
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم ، ولا جُرَم بضمِّها ، ولا
جَرَ بحذف الميم ، ولا ذا جَرَم ، ولا إنَّ ذا جَرَم ، ولا ذو جَرَم ، ولا عن ذا
جَرَم ، ولا إنْ جَرَم ، ولا عن جَرَم ، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك .
وعن أبي عمروٍ : « لا جَرُم أنَّ لهم النار » على وزن لا كَرُم ، يعني بضم الراء ،
ولا جَرَ ، قال : « حَذَفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : » سَوْ ترى « يريدون :
سوف .
وقوله : { هُمُ الأخسرون } يجوز أن يكون » هم « فَصْلاً وأن يكونَ توكيداً ، وأن
يكونَ مبتدأً وما بعده خبره ، والجملة خبرُ » أنَّ « .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
قوله
تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } : الموصولُ اسمُ إنَّ ، والجملة مِنْ قولِه : {
أولئك أَصْحَابُ الجنة } خبرها .
والإِخباتُ : الاطمئنان والتذلُّل والتواضع ، وأصله من الخَبْت وهو المكانُ
المطمئنُّ ، أي : المنخفضُ من الأرض ، وأَخْبَتَ الرجلُ : دخل في مكان خَبْت ،
كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ إذا دخل في أحد هذين المكانين ، ثم تُوُسِّع فيه فقيل :
خَبَتَ ذِكْرُه ، أي : خمد ، ويقال للشيء الدنيء الخبيت ، قال الشاعر :
2648 ينفع الطيِّبُ القليلُ من الرِّزْ ... قِ ولا يَنْفَعُ الكثير الخبيتُ
هكذا يُنْشدون هذا البيتَ في هذه المادة ، الزمخشري وغيره ، والظاهر أن يكونَ
بالثاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطِّيب ، ولكن الظاهر من عبارتهم أنه بالتاء
المثنَّاة لأنهم يَسُوقونه في هذه المادة ، ويدلُّ على أن معنى البيت إنما هو على
الثاء المثلثة قولُ الزمخشري : « وقيل : التاءُ فيه بدل من الثاء » . ومن مجيء
الخَبْت بمعنى المكان المطمئن قوله :
2649 أفاطمُ لو شَهِدْتِ ببطنِ خَبْتٍ ... وقد قتل الهزبرَ أخاك بشرا
وفي تركيب البيتِ قَلَقٌ ، وحَلُّه : لو شهدْتِ أخاك بِشْرا وقد قتل الهزبرَ ،
ففاعل « قتل » ضمير يعودُ على « أخاك » . وأخبت يتعدى بإلى كهذه الآية ، وباللام
كقوله تعالى : { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 54 ] .
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
قوله
تعالى : { مَثَلُ الفريقين } : مبتدأٌ ، و « كالأعمى » خبره ، ثم هذه الكافُ يحتمل
أن تكونَ هي نفسَ الخبر ، فتقدَّر ب « مثل » ، تقديرُه : مَثَلُ الفريقين مثلُ
الأعمى . ويجوز أن تكون « مثل » بمعنى « صفة » ، ومعنى الكاف معنى مِثْلِ ،
فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ ، أي : كمثل الأعمى . وقوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى }
يجوز أن/ يكونَ من باب تشبيه شيئين بشيئين ، فقابل العمى بالبصَر ، والصمم بالسمع
وهو من الطِّباق ، وأن يكونَ من تشبيهِ شيءٍ واحد بوصفَيْهِ بشيءٍ واحدٍ بوصفَيْهِ
، وحينئذٍ يكون قولُه : « كالأعمى والأصمِّ » وقوله « والبصير والسميع » من باب
عطف الصفات كقوله :
2650 إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسنَ الزمخشريُّ في التعبير عن ذلك فقال : « شبَّه فريق الكافرين بالأَعْمى
والأصمِّ ، وفريقَ المؤمنين بالبصير والسميع ، وهو من اللَّفِّ والطِّباق ، وفيه
معنيان : أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين ، كما شبَّه امرؤ القيس قلوبَ الطير
بالحَشَف والعُنَّاب ، وأن يُشَبِّهَ بالذي جمع بين العمى والصَّمَم ، والذي جمع
بين البصر والسمع ، على أن تكونَ الواوُ في » والأصمِّ « وفي » والسميع « لعطفِ
الصفة على الصفةِ كقوله :
2651 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ال ... صَابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
قلت : يريد بقوله » اللفّ « أنه لفَّ المؤمنين والكافرين اللذين هما مشبهان بقوله
» الفريقين « ، ولو فسَّرهما لقال : مَثَلُ الفريق المؤمن كالبصير والسميع ، ومثل
الكافر كالأعمى والأصم ، وهي عبارةٌ مشهورة في علم البيان : لفظتان متقابلتان :
اللفُّ والنشر ، وأشارَ لقول امرىء القيس وهو :
2652 كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابِساً ... لدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ
البالي
أصلُ الكلامِ : كأن الرَّطْبَ من قلوب الطير : العُنَّابُ ، واليابسَ منها :
الحَشَفُ ، فلفَّ ونشر ، واللف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كبير ، ليس هذا موضعَه
.
وأشار بقوله » الصابح فالغانم « إلى قوله :
2653 يا ويحَ زَيَّابَةَ للحارثِ ال ... صابحِ فالغانم فالآئِبِ
وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وتحريرُه .
فإن قلت : لِمَ قَدَّم تشبيهَ الكافر على المؤمن؟ أجيب بأن المتقدِّمَ ذِكْرُ
الكفار فلذلك قدَّم تمثيلهم . فإن قيل : ما الحكمةُ في العدولِ عن هذا التركيب لو
قيل : كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتتقابلَ كلُّ لفظةٍ مع ضدها ، ويظهرَ بذلك
التضادُّ؟ أجيب : بأنه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعه بانسداد الأذن ،
ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن ، وهذا التشبيهُ أحدُ الأقسامِ وهو
تشبيهُ أمرٍ معقول بأمرٍ محسوس : وذلك أنه شبَّه عمى البصيرة وصَمَمها بعمى البصر
وصمم السمع ، ذاك متردِّدٌ في ظُلَم الضلالات ، كما أن هذا متحيِّز في الطرقات .
وهذه فوائد علم البيان .
قوله : { مَثَلاً } تمييز ، وهو منقولٌ من الفاعلية ، والأصل : هل يَسْتوي
مَثَلُهما ، كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] . وجوَّز ابنُ
عطية رحمه اللَّه أن يكون حالاً ، وفيه بَعْدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنه على معنى » مِنْ
« لا على معنى » في « .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
قوله
تعالى : { إِنَّي لَكُمْ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « أني » بفتح الهمزة
، والباقون بكسرها . فأمَّا الفتح فعلى إضمار حرفِ الجر ، أي : بأني لكم . قال
الفارسي : « في قراءة الفتح خروجٌ من الغَيْبة إلى المخاطبةِ » . قال ابن عطية :
وفي هذا نظر ، وإنما هي حكايةُ مخاطبتهِ لقومه ، وليس هذا حقيقة الخروج من غَيْبةٍ
إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أن أَنْذِرْهم ونحوه لصح ذلك « . وقد قال بهذه
المقالة أعني الالتفات مكي فإنه قال : » الأصل : بأني والجارُّ والمجرور في موضع
المفعول الثاني ، وكان الأصلُ : أنه ، لكنه جاء على طريقة الالتفات « . انتهى ،
ولكن هذا الالتفاتَ غيرُ الذي ذكره أبو علي ، فإنَّ ذاك من غيبة إلى خطاب ، وهذا
من غيبةٍ إلى تكلُّم ، وكلاهما غير محتاج إليه ، وإن كان قولُ مكي أقربَ .
وقال الزمخشري : » الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة ، والمعنى : أرسلناه
ملتبساً بهذا الكلام ، وهو قوله : { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بالكسر ،
فلما اتصل به الجارُّ فُتِح كما فتح في « كأنَّ » والمعنى على الكسر في قولك : «
إن زيداً كالأسد » . وأما الكسرُ فعلى إضمار القول ، وكثراً ما يُضْمر ، وهو غني
عن الشواهد .
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
وقوله
تعالى : { أَن لاَّ تعبدوا } : كقوله : { أَن لاَّ تعبدوا } في أول السورة ، ونزيد
هنا شيئاً آخر ، وهو أنها على قراءة مَنْ فتح « أني » تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن
تكون بدلاً من قوله : « أني لكم » ، أي : أَرْسَلْناه بأن لا تعبدوا . والثاني : /
أن تكون مفسِّرة ، والمفسَّر بها : إمَّا أرسلنا ، وإمَّا نذير . وأمَّا على قراءة
مَنْ كسر فيجوز أن تكونَ المصدرية ، وهي معمولةٌ لأرسلنا ، ويجوز أن تكونَ
المفسرةَ بحالَيْها .
قوله : { أَلِيمٍ } إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ لوقوعه فيه لا به ، وقال الزمخشري
: « فإذا وُصِفَ به العذابُ قلت : مجازٌ مثلُه؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو
المعذِّب ، فنظيرها قولك : نهارك صائم » . قال الشيخ : « وهذا على أن يكون » أليم
« صفةُ مبالغةٍ وهو مَنْ كَثُرَ ألمه ، وإن كان أليم بمعنى مُؤْلم فنسبتُه لليوم
مجازٌ وللعذاب حقيقة » .
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
قوله
تعالى : { وَمَا نَرَاكَ } : يجوز أن تكون قلبيةً ، وأن تكون بصريةً . فعلى الأول
تكون الجملةُ من قوله « اتَّبعك » في محل نصب مفعولاً ثانياً ، وعلى الثاني في
محلِّ نصب على الحال ، و « قد » مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك .
والأراذِلُ فيه وجهان ، أحدهما : أنه جمعُ الجمع ، والثاني : جمعٌ فقط . والقائلون
بالأول اختلفوا فقيل : جمع ل « أَرْذُل » ، وأَرْذُل جمع لرَذْل نحو : كَلْب
وأَكْلُب وأَكَالب . وقيل : بل جمع لأرْذال ، وأَرْذال جمع لرَذْل أيضاً .
والقائلون بأنه ليس جمعَ جمعٍ ، بل جمعٌ فقط قالوا : هو جَمْعٌ لأَرْذُل ، وإنما
جاز أن يكون جمعاً لأَرْذُل لجريانه مَجْرى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفُه
كالأَبْطح والأبرق وقال بعضهم : هو جمع أَرْذَل الذي للتفضيل ، وجاء جمعاً كما جاء
{ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] و { أحاسِنُكم أخلاقاً } [ الأنعام
: 123 ] . ويقال : رجل رَذْل ورُذال ، ك « رَخْل » و « رُخال » وهو المرغوبُ عنه
لرداءته .
قوله : { بَادِيَ الرأي } قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي « بادِئَ » بالهمز
، والباقون بياءٍ صريحةٍ مكانَ الهمزة . فأمَّا الهمزُ فمعناه : بادئَ الرأي ، أي
: أولَ الرأي بمعنى أنه غيرُ صادرٍ عن رَوِّية وتَأَمُّل ، بل من أولِ وَهْلة .
وأمَّا مَنْ لم يهمز فيحتمل أن يكونَ أصلُه كما تقدَّم ، ويحتمل أن يكونَ مِنْ بدا
يَبْدو أي ظهر ، والمعنى : ظاهر الرأي دون باطنه ، أي : لو تُؤُمِّل لعُرِفَ
باطنُه ، وهو في المعنى كالأول .
وفي انتصابهِ على كلتا القراءتين سبعةُ أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ على الظرف ، وفي
العاملِ فيه على هذا ثلاثة أوجه ، أحدُها : « نراك » ، أي : وما نراك في أول رأينا
، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يَظْهر لنا من الرأي في قراءة الباقين . والثاني
من الأوجه الثلاثة : أن يكونَ منصوباً ب « اتَّبعك » ، أي : ما نراك اتبعك أولَ
رأيهم ، أو ظاهرَ رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يريدوا اتَّبعوك في
ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك . والثاني : أنهم اتَّبعوك بأول نظرٍ ، وبالرأي
البادي دون تثبُّت ، ولو تثبَّتوا لَمَا اتبعوك . الثالث من الأوجه الثلاثة : أنَّ
العاملَ فيه « أراذِلُنا » والمعنى : أراذِلُنا بأولِ نظرٍ منهم ، أو بظاهر الرأي
نعلم ذلك ، أي : إنَّ رذالَتَهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحابَ حِرَفٍ دنيَّة .
ثم القول بكونِ « باديَ » ظرفاً يحتاج إلى اعتذار فإنه اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في
الأصل ، فقال مكي : « وإنما جاز أن يكون فاعِل ظرفاً كما جاز ذلك في فعيل نحو :
قريب ومليء ، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحِم ورحيم ، وعالم وعليم ، وحَسُن ذلك في
فاعِل لإِضافته إلى الرأي ، والرأي يُضاف إليه المصدر ، وينتصبُ المصدرُ معه على
الظرف نحو : » أما جَهْدَ رأيٍ فإنك منطلقٌ « ، أي : في » جَهْد=
ج10. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
وقال
الزمخشري : « وانتصابه على الظرف ، أصلُه : وقتَ حدوثِ أول أمرهم ، أو وقت حدوثِ
ظاهرِ رأيهم ، فَحُذِفَ ذلك وأقيم المضافُ إليه مُقامه » .
الوجه الثاني من السبعة : أن ينتصبَ على المفعول به ، حُذف معه حرفُ الجر مثل {
واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] كذا قاله مكي . وفيه نظرٌ من حيث إنه
ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض .
الثالث من السبعة : أن ينتصبَ على المصدر ، ومجيءُ المصدر على فاعلِ أيضاً ليس
بالقياسِ ، والعاملُ في هذا المصدرِ كالعامل في الظرف كما تقدم ، ويكون من باب ما
جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديرُه : رؤيةَ بَدْءٍ أو ظهور ، أو
اتباعَ بَدْءٍ أو ظهور ، أو رَذالة بَدْءٍ أو ظهور .
الرابع من السبعة : أن يكونَ نعتاً لبشر ، أي : ما نراك إلا بشراً مثلنا/ باديَ
الرأي ، أي : ظاهرَه ، أو مبتدِئاً فيه . وفيه بُعْدٌ للفصلِ بين النعت والمنعوت
بالجملة المعطوفة . الخامس : أنه حالٌ من مفعول « اتَّبَعَكَ » ، أي : وأنت مكشوفُ
الرأي ظاهرَ لا قوةَ فيه ولا حصافةَ لك . السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ عليه
السلام ، كأنهم قالوا : يا باديَ الرأي ، أي : ما في نفسِك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ ،
قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له . السابع : أن العاملَ فيه مضمر ،
تقديره : أتقول ذلك بادي الرأي ، ذكره أبو البقاء ، والأصلُ عدم الإِضمار مع
الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجهِ الأربعةِ الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويل ،
بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنه ظرفٌ أو مصدر .
واعلم أنك إذا نَصَبْتَ « باديَ » على الظرف أو المصدر بما قبل « إلا » احتجْتَ
إلى جوابٍ عن إشكال وهو أنَّ ما بعد « إلا » لا يكون معمولاً لما قبلها ، إلا إن
كان مستثنى منه نحو : « ما قام إلا زيداً القوم » أو مستثنى نحو : « قام القومُ
إلا زيداً » ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : « ما جاءني أحدُ إلا زيدٌ أخيرٌ من
عمرو » و « بادي الرأي » ليس شيئاً من ذلك . وقال مكي : « فلو قلت في الكلام : »
ما أعطيت [ أحداً ] إلا زيداً درهماً ] فأوقعتَ اسمين مفعولين بعد « إلا » لم
يَجُزْ؛ لأن الفعلَ لا يصلُ ب « إلا » إلى مفعولين ، إنما يصل إلى اسمٍ واحد كسائر
الحروف ، ألا ترى أنك لو قلت : « مررت بزيدٍ عمروٍ » فأوصلْتَ الفعلَ إليهما بحرفٍ
واحدٍ لم يَجُزْ ، ولذلك لو قلت : « استوى الماءُ والخشبة الحائط » فتنصب اسمين
بواو « مع » لم يجز إلا أن تأتيَ في جميعِ ذلك بواو العطف فيجوز وصولُ الفعل « .
والجوابُ الذي ذكروه هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرِها . وهذا
جماعٌ القولِ في هذه المسألة باختصار .
والرأي : يجوز أن يكونَ من رؤيةِ العين أو من الفكرة والتأمُّل . وقوله {
بَيِّنَةٍ مِّن ربي } » مِنْ ربي « نعتٌ ل » بَيِّنة « ، أي : بَيِّنَةٌ من
بَيِّنات ربي .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
قوله
تعالى : { رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } : يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً ل «
رحمة » وأن يكونَ متعلقاً ب « آتاني » .
قوله : { فَعُمِّيَتْ } قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم ، والباقون
بالفتح والتخفيف . فأما القراءة الأولى فأصلها : عَمَاها اللَّهُ عليكم ، أي :
أَبْهمهما عقوبةً لكم ، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه ، فحُذِفَ فاعلُه
للعلمِ به وهو اللَّه تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه ، ويدل على
ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل « فعماها اللَّهُ عليكم » ، ورُوي عنه أيضاً وعن
الحسن وعليّ والسُّلَمي « فعماها » من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي ، ورُوي عن الأعمش
وابن وثاب « وعُمِّيَتْ » بالواو دون الفاء .
وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازاً . قال الزمخشري : « فإن قلت
: ما حقيقته؟ قلت : حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛
لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه ، فمعنى » فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ
« : فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ »
.
وقيل : هذا من باب القلب ، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول : أدخلت
القلنسوة في رأسي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه
، وأنشدوا على ذلك :
2654 ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
قال أبو علي : « وهذا مما يُقْلَبُ ، إذ ليس في إشكال ، وفي القرآن { فَلاَ
تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] ، وبعضهم
يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف . وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى
لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب . وقد
رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب » عن «
دون » على « ، ألا ترى أنك تقول : » عَمِيْتُ عن كذا « لا » على كذا « .
واختُلِفَ في الضمير في » عُمِّيَتْ « هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه : » وآتاني
رحمة « جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّه { على بَيِّنَةٍ مِّن ربي . . .
فَعُمِّيَتْ } . وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة
الثاني ، والأصل : على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ . قال الزمخشري : » وآتاني رحمة
بإتيان البيِّنة ، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة . ويجوز أن يريدَ بالبينة
المعجزة ، وبالرحمة النبوَّةَ . فإن قلت : فقوله : « فعُمِّيَتْ » ظاهر على الوجه
الأول فما وجهُه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيَتَا؟ قلت : الوجهُ
أن يُقَدَّر : فعُمِّيَتْ بعد البينة ، وأن يكون حَذَفَه/ للاقتصار على ذِكْرِه
مرةً « .
انتهى
.
وقد تقدَّم الكلامُ على « أرأيتم » هذه في الأنعام ، وتلخيصُه هنا أنَّ «
أَرَأَيْتُم » يطلب البينة منصوبةً ، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب « على » ،
فأعمل الثاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها
أَنَلْزِمكموها ، فحذف المفعولُ الأول ، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني ،
وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه .
وقوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أتى هنا بالضميرين متصلين ، وتقدم ضمير الخطاب
لأنه أخصُّ ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضُهم
الاتِّصال ، واستشهد عثمان « أراهُمُني الباطل شيطاناً » . وقال الزمخشري : « يجوز
أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : » أَنُلْزِمكم إياها « ونحوه : {
فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز » فسيكفيك إياهم « . وهذا الذي
قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه .
وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونُها ، وعليه » أراهُمني
الباطل « . وقال أبو البقاء : » وقرىء بإسكان الميم فِراراً من توالي الحركات «
فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال : »
ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم ، وهو الأصل في ميم الجمع ، وقرىء بإسكان الميم
« . انتهى . وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجَوِّزُ » الدرهمَ
أعطيتكمْه « وغيرُه يأباه . ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل ، ويدل عليه ما قال
الزجاج » أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في
ضرورة الشعر ، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء ، وروى عنه
سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها ، وهذا هو الحقُّ ، وإنما يَجُوز
الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرىء القيس :
2655 فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
وكذا قال الزمخشري أيضاً : « وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهُه أنَّ
الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً ، فظنَّها الراوي سكوناً ، والإِسكانُ الصريحُ
لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ
طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر » .
قلت : وقد حكى الكسائي والفراء « أَنُلْزِمْكموها » بسكون هذه الميم ، وقد تقدم
القول في ذلك مشبعاً في سورة البقرة ، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه
لحناً؟ .
و « ألزم » يتعدَّى لاثنين ، أوَّلهُما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة . و {
وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد
المفعولين . وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل . وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ
للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك .
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
والضمير
في « عليه » يجوز أن يعودَ على الإِنذار المفهوم من « نذير » ، وأن يعودَ على
الدين الذي هو المِلَّة ، وأن يعود على التبليغ . وقُرِىء « بطاردٍ الذين » بتنوين
« طاردٍ » قال الزمخشري : « على الأصل » . يعني أن أصل اسم الفاعل بمعنى الحال
والاستقبال العملُ ، وهو ظاهرُ قولِ سيبويه . قال الشيخ : « ويمكن أن يُقال :
الأصلُ الإِضافةُ لا العملُ؛ لأنه قد اعتوره شَبَهان ، أحدهما : لشَبَهه بالمضارع
وهو شَبَهٌ بغير جنسه ، والآخر : شَبَهُه بالأسماء إذا كانت فيه الإِضافة ، فكان
إلحاقُه بجنسه أَوْلى » .
وقوله { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو } استئنافٌ يفيدُ التعليل . وقوله : « تَجْهلون »
صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإِتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفتِه لا يفيد ، وأتى بها
فعلاً ليدلَّ على التجدُّد كلَّ وقت .
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
و
« تَزْدَري » تَفْتَعِل مِنْ زرى يَزْري ، أي : حَقَرَ ، فأُبدلت تاءُ الافتعال
دالاً بعد الزاي وهو مُطَّرِد ، ويقال : « زَرَيْتُ عليه » إذا عِبْتَه ، و «
أَزْرَيْتُ به » ، أي : قَصَّرت به . وعائدُ الموصولِ محذوفٌ ، أي : تَزْدَريهم
أعينُكم ، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم ، قال الشاعر :
2656 تَرَى الرجلَ النحيفَ فَتَزْدَريه ... وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ
وقال أيضاً :
2657 يباعِدُه الصَّديقُ وتَزْدريهِ حَلِيْلتُه ... ويَنْهرَهُ الصغيرُ
واللام في « للذين » للتعليل ، أي : لأجل الذين ، ولا يجوز أن تكونَ التي للتبليغ
إذ لو كانت لكان القياس « لن يؤتيكم » بالخطاب .
وقوله : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } الظاهر أن هذه الجملةَ لا محلَّ لها عطفاً على
قولِه { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ } كأنه أخبر عن نفسه بهذه [ الجمل الثلاث ] . وقد
تقدَّم في الأنعام [ أن هذا هو المختار ] وأن الزمخشري قال : « إنَّ قوله تعالى :
{ وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } معطوفٌ على » عندي خزائن « ، أي : لا أقولُ : عندي خزائن
اللَّه ، ولا أقول : أنا أعلمُ الغيب » . /
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
وقوله
تعالى : { جِدَالَنَا } : قرأ ابن عباس « جَدَلنا » كقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ
جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] . ونقل أبو البقاء أنه قُرىء « جَدَلْتَنا فأَكْثرت
جَدَلَنَا » بغير ألفٍ فيهما قال : وهو بمعنى غَلَبْتَنا بالجدل « .
وقوله : { بِمَا تَعِدُنَآ } فيجوز أن تكونَ » ما « بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ
، أي : تَعِدَناه . ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، أي : بوعدك إيانا . وقوله » إنْ كنت
« جوابُه محذوف أو متقدِّم وهو » فَأْتِنا « .
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
قوله
تعالى : { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ } : قد تقدم حُكْمُ توالي
الشرطين وأنَّ ثانيَهما قيدٌ في الأول ، وأنه لا بد من سَبْقه للأول . وقال
الزمخشريُّ هنا : « إن كان اللَّه » جزاؤُه ما دلَّ عليه قولُه : « لا ينفعكم
نُصْحي » ، وهذا الدليلُ في حكم ما دلَّ عليه ، فوُصِل بشرطٍ ، كما وُصِل الجزاء
بالشرط في قوله « إنْ أَحْسَنْتَ إليَّ أحسنتُ إليك إنْ أمكنني » .
وقال أبو البقاء : « حكمُ الشرطِ إذا دَخَل على الشرط أن يكون الشرطُ الثاني
والجواب جواباً للشرط الأول نحو : » إنْ أَتَيْتني إنْ كلَّمتني أَكْرَمْتك «
فقولُك » إنْ كَلَّمْتني أكرمتُك « : جوابُ » إن أتيتني « جميعُ ما بعده ، وإذا
كان كذلك صار الشرطُ الأول في الذِّكْرِ مؤخَّراً في المعنى ، حتى إنْ أتاه ثم
كلَّمه لم يجب الإِكرام ، ولكن إنْ كلَّمه ثم أتاه وَجَبَ الإِكرام ، وعلةُ ذلك أن
الجواب صار مُعَوَّقاً بالشرط الثاني ، وقد جاء في القرآن منه { إِن وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي } [ الأحزاب : 50 ] .
قلت : أمَّا قولُه : » إنْ وَهَبَتْ . . . أن أراد « فظاهره وظاهرُ القصةِ
المَرْوِيَّةِ يدل على عدم اشتراطِ تقدُّم الشرط الثاني على الأول ، وذلك أن
إرادتَه عليه السلام للنكاح إنما هو مُرَتَّبٌ على هِبة المرأةِ نفسَها له ، وكذا
الواقعُ في القصة لمَّا وَهَبَت أراد نكاحَها ، ولم يُرْوَ أنه أراد نكاحَها فوهبت
، وهو يحتاج إلى جوابٍ ، وسيأتي هذا إن شاء اللَّهُ في موضِعِه .
وقال ابن عطية هنا : » وليس نُصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخيرَ لكم مُغْنيةً إذا
أراد اللَّه تعالى بكم الإِغواء ، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغةٌ
من اقتران الإِرادتين ، وأن إرادة البشرِ غيرُ مُغْنيةٍ ، وتعلُّقُ هذا الشرطِ هو
« بنصحي » ، وتعلُّقُ الآخر ب « لا ينفع » .
وتلخص من ذلك أن الشرطَ مدلولٌ على جوابه بقوله : « ولا ينفعكم » لأنه عَقِبُه ،
وجوابُ الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول ، وكأنَّ التقدير : وإنْ أَرَدْتُ أن
أنصحَ لكم إن كان اللَّه يريد أن يُغْوِيَكم فلا يَنْفعكم نصحي . وهو مِنْ حيث
المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو : إن كان اللَّهُ يريدُ أن يُغْويكم فإن
أَرَدْتُ أن أنصح لكم فلا ينفعكم نُصْحي .
وقرأ الجمهور « نُصْحي » بضم النون وهو يحتمل وجهين ، أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر
والكُفْر . والثاني : أنه اسمٌ لا مصدر . وقرأ عيسى ابن عمر « نَصْحي » بفتح النون
، وهو مصدرٌ فقط .
وفي غضون كلام الزمخشري : « إذا عرف اللَّهُ » وهذا لا يجوز؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى
لا يُسْنَدُ إليه هذا الفعلُ ولا يُوصف بمعناه ، وقد تقدَّم علةُ ذلك غيرَ مرةٍ .
وفي غضون كلام الشيخ « وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون » إنْ « شرطيةً
بل هي نافيةٌ والمعنى : ما كان اللَّه يريد أن يُغْويكم » . قلت : لا أظنُّ أحداً
يرضى بهذه المقالة وإن كانت توافق مذهبه .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قوله
تعالى : { فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } : مبتدأ وخبرٌ أو فعلٌ وفاعل . والجمهورُ على
كسرِ همزة « إجرامي » وهو مصدر أجرم ، وأجرم هو الفاشي ، ويجوز جَرَمَ ثلاثياً
وأنشدوا :
2658 طَريدُ عشيرةٍ ورهينُ ذَنْبٍ ... بما جَرَمت يَدي وجَنَى لساني
وقُرىء في الشاذ « أجرامي » بفتحها ، حكاه النحاس ، وخَرَّجه على أنه جمعُ جُرْم
كقُفْل أَقْفال ، والمراد آثامي .
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قوله
تعالى : { وَأُوحِيَ } : الجمهور على « أُوحي » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقامَ
الفاعل « أنه لن يؤمن » أي : أُوحي إليه عدمُ إيمان بعض . وقرأ أبو البرهسم « أوحى
» مبنياً للفاعل وهو اللَّه تعالى ، « إنه » بكسر الهمزة . وفيها وجهان أحدهما :
وهو أصلٌ للبصريين - أنه على إجراء الإِيحاء مُجْرى القول .
وقوله : { فَلاَ تَبْتَئِسْ } هو تَفْتَعِل من البُؤْس ومعناه الحزنُ في استكانة ،
ويقال : ابتأسَ فلانٌ أي : بلغه ما يَكْرهه قال :
2659 ما يَقْسِمِ اللَّهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ ... منه وأقْعُدْ كريماً ناعمَ
البالِ
/ وقال آخر :
2660 وكم مِنْ خليلٍ أو حَميمٍ رُزِئْتُه ... فلم نَبْتَئِس والرُّزْء فيه جَليل
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
قوله تعالى : { بِأَعْيُنِنَا } : حالٌ من فاعل « اصنع » أي : محفوظاً بأعيننا ، وهو مجازٌ عن كلام اللَّه له بالحفظ . وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيونِ الناس أي : الذين يتفقَّدون الأخبار ، والجمع حينئذ حقيقةٌ . وقرأ طلحة بن مصرف « بأعيُنَّا » مدغمة .
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
قوله تعالى : { وَكُلَّمَا مَرَّ } : العامل في « كلما » سَخِر « ، و » قال « مستأنف؛ إذ هو جوابٌ لسؤال سائل . وقيل : بل العامل في » كلما « : » قال « ، و » سخروا « على هذا : إمَّا صفة لَمَلأ ، وإمَّا بدلٌ مِنْ » مرَّ « ، وهو بعيدٌ جداً ، إذ ليس » سَخِرَ « نوعاً من المرور ولا هو هو فكيف يُبدل منه؟ والجملةُ من قوله » كلما « إلى آخره في محلِّ نصب على الحال أي : يصنع الفلك والحالُ أنه كلما مرَّ .
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
قوله
تعالى : { مَن يَأْتِيهِ } : في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أن تكونَ موصولةً .
والثاني : أن تكونَ استفهاميةً ، وعلى كلا التقديرين ف « تعلمون » : إمَّا من باب
اليقين فتتعدَّى لاثنين ، وإمَّا من باب العرفان فتتعدَّى لواحد . فإذا كانت هذه
عرفانيةً و « مَنْ » استفهامية كانت « مَنْ » وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد ،
وإن كانَتْ متعديةً لاثنين كانت سادَّة مَسَدَّ المفعولين ، وإذا كانت « تعلمون »
متعديةً لاثنين و « مَنْ » موصولة كانت في موضع المفعول الأول ، والثاني محذوف .
قال ابن عطية : « وجائز أن تكونَ المتعديةَ إلى مفعولين ، واقتصر على الواحد »
وهذه العبارةُ ليست جيدةٌ؛ لأن الاقتصَارَ في هذا الباب على أحد المفعولين لا
يجوز؛ لِما تقرَّر غيرَ مرة من أنهما مبتدأٌ وخبر في الأصل ، وأمَّا حَذْفُ
الاختصار فهو ممتنعٌ أيضاً ، إذ لا دليلَ على ذلك . وإن كانت متعديةً لواحد و «
مَنْ » موصولةٌ فأمرُها واضح .
وحكى الزهراوي : « ويَحُلُّ » بضم الحاء بمعنى يجب .
و « التنور » معروفٌ . وقيل : هو وجهُ الأرض . وهل أل فيه للعهدِ أو للجنس؟ ووزنَ
تَنُّور قيل : تَفْعُول مِنْ لفظ النور فقُلبت الواوُ الأولى همزةً لانضمامِها ،
ثم حُذِفت تخفيفاً ، ثم شددوا النون كالعوضِ عن المحذوف ، ويُعزَى هذا لثعلب .
وقيل : وزنه فَعُّول ويعزى لأبي علي الفارسي . وقيل : هو أعجمي وعلى هذا فلا
اشتقاقَ له . والمشهورُ أنه مما اتَّفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون .
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
قوله
تعالى : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } : قرأ العامة بإضافة « كل » لزوجين . وقرأ حفص
بتنوين « كل » . فأمَّا العامَّة فقيل : إن مفعول « احمل » « اثنين » و { مِن
كُلٍّ زَوْجَيْنٍ } في محل نصب على الحال من المفعول لأنه كان صفةً للنكرة فلما
قُدِّم عليها نُصب حالاً . وقيل : بل « مِنْ » زائدة ، و « كل » مفعول به ، و «
اثنين » نعت لزوجين على التأكيد ، وهذا إنما يتمُّ على قول مَنْ يرى زيادةَ « مِنْ
» مطلقاً ، أو في كلامٍ موجب . وقيل : قوله : « زوجين » بمعنى العموم أي : من كل
ما لَه ازدواجٌ ، هذا معنى قوله : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ } وهو قول الفارسي وغيره
. قال ابن عطية : « ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن
يَحْمل من كلِّ نوعٍ أربعةً ، والزوج في مشهور كلامهم للواحد مما له ازدواجٌ » .
وأمَّا قراءة حفص فمعناها من كل حيوان ، و « زوجين » مفعول به ، و « اثنين » نعتُ
على التأكيد ، و « مِنْ كلٍ » على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب « احمل » وهو الظاهر
، وأن يتعلق بمحذوف على أنها حال من « زوجين » وهذا الخلافُ والتخريجُ جاريان
أيضاً في سورة { قَدْ أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 27 ] .
قوله : { وَأَهْلَكَ } نسق على « اثنين » في قراءة مَنْ أضاف « كل » لزوجين ، وعلى
« زوجين » في قراءة مَنْ نوَّن « كلاً » وقولُه : { إِلاَّ مَن سَبَقَ } استثناءٌ
متصل في موجَب ، فهو واجبُ النصب على المشهور .
وقوله : { وَمَنْ آمَنَ } مفعول به نسقاً على مفعول « احمِلْ » .
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
قوله
تعالى : { وَقَالَ } : يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ نوح عليه السلام ، ويجوز أن
يكونَ ضمير الباري تعالى أي : وقال اللَّه لنوح ومَنْ معه . و « فيها متعلقٌ ب »
اركبوا « وعُدِّي ب » في « لتضمُّنه معنى » ادخلوا فيها راكبين « أو سيروا فيها .
وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها . وقيل : » في « زائدةٌ للتوكيد .
قوله : { بِسْمِ الله } يجوز أن يكونَ هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل » اركبوا
« أو مِنْ » ها « في » فيها « ، ويكون » مجراها « و » مرساها « فاعلين بالاستقرار
الذي تَضَمَّنه الجارُّ لوقوعه حالاً . ويجوز أن يكونَ » بسم اللَّه « خبراً
مقدماً ، و » مَجْراها « / مبتدأً مؤخراً ، والجملة أيضاً حالٌ مما تقدَّم ، وهي
على كلا التقديرين حالٌ مقدَّرةٌ كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه . إلا أنَّ مكيَّاً
منع ذلك لخلوِّ الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أَعْرَبْنا الجملةَ أو
الجارَّ حالاً من فاعل » اركبوا « قال : » ولا يَحْسُنُ أن تكونَ هذه الجملةُ
حالاً من فاعل « اركبوا » لأنه لا عائدَ في الجملةِ يعودُ على المضمر في « اركبوا
»؛ لأن المضمرَ في « بسم اللَّه » إنْ جَعَلْتَه خبراً ل « مَجْراها » فإنما يعود
على المبتدأ وهو مجراها ، وإن رَفَعْتَ « مجراها » بالظرفِ لم يكن فيه ضميرُ الهاء
في « مجراها » وإنما تعود على الضمير في « فيها ، وإذا نَصَبْتَ » مجراها « على
الظرفِ عَمِل فيه » بسم اللَّه « ، وكانت الجملةُ حالاً من فاعل » اركبوا « .
وقيل : { بِسْمِ الله } حال من فاعل » اركبوا « ومَجْراها ومُرْساها في موضع الظرف
المكاني أو الزماني ، والتقدير : اركبوا فيها مُسَمِّين موضعَ جريانها ورُسُوِّها
، أو وقتَ جريانِها ورسوِّها . والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه » بسم
اللَّه « من الاستقرار ، والتقدير : اركبوا فيها متبرِّكين باسم اللَّه في هذين المكانين
أو الوقتين . قال مكي : » ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيهما « اركبوا » لأنه لم
يُرِدْ : اركبوا فيها في وقت الجَرْي والرسُوِّ ، إنما المعنى : سَمُّوا اسمَ
اللَّه في وقت الجَرْي والرسوِّ « .
ويجوزُ أيضاً أن يكون » مَجْراها ومُرْساها « مصدرين ، و » بسم اللَّه « حالٌ كما
تقدَّم ، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعلين أي : استقرَّ بسم اللَّه إجراؤها
وإرساؤها ، ولا يكون الجارُّ حينئذٍ إلا حالاً من » ها « في » فيها « لوجود الرابط
، ولا يكون حالاً من فاعل » اركبوا « لعدمِ الرابط .
وعلى
هذه الأعاريبِ يكون الكلامُ جملةً واحدةً . ويجوز أن يكون { بِسْمِ الله مجراها
وَمُرْسَاهَا } جملةً مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإِعراب ، ويكون قد
أمرهم في الجملة الأولى بالركوب ، وأخبر أن مجراها ومُرْساها باسم اللَّه ، وفي
التفسير : كان إذا قال : « بسم اللَّه » وقَفَتْ ، وإذا قالها جَرَتْ عند إرادته
ذلك ، فالجملتان محكيَّتان ب « قال » .
وقرأ الأخوان وحفص « مَجْراها » بفتح الميم والباقون بضمها . واتفق السبعة على
ضمِّ ميم « مُرْساها » . وقد قرأ ابن مسعود وعيسى الثقفي وزيد بن علي والأعمش «
مَرْساها » بفتح الميم أيضاً . فالضمُّ فيهما لأنهما مِنْ أَجْرى وأرسى ، والفتح
لأنهما مِنْ جَرَتْ ورَسَتْ وهما : إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران ، على ما
سبق من التقادير .
وقرأ الضحاك والنخعي وابن وثاب ومجاهد وأبو رجاء والكلبي والجحدري وابن جندب «
مُجْرِيها ومُرْسِيها » بكسر الراء بعدهما ياء صريحة ، وهما اسما فاعلَيْن مِنْ
أجرى وأَرْسى ، وتخريجُهما على أنهما بدلان من اسم اللَّه . وقال ابن عطية وأبو
البقاء ومكي : إنهما نعتان للَّه تعالى ، وهذا الذي ذكروه إنما يتمُّ على تقديرِ
كونهما معرفتين بتمحض الإِضافة وقد قال الخليل : « إنَّ كلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد
تُجْعل مَحْضة إلا إضافةَ الصفةِ المشبهة فلا تتمحَّض » .
وقال مكي : « ولو جُعِلت » مجراها « و » مرساها « في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً
مقدرة ، ولجازَ ذلك ولَجَعَلْتَها في موضع نصبٍ على الحال من اسم اللَّه تعالى »
قلت : وقد طَوَّل مكي رحمه اللَّه تعالى كلامه في هذه المسألة ، وقال في آخرها : «
وهذه المسألةُ يُوقف فيها على جميع ما كان في الكلام والقرآن مِنْ نظيرها ، وذلك
لمَنْ فَهمها حقَّ فَهْما وتدبَّرها حَقَّ تدبُّرها فهي من غُرَر المسائِل
المُشْكلة » .
قوله : { وَهِيَ تَجْرِي } في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مستأنفةٌ أخبر
اللَّه تعالى عن السفينة بذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير
المستتر في « بسم اللَّه » أي : جريانها استقرَّ بسم اللَّه حالَ كونِها جارية .
والثالث : أنها حالٌ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تضمَّنته جملةٌ دَلَّ عليها سياقُ الكلام .
قال الزمخشري : « فإن قلت : بِمَ اتصل قوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } ؟ قلت :
بمحذوفٍ دلَّ عليه قوله { اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله } كأنه قيل : فركبوا فيها
يقولون : بسم اللَّه وهي تجري بهم .
وقوله : { بِهِمْ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلَّق ب » تَجْري « . والثاني
: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم ، ولذلك فَسَّره الزمخشري بقوله : »
أي : تجري وهم فيها « .
والرُّسُوُّ : الثبات والاستقرار ، يقال : رَسَا يَرْسُو وأَرْسَيْتُه أنا . قال :
2661 فَصَبَرْتُ نَفْساً عند ذلك حُرَّةً ... تَرْسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ
أي : تثبت وتستقرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان .
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
قوله
تعالى : { كالجبال } : صفةٌ ل « مَوْج » . قوله : « نوحٌ ابنَه » الجمهورُ على كسر
تنوين « نوح » لالتقاء الساكنين . وقرأ وكيع/ بضمِّه اتباعاً لحركة الإِعراب .
واسْتَرْذَلَ أبو حاتم هذه القراءة وقال : « هي لغة سوء لا تُعرف » .
وقرأ العامة « ابنه » بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية . وقرأ
ابن عباس بسكون الهاء . قال بعضهم : « هذا مخصوصٌ بالضرورة وأنشد :
2662 وأَشْربُ الماء ما بيْ نحوَه عَطَشٌ ... إلا لأنَّ عيونَهُ سيلُ واديها
وبعضُهم لا يَخُصُّه بها . وقال ابن عطية : إنها لغةٌ لأَزْد السراة ومنه قوله :
2663 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومِطْوايَ مُشْتاقان لَهْ أَرِقانِ
وقال بعضهم : » هي لغة عُقَيل وبني كلاب « .
وقرأ السدي : » ابناهْ « بألف وهاء السكت . قال ابن جني : » وهو على النداء « .
وقال أبو البقاء : » ابناه : على التَرَثِّي وليس بندبة ، لأنَّ الندبةَ لا تكون
بالهمزة « وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسه ، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزةَ النداءِ
فلا نسلِّم أن المقدَّرَ مِنْ حروف النداء هو الهمزة ، لأنَّ النحاةَ نصُّوا على
أنه لا يُضْمر في حروف النداء إلا » يا « لأنها أمُّ الباب . وقوله : » الترثّي «
هو قريب في المعنى من الندبة . وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز حَذْفُ النداء من
المندوب وهذا شبيه به .
وقرأ عليٌّ عليه السلام : » ابنها « إضافة إلى امرأته كأنه اعتبرَ قولَه » ليس من
أهلك « . وقوله : » ابني « و » من أهلي « لا يدلُّ له لاحتمالِ أن يكونَ ذلك لأجل
الحنوّ ، وهو قول الحسن وجماعة .
وقرأ محمد بن علي وعروة والزبير : » ابْنَهَ « بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي
كالقراءةِ قبلَها ، إلا أنه حَذَفَ ألف » ها « مُجْتزئاً عنها بالفتحة ، كما تُحذف
الياءُ مُجْتَزَأً عنها بالكسرة . قال ابن عطية : » هي لغة « وأنشد :
2664 أمَا تقودُ بها شاةً فتأكلُها ... أو أنْ تبيعَهَ في بعض الأراكيبِ
يريد : » تبيعَها « فاجتزأ بالفتحة عن الألف ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله :
أنشده ابن الأعرابي على ذلك .
2665 فلستُ براجعٍ ما فاتَ مني ... بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لوَاني
يريد : يا لَهْفا ، فحذف ، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السَّعة يا
غلامَ في يا غلاما . قلت : وسيأتي في نحو : » يا أبتَ « بالفتح : هل ثَمَّ ألفٌ
محذوفة أم لا؟ وتقدم لنا خلاف في نحو : يابنَ أمَّ ويابنَ عَمَّ : هل ثَمَّ ألفٌ
محذوفة مجتزَأٌ عنها بالفتحة أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك ، ولكن الظاهرَ عدمُ اقتياسه
.
وقد
خطَّأ النحاس أبا حاتم في حَذْفِ هذه الألفِ ، وفيه نظرٌ .
قوله : { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } جملةٌ في موضع نصب على الحال ، وصاحبُها هو «
ابنه » ، والحالُ تأتي مِن المنادى لأنه مفعول . والمَعْزِل بكسر الزاي اسم مكان
العزلة . وكذلك اسم الزمان أيضاً ، وبالفتح هو المصدر . قال أبو البقاء : « ولم
أعلم أحداً قرأ بالفتح » . قلت : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفَه ، فكيف
يُقرأ به إلا بمجاز بعيد؟
وقرأ البزي وقالون وخلاَّد بإظهار ياء « اركب » قبل ميم « معنا » بخلافٍ عنهم ،
والباقون بالإِدغام ، وقرأ عاصم هنا « يا بنيَّ » بفتح الياء . وأمَّا في غير هذه
السورة فإن حفصاً عنه فَعَلَ ذلك ، والباقون بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابنَ
كثيرٍ فإنه في الأول من لقمان وهو قوله : { لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ]
فإنه سكَّنه وصلاً ووقفاً ، وفي الثاني كغيره أعني أنه يكسر ياءه ، وحفص على أصله
من فتحه . وفي الثالث وهو قولُه : { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] اختُلِف
عنه ، فروى عنه البزي كحفصٍ ، وروى عنه قنبل السكون كالأول . هذا ضبطُ القراءة .
وأمَّا تخريجُها فَمَنْ فتح فقيل : أصلها : يا بُنَيَّا بالألف فحُذفت الألفُ
تخفيفاً ، اجْتَزَأ عنها بالفتحة ، وقد تقدَّم من ذلك أمثلةٌ كثيرة . وقيل بل
حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأنها وقع بعدها راءُ « اركب » وهذا تعليلٌ فاسدٌ جداً ،
بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضعَ حيث لا ساكنان . وكأن هذا المُعَلِّلَ
لم يَعْلم بقراءة عاصم في غيرِ هذه السورة ، ولا بقراءةِ البزي للأخير في لقمان ،
وقد نَقَل ذلك أبو البقاء ولم يُنْكِرْه .
وأمَّا مَنْ كَسَرَ فحُذِفَت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيح ، وإمَّا
لالتقاءِ الساكنين ، وقد تقدَّم فسادُه . وأمَّا مَنْ سكَّن فلِما رأى مِنْ
الثِّقَل مع مطلق الحركة ، ولا شك أن السكونَ أخفُّ مِنْ أخفِّ الحركات ، ولا يقال
: فلِم/ وافق ابنُ كثير غيرَ حفصٍ في ثاني لقمان ، ووافق حفصاً في الأخيرة في
رواية البزي عنه ، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جَمَعَ بين اللغات ، والمفرِّق آتٍ بمُحالٍ
.
وأصلُ هذه اللفظةِ بثلاثِ ياءات : الأولى للتصغير ، والثانيةُ لامُ الكلمة ، وهل
هي ياءٌ بطريق الأصالة أو مُبْدَلةٌ من واو؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا
الموضوعِ في لام « ابن » ما هي؟ ، والثالثةُ ياءُ المتكلم مضافٌ إليها ، وهي التي
طَرَأَ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالِها .
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
قوله
تعالى : { لاَ عَاصِمَ اليوم } : فيه أقوالٌ ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع ، وذلك
أن تَجْعَلَ عاصماً على حقيقته ، ومَنْ رَحِم هو المعصوم ، وفي « رَحِم » ضميرٌ
مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالى ، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو « مَنْ » حُذِف
لاستكمالِ الشروط ، والتقدير : لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه ، لكن مَنْ
رَحِمه اللَّه فهو معصوم . الثاني : أن يكونَ المرادُ ب « مَنْ رَحِم » هو الباري
تعالى كأنه قيل : لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ . الثالث : أن عاصماً بمعنى مَعْصوم
، وفاعِل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو : ماء دافق ، أي : مدفوق ، وأنشدوا :
2666 بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا ... مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا
أي مفتوناً ، و « مَنْ » مرادٌ بها المعصومُ ، والتقدير : لا معصومَ اليومَ مِنْ
أَمْرِ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم . الرابع : أن يكون « عاصم » هنا
بمعنى النَّسَب ، أي : ذا عِصْمة نحو : لابن وتامر ، وذو العصمة ينطلق على العاصم
وعلى المعصوم ، والمرادُ به هنا المَعْصوم .
وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ ،
وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه : لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ
واحد ، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم ، يعني في السفينة « .
وأمَّا خبرُ » لا « فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفاً ، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ
وَجَبَ حذفُه عند تميم ، وكَثُر عند الحجاز ، والتقدير : لا عاصمَ موجودٌ .
وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم . قال الحوفي : »
ويجوز أن يكونَ « اليوم » خبراً فيتعلَّق قالاستقرار ، وبه يتعلق { مِنْ أَمْرِ
الله } . وقد رَدَّ أبو البقاء ذلك فقال : « فأمَّا خبرُ » لا « فلا يجوز أن يكونَ
» اليوم «؛ لأنَّ ظرفَ الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ، بل الخبر { مِنْ أَمْرِ
الله } و » اليوم « معمولُ { مِنْ أَمْرِ الله } .
وأمَّا » اليومَ « و { مِنْ أَمْرِ الله } فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها
خبراً ، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبراً . ويجوز في »
اليوم « أن يتعلَّقَ بنفس { مِنْ أَمْرِ الله } لكونِه بمعنى الفعل . وجَوَّز
الحوفي أن يكون » اليوم « نعتاً ل » عاصم « ، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبراً
عن الجثث .
وقُرىء { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } مبنياً للمفعول ، وهي مقويةٌ لقولِ مَنْ يَدَّعي
أنَّ » مَنْ رَحِم « في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم ، كما تقدَّم
تأويلُه . ولا يجوز أن يكون » اليوم « ولا { مِنْ أَمْرِ الله } متعلِّقين ب »
عاصم « وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً ، ومتى كان مطوَّلاً
أُعْرِبَ ، ومتى أُعرب نُوِّن ، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج : حيث زعم أن اسمَ » لا «
معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً .
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قوله
تعالى : { ابلعي } : البَلْع معروفٌ . والفعل منه مكسورُ العين ومفتوحُها : بَلعِ
وبَلَع حكاهما الكسائي والفراء . والإِقلاع : الإِمساك ، ومنه « أَقْلَعَت الحمى »
. وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تركه وهو قريبٌ من الأول . والغَيْضُ : النقصان
وفعله لازم ومتعدٍ ، فمِن اللازمِ قولُه تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } [ الرعد
: 8 ] ، أي : تَنْقُص . وقيل : بل هو هنا متعدٍّ أيضاً وسيأتي ، ومن المتعدِّي هذه
الآيةُ؛ لأنه لا يُبنى للمفعول مِنْ غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه .
والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالمَوْصل . وقيل : بل كل جبل يقال له جُودي ومنه قولُ
عمرو بن نفيل : /
2667 سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به ... وقبلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
ولا أدري ما في ذلك مِن الدلالة على أنه عامٌّ في كل جبل . وقرأ الأعمش وابن أبي
عبلة بتخفيف « الجُوْدِيْ » . قال ابن عطية : « وهما لغتان » . والصواب أن يقال :
خُفِّفَتْ ياءُ النسب ، وإن كان لا يجوزُ ذلك في كلامهم الفاشي .
قوله { بُعْداً } منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدر ، أي : وقيل : ابعدوا بُعْداً ،
فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً ، يُقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا
هلك ، قال :
2668 يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه ... ولا بُعْدَ إلا ما تُواري الصَّفائحُ
واللام إمَّا [ أن ] تتعلق بفعل محذوف ، ويكون على سبيل البيان كما تقدَّم في نحو
« سَقْياً لك ورَعْياً » ، وإمَّا أن تتعلقَ بقيل ، أي : لأجلهم هذا القولَ .
قال الزمخشري : « ومجيءُ إخبارِه على الفعلِ المبني للمفعول للدلالة على الجلال
والكبرياء ، وأن تلك الأمورَ العظامَ لا تكون إلا بفعلِ قادرٍ وتكوينِ مكوِّنٍ
قاهرٍ ، وأنَّ فاعلَ هذه الأفعال فاعل واحد لا يُشارَكُ في أفعاله ، فلا يذهبُ
الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك ، ولا أن يَقْضي ذلك الأمر الهائل
إلا هو ، ولا أَنْ تَسْتوي السفينة على الجوديِّ وتستقر عليه إلا بتسويته وإقرارِه
، ولِما ذَكَرْنا من المعاني والنُّكَت استفصح علماءُ البيان هذه الآيةَ ورقصوا
لها رؤوسَهم لا لتجانُس الكلمتين وهما قوله : ابلعي وأقلعي ، وذلك وإن كان الكلام
لا يخلو مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفَتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ
وما عداها قشورٌ » . يعني أن بعض الناس عَدَّ من فصاحة الآية التجانسَ فقال : إن
هذا ليس بطائل بالنسبة إلى ما ذكر من المعاني ، ولعَمرْي لقد صَدَق .
ولمَّا حكى الشيخ عنه هذا الكلام الرائع لم يكن جزاؤُه عنده إلا « وأكثرُه خَطابة
» .
وقول الزمخشري « ورقَصوا لها رؤوسهم » يحتمل أن يُريد ما يُحكى أن جماعةً من بلغاء
زمانهم اجتمعوا في الموسم بعرفةً وتفرَّقوا على أن يُعارِض كلٌّ منهم شيئاً من
القرآن ليروزوا قواهم في الفصاحة ، فتفرَّقوا على أن يجتمعوا في القابل ففتح أحدهم
قيل هو ابن المقفَّع المصحف فَوَجَد هذه الآية ، فكعَّ لها وأَذْعَنَ ، وقال : «
لا يقدر أحدٌ أن يَصْنَعَ مثلَ هذا » .
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
قوله تعالى : { فَقَالَ } : عطفٌ على « نادى » قال الزمخشري « فإن قلت : وإذا كان النداءُ هو قوله » رَبّ « فكيف عطف » فقال ربِّ « على » نادى « بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادةُ النداء ، ولو أريد النداءُ نفسه لجاء كما جاء في قوله { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } » قال ربِّ « بغير فاء .
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قوله
تعالى : { عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } : قرأ الكسائي « عَمِل » فعلاً ماضياً ، و «
غيرَ » نصباً ، والباقون « عَمَلٌ » بفتح الميمِ وتنوينهِ على أنه اسمٌ ، و « غيرُ
» بالرفع . فقراءةُ الكسائي : الضمير فيها يتعيَّنُ عَوْدُه على ابن نوح ، وفاعل «
عمل » ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً ، و « غيرَ » مفعول به . ويجوز أن يكونَ نعتاً
لمصدرٍ محذوف ، تقديرُه : عَمل عملاً غيرَ صالحٍ كقوله { واعملوا صَالِحاً } [
المؤمنون : 51 ] .
وأمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أوجه ، أظهرها : أنه عائدٌ على ابنِ نوح ،
ويكونُ في الإِخبار عنه بالمصدر المذاهبُ الثلاثةُ في « رجل عدل » . والثاني : أنه
يعود على النداء المفهوم مِنْ قوله « ونادى » ، أي : نداؤك وسؤالُك . وإلى هذا ذهب
أبو البقاء ومكي والزمخشري . وهذا فيه خطرٌ عظيم ، كيف يُقال ذلك في حقِّ نبي من
الأنبياء ، فضلاً عن أول رسولٍ أُرْسِل إلى أهل الأرض من بعدِ آدم عليهما السلام؟
ولما حكاه أبو القاسم قال : « وليس بذاك » ولقد أصاب . واستدلَّ من قال بذلك أنَّ
في حرف عبد اللَّه بن مسعود « إنه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما ليس لك به علمٌ »
وهذا مخالِفٌ للسَّواد .
الثالث : أنه يعودُ على ركوب ابنِ نوح المدلولِ عليه بقوله « اركب معنا » . الرابع
: أنَّه يعودُ على تركه الركوب وكونِه مع المؤمنين ، أي : إنَّ تَرْكَه الركوبَ مع
المؤمنين وكونَه مع الكافرين عملٌ غيرُ صالح ، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ لا يُحتاج في
الإِخبارِ بالمصدر [ إلى ] تأويلٍ ، لأنَّ كليهما معنى من المعاني ، وعلى الوجه
الرابع يكون من كلامِ نوح عليه السلام ، أي : إنَّ نوحاً قال : إنَّ كونَك مع
الكافرين وتَرْكَك الركوبَ معنا غيرُ صالح ، بخلاف ما تقدَّم فإنه مِنْ قول اللَّه
تعالى فقط ، هكذا قال مكي وفيه نظرٌ ، بل الظاهرُ أنَّ الكلَّ مِنْ كلام اللَّه
تعالى . قال الزمخشري : « فإن قلت : هلا قيل : إنه عملٌ فاسِدٌ . قلت : لَمَّا نفاه
عن أهله نفى عنه صفتَهم بكلمةِ النفي التي يستبقي معها لفظَ المنفي ، وآذن بذلك
أنَّه إنما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنهم أهلُك .
قوله : { فَلاَ تَسْأَلْنِي } قرأ نافع وابن عامر » فلا تسألَنِّ « بتشديدِ النون
مكسورةً من غير ياء . وابنُ كثير بتشديدها/ مع الفتح ، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ
مكسورةٍ خفيفة ، وياءٍ وصلاً [ لأبي عمرو ] ، ودون ياء في [ الحالين ] للكوفيين .
وفي الكهف { فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } [ الآية : 70 ] قرأه أبو عمرو والكوفيون
كقراءتهم هنا ، وافقهم ابنُ كثير في الكهف ، وأمَّا نافعٌ وابن عامر فكقراءتهما
هنا ، ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياء وحَذْفها ، وإنما قرأ ابن كثير التي في
هود بالفتح دونَ التي في الكهف؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم ، فكانت
قراءتُه بفتحِ النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياءَ ثابتةٌ في الرسم فلا
يُوافِق فيه فَتْحُها .
وقد
تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوتِ الياء في الكهف .
فَمَنْ خَفَّف النونَ فهي نونُ الوقاية وحَدَها ، ومَنْ شدَّدها فهي نون التوكيد .
وابنُ كثير لم يَجْعل في هود الفعلَ متصلاً بياء المتكلم ، والباقون جعلوه ،
فَلَزِمهم الكسرُ . وقد تقدَّم أنَّ « سأل » يتعدى لاثنين أوَّلُهما ياء المتكلم ،
والثاني { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
قوله { أَن تَكُونَ } على حذف حرف الجر ، أي : مِنْ أن تكون أو لأجلِ أن ، وقوله {
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يجوزُ في « به » أن يتعلَّق ب « عِلْم » . قال
الفارسي : « ويكونُ مثلَ قوله :
2669 كان جَزائي بالعَصا أن أُجْلَدا ... ويجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي
تَعَلَّق به » لك « . والباء بمعنى » في « ، أي : ما ليس لك به عِلْمٌ . وفيه نظرٌ
.
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
قوله تعالى : { وَإِلاَّ تَغْفِرْ } : لم تَمْنَعْ « لا » من عمل الجازم كما لم تمنعْ مِنْ عمل الجارِّ في نحو : « جِئْتُ بلا زادٍ » . قال أبو البقاء : « لأنها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملة في النفي ، وهي تنفي ما في المستقبل ، وليس كذلك » ما « فإنها تنفي ما في الحال ، فلذلك لم يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ » إنْ « عليها » .
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
قوله
تعالى : { قِيلَ يانوح } : الخلافُ المتقدم في قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُواْ } [ البقرة : 13 ] وشبهِه عائدُ هنا ، أي : في كونِ القائمِ مقامَ الفاعل
الجملة المحكيةَ أو ضميرَ مصدرِ الفعل .
قوله : { بِسَلاَمٍ } حال من فاعل « اهبط » ، أي : ملتسباً بسلام . و « منا » صفةٌ
ل « سلام » فيتعلَّق بمحذوف أو هو متعلقٌ بنفسِ سلام ، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ ،
وكذلك « عليك » يجوز أن يكونَ صفةً لبركات أو متعلقاً بها .
قوله : { مِّمَّن مَّعَكَ } يجوزُ في « مَنْ » أن تكونَ لابتداء الغاية ، أي :
ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر ، ويجوزُ أن تكونَ « مِنْ
» لبيان الجنس ، فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة ، لأنهم كانوا جماعاتٍ .
وقُرىء « اهبُط » بضم الباء ، وقد تقدم أول البقرة . وقرأ الكسائي فيما نُقِل عنه
« وبركة » بالتوحيد .
قوله : { وأُمَمٍ } يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ ، و « سنمتِّعهم » خبره ، وفي مسوِّغ
الابتداءِ وجهان ، أحدهما : الوصفُ التقديري ، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم ، أي :
ممَّن معك كقولهم « السَّمْن مَنَوان بدرهم » فمنوان مبتدأٌ وُصِف ب « منه »
تقديراً . والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو : « الناسُ رجلان : رجلٌ
أَهَنْتُ ، وآخَرُ أكرمتُ » ومنه قولُ امرىء القيس :
2670 إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انحرفَتْ له ... بشقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّل
ويجوز أن يكونَ مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضمير المستتر في « اهبط » وأغنى
الفصلُ عن التأكيد بالضمير المنفصل ، قاله أبو البقاء قال الشيخ : « وهذا التقديرُ
والمعنى لا يصلحان ، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله :
» ومَنْ آمنَ « ولم يكونوا كفَّاراً ومؤمنين ، فيكون الكفار مأمورِين بالهبوط ،
إلا إنْ قُدِّر أنَّ مِن المؤمنين مَنْ يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحال التي
يَؤُولون إليها فيمكن على بُعْدٍ » . قلت : وقد تقدَّم أنَّ مثلَ ذلك لا يجوز ، في
قول { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] لأمرٍ صناعي ، و « سنمتِّعُهم »
على هذا صفةٌ ل « أمم » ، والواوُ يجوز أن تكونَ للحال . قال الأخفش : « كما تقول
: » كلَّمْتُ زيداً وعمروٌ جالس « ويجوز أن تكونَ لمجردِ النَّسَق » .
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
وقوله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } : كقوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } [ الآية : 44 ] في آل عمران . قوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } يجوز في هذه الجملةُ أن تكونَ حالاً من الكاف في « إليك » ، وأن تكون حالاً من المفعول في « نُوحيها » وأن تكونَ خبراً بعد خبر .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
قوله
تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } : معطوفان على قوله { وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } [ هود : 25 ] : مرفوعٌ على مرفوع ، ومجرور على
مجرور ، كقولك : « ضرب زيد عمراً وبكر خالداً » ، وليس من باب ما فُصِل فيه بين
حرف العطف والمعطوف بالجارِّ/ والمجرور نحو : « ضربت زيداً وفي السوق عمراً »
فيجيءُ الخلاف المشهور . وقيل : بل هو على إضمارِ فعلٍ ، أي : وأَرْسَلْنا هوداً ،
وهذا أوفق لطول الفصل . و « هوداً » بدلٌ أو عطفٌ بيان لأخيهم .
وقرأ ابن محيصن « يا قومُ » بضم الميم ، وهي لغةٌ للعرب يَبْنونَ المضافَ للياء
على الضم كقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احكم } [ الأنبياء : 112 ] بضمِّ الباء ،
ولا يجوزُ أن يكونَ غيرَ مضاف للياء لما سيأتي في موضعه إن شاء اللَّه .
وقوله : { مِّنْ إله غَيْرُهُ } قد ذُكر في الأعراف ما يتعلق به قراءةً وإعراباً .
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
قوله تعالى : { فطرني } : قرأ نافع والبزي بفتح الياء ، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها .
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
قوله
تعالى : { مِّدْرَاراً } : منصوبٌ على الحال ، ولم يؤنِّثْه وإن كانَ مِنْ مؤنث
لثلاثةِ أوجه ، أحدُهما : أن المراد بالسماء السحاب فذكَّر على المعنى . والثاني :
أن مِفْعالاً للمبالغة فيستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور وشكور وفعيل . الثالث : أن
الهاء حُذِفَتْ مِنْ مِفْعال على طريق النَّسَب قاله مكي ، وقد تقدَّم إيضاحُه في
الأنعام .
قوله : { إلى قُوَّتِكُمْ } يجوز أن يتعلَّقَ ب « يَزِدْكم » على التضمين ، أي :
يُضِف إلى قوتكم قوةً أخرى ، أو يُجعل الجار والمجرور صفةً ل « قوة » فيتعلَّق
بمحذوف . وقدَّره أبو البقاء « مضافةً إلى قوتكم » وهذا يأباه النحاة لأنهم لا
يقدِّرون إلا الكونَ المطلقَ في مثله ، أو تُجْعل « إلى » بمعنى مع أي : مع قوتكم
كقولِه تعالى : { إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
قوله
تعالى : { بِبَيِّنَةٍ } : يجوز أن تكونَ الباء للتعدية ، فيتعلَّق بالفعل قبلها ،
أي : ما أظهرْتَ لنا بينةً قط . والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ ، إذ
التقدير : مستقراً أو ملتبساً ببينة .
قوله : { عَن قَوْلِكَ } حالٌ من الضمير في « تاركي » ، أي : وما نترك آلهَتنا
صادرين عن قولك . ويجوز أن تكون « عن » للتعليل ، كهي في قولِه تعالى { إِلاَّ عَن
مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] ، أي : إلا لأجل موعدة .
والمعنى هنا : بتاركي آلهتِنا لقولك ، فيتعلَّق بتاركي . وقد أشار إلى التعليل
ابنُ عطية ، ولكنَّ المختارَ الأول ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
قوله
تعالى : { إِلاَّ اعتراك } : الظاهرُ أن ما بعد « إلا » مفعول بالقول قبله ، إذ
المرادُ : إن نقول إلا هذا اللفظَ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك : « ما قلت إلا زيد
قائم » . وقال أبو البقاء : « الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوف ، التقدير : إن نقول
إلا قولاً هو اعتراك ، ويجوز أن يكونَ موضعُها نصباً ، أي : ما نذكر إلا هذا القول
» وهذا غير مُرْضٍ؛ لأن الحكاية بالقول معنى ظاهر لا يَحْتاج إلى تأويل ، ولا إلى
تضمينِ القولِ بالذِّكْر .
وقال الزمخشري : « اعتراك » مفعول « نقول » و « إلا » لغوٌ ، أي : ما نقول إلا
قولنا « اعتراك » . انتهى . يعني بقولَه « لَغُو » أنه استثناءٌ مفرغ ، وتقديره
بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب ، إذ ظاهرُه يقتضي أن تكونَ الجملةُ منصوبةً بمصدر
محذوف ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب « نقول » هذا الظاهر . ويُقال : اعتراه بكذا
يَعْتريه ، وهو افتعلَ مِنْ عَراه يَعْرُوه إذا أصابَه ، والأصل : اعْتَرَوَ من
العَرَوْ ، مثل : اغتَرَوا مِن الغَزْو ، فتحرك حرفُ العلة وانفتح ما قبله فقُلب
ألفاً ، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر .
قوله : { أَنِّي برياء } يجوز أن يكون من باب الإِعمال لأنَّ « أُشْهِدُ » يطلبُه
، و « اشْهدوا » يطلبه أيضاً ، والتقدير : أُشْهد اللَّه على أنه بريء ، واشهدوا
أنتم عليه أيضاً ، ويكون من إعمال الثاني ، لأنه لو أَعْمل الأول لأضمر في الثاني
: ولا غَرْو في تنازع المختلفين في التعدي واللزوم .
و « مِمَّا تُشْركون » يجوز أن تكونَ « ما » مصدريةً ، أي : مِنْ إشراككم آلهةً
مِنْ دونه ، أو بمعنى الذي ، أي : مِن الذين تشركونه مِن آلهةٍ مِن دونه ، أي أنتم
الذين تجعلونها شركاءَ .
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
وقوله تعالى : { جَمِيعاً } : حالٌ من فاعل « فكيدون » . وأثبت سائرُ القراء ياء « فكيدوني » في الحالين ، وحَذَفوها في المرسلات .
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
والناصِيَةُ مَنْبِتُ الشَّعْر في مُقَدَّم الرأس ، ويُسَمَّى الشعرُ النَّابِتُ أيضاً « ناصِية » باسم محلِّه ، ونَصَوْتُ الرجل : أَخَذْتُ بناصِيته ، فلامُها واو ، ويقال : ناصاة بقَلْبِ يائها ألفاً ، وفي الأَخْذِ بالناصية عبارةٌ عن الغَلَبة والتسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته ، ولذلك كانوا إذا مَنُّوا على أسيرٍ جَزُّوا ناصيتَه .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
قوله
تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } : أي : تَتَوَلَّوا فحذف إحدى التاءَيْن ، ولا يجوز
أن يكونَ ماضياً كقوله : « أَبْلَغْتكم » ، ولا يجوزُ أن يدعى فيه الالتفات ، إذ
هو رَكاكَةٌ في التركيب وقد جَوَّزَ ذلك ابنُ عطية فقال : « ويُحْتمل أن يكون »
تولَّوا « ماضياً ، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غَيْبة إلى خطاب » . وقلت : ويجوزُ أن
يكونَ ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخرَ غيرِ الالتفات : وهو أن يكونَ على إضمار القول ،
أي : فقل لهم : قد أبلغْتُكم . ويترجَّح كونُه ماضياً بقراءة عيسى والثقفي والأعرج
« فإن تُوَلُّوا » بضم التاء واللام ، مضارعَ ولى بضم التاءِ واللام مضارعَ وَلي ،
والأصل تُوَلِّيُوا فأُعِلَّ .
قال الزمخشري : « فإن قلتَ : الإِبلاغ كان قبل التولِّي فكيف وقع جزاءً للشرط؟ قلت
: معناه فإنْ تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريطٍ على الإِبلاغ ، وكنتم محجوجين بأنَّ
ما أَرْسَلْتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا التكذيب .
قوله : { وَيَسْتَخْلِفُ } العامَّةُ على رفعِه استئنافاً . وقال أبو البقاء » هو
معطوفٌ على الجواب بالفاء « . وقرأ عبد اللَّه بن مسعود بتسكينه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات : والثاني : أن يكونَ مجزوماً
عطفاً على الجواب المقترن بالفاء ، إذ مَحَلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قولِه : { فَلاَ
هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } وقد تقدَّم تحقيقُه ، إلا أن القراءتين ثَمَّ في
المتواتر .
قوله : { وَلاَ تَضُرُّونَهُ } العامَّة على النون ، لأنه مرفوعٌ على ما تقدَّم ،
وابنُ مسعودٍ بحذفها ، وهذا يُعَيِّن أن يكونَ سكونُ » يستخلف « جزماً ، ولذلك لم
يذكر الزمخشري غيره؛ لأنه ذكر جزمَ الفعلين ، ولمَّا لم يذكرْ أبو البقاء الجزم في
» تَضُرُّونه « جَوَّز الوجهين في » يَسْتخلف « .
و » شيئاً « مصدرٌ ، أي : شيئاً من الضرر .
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
قوله
تعالى : { جَحَدُواْ } : جملةٌ مستأنفة سِيقت للإِخبار عنهم بذلك ، وليسَتْ حالاً
مِمَّا قبلها ، و « جَحَد » يتعدى بنفسه ، ولكنه ضُمِّن معنى كفر ، فيعدى بحرفه ،
كما ضَمَّن « كفر » معنى « جحد » فتعدى بنفسه في قوله بعد ذلك في قوله : {
كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } [ هود : 60 ] . وقيل : إنَّ « كفر » ك شكر « في تعدِّيه
بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى .
والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد : / الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ قولهم »
عَنَد يَعْنِد « إذا حادَ عن الحق من جانبٍ إلى جانب . قيل : ومنه » عندي « الذي
هو ظرف؛ لأنه في معنى جانِب ، من قولك : عندي كذا ، أي في جانبي . وعن أبي عبيد :
العنيد والعنود والعاند والمُعاند كلُّه المعارِض بالخلاف .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
قوله
تعالى : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ } : كالذي قبله . والعامَّة على مَنْع « ثمود »
الصرفَ هنا لعلتين : وهما العلمية والتأنيث ، ذهبوا به مذهبَ القبيلة ، والأعمش
ويحيى بن وثاب صرفوه ، ذهبا به مذهب الحيّ . وسيأتي بيان الخلاف في غير هذا الموضع
.
قوله : { مِّنَ الأرض } : يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية ، أي : ابتداء إنشائكم
منها : إمَّا إنشاءُ أصلكم وهو آدم ، أو لأن كلَّ واحد خُلق مِنْ تُرْبته ، أو لأن
غذاءَهم وسببَ حياتهم من الأرض . وقيل : « مِن » بمعنى « في » ولا حاجة إليه .
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
قوله
تعالى : { وَإِنَّنَا } : هذا هو الأصل ، ويجوز « وإنَّا » بنونٍ واحدة مشددة كما
في السورة الأخرى . وينبغي أن يكون المحذوفُ النونَ الثانية من « إنَّ » لأنه قد
عُهِد حَذْفُها دون اجتماعِها مع « ن » فَحَذْفُها مع « ن » أولى ، وأيضاً فإنَّ
حَذْف بعضِ الأسماء ليس بسهلٍ . وقال الفراء : « مَنْ قال » إننا « أَخْرج الحرفَ
على أصله؛ لأنَّ كتابةَ المتكلمين » ن « فاجتمع ثلاثُ نونات ، ومَنْ قال : » إنَّا
« استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثة ، وأبقى الأوَّلَيْن » . انتهى . وقد تقدَّم
الكلامُ في ذلك أولَ هذا الموضوع .
قوله : { مُرِيبٍ } اسم فاعل مِنْ أراب ، و « أراب » يجوز أن يكونَ متعدِّياً مِنْ
« أرابه » ، أي : أوقعه في الريبة أو قاصراً مِنْ « أراب الرجلُ » ، أي : صار ذا
ريبة . ووُصِف الشكَّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
قوله
تعالى : { أَرَأَيْتُمْ } : إلى آخره : قد تقدَّم نظيره ، والمفعول الثاني هنا
محذوفٌ تقديره : أأَعْصيه ، ويدلُّ عليه « إن عصيته » . وقال ابن عطية : « هي مِنْ
رؤية القلب ، والشرط الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْنِ ل » أرأيتم « .
قال الشيخ : » والذي تقرَّر أنَّ « أرأيت » ضُمِّن معنى أخبرْني ، وعلى تقدير أن
لا يُضَمَّن ، فجملةُ الشرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولَيْ علمت وأخواتها .
قوله : { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } الظاهرُ أنَّ « غيرَ » مفعولٌ ثانٍ لتَزيدونني . قال
أبو البقاء : « الأقوى هنا أن تكون » غير « استثناءً في المعنى ، وهي مفعولٌ ثانٍ
ل » تزيدونني « ، أي : فما تزيدونني إلا تخسيراً » . ويجوز أن تكون « غير » صفةً
لمفعولٍ محذوف ، أي : شيئاً غير تخسير ، وهو جيد في المعنى . ومعنى التفعيل هنا
النسبةُ ، والمعنى : غيرَ أن أُخْسِرَكم ، أي : أَنْسبكم إلى التخسير ، قاله
الزمخشري . وقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : غير بضارِّه تخسيركم ، قاله ابن عباس
.
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
قوله
تعالى : { آيَةً } : نصب على الحال بمعنى علامة ، والناصب لها : إمَّا ها التنبيه
أو اسمُ الإِشارة؛ لِما تضمَّناه من معنى الفعل ، أو فعلٍ محذوف .
قوله : { لَكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال من « آيةٍ »؛ لأنه لو تأخَّر لكان
نعتاً لها ، فلما قُدِّم انتصبَ حالاً . قال الزمخشري : « فإن قلت بم تتعلَّقُ »
لكم «؟ قلت : » بآية « حالاً منها متقدمة ، لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صفة لها ،
فلما تقدَّمت انتصبت على الحال » . قال الشيخ : « وهذا متناقض لأنه من حيث تعلَّق
» لكم « ب » آية « كان معمولاً ل » آية « ، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون
حالاً منها ، لأنَّ الحال تتعلَّق بمحذوف » . قلت : ومثل هذا كيف يُعترض به على مِثْل
الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصودَ بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟
وقرأت فرقة : « تأكلُ » بالرفع : إمَّا على الاستئناف ، وإمَّا على الحال .
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
قوله
تعالى : { فِي دَارِكُمْ } : قيل : هو جمعُ « دارَة » كساحة وساح وسُوح ، وأنشدوا
لأمية بن أبي الصلت :
2671 له داعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ ... وآخرُ فوق دارَتِه يُنادي
قوله : { مَكْذُوبٍ } يجوز أن يكونَ مصدراً على زِنة مفعول ، وقد جاء منه
أُلَيْفاظ نحو : « المَجْلود والمَعْقول والميسور والمفتون ، ويجوز أن يكونَ اسمَ
مفعولٍ على بابه ، وفيه حينئذ تأويلان ، أحدُهما : غيرُ مكذوبٍ فيه ، ثم حُذف حرف
الجر فاتصل الضمير مرفوعاً مستتراً في الصفةِ ، ومثلُه { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [
هود : 103 ] وقوله :
2672 ويومٍ شَهِدْناه سليمى وعامراً ... قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافلُهْ
والثاني : أنه جُعل هو نفسُه غيرَ مكذوب ، لأنه قد وُفِّي به فقد صُدِّق .
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
قوله
تعالى : { وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } : متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : ونَجَّيْناهم مِنْ/
خزي . وقال الزمخشري : « فإن قلت : علام عُطِف؟ قلت : على » نَجَّيْنا « لأنَّ
تقديرَه : ونجَّيْناهم من خزيِ يومئذ كما قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ
غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] ، أي : وكانت التنجيةُ مِنْ خزي : وقال غيره : » إنه
متعلقٌ ب « نَجَّيْنا » الأول « . وهذا لا يجوزُ عند البصريين غيرَ الأخفش ، لأن
زيادةَ الواوِ غيرُ ثابتة .
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم » يومئذ « على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير
متمكن كقوله :
2673 على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا ... فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع
وقرأ الباقون بخفض الميم . وكذلك الخلافُ جارٍ في { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج :
1 ] . وقرأ طلحة وأبان بن تغلب بتنوين » خزي « و » يومئذ « نصب على الظرف بالخزي .
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل { مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } بالفتح أيضاً ،
والكوفيون وحدهم بتنوين » فزع « ونصب » يومئذ « به .
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل » يومئذ « أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو
فتحةَ بناء ، و » إذ « مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه : إذْ
جاء أمرُنا . وقال الزمخشري : » ويجوز أن يُراد يومُ القيامة ، كما فُسِّر العذاب
الغليظ بعذاب الآخرة « . قال الشيخ : » وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ
يومِ القيامة ، ولا ما يكون فيها ، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في
يوم القيامة « . قلت : قد تكون الدلالةُ لفظيةً ، وقد تكون معنويةً وهذه من
المعنوية .
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
قوله تعالى : { وَأَخَذَ الذين } : حُذِفت تاءُ التأنيث : إما لكونِ المؤنث مجازياً ، أو للفصل بالمفعول ، أو لأنَّ الصيحةَ بمعنى الصياح ، والصَّيْحة : فَعْلة تدل على المَرَّة من الصياح ، وهي الصوتُ الشديد : صاح يصيح صِياحاً ، أي : صوَّت بقوة .
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
وقرأ
حمزة وحفص : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } هنا ، وفي الفرقان : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ
} [ الآية : 38 ] ، وفي العنكبوت : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم
} [ الآية : 38 ] ، وفي النجم : { وَثَمُودَ فَمَآ أبقى } [ الآية : 51 ] جميعُ
ذلك بمنعِ الصرفِ ، وافقهم أبو بكر على الذي في النجم .
وقوله : { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } منعه القراءُ الصرفَ إلا الكسائيَّ فإنه
صَرَفَه . وقد تقدم أنَّ مَنْ منع جعله اسماً للقبيلة ، ومَنْ صَرَف جعله اسماً
للحيّ ، وأنشد على المنع :
2674 - ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ ... بآلِ ثمودَ منك عذاباً
وأنشد على الصرف :
2675 دَعَتْ أمُّ عمروٍ أمرَ شرٍّ علمتُه ... بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأجابها
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورة الأعراف .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
قوله
تعالى : { قَالُواْ سَلاَماً } : في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول به ، ثم هو
محتملٌ لأمرين ، أحدهما : أن يراد قالوا هذا اللفظ بعينه ، وجاز ذلك لأنه يتضمَّن
معنى الكلام . والثاني : أنه أراد قالوا معنى هذا اللفظ ، وقد تقدم ذلك في نحو
قولِه تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] . وثاني الوجهين : أن يكون
منصوباً على المصدر بفعل محذوف ، وذلك الفعل في محل نصب بالقول ، تقديرُه : قالوا
: سَلَّمْنا سلاماً ، وهو من باب ما ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه ، وهو واجبُ
الإِضمار .
قوله : { قَالَ سَلاَمٌ } في رفعه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ ، أي
: سلامٌ عليكم . والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : أمري أو قولي سلام . وقد
تقدَّم أولَ هذا الموضعِ أن الرفعَ أدلُّ على الثبوت من النصب ، والجملة بأسرها
وإن كان أحدُ جُزْأيها محذوفاً في محل نصب بالقول كقوله :
2676 إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقرأ الأخوان : « قال سِلْم » هنا وفي سورة الذاريات بكسر السين وسكون اللام .
ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف فقيل : هما لغتان كحِرْم وحَرام وحِلٌّ وحَلال ، وأنشد
:
2677 مَرَرْنا فقُلنا إيه سِلْمٌ فسَلَّمَتْ ... كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ
اللوائحُ
يريد : سلام ، بدليل : فسلَّمت . وقيل : « السِلْم » بالكسر ضد الحرب ، وناسَب ذلك
لأنه نَكِرَهم فقال : أنا مسالمكم غيرُ محارِب لكم
قوله : { فَمَا لَبِثَ } يجوزُ في « ما » هذه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها نافيةٌ ،
وفي فاعل « لَبث » حينئذ وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ إبراهيم عليه السلام ، أي :
فما لبث إبراهيم ، وإن جاء على إسقاطِ الخافض ، فقدَّروه بالباء وب « عن » وب « في
» ، أي : فما تأخر في أَنْ ، أو بأن ، أو عن أن . والثاني : أن الفاعل قوله : « أن
جاء » ، والتقدير : فلما لبث ، أي : ما أبطأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين .
وثاني الأوجه : أنها مصدريةٌ ، وثالثها : أنها بمعنى الذي . وهي في الوجهين
الأخيرين مبتدأ ، وإن جاء خبرُه على حَذْف مضاف تقديره : فلُبْثُه أو الذي لَبِثه
قَدْرَ مجيئه .
والحَنيذ : المَشْويُّ بالرصْف في أخدود . حَنَذْتُ الشاةَ أَحْنِذُها حَنْزاً فهي
حَنيذ ، أي محنوذة . وقيل : حنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم : حَنَذْتُ
الفرس ، أي : سُقْتُه شوطاً أو شوطين وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليَعْرَق .
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
قوله
تعالى : { نَكِرَهُمْ } : أي : أنكرهم ، فهما بمعنى وأنشدوا :
2678 وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ
والصَّلعا
وفرَّق بعضهم بينهما فقال : / الثلاثي فيما يرى بالبصر ، والرباعي فما لا يُرى من
المعاني ، وجعل البيتَ من ذلك ، فإنها أَنْكَرَتْ مودَته وهي من المعاني التي لا
ترى ، ونَكِرَتْ شيبتَه وصَلَعه ، وهما يُبْصَران ، ومنه قولُ أبي ذؤيب :
2679 فَنَكِرْنَه فَنَفَرْنَ وامْتَرَسَتْ به ... هَوْجاءُ هادِيَةٌ وهادٍ
جُرْشُعُ
والإِيجاس : حديث النفس ، وأصلُه من الدخول كأن الخوف داخله .
وقال الأخفش : « خامَرَ قلبه » . وقال الفراء : « استشعر وأحسَّ » . والوجيس : ما
يَعْتري النفس أوائل الفزع ، ووَجَسَ في نفسه كذا أي : خَطَر بها ، يَجِسُ وَجْساً
ووُجوساً ووَجيساً ، ويَوْجَس ويَجِس بمعنى يسمع ، وأنشدوا ،
2680 وصادقتا سَمْعِ التوجُّسِ للسُّرى ... لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لصوتٍ مُنَدَّد
فخيفةً مفعول به أي : أحسَّ خيفة أو أضمر خيفة .
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قوله
تعالى : { وامرأته قَآئِمَةٌ } : في محلِّ نصب على الحال من مرفوع « أُرْسِلْنا »
. وقال أبو البقاء : « من ضمير الفاعل في » أرسلنا « وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة ، إذ
مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه لا يُطْلَقُ عليه فاعلٌ على المشهور ، وعلى الجملة
فَجَعْلُها حالاً غيرُ واضح بل هي استئنافُ إخبار ، ويجوز جَعْلُها حالاً من فاعل
» قالوا « أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته .
قوله : { فَضَحِكَتْ } العامَّة على كسر الحاء ، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل
من مكة بفتحها ، وهي لغتان ، يقال : ضَحِك وضَحَكَ . وقال المهدوي : » الفتح غير
معروف « . والجمهور على أن الضحك على بابه . واختلف أهلُ التفسير في سببه ، وقيل :
بمعنى حاضَتْ ، ضحكت الأرنب : أي : حاضَتْ ، وأنكره أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء .
وأنشد غيرهم على ذلك :
2681 وضِحْكُ الأرانبِ فوق الصَّفا ... كمثلِ دمِ الجَوْفِ يوم اللِّقا
وقال آخر :
2682 وعهدي بسلمى ضاحكاً في لَبانةٍ ... ولم يَعْدُ حُقَّاً ثَدْيُها أن يُحَمَّلا
أي : حائضاً . وضحِكت الكافورة : تَشَقَّقت . وضحكت الشجرة : سال صمغُها . وضَحِك
الحوضُ : امتلأ وفاض . وظاهرُ كلام أبي البقاء أن ضَحَك بالفتح مختص بالحيض فإنه
قال : » بمعنى حاضت ، يقال : ضحَكت الأرنب بفتح الحاء « .
قوله : { يَعْقُوبَ } قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء ، والباقون
برفعها . فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها : هل الفتحةُ علامةُ نصب أو جر؟
والقائلون بأنها علامة نصب اختلفوا : فقيل : هو منصوبٌ عطفاً على قوله : » بإسحاق
« قال الزمخشري : » كأنه قيل : ووهَبْنا له إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب على
طريقة قوله :
2683 . . . . . . . . . . . . ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعِبٍ . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
يعني أنه عطف على التوهم فنصب ، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر «
ليس » فجرَّ ، ولكنه لا ينقاس . وقيل : هو منصوبٌ بفعلٍ مقدر تقديرُه : ووهبْنا
يعقوب ، وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة . ورجَّح الفارسيُّ هذا الوجه . وقيل :
هو منصوبٌ عطفاً على محل « بإسحاق » لأن موضعَه نصب كقوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } [
المائدة : 6 ] بالنصب عطفاً على « برؤوسكم » . والفرق بين هذا والوجه الأول : أن
الأولَ ضمَّن الفعل معنى : « وَهَبْنا » توهُّماً ، وهنا باقٍ على مدلوله من غير
توهُّم .
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على « بإسحاق » والمعنى : أنها بُشِّرت بهما . وفي
هذا الوجه والذي قبله بحثُ : وهو الفصلُ بالظرف بين حرف العطف والمعطوف ، وقد
تقدَّم ذلك مستوفى في النساء فعليك بالالتفات إليه .
ونسب مكي الخفضَ للكسائي ثم قال : « وهو ضعيف إلا بإعادة الخافض ، لأنك فَصَلْت
بين الجار والمجرور بالظرف » .
قوله
: « بإعادة الخافض » ليس ذلك لازماً ، إذ لو قُدِّم ولم يُفْصَل لم يُلْتزم
الإِتيان به .
وأمَّا قراءةُ الرفع ففيها أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ وخبره الظرف السابق فقدَّره
الزمخشري « مولود أو موجود » وقدّره غيره بكائن . ولمَّا حكى النحاس هذا قال : «
والجملة حالٌ داخلة في البشارة أي : فَبَشَّرْناها بإسحاق متصلاً به يعقوبُ » .
والثاني : أنه مرفوع على الفاعلية بالجارِّ قبله ، وهذا يجيء على رَأْي الأخفش .
والثالث : أن يرتفع بإضمار فعل أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب ، ولا مَدْخَلَ له
في البشارة . والرابع : أنه مرفوعٌ على القطع يَعْنُون الاستئناف ، وهو راجع لأحد
ما تقدَّم مِنْ كونه مبتدأ وخبراً ، أو فاعلاً بالجارِّ بعده ، أو بفعل مقدر .
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
قوله
تعالى : { ياويلتى } : الظاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم/ ولذلك أمالها أبو
عمرو وعاصم في روايةٍ ، وبها قرأ الحسن « يا ويلتي » بصريح الياء . وقيل : هي ألف
الندبة ، ويوقف عليها بهاء السكت .
قوله : { وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاًٌ } الجملتان في محل نصب على الحال
من فاعل « أَلِدُ » أي : كيف تقع الولادة في هاتين الحالتين المنافيتين لها؟
والجمهورُ على نصب « شيخاً » وفيه وجهان ، المشهور : أنه حال والعامل فيه : إمَّا
التنبيهُ وإمَّا الإِشارة ، وإمَّا كلاهما . والثاني : أنه منصوبٌ على خبر التقريب
عند الكوفيين ، وهذه الحالُ لازمةٌ عند مَنْ لا يجهل الخبرَ ، أمَّا مَنْ جهله فهي
غير لازمة . وقرأ ابن مسعود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود « شيخٌ » بالرفع ،
وذكروا فيه أوجهاً : خبرٌ بعد خبر ، أو خبران في معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض
، أو خبر « هذا » و « بعلي » بيان أو بدل ، أو « شيخ » بدل من « بعلي » ، أو «
بعلي » مبتدأ و « شيخ » خبره ، والجملة خبرُ الأول ، أو « شيخ » خبرُ مبتدأ مضمر
أي هو شيخ .
والشيخ يقابله عجوز ، ويقال شَيْخة قليلاً ، كقوله :
2684 - وتَضْحك مني شَيْخةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
وله جموعٌ كثيرة ، فالصريح منها : أَشْياخ وشُيوخ وشِيخان ، وشِيْخَة عند مَنْ يرى
أن فِعْلَة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمة وفِتْيَة . ومن أسماءِ جَمْعه مَشِيخَة
وشِيَخَة ومَشْيُوخاء .
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قوله
تعالى : { أَهْلَ البيت } : في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منادى . والثاني : أنه
منصوبٌ على المدح . وقيل : على الاختصاص ، وبين النصبين فرق : وهو أن المنصوب على
المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المذمومَ لفظٌ يتضمن بوضعه الذمَّ .
والمنصوبُ على الاختصاص لا يكون إلا لمدحٍ أو ذم ، لكن لفظَه لا يتضمَّن بوَضْعِه
ولا الذمَّ كقوله :
2685 بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ ... كذا قاله الشيخ ، واستند إلى أن سيبويه
جعلهما في بابين ، وفيه نظر .
والمجيد : فَعيل ، مثالُ مبالغة مِنْ مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجادة ، ويقال :
مَجْد كشَرُف وأصلُه الرِّفْعَة . وقيل : من مَجَدَتِ الإِبلُ تَمْجُد مَجادة
ومَجْداً أي : شَبِعت ، وأنشدوا لأبي حية النميري :
2686 تزيدُ على صواحبِها وليسَتْ ... بماجدةِ الطعام ولا الشراب
أي : ليسَتْ بكثيرةِ الطعامِ ولا الشراب . وقيل : مَجَد الشيءُ : أي حَسُنَتْ
أوصافُه . وقال الليث : « أمجد فلانٌ عطاءَه ومَجَّده أي : كثَّره » .
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
والرَّوْع
: الفزع ، قال الشاعر :
2687 إذا أخَذَتْها هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ ... بمَنْكِبِ مِقْدامٍ على
الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال : راعَه يَرُوْعُه أي : أفزعه ، قال عنترة :
2688 ما راعني إلا حَمولةُ أهلِها ... وسطَ الديار تَسِفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع : افتعل منه . قال النابغة :
2689 فارتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبِ فباتَ له ... طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن
صَرَدٍ
وأمَّا الرُّوْعُ بالضم فهي النفسُ لأنها محلُّ الرَّوْع ، ففرَّقوا بين الحالِّ
والمَحَلِّ . وفي الحديث : « إنَّ رُوْحَ القدس نفث في رُوْعي » .
قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } عطف على « ذَهَب » وجوابُ « لَمَّا » على هذا
محذوفٌ أي : فلما اكن كيت وكيت اجترأ على خطابهم ، أو فَطِن لمجادلتهم ، وقوله : «
يُجادلنا » على هذا جملةٌ مستأنفة ، وهي الدالَّةُ على ذلك الجوابِ المحذوفِ .
وقيل : تقديرُ الجواب : أقبل يجادِلُنا ، فيجادلُنا على هذا حالٌ من فاعل « أَقبل
» . وقيل : جوابها قوله : « يجادِلُنا » وأوقع المضارعَ موقعَ الماضي . وقيل :
الجوابُ قولُه { وَجَآءَتْهُ البشرى } ، وهو الجوابُ والواوُ زائدةٌ . وقيل : «
يجادلنا » حال من « إبراهيم » ، وكذلك قولُه : « وجاءَتْه البشرى » و « قد »
مقدرةٌ . ويجوز أن يكونَ « يجادِلُنا » حالاً من ضمير المفعول في « جاءَتْه » . و
« في قوم » أي : في شأنهم .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
قوله تعالى : و { أَوَّاهٌ } : فعَّال مِنْ أوَّهَ ، وقد تقدم اشتقاقه .
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قوله تعالى : { آتِيهِمْ عَذَابٌ } : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل « إنهم » . ويجوز أن يكون « آتيهم » الخبر و « عذاب » المبتدأ ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصف ، ولتنكير « آتيهم » لأنَّ إضافتَه غيرُ محضة . ويجوز أن يكون « آتيهم » خبرَ « إنَّ » و « عذاب » فاعلٌ به ، ويدل على ذلك قراءةُ عمرو بن هَرِم : « وإنهم أتاهم » بلفظ الفعل الماضي .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قوله
تعالى : { سياء } : فعلٌ مبنيٌّ للمفعول . والقائمُ مقامُ الفاعل ضميرُ لوط مِنْ
قولِك « ساءني كذا » أي : حَصَل/ لي سُوْءٌ . و « بهم » متعلقٌ به أي : بسببهم . و
« ذَرْعاً » نصبٌ على التمييز ، وهو في الأصل مصدر ذَرَعَ البعير يَذْرَع بيديه في
سَيْره إذا سار على قَدْر خَطْوِه ، اشتقاقاً من الذِّراع ، ثم تُوُسِّع فيه
فوُضِعَ مَوْضِعَ الطاقة والجهد فقيل : ضاق ذَرْعُه أي : طاقتُه قال :
2690 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فاقدِرْ بذَرْعِك وانظر أين
تَنْسَلِكُ
وقد يقع الذِّراعُ موقِعَه قال :
2691 إذا التَّيَّازُ ذو العَضَلاتِ قُلْنا ... إليك إليك ضاقَ بها ذِراعا
قيل : هو كنايةٌ عن ضِيق الصدر .
وقوله : { عَصِيبٌ } العَصِيْبُ والعَصَبْصَبُ والعَصُوب : اليوم الشديد ، الكثير
الشرِّ الملتفُّ بعضُه ببعض قال :
2692 وكنت لِزازَ خَصْمِكَ لم أُعَرِّدْ ... وقد سَلكوك في يومٍ عصيبِ
وعن أبي عُبَيْد : « سُمِّي عَصِيباً لأنه يعصب الناسَ بالشرِّ » . والعِصَابَةُ :
الجماعة من الناس سُمُّوا بذلك لإِحاطتهم إحاطةَ العَصابة .
قوله : { يُهْرَعُونَ } في محل نصب على الحال . والعامَّة على « يُهرعون » مبنياً
للمفعول . والإِهراع : الإِسراع ويقال : وهو المَشْيُ بين الهَرْوَلة والجَمَز .
وقال الهروي : هَرَع وأَهْرَعَ : اسْتَحَثَّ . وقرأت فرقة : « يَهْرعون » بفتح الياء
مبنياً للفاعل مِنْ لغة « هَرَع » .
قوله : { هؤلاء بَنَاتِي } جملةٌ برأسها ، و « هنَّ أطهرُ لكم » جملةٌ أخرى ،
ويجوز أن يكونَ « هؤلاء » مبتدأ ، و « بناتي » بدلٌ أو عطفُ بيان ، و « هنَّ »
مبتدأ ، و « أَطْهَرُ » خبره ، والجملةُ خبر الأول . ويجوز أن يكونَ « هنَّ »
فَصْلاً ، و « أطهر » خبر : إمَّا ل « هؤلاء » ، وإمَّا ل « بناتي » ، والجملةُ
خبر الأول .
وقرأ الحسن وزيد بن علي وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والسدي : « أطهرَ » بالنصب .
وخُرِّجت على الحال . فقيل : « هؤلا » مبتدأ ، و « بناتي هُنَّ » جملةٌ في محلِّ
خبره ، و « أطهر » حال ، والعاملُ : إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارةُ . وقيل : «
هنَّ » فَصْلٌ بين الحال وصاحبها ، وجُعِل من ذلك قولُهم : « أكثر أكلي التفاحةَ
هي نضيجةً » . ومنعه بعض النحويين ، وخرَّج الآيةَ على أن « لكم » خبر « هن »
فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنوي ، وخرَّجَ المَثَلَ المذكور
على أن « نضيجة » منصوبة ب « كان » مضمرة .
قوله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } : الضيف في الأصل مصدرٌ ، ثم أطلق على
الطارق لميلانه إلى المُضيف ، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدَّيهما بلفظٍ واحدٍ
، وقد يُثنَّى فيقال : ضَيْفان ، ويُجْمع فيقال : أضايف وضُيوف كأبيات وبُيوت
وضِيفان كحَوْض وحِيضان .
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
قوله
تعالى : { مِنْ حَقٍّ } : يجوز أن يكون مبتدأ ، والجارُّ خبره ، وأن يكونَ فاعلاً
بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي ، و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا القولين .
قوله : { مَا نُرِيدُ } يجوز أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكونَ موصولةً بمعنى الذي .
والعلم عرفانٌ ، فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي : لتعرف إرادتنا ، أو الذي نريده . ويجوز
أن تكونَ « ما » استفهامية وهي مُعَلِّقة للعلم قبلها .
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قوله
تعالى : { لَوْ أَنَّ } جوابُها محذوف تقديره : لفعلتُ بكم وصنعْتُ كقوله : {
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ } [ الرعد : 31 ] .
قوله : { أَوْ آوي } يجوز أن يكونَ معطوفاً على المعنى ، تقديره : أو أني آوي ،
قاله أبو البقاء والحوفي . ويجوز أن يكون معطوفاً على « قوة » لأنه منصوبٌ في
الأصل بإضمار أن فلمَّا حُذِفَتْ « أن » رُفع الفعل كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ
يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] .
واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بعدم نصبِه . وقد تقدم جوابه . ويدلُّ على اعتبار
ذلك قراءةُ شيبة وأبي جعفر « أو آويَ » بالنصب كقوله :
2693 ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزَّةٍ ... وآلُ سبيعٍ أو أسُوْءَك عَلْقما
وقولها :
2694 لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني ... أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوف
ويجوز أن يكون عَطْفُ هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرْتَ أنَّ « أنَّ »
مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد « لو » عند المبرد ، والتقدير : لو يستقر أو يثبت استقرار
القوة أو آوي ، ويكون هذان الفعلان ماضيَيْ المعنى؛ لأنها تَقلب المضارع إلى
المضيِّ . وأمَّا على رأي سيبويه في كونِ أنَّ « أنَّ » في محل الابتداء ، فيكون
هذا مستأنفاً . وقيل : « أو » بمعنى بل وهذا عند الكوفيين .
و « بكم » متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « قوة » ، إذ هو في الأصل صفةُ للنكرة ، ولا
يجوز أن يتعلَّق ب « قوة » لأنها مصدر .
والرُّكُنْ بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره ، ويُجمع على أركان وأَرْكُن
قال :
2695 وزَحْمُ رُكْنَيْكَ شديدُ الأَرْكُنِ/ ...
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
قوله
تعالى : { فَأَسْرِ } : قرأ نافع وابن كثير : { فاسْرِ بأهلك } هنا وفي الحجر ،
وفي الدخان : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي } [ الآية : 23 ] ، وقوله : { أَنْ أَسْرِ } [
الآية : 77 ] في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط دَرْجاً وتَثْبُتُ
مكسورة ابتداءً . والباقون « فَأَسْر » بهمزة القطع تثبت مفتوحة دَرْجاً وابتداء ،
والقراءتان مأخوذتان من لُغَتي هذا الفعل فإنه يُقال : سَرَى ، ومنه { والليل إِذَا
يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] ، وأَسْرى ، ومنه : { سُبْحَانَ الذي أسرى } [ الإسراء : 1
] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور . فقيل : هما بمعنى واحدٍ ،
وهو قول أبي عبيد . وقيل : بل أَسْرى لأولِ الليل ، وسَرَى لآخره ، وهو قولُ الليث
، وأمَّا سار فمختص بالنهار ، وليس مقلوباً مِنْ سَرى .
قوله : { بِأَهْلِكَ } يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للتعدية ، وأن تكونَ للحال أي :
مصاحباً لهم . وقوله : « بقِطْعٍ » حال من « أهلك » أي : مصاحبين لقِطْع ، على أن
المرادَ به الظلمة . وقيل : الباء بمعنى « في » . والقِطْع هنا نصف الليل ، لأنه
قطعةٌ منه مساويةٌ لباقيه ، وأنشدوا :
2696 ونائحةٍ تَنُوْحُ بقِطْعِ ليلِ ... على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد
وقد تقدَّم الكلامُ على القِطْع في يونس بأشبع من هذا .
قوله : { إِلاَّ امرأتك } ابن كثير وأبو عمرو برفع « امرأتك » والباقون بنصبها .
وفي هذه الآية الكريمة كلامٌ كثيرٌ لا بد من استيفائه . أمَّا قراءة الرفع ففيها
وجهان ، أشهرُهما عند المعربين : أنَّه على البدل من « أحد » وهو أحسن من النصب ،
لأنَّ الكلام غيرُ موجَب . وهذا الوجهُ قد رَدَّه أبو عبيد بأنه يَلْزَمُ منه أنهم
نُهوا عن الالتفات إلا المرأة ، فإنها لم تُنْهَ عنه ، وهذا لا يجوزُ ، ولو كان
الكلامُ « ولا يلتفت » برفع « يلتفت » يعني على أنْ تكونَ « لا » نافيةً ، فيكون
الكلام خبراً عنهم بأنهم لم يَلْتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت ، لكان الاستثناء
بالبدلية واضحاً ، لكنه لم يقرأ برفع « يلتفت » أحد .
وقد استحسن ابنُ عطيةَ هذا الإِلزامَ من أبي عبيد ، وقال : « إنه وارِدٌ على القول
باستثناءِ المرأة من » أحد « سواءً رَفَعْتَ المرأة أو نَصَبْتها » . قلت : وهذا
صحيحٌ ، فإن أبا عبيد لم يُرِد الرفعَ لخصوصِ كونه رفعاً ، بل لفسادِ المعنى ،
وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من « أحد » ، وأبو عبيد يُخَرِّج النصبَ على
الاستثناء من « بأهلك » ، ولكنه يَلْزم من ذلك إبطالُ قراءة الرفع ، ولا سبيلَ إلى
ذلك لتواترها .
وقد انفصل المبردُ عن هذا الإِشكالِ الذي أورده أبو عبيد بأن النهيَ في اللفظ ل «
أحد » وهو في المعنى للوط عليه السلام ، إذ التقدير : لا تَدَعْ منهم أحداً يلتفت
، كقولك لخادمك : « لا يَقُمْ أحدٌ » النهيُ لأحد ، وهو في المعنى للخادم ، إذ
المعنى : « لا تَدَعْ أحداً يقوم » .
قلت
: فآل الجواب إلى أنَّ المعنى : لا تَدَعْ أحداً يلتفت إلا امرأتك فَدَعْها تلتفت
، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : « لا تَدَعْ أحداً يقوم إلا زيداً ، معناه :
فَدَعْه يقوم . وفيه نظر؛ إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب
منه هنا .
والثاني : أن الرفعَ على الاستثناءِ المنقطع ، والقائلُ بهذا جعل قراءةَ النصبِ
أيضاً من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حَدٍّ سواء ، ولنسْرُدْ كلامه
لنعرفَه فقال : » الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يُقْصَدْ
به إخراجُها من المأمور بالإِسراء معهم ، ولا من المنهيين عن الالتفاتِ ، ولكن
استؤنف الإِخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتَك يَجْري لها كذا وكذا ، ويؤيد هذا
المعنى أن مثلَ هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناءٌ البتةَ ، قال
تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } الآية . فلم تقع العنايةُ في ذلك إلا بذكر مَنْ
أنجاهم اللَّه تعالى ، فجاء شرح حالِ امرأتِه في سورة هود تبعاً لا مقصوداً
بالإِخراج مما تقدم ، وإذا اتضح هذا المعنى عُلم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه
العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصب والرفع ، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه
الأكثر ، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء « . قال الشيخ : » وهذا الذي
طوَّل به لا تحقيقَ فيه ، فإنه إذا لم يُقْصَدْ إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم
ولا من/ المَنْهِيِّين عن الالتفاتِ ، وجُعل استثناءً منقطعاً ، كان من المنقطع
الذي لم يتوجَّهْ عليه العاملُ بحال ، وهذا النوع يجب فيه النصبُ على كلتا اللغتين
، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجُّهُ العاملِ عليه ، وفي كلا النوعين يكون ما
بعد « إلا » من غير الجنس المستثنى ، فكونُه جازَ في اللغتان دليل على أنه يمكن أن
يتوجَّه عليه العامل ، وهو قد فرض أنه لم يُقْصَدْ بالاستثناء إخراجُها من المأمور
بالإِسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات ، فكان يجب فيه إذ ذاك النصبُ قولاً
واحداً « .
[ قلت : القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة ] . وأمَّا قولُه : » إنه لم
يتوجَّهْ عليه العامل « ليس بمسلَّم ، بل يتوجَّه عليه في الجملة ، والذي قاله
النحاة ممَّا لم يتوجَّهْ عليه العاملُ من حيث المعنى نحو : ما زاد إلا ما نقص ،
وما نفع إلا ما ضر ، وهذا ليس مِنْ ذاك ، فكيف يُعْترض به على أبي شامة؟ .
وأمَّا النصبُ ففيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مستثنى مِنْ » بأهلك « ، واستَشْكلوا
عليه إشكالاً من حيث المعنى : وهو أنه يلزم ألاَّ يكونَ سَرَى بها ، لكن الفرضِ
أنه سرى بها ، يدلُّ عليه أنها التفتَتْ ، ولو لم تكن معهم لمَا حَسُن الإِخبار
عنها بالالتفات ، فالالتفاتُ يدلُّ على كونها سَرَتْ معهم قطعاً .
وقد
أُجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها ، ولكن لمَّا سَرَى هو وبنتاه تَبِعَتْهم فالتفتت
، ويؤيِّد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد اللَّه وسقط مِنْ مصحفه « فَأَسْر
بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك » ولم يذكر قوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ
أَحَدٌ } .
والثاني : أنه مستثنى مِنْ « أحد » وإن كان الأحسنُ الرفعَ إلا أنه جاء كقراءة ابن
عامر { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] بالنصبِ مع
تقدُّم النفي الصريح . وقد تقدَّم لك هناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن ههنا .
والثالث : أنه مستثنى منقطعٌ على ما قدَّمْتُه عن أبي شامة . وقال الزمخشري : «
وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنه أخرجها معهم ، وأُمِرَ أَنْ لا يلتفتَ منهم
أحد إلا هي ، فلما سَمِعَتْ هِدَّة العذاب التفتَتْ وقالت : يا قوماه ، فأدركها
حجرٌ فقتلها ، ورُوي أنه أُمِر بأن يُخَلِّفَها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم
يَسْرِ بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين » .
قال الشيخ : « وهذا وهمٌ فاحشٌ ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين مِنْ أنه
سرى بها أو لم يَسْرِ بها ، وهذا تكاذُبٌ في الإِخبار ، يستحيل أن تكن القراءتان
وهما مِنْ كلام اللَّه تعالى يترتبان على التكاذب » . قلت : وحاشَ للَّه أن تترتب
القراءتان على التكاذُب ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ ، الفرض أنه قد جاء في
التفسير القولان ، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ ، لأنَّ مَنْ قال إنه سرى بها يعني
أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر ، ثم أخذها العذاب فانقطع
سُراها ، ومن قال إنه لم يَسْرِ بها ، أي : لم يَأْمرها ولم يأخذها وأنه لم يَدُم
سُراها معهم بل انقطع فَصَحَّ أن يقال : إنه سَرَى بها ولم يَسْرِ بها ، وقد أجاب
الناسُ بهذا وهو حسنٌ .
وقال الشيخ أبو شامة : « ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ ، وذلك أن
يكون في الكلام اختصارَ نَبَّهَ عليه اختلافُ القراءتين فكأنه قيل : فَأَسْرِ
بأهلِك إلا امرأتك ، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد اللَّه هكذا ،
وليس فيها { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } فهذا دليلٌ على استثنائها مِن
السُّرى بهم ، ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجَتْ معكم وتَبِعَتْكم غيرَ أن تكونَ
أنت سَرَيْتَ بها فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرَها ، فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصاب
قومها ، فكانت قراءةُ النصب دالَّةً على المعنى المتقدم ، وقراءةُ الرفع دالَّةً
على المعنى المتأخر ، ومجموعُهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح » وهو كلامٌ حسنُ
شاهدٌ لِما ذكرته .
قوله : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا } الضميرُ ضمير الشأن ، و « مُصيبها » خبرٌ مقدم ، و
« ما أصابهم » مبتدأ مؤخر وهو موصولٌ بمعنى الذي ، والجملة خبرُ إنَّ؛ لأن ضمير
الشأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزْأَيْها .
وأعرب
الشيخ « مُصيبها » مبتدأً ، و « ما أصابهم » الخبر ، وفيه نظرٌ من حيث الصناعة :
فإن الموصولَ معرفة ، فينبغي أن يكونَ المبتدأ و « مُصيبها » نكرةً لأنَّه عامل
تقديراً فإضافتُه غيرُ محضةٍ ، ومن حيث المعنى : إنَّ المراد الإِخبار عن الذي
أصابهم أنه مُصِيبها من غيرِ عكسٍ ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ « مصيبُها »
مبتدأً ، و « ما » / الموصولةُ فاعلٌ لأنهم يُجيزون أن يُفَسَّر ضميرُ الشأنِ
بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو : « إنه قائمٌ أبواك » .
قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ } ، أي : موعد هلاكهم . وقرأ عيسى بن عمر « الصبح »
بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباعٌ ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك .
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
قوله تعالى : { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } : مفعولا الجعل الذي بمعنى التصيير ، و « سِجِّيل » قيل : هو في الأصل مركَّب من : « سكر كل » وهو بالفارسية حجر وطين فعُرِّب وغُيِّرت حروفهُ . وقيل : سِجِّيل اسمٌ للسماء وهو ضعيف أو غلط؛ لوصفه بمَنْضود . وقيل : مِنْ أَسْجَلَ ، أي : أرسل فيكون فِعِّيلاً ، وقيل : هو مِن التسجيل ، والمعنى : أنه مِمَّا كتب اللَّهُ وأَسْجل أن يُعَذَّب به قوم لوط ، وينصرُ الأولَ تفسيرُ ابن عباس أنه حجرٌ وطين كالآجرّ المطبوخ ، وعن أبي عبيد هو الحجر الصُّلْب . و « منضود » صفةٌ لسِجِّيل . والنَّضْدُ : جَعْلُ الشيءِ بعضَه فوقَ بعضٍ ، ومنه { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [ الواقعة : 29 ] ، أي : متراكب ، والمرادُ وصفُ الحجارة بالكثرة .
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
و
« مُسَوَّمة » نعتٌ لحجارة ، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوَصْفِ غير الصريح على الصريح
لأنَّ « مِنْ سجيل » صفةٌ لحجارة ، والأَوْلى أن يُجْعل حالاً من حجارة ، وسوَّغ
مجيئَها مِن النكرة تخصُّصُ النكرة بالوصف . والتَّسْويم . العلامَةُ . قيل :
عُلِّم على كلِّ حجرٍ اسمُ مَنْ يرمى به ، وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران . و « عند
» : إمَّا منصوبٌ ب « مُسَوَّمة » ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها صفة ل « مُسَوَّمة »
.
قوله : { وَمَا هِيَ } الظاهرُ عَوْدُ هذا الضمير على القرى المُهْلَكة . وقيل :
يعودُ على الحجارة وهي أقربُ مذكور . وقيل : يعودُ على العقوبة المفهومة من السياق
. ولم يُؤَنِّث « ببعيد » : إمَّا لأنه في الأصلِ نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره : وما
هي بمكان بعيدٍ بل هو قريبٌ ، والمرادُ به السماء أو القرى المهلَكة ، وإمَّا لأن
العقوبةَ والعقابَ واحد ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذاب أو بشيءٍ بعيد .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَنقُصُواْ } : « نَقَصَ » يتعدَّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ،
وإلى ثانيهما بحرف الجر ، وقد يُحْذَفُ ، تقول : نَقَصْت زيداً مِنْ حقَّه ، وهو
هنا كذلك؛ إذ المرادُ : ولا تَنْقُصوا الناسَ من المكيال ، ويجوز أن يكون
متعدِّياً لواحدٍ على المعنى ، والمعنى : لا تُقَلِّلوا وتُطَفِّفوا ، ويجوز أن
يكون « المكيالَ » مفعولاً أول والثاني محذوف ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا
تَنْقُصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وَجَبَ لهما وهو أبلغُ في الأمر
بوفائهما .
قوله : { مُّحِيطٍ } صفة لليوم ، ووُصِف به من قولهم : أحاط به العدوُّ ، وقوله :
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] . قال الزمخشري : « إنَّ وَصْفَ اليوم
بالإِحاطة أبلغُ مِنْ وصف العذاب بها » قال : « لأنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على
الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط
بنعيمه » .
وزعم قومٌ أنه جُرَّ على الجِوار ، لأنه في المعنى صفةٌ للعذاب ، والأصلُ : عذاب
يوم محيطاً . وقال آخرون : التقدير : عذاب يومٍ محيطٍ عذابُه . قال أبو البقاء : «
وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جَرَى على غير مَنْ هوله ، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً
إلى ضمير الموصوف .
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
قوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } : قال ابن عطية : « وجواب هذا الشرط متقدم » يعني على مذهب مَنْ يراه لا على [ مذهب ] جمهور البصريين . والعامَّة على تشديد ياء « بقيَّة » . وقرأ إسماعيل بن جعفر من أهل المدينة بتخفيفها . قال ابن عطية : « وهي لغةٌ » . وهذا لا ينبغي أن يُقال ، بل يُقال : إنْ لم يُقْصد الدلالةُ على المبالغة جيء بها مخففةً ، وذلك أن فَعِل بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصفة منه فَعِل بكسر العين نحو : سَجِيَت المرأة فهي سَجِيَة فإن قَصَدْت المبالغة قيل : سَجِيَّة لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك بقيَّة وبَقِية أي بالتشديد والتخفيف .
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
وتقدم
الخلاف في قوله « أصلاتك » بالنسبة إلى الإِفراد والجمع في سورة براءة .
قوله { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } العامة على نون الجماعة أو التعظيم في « نفعل » و «
نشاء » . وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة والضحاك بن قيس بتاء الخطاب فيهما . وقرأ
أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء ، فَمَنْ قرأ بالنون فيهما
عَطفه على مفعول « نترك » وهو « ما » الموصولةُ/ ، والتقدير : أصلواتُك تأمركَ أن
نَتْرُكَ ما يعبدُ آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاء ، وهو بَخْسُ
الكَيْل والوَزْنِ المقدَّم ذكرُهما . و « أو » للتنويع أو بمعنى الواو ، قولان ،
ولا يجوز عَطْفُه على مفعول « تأمرك »؛ لأن المعنى يتغير ، إذ يصير التقدير :
أصلواتُك تأمُرك أن نفعلَ في أموالنا .
ومَنْ قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكونَ معطوفاً على مفعول « تأمرك » ، وأن يكونَ
معطوفاً على مفعول « نترك » ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما
تشاء أنت ، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما
تشاء أنت .
ومَنْ قرأ بالنون في الأول وبالتاء في الثاني كان « أن نفعل » معطوفاً على مفعول «
تأمرك » ، فقد صار ذلك ثلاثةَ أقسام ، قسمٍ يتعينَّ فيه العطفُ على مفعول « نترك »
وهي قراءةُ النونِ فيهما ، وقسمٍ يتعيَّن فيه العطفُ على مفعول « تأمرك » ، وهي
قراءةُ النون في « نفعل » والتاء في « تشاء » ، وقسمٍ يجوز فيه الأمران وهي قراءةُ
التاء فيهما . والظاهرُ من حيث المعنى في قراءة التاء فيهما أو في « تشاء » أن
المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما . وقال
الزمخشري : « المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأنَّ الإِنسان لا
يُؤْمَرُ بفعل غيره » .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
قوله
تعالى : { أَرَأَيْتُمْ } : قد تقدَّم ذلك غيرَ مرة . وقال الزمخشري هنا : « فإنْ
قلت : أين جوابُ » أرأيتم « وما له لم يَثْبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ قلت :
جوابُه محذوفٌ ، وإنما لم يَثْبُتْ لأن إثباتَه في القصتين دلَّ على مكانه ، ومعنى
الكلام ينادي عليه ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين مِنْ ربي و [
كنت ] نبياً على الحقيقة ، أيصحُّ أنْ لا آمرَكم بترك عبادة الأوثان والكفِّ عن
المعاصي ، والأنبياءُ لا يُبْعَثون إلا لذلك؟ » .
قال الشيخ : « وتَسْمِيَةُ هذا جواباً ل » أرأيتم « ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملةُ
التي قَدَّرها في موضع المفعول الثاني ل » أرأيتم « [ لأن أرأيتم ] إذا ضُمِّنَتْ
معنى أخبرني تعدَّتْ إلى مفعولين ، والغالبُ في الثاني أن يكون جملةُ استفهاميةً
ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العرب : » أرأيتك
زيداً ما صنع « وقال الحوفي : » وجوابُ الشرط محذوفُ لدلالة الكلام عليه تقديره :
أأَعْدِل عَمَّا أنا عليه « . وقال ابن عطية : » وجوابُ الشرط الذي في قوله « أن
كنت » محذوفٌ تقديره : أضِلُّ كما ضَلَلْتُمْ أو أترك تَبْليغ الرسالة ، ونحو هذا
ممَّا يليق بهذه المحاجَّة « . قال الشيخ : » وليس قوله « أضلّ » جواباً للشرط؛
لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكونَ جواباً لأنه لا يترتَّب على الشرط ، وإن كان
استفهاماً حُذف منه الهمزةُ فهو في موضع المفعول الثاني ل « أرأيتم » ، وجوابُ
الشرط محذوفٌ يدل عليه الجملةُ السابقة مع متعلَّقها .
قوله : { أَنْ أُخَالِفَكُمْ } قال الزمخشري : « خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده
وأنت مُوَلٍّ عنه ، وخالفني عنه : إذا ولى عنه وأنت قاصدُه ، ويلقاك الرجل صادراً
عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : » خالَفَني إلى الماء « ، يريد أنه ذاهب إليه
وارداً ، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً ، ومنه قولُه تعالى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ
أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسْبِقَكم إلى شهواتكم التي
نَهَيْتُكم عنها لأستبدَّ بها دونكم » . وهذا الذي ذكره أبو القاسم معنى حسنٌ لطيف
ولم يتعرَّض لإِعرابِ مفرداته ، لأنَّ بفهم المعنى يُفهم الإِعراب ولنذكر ما فيه :
فأقول : يجوز أن يكونَ « أن أخالفَكم » في موضع مفعولٍ ب « أريد » ، أي : وما
أريدُ مخالفتَكم ، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحو : جاوَزْتُ الشيءَ وجُزْته ، أي :
وما أريد أن أخالفكم ، أي : أكونَ خَلَفاً منكم . وقولُه : { إلى مَآ أَنْهَاكُمْ
} يتعلَّق ب « أخالفكم » ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال ، أي : مائلاً إلى
ما أنهاكم عنه ، ولذلك قدَّر بعضُهم محذوفاً يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديرُه :
وأميل إلى أن أخالفكم ، ويجوز أن يكونَ « أن أخالفكم » مفعولاً من أجله ، وتتعلق «
إلى » بقوله « أريد » بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك
قال الزجاج : « وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه .
ويجوز
أن يُراد بأن أخالفكم معناه من المخالفة ، وتكون في موضع المفعول به بأريد ،
ويقدَّر مائلاً إلى .
قوله : { مَا استطعت } يجوز في « ما » هذه وجوه ، أحدها : أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً
أي : مدة استطاعتي . الثاني : أن تكون « ما » موصولة بمعنى الذي بدلاً من «
الإِصلاح » والتقدير : إنْ أريد إلا المقدارَ الذي أستطيعه من الصلاح . الثالث :
أن يكونَ على حَذْف مضاف ، أي : إلا الإِصلاحَ إصلاحَ ما استطعت ، وهو أيضاً بدل .
الرابع : / أنها مفعول بها بالمصدرِ المُعَرَّف ، أي : إنْ أريد إلا أن أُصْلح ما
استطعت إصلاحَه كقوله :
2697 ضعيفُ النِّكايةِ أعداءَه ... يخالُ الفِرارُ يُراخي الأجَلْ
ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ الزمخشري ، إلا أن إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند
البصريين ، ممنوعٌ إعمالُه في المفعول به عند الكوفيين . وتقدم الجارَّان في «
عليه » و « إليه » للاختصاص أي : عليه لا على غيره ، وإليه لا إلى غيره .
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
قوله
تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } : العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم
ثلاثياً . وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمِّها مِنْ أجرم . وقد تقدم أنَّ « جَرَمَ »
يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب ، فيقال : جَرَم زيدٌ مالاً نحو : كَسَبه ،
وجَرَمْتُه ذَنْباً ، أي : كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب ، وأنشد الزمخشري على
تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر :
2698 ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً ... جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول ، والثاني هو : أن يُصيبكم أي : لا
تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب . وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً ، أو
بينهما فرق . ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير .
والعامَّةُ أيضاً على ضم لام « مثلُ » رفعاً على أنه فاعل « يُصيبكم » ، وقرأ
مجاهد والجحدري بفتحها ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل
كحاله في القراءة المشهورة ، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله
تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ]
وكقوله :
2699 لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ ... حَمامةٌ في غُصون ذات
أَوْقالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام . والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف
فالفتحة للإِعراب ، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام ، أي : يصيبكم
العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ .
قوله : { بِبَعِيدٍ } أتى ب « بعيد » مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ :
إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه : وما إهلاك قومٍ ، وإمَّا باعتبار زمان ، أي : بزمانٍ
بعيد ، وإما باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد ، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما ، أي
: بشيءٍ بعيد ، كذا قدَّره الزمخشري ، وتبعه الشيخ ، وفيه إشكالٌ من حيث إنَّ
تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة . وقال الزمخشري أيضاً : «
ويجوز أن يسوى في » قريب « و » بعيد « و » قليل « و » كثير « بين المذكر والمؤنث
لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما » .
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
والوَدُود بناءُ مبالغة مِنْ وَدَّ الشيءَ يَوَدُّه وُدَّاً ، ووِداداً ، ووِدادَةً وودَادة أي أَحبَّه وآثره . والمشهور وَدِدْت بكسر العين ، وسمع الكسائي وَدَدْت بفتحها ، والوَدود بمعنى فاعل أي يَوَدُّ عبادَه ويرحمهم . وقيل : بمعنى مفعول بمعنى أن عبادَه يحبُّونه ويُوادُّون أولياءَه ، فهم بمنزلة « المُوادُّ » مجازاً .
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
والرَّهْط
جماعةُ الرجل . وقيل : الرَّهْط والرَّاهط لِما دون العشرة من الرجال ، ولا يقع
الرَّهْطُ والعَصَب والنَّفَر إلا على الرجال . وقال الزمخشري : « من الثلاثة إلى
العشرة ، وقيل : إلى السبعة » ويُجْمع على أَرْهُط ، وأَرْهُط على أراهِط قال :
2700 يا بُؤْسَ للحَرْب التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
قال الرمَّاني : « وأصلُ الكلمة من الرَّهْط ، وهو الشدُّ ، ومنه » التَّرْهيط «
وهو شدَّةُ الأكل » والرَّاهِطاء اسم لجُحْر من جِحَرة اليَرْبوع لأنه يَتَوَثَّقُ
به ويَحْيَا فيه أولادُه .
قوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } قال الزمخشري : « وقد دلَّ إيلاءُ
ضميرِه حرفَ النفي على أنَّ الكلامَ واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنه قيل : وما
أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا ، فلذلك قال في جوابهم : { أرهطي
أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله } ولو قيل : » وما عَزَزْتَ علينا « لم يصحَّ هذا
الجواب » .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
قوله
تعالى : { واتخذتموه } : يجوز أن تكونَ المتعدية لاثنين ، أولهما الهاء ، والثاني
« ظِهْرِيَّا » . ويجوز أنْ يكونَ الثاني هو الظرف و « ظِهْرِياً » حالٌ ، وأن
تكونَ المتعدية لواحد ، فيكون « ظِهْرِيَّاً » حالاً فقط . ويجوز في « وراءكم » أن
يكونَ ظرفاً للاتخاذ ، وأن يكونَ حالاً مِنْ « ظهريَّاً » ، والضمير في « اتخذتموه
» يعود على اللَّه؛ لأنهم يجهلون صفاتِه ، فجعلوه أي : جعلوا أوامره ظِهْريَّاً ،
أي : منبوذَةً وراء ظهورهم .
والظِهْرِيُّ : هو المنسوبُ إلى الظَّهِيْر وهو مِنْ تغييرات النسب كما قالوا في
أَمْس : إمْسِيّ بكسر الهمزة ، وإلى الدَّهْر : دُهْرِيّ بضم الدال .
وقيل : الضمير يعودُ على العصيان ، أي : واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي ،
فالظِّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعِين المُقَوِّي .
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قوله تعالى : { مَن يَأْتِيهِ } : قد تقدَّم نظيرُه في قصة نوح . قال ابن عطية بعد أن حكى عن الفراء أن تكون موصولةً مفعولةً ب « تَعْلمون » ، وأن تكونَ استفهاميةً مبتدأة مُعَلِّقة ل « تعلمون » : « والأول أحسن » ثم قال : « ويَقْضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة » . قال الشيخ : « لا يتعيَّن ذلك ، إذ من الجائز أن تكونَ الثانيةُ استفهاميةً أيضاً معطوفةً على الاستفهامية قبلها ، والتقدير : سوف تعلمون أيُّنا يأتيه/ عذابٌ ، وأيُّنا هو كاذبٌ . وقال الزمخشري : » فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين إدخالِ الفاء ونَزْعها في « سوف تعلمون »؟ قلت : إدخالُ الفاءِ وَصْلٌ ظاهر بحرفٍ موضوعٍ للوصل ، ونَزْعُها وَصْلٌ خفيٌّ تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عَمِلْنا نحن على مكانتنا وعَمِلْتَ أنت على مكانتك؟ فقيل : سوف تعلمون ، فَوَصَلَ تارةً بالفاء وتارةً بالاستئناف للتفنن في البلاغة ، كما هو عادةُ البلغاء من العرب ، وأقوى الوصلين وأبلغُهما الاستئنافُ ، وهو بابٌ من علم البيان تتكاثرُ محاسِنُه « .
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } : قال الزمخشري : « فإن قلت : ما بال ساقَتَي قصة عاد وقصة مَدْين جاءتا بالواو ، والساقتان الوُسْطَيان بالفاء؟ قلت : قد وقعتْ الوُسْطَيان بعد ذِكْر الوعد ، وذلك قوله { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } ، { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقول : » وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت « ، وأمَّا الأُخْرَيان فلم تقعا بتلك المنزلة ، وإنما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تُعْطَفا بحرف الجمع على ما قبلهما ، كما تُعْطَفُ قصة على قصة » ، وهذا من غُرَر كلام الزمخشري .
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
قوله
تعالى : { فَأَوْرَدَهُمُ } : يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب الإِعمال ، وذلك
أنَّ « يَقْدُمُ » يَصْلُح أن يتسلَّط على « النار » بحرف الجر ، أي : يَقْدم
قومَه إلى النار ، وكذا « أَوْرَدَهم » يَصِحُّ تسلُّطه عليها أيضاً ، ويكون قد
أعمل الثاني للحذف مِن الأول ، ولو أعمل الأولَ لتعدى ب إلى ، ولأضمر في الثاني ،
ولا محلَّ ل « أَوْرَدَ » لاستئنافِه ، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنىً؛ لأنه عَطَفَ
على ما هو نصٌّ في الاستقبال . والهمزة في « أَوْرَدَ » للتعدية ، لأنه قبلها
يتعدَّى لواحد . قال تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } وقيل : أوقع
الماضي هنا لتحقُّقه . وقيل : بل هو ماضٍ على حقيقته ، وهذا قد وقع وانفصل وذلك
أنه أوردهم في الدنيا النار . قال تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [ غافر
: 46 ] . وقيل : أوردهم مُوْجِبَها وأسبابها ، وفيه بُعْدٌ لأجلِ العطف بالفاء .
والوِرْد : يكون مصدراً بمعنى الوُرود ، ويكون بمعنى الشيء المُوْرَد كالطِّحن
والرِّعي . ويُطلب أيضاً على الوارد ، وعلى هذا إنْ جَعَلْت الوِرْد مصدراً أو
بمعنى الوارد فلا بدَّ مِنْ حذف مضاف تقديره : وبئس مكانُ الورد المورود ، وهو
النار ، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنَّ تَصادُقَ فاعل نِعْمَ وبِئْسَ
ومخصوصِها شرطٌ ، لا يُقال : نِعْم الرجلُ الفرسَ . وقيل : بل المورود صفةً
للوِرْد ، والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره : بئس الوِرْدُ المورود النارُ ، جوَّز من
ذلك أبو البقاء وابن عطية ، وهو ظاهرُ كلامِ الزمخشري . وقيل : التقدير : بئسَ
القومُ المورودُ بهم هم ، فعلى هذا « الورد » مرادٌ به الجمعُ الواردون ،
والمَوْرود صفةٌ لهم ، والمخصوص بالذمِّ الضميرُ المحذوف وهو « هم » ، فيكون ذلك
للواردين لا لموضع الوِرْد/ كذا قاله الشيخ . وفيه نظر لا يَخْفى : كيف يُراد
بالوِرْد الجمع الواردون ، ثم يقول والمورود صفةٌ لهم؟ وفي وصف مخصوص نعم وبئس
خلافٌ بين النحويين منعه ابن السراج وأبو علي .
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
و
{ بِئْسَ الرفد المرفود } كالذي قبله . وقوله : « ويومَ القيامة » عطفٌ على موضع «
في هذه » والمعنى : أنهم أُلْحِقُوا لعنةً في الدنيا وفي الآخرة ، ويكون الوقف على
هذا تاماً ، ويُبتدأ بقوله « بِئْس » .
وزعم جماعة أن التقسيم : هو أنَّ لهم في الدنيا لعنة ، ويومَ القيامة بِئْس ما
يُرْفَدون به ، فهي لعنة واحدة أولاً وقَبُح إرفاد آخِرا . وهذا لا يصحُّ لأنه
يؤدي إلى إعمال « بئس » فيما تقدَّم عليها وذلك لا يجوز لعدم تصرُّفها ، أمّا لو
تأخَّر لجاز كقوله :
2705 ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا ... دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في
الذُّعْرِ
وأصلُ الرِّفْد كما قال الليث : العطاء والمعونة ، ومنه رِفادة قريش ، رَفَدْتُه
أَرْفِدُه رِفْداً ورَفْداً بكسر الراء وفتحها : أعطيتَه وأَعَنْتَه . وقيل :
بالفتح مصدر ، وبالكسر اسم ، كأنه نحو : الرِّعْي والذِّبْح . ويقال : رَفَدْت
الحائط ، أي : دَعَمْتُه ، وهو من معنى الإِعانة .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
قوله
تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ } : يجوز أن يكون « نقصُّه »
خبراً ، و « مِنْ أبناء » حال ، ويجوز العكس ، قيل : وثَمَّ مضافٌ محذوف ، أي : من
أنباء أهل القرى ولذلك أعاد الضمير عليها في قوله « وما ظلمْناهم » .
قوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } : « حصيد » مبتدأ محذوفُ الخبر ، لدلالةِ
خبر الأول عليه ، أي : ومنها حصيد وهذا لضرورةِ المعنى .
وهل لهذه الجملةِ محلٌّ من الإِعراب؟ فقال الزمخشري : « لا محلَّ لها لأنها
مستأنفةٌ » . وقال أبو البقاء : « إنها في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول »
نَقُصُّه « .
ويجوز في » ذلك « أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ وقد تقدم . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ
مقدر يفسِّره » نقصُّه « فهو من باب الاشتغال ، أي : نَقُصُّ ذلك في حال كونه من
أنباء القرى ، وقد تقدَّم في قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ
} [ آل عمران : 44 ] أوجه ، وهي عائدةٌ هنا .
و » الحَصِيد « بمعنى محصود ، وجمعه : حصدى وحِصاد مثل مريض ومرضى ومِراض ، وهذا
قول الأخفش ، ولكن باب فعيل وفَعْلَى أن يكونَ في العقلاء نحو : قتيل وقَتْلَى .
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
قوله تعالى : { لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ } : قال الزمخشري : « لما » منصوب ب « أَغْنَتْ » . وهو بناءً منه على أنَّ « لمَّا » ظرفية . والظاهر أنَّ « ما » نافية ، أي : لم تُغْن . ويجوز أن تكونَ استفهاميةً ، و « يَدْعون » حكاية حال ، أي : التي كانوا يَدْعون ، و « ما زادوهم » الضميرُ المرفوع للأصنام ، والمنصوبُ لعَبَدَتِها ، وعبَّر عنهم بواوِ العقلاء لأنهم نَزَّلوهم منزلتَهم .
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قوله
تعالى : { وكذلك } : خبرٌ مقدم ، و « أَخْذُ » مبتدأ مؤخر ، والتقدير : ومثْلُ ذلك
الأَخْذِ اللَّهِ الأمم السالفة أَخْذُ ربك . و « إذا » ظرف مُتَمَحِّض ، ناصبُه
المصدر قبله وهو قريبٌ مِنْ حكاية الحال ، والمسألةُ من باب التنازع فإنَّ
الأَخْذَ يَطْلب « القرى » ، و « أَخَذَ » الفعل أيضاً يطلبها ، وتكون المسألة من
إعمال الثاني للحذف من الأول .
وقرأ أبو رجاء والجحدري : « أَخَذ ربك ، إذ أَخَذَ » جَعَلَهما فعلين ماضيين ، و «
ربُّك » فاعل . وقرأ طلحة بن مصرف كذلك ، إلا أنه ب « إذا » كالعامَّة قال ابن
عطية : « وهي قراءةٌ متمكنة المعنى ، ولكن قراءة الجماعة تُعْطي الوعيد واستمراره
في الزمان ، وهو الباب في وَضْع المستقبل مَوْضِعَ الماضي » .
وقوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملةٌ حالية .
والتَّتْبيب : التَّخْسيرُ يقال : تَبَّبَ غيرُه فتبَّ هو بنفسه ، فيُستعمل لازماً
ومتعدياً ، ومنه { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] .
وتبَّبْتُه تَتْبِيباً ، أي : خَسَّرْته تخسيراً . قال لبيد :
2706 - ولقد بَلِيْتُ وكلُّ صاحبِ جِدَّةٍ ... لِبِلىً يعودُ وذاكمُ التَّتْبيبُ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
قوله
تعالى : { ذلك يَوْمٌ } : « ذلك » إشارةٌ إلى يوم القيامة ، المدلولِ عليه بالسياق
من قوله : « عذابَ الآخرة » . و « مجموع » صفةٌ ل « اليوم » جَرَتْ على غير مَنْ
هي له فلذلك رَفَعَت الظاهرَ وهو « الناس ، وهذا هو الإِعراب نحو ، مررت برجلٍ
مضروبٍ غلامُه » . وأعرب ابن عطية « الناس » مبتدأ مؤخراً و « مجموع » خبره مقدماً
عليه ، وفيه ضعف؛ إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون ، كما يقال : الناس قائمون
ومضروبون ، ولا يقال : قائم ومضروب إلا بضعف . وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد ،
إذ الجملةُ صفة لليوم ، وهو الهاء في له ، أي : الناس مجموع له ، و « مشهود »
متعيِّنٌ لأن يكونَ صفة فكذلك ما قبله .
وقوله : { مَّشْهُودٌ } من بابِ الاتساعِ في الظرف/ بأنْ جَعَلَه مشهوداً ، وإنما
هو مشهودٌ فيه ، وهو كقوله :
2707 ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً ... قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافلُهْ
والأصل : مشهود فيه ، وشَهِدْنا فيه ، فاتُّسِع فيه بأنْ وَصَل الفعلُ إلى ضميره
من غير واسطة ، كما يصل إلى المفعول به . قال الزمخشري : « فإن قلت : أيُّ فائدة
في أن أوثر اسمُ المفعول على فِعْله؟ قلت : لِما في اسم المفعول من دلالته على
ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنَّه لا بد أن يكونَ ميعاداً مضروباً لجمع الناس له ،
وأنه هو الموصوفُ بذلك صفةً لازمة » .
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
والضمير في « نُؤَخِّره » يعودُ على « يوم » . وقال الحوفي : « على الجزاء » . وقرأ الأعمش : « وما يُؤَخِّره » ، أي اللَّه تعالى .
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
وقرأ
أبو عمرو والكسائي ونافع « يأتي » بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً . وقرأ ابن
كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً ، وباقي السبعة قرؤوا بحذفها وصلاً ووقفاً . وقد
وَرَدَت المصاحف بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أُبَي إثباتُها ، وفي مصحف عثمان
حَذْفُها ، وإثباتُها هو الوجه لأنها لام الكلمة وإنما حذفوها في القوافي والفواصل
لأنها محلُّ وقوف وقالوا : لا أَدْرِ ، ولا أبالِ . وقال الزمخشري : « والاجتزاءُ
بالكسرة عن الياءِ كثيرٌ في لغة هُذَيْل » وأنشد ابن جرير في ذلك :
2708 كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهماً ... جُوْداً وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما
والناصبُ لهذا الظرف فيه أوجه ، أحدها : أنه « لا تَكَلَّمُ » والتقدير : لا
تَكَلَّمُ نفسٌ يومَ يأتي ذلك اليوم . وهذا معنى جيد لا حاجةَ إلى غيره . والثاني
: أن ينتصب ب « واذكر » مقدراً . والثالث : أن ينتصبَ بالانتهاءِ المحذوفِ في قوله
: « إلا لأجل » ، أي : ينتهي الأجل يوم يأتي . والرابع : أنه منصوبٌ ب « لا
تَكَلَّم » مقدَّراً ، ولا حاجةَ إليه .
والجملةُ من قوله : « لا تَكَلَّمُ » في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اليوم
المتقدم في « مشهود » ، أو نعتاً له لأنه نكرة . والتقدير : لا تَكَلَّم نفسٌ فيه
إلا بإذنه ، قاله الحوفي وقال ابن عطية : « لا تكلَّم نفسٌ » يَصِحُّ أن تكون
جملةً في موضع الحال من الضمير الذي في « يأتي » وهو العائد على قوله : « ذلك يومٌ
» ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره : لا تَكَلَّم نفسٌ فيه ، ويصح أن يكون قوله
: { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } صفةً لقوله : « يوم يأتي » .
وفاعلُ « يأتي » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه ضميرُ « يوم » المتقدِّم . والثاني :
أنه ضمير اللَّه تعالى كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله }
[ البقرة : 210 ] وقوله : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } والضميرُ في قوله : « فمنهم »
الظاهر عَوْدُه على الناس في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } . وجعله الزمخشري
عائداً على أهلِ الموقف وإن لم يُذْكَروا ، قال : « لأنَّ ذلك معلومٌ؛ ولأن قوله :
{ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } يدلُّ عليه » ، وكذا قال ابنُ عطية .
قوله : { وَسَعِيدٌ } خبره محذوف : أي : ومنهم سعيدٌ ، كقوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ
وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] .
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
قوله
تعالى : { شَقُواْ } : الجمهورُ على فتح الشين لأنه مِنْ شَقِي فعلٌ قاصِر . وقرأ
الحسن بضمها فاستعمله متعدياً ، فيقال : شَقاه اللَّه ، كما يقال أشقاه اللَّه .
وقرأ الأخوان وحفص « سُعِدُوا » بضم السين ، والباقونَ بفتحها ، الأُولى مِنْ
قولهم « سَعَدَه اللَّه » ، أي : أسعده ، حكى الفراء عن هُذَيل أنها تقول : سَعَده
اللَّه بمعنى أَسْعد . وقال الجوهري : « سَعِد فهو سعيد كسَلِمَ فهو سليم ، وسُعِد
فهو مسعود » . وقال ابن القشيري : « وَرَدَ سَعَده اللَّه فهو مَسْعود ، وأسعد فهو
مُسْعَد » . وقيل : يُقال : سَعَده وأَسْعده فهو مَسْعود ، استَغْنوا باسم مفعول
الثلاثي . وحُكي عن الكسائي أنه قال : « هما لغتان بمعنىً » ، يعني فَعَل وأَفْعل
، وقال أبو عمرو بن العلاء : « يُقال : سُعِد الرجل كما يُقال جُنَّ » . وقيل :
سَعِده لغة .
وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين ، قال المهدوي : مَنْ قرأ « سُعِدوا » فهو
محمولٌ على مَسْعود ، وهو شاذ قليل ، لأنه لا يُقال : سَعَده اللَّه ، إنما يقال :
أسعده اللَّه . وقال بعضُهم : احتجَّ الكسائي بقولهم : « مسعود » . قيل : ولا
حُجَّةَ فيه ، لأنه يُقال : مكان مسعود فيه ثم حُذِف « فيه » وسُمِّي به . وكان
عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي : / « سُعِدوا » مع علمه بالعربية ،
والعجبُ مِنْ تعجُّبه . وقال مكي : « قراءةُ حمزةَ والكسائي » سُعِدوا « بضم السين
حملاً على قولهم : » مسعود « وهي لغةٌ قليلة شاذة ، وقولهم : » مَسْعود « إنما جاء
على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه ، ولا يُقال : سَعَدَه اللَّه ، وهو مثل
قولهم : أجنَّه اللَّه فهو مجنون ، أتى على جَنَّه اللَّه ، وإنْ كان لا يُقال ذلك
، كما لا يقال : سَعَده اللَّه » .
وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد . وقال أبو البقاء : «
وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ » .
وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } : هذه الجملةُ فيها احتمالان ، أحدهما : أنها
مستأنفة ، كأن سائلاً سأل حين أَخْبَرَ أنهم في النار : ماذا يكون لهم؟ فقيل : لهم
كذا . الثاني : أنها منصوبةٌ المحلِّ ، وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : أنه الضمير في
الجارِّ والمجرور وهي « ففي النار » . والثاني : أنها حالٌ من « النار » .
والزَّفير : أولُ صوت الحمار ، والشَّهيق : آخره ، قال رؤبة :
2709 حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلاً وشَهَقْ ... حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس : « الشَّهيق ضد الزفير؛ لأنَّ الشهيق ردُّ النفسَ ، والزَّفير :
إخراج النفَس مِنْ شدة الحزن مأخوذ من الزِّفْرِ وهو الحِمْل على الظهر ، لشدته .
وقال الزمخشري نحوه ، وأنشد للشماخ :
2710 بعيدٌ مدى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه ... زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج
وقيل : الشَّهيق : النَّفَس الممتدُّ ، مأخوذ مِنْ قولهم » جبل شاهق أي عالٍ .
وقال الليث : « الزَّفير : أن يملأَ الرجلُ صدرَه حالَ كونه في الغمِّ الشديد من
النفسَ ويُخْرِجُه ، والشهيق أن يُخْرِجَ ذلك النفسَ ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم : »
تنفَّس الصعداء « . وقال أبو العالية والربيع بن أنس : » الزفير في الحَلْق
والشَّهيقُ في الصدر « . وقيل : الزفير للحمار والشهيق للبَغْل .
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
وقوله
تعالى : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحال المقدرة . قلت : ولا حاجةَ إلى قولِهم
مقدرة ، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر :
73 ] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول ، بخلافِ هنا .
قوله : { مَا دَامَتِ } « ما » مصدرية وقتية ، أي : مدة دوامهما . و « دام » هنا
تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت .
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ
عشرَ وجهاً ، أحدها : وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال : « فإنْ قلت : ما معنى
الاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة
والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت : هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار ،
ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها
وحدَه ، بل يُعَذَّبون بالزمهرير ، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب ، وبما هو أشدُّ من
ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه
كقوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، والدليل عليه قوله
: { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ، وفي مقابله { إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ، أي : يَفْعل بهم ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل
الجنة ما لا انقطاعَ له » . قال الشيخ : « ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم
يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء ، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من
الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء » . قلت : الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ
النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً .
الثاني : أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله : « خالدين فيها ما دامَتِ
السماواتُ والأرضُ » والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها .
الثالث : أنه مِنْ قوله : « ففي النار » و « ففي الجنة » ، أي : إلا الزمان الذي
شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ
المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان
الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة ، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ
والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة ، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك
بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ
العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في
النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة . وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة
والضحاك وغيرهما ، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة ، هذا في طرفِ
الأشقياء العُصاة ممكنٌ ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛
إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها .
قال
الشيخ : يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من
المؤمنين ، أو الذي فات أصحابَ الأعراف ، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون
فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما
خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة « .
الرابع : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله : » ففي
النار « و » ففي الجنة «؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ .
الخامس : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو » خالدين « ، وعلى هذين
القولين تكون » ما « واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك ، أو على أنواعٍ مَنْ
يعقل كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] والمراد ب » ما «
حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن
يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف ، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا
فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً .
السادس : قال ابن عطية : » قيل : إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ
الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن
شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] ، استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في
حكم الشرط ، كأنه قال : إنْ شاء اللَّه ، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع
« .
السابع : هو استثناءٌ من طول المدة ، ويروى عن ابن مسعود وغيره ، أنَّ جهنمَ تخلو
مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } . وهذا
مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة ، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي
الدَّرَك الأَعْلى ، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين ، هذا على تقديرِ صحةِ ما
نُقِل عن ابن مسعود .
الثامن : أن » إلا « حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاءَ ربُّك زائداً
على ذلك .
التاسع : أن الاستثناءَ منقطعٌ ، فيقدَّر ب » لكن « أو ب » سوى « ، ونَظَّروه
بقولك : » لي عليك ألفا درهم ، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك « بمعنى سوى تلك ،
فكأنه قيل : خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك
. وقيل : سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه .
العاشر : أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا
.
الحادي عشر : أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة .
الثاني عشر : أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولُهم
إنما هو زُمَراً بعد زُمَر .
الثالث عشر : أنه استثناءٌ من قوله : » ففي النار « كأنه قال : إلا ما شاء ربُّك
مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر .
الرابع عشر : أنَّ » إلا ما شاء « بمنزلة كما شاء ، قيل : كقوله : { مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، أي : كما
قَدْ سَلَفَ .
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
قوله
تعالى : { عَطَآءً } نُصِبَ على المصدر المؤكد من معنى الجملةِ قبله؛ لأن قوله : «
ففي الجنة خالدين » يقتضي إعطاء وإنعاماً فكأنه قيل : يُعْطيهم عَطاءً ، وعطاء اسم
مصدر ، والمصدر في الحقيقة الإِعطاء على الإِفعال ، أو يكونُ مصدراً على حذف
الزوائد كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، أو هو منصوب
بمقدَّرٍ موافِقٍ له ، أي : فَنَبَتُّم نباتاً ، وكذلك هنا يقال : عَطَوْتُ بمعنى
تناولْت .
و « غيرَ مَجْذوذ » نَعْتُه . والمجذوذ : المقطوع ، ويقال لِفُتات الذهب والفضة
والحجارة : « جُذاذ » من ذلك ، وهو قريب من الجَدِّ بالمهملة في المعنى ، إلا أن
الراغب جَعَل جَدَّ بالمهملة بمعنى قَطْع الأرضِ المستوية ، ومنه « جَدَّ في سيره
يَجِدُّ جَدَّاً » ، ثم قال : « وتُصُوِّر مِنْ جَدَدْتُ [ الأرضَ ] القَطْعُ
المجردُ فقيل : جَدَدْتُ الثوب إذا قطعتَه على وجهِ الإِصلاح ، وثوبٌ جديد أصله
المقطوع ، ثم جُعل لكل ما أُحْدِث إنشاؤه » . والظاهرُ أن المادتين متقاربتان في
المعنى ، وقد ذكرْتُ لهما نظائرَ نحو : عَتَا وعَثا وكثب وكتب .
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
قوله
تعالى : { مِّمَّا يَعْبُدُ } : « ما » / في « ممَّا يعبد » وفي « كما يَعبْدُ »
مصدريةٌ . ويجوز أن تكونَ الأولى اسميةً دونَ الثانية .
قوله : { لَمُوَفُّوهُمْ } قرأ العامة بالتشديد مِنْ وفَّاه مشدداً ، وقرأ ابن
محيصن « لَمُوْفُوْهم » بالتخفيف مِنْ أَوْفَى ، كقوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي } [
البقرة : 40 ] ، وقد تقدَّم في البقرة أنَّ فيه ثلاثَ لغات .
قوله : { غَيْرَ مَنقُوصٍ } حالٌ مِنْ « نصيبهم » ، وفي ذلك احتمالان ، أحدهما :
أن تكونَ حالاً مؤكدة ، لأنَّ لفظ التوفية يُشْعر بعدم النقص ، فقد استفيد معناها
مِنْ عاملها وهو شأنُ المؤكدة . والثاني : أن تكونَ حالاً مُبَيِّنة . قال
الزمخشري : « فإن قلت : كيف نُصِبَ » غيرَ منقوص « حالاً عن النصيب المُوَفَّى؟
قلت : يجوز أن يُوَفَّى وهو ناقصٌ ويوفَّى وهو كاملٌ ، ألا تَراك تقول : »
وَفَّيْتُه شطرَ حَقِّه ، وثلثَ حقِّه ، وحقَّه كاملاً وناقصاً « ، فظاهر هذه
العبارة أنها مبيِّنة؛ إذ عاملُها محتملٌ لمعناها ولغيره . إلا أن الشيخ قال بعد
كلامه هذا : » وهذه مَغْلَطَة ، إذا قال : « وفَّيته شطرَ حَقِّه » فالتوفيهُ
وَقَعَتْ في الشطر ، وكذا في الثلث ، والمعنى : أعطيته الشطرَ والثلثَ كاملاً لم
أنقصه شيئاً ، وأمَّا قوله : « وحقَّه كاملاً وناقصاً » أمَّا كاملاً فصحيح ، وهي
حالٌ مؤكدة؛ لأن التوفيةَ تقتضي الإِكمالَ ، وأمَّا « وناقصاً » فلا يقال لمنافاته
التوفيه « . وفي مَنْع الشيخ أَنْ يُقال : » وَفَّيْتُه حقَّه ناقصاً « نظر ، إذ
هو شائعٌ في تركيبات الناسِ المعتبرِ قولهم؛ لأن المرادَ بالتوفية مطلقُ
التَّأْدية » .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
قوله
تعالى : { فاختلف فِيهِ } : أي في الكتاب ، و « في » على بابها من الظرفية ، وهو
هنا مجاز ، أي : في شأنه . وقيل : هي سببية ، أي : هو سببُ اختلافهم ، كقوله تعالى
: { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] ، أي : يُكَثِّركم بسببه . وقيل : هي
بمعنى على ، ويكون الضمير لموسى عليه السلام ، أي : فاخْتُلِف عليه .
و « مُرِيْب » مِنْ أراب إذا حَصَلَ الرَّيْب لغيره ، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب
، وقد تقدم .
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قوله
تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } : هذه الآيةُ الكريمة مما
تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً ، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً
وتخريجاً ، وقد سَهَّل اللَّه تعالى ، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها .
فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم : « وإنْ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد .
وأمَّا « لمَّا » فقرأها مشددةً هنا وفي يس ، وفي سورة الزخرف ، وفي سورة السمآء
والطارق ، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً : فروى
عنه هشامٌ وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط ، والباقون قرؤوا جميع ذلك
بالتخفيف . وتلخص من هذا : أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ : « وإنْ » و « لَمَا »
مخففتين ، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ « إنَّ » وثَقَّل « لمَّا » ، وأن ابن
عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا « إنَّ » و « لمَّا » معاً ، وأن أبا عمرو
والكسائي شدَّدا « إنَّ » وخَفَّفا « لَمَّا » . فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين
الحرفين .
هذا في المتواتر ، وأمَّا في الشاذ ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر ، إحداها :
قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب « وإنْ كل » بتخفيفها ، ورفع « كل » ، «
لَمَّا » بالتشديد ، الثانية : قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم : « لمَّاً » مشددة
منونة ، ولم يتعرَّضوا لتخفيف « إنَّ » ولا لتشديدها . الثالثة : قراءة الأعمش وهي
في حرف ابن مسعود كذلك : « وإنْ كلٌّ إلا » : بتخفيفِ « إنْ » ورفع « كل » .
الرابعة . قال أبو حاتم : « الذي في مُصْحف أبي { وإنْ مِنْ كلٍ إلا
لَيُوَفِّيَنَّهم } .
هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة ، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد
اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً ، حتى قال أبو شامة : » وأمَّا هذه الآيةُ
فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات ، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ
قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها .
فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة ، وهي لغة ثانية عن العرب
. قال سبويه : « حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول : » إنْ
عمراً لمنطلقٌ « كما قالوا :
2711 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ
قال : » ووجهُه مِن القياس أنَّ « إنْ » مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل ، والفعلُ
يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو : « لم يكُ زيد منطلقاً » { فَلاَ تَكُ
فِي مِرْيَةٍ } [ هود : 109 ] وكذلك لا أَدْرِ « . قلت : وهذا مذهبُ البصريين ،
أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ ك » إنْ « ،
والأكثر الإِهمالُ ، وقد أُجْمع عليه في قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ
لَّدَيْنَا [ مُحْضَرُونَ ] } ، وبعضُها يجب إعمالُه ك » أنْ « بالفتح و » كأنْ «
، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً ، وبعضُها يَجِبُ
إهمالُه عند الجمهور ك » لكن « .
وأمَّا
الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في « إنْ » المخففةِ ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم ،
بدليل هذه القراءة المتواترة . وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً
قولَه :
2712 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو
إلى وارِقِ السَّلَمْ
قال الفراء : « لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله :
2713 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني ... طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ
صديقُ
قال : » لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع « . قلت :
وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر :
2714 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنْ ثَدْيَيْه
حُقَّانِ
و [ قوله ] :
2715 كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ ... هذا ما يتعلق ب » إنْ « . وأمَّا » لَمَا
« في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ » إنْ « الداخلةُ في الخبر . و » ما « يجوز
أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى : { فانكحوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] فأوقع » ما « على العاقل . واللام في
» ليوفِّيَنَّهم « جوابُ قسمٍ مضمر ، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول ،
والتقدير : وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم . ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً
موصوفةً ، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل » ما « والتقدير : وإنْ كلاً لخَلْقٌ
أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم ، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل »
إنْ « .
وقال بعضُهم : اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم ، ولمَّا اجتمع اللامان ،
واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب » ما « كما فُصِل بالألف بين النونين في »
يَضْرِبْنانِّ « ، وبين الهمزتين في نحو : أأنت . فظاهرُ هذه العبارة أنَّ » ما «
هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا ، إلا
أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ » إنْ « فقال : » العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ
الابتداء على الخبر ، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه ، فلمَّا
اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم ، فَصَلوا
بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام « .
وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال : » واللامُ في « لَمَا » موطِّئةٌ للقسم و « ما »
مزيدةٌ « ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام » إنْ « . وقال أبو شامة : » واللامُ في «
لَمَا » هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية « وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ
الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية ، والالتباسُ إنما يجيء عند
إهمالها نحو : » إنْ زيدٌ لقائم « وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ
بالنافية ، فلا يُقال إنها فارقة .
فتلخَّص
في كلٍ من اللام و « ما » ثلاثة أوجه ، أحدها : في اللام : أنها للابتداء الداخلة
على خبر « إنْ » . الثاني : لامٌ موطئة للقسم . الثالث : أنَّها جوابُ القسم
كُرِّرَتْ تأكيداً . وأحدها في « ما » : أنها موصولة . الثاني : أنها نكرة .
الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللامين .
وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/ ، أحدها : ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة
البصرة والكوفة ، وهو أن الأصل : لَمِنْ ما ، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة
دخلت على « ما » الموصولة « أو الموصوفة كما تقرَّر ، أي : لَمِنَ الذين واللَّهِ
ليوفِّيَنَّهم ، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم ، فلمَّا اجتمعت النونُ
ساكنةً قبل ميم » ما « وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً ، وأُدْغمت فصار في
اللفظ ثلاثةُ أمثال ، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى » لمَّا
« . قال نصر ابن علي الشيرازي : » وَصَلَ « مِنْ » الجارة ب « ما » فانقلبت النون
أيضاً ميماً للإِدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن ، فبقي « لمَّا »
بالتشديد « . قال : و » ما « هنا بمعنى » مَنْ « وهو اسم لجماعة الناس كما قال
تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } أي مَنْ طاب ، والمعنى : وإنْ
كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم ، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك
أعمالَهم » .
وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال : « حُذِفت الميمُ المكسورة ، والتقدير
، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم » .
الثاني : ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو : أن يكونَ الأصل : لمَنْ ما بفتح ميم «
مَنْ » على أنها موصولة أو موصوفة ، و « ما » بعدها مزيدةٌ فقال : « فقلبت النونُ
ميماً ، وأُدْغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاثُ ميمات ، فحُذِفَت الوُسْطى
منهن ، وهي المبدلةُ من النون ، فقيل » لَمَّا « . قال مكي : » والتقدير : وإنْ
كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم « ، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى
بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : » زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله
لمَنْ ما ، ثم قلبت النون ميماً ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات ، فَحُذِفت الوسطى « قال :
» وهذا القولُ ليس بشيءٍ ، لأنَّ « مَنْ » لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على
حرفين « .
وقال النحاس : » قال أبو إسحاق : هذا خطأ ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ « مَنْ »
فيبقى حرفٌ واحد « . وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : » إذ لم يَقْوَ الإِدغام
على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو « قدم مالك » فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ
أَجْدَرُ « قال : » على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ
ممَّا كانَتْ تجتمع في « لَمَنْ ما » ولم يُحذفْ منها شيءٌ ، وذلك في قولِه تعالى
:
{
وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] ، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن
لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ « . قلت : اجتمع في » أمم ممَّن مَعَك « ثمانيةُ
ميماتٍ وذلك أن » أمماً « فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في
ميم » مِنْ « ومعنا نونان : نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً
ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما ، ومعنا ميم » معك « ، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ
ملفوظٌ بها ، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين ، واثنتان نون .
واستدلَّ الفراء على أن أصل » لَمَّا « » لمِنْ ما « بقول الشاعر :
2716 وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً ... على رأسِه تُلقي اللسانَ من
الفم
وبقول الآخر :
2717 وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه ... إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ
قلت : وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ { وَإِذْ أَخَذَ الله
مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم } [ آل عمران : 81 ] بتشديد » لمَّا « أن الأصل
: » لمن ما « فَفُعل فيه ما تقدَّم ، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف
في سورته ، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه ، فعليك بالنظر فيه .
وقال أبو شامة : » وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم : { لَّكِنَّ
هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] إن أصله : لكن أنا ، ثم حُذِفت الهمزة ،
وأُدْغِمَتِ النونُ في النون ، وكذا قولهم : « أمَّا أنت منطلقاً انطلقت ، قالوا :
المعنى لأِنْ كنتَ منطلقاً » . قلت : وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ البتةَ
، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ ، ثم حُذف ، وأمَّا
مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ .
ثم قال أبو شامة : « وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت » يعني الفراء ، ثم
الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ « لمَّا » في معنى واحد
فقال : « ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء { والبغي يَعِظُكُمْ } [ النحل : 90
] . بحذف الياء عند الياء ، أنشدني الكسائي :
2718 وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا ... لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا
فحذف ياءَه لاجتماع الياءات » . قلت : الأَوْلى أن يُقال : حُذِفت ياءُ الإِضافة
مِنْ « لديّ » فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في « لدى » وهو
مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ { يابني } بالإِسكان على ما سَبَق ، وأمَّا الياء مِنْ « يتباشرون
» فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة .
ثم قال الفراء : « ومثلُه :
2719 كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ ... يريد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام »
.
قلت
: توجيهُ قولهم : « من آخرها إلقادم » أن ألف « إلى » حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين ،
وذلك أن ألف « إلى » ساكنة ولام التعريف من « القادم » ساكنةٌ ، وهمزةُ الوصل
حُذِفت دَرْجاً ، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان : لامُ « إلى » ولامُ
التعريف ، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه ، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ
دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف « إلى » غير الهمزة فاتصلت بلام « القادم »
فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها ، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها : « ءِ القادم
» بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع .
قال أبو شامة : « وهذا قريبٌ مِنْ قولهم » مِلْكذب « و » عَلْماءِ بنو فلان « و »
بَلْعنبر « يريدون : من الكذب ، وعلى الماء بنو فلان ، وبنو العنبر » . قلت : يريد
قوله :
2720 أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً ... غيرُ الذي [ قد ] يُقال مِلْكذب
وقول الآخر :
2721 - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ ... ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ
غُرْلَةُ خالدِ
وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ « مِنْ » لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد :
مِلكذبِ .
الثالث : أنَّ أصلَها « لَما » بالتخفيف ثم شُدِّدت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان .
قال الزجاج : « وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين ، وأيضاً
فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو : » رُبَ « في »
رُبَّ « . وقيل في توجيهه : إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً ، والميم هنا حشوٌ
لأن الألف بعدها ، إلا أن يقال : إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله :
2722 ... مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا
يريد : القصبَ ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف ، وضعَّف الحرف ، وكذلك قوله
:
2723 ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي ... شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء
الإِطلاق . وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح ،
لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف » لما « فإنها أصليةٌ ثابتة ، وبالجملة فهو وجهٌ
ضعيفٌ جداً .
الرابع : أن أصلَها » لَمَّاً « بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى ، فإنْ جَعَلْتَ
ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه ، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه ، وذلك كا قالوا
في » تَتْرى « بالتنوين وعدمِه ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي : جَمَعْته ،
والتقدير : وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم ، ويكون » جميعاً « فيه معنى التوكيد
ككل ، ولا شك أن » جميعاً « يفيد معنى زائداً على » كل « عند بعضهم . قال : » ويدل
على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ « لمَّاً » بالتنوين « .
الخامس : أن الأصل » لَمَّاً « بالتنوين أيضاً ، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً ،
ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف . وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال : » لأن ذلك
إنما يجوز في الشعر « يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف ،
وسيأتي توجيهُ قراءةِ » لَمَّاً « بالتنوين بعد ذلك .
وقال
أبو عمرو ابن الحاجب : « استعمالُ » لَمَّا « في هذا المعنى بعيد ، وحَذْفُ
التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ ، فإن قيل : لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ ،
ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى » لمَّاً « المنصرف فهو
أبعدُ ، إذ لا يُعرف » لمَّا « فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزَمُ هؤلاء
أن يُميلوا كمَنْ أمال ، وهو خلافُ الإِجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك
بمستقيم » .
السادس : أنَّ « لَمَّا » زائدة كما تزاد « إلا » قاله أبو الفتح وغيرُه ، وهذا
وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً ، وهو أنَّ « إلا » تأتي
زائدةً .
السابع : أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمنزلة « ما » ، و « لمَّا » بمعنى « إلا » فهي
كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } [ الطارق : 4 ] أي : ما كلُّ نفسٍ
إلا عليها ، { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] أي : ما كل
ذلك إلا متاع/ . واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ « إنْ » النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ
بعدها ، وهذا اسمٌ منصوب بعدها . وأجاب بعضهم عن ذلك بأن « كلاً » منصوبٌ بإضمار
فعلٍ ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب : وإنْ أرى كلاً ، وإن أعلمُ ، ونحوه
، قال : « ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ
الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد ، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي
استبعادٌ ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله :
2724 ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً ... يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ
هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر أو نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ ،
واختار يونس التنوين للضرورة » ، وقدَّره بعضهم بعد « لمَّا » مِنْ لفظ «
ليُوَفِّينَّهم » والتقدير : وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم . وفي هذا
التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد « إلا » لا يعمل فيما قبلها .
واستدلَّ أصحابُ هذا القول أعني مجيء « لَمَّا » بمعنى « إلا » بنص الخليل وسيبويه
على ذلك ، ونصره الزجاج ، قال بعضهم : « وهي لغة هُذَيْل يقولون : سألتك باللَّه
لمَّا فعلت أي : إلا فعلت » . وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ « لمَّا » بمعنى
إلا ، قال : أبو عبيد : « أمَّا مَنْ شدَّد » لمَّا « بتأويل » إلا « فلم نجدْ هذا
في كلامِ العرب ، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ : » قام القوم لمَّا أخاك « يريد :
إلا أخاك ، وهذا غيرُ موجودٍ » .
وقال
الفراء : « وأمَّا مَنْ جَعَلَ » لَمَّا « بمنزلة » إلا « فهو وجهٌ لا نعرفه ، وقد
قالت العربُ في اليمن : » باللَّه لمَّا قمت عنا « ، و » إلا قمت عنا « ، فأمَّا
في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره ، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في
الكلام : ذهب الناس لمَّا زيداً » .
فأبو عبيد أنكر مجيء « لمَّا » بمعنى « إلا » مطلقاً ، والفراء جَوَّز ذلك في
القسم خاصةً ، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد « لمَّا » في هذه الآية : «
لا يصلح أن تكون بمعنى » إلا «؛ لأن » لَمَّا « هذه لا تفارق القسم » وردَّ الناس
قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً ، وفيه نظرٌ ، فإنهم
لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو : « نَشَدْتُك
باللَّه لمَّا فعلت » و « أسألك باللَّه لمَّا فعلت » . وقال أبو علي أيضاً
مستشكلاً لتشديد « لمَّا » في هذه السورة على تقدير أن « لمَّا » بمعنى « إلا » لا
تختص بالقسم ما معناه : أن تشديد « لمَّا » ضعيف سواء شددت « إن » أم خَفَّفْت ،
قال : « لأنه قد نُصِب بها » كلاً « ، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة ،
وكما لا يَحْسُن : » إنَّ زيداً إلا منطلق « ، لأن الإِيجابَ بعد نفي ، ولم
يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد ، فلذا لا يَحْسُن : إن زيداً لَمَّا مُنْطلق » لأنه
بمعناه ، وإنما ساغ : « نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت » لأنَّ معناه
الطلب ، فكأنه قال : ما أطلب منك إلا فِعْلك ، فحرفُ النفي مرادٌ مثل : { تَالله تَفْتَؤُاْ
} [ يوسف : 85 ] ، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم : « شَرٌ أهرُّ ذاناب » أي : ما
أهرَّه إلا شرٌّ ، قال : « وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ . وقال الكسائي :
» لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا « . قال الفارسي : » ولم يُبْعِدْ فيما قال « .
ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال : » اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة ، لا
أعرف لها وجهاً « .
الثامن : قال الزجاج : » قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه : « إنَّ » لمَّا « في
معنى إلا ، مثل { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ثم
أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى » إنْ زيدٌ لمنطلق « :
ما زيد إلا منطلق ، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في
خبرها ، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً ، والمعنى نفيٌ ب »
إنْ « وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا ، ولَمَّا بمعنى إلا » .
قلت
: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ « إلا » في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز «
لمَّا » التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه ، أحدها : أنها « إنَّ » المشددةَ
على حالها ، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها ، وأمَّا « لمَّا » فالكلامُ فيها
كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ « لَمِنْ ما » بالكسر أو « لَمَنْ ما » بالفتح ، وجميعُ
تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا . والقولُ بكونها بمعنى « إلا » مُشْكِلٌ
كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا .
الثاني : قال المازنيٌّ : « إنَّ » هي المخففة ثُقِّلَتْ ، وهي نافيةٌ بمعنى « ما
» كما خُفِّفَتْ « إنَّ » ومعناها المثقلة و « لَمَّا » بمعنى « إلا » . وهذا قولٌ
ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به ، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ « إنْ » النافية ، وأيضاً ف «
كلاً » بعدها منصوبٌ ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ .
الوجه الثالث : أنَّ « لَمَّا » هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم
المعنى . قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه : « لمَّا » هذه هي الجازمةُ
فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه ، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم : «
خَرَجْتُ ولمَّا » و « سافرتُ ولمَّا » و هو شائعٌ فصيح ، ويكون المعنى : وإنَّ
كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل
المجموعين بقوله { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] ، ثم فَصَّل
الأشقياءَ والسعداء ، ومجازاتَهم ، ثم بَيَّن ذلك بقولِه { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ
رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } ، قال : « وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا ، وإن كانت
النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن » ، قال : « والتحقيقُ
يأبى استعبادَه » . قلت : وقد نَصَّ النحويون على أن « لمَّا » يُحذف مجزومُها
باطِّراد ، قالوا : لأنها لنفيِ قد فَعَلَ ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله :
2725 أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا ... لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ
أي : وكأن قد زالت ، فكذلك مَنْفِيُّه ، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري ، عَلى حَذْفِ
مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب « معاني الشعر » له قولَ الشاعر :
2726 فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
قال : « قوله » بدءاً « ، أي : سيداً ، وبَدْءُ القوم سيِّدهم ، وبَدْءُ الجَزْور
خيرُ أَنْصِبائها ، قال : » وقوله « ولما » ، أي : ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ
ماتوا فإني سُدت بعدهم ، كقول الآخر :
2727 خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ... ومن العَناءِ تَفُّردي
السُّؤْدُدِ
قال : « ونظيرُ السكوتِ على » لمَّا « دونَ فعلها السكوتُ على » قد « دونَ فعلِها
في قول النابغة : أَفِدَ الترحُّل : البيت » .
قلت
: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة ، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد « لمَّا
» سواءً شدَّد « إن » أو خفَّفها .
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً ، فإنها « إنَّ » المشددة عَمِلَتْ
عملها ، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر « إنَّ » ، والثانية جواب قسم
محذوف ، أي : وإنَّ كلاً للذين واللَّهِ ليوفِّينَّهم ، وقد تقدَّم وقوعُ « ما »
على العقلاء مقرَّراً ، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن
لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] غير أنَّ اللامَ في « لمَنْ » داخلة على الاسم
، وفي « لمَّا » داخلة على الخبر . وقال بعضهم : « ما » هذه زائدة زِيْدت للفصل
بين اللامَيْن : لامِ التوكيد ولامِ القسم . وقيل : اللام في « لَمَا » موطئةٌ
للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
} [ الزمر : 65 ] ، والمعنى : وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم
مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود .
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة : « جَعَل » ما « اسماً للناس كما جاز { فانكحوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها
جواباً لإِنَّ ، وجعل اللامَ التي في » ليوفِّيَنَّهم « لاماً دَخَلَتْ على نيةِ
يمينٍ فيما بين » ما « وصلتِها كما تقول : » هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ « ، و » عندي
ما لَغَيْرُه خيرٌ منه « ومثلُه : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [
النساء : 72 ] . ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال : » إذا
عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو : إنَّ زيداً لإِليك
لمُحْسن ، ومثله :
2728 - ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً ... لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ
مَصْرَعا
قال : « أَدْخَلها في » بَعْد « ، وليس بموضعِها ، وسمعت أبا الجراح يقول : » إني
لبحمد اللَّه لصالحٌ « .
وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة : » وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب « كلاً »
بإِنَّ ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر ، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى ، وهي
التي يُتَلقَّى بها القسم ، وتختص بالدخول على الفعل ، فلمَّا اجتمعت اللامان
فُصِل بينهما كما فُصِل بين « إنَّ » واللامَ ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً
للفصل ، ومثلُه في الكلام : « إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ » .
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعض الناس في بعضها
بما لا تَحَقُّق له ، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه ، قال المبرد : وهي جرأةٌ
منه « هذا لحنٌ » يعني تشديدَ « لمَّا » قال : « لأن العرب لا تقول : » إن زيداً
لَمَّا خارج « .
وهذا
مردودٌ عليه . قال الشيخ : « وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو : »
إنَّ زيداً لَمَّا خارج « ، هذا المثالُ لحنٌ » / .
قلت : إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم ، ولكن ذلك لا يفيد
فيما نحن بصددِه ، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت « لمَّا » المشددةُ على خبر
إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك ، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس
بصوابٍ ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال .
وقال أبو جعفر : « القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن ، حُكِيَ عن محمد بن
يزيد أنه قال : » إنَّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : « إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه » ،
ولا « لَمَّا لأضربنَّه » . قال : « وقال الكسائي : اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم ، لا
أعرف لهذه القراءة وجهاً » وقد تقدَّم ذلك ، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال : « كما
لا يحسن : » إنَّ زيداً إلا لمنطلق «؛ لأنَّ » إلا « إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدم
هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد ، فكذا لا يحسن » إنَّ زيداً لما منطلق « ، لأنه بمعناه ،
وإنما ساغ » نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت « إلى آخر ما ذكرته عنه . وهذه كلُّها
أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي .
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه : { وَإِن كُلٌّ
لَّمَّا } بتخفيف » إنْ « ورفع » كل « على أنها إنْ النافية و » كلٌّ « مبتدأ ، و
» لمَّا « مشددة بمعنى إلاَّ ، و » لَيُوَفِّيَنَّهم « جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وذلك
القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ . وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم : {
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] ومثلُه : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا
مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] ، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ » لمَّا «
بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه .
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم » لَمَّاً « بالتشديد منونةً ف » لمَّاً « فيها
مصدرٌ مِنْ قولهم : » لَمَمْتُه أي جمعته لمَّاً « ، ومنه قولُه تعالى : {
وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ثم في تخريجه وجهان ،
أحدُهما ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله : » ليوفينَّهم « على
حَدِّ قولِهم : » قياماً لأقومَنَّ ، وقعوداً لأقعدَنَّ « والتقدير : توفيةً جامعةً
لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم ، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى
دون الاشتقاق .
والثاني : ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو : أن يكونَ وصفاً ل » كل « وصفاً بالمصدر
مبالغةً ، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه » كل « نكرةً ليصحَّ وَصْفُ » كل
« بالنكرة ، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ » كل « ، ولو تَعَرَّفَتْ
لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً ، ونظيرُ ذلك قولُه
تعالى :
{
وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ، فوقع « لمَّا » نعتاً ل
« أكلاً » وهو نكرة .
قال أبو عليّ : « ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في
الحال » .
[ وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ ل « كلاً » كما يتبعها أجمعون ، أو أنه
منصوبٌ على النعت ل « كلاً » ] فإنه قال : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } كقوله « أكلاً لمَّاً » ملمومين بمعنى مجموعين ، كأنه قيل :
وإنْ كلاً جميعاً ، كقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [
الحجر : 30 ] انتهى . لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ ، بل فَسَّر معنى ذلك ،
وأراد أنه صفةٌ ل « كلاً » ، ولذلك قَدَّره بمجموعين . وقد تقدَّم لك في بعضِ
توجيهات « لَمَّا » بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها ، وإنما أُجري الوصلُ
مجرى الوقف ، وقد عُرِف ما فيه . وخبرُ « إنْ » على هذه القراءة هي جملة القسم
المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه .
وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة ، لولا ما
فيها مِنْ مخالفة سواد الخط .
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية ، و « مِنْ »
زائدةٌ « في النفي ، و » كل « مبتدأ ، و » ليوفِّينَّهم « مع قَسَمه المقدَّر خبرُها
، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصير التقديرُ بدون » مِنْ « : {
وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم } .
والتنوين في » كلاً « عوضٌ من المضافِ إليه . قال الزمخشري : » يعني : وإنَّ
كلَّهم ، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه « . وقد تقدَّم أنه على قراءةِ » لَمَّاً «
بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه » كل « إلا نكرةً لأجل
نعتِها بالنكرة .
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد ، فمنها : التوكيد ب »
إنَّ « و ب » كل « وبلام الابتداء الداخلة على خبر » إنَّ « وزيادةِ » ما « على
رأيٍ ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له ، وبنون التوكيد ، وبكونها
مشددةً ، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ } فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع .
وقرأ/ العامَّةُ » يعملون « بياء الغيبة ، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين .
وقرأ ابن هرمز » بما تعملون « بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب
، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون ، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم
.
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
قوله
تعالى : { كَمَآ أُمِرْتَ } : الكافُ في محل النصب : إمَّا على النعتِ لمصدرٍ
محذوفٍ ، كما هو المشهورُ عند المعربين . قال الزمخشري : « أي : استقمْ استقامةً
مثلَ الاستقامة التي أُمِرْتَ بها على جادَّة الحقِّ غيرَ عادلٍ عنها » ، وإمَّا
على الحال من ضمير ذلك المصدر . واستَفْعَل هنا للطلب كأنه قيل : اطلبْ الإِقامةَ
على الدين ، قال : « كما تقول : استغفر ، أي : اطلب الغفران » .
قوله : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } في « مَنْ » وجهان أحدهُما : أنَّه منصوبٌ على
المفعول معه ، كذا ذكره أبو البقاء ، ويصير المعنى : استقم مصاحباً لمَنْ تاب
مصاحباً لك ، وفي هذا المعنى نُبُوٌّ عن ظاهرِ اللفظ . الثاني : أنه مرفوعٌ ، فإنه
نسق على المستتر في « استقم » ، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في
صحةِ العطف ، وقد تقدَّم لك هذا البحثُ في قوله { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [
البقرة : 35 ] وأنَّ الصحيحَ أنه من عطفِ الجمل لا من عطف المفردات ، ولذلك قدَّره
الزمخشري : « فاستقم أنت وليستقم مَنْ تاب » فقدَّر الرافعَ له فعلاً لائقاً
برفعِه الظاهرَ .
وقرأ العامَّةُ { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } بالتاء جرياً على الخطاب المتقدم .
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي بالياء للغيبة ، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ
عكسَ ما تقدم في { بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ هود : 111 ] .
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
قوله
تعالى : { وَلاَ تركنوا } : قرأ العامَّةُ بفتح التاء والكاف ، والماضي من هذا
ركِن بكسر العين كعَلِمَ ، وهذه هي الفصحى ، كذا قال الأزهري . قال غيره : « وهي
لغةُ قريش » . وقرأ أبو عمرو في روايةٍ « تِرْكَنوا » ، وقد تقدَّم إتقانُ ذلك
أوَل هذا الموضوع .
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب بن رميلة ورُوِيَتْ عن أبي عمرو « تَرْكُنوا » بضم العين
، وهو مضارع رَكَن بفتحها كقَتَل يَقْتُل . وقال بعضهم : « هو من التداخل » يعني
أنَّ مَنْ نطق ب « رَكِنَ » بكسر العين قال : « يَرْكُن » بضمها ، وكان مِنْ حقه
أَنْ يفتح ، فلما ضَمَّا عَلِمْنا أنه اسْتَغْنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغتِه ،
وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاء التداخُل بل نَدَّعي أنَّ مَنْ
فَتَحَ الكافَ أخذه مِنْ رَكِن بالكسر ، ومَنْ ضَمَّها أَخَذَه مِنْ ركَن بالفتح ،
ولذلك قال الراغب : « والصحيحُ أنْ يُقالَ رَكِنَ يَرْكَن ، وركَنَ يَرْكُن ،
بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع ، وبالفتح في الماضي مع الضم في المضارع » .
وشَذَّ أيضاً قولُهم رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما وهو من التداخُل ، فتحصَّل مِنْ
هذا أن يُقَالَ : رَكِن بكسر العين وهي اللغةُ العاليةُ كما تقدَّم ، ورَكَن
بفتحها وهي لغةُ قيسٍ وتميم ، زاد الكسائي « ونَجْد » ، وفي المضارع ثلاثٌ :
الفتحُ والكسرُ والضمُّ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة « تُرْكَنوا » مبنياً للمفعول مِنْ أَرْكَنه إذا أماله ، فهو
من باب « لا أُرَيَنَّك ههنا » و { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } [
الأعراف : 2 ] وقد تقدَّم .
والرُّكُون : المَيْل ، ومنه الرُّكْنُ للاستناد إليه .
قوله : { فَتَمَسَّكُمُ } هو منصوبٌ بإضمار أنْ في جوابِ النهي . وقرأ ابن وثاب
وعلقمة والأعمش في آخرين « فتِمَسَّكم » بكسرِ التاء وقد تقدَّم .
قوله : { وَمَا لَكُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حاليةً ، أي : تَمَسَّكم حالَ
انتفاءِ ناصركم . ويجوز أن تكون مستأنفة . و « مِنْ أولياء » : « مِنْ » فيه
زائدةٌ : إمَّا في الفاعل ، وإما في المبتدأ؛ لأن الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ
أحدُها النفي رفع الفاعل .
قوله : { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } العامَّةُ على ثبوتِ نون الرفعِ لأنه فعلٌ مرفوع
، إذ هو من بابِ عطفِ الجمل ، عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ . وقرأ زيد بن
علي رضي اللَّه عنهما بحذفِ نون الرفع ، عطفه على « تمسَّكم » ، والجملةُ على ما
تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف فتكون معترضةً . وأتى ب « ثمَّ » تنبيهاً على
تباعد الرتبة .
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قوله
تعالى : { طَرَفَيِ النهار } : ظرفٌ ل « أَقِمْ » . ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة ،
كأنه قيل : أي : أقم الصلاة الواقعة في هذين الوقتين ، والطَرَف وإن لم يكن ظرفاً
، ولكنه لمَّا أضيف إلى الظرف أُعْرب بإعرابه ، وهو كقولك : « أتيته/ أولَ النهار
وآخرَه ونصفَ الليل » بنصبِ هذه كلِّها على الظرفِ لمَّا أضيفَتْ إليه ، وإن كانت
ليسَتْ موضوعةً للظرفية .
وقرأ العامَّةُ « زُلَفاً » بضم الزاي وفتح اللام ، وهي جمعُ « زُلْفة » بسكون
اللام ، نحو : غُرَف في جمع غُرْفة ، وظُلَم في جمعِ ظُلْمة . وقرأ أبو جعفر وابن
أبي إسحاق بضمها ، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه جمع زُلْفة أيضاً ،
والضمُّ للإِتباع ، كما قالوا بُسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمة الباء .
والثاني : أنه اسمٌ مفرد على هذه الزِّنة كعُنُق ونحوه : الثالث : أنه جمع زَلِيف
، قال أبو البقاء : « وقد نُطِق به » ، يعني أنهم قالوا : زَليف ، وفَعيل يُجمع
على فُعُل نحو : رَغِيف ورُغُف ، وقَضِيب وقُضُب .
وقرأ مجاهد وابن محيصن بإسكان اللام . وفيها وجهان ، أحدهما : أنه يُحتمل أَنْ
تكونَ هذه القراءةُ مخففةً مِنْ ضم العين فيكون فيها ما تقدَّم . والثاني : أنه
سكونُ أصلٍ من باب اسمِ الجنس نحو : بُسْرة وبُسْر مِنْ غير إتباع .
وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضاً في روايةٍ « وزُلْفَى » بزنة « حُبْلَى » ، جَعَلُوها
على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى ، لأنَّ المعنى على المنزلة الزلفى ،
أو الساعة الزلفى ، أي : القريبة . وقد قيل : إنه يجوز أن يكونَ أَبْدلا التنوين
ألفاً ثم أَجْرَيا الوصل مجرى الوقف ، فإنهما يقرآن بسكون اللام وهو محتمَلٌ .
وقال الزمخشري : « والزُّلْفى بمعنى الزُّلْفَة ، كما أن القُرْبى بمعنى القُرْبة
» ، يعني أنه مما تَعَاقَبَ فيه تاءُ التأنيث وألفه .
وفي انتصاب « زُلَفاً » وجهان ، أظهرهما : أنه نسقٌ على « طرفي » فينتصب الظرف ،
إذ المرادُ بها ساعات الليل القريبة . والثاني : أن ينتصبَ انتصابَ المفعول به
نسقاً على الصلاة . قال الزمخشري : بعد أن ذكر القراءاتِ المتقدمة « وهو ما يقرب
مِنْ آخر النهار ومن الليل ، وقيل : زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل ،
وحَقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النهار ،
وأقم زُلَفاً من الليل ، على معنى : صلوات تتقرَّب بها إلى اللَّه عز وجل في بعض
الليل » .
والزُّلْفَةُ : أولُ ساعات الليل ، قاله ثعلب . وقال الأخفش وابن قتيبة : «
الزُّلَف : ساعاتُ الليل وآناؤه ، وكل ساعةٍ منه زُلْفَة » فلم يُخَصِّصاه بأول
الليل . وقال العجَّاج :
2729 ناجٍ طواه الأَْيْنُ مِمَّا وَجَفا ... طَيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفا
سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفا ... وأصلُ الكلمة مِنْ « الزُّلْفَى » وهو
القُرْب ، يقال : أَزْلَفه فازْدَلَفَ ، أي : قَرَّبه فاقتربَ . قال تعالى : {
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } [ الشعراء : 64 ] وفي الحديث : « ازْدَلِفوا إلى
اللَّه بركعتين » وقال الراغب : « والزُّلْفَةُ : المَنْزِلَةُ والحُظْوَة ، وقد
اسْتُعْمِلت الزُّلْفَة في معنى العذاب كاستعمال البِشارة ونحوها ، والمزالِفُ ،
المَراقي ، وسُمِّيَتْ ليلةَ المزدلفة لقُرْبهم مِنْ مِنى بعد الإِفاضة » .
وقوله : { مِّنَ الليل } صفةٌ ل « زُلَفاً » .
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
قوله
تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ } : « لولا » تحضيضيةٌ دخلها معنى التفجُّع عليهم ، وهو
قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] . وما يروى عن
الخليل أنه قال : « كلُّ » لولا « في القرآن فمعناها » هَلاَّ « إلا التي في
الصافَّات : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ [ كَانَ مِنَ المسبحين ] } [ الآية : 143 ] ، لا
يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات : { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [ القلم : 49
] { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الفتح : 25 ] ، { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } [
الإسراء : 74 ] .
و » مِن القُرون « : يجوزُ أن يتعلق ب » كان « لأنها هنا تامة ، إذ المعنى :
فهلاَّ وُجِد من القرون ، أو حَدَث ، ونحو ذلك ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على
أنه حالٌ من » أُولو بَقِيَّة « لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً له . و »
مِنْ قبلكم « حال من » القرون « و » يَنْهَوْن « حالٌ من » أولو بقية « لتخصُّصه
بالإِضافة ، ويجوز أن يكون نعتاً ل » أُولوا بقية « وهو أولى .
ويَضْعُفُ أن تكونَ » كان « هذه ناقصةً لبُعد المعنى مِنْ ذلك ، وعلى تقديرِه
يتعيَّن تَعَلُّق » من القرون « بالمحذوف على أنه حالٌ ، لأنَّ » كان « الناقصة لا
تعمل عند جمهور النحاة ، ويكون » يَنْهَوْن « في محل نصب خبراً ل » كان « .
وقرأ العامَّة : » بَقِيَّة « بفتح الباء وتشديد الياء ، وفيها وجهان ، أحدهما :
أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل ، ولذلك دخلت التاءُ فيها ، والمرادُ
بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره ، وإنما قيل لجنده وخياره » بقيَّة « في قولهم : »
فلان بقيةُ الناس ، وبقيةُ الكرام ، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه
وأفضلَه ، وعليه حُمل بيت الحماسة :
2730 إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
وفي المثل « في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا » .
والثاني : أنها مصدرٌ بمعنى البقوى . قال الزمخشري : « ويجوز أن تكونَ البقيَّة
بمعنى البقوى ، كالتقيَّة بمعنى التقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على
أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه » .
وقرأ فرقةٌ/ « بَقِيَة » بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ
شَجِي ، والتقدير : أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي : باقية . وقرأ أبو جعفر وشيبة «
بُقْية » بضم الفاء وسكون العين . وقُرىء « بَقْيَة » على المَرَّة من المصدر . و
« في الأرض » متعلقٌ بالفَساد ، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة
فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « الفساد » .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان ، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً ، وذلك
أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته ، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء
منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنى .
قال
الزمشخري : « معناه : ولكن قليلاً ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد ،
وسائرُهم تاركوا النهي » . ثم قال . « فإن قُلْتَ : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً
وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت : إن جَعَلْتَه متصلاً على ما عليه ظاهرُ الكلام كان
المعنى فاسداً؛ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من
الناجين منهم ، كما تقول : هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم ، تريد استثناء
الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن » . قلت : لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ
الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد ، وهو معنىً فاسدٌ .
والثاني : أن يكونَ متصلاً ، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك ،
إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب ، وإن كان غيرُ النصب أولى . قال
الزمخشري : « فإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنى نَفْيه عنهم فكأنه
قيل : ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً
، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء ، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل » قلت
: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي « إلا قليلٌ » بالرفع ،
لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح ، كقولِه : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال الفراء : « المعنى : فلم يكن ، لأن في
الاستفهام ضرباً من الجَحْد » سَمَّى التحضيض استفهاماً . ونُقِل عن الأخفش أنه
كان يرى تعيُّنَ اتصال هذا الاستثناء ، كأنه لَحَظَ النفيَ .
و « مِن » في « مِمَّنْ أَنْجَيْنا » للتبعيض . ومنع الزمخشري أن تكونَ للتبعيض ،
بل للبيان فقال : « حقُّها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين
وحدهم ، بدليل قوله عز وجل : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء
وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] . قلت : فعلى
الأول يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل » قليلاً « ، وعلى الثاني : يتعلَّق بمحذوف
على سبيل البيان ، أي : أعني .
قوله : { واتبع } العامَّةُ على » أتَّبع « بهمزة وصل وتاءٍ مشددة ، وباء ،
مفتوحتين ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه معطوفٌ على
مضمر ، والثاني : أن الواوَ للحال لا للعطف ، ويتضح ذلك بقول الزمخشري : » فإن قلت
: علامَ عَطَف قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } قلت : إنْ كان معناه : «
واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأن المعنى : إلا قليلاً مِمَّن أنجينا
منهم نُهُوا عن الفساد ، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم ، فهو عطفٌ على » نُهوا «
وإن كان معناه : واتَّبعوا جزاء الإِتراف ، فالواو للحال ، كأنه قيل : أَنْجَيْنا
القليل ، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم » .
قلت : فجوَّز في قولِه : « ما أُتْرفوا » وجهين أحدُهما : أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ
حذفِ مضاف ، و « ما » واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم ، والثاني
: أنه على حَذْفِ مضاف ، أي : جزاء ما أترفوا ، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في
« واتَّبع » كما عرفت .
والإِتراف
: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال : صبيٌّ مُتْرَفٌ ، أي : مُنْعَم البدن ،
وأُتْرفوا : نَعِموا . وقيل : التُّرْفة : التوسُّع في النِّعْمة .
وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر « وأُتبع » بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء
وكسر الباء مبنياً للمفعول ، ولا بد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف ، أي : أُتْبِعوا
جزاء ما أُتْرفوا فيه . و « ما » يجوز أن تكونَ بمعنى الذي ، وهو الظاهرُ لعَوْد
الضمير في « فيه » عليه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، أي : جزاءَ إترافهم .
قوله : { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أن تكونَ عطفاً على
« أُتْرِفُوا » إذا جعلنا « ما » مصدريةً ، أي : اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين
. والثاني : أنه عطفٌ على « اتَّبع » ، أي : اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين
بذلك؛ لأنَّ/ تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام . الثالث : أن يكونَ اعتراضاً وحكماً
عليهم بأنهم قومٌ مجرمون ، ذكر ذلك الزمخشريُّ . قال الشيخ : « ولا يُسَمَّى هذا
اعتراضاً في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى
الآخرِ » .
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
قوله تعالى : { لِيُهْلِكَ } : فيه الوجهان المشهوران ، وهما زيادةُ اللامِ في خبر كان دلالةً على التأكيد كما هو رأي الكوفيين أو كونُه متعلقةً بخبر كان المحذوف ، وهو مذهبُ البصريين . و « بظلمٍ » متعلق ب « يُهْلك » والباءُ سببيةٌ . وجوَّز الزمخشري أن تكونَ حالاً من فاعل « ليُهْلِكَ » . وقوله : « وأهلُها مُصْلحون » جملة حالية .
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } : ظاهرُه أنه متصلُ وهو استثناءٌ مِنْ فاعل «
يَزالون » أو من الضمير في « مختلفين » . وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً
، أي : لكن مَنْ رَحِمَ لم يختلفوا ، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك . و « لذلك » في
المشار إليه أقوال كثيرة أظهرها : أنه الاختلافُ المدلولُ عليه بمختلفين كقوله :
2731 إذا نُهي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالفَ ، والسَّفيهُ إلى خلافِ
رَجَعَ الضميرُ من « إليه » على السَّفَه المدلولِ عليه بلفظ « السَّفيه » ، ولا
بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خَلَقَهم . واللامُ في
الحقيقة للصيرورة ، أي : خَلَقَهم ليصير أكثرهم إلى الاختلاف . وقيل : المراد به
الرحمة المدلول عليها بقوله : « رحم » وإنما ذُكِّر ذهاباً بها إلى الخير . وقيل :
المرادُ به المجموعُ منهما ، وإليه نحا ابنُ عباس كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك }
[ البقرة : 68 ] . وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله : « وتَمَّت كلَّمة ربك ،
ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو قول مرجوح؛ لأن الأصلَ عدمُ ذلك . وقوله : »
أجمعين « تأكيد ، والأكثر أن تُسْبَقَ ب » كل « وقد جاء هنا دونَها .
والجِنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد ، والتاءُ فيه للمبالغة . وقيل : الجنَّة جمع
جِنّ ، وهو غريبٌ ، فيكون مثل كَمْء للجمع وكَمْأة للواحد .
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قوله
تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ } : في نصبه أوجه ، أحدها : أنه مفعولٌ به والمضاف
إليه محذوفٌ ، عُوِّض منه التنوين ، تقديره : وكل نبأ نَقُصُّ عليك . و « مِنْ
أنباء » بيانٌ له أو صفة إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة . وقوله : « ما نُثَبِّتُ »
يجوز أن يكونَ بدلاً من « كلاً » ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر ، أي : هو ما نثبِّت
، أو منصوبٌ بإضمار أعني .
الثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، أي : كلَّ اقتصاصٍ نَقُصُّ ، و « مِنْ أنباء »
صفةٌ أو بيان ، و « ما نُثَبِّت » هو مفعول « نَقُصُّ » .
الثالث : كما تقدَّم ، إلا أنه بجَعْل « ما » صلةً ، والتقدير : « وكلاً نَقُصُّ
من أنباء الرسل نُثَبِّت به فؤادك ، كذا أعربه الشيخ وقال : كهي في قوله : {
قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .
الرابع : أن يكون » كلاً « نصباً على الحال من » ما نُثَبِّت « وهي في معنى جميعاً
. وقيل : بل هي حال من الضمير في » به « . وقيل : بل هي حال من » أنباء « ، وهذان
الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش ، فإنه يُجيز تقديم حالِ المجرورِ بالحرف عليه ،
كقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] في قراءةِ
مَنْ نصب » مَطْويات « وقول الآخر :
2732 رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقبي أَدْراعهم ... فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار
وإعراب باقي السورة واضح ممَّا تقدم .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وقرأ نافع وحفص « يُرجع » مبنياً للمفعول ، والباقون مبنياً للفاعل . ونافع وابن عامر وحفص على « تَعْملون » بالخطاب لأنَّ قبله « اعملوا » والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله : { لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
قد تَقَدَّم الكلامُ على نحوِ قولِه « تلك آياتُ » في أول يونس .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
قوله
تعالى : { قُرْآناً } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ بدلاً من ضمير
« أَنْزَلْناه » ، أو حالاً مُوَطِّئةً منه ، والضميرُ في « أَنْزَلْناه » على
هذين القولين يعودُ على « الكتاب » . وقيل : « قُرْآناً » مفعولاٌ به والضميرُ في
« أَنْزلْناه » ضميرُ المصدر .
و « عربيَّاً » نعتٌ للقرآن . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في «
قُرْآناً » إذا تحمَّل ضميراً ، يعني إذا جَعَلْناه حالاً مُؤَوَّلاً بمشتق ، أي :
أَنْزَلْناه مُجْتَمِعاً في حال كونِ عربيَّاً . والعربيُّ منسوب للعرب لأنه نَزلَ
بلغتِهم . وواحدُ العَرَبِ عربيٌ ، كما أن واحدَ الرومِ روميٌّ . وعَرَبةُ بفتح
الراء ناحيةُ دارِ إسماعيلَ النبيِّ عيله السلام . قال الشاعر :
2377 وعَرْبَةُ أرضٌ ما يُحِلُّ حرامَها ... مِنَ الناسِ إلا اللَّوْذَعِيُّ
الحُلاحِلُ
سكَّن راءَها ضرورةً ، فيجوز أن يكونَ العربيُّ منسوباً إلى هذه البقعة .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
قوله
تعالى : { أَحْسَنَ القصص } : في انتصاب « أحسنَ » وجهان ، [ أحدهما ] : أن يكونَ/
منصوباً على المفعول به ، ولكنْ إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ
كالخَلْق بمعنى المَخْلوق ، أو جعَلْتَه فَعَلاً بمعنى مفعول كالقَبَضِ والنَّقَص
بمعنى المَنْقُوص والمقبوض ، أي : نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الأشياءِ المقتصَّة .
والثاني : أن يكونَ منصوباً على المصدرِ المُبَيِّنِ ، إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً
غيرَ مرادٍ به المفعولُ ، ويكون المقصوصُ على هذا محذوفاً ، أي : نَقُصُّ عليك
أحسنَ الاقتصاص . و « أَحْسَنَ » يجوز أن تكونَ أفْعَل تفضيلٍ على بابها ، وأن تكونَ
لمجرَّدِ الوصفِ بالحُسْن ، وتكون من بابِ إضافة الصفةِ لموصوفِها ، أي : القصص
الحسن .
قوله : { بِمَآ أَوْحَيْنَآ } الباءُ سببيةٌ ، وهي متعلقةٌ ب « نَقُصُّ » و « ما »
مصدريةٌ ، أي : بسبب إيحائنا .
قوله : { هذا القرآن } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهرُ أن ينتصبَ على
المفعولِ به ب « أَوْحَيْنا » . والثاني : أن تكون المسألةُ من بابِ التنازع ،
أعني بين « نَقُصُّ » وبين « أَوْحَيْنا » فإنَّ كلاًّ منهما يطلبُ « هذا القرآن »
، وتكونُ المسألةُ من إعمال الثاني ، وهذا إنما يتأتى على جَعْلِنا « أَحْسَنَ » منصوباً
على المصدرِ ، ولم نُقَدِّرْ ل « نَقُصُّ » مفعولاً محذوفاً .
قوله : « وَإِن كُنتَ » إلى آخره تقدَّمه نظيرُه .
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
قوله
تعالى : { إِذْ قَالَ } : في العاملِ فيه أوجهٌ ، أظهرها : أنه منصوبٌ ب { قَالَ
يابني } [ يوسف : 5 ] ، أي : قال يعقوب : يا بُنَيَّ ، وقتَ قولِ يوسفَ له كيت
وكيت ، وهذا أسهلُ الوجوهِ ، إذ فيه إبقاءُ « إذ » على كونِه ظرفاً ماضياً . وقيل
: الناصبُ له « الغافلين » قاله مكي . وقيل : هو منصوبٌ ب « نَقُصُّ » ، أي :
نَقُصُّ عليك وقتَ قولِه كيت وكيت ، وهذا فيه إخراجُ « إذ » عن المضيِّ وعن
الظرفية ، وإن قَدَّرْتَ المفعولَ محذوفاً ، أي : نَقُصُّ عليك الحالَ وقتَ قولِه
، لزم إخراجها عن المُضِيّ . وقيل : هو منصوبٌ بمضمر ، أي : اذكر . وقيل : هو
منصوب على أنه بدلٌ مِنْ « أَحْسَنَ القصص » بدلُ اشتمال . قال الزمخشري : « لأنَّ
الوقتَ يَشْمل على القصص وهو المقصوص » .
قوله : { ياأبت } قرأ ابن عامر بفتح التاء ، والباقون بكسرِها . وهذه التاءُ عوضٌ
من ياء المتكلم ، ولذلك لا يجوز الجمعُ بينهما إلا ضرورةً ، وهذا يختصُّ بلفظتين .
يا أبت ، ويا أَمَتِ ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت : « يا صاحِبَتِ » لم
يَجُز البتة ، كما اختصَّتْ لفظةُ الأمِّ والعمِّ بحكمٍ في نحو « يا بن أُمّ » .
ويجوز الجمعُ بين هذه التاءِ وبين كلٍ مِنَ الياءِ والألفِ ضرورةً كقوله :
2734 يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَساكا ... وقول الآخر :
2735 أيا أَبَتا لا تَزَلْ عندَنا ... فإنَّا نخافُ بأنْ نُخْتَرَمْ
وقول الآخر :
2736 أيا أبتي لا زِلْتَ فينا فإنَّما ... لنا أَمَلٌ في العيشِ ما دُمْتَ عائِشا
وكلام الزمخشري يُؤْذِنُ بأنَّ الجمعَ بين التاءِ والألفِ ليس ضرورةً فإنه قال : «
فإن قلت : فما هذه الكسرةُ؟ قلت : هي الكسرةُ التي كانت قبل الياءِ في قولِك » يا
أبي « فَزُحْلِقَتْ إلى التاء لاقتضاءِ تاءِ التأنيثِ أن يكونَ ما قبلها مفتوحاً .
فإن قُلْتَ : فما بالُ الكسرةِ لم تَسْقُطْ بالفتحة التي اقْتَضَتْها التاءُ ،
وتبقى التاءُ ساكنة؟ قلت : امتنع ذلك فيها لأنها اسمٌ ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ
لأصالتِها في الإِعراب ، وإنما جاز تسكينُ الياء وأصلُها أن تُحَرَّك تخفيفاً
لأنها حرف لين ، وأمَّا التاءُ فحرفٌ صحيحٌ نحو كاف الضمير ، فلزم تحريكُها . فإنْ
قلت : يُشْبه الجمعُ بين هذه التاءِ وبين هذه الكسرةِ الجمعَ بين العِوَضِ
والمُعَوَّضِ منه؛ لأنها في حكم الياءِ إذا قلتَ : يا غلامِ ، فكما لا يجوزُ » يا
أبتي « لا يجوز » يا أبتِ « . قلت : الياء والكسرةُ قبلها شيئان ، والتاءُ عوضٌ من
أحد الشيئين وهو الياءُ ، والكسرةُ غيرُ مُتَعَرَّضٍ لها ، فلا يُجْمَعُ بين
العِوَض والمُعَوَّض منه ، إلا إذا جُمِعَ بين التاءِ والياءِ لا غير . ألا ترى
إلى قولهم : » يا أبتا « مع كونِ الألفِ فيه بدلاً من الياء كيف جاز الجمعُ بينها
وبين التاء ، ولم يُعَدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوض منه؟ فالكسرة أبعدُ من ذلك
.
فإن
قلتَ : قد دَلَّتِ الكسرةُ في « يا غلامِ » على الإِضافة لأنها قرينةُ الياءِ
ولصيقتُها ، فإن دَلَّت على مِثْلِ ذلك في « يا أبت » فالتاء المعوَّضَةُ لَغْوٌ ،
وجودُها كعَدَمِها . قلت : بل حالُها مع التاءِ كحالِها مع الياءِ إذا قلت : يا
أبي « .
وكذا عبارة الشيخ فإنه قال : » وهذه التاءُ عوضٌ من ياء الإِضافة فلا تجتمعان ،
وتجامعُ الألفَ التي هي بدلٌ من الياء قال :
2737 يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَسَاكا ... / وفيه نظرٌ من حيث إنَّ الألفَ كالياءِ
لكونها بدلاً منها ، فينبغي أن لا يُجْمَعَ بينهما .
وهذ التاءُ أصلُها للتأنيث قال الزمخشري : « فإن قلت : ما هذه التاءُ؟ قلت : تاءُ
تأنيثٍ وقعت عوضاً من ياء الإِضافة ، والدليلُ على أنَّها تاءُ تأنيثٍ قَلْبُها
هاءً في الوقف » . قلت : وما ذَكَرَه مِنْ كونها تُقْلَبُ هاءً في الوقف قرأ به ابنُ
كثير وابنُ عامر ، والباقون وقفوا عليها بالتاء ، كأنهم أَجْرَوْها مُجْرى تاء
الإِلحاق في بنت وأخت ، ومِمَّنْ نَصَّ على كونِها للتأنيث سيبويه فإنه قال : «
سألتُ الخليل عن التاء في » يا أبت « فقال : » هي بمنزلة التاء في تاء خالة وعمَّة
« يعني أنها للتأنيث ، ويدلُّ على كونِها للتأنيث أيضاً كَتْبُهم إياها هاءً ،
وقياس مَنْ وَقَفَ بالتاءِ أن يكتَبها تاءً كبنت وأخت .
ثم قال الزمخشري : » فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت : كما جاز
نحو قولك : حمامة ذَكَر وشاةٌ ذَكَر ورجلٌ رَبْعَة وغلام يَفَعَة « . قلت : يعني
أنها جِيْءَ بها لمجردِ تأنيث اللفظ كما في الألفاظِ المستشهد بها . ثم قال
الزمخشري : » فإن قلتَ : فلِمَ ساغ تعويضُ تاءِ التأنيث من ياءِ الإِضافة؟ قلت :
لأنَّ التأنيثَ والإِضافةَ يتناسبان في أنَّ كلِّ واحدٍ منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى
الاسم في آخره « . قلت : وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يُعمل به عند الحُذَّاق ، فإنه
يُسَمَّى الشَّبَه الطردي ، يني أنه شَبَهٌ في الصورة .
وقال الزمخشري : » إنه قُرىء « يا أَبَت » بالحركات الثلاث « . فأمَّا الفتحُ
والكسر فقد عَزَيْتُهما لقارئهما ، وأمَّا الضمُّ فغريبٌ جداً ، وهو يُشْبِهُ مَنْ
يَبْني المنادى المضافَ لياء المتكلم على الضم كقراءةِ مَنْ قرأ وستأتي إن شاء
اللَّه { قَالَ رَبُّ احكم } [ الأنبياء : 112 ] بضم الباء ، ويأتي توجيهها هناك ،
ولِمَ قُلْنا إنه مضافٌ للياء ولم نجعلْه مفرداً من غير إضافة؟ .
وقد تقدَّم توجيهُ كَسْرِ هذه التاء بما ذكره الزمخشري من كونِها هي الكسرةَ التي
قبل الياء زُحْلِقَتْ إلى التاء . وهذا أحد المَذْهَبَيْنِ ، والمذهب الآخر : أنها
كسرةٌ أجنبية جيء بها لتدلَّ على الياء المعوَّض منها ، وليس بخلافٍ طائل .
وأمَّا
الفتحُ ففيه أربعةُ أوجه ، ذكر الفارسي منها وجهين ، أحدهما : أنه اجْتَزَأَ
بالفتحة عن الألف ، يعني عن الألف المنقلبة عن الياء ، كما اجتزأ عنها الآخر بقوله
:
2738 ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ منِّي ... بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتُرِىء بها عنها في يا بن أمَّ ، ويا بنَ عمَّ كما تقدم . والثاني : أنَّه
رُخِّم بحذف التاء ، ثم أقحمت التاء مفتوحة ، وهذا كما قال النابغة :
2739 كِليْني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسِيه بطيءِ الكواكبِ
بفتح تاء « أُمَيْمة » على ما ذَكَرْت لك .
الثالث : ما ذكره الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب في أحد قوليه وهو أنَّ الألفَ
في « با أبتا » للندبة ، ثم حَذَفها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة . وهذا قد يَنْفَعُ
في الجواب عن الجمع بين العِوَض والمُعَوَّض منه . وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهبَ
بأنَّ الموضع ليس موضعَ ندبة .
الرابع : أنَّ الأصلَ : يا أبةً بالتنوين ، فحذف التنوين لأنَّ النداءَ بابُ
حَذْفٍ ، وإلى هذا ذهب قطرب في القول الثاني . وقد رُدَّ هذا عليه بأن التنوينَ لا
يُحْذَفُ من المنادى المنصوب نحو : « يا ضارباً رجلاً » .
وقرأ أبو جعفر « يا أبي » بالياء ، ولم يُعَوِّض منها التاء .
وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان : « أحدَ عْشر » بسكون العين ، كأنهم قصدوا التنبيه
بهذا التخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً .
وقوله : { والشمس والقمر } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن تكونَ الواوُ عاطفةً ،
وحينئد يحتمل أن يكون ذلك من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً؛ لأن الشمسُ
والقمر دخلا في قوله { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } فهو كقوله : { وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد قوله : « وملائكتِه » ، ويُحْتمل أن لا يكون
كذلك ، وتكون الواوُ لعطفِ المُغَاير ، فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادةً على
الأحدَ عشرَ بخلاف الأول ، فإنه يكون رأى الأحدَ عشرَ ، ومِنْ جملتها الشمس والقمر
، والاحتمالان منقولان عن أهل التفسير ، وممَّنْ نَقَلهما الزمخشري .
والوجه الثاني : أن تكونَ الواوُ بمعنى مع ، إلا أنه مرجوحٌ ، لأنه متى أمكن
العطفُ من غير ضعفٍ ولا إخلالِ معنىً رَجَح على المعيَّة ، وعلى هذا فيكون كالوجه
الذي قبله بمعنى أنه رأى الشمسَ والقمرَ زيادةً على الأحد عشر كوكباً .
وقوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } يحتمل وجهين ، أحدهما : أنها جملةُ
كُرِّرَتْ للتوكيد لمَّا طال الفصلُ بالمفاعيل كُرِّرَتْ كما كُررت « أنكم » في
قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ / إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً
أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] كذا قاله الشيخ ، وسيأتي تحقيق هذا إن
شاء اللَّه تعالى . والثاني : أنه ليس بتأكيدٍ ، وإليه نحا الزمخشري : فإنه قال :
« فإن قُلْتَ : ما معنى تكرارِ » رأيتُهم «؟ قلت : ليس بتكرارٍ ، إنما هو كلامٌ
مستأنفٌ على تقديرِ سؤالٍ وقع جواباً له ، كأنَّ يعقوبَ عليه السلام قال له عند
قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر } كيف رأيتها؟
سائلاً عن حال رؤيتها ، فقال : رأيتهم لي ساجدين » .
قلت
: وهذا أظهرُ لأنه متى دار الكلامُ بين الحَمْل على التأكيد أو التأسيس فَحَمْلُه
على الثاني أولى .
و « ساجدين » صفةٌ جُمِعَ جَمْعَ العقلاء . فقيل : لأنه لمَّا عامَلَهم معاملةَ
العقلاء في إسنادِ فِعْلَهم إليهم جَمَعَهم جَمْعَهم ، والشيءُ قد يُعامَلُ
معاملةَ شيءٍ آخرَ إذا شاركه في صفةٍ ما .
والرؤيةُ هنا منامِيَّةٌ ، وقد تقدَّم أنها تنصب مفعولين كالعِلْمية ، وعلى هذا
يكون قد حَذَفَ المفعولَ الثاني من قوله { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً }
ولكنَّ حَذْفَه اقتصاراً ممتنعٌ ، فلم يَبْقَ إلا اختصاراً ، وهو قليل أو ممتنع
عند بعضهم .
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قوله
تعالى : { لاَ تَقْصُصْ } : قرأ العامَّة بفكِّ الصادّيْن وهي لغةُ الحجاز . وقرأ
زيد بن علي بصادٍ واحدة مشدَّدة ، والإِدغامُ لغةُ تميمٍ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا
في المائدة عند قوله { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ } [ المائدة : 54 ] .
والرؤيا مصدرٌ كالبُقْيا . وقال الزمخشري : « الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها
مختصةٌ بما كان في النوم دون اليقظة ، فرَّق بينهما بحَرْفَي التأنيث كما قيل القُرْبَةُ
والقربى » .
وقرأ العامَّة « الرُّؤْيا » بهمزٍ مِنْ غير إمالة ، وقرأها الكسائي في رواية
الدُّوري عنه بالإِمالة . وأمَّا الرؤيا ورؤياي الاثنتان في هذه السورة فأمالهما
الكسائي من غير خلافٍ في المشهور ، وأبو عمرو يُبْدِلُ هذه الهمزةَ واواً في طريق
السوسي . وقال الزمخشري : « وسمع الكسائي » رُيَّاك « و » رِيَّاك « بالإِدغام وضم
الراء وكسرها ، وهي ضعيفةٌ لأنَّ الواو في تقدير الهمزة فلم يَقْوَ إدغامها كما لم
يَقْوَ إدغام » اتَّزر « من الإِزار واتَّجَرَ من الأَجْر » يعني أنَّ العارض لا
يُعْتَدُّ به ، وهذا هو الغالب . وقد اعتدَّ القُرّاءُ بالعارض في مواضع ستقف بها
على أشياءَ إن شاء اللَّهُ نحو « رِيَّا » في قوله { أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم
: 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] .
وأمَّا كسرُ « رِيَّاك » فلئلاَّ يؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمة ، وأمَّا الضمُّ
فهو الأصل ، والياءُ صد اسْتُهْلِكَتْ بالإِدغام .
قوله : { فَيَكِيدُواْ } منصوبٌ في جواب النهي وهو في تقدير شرط وجزاء ، ولذلك
قدَّره الزمخشري بقوله : « إنْ قصصتها عليهم كادوك » . و « كَيْداً » فيه وجهان ،
أحدهما : وهو الظاهر أنه مصدرٌ مؤكدٌ ، وعلى هذا ففي اللام في قوله « لك » خمسةُ
أوجهٍ ، أحدُها : أن يكون « يكيد » ضُمِّن « معنى ما يتعدَّى باللام؛ لأنه في
الأصل متعدٍّ بنفسه قال تعالى : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير :
فيحتالوا لك بالكيد . قال الزمخشري مقرراً لهذا الوجه : » فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل :
فيكيدوك كما قيل فكيدوني . قلت : ضُمِّن معنى فعلٍ يتعدى باللام ليفيدَ معنى فعلِ
الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمَّن فيكون آكدَ وأَبْلَغَ في التخويف وذلك نحو :
فيحتالوا لك ، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر « .
الوجه الثاني من أوجهِ اللام : أن تكونَ مُعَدِّيةً ، ويكون هذا الفعلُ ممَّا
يتعدى بحرفِ الجر تارةً ، وبنفسهِ أخرى كنصح وشكر ، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ ،
لأنَّ ذاك بابٌ لا يَنْقاس إنما يُقْتصر فيه على ما ذكره النحاةُ ولم يَذْكروا منه
» كاد « .
الثالث : أن اللامَ زائدةٌ في المفعول به كزيادتها في قوله { رَدِفَ لَكُم } قاله
أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأنَّ اللامَ لا تُزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمولِ أو
كونِ العاملِ فرعاً .
الرابع
: أن تكونَ اللامُ للعلة ، أي : فيكيدوا من أجلك ، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ
اقتصاراً أو اختصاراً . /
الخامس : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ، لأنها حالٌ مِنْ : « كَيْداً » إذ هي في الأصلِ
يجوزُ أن تكونَ صفةً لو تأخَّرَتْ « .
الوجه الثاني مِنْ وَجْهَيْ » كَيْداً « أن يكونَ مفعولاً به ، أي : فيصنعوا لك
كيداً ، أي : أمراً يكيدونَك به ، وهو مصدرٌ في موضع الاسمِ ومنه { فَأَجْمِعُواْ
كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدون به ، ذكره أبو البقاء وليس بالبيِّن ،
وعلى هذا ففي اللامِ في » لك « وجهان فقط : كونُها صفةً في الأصل ثم صارَتْ حالاً
، أو هي للعلة ، وأمَّا الثلاثةُ الباقيةُ فلا تتأتى وامتناعُها واضح .
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قوله
تعالى : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّك } الكاف في موضع نصبٍ أو رفعٍ ، فالنصبُ :
إمَّا على الحال من ضمير المصدر المقدَّر ، وقد تقدم أنه رأيُ سيبويه ، وإمَّا على
النعتِ لمصدرٍ محذوف والمعنى : مثلَ ذلك الاجتباء العظيم يَجْتبيك . والرفعُ على
خبر ابتداء مضمر أي : الأمرُ كذلك . وقد تقدَّم له نظائر .
قوله : { وَيُعَلِّمُكَ } مستأنفٌ ليس داخلاً في حَيِّز التشبيه ، والتقدير : وهو
يُعَلِّمك . والأحاديث : جمع تكسير ، فقيل : لواحدٍ ملفوظٍ به وهو « حديث » ولكنه
شَذَّ جمعُه على أحاديث ، وله أخواتٌ في الشذوذ كأباطيل وأقاطيع وأعاريض في باطل
وقطيع وعَرُوض . وزعم أبو زيد أن لها واحداً مقدراً وهو أُحْدُوثة ونحوه ، وليس
باسم جمعٍ؛ لأنَّ هذه الصيغةَ مختصة بالتكسير ، وإذا كانوا قد التزموا ذلك فيما لم
يُصَرَّح له بمفردٍ مِنْ لفظه نحو : عباديد وشماطيط وأبابيل ففي « أحاديث » أَوْلى
، ولهذا رُدَّ على الزمخشري قولُه : « وهي اسم جمعٍ للحديث وليس بجمعِ أُحْدوثة »
بما ذكرته ، ولكنَّ قولَه « ليس بجمعِ أُحْدوثة » صحيحٌ؛ لأن مذهبَ الجمهور خلافُه
، على أنَّ كلامَه قد يريد به غيرَ ظاهرِه مِنْ قوله اسم جمع .
وقوله : { عَلَيْكَ } يجوز أَنْ يتعلَّق ب « يُتِمَّ » ، وأن يتعلَّقَ ب « نعمته »
. وكرَّر « على » في قوله : « وعلى آل » ليمكنَ العطفُ على الضمير المجرور . هذا
مذهبُ البصريين ، وتقدَّم بيانه . وقوله : « مِنْ قبلُ » أي مِنْ قبلك .
قوله : { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } يجوز أن يكونَ بدلاً من « أبويك » أو عطف
بيان ، أو على إضمارِ أَعْني .
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
وقرأ ابن كثير « آية » بالإِفراد ، والمرادُ بها الجنسُ ، والباقون بالجمع تصريحاً بالمرادِ لأنها كانت علاماتٍ كثيرة . وزعم بعضُهم أنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه : للسائلين ولغيرهم ، ولا حاجةَ إليه . و « للسائلين » متعلقٌ بمحذوف نعتاً لآيات .
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
قوله
تعالى : { أَحَبُّ إلى أَبِينَا } : « أحبُّ » أفعل تفضيل ، وهو مبنيٌّ مِنْ «
حُبَّ » المبني للمفعول وهو شاذ . وإذا بَنَيْتَ أفعل التفضيل مِنْ مادة الحب
والبغض تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب « إلى » ، وإلى المفعولِ المعنويّ باللام أو ب
« في » ، فإذا قلت : « زيدٌ أحبُ إليَّ مِنْ بكر » يعني أنك تحب زيداً أكثر من بكر
فالمتكلم هو الفاعلُ ، وكذلك : « هو أبغض إليَّ منه » أنت المُبْغِض ، وإذا قلت :
زيدٌ أحبُّ لي مِنْ عَمْروٍ ، أو أَحَبُّ فيَّ منه ، أي : إنَّ زيداً يحبُّني أكثر
من عمرو . وقال امرؤ القيس :
2740 لَعَمْري لَسَعْدٌ حيث حُلَّت ديارُه ... أحبُّ إلينا منكَ فافرسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءَتِ الآيةُ الكريمة ، فإنَّ الأبَ هو فاعل المحبَّة . واللام في «
ليوسف » لامُ الابتداء أفادَتْ توكيداً لمضمون الجملة ، وقوله : « أحبُّ » خبر
المثنى ، وإنما لم يطابِقْ لِما عَرَفْتَ مِنْ حكم أفعلَ التفضيل .
والواو في « ونحن عصبةٌ » للحال ، فالجملةُ بعدها في محل نصب على الحال . والعامَّةُ
على رفع « عُصْبة » خبراً ل « نحن » . وقرأ أمير المؤمنين بنصبها على أن الخبر
محذوف ، والتقدير : نحن نُرى أو نجتمع فيكون « عصبة » حالاً ، إلا أنه قليلٌ جداً
، وذلك لأن الحال لا تَسُدُّ مَسَدَّ الخبر إلا بشروطٍ ذكرها النحاة نحو « ضَرْبي
زيداً قائماً » ، و « أكثر شُرْبي السَّوِيْقَ ملتوتاً » . قال ابن الأنباري : «
هذا كما تقول العرب : » إنما العامريُّ عِمَّتَه « أي : يتعمَّم عِمَّته » .
قال الشيخ : « وليس مثلَه لأنَّ » عصبة « ليس بمصدرٍ ولا هيئةٍ ، فالأجودُ أن
يكونَ من باب » حُكْمُك مُسَمَّطاً « . قلت : ليس مرادُ ابنِ الأنباري إلا
التشبيهَ من حيث إنه حَذَف الخبر وسَدَّ شيءٌ آخرُ مَسَدَّه في غير المواضع
المنقاسِ فيها ذلك ، ولا نَظَر لكونِ المنصوب مصدراً أو غيرَه . وقال المبرد : »
هو من باب « حُكْمُك مُسَمَّطاً » أي : / لك حكمُك مُسَمَّطاً ، قال الفرزدق : «
يا لَهْذَمُ حُكمك مُسَمَّطاً » أراد : لك حكمُك مُسَمَّطاً ، قال : « واسْتُعْمل
هذا فَكَثُرَ حتى حُذِف استخفافاً لعلم ما يريد القائل كقولك : » الهلالُ واللَّهِ
« أي : هذا الهلال » . والمُسَمَّط : المُرْسَلُ غير المردودِ . وقدَّره غيرُ
المبرد : حُكْمُك ثَبَتَ مُسَمَّطاً . وفي هذا المثالِ نظرٌ؛ لأنَّ النحويين
يجعلون مِنْ شَرْط سَدِّ الحالِ مَسَدَّ الخبرِ أن لا يَصْلُحَ جَعْلُ الحال خبراً
لذلك المبتدأ نحو : « ضربي زيداً قائماً » بخلاف : « ضربي زيداً شديدٌ » ، فإنها
تُرْفع على الخبرية ، و تَخْرج المسألة من ذلك ، وهذه الحال أعني مُسَمَّطاً
يَصْلُحُ جَعْلُها خبراً للمبتدأ ، إذ التقدير : حُكْمُكَ مُرْسَلٌ لا مَرْدُود ،
فيكون هذا المَثَلُ على ما قَرَّرْتُه مِنْ كلامهم شاذاً .
والعُصْبة : ما زاد على عشرة ، عن ابن عباس ، وعنه : ما بين عشرةٍ إلى أربعين .
وقيل : الثلاثة نفر ، فإذا زاد على ذلك إلى تسعة فهم رَهْط ، فإذا بلغوا العشرة
فصاعداً فعُصْبة . وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة . وقيل من عشرة إلى خمسة عشر .
وقيل : ستة . وقيل : سبعة . والمادة تدلُّ على الإِحاطة من العِصابة لإِحاطتها
بالرأس .
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
قوله
تعالى : { أَرْضاً } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض
تخفيفاً أي : في أرضٍ كقوله تعالى : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف
: 16 ] ، وقوله :
2741 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وإليه ذهب الحوفيُّ وابن عطية . والثاني : النصب على الظرفية . قال الزمخشري : «
أرضاً منكورةً مجهولةً بعيدةً من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائِها من الناس ،
ولإِبهامِها من هذا الوجه نُصِبَتْ نَصْبَ الظروفِ المبهمة » . وقد رَدَّ ابن عطية
هذا الوجه فقال : « وذلك خطأ؛ لأنَّ الظرفَ ينبغي أن يكون مبهماً ، وهذه ليست كذلك
بل هي أرضٌ مقيَّدة بأنها بعيدة أو قاصِيَةٌ أو نحو ذلك ، فزال بذلك إبهامُها
ومعلومٌ أنَّ يوسفَ لم يَخْلُ مِن الكون في أرضٍ ، فتبيَّن أنهم أرادوا أرضاً
بعيدة غيرَ التي هو فيها قريبٌ مِنْ أبيه » .
واستحسن الشيخ هذا الردَ وقال : « وهذا الردُّ صحيح لو قلت : جلست داراً بعيدة أو
مكاناً بعيداً لم يصحَّ إلا بواسطة » في « ، ولا يجوز حَذْفُها إلا في ضرورةِ شعرٍ
، أو مع » دَخَلْت « على الخلاف في » دَخَلْت « أهي لازمةٌ أم متعديةٌ؟ » .
قلت : وفي الكلامَيْن نظرٌ؛ إذ الظرفُ المبهم عبارة عَمَّا ليس له حدودٌ تَحْصُره
ولا أقطارٌ تحويه ، و « أرضاً » في الآية الكريمة من هذا القبيل .
الثالث : أنها مفعولٌ ثانٍ ، وذلك إنْ تَضَمَّن « اطرحوه » أَنْزِلوه ، وأَنْزِلوه
يتعدَّى لاثنين قال تعالى : { أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } [ المؤمنون : 29
] . وتقول : أَنْزَلْت زيداً الدار .
والطَّرْح : الرَّمْي ، ويُعَبَّر به عن الاقتحام في المخاوف . قال عُرْوة بن
الورد :
2742 ومَنْ يَكُ مثلي ذا عيالٍ ومُقْتِراً ... من المال يَطْرَحْ نفسَه كلَّ
مَطْرَحِ
و « يَخْلُ لكم » جوابُ الأمر ، وفيه الإِدغام والإِظهار ، وقد تقدَّم تحقيقُهما
عند قوله تعالى : { يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } [ آل عمران : 85 ] .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
قوله
تعالى : { فِي غَيَابَةِ } : قرأ نافع « غَيابات بالجمع في الحرفين مِنْ هذه
السورة ، جُعِل ذلك المكانُ أجزاءً ، وسُمِّي كلُّ جزء غَيَابَة ، والباقون
بالإِفراد وهو واضحٌ . وابن هرمز . كنافع إلا أنه شَدَّد الياءَ . والأظهرُ في هذه
القراءة أن يكون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة فهو وصفٌ في الأصل . وألحقه
الفارسيُّ بالاسم الجائي على فَعَّال نحو ما ذكر سيبويه من » الفَيَّاد « . قال
ابن جني : » ووجَدْت من ذلك « الفَخَّار » : الخَزَف « . وقال صاحب » اللوامح : «
يجوز أن يكون على فَعَّالات كحَمَّامات ، ويجوز أن يكونَ على فَيْعالات كشيطانات
جمع شَيْطانة ، وكلٌّ للمبالغة » .
وقرأ الحسن : « غَيَبَة » بفتح الياء ، وفيها احتمالان ، أحدهما : أَنْ تكونَ في
الأصل مصدراً كالغَلَبة . والثاني : أن يكونَ جمع غائب نحو : صانع وصَنَعَة . قال
الشيخ : « وفي حرف أُبَيّ » غَيْبة « بسكون الياء ، وهي ظلمة الرَّكِيَّة » . قلت
: والضبطُ أمرٌ حادثٌ فكيف يُعرف ذلك في المصحف؟ وقد تقدَّم نحوٌ من ذلك فيما تقدم
.
والغَيَابة : قال الهرويٌّ : « شِبْهُ لَجَفٍ أو طاقٍ في البئر فُوَيْق الماء يغيب
ما فيه عن العيون . وقال الكلبي : » الغَيَابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لانَّ أسفله
واسعٌ ورأسَه ضيق فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه « . وقال الزمخشري : » هي
غَوْرُه وما غابَ منه عن عَيْن الناظر وأظلمُ مِنْ أسفلِه ، قال المنخل : /
2743 فإنْ أنا يَوْماً غَيَّبَتْني غَيابتي ... فسِيْروا بسَيْري في العَشيرة
والأهلِ
أراد : غَيابةَ حُفْرته التي يُدْفن فيها . والجُبُّ : البئر التي لم تُطْوَ ،
وتَسْمِيتُه بذلك : إمَّا لكونه محفوراً في جَبُوب الأرض أي : ما غَلُظ منها ، وإمَّا
لأنه قُطِعُ في الأرض ، ومنه الجَبُّ في الذَّكَر .
وقال الأعشى :
2744 لَئِنْ كنت في جُبٍّ ثمانين قامَةً ... ورُمِّيْتَ أَسْبابَ السماء بسُلَّمِ
ويُجْمع على جِبَبَة وجِباب وأَجْباب .
قوله : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ [ السيارة ] } قرأ العامَّة « يَلْتَقِطُه » بالياء
من تحت وهو الأصل . وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة بالتاء مِنْ فوق لتأنيث
المعنى ، ولإِضافته إلى مؤنث ، وقالوا : « قُطِعت بعض أصابعه » ، وقال الشاعر :
2745 إذا بعضُ السنينَ تَعَرَّقَتْنا ... كفى الأيتامَ فَقْدَ أبي اليتيمِ
وقد تقدَّمَ الكلامُ بأوسعَ مِنْ هذا في الأنعام والأعراف . ومفعول « فاعلين »
محذوفٌ أي : فاعلين ما يُحَصِّل غَرَضَكم .
والسَّيَّارة ، جمع « سَيَّار » ، وهو مثالُ مبالغة .
والالتقاط : تَنَاوُلُ الشيءِ المطروحِ ، ومنه : « اللُّقَطة » واللَّقِيط . وقال
الشاعر :
2746 ومَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ التِقاطا ...
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
قوله
تعالى : { لاَ تَأْمَنَّا } : حالٌ وتقدَّم نظيرُه . وقرأ العامَّة « تأمَنَّا »
بالإِخفاء ، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين ، لا أنَّ
النونَ تُسَكَّن رَأْساً ، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً . قال الداني : « وهو قولُ
عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس » .
وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام ، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع
الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف ، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا : وتكون
الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه ، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا
مِنْ جُمْلتها ، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو : { قِيلَ } [ البقرة :
11 ] و { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] وبابه ، وقد تقدم أولَ البقرة . ومنها إشمامُ
أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في { الصراط } [ الفاتحة : 5 ] : {
وَمَنْ أَصْدَقُ } [ النساء : 78 ] وبابهما ، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة
والنساء . فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف ، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة . ومنها
الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً ، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى .
وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ . وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار
مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب . اتفق الجمهورُ على
الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه .
وقرأ ابن هرمز « لا تَأْمُنَّا » بضم الميم ، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ
إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها ، وخطُّ المصحف بنون واحدة ، ففي قراءة الحسن
مخالفة لها .
وقرأ أبو رزين وابن وثاب « لا تِيْمَنَّا » بكسر حرف المضارعة ، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ
سَهَّل الهمزةَ . قال الشيخ : « ومجيئُه بعد » مالك « والمعنى يُرْشد إلى أنه
نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم » ما أَحْسَنَنا « في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ
بالنفي » . قلت : وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه . وقوله «
لالتبس بالنفي » صحيح .
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
قوله
تعالى : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } : فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها : قراءةُ
نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين . الثانية : قراءةُ البزي عن ابن كثير «
نَرْتَع ونلعب » بالنونِ وكسرِ العين . الثالثة : قراءةُ قنبل ، وقد اخْتُلِفَ
عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً
، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه ، فعنه قراءتان . الخامسة : قراءة أبي عمرو
وابن عامر « نرتَعْ ونلعبْ » بالنون وسكون العين والباء . السادسة : قراءة
الكوفيين : « يرتعْ ويلعبْ » بالياء من تحت وسكون العين والباء .
وقرأ جعفر بن محمد « نرتع » بالنون « ويلعب » بالياء ، ورُوِيَتْ عن ابن كثير .
وقرأ العلاء بن سيابة « يَرْتَع ويلعبُ » بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء .
وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن « نُرْتَعْ » بضم النون وسكون العين والباء . وقرأ
أبو رجاء كذلك ، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما . والنخعي ويعقوب « نرتع » بالنون
و « يلعب » بالياء . والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل .
وقرأ زيد بن علي « يُرْتَع ويُلْعَب » بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول . وقرىء «
نرتعي ونلعبُ » بثبوت الياء ورفع الباء . وقرأ ابن أبي عبلة « نَرْعي ونلعب » فهذه
أربعَ عشرةَ قراءةً ، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ .
فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف ، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه
دونهم ، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة ، وجعله مأخوذاً [ مِنْ ]
يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي . ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد أنه جَزَمَهَ
بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال :
2747 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ
ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً ، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي :
وهو يلعب ، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في « يلعب » دون « نرتع »
فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار . ومَنْ قَرَأَ : « نُرْتِع » رباعياً جعل مفعوله
محذوفاً ، أي : نُرْعي مواشِينَا ، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر/
المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد ، والأصل : نرتع فيه ونلعب فيه ،
ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار : نرتعه ونلعبه
، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في
رافعه ، فهو في الاتساع كقوله :
2748 ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن ، وتكون حالاً مقدرة . وأمَّا إثبات الياء في «
نَرْتعي » مع جزم « نلعب » وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها ، وقال
ابن عطية : « هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر » وقيل : هي لغةُ مَنْ يجزم
بالحركة المقدرة وأنشد :
2749
ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً .
و « نَرْتع » يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى ،
ويكون على حَذْف مضاف : نرتع مواشينا ، أو من المراعاة للشيء قال :
2750 تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا ... رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ
الرِّئالِ
ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ : رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة ،
ومنه قول الغضبان بن القبعثرى : « القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة »
وقال الشاعر :
2751 أكفراً بعد رَدِّ الموت عني ... وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا
قوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } جملة حالية ، والعامل فيها أحدُ شيئين :
إمَّا الأمر ، وإمَّا جوابه . فإن قلت : هل يجوز أن تكون المسألةُ من الإِعمال
لأنَّ كلاً من العاملين يصحُّ تَسَلُّطُه على الحال؟ فالجواب : ذلك لا يجوز ، لأن
الإِعمالَ يَسْتَلْزم الإِضمار ، والحال لا تُضْمر؛ لأنها لا تكون إلا نكرةً أو
مؤولةً بها .
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
قوله
تعالى : { أَن تَذْهَبُواْ } : فاعل « يَحْزُنني » ، أي : يَحْزنني ذهابُكم . وفي
هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ المضارعَ المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً ،
والنحاةُ جَعَلوها مِن القرائن المخصصة للحال ، ووجه الدلالة أنَّ « أَنْ تَذْهبوا
» مستقبلٌ لاقترانه بحرفِ الاستقبال وهي « أنْ » ، وما في حيزها فاعلٌ ، فلو
جَعَلْنا « لَيَحْزُنني » حالاً لزم سَبْقُ الفعل لفاعله وهو محالٌ . وأجيب عن ذلك
بأنَّ الفاعلَ في الحقيقة مقدرٌ حُذِف هو وقام المضافُ إليه مَقامه ، والتقدير :
ليحزنني تَوَقُّعُ ذهابِكم .
وقرأ زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن : « لَيَحْزُنِّي » بالإِدغام . وقرأ زيد بن
علي وحده « تُذْهبوا » بضم التاء مِنْ أذهب ، وهو كقوله : { تُنْبُتُ بالدهن } [
المؤمنون : 20 ] في قراءة مَنْ ضم التاء فتكون الباءُ زائدةً أو حالية .
و « الذئب » يُهْمَز ولا يُهْمز ، وبعدم الهمزة قرأ السوسي والكسائي وورش ، وفي
الوقف لا يهمزه حمزة ، قالوا : وهو مشتقٌّ مِنْ « تذاءَبَتِ الرِّيح » : إذا
هَبَّتْ مِنْ كل جهة لأنه يأتي كذلك ، ويُجْمع على ذِئاب وذُؤبان وأَذْئُب قال :
2752 وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ بعيدةٍ ... تعاوى به ذُؤْبانه وثعالِبُهْ
وأرضٌ مَذْأَبة : كثيرة الذئاب ، وذُؤابة الشعر لتحرُّكِها وتَقَلُّبها ، مِنْ ذلك
.
وقوله : { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } جملة حالية العامل فيها « يأكله » .
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قوله تعالى : { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } : جملةٌ حالية أو معترضة ، و { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } جواب القسم وحُذِف جوابُ الشرط . و « إذن » حرفُ جوابٍ ، وقد تَقَدَّم القولُ في ذلك مُشْبعاً ، ونقل أبو البقاء أنه قُرىء « عُصْبَةً » بالنصب ، وقدَّر ما قدَّمْتُه في الآية الأولى .
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
قوله
تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ } : يجوز في جوابها أوجه ، أحدها : أنه محذوفٌ ، أي
: عَرَّفْناه وأَوْصَلْنا إليه الطمأنينة . وقدَّره الزمخشري : « فَعَلُوا به ما
فَعَلوا مِن الأذى » وذكر حكايةً طويلة . وقدَّره غيرُه : عَظُمَتْ فِتْنَتُهم .
وآخرون « جَعَلوه فيها » . وهذا أَوْلَى لدلالة الكلام عليه .
الثاني : أنَّ الجوابُ مثبتٌ ، وهو قولُه { قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا } ،
أي : لمَّا كان كيت وكيت قالوا . وهذا فيه بُعْدٌ لبُعْدِ الكلامِ مِنْ بعضه .
والثالث : أنَّ الجوابَ هو قولُه « وأَوْحَيْنا » والواو فيه زائدةٌ ، أي : فلمَّا
ذهبوا به أَوْحَينا ، وهو رأيُ الكوفيين ، وجعلوا مِنْ ذلك قولَه تعالى : {
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ } [ الصافات : 103 ] ، أي : تَلَّه . وقوله : { حتى
إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ } [ الزمر : 71 ] وقولَ امرئ القيس :
2753 فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ... بنا بَطْنَ حِقْفٍ ذي رُكامٍ
عَقَنِقْلِ
أي : فلمَّا أَجَزْنَا انتحى . وهو كثيرٌ عندهم بعدَ « لَمَّا » .
وقوله : { أَن يَجْعَلُوهُ } مفعول « أَجْمعوا » ، أي : عَزَموا على أن يَجْعلوه ،
أو عَزَموا أنْ يجعلوه ، لأنه يتعدى بنفسه وبعلى ، ف « أنْ » يُحْتمل أن تكونَ على
حذف الحرف ، وأن لا تكون ، فعلى الأولِ يَحْتمل موضعَها النصبُ والجرُّ ، وعلى
الثاني يتعيَّن النصبُ .
والجَعْل يجوز أن يكونَ بمعنى الإِلقاء ، وأن يكونَ بمعنى التصيير ، فعلى الأولِ
يتعلَّق « في غيابة » بنفس الفعل قبله ، وعلى الثاني بمحذوفٍ . والفعلُ مِنْ قوله
: « وأَجْمعوا » يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على ما قبله ، وأن يكون حالاً ، و « قد »
معه مضمرةٌ عند بعضهم . والضمير في « إليه » الظاهر عَوْدُه على يوسف . وقيل :
يعود على يعقوب .
وقرأ العامَّةُ : « لَتُنَبِّئنَّهُمْ » بتاء الخطاب . وقرأ ابن عمر بياء الغيبة ،
أي : اللَّه تعالى . قال الشيخ : « وكذا في بعض مصاحف البصرة » وقد تقدَّم أن
النَّقْطَ حادثٌ ، فإن قال : مصحفٌ حادثٌ غيرُ مصحفِ عثمان فليس الكلام في ذلك .
وقرأ سَلاَّم : « لنُنَبِّئَنَّهم » بالنون . و « هذا » صفةٌ لأَمْرهم . وقيل :
بدلٌ . وقيل : بيان .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملةٌ حالية ، يجوز أن يكونَ العاملُ فيها «
أَوْحَيْنا » / ، أي : أوحينا إليه من غير شعور بالوحي ، وأن يكونَ العاملُ فيها «
لَنُنَبِّئَنَّهم » ، أي : تُخْبرهم وهم لا يعرفونك لبُعْد المدَّة وتغيُّرِ
الأحوال .
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
قوله
تعالى : { عِشَآءً } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : وهو الذي لا ينبغي أن يُقال
غيرُه أنه ظرف زمان ، أي : جاؤوه في هذا الوقت و « يبكون » جملة حالية ، أي :
جاؤوه باكين . والثاني : أن يكون « عشاء » جمع عاشٍ كقائم وقيام . قال أبو البقاء
: « ويُقرأ بضم العين ، والأصل : عُشاة مثل غازٍ وغُزاة ، فَحُذِفَتْ الهاءُ
وزِيْدت الألف عوضاً منها ، ثم قُلبت الألفُ همزةً ، وفيه كلامٌ قد ذُكر في آل
عمران عند قوله : { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } [ الآية : 156 ] ، ويجوز أن يكون جمعَ
فاعِل على فُعال ، كما جُمع فعيل على فُعال لقُرْب ما بين الكسر والضم ، ويجوز أن
يكون كنُؤام ورُباب وهو شاذٌّ » . قلت : وهذه القراءة قراءةُ الحسن البصري ، وهي
من العِشْوة والعُشْوَة وهي الظلام .
وقرأ الحسن أيضاً : « عُشَا » على وزن دُجَى نحو : غازٍ وغُزاة ، ثم حُذف منه تاءُ
التأنيث ، وهذا كما حذفوا تاء التأنيث مِنْ « مَأْلُكة » ، فقالوا : مَأْلُك ،
وعلى هذه الأوجهِ يكون منصوباً على الحال ، وقرأ الحسن أيضاً « عُشِيَّاً »
مصغَّراً « .
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
وقوله
تعالى : { نَسْتَبِقُ } : نَتَسابق ، والافتعال والتفاعل يشتركان نحو قولهم :
نَنْتَضِل ونتناضَلُ ، ونَرْتمي ونترامى . و « نَسْتبق » في محل نصب على الحال . و
« تَرَكْنا » حال مِنْ « نَسْتبق » و « قد » معه مضمرةٌ عند بعضهم .
قوله : { وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } جملة حالية ، أي : ما أنت مصدقاً لنا في كل
حال حتى في حال صِدْقِنا لِما غَلَبَ على ظنِّك في تُهْمتنا ببغضِ يوسفَ وكراهتنا
له .
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
قوله
تعالى : { على قَمِيصِهِ } : في محل نصبٍ على الحال من « الدم » . قال أبو البقاء
: « لأنَّ التقدير : جاؤوا بدمٍ كذبٍ على قميصه » ، يعني أنه لو تأخَّر لكان صفةً
للنكرة . وهذا الوجهُ قد ردَّه الزمخشري فقال : « فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالاً
متقدمة؟ قلت : لا ، لأنَّ حال المجرور لا تتقدَّم عليه » . وهذا الذي رَدَّ به
الزمخشريُّ أحدُ قولَي النحاة ، وقد صحَّح جماعةٌ جوازَه وأنشدوا :
2754 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقَتْلِ
حِبال
وقولَ الآخر :
2755 لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِياً ... إليَّ حبيباً إنَّها لحبيبُ
وقول الآخر :
2756 غافلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ لِلْمَرْ ... ءِ فيدعى ولاتَ حينَ إباءُ
وقال الحوفي : « إنَّ » على قميصه « متعلقٌ ب » جاؤوا « ، وفيه نظر؛ لأن مجيئَهم
لا يصحُّ أن يكونَ على القميص .
وقال الزمخشري : » فإن قلتَ « على قميصه » ما محلُّه؟ قلت : محلُّه النصبُ على
الظرف ، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم ، كما تقول : جاء على جِماله بأَحْمال «
. قال الشيخ : » ولا يساعد المعنى على نصب « على » على الظرف بمعنى فوق ، لأنَّ
العامل فيه إذ ذاك « جاؤوا » ، وليس الفوقُ ظرفاً لهم ، بل يستحيل أن يكونَ ظرفاً
لهم « . وهذا الردُّ هو الذي رَدَدْت به على الحوفي قولَه إنَّ » على « متعلقةٌ ب
» جاؤوا « . ثم قال الشيخ : » وأمَّا المثال الذي ذكره الزمخشري وهو « جاء على
جِماله بأَحْمال » فيمكن أن يكونَ ظرفاً للجائي لأنه تمكَّن الظرف فيه باعتبار تبدُّلِه
مِنْ جملٍ إلى جمل ، وتكون « بأَحْمال » في موضع الحال ، أي : مضموماً بأحمال « .
وقرأ العامَّةُ : » كَذِب « بالذال المعجمة ، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن
يكونَ على سبيل المبالغة نحو : رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذي كذب ،
نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه . وقرأ زيد بن علي » كَذِباً « فاحتمل أن يكون مفعولاً
من أجله واحتمل أن يكونَ مصدراً في موضع الحال ، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من
النكرة .
وقرأ عائشة والحسن : » كَدِب « بالدال المهملة . وقال صاحبُ اللوامح : » معناه :
ذي كَدِب ، أي : أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر
فيها ، فهو كالنقش ، ويسمى ذلك البياضُ « الفُوْف » فيكون هذا استعارةً لتأثيره في
القميص كتأثير ذلك في الأظافير « . وقيل : هو الدمُ الكَدِر . وقيل : الطريُّ .
وقيل : اليابس .
قوله : { بَلْ سَوَّلَتْ } قبل هذه الجملةِ جملةٌ محذوفة تقديره : لم يأكلْه الذئب
، بل سَوَّلَتْ .
وسوَّلت
، أي : زيَّنَتْ وسَهَّلَتْ .
قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ ، أي : صبر جميل
أَمْثَلُ بي . ويجوز أن يكون خبراً محذوفَ المبتدأ ، أي : أمري صبرٌ جميل . وهل
يجب حَذْفُ مبتدأ هذا الخبر/ أو خبر هذا المبتدأ؟ وضابطُه أن يكونَ مصدراً في
الأصل بدلاً مِن اللفظ بفعله ، وعبارة بعضِهم تقتضي الوجوبَ ، وعبارة آخرين الجواز
. ومن التصريح بخبر هذا النوعِ . ولكنه في ضرورة شعر قولُه :
2757 فقالَتْ على اسمِ اللَّهِ أَمْرُك طاعةٌ ... وإن كنتُ قد كُلِّفْتُ ما لم
أُعَوَّدِ
وقولُ الشاعر :
2758 يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى ... صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مبتلى
يحتمل أن يكونَ مبتدأً أو خبراً كما تقدَّم .
وقرأ أُبَيّ وعيسى بن عمر : « فصبراً جميلاً » [ نصباً ، ورُويت عن الكسائي ،
وكذلك هي في ] مصحف أنس بن مالك ، وتخريجها على المصدر الخبري ، أي : أصبرُ أنا
صبراً ، وهذه قراءة ضعيفة إن خُرِّجَتْ هذا التخريجَ ، فإن سيبويه لا ينقاس ذلك
عنده إلا في الطلب ، فالأَوْلى أن يُجعل التقدير : إنَّ يعقوب رَجَعَ وأَمَر نفسَه
فكأنه قال : اصبري يا نفسُ صبراً . ورُوري البيتُ أيضاً بالرفع والنصب على ما
تقدَّم ، والأمر فيه ظاهر .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قوله
تعالى : { فأدلى دَلْوَهُ } : يُقال : أدلى دَلْوَه ، أي : أرسلها في البئر . و «
دَلاها » إذا أَخْرجها ملأى ، قال :
2759 لا تَقْلَوها وادْلُواها دَلْوا ... إنَّ مع اليوم أخاه غَدْوا
والدَّلْوُ مؤنثةٌ فتصغَّر على دُلِيَّة ، وتُجمع على دِلاء وأَدْلٍ والأصل :
دِلاو فقُلبت الواوُ همزةً نحو كساء ، وأَدْلِوٌ فأُعِلَّ إعلالَ قاضٍِ ،
ودُلُوْوٌ بواوين فَقُلِبتا ياءَيْن نحو : عِصِيّ .
قوله : { يابشراى } قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة ، وأمال ألفَ فعلى الأخوان ،
وأمالها ورش بين بين على أصله ، وعن أبي عمرو الوجهان ، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة
، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات . وقرأ الباقون « يا بشراي »
مضافة لياء المتكلم ، ونداء البشرى على حدِّ قولِه : { ياحسرتا على } [ الزمر : 56
] { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] كأنه يقول : يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن
تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ . ومَنْ زعم أنَّ « بشرى » اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ .
وقرأ ورش عن نافع « يا بُشْراْيْ » بسكون الياء ، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل ،
وهذا كما تقدم في { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] ، فعليك بالالتفات إليه .
وقال الزمخشري : « وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن
يَقْصِدَ الوقف » .
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن : « يا بُشْرَيَّ » بقلبِ الألفِ ياءً
وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند
قوله : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ } [ البقرة : 38 ] . وقال الزمخشري : « وفي قراءة
الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء
الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة ، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم : يا سيدي
ومَوْلَيَّ » .
قوله : { وَأَسَرُّوهُ } الضمير المرفوع الظاهر أنه يعود على « السَّيَّارة » .
وقيل : هو ضميرُ إخوتِه . و « بضاعةً » نصب على الحال ، أو مفعول ثانٍ على أن
يُضَمَّن « أَسَرُّوه » معنى صَيَّروه بالسرِّ . والبضاعة قطعةٌ من المال تُعَدُّ
للتجارة مِنْ « بَضَعْت » ، أي : قَطَعْتُ ، ومنه المِبْضع لِما يُقْطَعُ به .
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
قوله
تعالى : { وَشَرَوْهُ } : شرى بمعنى اشترى ، ومنه قول الشاعر :
2760 ولو أنَّ هذا الموتَ يَقْبَلُ فِدْيَةً ... شَرَيْتُ أبا زيدٍ بما مَلَكَتْ
يَدي
وبمعنى باع ومنه قولُ الشاعر :
2761 وشَرَيْتُ بُرْداً ليتني ... مِنْ بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
فإن جَعَلْنا الضمير في « شَرَوْه » عائداً على إخوة يوسف كان « شرى » بمعنى باع ،
وإن جَعَلْناه عائداً على السيارة كانت بمعنى اشتروا .
والبَخْسُ : النَّاقصُ ، وهو في الأصل مصدرٌ وُصِف به مبالغةً . وقيل : هو بمعنى
مفعول . و « دراهم » بدل مِنْ « بثمن » و « فيه » متعلقٌ بما بعده ، واغْتُفِر ذلك
للاتساع في الظروف والجار ، أو بمحذوفٍ وتقدَّم مثلُه .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قوله
تعالى : { مِن مِّصْرَ } : يجوز فيه أوجه ، أحدها : أن يتعلق بنفسِ الفعل قبله ،
أي : اشتراه مِنْ مصر كقولك : اشتريت الثوب مِنْ بغداد فهي لابتداء الغاية ، وقولُ
أبي البقاء : « أي : فيها ، أو بها » لا حاجةَ إليه . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف
على أنه حالٌ من « الذي » . والثالث : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في « اشتراه »
فيتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً . وفي هذين نظر إذ لا طائل في هذا المعنى . و « لأمرأتِه »
متعلقٌ ب « قال » فهي للتبليغ ، وليست متعلقةً ب « اشتراه » .
قوله : { وكذلك } الكاف كما تقدم في نظائره حال من ضميرٍ المصدر أو نعتٌ له ، أي :
ومثلَ ذلك الإِنجاء والعطف مكَّنَّا له ، أي : كما أَنْجَيْناه وعَطَفْنا عليه
العزيز مكَّنَّا له في أرض مصر .
قوله : { وَلِنُعَلِّمَهُ } فيه أوجه ، أحدُها ، أن يتعلق بمحذوف قبله ، أي :
وفَعَلْنا ذلك لنعلِّمه . والثاني : أن يتعلَّق بما بعده ، أي : ولنعلِّمه
فَعَلْنا كيت وكيت . الثالث : أن يتعلقَ ب « مكَّنَّا » على زيادة الواو والهاء في
« أمره » يجوز أن تعود على الجلالة ، وأن تعودَ على يوسف ، فالمعنى على الأول : لا
نُمْنَعُ عمَّا نشاء ، ولا نُنازَعُ عَمَّا نريد ، وعلى الثاني : نُدَبِّره ولا
نَكِلُه إلى غيره فقد كادوه إخوتُه فلم يَضُرُّوه بشيء .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قوله
تعالى : { أَشُدَّهُ } : فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : وهو قول سيبويه أنه جمعٌ
مفردُه « شِدَّة » نحو : نِعْمة وأنْعُم . الثاني : قول الكسائي : أن مفردَه «
شَدّ » بزنةِ فَعْل نحو صَكّ وأصُكّ ، ويؤيِّده قولُ الشاعر :
2762 عَهْدي به شَدَّ النهارِ كأنما ... خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ
/ الثالث : أنه جمعٌ لا واحدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة ، وخالفه الناسُ في ذلك ،
إذ قد سمع « شدَّة » و « شَدَ » وهما صالحان له وهو مِن الشَّدِّ وهو الربطُ على
الشيء والعقدُ عليه . قال الراغب : « وقولُه تعالى { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ }
فيه تنبيهُ أن الإِنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوى خُلُقُه الذي هو عليه فلا يكاد
يزايله ، وما أحسنَ ما تنبَّه له الشاعرُ حيث يقول :
2763 إذا المَرْءُ وافى الأربعينَ ولم يكنْ ... له دونَ ما يهوى حَياءٌ ولا سِتْرُ
فَدَعْه ولا تَنْفِسْ عليه الذي مضى ... وإنْ جَرَّ أسبابَ الحياةِ له العُمْرُ
وقوله : { وَكَذَلِكَ } إمَّا نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر وتقدَّم
نظائره .
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
قوله
تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ } : أي : طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ ، والمُراوَدَةُ
المصدر ، والرِّيادة : طَلَبُ النِّكاح ، ومشى رُوَيْداً ، أي : ترفَّق في
مِشْيتِه ، والرَّوْدُ ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها ، ورادَتِ المرأةُ في
مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك ، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه ، والإرادةُ
منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة ، وتعدى
هنا ب « عن » لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ ، أي : خادَعَتْه عن نفسه ، والمفاعلةُ
هنا من الواحد نحو : داوَيْتُ المريض ، ويحتمل أن تكون على بابها ، فإنَّ كلاً
منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق ، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها
التركَ . والتشديد في « غَلَّقَتْ » للتكثير لتعدُّد المجال .
قوله : { هَيْتَ لَكَ } اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ أم
معرَّبةٌ ، فقيل : معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك ، قاله السدي . وقيل : من
السريانية ، قاله ابن عباس والحسن . وقيل : هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ ، أي
: تعالَه فأعربه القرآن ، قاله أبو زيد الأنصاري . وقيل : هل لغة حَوْرانية وقعت
إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقولٌ
عن عكرمة . والجمهور على أنها عربية ، قال مجاهد : « هي كلمة حَثٍّ وإقبال ، ثم هي
في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها ، وفي بعضها اسميتُها ، وفي بعضها يجوز
الأمران ، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها :
فقرأ نافع وابن ذكوان » هِيْتَ « بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة . وقرأ »
هَيْتُ « بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير . وقرأ » هِئْتَ « بكسر
الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ . وقرأ » هَيْتَ « بفتح الهاء
وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون ، فهذه خمس قراءات في السبع .
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة .
وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة . وقرأ ابن عباس أيضاً
» هُيِيْتُ « بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ .
وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة . فهذه أربع في
الشاذ فصارت تسع قراءات . فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس »
هُيِيْتُ « بزنة حُيِيْتُ . وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم
بالهمز : فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو : أيْنَ وكَيْفَ ،
ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب » حيث « ، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء
الساكنين كجَيْرِ ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان .
ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس » هُيِيْتُ « بزنة » حُيِيْت « فإنها
فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ ، ويحتمل
الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء ، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ
بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ
الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان ، أحدهما : أن يكون بمعنى حَسُنَ
هَيْئَةً .
والثاني
: أن يكونَ بمعنى تهيَّأ ، يُقال : هِئْتُ ، أي : حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ .
وجوَّز أبو البقاء أن تكون « هِئْتُ » هذه مِنْ : هاءَ يَهاء ، كشاء يشاء .
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء ، فقال الفارسي : « يشبه أن
[ يكون ] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي ، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف
ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله : » وراوَدَتْه « و { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب }
[ يوسف : 52 ] وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بن أبي طالب : » يجب أن يكون
اللفظُ « هِئْتِ لي » ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ « وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه
لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها ، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه ،
فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟
وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى : تهيَّأ لي أمرُك ، لأنها لم تكنْ
تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حَسُنَتْ هيئتك .
و » لك « متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت : القول لك أو الخطاب لك ، كهي
في » سقياً لك ورعياً لك « . قلت : واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا
قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً ، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل ، إذ لا حاجةَ إلى
تقديرِ شيءٍ آخرَ .
وقال أبو البقاء : » والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء ، أو تكونَ لغةً في
الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه
السلام ، وهو فاسدٌ لوجهين ، أحدهما : أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له .
والثاني : أنه قال لك ، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي « . قلت : قد تقدَّم
جوابُه . وقوله : » إن الهمزة بدلٌ من الياء « هذا عكسُ لغة العرب إذ قد
عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو : بير وذيب ، ولا
يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو : مِيل ودِيك ، وأيضاً فإن غيرَه جعل
الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من
الهمزة ، قالوا : فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام . واعلم أنَّ القراءةَ
التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام ، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ
عنه ، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح » حِرْز الأماني « .
قوله : { مَعَاذَ الله } منصوبٌ على المصدر بفعلٍ محذوف ، أي : أعوذُ باللَّه
مَعاذاً : يُقال : عاذ يَعُوذ عِياذاً وعِياذة ومَعاذاً وعَوْذاً ، قال :
2764
معاذَ الإِله أن تكونَ كظَبْيَةٍ ... ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةِ رَبْرَبِ
قوله : { إِنَّهُ } يجوز أن تكونَ الهاءُ ضميرُ الشأن وما بعده جملةٌ خبريةٌ له ،
ومرادُه بربه سيِّدُه ، ويحتمل أن تكونَ الهاء ضمير الباري تعالى . و « ربِّي »
يحتمل أن يكونَ خبرَها ، و « أَحْسَنَ » جملةٌ حاليةٌ لازمة ، وأن تكون مبتدأً ، و
« أحسن » جملة خبرية له ، والجملةُ خبرٌ ل « إنَّ » . وقد أنكر جماعةٌ الأولَ ،
قال مجاهد والسدي وابن إسحاق . يبعد جداً أن يُطْلِق نبيٌّ كريمٌ على مخلوقٍ أنه
ربه ، ولا بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة .
وقرأ الجحدري وأبو الطفيل الغنوي « مَثْوَيَّ » بقَلْبِ الألف ياءً وإدغامها
كبُشْرَيّ وهُدَيّ .
و { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } هذه الهاءُ ضمير الشأن ليس إلا .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قوله
تعالى : { لولا أَن رَّأَى } : جوابُ لولا : إمَّا متقدِّمٌ عليها وهو قوله : «
وَهَمَّ بها » عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها ، وإمَّا محذوفٌ
لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يرى ذلك ، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا
إليه غيرَ مرة كقولهم : « أنت ظالمٌ إن فعلْتَ » ، أي : إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ ،
ولا تقول : إنَّ « أنت ظالمٌ » هو الجوابُ بل دالٌّ عليه ، وعلى هذا فالوقفُ عند
قوله : « برهان ربه » والمعنى : لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع
هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه ، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ البتة كقولك : « لولا
زيدٌ لأكرمتك » فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد ، بهذا يُتَخَلَّص من
الأشكال الذي يورَدُ وهو : كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟ .
قال الزمخشري : فإن قلت : قوله « وهمَّ بها » داخلٌ تحت القَسَم في قوله : {
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أم خارجٌ عنه؟ قلت : الأمران جائزان ، ومِنْ حَقِّ
القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على
قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ويبتدىء قولَه : { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رأى
بُرْهَانَ رَبِّهِ } وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن . فإن قُلْتَ : لِمَ
جَعَلْتَ جَوابَ « لولا » محذوفاً يدلُّ عليه « وهَمَّ بها » وهَلاَّ جَعَلْتَه هو
الجوابَ مقدَّماً . قلت . لأنَّ « لولا » لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه
في حكم الشرط ، وللشرط صدرُ الكلام وهو [ مع ] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ
كلمةٍ واحدة ، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض ، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا
دَلَّ عليه الدليل فهو جائز « .
قلت : قوله » وأمَّا حَذْفُ بعضها « إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو : فإذا كان
جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ ، لأن
الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ . فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك . وهو كما
قال .
ثم قال : » فإن قلت : لِمَ جَعَلْتَ « لولا » متعلقةً ب « هَمَّ بها » وحدَه ، ولم
تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ؟
لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني ، فلا بد من تقدير المخالطة ،
والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً ، فكأنه قيل : / ولقد هَمَّا بالمخالطة
لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما . قلت : نِعْم ما قلت ، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء
بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } .
قلت : والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة ، أعني كون قوله : « لولا » متعلقةً ب «
همَّ بها » فإنه قال : « ولو كان الكلامُ » ولهمَّ بها « لكان بعيداً ، فكيف مع
سقوط اللام »؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ « وهمَّ بها » جواباً ل « لولا
»؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت ، وعلى تقدير أنه كان مقترناً
باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها .
وجواب
ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما
تقدَّم . وأمَّا قولُه : « ولو كان الكلام » ولهمَّ بها « فغيرُ لازمٍ »؛ لأنه متى
كان جوابُ « لو » و « لولا » مثبتاً جاز فيه الأمران : اللامُ وعَدَمُها ، وإن كان
الإِتيان باللامِ وهو الأكثر .
وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال : « قولُ مَنْ قال : إنَّ
الكلام قد تَمَّ في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ } وإنَّ جوابَ » لولا « في
قوله : » وهمَّ بها « ، وإن المعنى : لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها ، فلم
يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام » قال : « وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف »
أمَّا قولُه : « يردُّه لسان العرب » فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ
قولِه : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } [
القصص : 10 ] فقوله إن كادَتْ : إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك ، وإمَّا
أن يكونَ دالاً على الجواب ، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب . هذا معنى ما ردَّ به
عليه الشيخ . قلت : وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ
الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه ، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد .
قوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ } في هذه الكافِ أوجهٌ أحدُها : أنَّها في محلِّ نصب
، فقدَّره الزمخشري : « مثل ذلك التثبيت ثَبَّتناه » . وقَدَّره الحوفي : «
أَرَيْناه البراهين بذلك » وقَدَّره ابن عطية : « جَرَتْ أفعالُنا وأقدارُنا كذلك
لِنَصْرِفَ » ، وقدَّره أبو البقاء « نُراعيهِ كذلك » .
الثاني : أن الكاف في محلِّ رفعٍ ، فقدَّره الزمخشري وأبو البقاء : « الأمر مثل
ذلك » . وقدَّره ابن عطية « عِصْمَتُه كذلك » . وقال الحوفي : « أَمْرُ البراهين
كذلك » ، ثم قال : « والنصبُ أجودُ لمطالبة حروف الجرِّ للأفعال أو معانيها » .
الثالث : أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : هَمَّتْ به وهمَّ بها كذلك ،
ثم قال : « لولا أن رأى برهان ربه لنصرِفَ عنه ما همَّ بها » هذا نصٌّ ابن عطية .
وليس بشيءٍ ، إذ مع تسليمِ جواز التقديم والتأخير لا معنى لِما ذكره .
وقال الشيخ : « وأقولُ إن التقدير : مثلَ تلك الرؤية أو مثل ذلك الرأي نُرِي
براهينَنا لِنَصْرِفَ عنه ، فتجعل الإِشارة إلى الرأي أو الرؤية ، والناصبُ للكاف
ممَّا دَلْ عليه قولُه : { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولِنَصْرِفَ
متعلِّقٌ بذلك الفعلِ الناصب للكاف .
ومصدرُ
« رأى » رُؤْية ورَأْي . قال :
2765 ورأْيُ عَيْنَيَّ الفتى أباكا ... يُعطي الجزيلَ فعليك ذاكا «
وقرأ الأعمش » ليَصْرِفَ « بياء الغَيبة ، والفاعلُ هو اللَّه تعالى .
قوله : { المخلصين } قرأ هذه اللفظةَ حيث وَرَدَتْ إذا كانت معرَّفةً ب أل مكسورةَ
اللامِ ابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر ، والباقون بفتحها ، فالكسرُ على اسم الفاعل
، والمفعولُ محذوف تقديره : المخلِصين أنفسَهم أو دينَهم ، والفتح على أنه اسم
مفعول مِنْ أَخْلصهم اللَّه ، أي : اجتباهم واختارهم ، أو أَخْلصهم مِنْ كل سوء .
وقرأ الكوفيون في مريم { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [ مريم : 51 ] بفتح اللام
بالمعنى المتقدم ، والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم .
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
قوله
تعالى : { واستبقا الباب } : منصوب : إمَّا على إسقاط الخافض اتِّساعاً ، إذ أصلُ
« استبق » أن تتعدَّى ب إلى ، وإمَّا على تضمين « استبقا » معنى « ابتدرا » فتنصب
مفعولاً به .
قوله : { وَقَدَّتْ } يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على « استبقا » ، أي : اسْتَبَقَا
وقَدَّتْ ، ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال ، أي : وقد قَدَّتْ . والقَدُّ :
الشَّقُّ مطلقاً . وقال بعضهم : « القَدُّ فيما كان يُشَقُّ طولاً ، والقَطُّ فيما
كان يُشَقُّ عَرْضاً » .
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
وقال
ابن عطية : « وقرأت فرقة » قُطَّ « . قال أبو الفضل ابن حرب : » رأيت في مصحفٍ «
قُطَّ مِنْ دُبُر » ، أي : شُقَّ « . قال يعقوب : » القَطُّ في الجلدِ الصحيح
والثوبِ الصحيح « . وقال الشاعر :
2766 تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ... وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ
الحُبَاحِبِ
/ قوله : { مَا جَزَآءُ } يجوز في » ما « هذه أن تكونَ نافيةً ، وأن تكونَ
استفهاميةً ، و » مَنْ « يجوز أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، وقوله : {
إِلاَّ أَن يُسْجَنَ } خبرُ المبتدأ ، ولمَّا كان » أَن يُسجن « في قوة المصدر
عَطَف عليه المصدر وهو قوله : { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . و » أو « تُحْمل معانيها
، وأظهرُها التنويع .
وقرأ زيد بن علي : { أَوْ عَذَابٌ أَلِيماً } بالنصب . وخرجَّه الكسائي على إضمار
فعلٍ ، أي : أو أَنْ يُعَذَّبَ عذاباً أليماً .
قوله : { هِيَ } ولم يَقُل » هذه « ولا » تلك « لفرط استحيائه وهو أدبٌ حسن ، حيث
أتى بلفظ الغيبة دون الحضور . و » مِنْ أهلها « صفة ل » شاهد « ، وهو المُسَوِّغ
لمجيءِ الفاعل من لفظِ الفعل إذ لا يجوزُ : قام القائم ، ولا قعد القاعد لعدم
الفائدة .
قوله : { إِن كَانَ } هذه الجملةُ الشرطيةُ : إمَّا معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديرُه :
فقال : إن كان ، عند البصريين ، وإمَّا معمولة ل » شَهِد « لأنه بمعنى القول عند
الكوفيين .
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
قوله
تعالى : { مِن دُبُرٍ } و { مِن قُبُلٍ } : قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين والجرِّ
والتنوين ، بمعنى مِنْ خلف ومن قُدَّام أي : مِنْ خلف القميص وقدَّامه ، أو يوسف .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في روايةٍ بتسكين العين تخفيفاً وهي لغة الحجاز وأسد . وقرأ
ابن يعمر وابن أبي إسحاق والعطاردي والجارود بثلاث ضمات ، ورُوي عن الجارود وابن
أبي إسحاق وابن يعمر وأيضاً بسكون العين وبنائهما على الضم ، ووجه ضمِّهما أنهم
جعلوهما كقبل وبعد في بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإِضافة ، فجعلوهما غاية ،
ومعنى الغاية أن يُجعل المضافُ غايةَ نفسِه بعدما كان المضافُ إليه غايتَه ،
والأصلُ إعرابُهما لأنهما اسمان متمكنان وليسا بظرفَيْن . قال أبو حاتم : « وهذا
رديءٌ في العربية وإنما يقع هذا البناءُ في الظروف » .
وقال الزمخشري : « والمعنى : مِنْ قُبُل القميص ومِنْ دُبُره ، وأمَّا التنكير
فمعناه مِنْ جهةٍ يُقال لها قُبُل ومِنْ جهة يُقال لها دُبُر ، وعن ابن أبي إسحاق
أنه قرأ » مِنْ قبلَ ومِنْ دبرَ « بالفتح كأنه جعلهما عَلَميْن للجهتين ،
فَمَنْعُهما الصرفَ للعلمية والتأنيث » . وقد تقدَّم الخلافُ في « كان » الواقعة
في حَيِّز الشرط : هل تبقى على معناها مِن المُضيّ وإليه ذهب المبرد ، أم تنقلب
إلى الاستقبال كسائر الأفعال ، وأن المعنى على التبيين؟
وقوله : { فَكَذَبَتْ } و { فَصَدَقتْ } على إضمار « قد » لأنها تُقَرِّب الماضي
من الحالة ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاً ، أما إذا كان جامداً فلا يحتاج إلى «
قد » لا لفظاً ولا تقديراً .
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
قوله
تعالى : { يُوسُفُ } منادى محذوفٌ منه حرفُ النداء . قال الزمخشري : « لأنه منادى
قريبٌ مُفاطِن للحديث ، وفيه تقريبٌ له وتلطيف بمحلِّه » انتهى . وكلُّ منادى يجوز
حَذْفُ حرفِ النداء منه إلا الجلالةَ المعظمة واسمَ الجنس غالباً والمستغاثَ
والمندوبَ واسمَ الإِشارة عند البصريين والمضمَر إذا نُودي .
والجمهور على ضمِّ فاء « يوسف » لكونه مفرداً معرفة . و قرأ الأعمش بفتحها . وقيل
: لم تَثْبُتْ هذه القراءةُ عنه ، وعلى تقدير ثبوتها فقال أبو البقاء فيها وجهين ،
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر :
2767 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يا عَدِيَّاً لقد وَقَتْكَ الأوَاقي
يريد بأصل المنادى أنه مفعولٌ به فَحَقُّه النصبُ كالبيت الذي أنشده ، واتفق أن
يوسُفَ لا يَنْصرف فَفَتْحَتُه فتحةُ إعراب . والثاني وجعله الأَشْبَه : أن يكونَ
وقف على الكلمة ثم وَصَل وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف ، فألقى حركة الهمزة على
الفاء وحَذَفَها فصار اللفظ بها « يوسُفَ اعْرض » وهذا كما حُكِي « اللَّهَ اكبرَ
اشْهدَ الاَّ » بالوصل والفتح . قلت : يعني بالفتح في الجلالة ، وفي أكبر ، وفي
اشهد ، وذلك أنه قدَّر الوقفَ على كل كلمة مِنْ هذه الكلم ، وألقى حركة الهمزة من
كلٍ من الكلمِ الثلاثِ على الساكن قبله ، وأجرى الوصلَ مُجرى الوقف في ذلك ، والذي
حَكَوه الناس إنما هو في « أكبر » خاصة لأنها مَظِنَّةُ الوقف ، وقد تقدَّم ذلك في
أول آل عمران .
وقرىء « يوسُفُ أَعْرَضَ » بضم الفاء و « أعرض » فعلاً ماضياً ، وتخريجُها أن يكون
« يوسف » مبتدأً ، و « أَعْرض » جملة مِنْ فعل وفاعل خبره . قال أبو البقاء : « وفيه
ضعف لقوله » واستغفِري « ، وكان الأشبهُ أن يكون بالفاء : فاستغفري » .
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
قوله
تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } النسوةُ فيها أقوالُ ، المشهور أنها جمعُ تكسير
للقلة على فِعْله كالصِّبْيَة والغِلْمَة . ونصَّ بعضُهم على عَدَمِ اطِّرادها
وليس لها واحدٌ مِنْ لفظها . والثاني : أنها اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة ، قاله
الزمخشري . والثالث : أنها اسمُ جمعٍ/ قاله أبو بكر بن السراج وكذلك أخواتها
كالصِّيْبَة والفِتْية . وعلى كل قولٍ فتأنيثها غير حقيقي باعتبار الجماعة ، ولذلك
لم يلحق فعلَها تاءُ التأنيث ، والمشهورُ كسرُ نونها ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ ،
ونقلها أبو البقاء قراءةً ولم أَحْفَظْه ، وإذا ضُمَّتْ نونُه كان اسمَ جمع بلا
خلاف ، ويُكسَّر في الكثرة على نِسْوان ، والنساء جمع كثرة أيضاً ولا واحدَ له من
لفظه ، كذا قال الشيخ ، ومقتضى ذلك أن لا يكونَ النساءُ جمعاً لنسوة لقوله : « لا
واحد له من لفظه » .
و « في المدينة » يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ صفةً لنسوة وهو الظاهر ، و ب « قال » وليس
بظاهر .
قوله : { تُرَاوِدُ } خبر « امرأة العزيز » ، وجيء بالمضارع تنبيهاً على أن
المراوَدَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لها ودَيْدَناً ، دون الماضي ، فلم يَقُلن «
راوَدَتْ » . ولام « الفتى » ياء لقولهم الفتيان وفُتَيّ ، وعلى هذا فقولُهم «
الفتوَّة » في المصدر شاذ .
قوله : { قَدْ شَغَفَهَا } هذه الجملةُ يجوز أن [ تكون ] خبراً ثانياً ، وأن تكونَ
مستأنفة ، وأن تكونَ حالاً : إمَّا من فاعل « تُراوِدُ » وإمَّا مِنْ مفعوله . و «
حبَّاً » تمييزٌ ، وهو منقولٌ من الفاعلية ، والأصل : قد شَغَفها حبُّه .
والعامَّة على « شَغَفها » بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها ، وهو
مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف : حجاب القلب جُليْدَة رقيقة . وقيل : سويداء القلب .
وقيل : داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل : جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان
القلب ليسَتْ محيطةً به ، ومعنى شَغَفَ قلبَه ، أي : خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه
بحرارة الحبِّ ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه .
والمَشْغوف : مَنْ وصل الحبُّ لقلبه ، قال الأعشى :
2768 تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً ... مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما
صنعا
وقال النابغة الذبياني :
2769 وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ ... مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ
وقرأ ثابت البناني بكسر الغين . قيل : وهي لغة تميم .
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي
وقتادة بفتح العين المهملة ، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً
. واختلف الناس في ذلك فقيل : هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه
بالقَطِران ، قاله الزمخشري ، وأنشد :
2770 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَعَفَ
المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق
حجابَه ، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه ، « كما شَغَفَ » ، أي : كما أَحْرق وبالغ
المهنوءة ، أي : المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران ، ولا ينشدونه بالمهملة .
وقال
أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة : « مِنْ قولك : فلان مَشْعوفٌ بكذا ، أي : مغرى
به ، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب . وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد : »
الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب ، والشَّعَفُ في البغض « . وقال الشعبي : »
الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ ، والشَّعَفُ الجنون ، والمَشْعوف
: المجنون « .
قوله : { مُتَّكَئاً } العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف
والهمز ، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ ، أي : هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ . والمتَّكأ
الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها . وقيل : المتكأ : مكان الاتِّكاء .
وقيل : طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد . قال القتبيُّ : » يُقال : اتَّكَأْنا
عند فلانٍ ، أي : أَكَلْنا « .
قال الزمخشري : » مِنْ قولك : اتَّكَأْنا عند فلان : طَعِمنا ، على سبيل الكناية؛
لأنه مِنْ « دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك » : اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها . قال
جميل :
2771 فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا ... وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ «
انتهى . قلت : فقوله : » وشَرِبْنا « مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا .
وقرأ أبو جعفر والزهري » مُتَّكَا « مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان ، أحدهما : أن
يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في
تَوَضَّأْتُ ، فصار بزنة مُتَّقَى . والثاني : أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ
أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء ، فالمعنى : أَعْتَدَتْ شيئاً
يَشْتَدِدْن عليه : إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين ، وهذا الثاني تخريج
أبي الفتح .
وقرأ الحسن وابن هرمز » مُتَّكاءً « بالتشديد والمدِّ ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا
أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله :
2772 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومِنْ ذَمِّ الرجالِ
بمنتزاحِ
وقوله :
2773 يَنْباع مِنْ ذفرى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
وقوله :
2774 أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ ... الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
أي : بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة .
وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب » مُتْكَاً
« بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ ،
إلا أنهما فتحا الميم . والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان
، وأنشدوا :
2775 فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها ... تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ
وقيل : بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه ، ونشدوا
:
2776 نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً ... وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا
قيل : وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ
الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ
أخرى وافَقَتْ هذه . وقيل : بالضم العسلُ الخالص عند الخليل ، والأُتْرُجُّ عند
الأصمعي . ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها
قال : وهو الشرابُ الخالص .
وقال
المفضل : هو بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كِنْدة .
وقوله : { لَهُنَّ مُتَّكَئاً } : إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً ،
ويَدُلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإمَّا أن
يريدَ الجنس .
والسِّكِّين يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ ، قاله الكسائي والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنيثه .
والسَّكِينة فَعِيلة من السكون . وقال الراغب : « سُمِّي به لإِزالتهِ حركةَ
المذبوح » .
قوله : { أَكْبَرْنَهُ } الظاهر أن الهاء ضمير يوسف . ومعنى أَكْبَرْنَه عَظَّمْنه
ودُهِشْن مِنْ حُسْنه . وقيل : هي هاء السكت . قال الزمخشري : « وقيل : أَكْبَرْنَ
بمعنى » حِضْنَ « والهاء للسكت ، يقال : أَكْبَرَتِ المرأةُ إذا حاضَتْ ، وحقيقتُه
: دَخَلَتْ في الكِبَر؛ لأنها بالحيض تخرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى الكِبَرِ ،
وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قولَه :
2777 خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ ... فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في
الخُدورِ العواتِقُ
انتهى . وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد
يقال : إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير ، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها
. قال الشيخ : » وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ
هاءَ السكت؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ
الهاء « . قلت : وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها ،
وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضاً :
2778 واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في » قلبها « وجعلوها هاءَ سكتٍ . ويمكن أن يكون »
أَكْبَرْنَ « بمعنى حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت ، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ
المدلولِ عليه بفعله أي : أَكْبَرْنَ الإِكبار ، وأنشدوا على أن الإِكبارَ بمعنى
الحيض قولَه :
2779 يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا ... يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا
قال الطبري : » البيت مصنوعٌ « .
قوله : { حَاشَ للَّهِ } » حاشى « عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين
الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ ، وهي من أدواتِ
الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه ، وحَكَوا عن العرب »
غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ « بالنصب ، وأنشدوا
:
2780 حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ ... بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب » رَهْط « . و » حشى « لغةٌ في حاشى كما سيأتي . وقال الزمخشري : » حاشى
كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول : أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال :
2781 حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ ... ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم
وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشى اللَّهِ :
براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه ، وهي قراءة ابن مسعود « . قال الشيخ : » وما ذكر
أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرقَ بين قولك :
« قام القومُ إلا زيداً » و « قام القوم حاشى زيدٍ » ، ولَمَّا مَثَّل بقوله : «
أساء القومُ حاشى زيدٍ » وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل
ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله : حاشا أبي ثوبان ،
فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز
آخَرَ وَهْماً من بيتين ، وهما : /
2782
حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا ... ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ
عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به ... ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
قلت : قوله « إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم
يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولمَّا ذكروا
مع أدواتِ الاستثناء » ليس « و » لا يكون « و » غير « لم يذكروا معانيهَا ، إذ
مرادُهم مساواتُها ل » إلا « في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك
الأدوات .
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر
كالآية الكريمة ، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله :
2783 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا لِلِما بهم أبداً
دواءُ
وقول الآخر :
2784 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
فتعيَّن أن تكونَ فعلاً ، فاعلُه ضمير يوسف أي : حاشى يوسف ، و » للَّه « جارٌّ
ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله ، واللامُ تفيد العلةَ أي : حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما
رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به ،
أي : جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه .
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً ، وإنما هي
اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل : تنزيهاً للَّه وبراءةً له ، وإنما لم
يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : مِنْ عن
يمينه فجعلوا » عن « اسماً ولم يُعْربوه ، وقالوا » مِنْ عليه « فلم يُثْبتوا ألفه
مع المضمر ، بل أَبْقَوا » عن « على بنائه ، وقلبوا ألف » على « مع المضمر ،
مراعاةً لأصلها ، كذا أجاب الزمخشري ، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب . وفيه
نظر .
أمَّا قوله : » مراعاة لأصله « فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية ، وليس
ذلك إلا في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف ، ولهم في ذلك
مذهبان : الإِعرابُ والحكاية ، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي :
يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ . وأمَّا استشهادُه ب » عن « و » على « فلا يفيده
ذلك؛ لأنَّ » عن « حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على
حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها .
وأمَّا
قَلْبُ ألفِ « على » مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ
الاسمية بالاتفاق ك « لدى » .
والأَوْلى أن يقال : الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما
تقدَّم تقريره ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال « حاشاً للَّه » منصوباً ، ولكنهم
أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف
كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها .
وقيل في الجواب عن ذلك : بل بُنيت « حاشا » في حال اسميتها لشبهها ب « حاشا » في
حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى ، كما بُنِيَتْ « عن » و « على » لما ذكرنا .
وقال بعضُهم : إنَّ اللامَ زائدةٌ . وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ . واسْتَدَلَّ
المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها . قال النابغة الذبياني :
2785 ولا أرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ ... ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ
أَحَدِ
قالوا : وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ .
وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا : «
سَوَّفْتُ بزيد » و « لَوْلَيْت له » ، أي : قلت له : سوف أفعلُ . وقلت له : لو
كان ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتمل .
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال : « لا تَخْلو » حاش « في قوله :
» حاش للَّه « من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء ، أو تكون فعلاً على فاعَل
، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله ، ولأن الحروفَ لا
يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف ، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به
الناحية ، والمعنى : أنه صار في حَشَاً ، أي في ناحية ، وفاعل » حاش « » يوسف «
والتقدير : بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه ، أي : لخوفِه » .
قوله : « حرفُ الجر لا يدخل على مثله » مُسَلَّم ، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما
تقدَّم تقريرُه . وقوله : « لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً » ممنوع ،
ويدلُّ له قولهم « مُنْ » في « منذ » إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ .
قالوا : ويدلُّ على أنَّ أصلَها « منذ » بالنون تصغيرُها على « مُنَيْذ » وهذا
مقرَّر في بابه .
وقرأ أبو عمرو وحده « حاشى » بألفين : ألفٍ بعد الحاء ، وألف بعد الشين في كلمتي
هذه السورة وصلاً ، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه . والباقون بحذف
الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً .
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها . وأمَّا الباقون فإنهم
اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول
مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها ، كالفارسي .
قال
الفارسي : « وأمَّا حذفُ الألف فعلى » لم يَكُ « و » لا أَدْرِ « و » أصاب الناسَ
جُهْدٌ ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة « ، و [ قوله ] :
2786 وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/ ... في شعر رؤبة ، يريد : لم يكن ، ولا
أدري ، ولو ترى ، ووصَّاني . وقال أبو عبيد : » رأيتُها في الذي يقال : إنه
الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه : « حاش للَّه » بغير ألف ، والأخرى « مثلُها »
. وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك ، قالوا : فعلى ما قال أبو عبيد
والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة ، ونقل الفراء أن
الإِتمامَ لغةُ بعض العرب ، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال : « ومِنْ العرب من يقول :
» حشى زيد « أراد حشى لزيد » . فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ ،
ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم .
وقرأ الأعمش في طائفة « حشى للَّه » بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً
عن بعض العرب ، وعليه قوله :
2787 حشى رَهْطِ النبيِّ . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
البيت . وقرأ أُبَي وعبد اللَّه « حاشى اللَّهِ » بجرِّ الجلالة ، وفيها وجهان ،
أحدهما : أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [ نحو : « سبحان اللَّه » وهو اختيارُ
الزمخشري . الثاني : أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده ، وإليه ذهب الفارسي ، ]
وفي جَعْلِهِ « حاشى » حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ ، إذ لم يتقدَّم في
الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ « قام القومُ حاشى زيد » .
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية
والحرفية ، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه ، وجعله في ذلك كخلا وعدا ، عند مَنْ أثبت
حرفيَّة « عدا » ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية
والحرفية ، كما فعلوا ذلك في « على » فقالوا : يكون حرف جر في « عليك » ، واسماً
في قوله : « مِنْ عليه » ، وفعلاً في قوله :
2788 عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان ، ملخصُه أن « على » حالَ
كونها فعلاً غير « على » حال كونها غيرَ فعل ، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن
واو ، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ . وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي
بهذا فيقول : لو كانت « حاشى » في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند
تردُّدِها بين الحرفية والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها .
وقرأ الحسن « حاشْ » بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف . ونقل
ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : « حاشى الإِله » قال : « محذوفاً مِنْ حاشى » يعني
أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة ، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب « اللوامح » فإنه
قال : « بحذف الألف » ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده ،
فأما « الإِله » فإنه فكَّه عن الإِدغامِ ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول ، ومعناه
المعبود ، وحُذِفت الألف من « حاشى » للتخفيف «
قال الشيخ : » وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ « اللوامح » من أنَّ الألف في «
حاشى » في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في
هذه القراءةِ بسكون الشين ، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ
الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ : « حاشى الإِله » ثم نَقَل فحذف
الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها ، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف
في « يَخْشى الإِله » ، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف « .
قلت
: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن
الشين في الرواية الأخرى عنه ، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ
على ما صُرِّح به . وقول صاحب « اللوامح » : « وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ
به ما بعده » لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ
ما يستثنى منه بمجروره .
واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان ، كهي في
« سقياً لك ورعياً لزيد » عند الجمهور ، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة
بنفس « حاشى » لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما ، وقد تقدم أن بعضَهم ادعى زيادتَها .
قوله : { مَا هذا بَشَراً } العامَّة على إعمال « ما » على اللغة الحجازية ، وهي
اللغة الفصحى ، ولغةُ تميم الإِهمالُ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما
أنشدتُه عليه من قوله :
2789 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
البيتين . ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز . وقال الزمخشري : «
ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ » بشرٌ « بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود » .
قلت : فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم .
وقرأ العامَّة « بَشَراً » بفتح الباء على أنها كلمة واحدة . وقرأ الحسن وأبو
الحويرث الحنفي « بشرى » بكسر الباء ، وهي باء الجر دخلت على « شِرى » فهما كلمتان
جار ومجرور ، وفيها تأويلات ، أحدُهما : ما هذا بمشترى ، فوضع المصدرَ موضع
المفعول به كضَرْب الأمير . الثاني : ما هذا بمُباعٍ ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع
المفعول به إلا أن المعنى يختلف .
الثالث
: ما هذا بثمن ، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يجرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء .
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه « إلا
مَلِك » بكسر اللام واحد الملوك ، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك/ وأثبتوا له عِزَّ
الملوك .
وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث . وقال أبو البقاء : « وعلى هذا
قُرىء » مَلِك « بكسر اللام » كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام
أيضاً للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء
البتة ، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال : « وقرىء ، ما هذا
بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم ، إنْ هذا إلا مَلَك كريم ، تقول : » هذا بشرى «
أي : حاصلٌ بشرى بمعنى يشترى ، وتقول : هذا لك بشرى أم بِكِرا؟ والقراءةُ هي الأَوْلى
لموافقتها المصحف ومطابقة » بشر « ل » ملك « .
قوله : » لموافقتها المصحفَ « يعني أنَّ الرسم » بشراً « بالألف لا بالياء ، ولو
كان المعنى على » بشرى « لَرُسِمَ بالياء . وقوله : » ومطابقة « دليلُ على أنه لم
يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء .
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله
تعالى : { فذلكن } : مبتدأ والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد وإن كان
حاضراً تعظيماً له ورفعاً منه لتُظْهِرَ عُذْرَها في شَغَفها .
وجَوَّز ابنُ عطية أن يكونَ « ذلك » [ إشارةً إلى ] حُبِّ يوسف ، والضميرُ في «
فيه » عائدٌ على الحبِّ فيكون « ذلك » إشارة إلى غائب على بابه . قلت : يعني
بالغائب البعيدَ ، وإلا فالإِشارةُ لا تكون إلا لحاضر مطلقاً .
قوله : { مَآ آمُرُهُ } في « ما » وجهان ، أحدُهما : أنها مصدرية . والثاني : أنها
موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بها بقوله : « يفعلْ » والهاءُ في « آمُرُه » تحتمل وجهين ،
أحدُهما : العَوْد على « ما » الموصولة إذا جعلناها بمعنى الذي . والثاني : العَوْد
على يوسف . ولم يُجَوِّزْ الزمخشري عَوْدَها على يوسف إلا إذا جُعِلت « ما »
مصدرية « فإنه قال : » فإن قلت : الضمير في « آمُره » راجعٌ إلى الموصول أم إلى
يوسف؟ قلت : بل إلى الموصول والمعنى : ما آمُرُ به فحذف الجارَّ كما في قوله :
2790 أَمَرْتُكَ الخيرَ . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
ويجوز أن تُجْعَلَ « ما » مصدريةً فيعود على يوسف ، ومعناه : ولَئِنْ لم يفعلْ
أمري إياه ، أي : مُوْجِبَ أمري ومقتضاه « . قلت : وعلى هذا فالمفعولُ الأولُ
محذوفٌ تقديره : ما آمُره به وهو ضميرُ يوسف .
والسين في » استعصم « [ فيها وجهان ، أحدهما : أنها ] ليست على بابها مِن الطلب ،
بل استفعل هنا بمعنى افتعل ، فاستعصم واعتصم واحد . وقال الزمخشري : » الاستعصامُ
بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الامتناع البليغ والتحفُّظِ الشديدِ ، كأنه في عِصْمةٍ
وهو يجتهدُ في الاستزادةِ منها ، ونحو : استمسك واستوسع الفَتْقُ ، استجمع الرأيَ
، واستفحل الخطبُ « ، فردَّ السين إلى بابها من الطلب وهو معنىً حسنٌ ، ولذلك قال
ابن عطية : » طلب العِصْمة واستمسك بها وعصاني « .
قال الشيخ : » والذي ذكره التصريفيون في « استعصم » أنه موافقٌ ل « اعتصم »
فاستفعل فيه موافقٌ ل « افتعل » ، وهذا أجودُ مِنْ جَعْلِ استفعل فيه للطلب لأنَّ
« اعتصم » يدلُّ على وجود اعتصامه ، وطلب العصمة لا يدلُّ على حصولها ، وأمَّا أنه
بناءُ مبالغةٍ يَدُلُّ على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة فلم يذكر التصريفيون
هذا المعنى ل « استفعل » ، وأمَّا استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه
لموافقة افْتَعَل ، والمعنى : امتسك واتَّسع واجتمع ، وأمَّا « استفحل الخطبُ »
فاستفعل فيه موافِقَةٌ لتفعَّل ، أي : تَفَحَّل الخطب ، نحو استكبر وتكبَّرَ « .
وقرأ العامَّةُ بتخفيف نون » وليَكونَنْ « ، ويَقِفون عليها بالألف إجراءً لها
مجرى التنوين ، ولذلك يَحْذفونها بعد ضمةٍ أو كسرةٍ نحو : » هل تقومون « و » هل
تقومين « في : » هل تَقُومُن « و » هل تقومِن « ، والنونُ الموجودةُ في الوقف نونُ
الرفعِ رَجَعوا بها عند عدمِ ما يقتضي حَذْفَها ، وقد قَرَّرْتُ ذلك فيما تقدم .
وقرأت فرقةٌ بتشديدها ، وفيها مخالفةٌ لسواد المصحف لكَتْبِها فيه ألفاً ، لأنَّ
الوقفَ عليها كذلك كقوله :
2791 وإياكَ والمَيْتاتِ لا تَقْرَبَنَّها ... ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ
فاعبدا
أي : فاعبدَنْ فَأَبْدَلها ألفاً ، وهو أحدُ الأقوال في قول امرىء القيس :
2792 قِفا نَبْكِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
وأجرى الوَصْل مجرى الوقفِ .
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
قوله
تعالى : { رَبِّ السجن } : العامَّة على كسر الباء لأنه مضافٌ لياء المتكلم ،
اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ وهي الفصحى . و « السجن » بكسر السين ورفعِ النون على أنه
مبتدأ ، والخبر « أحبُّ » . والسِّجْن الحبس ، والمعنى : دخول السجن .
وقرأ بعضهم : « رَبُّ » بضمِّ الباء وجَرِّ النون على أنَّ « ربُّ » مبتدأ و «
السجنِ » خفض بالإِضافة ، و « أحبُّ » خبرُه ، والمعنى : ملاقاةُ صاحبِ السجن
ومقاساتُه أحبُّ إليّ .
وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب بفتح
السين ، وفي الباقي كالعامَّة . والسَّجْن مصدر ، أي : الحَبْس أحبُّ إلي ، و «
إليَّ » متعلقٌ ب « أحبُّ » وقد تقدَّم أن الفاعل هنا يُجَرُّ ب « إلى » والمفعول
باللام ، / وفي الحقيقة ليست هنا أَفْعَل على بابها من التفضيل لأنه لم يُحبَّ ما
يدعونه إليه قط ، وإنما هذان شَرَّان فآثر أحدَ الشَّرين على الآخر .
قوله : { أَصْبُ } قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي : رَقَّ شَوْقُه .
والصَّبْوة : المَيْلُ إلى الهوى ، ومنه « الصَّبا » لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي
: تميل ، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال : صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً ،
وصَبِيَ يصبى صَبَاً ، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب .
وقرأت فرقة « أَصَبُّ » بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ ، والصَّبابَةُ :
رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء .
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قوله
تعالى : { ثُمَّ بَدَا } : في فاعله أربعة أوجه ، أحسنها : أنه ضمير يعود على
السَّجن بفتح السين أي : ظهر لهم حَبْسُه ، ويدل على ذلك لفظة « السِّجن » في
قراءة العامة ، وهو بطريق اللازم ، ولفظُ « السَّجن » في قراءة مَنْ فتح السين .
والثاني : أن الفاعل ضمير المصدر المفهوم مِنْ الفعل وهو « بدا » أي : بَدا لهم
بداءٌ ، وقد صَرَّح الشاعرُ به في قوله :
2793 . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَدا لك في تلك القَلوص بداءُ
والثالث : أن الفاعلَ مضمرٌ يدلُّ عليه السياق ، أي : بدا لهم رأيٌ . والرابع :
أنَّ نفسَ الجملة مِنْ « لَيَسْجُنُنَّه » هي الفاعل ، وهذا من أصول الكوفيين .
و « حتى » غايةٌ لما قبله . وقوله : « لَيَسْجُنُنَّه » على قول الجمهور جوابٌ
لقسم محذوف ، وذلك القسمُ وجوابه معمول لقولٍ مضمر ، وذلك القولُ المضمر في محلِّ
نصب على الحال ، أي : ظهر لهم كذا قائلين : واللَّه لَيَسْجُنُنَّه حتى حين .
وقرأ الحسن « لَتَسْجُنُنَّه » بتاء الخطاب ، وفيه تأويلان ، أحدهما : أن يكونَ
خاطب بعضُهم بعضاً بذلك . والثاني : أن يكونَ خوطب به العزيز تعظيماً له .
وقرأ ابن مسعود « عتى » بإبدال حاء « حتى » عيناً وأقرأ بها غيرَه فبلغ ذلك عمرَ
بن الخطاب فكتب إليه : « إن هذا القرآن نزل بلغة قريش ، فَأَقْرِىء الناسَ بلغتهم
» . قلت : وإبدال الحاء عيناً لغة هُذَليَّة .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قوله
تعالى : { قَالَ أَحَدُهُمَآ } : مستأنف لا محل له ، ولا يجوز أن يكونَ حالاً؛
لأنهما لم يقولا ذلك حال الدخول . ولا جائز أن تكونَ مقدرةً؛ لأن الدخول لا يَؤُول
إلى الرؤيا . و « إني » وما في حَيِّزه في محلِّ نصب بالقول .
و « أراني » هنا متعديةٌ لمفعولين عند بعضِهم إجراءً للحُلُميَّة مجرى
العِلْمِيَّة ، فتكون الجملة مِنْ قوله : « أَعْصِرُ » في محلِّ المفعول الثاني ،
ومَنْ منع كانت عنده في محل الحال . وجرت الحُلُمية مَجْرى العِلْمية أيضاً في
اتِّحاد فاعلها ومفعولِها ضميرين متصلين ، ومنه الآيةُ الكريمة؛ فإن الفاعلَ
والمفعولَ متحدان في المعنى؛ إذ هما للمتكلم ، وهما ضميران متصلان . ومثلُه : «
رَأَيْتُك في المنام قائماً » و « زيدٌ رآه قائماً » ، ولا يجوز ذلك في غير ما
ذُكر ، لا تقول : أَكْرَمْتُني ، ولا أكرمْتُك ، ولا زيد أكرمه ، فإن أردت ذلك قل
: أكرمتُ نفسي ، أو إياي ونفسك ، أو إياك ونفسَه ، أو إياه ، وقد تقدَّم تحقيق هذا
.
وإذا دَخَلَتْ همزةُ النقل على هذه الحُلُمِيَّة تعدَّت لثالث ، وقد تقدَّم هذا في
قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } [ الأنفال : 43 ]
، ولو أراكهم كثيراً .
والخَمْر : العِنَب أُطلق عليه ذلك مجازاً ، لأنه آيل إليه كما يُطْلق الشيءُ على
الشيء باعتبار ما كان عليه كقوله : { وَآتُواْ اليتامى } [ النساء : 2 ] ومجازُ
هذا أقربُ : وقيل : بل الخمر : العنب حقيقة في لغة غسان وأزد عمان . وعن المعتمر :
« لقيت أعرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ فقلت : ما تحمل؟ فقال : خمراً .
وقراءة أُبَيّ وعبد اللَّه » أَعْصِر عنباً « لا تدل على الترادف لإِرادتها
التفسيرَ لا التلاوة ، وهذا كما في مصحف عبد اللَّه » فوق رأسي ثريداً « فإنه أراد
التفسير فقط .
و » تأكل الطير « صفةٌ لخبزاً . و » فوق « يجوز أن يكون ظرفاً للحمل ، وأن يتعلق
بمحذوف حالاً من » خبزاً « لأنه في الأصل صفةٌ له . والضمير في قوله : » نَبِّئْنا
بتأويله « قال الشيخ : » عائدٌ على ما قَصَّا عليه ، أُجري مُجْرى اسم الإِشارة
كأنه قيل بتأويل ذلك « وهذا قد سبقه إليه الزمخشري ، وجعله سؤالاً وجواباً . وقال
غيره : » إنما وَحَّد الضمير لأنَّ كل واحد سأل عن رؤياه ، فكأن كل واحد منهما قال
: نَبِّئْنا بتأويل ما رأيت .
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
و
« تُرْزَقانه » صفة ل « طعام » . وقوله : إلا نَبَّأْتُكما « استثناءُ مفرَّغ .
وفي موضع الجملة بعده وجهان أحدُهما : أنها في محل نصبٍ على الحال ، وساغ ذلك من
النكرة لتخصُّصها بالوصف . / والثاني : أن تكونَ في محل رفع نعتاً ثانياً ل » طعام
« ، والتقدير : لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه منبِّئاً بتأويلهِ أو
مُنَبَّأً بتأويله . و » قبل « الظاهرُ أنها ظرفٌ ل » نَبَّأْتكما « ، ويجوز أن
يتعلق ب » تأويله « ، أي : نَبَّأْتكما بتأويله الواقع قبل إتيانِه .
قوله : { إِنِّي تَرَكْتُ } يجوز أن تكونَ هذه مستأنفةً أخبر بذلك عن نفسه . ويجوز
أن تكونَ تعليلاً لقوله { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي } ، أي : تَرْكي عبادةَ
غيرِ اللَّه سببٌ لتعليمه إياي ذلك ، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإِعراب . و »
لا يؤمنون « صفة ل » قوم « . وكرَّر » هم « في قوله { وَهُمْ بالآخرة هُمْ
كَافِرُونَ } قال الزمخشري : » للدلالةِ على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة ، وأن
غيرَهم مؤمنون بها « . قال الشيخ : » وليست « هم » عندنا تدل على الخصوص « . قلت :
لم يَقُل الزمخشري إن » هم تدل على الخصوص . وإنما قال « تكرير » هم « للدلالة ،
فالتكرير هو الذي أفاد الخصوصَ ، وهو معنىً حَسَنٌ فهمه أهلُ البيان .
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
وسَكَّن الكوفيون الياء من « آبائي » ، ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ أيضاً . و « إبراهيم » وما بعده بدلٌ أو عطفُ بيان ، أو منصوب على المدح .
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
قوله
تعالى : { ياصاحبي السجن } : يجوز أن يكون من باب الإِضافة للظرف ، إذ الأصل يا
صاحبي في السجن . ويجوز أن تكون من باب الإِضافة إلى المشبه بالمفعول به ، والمعنى
: يا ساكني السجن كقوله : { أَصْحَابُ النار } [ البقرة : 39 ] .
قوله { مِن شَيْءٍ } [ يوسف : 38 ] يجوز أن يكون مصدراً ، أي : شيئاً من الإِشراك
. ويجوز أن يكون واقعاً على المُشْرَك ، أي : ما كان لنا أَنْ نُشْرك شيئاً غيرَه
مِنْ مَلَك وإنْسِيّ وجني فكيف بصنم؟ و « مِنْ » مزيدة على التقديرين لوجودِ
الشرطين .
قوله : { أَمِ الله } هنا متصلةٌ عطفت الجلالة على « أرباب » .
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
قوله
تعالى : { إِلاَّ أَسْمَآءً } : إمَّا أن يُراد بها المُسَمَّياتُ أو على حذف مضاف
، أي : ذوات لمُسَمَّيات . و « سَمَّيْتموها » صفةٌ ، وهي متعدية لاثنين حُذِف
ثانيهما ، أي : سمَّيْتموها آلهة و « ما أنزل » صفةٌ ل « أسماء » و « مِنْ » زائدة
في « منْ سلطان » ، أي : حُجَّة . و « إنِ الحكم » : « إنْ » نافية . ولا يجوز
الإِتباعُ لضمة الحاء كقوله : قالتُ اخْرُجْ « ونحوه ، لأنَّ الألف واللامَ كلمةٌ
مستقلة فهي فاصلةٌ بينهما .
قوله : { أَمَرَ أَلاَّ } يجوز في » أَمَر « أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن
يكون حالاً و » قد « معه مرادةٌ عند بعضهم . قال أبو البقاء : » وهو ضعيفٌ لضعف
العامل فيه « قلت : يعني بالعامل ما تضمَّنه الجارُّ في قولِه : » إلا للَّه « من
الاستقرار .
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
قوله
تعالى : { فَيَسْقِي } : العامَّةُ على فتح الياء ، مِنْ سقاه يَسْقيه . وقرأ
عكرمة في رواية « فَيُسْقي » بضم حرف المضارعة مِنْ أسقى وهما لغتان ، يقال :
سَقَاه وأَسْقاه ، وسيأتي أنهما قراءتان في السبعة : « نَسْقيكم ونُسْقيكم مما [
في ] بطونه » . وهل هما بمعنىً أم بينهما فرق؟ ونقل ابن عطية عن عكرمة والجحدري
أنهما قرآ « فَيُسقَى ربُّه » مبنياً للمفعول ورفع « ربُّه » . ونسبه الزمخشري
لعكرمة فقط .
قوله : { قُضِيَ الأمر } قال الزمخشري : « ما اسْتَفْتَيَا في أمرٍ واحد . بل في
أمرين مختلفين ، فما وجه التوحيد؟ قلت : المراد بالأمر ما اتُّهما به من سَمِّ
المَلِك وما سُجِنا من أجله » .
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قوله
تعالى : { لِلَّذِي ظَنَّ } : فاعلُ « ظنَّ » يجوز أن يكون يوسف عليه السلام إن
كان تأويلُه بطريقة الاجتهاد ، وأن يكون الشرَّابيُّ إن كان تأويله بطريق الوحي ،
أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين ، قاله الزمخشري .
قلت : يعني أنه إنْ كان الظنُّ على بابه فلا يستقيم إسناده إلى يوسفَ إلا أن يكون
تأويلُه بطريق الاجتهاد؛ لأنه متى كان بطريق الوحي كان يقيناً فيُنْسَب الظن حينئذ
للشَّرابي لا له عليه السلام ، وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقين فتصِحُّ نسبتُه
إلى يوسف وإن كان تأويله بطريق الوحي ، وهو حَسَنٌ وإلى كونِ الظنِّ على بابه وهو
مسندٌ ليوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ذهب قتادة ، فإنه قال : « الظنُّ هنا
على بابه لأنَّ عبارة الرؤيا ظنٌّ » .
قوله : { مِّنْهُمَا } يجوز أن يكونَ صفةً ل « ناج » ، وأن يتعلَّقَ بمحذوف على
أنه حال من الموصول . قال أبو البقاء : « ولا يكون متعلقاً ب » ناجٍ « لأنه ليس
المعنى عليه » قلت : لو تعلَّق ب « ناجٍ » لأَفْهَمَ أنَّ غيرَهما نجا منهما ، أي
: انفلت منهما ، والمعنى : أنَّ أحدهما هو الناجي ، وهذا المعنى الذي نبَّه عليه
بعيدٌ تَوَهُّمُه . والضمير في « فَأَنْساه » يعود على الشرَّابي . وقيل : على
يوسف ، وهو ضعيفٌ .
قوله : { بِضْعَ سِنِينَ } منصوبٌ على الظرف الزماني وفيه خلافٌ : فقال قتادة : «
هو بين الثلاث إلى التسع » . وقال أبو عبيد : « البِضْعُ لا يَبلُغُ العِقْدَ ولا
نصفَ العقدِ ، وإنما هو من الواحد إلى العشر » . وقال مجاهد : « هو من الثلاثة إلى
السبعة » . وقال الفراء : « لا يُذكر البِضْعُ إلا مع العشرات ولا يُذكر مع مِئَة
ولا ألف » . وقال الراغب : / « البِضْع : بالكسر المُقَتَطَعُ من العشرة ، ويقال
ذلك لِما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل : بل هو فوق الخمسة ودون العشرة » . قلت :
فَجَعَلَه مشتقاً مِنْ مادة البَضْع وهي القَطْع ، ومنه : بَضَعْتُ اللحمَ ، أي :
قَطَعْتُه ، والبِضاعة : قطعةُ مالٍ للتجارة ، والمِبْضَعُ : ما يُبْضَعُ به ،
والبَعْض قد تقدَّم أنه من هذا المعنى عند ذكر « البعوضة » .
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
قوله
تعالى : { سِمَانٍ } : صفة لبقرات وهو جمع سمينة ، ويُجْمع سمين أيضاً عليه يقال :
رجال سِمان كما يقال نِساء كِرام ورجال كِرام . و « السِّمَنُ » مصدرُ سَمِن
يَسْمَن فهو سمين فالمصدر واسم [ الفاعل ] جاءا على غير قياس ، إذ قياسُهما «
سَمَن » بفتح الميم ، فهو سَمِن بكسرها ، نحو فَرِح فَرَحاً فهو فَرِح .
قال الزمخشري : « هل مِنْ فرقٍ بين إيقاع » سمان « صفة للمميِّز وهو » بقراتٍ «
دون المُمَيَّز وهو » سبعَ « ، وأن يقال : سبعَ بقراتٍ سِماناً؟ قلت : إذا
أوقَعْتَها صفةً ل » بقرات « فقد قَصَدْتَ إلى أَنْ تُمَيِّز السبعَ بنوع من
البقرات وهو السِّمانُ منهنَّ لا بجنسهنَّ ، ولو وَصَفْتَ بها السبع لَقَصَدْت إلى
تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوعٍ منها ، ثم رَجَعْتَ فَوَصَفْتَ المميَّز بالجنس
بالسِّمَنِ . فإن قلت : هَلاَّ قيل » سبعَ عجافٍ « على الإِضافة . قلت : التمييزُ
موضوعٌ لبيان الجنس ، والعِجافُ وصفٌ لا يقع البيانُ به وحدَه . فإن قلت فقد
يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب . قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفاتٌ
جَرَتْ مَجْرى الأسماء فأخَذَتْ حُكْمَها ، وجاز فيها ما لم يَجُزْ في غيرها . ألا
تراك لا تقول : عندي ثلاثةُ ضخامٍ ولا أربعةُ غلاظٍ . فإن قلت : ذاك مِمَّا
يُشْكِلُ وما نحن بسبيلهِ لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يَقُلْ » وبقرات سبعَ عجافٍ
« لوقوع العلم بأن المرادَ البقرات . قلت : تَرْكُ الأصلِ لا يجوز مع وقوع
الاستغناء عَمَّا ليس بأصلٍ ، وقد وقع الاستغناء عن قولك » سبع عجافٍ « عمَّا
تقترحه من التمييز بالوصف » .
قلت : وهي أسئلة وأجوبة حسنة . وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزم مِنْ وَصْفِ
التمييز بشيء وَصْفُ المميَّزِ به ، ولا يلزم من وصف المُمَيَّز وَصْفُ التمييز
بذلك الشيءِ ، بيانُه أنك إذا قلت : « عندي أربعةُ رجالٍ حسانٍ » بالجرِّ كان
معناه : أربعة من الرجال الحسان ، فيلزم حُسْنُ الأربعة؛ لأنهم بعض الرجال الحسان
، وإذا قلت : « عندي أربعةُ رجالٍ حسانٌ » برفع « حسان » كان معناه : أربعة من
الرجال حِسان ، وليس فيه دلالةٌ على وَصْف الرجال بالحُسْن .
وتحقيقُ الثاني وجوابه : أن أسماءَ العدد لا تُضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة ،
وإنما يُجاء بها تابعةً لأسماء العدد فيقال : « عندي ثلاثة قرشيون » ولا يُقال :
ثلاثةُ قرشيين بالإِضافة إلا في شعر . ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك
مجرى الأسماء .
وتحقيق الثالث : أنه إنما امتنع « ثلاثةُ ضِخام » ونحوه لأنه لا يُعْلَمُ موصوفُه
، بخلاف الآية الكريمة فإنَّ الموصوفَ معلومٌ ولذلك لم يُصَرِّحْ به . وأجاب عن
ذلك بأن الأصلَ عدمُ إضافةٍ العددِ إلى الصفة كما تقدَّم فلا يُتْرك هذا الأصلُ مع
الاستغناءِ بالفرع ، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها ، ولم يذكر
الشيخُ نصَّه ولا اعترض عليه ، بل لَخَّصَ بعضَ معانيه وتركه على إشكاله .
وجَمْعُ
عَجْفاء على عِجاف . والقياس : عُجُف نحو : حمراء وحُمُر ، حَمْلاً له على « سِمان
» لأنه نقيضُه ، ومِنْ دَأْبهم حَمْل النظير على النظير والنقيض على النقيض ، قاله
الزمخشري : « والعَجَفُ شِدَّة الهُزالِ الذي ليس بعده قال :
2794 عمرُو الذي هَشَم الثريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتون عِجافُ
وقال الراغب : » هو من قولهم نَصْلٌ أعجفُ ، أي : دقيق ، وعَجَفَتْ نفسي عن الطعام
، وعن فلان إذا نَبَتْ عنهما ، وأَعْجف الرجلُ ، أي : صادف ماشِيَتَه عِجافاً « .
قوله : { وَأُخَرَ } » أُخَرَ « نسقٌ على » سبعَ « لا على » سنبلات « ، ويكون قد
حَذَف اسمَ العددِ من قوله » وأُخَر يابسات « والتقدير : وسبعاً أُخَرَ ، وإنما
حَذَف لأنَّ التقسيمَ في البقرات يقتضي التقسيمَ في السنبلات .
قال الزمخشري : » فإنْ قلت : هل في الآية دليل على أنَّ السنبلاتِ اليابسةَ كانت
سبعاً كالخضر؟ قلت : الكلامُ مبنيٌّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان
والعِجافِ والنسبلاتِ الخُضْر ، فَوَجَبَ أن يتناول معنى الأُخر السبع ، ويكون
قوله « وأُخَرَ يابسات » بمعنى وسبعاً أُخَرَ « انتهى . وإنما لم يَجُزْ عَطْفُ »
أُخر « على التمييز وهو » سنبلات « فيكون/ » أُخَر « مجروراً لا منصوباً؛ لأنه من
حيث العطفُ عليه يكونُ مِنْ جملة مُمَيَّز » سبعَ « ، ومِنْ جهةِ كونه آخر يكون
مبايناً ل » سبع « فتدافعا ، ولو كان تركيبُ الآية الكريمة : » سبع سنبلاتٍ خضرٍ
ويابسات « لصَحَّ العطفُ ، ويكون مِنْ توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني
الاخضرارَ واليُبْس .
وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال : » فإن قلتَ : هل يجوز أن يُعْطَفَ قولُه «
وأُخَرَ يابساتٍ » على « سنبلاتٍ خَضْرٍ » فيكون مجرورَ المحل؟ قلت : يؤدي إلى
تدافُعٍ ، وهو أنَّ عَطْفَها على « سنبلات خضر » يقتضي أن يكونَ داخلاً في حكمها ،
فتكون معها مميِّزاً للسبع المذكور ، ولفظُ الأُخَر يقتضي أن تكونَ غيرَ السبع .
بيانُه أنك تقول : « عنده سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ بالجرِّ؛ فيصحُّ لأنك مَيَّزْتَ
السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود ، على أنَّ بعضَهم قيامٌ وبعضَهم قعودٌ ،
فلو قلت : » عنده سبعةٌ رجال قيام وآخرين قعود « تدافعَ ففسد » .
قوله { لِلرُّؤْيَا } : فيه أربعة أوجه ، أحدها : أن اللام فيه مزيدةٌ فلا
تَعَلٌّق لها بشيء ، وزِيْدت لتقدُّم المعمولِ مقويةً للعامل ، كما زِيْدَتْ فيه
إذا كان العامل فرعاً كقوله : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، ولا
تُزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورةَ كقوله :
2795 فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنا قليلاً ... أَنَخْنا للكلاكلِ فارْتَمَيْنا
يريد
: أنخنا الكلاكل ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة ،
وبعضُهم يقول : الأكثر ألاَّ تُزادَ ، ويتُحَرَّزُ مِنْ قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم
} [ النمل : 72 ] فإن الأصلَ : رَدِفَكم فزيدت فيه اللام ، ولا تَقَدُّم ولا فرعية
، ومَنْ أطلق ذلك جَعَل الآية من باب التضمين ، وسيأتي في مكانِه ، وقد تقدَّم لك
من هذا طرفٌ جيدٌ في تضاعيف هذا التصنيف .
الثاني : أن يُضَمَّن « تَعْبُرون » معنى ما يتعدى باللام ، تقديره : إن كنتم
تَنْتَدِبون لعبارة الرؤيا .
الثالث : أن يكونَ « للرُّؤْيا » هو خبر « كنتم » كما تقول : « كان فلان لهذا
الأمر » إذا كان مستقلاًّ به متمكِّناً منه ، وعلى هذا فيكون في « تعبرُون » وجهان
، أحدهما : أنه خبرٌ ثانٍ ل « كنتم » والثاني : أنه حالٌ مِن الضمير المرتفع
بالجار لوقوعه خبراً .
الرابع : أنْ تتعلَّقَ اللامُ بمحذوفٍ على أنها للبيانِ كقوله تعالى : {
وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ] تقديرُه : أعني فيه ، وكذلك هذا ،
تقديرُه : أعني للرؤيا ، وعلى هذا فيكون مفعول « تعبُرون » محذوفاً تقديرُه :
تعْبُرونها .
وقرأ أبو جعفر « الرُّؤْيا » وبابَها « الرُّيَّا » بالإِدغام ، وذلك أنه قَلَبَ
الهمزةَ واواً لسكونِها بعد ضمةٍ فاجتمعت ياءٌ وواو ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ،
فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ الياءُ في الياء . وهذه القراءةُ عندهم
ضعيفةٌ؛ لأنَّ البدلَ غيرُ لازمٍ فكأنه لم تُوْجَدْ واو نظراً إلى الهمزة .
وعَبَرْتُ الرؤيا بالتخفيف قال الزمخشري : « هو الذي اعتمده الأثباتُ ،
ورَأَيْتُهم يُنْكرون » عَبَّرت « بالتشديد والتعبير والمعبِّر » قال : « وقد
عَثَرْتُ على بيت أنشده المبرد في كتاب » الكامل « لبعض الأعراب :
2796 رَأَيْتُ رُؤْيا ثم عَبَّرْتُها ... وكنتُ للأحلام عَبَّارا
قال : » وحقيقةُ عبرت الرؤيا : ذكرتَ عاقبَتها وآخر أمرها كما تقول : عَبَرْتُ
النهر إذا قطعتَه حتى تبلغَ آخرَ عَرْضه « .
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
قوله
تعالى : { أَضْغَاثُ } : « أَضْغاث » خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي أضغاث ، يَعْنُون
ما قَصَصْته علينا ، والجملةُ منصوبةٌ بالقول . والأضغاث جمع « ضِغْث » بكسر الضاد
، وهو ما جُمِع من النبات سواء كان جنساً واحداً أو أجناساً مختلطة وهو أصغرُ مِن
الحُزْمة وأكبر من القَبْضة ، فمِنْ مجيئه من جنسٍ واحد قولُه تعالى : { وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً } [ ص : 44 ] رُوِي في التفسير أنه أخذ عِثْكالاً مِنْ نخلة .
وفي الحديث : « أنه أُتي بمريض وَجَبَ عليه حَدٌّ ففُعِل به ذلك » . وقال ابن مقبل
:
2797 خَوْدٌ كأن فِراشَها وُضِعَتْ به ... أضغاثُ رَيْحانٍ غَداةَ شَمَالٍ
/ ومِنْ مجيئه مِنْ أخلاط النبات قولهم في أمثالهم : « ضِغْثٌ على إبَّالة » ، وقد
خَصَّصه الزمخشري بما جُمِع مِنْ أخلاط النبات ، فقال : « وأصلُ الأَضْغاث ما
جُمِع مِنْ أخلاط النبات ، وحِزَم الواحِد ضِغْثٌ » . وقال الراغب : « الضِّغْث
قَبْضَةُ رَيْحانٍ أو حَشيش أو قُضْبان » . قلت : وقد تقدَّم أنه أكثرُ من
القَبْضة ، واستعمالُ الأَضْغاث هنا من باب الاستعارة . والإِضافة في « أَضْغاث
أحلام » إضافةٌ بمعنى « مِنْ » إذ التقديرُ : أضغاثٌ من أحلام .
والأَحْلام جمع حُلُم . والباء في « بتأويل » متعلقةٌ ب « عالمين » ، وفي «
بعالمين » لا تعلُّقَ لها لأنها زائدةٌ : إمَّا في خبرِ الحجازيَّة أو التميمية .
وقولهم ذلك يُحتمل أن يكونَ نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً ، وأن يكونَ نفياً للعلم
بتأويل الأضغاث منها خاصةً دونَ المنام الصحيح . وقال أبو البقاء : « بتأويل أضغاث
الأحلام لا بد من ذلك [ لأنهم لم يَدَّعوا الجهلَ بعبارة الرؤيا » انتهى . وقوله «
الأحلام » وإنما كان واحداً ، قال الزمخشري كما تقول : « فلان يركب الخيل ويلبس
عَمائم الخَزِّ ، لمَنْ لا يركب إلا فرساً واحداً ولا يتعمَّم إلا بعمامة واحدة ]
تَزَيُّداً في الوصف » ، ويجوز أن يكونَ قَصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها .
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
قوله
تعالى : { وادكر } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنها جملةٌ حاليةٌ : إمَّا مِن الموصول
، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل « نجا » . والثاني : أنها عطفٌ على « نجا » فلا
مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له .
والعامَّةُ على « ادَّكَرَ » بدالٍ مهملة مشددة وأصلها : اذْتَكَرَ افتعل مِنْ
الذِّكر ، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان
فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم . وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة .
ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم ، وكذا الحكم في {
مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ] كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى .
والعامَّةُ على « أُمَّة » بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة ، وهي المدة
الطويلة . وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة ، وفسَّروها بالنعمة ، أي : بعد نعمةٍ
أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل ، وأنشد الزمخشري لعديّ :
2798 ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْ ... مَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ
وأنشد غيره :
2799 ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به ... فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء « أَمَهٍ » بفتح الهمزة
وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ ، وهو النسيان ، يقال : أَمِهَ يَأْمَهُ
أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها ، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ .
وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة : « بعد أَمْهٍ » بسكون الميم ، وقد تقدَّم
أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس . قال الزمخشري : « ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد
خُطِّىء » . قال الشيخ : « وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء » قلت : لم
يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارىء فإنه قال : «
خُطِّىء » بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، ولم يقل فقد أخطأ ، على أنه إذا صَحَّ
أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه البتةَ . و « بعد » منصوب ب «
ادَّكر » .
قوله : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ } هذه الجملةُ هي المحكية بالقول . وقرأ العامَّةُ
من الإِنباء . والحسن « أنا آتيكم » مضارع أتى من الإِتيان ، وهو قريبٌ من معنى
الأول .
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
والصِّدِّيق بناء مبالغة كالشِّرِّيب .
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
قوله
تعالى : { تَزْرَعُونَ } : ظاهرُه أن هذا إخبارٌ من يوسف عليه السلام بذلك . وقال
الزمخشري : « تَزْرعون » خبر في معنى الأمر كقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } [ الصف : 11 ] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر
للمبالغة في إيجاب المأمورِ المأمورَ به ، فَيُجعل كأنه وُجِد فهو يُخْبر عنه ،
والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } . قال الشيخ :
« ولا يدلُّ الأمرُ بتَرْكِه في سنبلِه على أنَّ » تزرعون « في معنى ازرعوا ، بل
تَزْرعون إخبار غيبٍ ، وأمَّا » فَذَرُوه « فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أنْ
يَفْعلوه » . قلت : هذا هو الظاهرُ ، ولا مَدْخَلَ لأمره لهم بالزِّراعة؛ لأنهم
يَزْرعون على عادتهم ، أَمَرَهم أو لم يأمرهم ، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن
من عادة الإِنسان أن يفعلَه كتَرْكِه في سُنْبله .
قوله : { دَأَباً } قرأ حفص بفتح الهمزة ، والباقون بسكونها ، وهما لغتان في مصدر
دَأَب يَدْأَبُ ، أي : داوَمَ على الشيء ولازَمَه . وهذا كما قالوا : ضَأْن وضَأَن
، ومَعْز ومَعَز بفتح العين وسكونها . وفي انتصابه أوجهٌ ، أحدها وهو قول سيبويه :
أنه منصوبٌ بفعل مقدر تقديره تَدْأَبون . والثاني وهو قول أبي العباس : أنه منصوب
بتزرعون لأنه من معناه ، فهو من باب « قَعَدْتُ القُرْفُصاء » . وفيه نظر لأنه ليس
نوعاً خاصاً به بخلاف القرفصاء مع القعود . / والثالث : أنه واقعٌ موقع الحال
فيكون فيه الأوجه المعروفة : إمَّا المبالغةُ ، وإمَّا وقوعُه موقعَ الصفة ،
وإمَّا على حذف مضاف ، أي : دائِبين أو ذوي دأب ، أو جَعَلهم نفسَ الدَأَب مبالغة
. وقد تقدَّم الكلامُ على « الدأب » في آل عمران عند قوله : { كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ } [ الآية : 11 ] .
قوله : { فَمَا حَصَدتُّمْ } « ما » يجوز أن تكونَ شرطيةً أو موصولةً . وقرأ أبو
عبد الرحمن « يأكلون » بالغَيْبة ، أي : الناس ، ويجوز أن يكونَ التفاتاً .
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
وقوله تعالى : { سَبْعٌ شِدَادٌ } : حُذِف المميِّز وهو الموصوف لدلالة ما تقدَّم عليه . ونَسَبَ الأكلَ إليهنَّ مجازاً كقوله : { والنهار مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] لمَّا كان الأكلُ والإِبصارُ فيهما جُعِلا كأنهما واقعان فيهما .
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قوله
تعالى : { يُغَاثُ الناس } : يجوز أن تكون الألف عن واو ، وأن تكون عن ياء : إمَّا
مِن الغَوْث وهو الفَرَج ، وفعلُه رباعيٌّ يُقال : أغاثَنا اللَّه ، مِن الغَوْث ،
وإمَّا مِن الغَيْث وهو المطرُ يُقال : « غِيْثَتِ البلاد » ، أي : مُطِرَتْ ،
وفعلُه ثلاثي يقال : غاثنا اللَّه مِن الغَيْث . وقالت أعرابية : « غِثْنا ما
شِئْنا » ، أي : مُطِرْنا ما أَرَدْنا « .
قوله : { يَعْصِرُونَ } قرأ الأخوان » تَعْصِرون « بالخطاب ، والباقون بياء الغيبة
، وهما واضحتان ، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب ، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به .
و » يَعْصِرون « يحتمل أوجهاً ، أظهرُها : أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو
نحو ذلك . والثاني : أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه . والثالث : أنه من
العُصْرة وهي النجاة ، والعَصَر : المَنْجى . وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه
عنه :
2800 صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ ... ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ
ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه { فِيهِ يُغَاثُ الناس } يُقال : عَصَره
يَعْصِرُه ، أي : أنجاه .
وقرأ جعفر بن محمد والأعرج : » يُعْصَرون « بالياء من تحت ، وعيسى البصرة بالتاء
من فوق ، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول . وفي هاتين القراءتين تأويلان ،
أحدهما : أنها مِنْ عَصَره ، إذا أنجاه ، قال الزمخشري : » وهو مطابِقٌ للإِغاثة «
. والثاني : قاله قطرب أنها من الإِعصار ، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه : {
وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } [ النبأ : 14 ] . قال الزمخشري : » وقرىء «
يُعْصَرون » : يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة ، وفيه وجهان : إمَّا أن
يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه ، وإمَّا أن يقال : الأصل :
أُعْصِرَتْ عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [ إلى ضميرهم ، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ
إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين « ] .
وقرأ زيد بن علي : » تِعِصِّرون « بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة ، وأصلها
تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد ، وأتبع العينَ للصاد ، ثم أتبع التاء للعين ،
وتقدَّم تحريره في { أَمَّن لاَّ يهدي } [ يونس : 35 ] .
ونقل النقاش قراءةَ » يُعَصِّرون « بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ
» عَصَّر « للتكثير . وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن
العَصْر للنبات أو الضرع ، أو النجاة كقول الآخر :
2801 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
أي : نجاتي .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
قوله تعالى : { مَا بَالُ النسوة } : العامَّةُ على كسر نون النسوة ، وضَمَّها عاصم في روايةِ أبي بكرٍ عنه ، وليست بالمشهورة ، وكذلك قرأها أبو حيوة . وقُرِىء « اللائي » وكلاهما جمعٌ ل « التي » .
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
والخَطْبُ
: الأمر والشأن الذي فيه خطرٌ . قال امرؤ القيس :
2802 وما المَرْءُ ما دامَتْ حُشاشَةُ نفسِه ... بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخُطوبِ ولا
آلِ
وهو في الأصلِ مصدرُ خَطَب يَخْطُبُ ، وإنما يُخْطب في الأمور العظام .
قوله : { إِذْ رَاوَدتُنَّ } هذا الظرفُ منصوبٌ بقوله « خَطْبُكُنَّ » لأنه في
معنى الفعل؛ إذ المعنى : ما فعلتنَّ وما أَرَدْتُنَّ به في ذلك الوقتِ؟
قوله : { الآن حَصْحَصَ } « الآن » منصوبٌ بما بعدَه ، وحَصْحَصَ معناه تَبيَّنَ
وظهر بعدَ خَفَاءٍ ، قاله الخليل . قال بعضهم : هو مأخوذٌ مِن الحِصَّة والمعنى :
بانَتْ حِصَّةُ الحَقِّ مِنْ حِصَّةِ الباطل كما تتميَّز حِصَصُ الأراضي وغيرِها .
وقيل : بمعنى ثبت واستقرَّ . وقال الراغب : « حَصْحَصَ الحقُّ ، وذلك بانكشافِ ما
يَغْمُره ، وحَصَّ وحَصْحَصَ نحو : كَفَّ وكَفْكَفَ وكَبَّ وكَبْكَبَ ، وحَصَّه :
قَطَعه : إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكم ، فمِنَ الأول قولُ/ الشاعر :
2803 قد حَصَّتِ البيضة رأسي . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
ومنه رَجُلٌ أَحَصُّ : انقطع بعضُ شَعْره ، وامرأة حَصَّاءُ ، والحِصَّة القطعةُ
من الجملة ويُسْتعمل استعمالَ النصيب . وقيل : هو مِنْ » حَصْحَصَ البعير « إذا
أَلْقَى ثَفِناتِه للإِناخِةِ ، قال الشاعر :
2804 فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفِناتِه ... وناءَ بسلمى نَوُءَةً ثم صَمَّما
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
قوله
تعالى : { ذلك } : خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر ذلك . و « ليعلم » متعلقٌ بمضمرٍ ،
أي : أظهر اللَّه ذلك ليعلم ، أو مبتدأ وخبره محذوفٌ ، أي : ذلك الذي صَرَّحْتُ به
عن براءته أمرٌ من اللَّه لا بدَّ منه ، و « لِيَعْلمَ » متعلقٌ بذلك الخبرِ ، أو
يكون « ذلك » مفعولاً لفعلٍ مقدر يتعلَّقُ به هذا الجارُّ أيضاً ، أي : فَعَلَ
اللَّه ذلك ، أو فَعَلْتُه أنا بتيسير اللَّه ليعلمَ .
قوله : { بالغيب } يجوز أن تكونَ الباءُ ظرفيةً . قال الزمخشري : « أي » : بمكان
الغَيْب وهو الخَفَاءُ والاستتار وراءَ الأبوابِ السبعة المُغَلَّقة « . ويجوز أن
تكون الباء للحال : إمَّا مِنَ الفاعل على معنى : وأنا غائب عنه خفيٌّ عن عينه ،
وإمَّا من المفعول على معنى : وهو غائب عني خفيٌّ عن عيني ، وهذا مِنْ كلامِ
يوسُفَ ، وبه بدأ الزمخشري كالمختار له . وقال غيرُه : إنه مِنْ كلامِ امرأة
العزيز وهو الظاهر . وقوله : » وأنَّ اللَّه « نَسَقٌ على » أني « أي ليَعلمَ
الأمرين .
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مَا رَحِمَ } : فيه أوجه ، أحدُها : أنه مستثنى من الضمير
المستكنِّ في « أمَّارَةٌ » كأنه قيل : إن النفس لأمَّارة بالسوءِ إلا نَفْساً
رحمها ربِّي ، فيكون أراد بالنفس الجنسَ ، فلذلك ساغ الاستثناء منها كقولِه تعالى
: { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2-3 ] ، وإلى
هذا نحا الزمخشري فإنه قال : « إلا البعضَ الذي رحمه ربي بالعِصْمة كالملائكة » وفيه
نظرٌ مِنْ حيث إيقاعُ « ما » على مَنْ يَعْقِلُ والمشهورُ خِلافُه .
والثاني : أنَّ « ما » في معنى الزمان فيكون مستثنى من الزمن العام المقدَّر .
والمعنى : إنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء في كلِّ وقتٍ وأوانٍ إلا وقتَ رحمةِ ربي
إياها بالعِصْمة . ونظرَّه أبو البقاء بقوله تعالى : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى
أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } [ النساء : 92 ] . وقد تقدَّم أن الجمهورَ لا
يُجيزون أن تكون « أنْ » واقعةً موقعَ ظرفِ الزمان .
والثالث : أنه مستثنى من مفعول « أمَّارة » ، أي : لأمَّارةٌ صاحبَها بالسوءِ إلا
الذي رَحِمه اللَّه . وفيه إيقاعُ « ما » على العاقل .
والرابع : أنه استثناءٌ منقطعٌ . قال ابن عطية : « وهو قولُ الجمهور » . وقال
الزمخشري : « ويجوز أن يكونَ استثناءً منقطعاً ، أي : ولكنْ رحمةُ ربي هي التي
تَصْرِف الإِساءةَ كقوله : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } [
يس : 23 ] .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قوله تعالى : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } : يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ المَلِك ، والمفعول ضميرَ يوسفَ عليه السلام وهو الظاهر ، ويجوز العكس .
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله
تعالى : { لِيُوسُفَ } : يجوز في هذه اللامِ أنْ تكونَ متعلقةً ب « مَكَّنَّا »
على أن يكون مفعولُ « مَكَّنَّا » محذوفاً تقديره : مَكَّنَّا لِيوسفَ الأمورَ ،
أو على أن يكونَ المفعولُ به « حيث » كما سيأتي . ويجوز أن تكونَ زائدةً عند مَنْ
يرى ذلك ، وقد تقدم أنَّ الجمهورَ يَأْبَوْن ذلك إلا في موضعين .
قوله : { يَتَبَوَّأُ } جملةٌ حاليةٌ من « يوسف » . و « منها » يجوز أنْ تتعلَّق ب
« يَتَبوَّأ » . وأجاز أبو البقاء أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ « حيث
» .
و « حيث » يجوزُ أن يكونَ ظرفاً ل « يَتَبَوَّأ » ، ويجوز أنْ يكونَ مفعولاً به
وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام .
وقرأ ابن كثير « نَشَاء » بالنون على أنها نونُ العظمةِ للَّه تعالى . وجَوَّز أبو
البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ يوسف قال : « لأنَّ مشيئته مِنْ مشيئة اللَّه »
وفيه نظرٌ لأنَّ نَظْم الكلامِ يَأْباه . والباقون بالياء على أنه ضمير يوسف . ولا
خلاف في قول { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ } أنها بالنون . وجَوَّز الشيخ
أن يكونَ الفاعلُ في قراءة الياء ضميرَ اللَّهِ تعالى ، ويكون التفاتاً .
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
قوله
تعالى : { بِجَهَازِهِمْ } : العامَّةُ على فتح الجيم ، وقُرىء بكسرِها ، وهما
لغتان فيما يحتاجه الإِنسانُ مِنْ زاد ومتاعٍ ومنه « جهاز العروس » و « جهاز البيت
» .
وقوله : { بِأَخٍ لَّكُمْ } ولم يَقُلْ بأخيكم بالإِضافة؛ مبالغةً في عَدَم
تَعَرُّفِه بهم؛ ولذلك فَرَّقوا بين « مررت بغلامك » و « بغلامٍ لك » فإنَّ الأولَ
يَقْتضي عِرْفانك بالغلام ، وأن بينك وبين مخاطِبك نوعَ عَهْدٍ ، والثاني لا
يَقْتَضي ذلك ، وقد تُخْبر عن المعرفة إخبارَ النكرة فتقول : « قال رجل كذا » وأنت
تعرفه لصِدْق إطلاقِ النكرةِ على المعرفة .
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُونِ } : يُحْتمل أنْ تكونَ « لا » ناهيةً فيكونَ « تَقْربون » مجزوماً ، ويُحْتمل أن تكونَ « لا » نافيةً وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الجزاء معطوفاً عليه ، فيكونَ أيضاً مجزوماً على ما تقدم . والثاني : أنه نفيٌّ مستقلٌّ غيرُ معطوف على جزاءِ الشرط ، وهو خبر في معنى النهي كقوله : { فَلاَ رَفَثَ } [ البقرة : 197 ] . /
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
قوله
تعالى : { لِفِتْيَانِهِ } : قرأ الأخوان وحفص : « لفتيانه » ، والباقون : «
لفِتْيَتِه » ، والفِتْيان جمع كثرة ، والفِتْية جمعُ قلَّة ، فالتكثير بالنسبة
إلى المأمورين ، والقلَّة بالنسبة إلى المتناولين . و « فتى » يُجْمع على فِتْيان
وفِتْيَة وقد تقدَّم : هل فِعْلَة في الجموع اسمُ جمعٍ أو جمعُ تكسير ، ومثله « أخ
» فإنه جُمِع على إخْوَة وإخوان .
و « يَرْجِعون » يحتمل أن يكونَ متعدِّياً وحُذِف مفعوله ، أي : يَرْجعون البضاعةَ
لأنه عَرَف من دينهم ذلك ، وأن يكونَ قاصراً بمعنى يرجعون إلينا .
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
وقرأ
الأخوان « يَكْتَلْ » بالياء من تحت ، أي : يكتل أخونا ، والباقون بالنون ، أي :
نكتل نحن ، وهو مجزومٌ على جواب الأمر .
ويُحكى أنه جرى بحضرةِ المتوكلِ أو وزيرِه ابن الزياتِ بين المازني وابن السكيت
مسألةٌ : وهي ما وزنُ « نَكْتَلْ »؟ فقال يعقوب : نَفْتَل ، فَسَخِر به المازني
وقال : إنما وزنُها نَفْتَعِل ، هكذا رأيتُ في بعض الكتب ، وهذا ليس بخطأ؛ لأنَّ
التصريفيين نَصُّوا على أنه إذا كان في الكلمة حَذْفٌ أو قَلْبٌ حُذِفَتْ في
الزِّنَة وقُلِبَتْ فنقول : وزن بِعْتُ وقُمْتُ : فِعْتُ وفُعْتُ ، ووزنُ عِد ،
عِل ، ووزنُ ناءَ : فَلَعَ ، وإن شِئْتَ أَتَيْتَ بالأصل ، فعلى هذا لا خطأَ في
قوله : وزن نَكْتَلْ نَفْتَلْ ، لأنه اعتُبر اللفظُ لا الأصلُ . ورأيت في بعض
الكتب أنه قال : نَفْعَل بالعين وهذا خطأ مَحْضٌ ، على أن الظاهر من أمرِ يعقوب
أنه لم يُتْقِنْ هذا ، ولو أَتْقَنَه لقال : وزنُه على الأصل كذا ، وعلى اللفظ كذا
، ولذلك أنحى عليه المازني فلم يَرُدُّ عليه بشيء .
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
قوله
تعالى : { إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ } : منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ محذوف أو على الحال
منه ، أي : ائتماناً كائتِماني لكم على أخيه ، شبَّه ائتِمانَه لهم على هذا
بائتمانِه على ذلك . و « من قبلُ » متعلق ب « أمِنْتُكم » .
قوله : { فالله خَيْرٌ حَافِظاً } قرأ الأخَوان وحفص « حافظاً » وفيه وجهان ،
أظهرهما : أنه تمييز ، قال أبو البقاء : « ومثل هذا يجوز إضافته » . قلت : قد قرأ
بذلك الأعمش : { فاللَّه خيرُ حافظٍ } ، واللَّه تعالى متَّصِفٌ بأنَّ حِفْظَه
يزيد على حِفْظِ غيرِه كقولك : هو أفضل عالم . والثاني : أنه حال ، ذكر ذلك
الزمخشري وأبو البقاء وغيرُهما . قال الشيخ وقد نقله عن الزمخشري وحده : « وليس
بجيد؛ لأنَّ فيه تقييدَ » خير « بهذه الحال » . قلت : ولا محذورَ فإن هذه الحالَ
لازمةٌ لأنها مؤكدةٌ لا مبيِّنَة ، وليس هذا بأولِ حالٍ وَرَدَتْ لازمةً .
وقرأ الباقون « حِفْظاً » ، ولم يُجيزوا فيها غير التمييز؛ لأنهم لو جعلوها حالاً
لكانت مِنْ صفةِ ما يَصْدُق عليه « خير » ، ولا يَصْدُق ذلك على ما يَصْدُق عليه «
خير »؛ لأن الحِفْظ معنى من المعاني ، ومَنْ يَتَأَوَّلْ « زيدٌ عَدْلٌ » على
المبالغة ، أو على حذف المضاف ، أو على وقوعِ المصدرِ موقعَ الوصفِ يُجِزْ في «
حِفْظاً » أيضاً الحالية بالتأويلات المذكورة ، وفيه تَعَسُّف .
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
قوله
تعالى : { رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } : قرأ علقمة ويحيى والأعمش « رِدَّتْ » بكسر الراء
على نَقْلِ حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء بعد تَوَهُّم خُلُوِّها مِنْ حركتها ،
وهي لغةُ بني ضَبَّة ، على أن قطرباً حكى عن العرب نَقْلَ حركةِ العين إلى الفاء
في الصحيح فيقولون : « ضِرْب زيدٌ » بمعنى ضُرِب زيد ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : {
وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ } [ الآية : 28 ] في الأنعام .
قوله : { مَا نَبْغِي } في « ما » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها استفهاميةٌ فهي مفعولٌ
مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأن لها صدرَ الكلام ، أي : أيَّ شيءٍ نبغي . والثاني : أَنْ
تكونَ نافيةً ولها معنيان ، أحدهما : ما بقي لنا ما نطلب ، قاله الزجاج . والثاني
: ما نبغي ، من البغي ، أي : ما افْتَرَيْناه ولا كَذَبْنا على هذا المَلِكِ في
إكرامه وإحسانه . قال الزمخشري : « ما نبغي في القول وما نتزيَّد فيما وَصَفْنا لك
من إحسان المَلِك » .
وأَثْبَتَ القرَّاءُ هذه الياءَ في « نبغي » وَصْلاً ووقفاً ولم يَجْعلوها من
الزوائد بخلاف التي في الكهف كما سيأتي : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } [
الكهف : 64 ] . والفرق أنَّ « ما » هناك موصولةٌ فحُذِفَ عائدُها ، والحذفُ
يُؤْنِسُ بالحذف ، وهذه عبارة مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعةِ يقولون : التغيير
يُؤْنس بالتغيير بخلافها هنا فإنها : إمَّا استفهاميةٌ ، وإمَّا نافيةٌ ، ولا
حَذْفَ على القولين حتى يُؤْنَسَ بالحذف .
وقرأ عبد اللَّه وأبو حيوة ورَوَتْها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم « ما تبغي
» بالخطاب . و « ما » تحتمل الوجهين أيضاً في هذه القراءة .
والجملةُ مِنْ قوله : { هذه بِضَاعَتُنَا } تحتمل أنْ تكونَ مفسِّرةً لقولهم « ما
نبغي » ، وأن تكونَ مستأنفةً .
قوله : { وَنَمِيرُ } معطوفٌ على الجملة الاسمية قبلها ، وإذا كانت « ما » نافيةً
جاز أن تُعْطَفَ على « نَبْغي » ، فيكونَ عَطْفَ جملةٍ فعلية على مثلِها . وقرأت
عائشة وأبو عبد الرحمن : « ونُمير » مِنْ « أماره » إذا جَعَلَ له المِيرة يُقال :
ماره يَميره ، وأماره يُمِيْره . والمِيرة : جَلْبُ الخير قال :
2805 بَعَثْتُكَ مائِراً فمكَثْت حَوْلاً ... متى يأتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيْثُ
والبعيرُ لغةً يقع على الذَّكَر خاصةً ، وأطلقه بعضُهم على الناقة أيضاً ، وجعله
نظيرَ « إنسان » ، ويجوز كَسْرُ بائه إتباعاً لعينه ، ويُجمع في القلة على أبْعِرَة
، وفي الكثرة على بُعْران .
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
قوله
تعالى : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } : هذا جوابٌ للقسم المضمرِ في قوله : « مَوْثِقاً
» لأنه في معنى : حتى تحلفوا لي لتأتُنَّني به .
قوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } في هذا الاستثناء أوجه أحدُها : أنه منقطع ،
قاله أبو البقاء ، يعني فيكون/ تقديرُ الكلام : لكن إذا أحيط بكم خَرَجْتُمْ مِنْ
عَتَبي وغضبي عليكم إن لم تَأْتوني به لوضوح عُذْركم .
الثاني : أنه متصل وهو استثناء مِن المفعول له العامِّ . قال الزمخشري : « فإن قلت
أخبرْني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال . قلت : { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } مفعولٌ
له ، والكلامُ المثبت الذي هو قولُه » لَتأْتُنَّني به « في معنى النفي معناه : لا
تَمْتنعون من الإِتيان به إلا للإِحاطة بكم ، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ من العلل
إلا لعلة واحدة وهي أنْ يُحاط بكم ، فهو استثناءٌ مِنْ أَعَمِّ العامِّ في المفعول
له ، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده ، فلا بد مِنْ تأويله
بالنفي ، ونظيرُه في الإِثبات المتأوَّل بمعنى النفي قولهم : » أقسمتُ باللَّه
لمَّا فعلتَ وإلا فعلت « ، تريد : ما أطلبُ منك إلا الفعلَ » ولوضوح هذا الوجهِ لم
يذكر غيره .
والثالث : أن مستثنى مِنْ أعمِّ العامِّ في الأحوال . قال أبو البقاء : « تقديره :
لَتَأْتُنَّني به على كل حال إلا في حال الإِحاطة بكم » . قلت : قد نَصُّوا على
أنَّ « أنْ » الناصبة للفعل لا تقع موقعَ الحال ، وإن كانَتْ مؤولةً بمصدر يجوز أن
تقع موقع الحال ، لأنهم لم يَغْتفروا في المُؤَول ما يَغْتفرونه في الصريح فيجيزون
: جئتُك رَكْضاً ، ولا يُجيزون : جئتك أن أركضَ ، وإن كان في تأويله .
الرابع : أنه مستثنى من أعم العام في الأزمان والتقدير : لَتَأْتُنَّني به في كلِّ
وقتٍ لا في وقت الإِحاطة بكم . وهذه المسألة تَقدَّم فيها خلافٌ ، وأن أبا الفتح
أجاز ذلك ، كما يُجَوِّزه في المصدر الصريح ، فكما تقول : « أتيتُكَ صِياحَ
الدِّيك » يُجيز « أنْ يَصيح الديك » وجعل من ذلك قول تأبط شراً :
2806 وقالوا لا تَنْكِحيهِ فإنَّه ... لأَِوَّلِ نَصْلٍ أن يُلاقِيَ مَجْمعا
وقولَ أبي ذؤيب الهذلي :
2807 وتاللَّهِ ما إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واجدٍ ... بأوجدَ مني أن يُهانَ صغيرُها
قال : « تقديره : وقتَ ملاقاتِه الجمعَ ، ووقت إهانةِ صغيرها » . قال الشيخ : «
فعلى ما قاله يجوز تخريجُ الآية ، ويبقى » لتأتُنَّني به « على ظاهره من الإِثبات
» . قلت : الظاهر من هذا أنه استثناءٌ مفرغ ، ومتى كان مفرَّغاً وَجَبَ تأويلُه
بالنفي .
ومنع ابن الأنباري مِنْ ذلك في « أنْ » وفي « ما » أيضاً قال : « فيجوز أن تقولَ :
خروجُنا صياح الديك ، ولا يجوز خروجُنا أن يصيحَ ، أو : ما يصيح الديك : فاغتُفِر
في الصريح ما لم يُغْتفر في المؤول » . وهذا قياس ما قدَّمْتُه في مَنْع وقوع «
أنْ » وما في حَيِّزها موقعَ الحال ، ولك أَنْ تُفَرِّق ما بينهما بأن الحال تلزمُ
التنكيرَ ، وأنْ وما في حَيِّزها نَصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف ،
فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف ، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه ، فلا يَمْتنع
وقوعُ « أَنْ » وما في حيزها موقعَه .
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
قوله
تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ } : في جواب « لمَّا » هذه ثلاثة أوجه ،
أحدها : وهو الظاهر أنه الجملةُ المنفية من قوله : { مَّا كَانَ يُغْنِي } . وفيه
حجةٌ لمَنْ يَدَّعي كونَ « لمَّا » حرفاً لا ظرفاً ، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها
جوابُها ، إذ لا يَصْلح للعملِ سواه ، لكن ما بعد « ما » النافية لا يَعْمل فيما
قبلها ، لا يجوز : « حين قام أخوك ما قام أبوك » ، مع جواز « لمَّا قام أخوك ما
قام أبوك » .
والثاني : أنَّ جوابَها محذوفٌ ، فقدَّره أبو البقاء : « امتثلوا وقَضَوا حاجةَ
أبيهم » ، وإليه نحَا ابن عطية أيضاً ، وهو تَعَسُّفٌ لأنَّ في الكلامِ ما هو
جوابٌ صريحٌ كما قَدَّمْتُه .
والثالث : أنَّ الجوابَ هو قولُه : « آوى » قال أبو البقاء : « وهو جوابُ » لمَّا
« الأولى والثانية كقولك : » لمَّا جِئْتني ، ولمَّا كَلَّمْتك أَجَبْتَني « ،
وحَسَّن ذلك أنَّ دخولَهم على يوسف عليه السلام يَعْقُبُ دخولهم من الأبواب » يعني
أنَّ « آوى » جوابُ الأولى والثانية ، وهو واضح .
قوله : { إِلاَّ حَاجَةً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه :
ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها ، ولم يذكر الزمخشري غيره . والثاني : أنه مفعولٌ
مِنْ أجله ، ولم يذكر أبو البقاء غيره ، ويكون التقدير : ما كان يُغْني عنهم لشي
من الأشياء إلا لأجلِ حاجةٍ كانت في نفس يعقوب . وفاعل « يُغْني » ضميرُ التفرقِ
المدلولِ عليه من الكلام المتقدم . وفيما أجازه أبو البقاء نظرٌ من حيث المعنى لا
يَخْفَى على متأمِّله . و « قضاها » صفةٌ ل « حاجةً » .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
قوله
تعالى : { جَعَلَ السقاية } : العامَّة على « جَعَل » دون زيادة واو قبلها . وقرأ
عبد اللَّه « وجَعَلَ » ، وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّ الجوابَ محذوفٌ .
والثاني : أن الواوَ مزيدةٌ في الجواب على رأيِ مَنْ يَرى ذلك ، وهم الكوفيون
والأخفش . / وقال الشيخ : « وقرأ عبداللَّه فيما نقل الزمخشري » وجعل السِّقاية في
رَحْل أخيه : أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن « ، وفي نَقْل ابن عطية » وجعل «
بزيادة واوٍ في » جَعَل « ، دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله : { فِي
رَحْلِ أَخِيهِ } ، فاحتمل أن تكونَ الواوُ زائدةً على مذهب الكوفيين ، واحتمل أن
يكونَ جوابُ » لمَّا « محذوفاً تقديره : فَقَدها حافظُها ، كما قيل : إنما أوحيَ
إلى يوسفَ أن يَجْعل السقاية فقط ، ثم إنَّ حافِظَها فَقَدَها فنادى برأيه فيما
ظهر له ، ورجَّحه الطبري . وتفتيشُ الأوعية يَرُدُّ هذا القول » .
قلت : لم ينقلِ الزمخشري هذه الزيادةَ كلَّها قراءةً عن عبد اللَّه ، إنما جعل
الزيادةَ المذكورةَ بعد قوله : « رَحْل أخيه » تقديرَ جوابٍ مِنْ عنده ، وهذا
نصُّه : قال الزمخشري : « وقرأ ابن مسعود » وجَعَل السِّقاية « على حَذْفِ جواب »
لمَّا « كأنه قيل : فلمَّا جَهَّزهم بجهَازهم وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه أمهلهم
حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن » فهذا من الزمخشري إنما هو تقديرٌ لا تلاوةٌ منقولة
عن عبد اللَّه ، ولعله وقع للشيخِ نسخةٌ سقيمة .
والسِّقاية : إناءٌ مستطيل يسقى به وهو الصُّواع ، وللمفسرين فيه خلافٌ طويل .
قوله : { أَيَّتُهَا العير } منادى حُذِفَ منه حرفُ النداء والعِيْر مؤنث ، ولذلك
أتَتْ « أيّ » المُتَوَصَّلُ بها إلى ندائه . والعِيْر فيها قولان ، أحدهما : أنها
في الأصلِ جماعةُ الإِبل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعِيْر ، أي : تَذْهَبُ وتجيء به .
والثاني : أنها في الأصل قافلة الحمير كأنها جمع عَيْر ، والعَيْر : والعَيْر :
الحمار . قال :
2808 ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرادُ به ... إلا الأَذَلاَّن عَيْرُ الحَيِّ
والوَتِدُ
والأصل : عَيْر وعُيْر بضم العين ثم فَعِل به ما فُعِل ب « بِيض » ، والأصل :
بُيْض بضم الأول ، ثم أُطْلِقَ العِير على كل قافلة حميراً كنَّ أو غيرَها ، وعلى
كل تقدير فنسبةُ النداء إليها على سبيل المجاز ، لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلُها
. ونَظَّره الزمخشري بقوله : « يا خيلَ اللَّهِ اركبي » ، إلا أنه في هذه الآية
التفت إلى المضاف المحذوف في قوله : « إنكم لسارقون » ولم يَلْتفت إليه في « يا
خيل اللَّه اركبي » ، ولو التفت لقال : اركبوا . ويجوزُ أن يُعَبَّر عن أهلها
للمجاورة فلا يكونُ مِنْ مجازِ الحَذْف ، بل من مجازِ العَلاقة .
وتجمعه
العرب قاطبةً ، على عَيَرات بفتح الياء ، وهذا ممَّا اتُّفِقَ على شذوذه؛ لأن
فِعْلَة المعتلةَ بالعين حقُّها في جمعها بالألف والتاء أن تُسَكَّن عينُها نحو :
قِيمة وقِيْمات ودِيْمة ودِيْمات ، وكذلك فَعْل دون ياء إذا جُمِعَ حَقُّه أن
تُسَكَّن عينُه . وقال امرؤ القيس :
2809 غَشِيْتُ ديارَ الحي بالبَكَرَاتِ ... فعارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
وقال الأعلم الشنتمري : « العِيَرات هنا : مواضع الأَعْيار وهي الحُمُر » قلت :
وفي عِيَرات شذوذٌ آخرُ وهو جَمْعُها بالألف والتاء مع جَمْعِها على « أعْيار »
أيضاً جمعَ تكسير ، وقد نَصُّوا على ذلك . قيل : ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله :
2810 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ... ففي الناسِ بُوْقاتُ لهم وطبولُ
قالوا : فجمع بوقاً على بوقات مع تكسيرهم له على أبواق .
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
قوله
تعالى : { وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ } : هذه الجملة حالية من فاعل « قالوا » ، أي
: قالوا وقد أقبلوا ، يعني في حال إقبالهم عليهم .
قوله : { مَّاذَا تَفْقِدُونَ } تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألةِ أولَ هذا
الموضوع . وقرأ العامَّةُ « تَفْقِدون » بفتح حرف المضارعة؛ لأنَّ المستعملَ منه «
فَقَد » ثلاثياً . وقرأ السُّلَمي بضمِّه مِنْ أَفْقَدْتُه إذا وجدتَه مفقوداً
كَأَحْمَدْته وأَبْخَلْتُه ، أي : وَجَدْتُه محموداً بخيلاً . وضَعَّف أبو حاتم
هذه القراءةَ ، ووَجْهُها ما ذَكَرْتُه .
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قوله
تعالى : { صُوَاعَ } : هو المِكْيال وهو السِّقاية المتقدمة سَمَّاه تارةً كذا
وتارةً كذا ، وإنما اتُّخِذ هذا الإِناء مكيالاً لعِزَّة ما يُكال به في ذلك الوقت
. وفيه قراءاتُ كثيرةٌ كلُّها لغاتٌ في هذا الحرفِ ، ويذكَّر ويؤنَّث :
فالعامَّةُ « صُواع » بزنة غُراب ، والعين مهملة . وقرأ ابن جبير والحسن كذلك إلا
أنه بالغين معجمةً . وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ، إلا أنه حَذَفَ الألف وسكَّن الواو
، وقرأ زيد/ بن علي « صَوْغ » كذلك ، إلا أنه فتح الصاد جعله مصدراً لصاغ يَصُوغ ،
والقراءتان قبله مشتقتان منه ، وهو واقع موقعَ مفعولٍ ، أي : مَصُوغ المَلِك .
وقرأ أبو حيوة وابن جبير والحسن في روايةٍ عنهما « صِواع » كالعامَّة لا أنهم
كسروا الفاء .
وقرأ أبو هريرة ومجاهد « صَاعَ » بزنة باب ، وألفه كألفه في كونِها منقلبةً عن
واوٍ مفتوحة . وقرأ أبو رجاء « صَوْعَ » بزنة « قَوْسٍ » . وقرأ عبداللَّه بن عون
كذلك إلا أنه ضمَّ الفاءَ فهذه ثمانِ قراءات متواتِرُها واحدةٌ .
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
قوله
تعالى : { تالله } : التاءُ حرفُ قسمٍ ، وهي عند الجمهور بدلٌ من واو القسم ،
ولذلك لا تدخُل إلا على الجلالةِ المقدسة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قولٍ
ضعيف . ولو قلت : تالرحيم لم يَجُزْ . وهي فرع الفرع . هذا مذهبُ الجمهور ، وزعم
السهيلي أنها أصل بنفسها ويلازِمُها التعجبُ غالباً كقوله تعالى : { تَالله
تَفْتَؤُاْ } [ يوسف : 85 ] .
وقال ابن عطية : « والتاء في » تاللَّه « بدلٌ من واو ، كما أُبْدِلت في » تُراث «
وفي » التوراة « وفي » التُّخَمَة « ، ولا تدخل التاء في القسم ، إلا في المكتوبة
من أسماء اللَّه تعالى وغيره ذلك ، لا تقول : تالرحمن ، وتالرحيم » . وقد عرفْتَ
أنَّ السهيلي خالَفَ في كونها بدلاً من واو . وأمَّا قولُه : « وفي التوراة » يريد
عند البصريين . وزَعَمَ بعضُهم أنَّ التاء فيها زائدة . وأمَّا قوله : « إلا في
المكتوبة » هذا هو المشهور . وقد تقدَّم دخولُها على غير ذلك .
قوله : { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } يُحْتمل أن يكونَ جواباً للقسم ، فيكونون قد
أَقْسموا على شيئين : نَفْيِ الفساد ونَفْيِ السَّرِقة .
وقوله : { مَّا جِئْنَا } يجوز أَنْ يكونَ مُعَلِّقاً للعلم ، ويجوز أن يُضَمَّنَ
العلمُ نفسُه معنى القسم فيجاب بما يُجاب القسم . وقيل : هذان الوجهان في قولِ
الشاعر :
2811 ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
قوله تعالى : { فَمَا جَزَآؤُهُ } : الهاء تعودُ على الصُّواع ، ولا بد من حَذْفِ مضاف أي : فما جزاءُ سَرِقته . و « إنْ كنتم » يجوز أن يكونَ جوابُه محذوفاً أو متقدِّماً .
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قوله
تعالى : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ } : أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكونَ « جزاؤه »
مبتدأً والضميرُ للسارق ، و « مَنْ » شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ ، والفاءُ
جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط ، و « مَنْ » وما في حَيِّزها
على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول ، قاله ابن عطية ، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين
المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبراً عنه ، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه . وليس بظاهر؛
لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ ،
وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه : « ويجوز أن يكونَ » جزاؤه «
مبتدأً ، والجملةُ الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر .
والأصل : جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضِعَ » هو « كما تقول
لصاحبك : مَنْ أخو زيد؟ فيقول لك : » أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه ، فهو هو « يرجع
الضمير الأول إلى » مَنْ « والثاني [ إلى ] الأخ ، ثم تقول : فهو أخوه ، مقيماً
للمظهر مقام المضمر » .
والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهاً ثانياً بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه
هو بعينه ، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية . ثم قال : « ووَضْعُ
الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل ، وغير فصيحٍ
فيما سوى ذلك نحو : زيدٌ قام زيد ، ويُنَزَّه عنه القرآنُ ، قال سيبويه : » لو قلت
: « كان زيدٌ منطلقاً زيد » لم يكن حَدَّ الكلام ، وكان ههنا ضعيفاً ولم يكنْ
كقولِك : ما زيدٌ منطلقاً هو لأنك قد اسْتَغْنَيْتَ عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن
تُضْمِرَه « . قلت : ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقاً وعليه بنى الزمخشري .
وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال : » والوجه الثالث : أن
يكونَ « جزاؤه » مبتدأً ، و « مَنْ وُجد » مبتدأ ثان ، و « فهو » مبتدأٌ ثالث ، و
« جزاؤه » خبر الثالث ، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة ، وعلى الثاني «
هو » انتهى . وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ ، إذ يصير التقديرُ : فالذي
وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل « هو » عبارةً عن المبتدأ الثاني ، وهو
{ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } ، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في « جزاؤه » الأخير
عائدةً على « جزاؤه » الأولِ ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك .
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون « جزاؤه » مبتدأً ، والهاءُ تعود على
المسروق ، و { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره ، و « مَنْ » بمعنى الذي ، والتقدير
: جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله ، كذلك كانت شريعتُهم : يُسْتَرَقُّ السارق ،
فلذلك اسْتُفْتوا في جزائه .
وقوله
« فهو جزاؤه » تقرير للحكم أي : فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك :
حَقُّ زيدٍ أن يكسى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه ، فذلك حَقُّه « أي فهو حَقُّه
لِتُقَرِّرَ/ ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه ، قاله الزمخشري . ولمَّا ذكر أبو
البقاء هذا الوجهَ قال : » والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله ، وقوله : « فهو
جزاؤه » مبتدأ وخبر ، مؤكِّد لمعنى الأول « .
ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلاً له عن الزمخشري قال : » وقال معناه ابن
عطية ، إلا أنه جعل القول الواحد قولين ، قال : « ويَصِحُّ أن يكونَ » مَنْ «
خبراً على أن المعنى : جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله ، عائد على » مَنْ «
ويكون قوله : » فهو جزاؤه « زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ » ، ثم قال : « ويُحتمل أن يكونَ
التقدير : جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه ، وفيما قبله لا بد مِنْ تقديره؛
لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبراً عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله : جزاؤه أَخْذُ
مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه ، هذا لا بد منه على هذا الإِعراب » قلت : وهذا
كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين .
الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة : أن يكون « جزاؤه » خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي :
المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أَفْتَوا بقولهم : « مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه » كما
يقول مَنْ يَسْتفتي في جزاء صيد المُحْرِم : جزاءُ صيد المُحْرِم ، ثم يقول : {
وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [
المائدة : 95 ] ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : « وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله
: » المسؤول عنه جزاؤه « على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ
قوله : » فما جزاؤه « أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته ، فأيُّ فائدةٍ في
نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي » .
قلت : قوله : « ليس فيه كبيرُ فائدة » ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في
علم البيان ، وفي القرآن أمثالُ ذلك .
الوجه الرابع : أن يكونَ « جزاؤه » مبتدأ ، وخبرُه محذوف تقديره : جزاؤه عندنا
كجزائِه عندكم ، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدم
دليلٌ عليهما ، ويكون قولُه : « مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه على ما تقدَّم في
الوجه الذي قبله ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ولم يذكرْه الشيخ ، فقد جَعَلَ في
الآية الكريمة أربعة أوجهٍ ، وتقدَّم أن الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه ،
فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها
الشيخُ صارت خمسةً ، ولكن لا تحقيقَ لذلك ، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية
في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ ، فإذا حَقَّقَتْها لم
تجِىءْ إلا أربعةً كما ذكرتها لك .
قوله : { كذلك نَجْزِي الظالمين } محل الكاف نصب : إمَّا على أنها نعتٌ لمصدر
محذوف ، وإمَّا حالٌ من ضميره ، أي : مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع نجزي الظالمين .
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
وقرأ
العامَّة : « وِعاء » بكسر الواو ، وقرأ الحسن بضمها ، وهي لغةٌ نُقِلَتْ عن نافع
أيضاً . وقرأ سعيد بن جبير « مِنْ إعاء » بإبدالِ الواوِ همزةً ، وهي لغة
هُذَيْلية : يُبْدلون من الواو المكسورة أولَ الكلمة همزة فيقولون : إشاح وإسادة
وإعاء في : وشاحٍ ووِسادة ووِعاء . وقد تقدَّم ذلك في الجلالةِ المعظمة أولَ هذا
الموضع .
قوله : { ثُمَّ استخرجها } في الضمير المنصوب قولان ، أحدهما : أنه عائدٌ على
الصُّواع ، لأنَّ فيه التذكيرَ والتأنيثَ كما تقدم . وقيل : بل لأنه حُمِل على
معنى السقاية . وقال أبو عبيد : « يؤنَّث الصُّواع من حيث يُسَمَّى » سقاية « ،
ويُذكَّر من حيث هو صُواع » . قالوا : وكأنَّ أبا عبيد لم يَحْفظْ في الصُّواع
التأنيثَ . وقال الزمخشري : « قالوا : رَجَع بالتأنيث على السِّقاية » ثم قال : «
ولعل يوسف كان يُسَمِّيه » سِقاية « وعبيدَهُ » صُواعاً « فقد وقع فيما يتصل به من
الكلام سقاية ، وفيما يتصل بهم صواع » . قلت : هذا الأخيرُ حَسَنٌ .
الثاني : أن الضميرَ عائدٌ على السَّرِقة . وفيه نظر؛ لأن السِّرقة لا تُسْتخرج ،
إلا بمجازٍ .
قوله : { كذلك كِدْنَا } الكلامُ في الكاف كالكلام فيما قبلها أي : مثلَ ذلك
الكَيْدِ العظيم كِدْنا ليوسُفَ أي : عَلَّمْناه إياه . وقوله : { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ } تفسيرُ للكيد وبيان له ، وذلك أنه كان في دينِ مَلِك مِصْرَ أن
يُغَرَّمَ السارقُ مِثْلَيْ ما أَخَذَ ، لا أنه يُلْزَمُ ويُسْتَعْبَدُ .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } فيه وجهان أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ
تقديرُه : ولكن بمشيئة اللَّه أَخَذَه في دين غيرِ الملك ، وهو دينُ آلِ/ يعقوب :
أن الاسترقاقَ جزاءُ السارق . الثاني : أنه مفرغٌ من الأحوال العامة ، والتقدير :
ما كان ليأخذَه في كل حال إلا في حال التباسِه بمشيئة اللَّه أي إذنه في ذلك .
وكلامُ ابنِ عطية مُحْتَمِلٌ فإنه قال : « والاستثناء حكاية حال ، التقدير : إلا
أن يَشاء اللَّه ما وقع من هذه الحيلة » .
وتقدَّم القراءتان في { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [ الآية : 83 ] في
الأنعام . وقرأ يعقوب بالياء مِنْ تحت في « يرفع » و « يشاء » ، والفاعل اللَّه
تعالى : وقرأ عيسى البصرة « نَرْفع » بالنون « درجات » منونة ، « يشاء » بالياء .
قال صاحب « اللوامح » : « وهذه قراءةٌ مرغوبٌ عنها تلاوةً وجملة ، وإن لم يمكنْ
إنكارُها » قلت : وتوجيهُها : أنه التفتَ في قولِه « يشاء » من التكلم إلى
الغَيْبة ، والمرادُ واحد .
قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قرأ عبد اللَّه بن مسعود « وفوق كل
ذي عالم » وفيها ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أن يكون « عالم » هنا مصدراً ، قالوا : مثل
« الباطل » فإنه مصدرٌ فهي كالقراءة المشهورة . الثاني : أنَّ ثَمَّ مضافاً
محذوفاً تقديرُه : وفوقَ كلِّ ذي مُسَمَّى عالم ، كقول لبيد :
2812 إلى الحَوْلِ ثم اسمِ السَّلامِ عليكما ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
أي : مُسَمَّى السلام . الثالث : أنَّ « ذو » زائدة ، كقول الكميت :
2813 إليكم ذوي آلِ النبيِّ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت .
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
قوله
تعالى : { فَقَدْ سَرَقَ } : الجمهور على « سَرَق » مخففاً مبيناً للفاعل . وقرأ
أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في
آخرين « سُرِّق » مشدداً مبنياً للمفعول أي : نُسِب إلى السَّرِقة . وفي التفسير :
أنَّ عَمَّته رَبَّتْه فأخذه أبوه منها ، فَشَدَّت في وَسَطِه مِنْطَقَة كانوا
يتوارثونها من إبراهيم عليه السلام ففتَّشوا فوجدوها تحت ثيابه . فقال : هو لي
فَأَخَذَتْه كما في شريعتهم ، وهذه القراءةُ منطبقة على هذا .
قوله : { فَأَسَرَّهَا } الضميرُ المنصوبُ مفسَّر بسياق الكلام أي : فَأَسَرَّ
الحزازة التي حَصَلَتْ له مِنْ قولهم { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } كقول الشاعر :
2814 أما وِيَّ ما يُغْني الثَّراء عن الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بها
الصدرُ
والضمير في « حَشْرَجَتْ » يعود على النفس ، كذا ذكره الشيخ ، وقد جعل البيتَ
مِمَّا فُسِّر فيه الضميرُ بذِكْر ما هو كلٌّ لصاحب الضمير ، فلا يكون مما فُسِّر
فيه بالسياق . ولتحقيق هذا موضعٌ آخرُ .
وقال الزمخشري : « إضمارٌ على شريطة التفسير ، تفسيره { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً
} ، وإنما أنَّثَ لأنَّ قولَه » شَرٌ مكاناً « جملة أو كلمةٌ على تسميتهم الطائفة
من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فَأَسَرَّ الجملةَ أو الكلمةَ التي هي قولُه : {
أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } ، لأنَّ قولَه : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً }
بدلٌ مِنْ أَسَرَّها » . قلت : وهذا عندَ مَنْ يُبْدل الظاهرَ من المضمر في غير
المرفوع نحو : ضربته زيداً ، والصحيح وقوعه ، كقوله :
2815 فلا تَلُمْهُ أن يَخافَ البائسا ... وقرأ عبد اللَّه وابن أبي عبلة : «
فَأَسَرَّه » بالتذكير . قال الزمخشري : « يريد القول أو الكلام » . وقال أبو
البقاء : « المضمر يعود إلى نِسْبتهم إياه إلى السَّرقة ، وقد دَلَّ عليه الكلامُ
، وقيل : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرهُ : قال في نفسه : أنتم شرٌّ مكاناً ،
وأَسَرَّها أيْ هذه الكلمةَ » . قلت : ومِثْلُ هذا يَنْبغي أن لا يُقال : فإنَّ
القرآنَ يُنَزَّهُ عنه .
قوله : { مَّكَاناً } تمييزٌ أي : منزلةً من غيركم .
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قوله تعالى : { مَكَانَهُ } : فيه وجهان أحدهما : وهو الظاهر أنَّ « مكانَه » نصب على الظرفِ ، والعامل فيه « خُذْ » . والثاني : أنه ضَمَّن « خُذْ » معنى « اجْعَلْ » فيكونُ « مكانَه » في محل المفعول الثاني . وقال الزمخشري : « فَخُذْه بَدَلَه على جهةِ الاسترهان أو الاستبعاد » .
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قوله تعالى : { إِنَّآ إِذاً } : هذه حرفُ جوابٍ وجزاء ، وتقدم الكلامُ على أحكامِها .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
قوله
تعالى : { استيأسوا } : استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال : يَئِس واستيئس
بمعنىً ، نحو عَجِب واستعجب ، وسَخِر واستخسر . وقال الزمخشري : « وزيادة السين
والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في » استعصم « .
وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه » اسْتَاْيَسوا « بألفٍ بعد التاء ثم ياء ،
وكذلك في هذه السورة : » لا تايَسوا « ، إنه لا يايَس ( إذا اسْتايَسَ الرسلُ ) ،
وفي الرعد : ( أفلم يايَسِ الذين ) الخلافُ واحد . فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل
إذ يُقال : يَئِس ، فالفاء ياء ، والعين همزة ، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم
العين على الفاء فيقال : أَيِس ، ويدلُّ على ذلك شيئان ، أحدُهما : المصدرُ الذي
هو اليَأْس . والثاني : أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً
لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ
فيه ما وقعَتْ موقعَه ، وقراءةُ ابن كثير من هذا ، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ
مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس ، / وإنْ لم يكنْ
مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة ، وهذا كما تقدم أنه يقرأ » القرآن «
بالألف ، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ .
وقال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ : » وكذلك
رُسِمَتْ في المصحف « يعني كما قرأها البزي ، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان
الهمزة . وقال أبو عبد اللَّه : » واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ «
يابَس » « ولا تايَسُوا » بالألف ، ورُسِم الباقي بغير ألف « قلت : وهذا هو
الصوابُ ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه .
قوله : { نَجِيَّاً } حال مِنْ فاعل » خَلَصوا « أي : اعتزلوا في هذه الحالِ ،
وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ : إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى
مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر ، كقوله : { وَقَرَّبْنَاهُ
نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] أي : مُناجِياً ، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً ،
يقال : هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي : مُخالِطوك ومُعاشِروك ، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على
فَعِيل بمنزلة صَديق ، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل
والوَجيب والذَّمِيل ، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل : النجوى بمعناه ،
قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] ، وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ
المذكورةُ في » رجل عَدْل « وبابه ، ويُجمع على » أَنْجيَة « ، وكان مِنْ حَقِّه
إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء .
ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر :
2816 إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ ... وقول الآخر وهو لبيد :
2817 وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً ... كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ
شُهودُ
وجَمْعُه
كذلك يُقَوِّي كونَه جامداً ، إذ يصير كرغيف وأَرْغِفَة .
قوله : { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ } في هذه الآيةِ وجوهٌ ستة ، أحدها : وهو
الأظهر أنَّ « ما » مزيدةٌ ، فيتعلَّقُ الظرفُ بالفعل بعدها ، والتقدير : ومِنْ
قبلِ هذا فَرَّطْتم ، أي : قَصَّرْتُمْ في حَقِّ يوسف وشأنِه ، وزيادةُ « ما »
كثيرةٌ ، وبه بدأ الزمخشري وغيرُه .
الثاني : أن تكونَ « ما » مصدريةً في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ الظرف المتقدم
. قال الزمخشري : « على أنَّ محلَّ المصدرِ الرفعُ بالابتداء ، والخبرُ الظرفُ ،
وهو » مِنْ قبل « ، والمعنى : وقع مِنْ قَبْل تفريطكم في يوسف ، وإلى هذا نحا ابنُ
عطية أيضاً فإنه قال : » ولا يجوز أن يكونَ قوله « مِنْ قَبلُ » متعلقاً ب « ما
فَرَّطْتُمْ » ، وإنما تكونُ على هذا مصدريةً ، والتقدير : مِنْ قبلُ تفريطُكم في
يوسف واقعٌ أو مستقرٌ ، وبهذا المقدرِ يتعلَّقُ قولُه « مِنْ قبل » . قال الشيخ :
« وهذا وقولُ الزمخشري راجعان إلى معنى واحد وهو أنَّ » ما فَرَّطْتُمْ « يُقَّدرُ
بمصدرٍ مرفوعٍ بالابتداء ، و » مِنْ قبل « في موضعِ الخبرِ ، وذَهِلا عن قاعدةٍ
عربية وحُقَّ لهما أن يَذْهَلا وهو أن هذه الظروفَ التي هي غاياتُ إذا بُنِيَتْ لا
تقع أخباراً للمبتدأ جَرَّتْ أو لم تجرَّ تقول : » يومُ السبت مباركٌ ، والسفر
بعده « ، ولا تقول : » والسفر بعدُ ، وعمرو وزيد خلفَه « ، ولا يجوز : » زيد وعمرو
خلفُ « وعلى ما ذكراه يكون » تفريطكم « مبتدأً ، و » من قبل « خبر [ وهو مبني ]
وذلك لا يجوز ، وهو مقرر في علم العربية » .
قلت : قوله « وحُقَّ لهما أن يَذْهلا » تحاملٌ على هذين الرجلين المعروفِ موضعُهما
من العلم . وأمَّا قولُه « إنَّ الظرف المقطوعَ لا يقع خبراً فمُسَلَّمٌ ، قالوا
لأنه لا يفيد ، وما لا يفيد فلا يقع خبراً ، ولذا لا يقع صلةً ولا صفةً ولا حالاً
، لو قلت : » جاء الذي قبلُ « ، أو » مررت برجل قبلُ « لم يجز لِما ذكرت . ولقائلٍ
أن يقولَ : إنما امتنع ذلك لعدمِ الفائدة ، وعدمُ الفائدة لعدمِ العلمِ بالمضاف
إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مَدْلولاً عليه أن يقع ذلك
الظرفُ المضافُ إلى ذلك المحذوفِ خبراً وصفةً وصلةً وحالاً ، والآيةُ الكريمة من
هذا القبيل ، أعني ممَّا عُلِم فيه المضافُ إليه كما مرَّ تقريره . ثم هذا الردُّ
الذي رَدَّ به الشيخ سبقه إليه أبو البقاء فقال : » وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ « قبل » إذا
وقعت خبراً أو صلة لا تُقْطع عن الإِضافة لئلا تبقى ناقصة « .
الثالث : أنَّها مصدريةٌ أيضاً في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر هو قولُه : » في
يوسف « ، أي : وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب الفارسي ، كأنه اسْتَشْعر
أن الظرفَ المقطوعَ/ لا يقع خبراً فعدل إلى هذا ، وفيه نظر؛ لأنَّ السياقَ والمعنى
يجريان إلى تعلُّق » في يوسف « ب » فَرَّطْتُم « فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدي
إلى تهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه .
الرابع
: أنها مصدريةٌ أيضاً ، ولكن محلَّها النصبُ على أنها منسوقةٌ على { أَنَّ
أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ } ، أي : ألم تعلموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ وتفريطكَم في
يوسف . قال الزمخشري : « كأنه قيل : ألم تعلموا أخْذَ أبيكم عليكم موثقاً
وتفريطَكم مِنْ قبلُ في يوسف » . وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً .
قال الشيخ : « وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ، لأنَّ فيه الفصلَ بالجارِّ والمجرور
بين حرف العطف الذي هو على حرفٍ واحد وبين المعطوف ، فصار نظير : » ضربتُ زيداً
وبسيفٍ عمراً « ، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر » .
قلت : « هذا الردُّ أيضاً سبقه إليه أبو البقاء ولم يَرْتَضِه وقال : » وقيل : هو
ضعيف لأنَّ فيه الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف ، وقد بَيَّنَّا في سورة النساء
أنَّ هذا ليس بشيء « . قلت : يعني أنَّ مَنْعَ الفصل بين حرف العطف والمعطوف ليس
بشيء ، وقد تقدَّم إيضاح ذلك وتقريرُه في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء .
ثم قال الشيخ : » وأمَّا تقديرُ الزمخشري « وتفريطكم من قبل في يوسف » فلا يجوزُ
لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز «
. قلت : ليس في تقدير الزمخشري شيءٌ من ذلك؛ لأنه لَمَّا صَرَّح بالمقدَّر أخَّر
الجارَّيْن والمجرورَيْن عن لفظِ المصدر المقدر كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ،
وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه ، فأين تقديم المعمول على المصدر؟ ولو رَدَّ عليه
وعلى ابن عطية بأنه يلزم مِنْ ذلك تقديمُ معمولِ الصلة على الموصول لكان رَدَّاً
واضحاً ، فإنَّ » من قبلُ « متعلقٌ بفَرَّطْتُم ، وقد تقدم على » ما « المصدرية ،
وفيه خلافٌ مشهور .
الخامس : أن تكونَ مصدريةً أيضاً ، ومحلُّها نصبٌ عطفاً على اسم » أنَّ « ، أي :
ألم تعلموا أنَّ أباكم وأنَّ تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذٍ يكون في خبر » أنَّ
« هذه المقدرة وجهان ، أحدهما وهو » من قبلُ « ، والثاني هو » في يوسف « ، واختاره
أبو البقاء ، وقد تقدَّم ما في كلٍ منهما . ويُرَدُّ على هذا الوجه الخامسِ بما
رُدَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عُرِف ما فيه .
السادس : أن تكونَ موصولةً اسميةً ، ومحلُّها الرفع أو النَصبُ على ما تقدَّم في
المصدرية ، قال الزمخشري : » بمعنى : ومِنْ قبل هذا ما فرَّطتموه ، أي :
قَدَّمتموه في حَقِّ يوسف من الجناية ، ومحلُّها الرفع أو النصب على الوجهين « .
قلت
: يعني بالوجهين رفعَها بالابتداء وخبرها « من قبل » ، ونصبَها عطفاً على مفعول «
ألم تعلموا » ، فإنه لم يَذْكر في المصدرية غيرَهما . وقد عرْفْتَ ما اعتُرِض به
عليهما وما قيل في جوابه . فتحصَّل في « ما » ثلاثة أوجه : الزيادةُ ، وكونُها
مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، وأنَّ في محلِّها وجهين : الرفعَ أو النصبَ ، وقد تقدم
تفصيلُ ذلك كلِّه .
قوله : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } « بَرِحَ » هنا تامة ضُمِّنت معنى « أفارق » ف «
الأرض » مفعولٌ به ، ولا يجوز أن تكون تامةً من غيرِ تضمين ، لأنها إذا كانت كذلك
كان معناها ظهر أو ذهب ، ومنه « بَرِح الخَفاء » ، أي : ظهر أو ذهب ومعنى الظهور
لا يليق ، والذهابُ لا يَصِلُ إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة « في » تقول : ذهبت في
الأرض ، ولا يجوز : ذهبت الأرض ، وقد جاء شيءٌ لا يُقاس عليه . وقال أبو البقاء :
« ويجوز أن يكونَ ظرفاً » . قلت : ويحتمل أن يكونَ سقط من النسخ لفظةُ « لا » ،
وكان : « ولا يجوز أن تكون ظرفاً » .
واعلمْ أنه لا يجوز في « أبرح » هنا أن تكونَ ناقصة لأنه لا يَنْتَظِم من الضمير
الذي فيها ومن « الأرض » مبتدأ أو خبر ، ألا ترى أنك لو قلت : « أنا الأرض » لم
يَجُزْ من غير « في »؛ بخلاف « أنا في الأرض » و « زيد في الأرض » .
قوله : { أَوْ يَحْكُمَ الله } في نصبه وجهان ، أحدهما : وهو/ الظاهر عَطْفُه على
« يَأْذَن » . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار « أنْ » في جواب النفي وهو قوله « فلن
أبرح » ، أي : لن أبرحَ الأرضَ إلا أَنْ يَحْكُم كقولهم : « لأَلْزَمَنَّكَ أو
تقضيني حقي » ، أي : إلا أن تقضيني . قال الشيخ : « ومعناه ومعنى الغاية متقاربان
» . قلت : وليس المعنى على الثاني ، بل سياقُ المعنى على عطفِه على « يَأْذن »
فإنه غيى الأمرَ بغايتين ، أحدهما خاصة ، وهي إِذْن اللَّه ، والثانية عامة؛ لأن
إذْنَ اللَّهِ له في الانصراف هو مِنْ حكم اللَّه .
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
وقرأ
العامَّةُ « سَرَقَ » مبنياً للفاعل مخففاً ، وابن عباس وأبو رزين والكسائي في
ورايةٍ « سُرِّق » مبنياً للمفعول مشدداً ، وقد تقدَّم توجيههُما .
وقرأ الضحاك « سارِق » جعله اسم فاعل .
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
قوله
تعالى : { وَسْئَلِ القرية } : يحتمل ثلاثة أوجه ، أحدها : وهو المشهور أنه على
حَذْفِ مضاف تقديره : واسأل أهلَ القرية وأهلَ والعير ، وهو مجازٌ شائع . قاله ابن
عطية وغيره . قلت : وهذا على خلافٍ في المسألة : هل الإِضمارُ من باب المجاز أو
غيرِه؟ المشهورُ أنه قسم منه وعليه أكثر الناس . قال أبو المعالي : « قال بعض
المتكلمين : » هذا من الحذفِ وليس من المجاز ، [ وإنما المجاز ] : لفظةٌ
استُعِيرَتْ لغير ما هي له « قال : » وحَذْفُ المضاف هو عينُ المجازِ وعُظْمُه ،
هذا مذهب سيبويه وغيره « ، وحكى أنه قولُ الجمهور . وقال فخر الدين الرازي : »
إنَّ المجازَ والإِضمارَ قسمان لا قسيمان ، فهما متباينان « .
الثاني : أنه مجازٌ ، ولكنه من باب إطلاق اسمِ المحلِّ على الحالِّ للمجاورة
كالزاوية .
الثالث : أنه حقيقةٌ لا مجاز فيه ، وذلك أنه يجوز أن يسألَ القريةَ نفسَها والإِبل
فتجيبه ، لأنه نبيٌّ يجوز أن ينطق له الجماد والبهائم .
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
قوله تعالى : { بَلْ سَوَّلَتْ } : هذا الإِضراب لا بد له من كلامٍ قبلَه متقدَّمٍ عليه يُضْرِب هذا عليه ، والتقدير : ليس الأمر كما ذكرتُمْ حقيقةً بل سَوَّلَتْ . وتقدَّم تفسيرُ مثلِ هذا وما بعده .
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قوله
تعالى : { ياأسفى } : الألف منقلبة عن ياء المتكلم وإنما قُلِبَتْ ألفاً؛ لأن
الصوتَ معها أَتَمُّ ، ونداؤه على سبيل المجاز ، كأنه قال : هذا أوانكَ فاحضر نحو
{ ياحسرتا } [ الزمر : 56 ] : وقيل : هذه ألفُ الندبة ، وحُذِفَتْ هاءُ السكت
وصلاً . قال الزمخشري : « والتجانسُ بين لفظَتَي الأسف ويوسف ممَّا يقع مطبوعاً
غيرَ مُتَعَمَّل فَيَمْلُح ويَبْدُع ، ونحوه : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ
} [ التوبة : 38 ] { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] {
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [
النمل : 22 ] . قلت : ويُسَمَّى هذا النوع » تجنيس التصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان
في لفظٍ ويُفَرَّق بينهما بحرفٍ ليس في الأخرى ، وقد تقدَّم .
وقرأ ابن عباس ومجاهد « مِن الحَزَن » بفتحتين ، وقتادة بضمتين ، والعامَّةُ بضمة
وسكون ، فالحُزْن والحَزَن كالعُدْم والعَدَم ، والبُخْل والبَخَل ، وأمَّا
الضمتان فالثانية إتباعٌ .
و « كظيم » : يجوز أن يكون مبالغةً بمعنى فاعِل ، وأن يكونَ بمعنى مفعول كقولِه :
{ وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وبه فسَّره الزمخشري .
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قوله
تعالى : { تَفْتَؤُاْ } : هذا جوابُ القسم في قوله : « تاللَّهِ » وهو على حذفِ «
لا » ، أي : لا تَفْتَأ ، ويدلُّ على حَذْفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلامِ
الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين ، أو إحداهما عند الكوفيين وتقول : «
واللَّهِ أحبُّك » تريد : لا أحبك ، وهو من التورية فإن كثيراً من الناسِ مبادِرٌ
ذهنَه إلى إثبات المحبة . و « تَفْتأ » هنا ناقصة بمعنى لا تزال فترفع الاسمِ وهو
الضمير ، وتنصِبُ الخبر وهو الجملة من قوله « تَذْكُرُ » ، أي : لا تزال ذاكراً له
، يقال : ما فتىء زيدٌ ذاهباً . قال أوس بن حجر :
2818 فما فَتِئَتْ حتى كأنَّ غبارَها ... سُرادِق يومٍ ذي رياحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً :
2819 فما فَتِئَتْ خيلٌ تَثُوْبُ وتَدَّعي ... ويَلْحَقُ منها لاحِقٌ وتُقَطَّعُ
وعن مجاهد : « لا تَفْتُر » ، قال الزمخشري : « كأنه جعل الفُتوء والفُتور أخوين »
.
وفيها لغتان : فَتَأَ على وزن ضَرَب ، وأَفْتَأَ على وزن أكرم ، وتكون تامةً بمعنى
سَكَّن وأطفأ كذا قاله ابن مالك ، وزعم الشيخ أنه تصحيف منه ، وإنما هي هي « فَثَأ
» بالثاء المثلثة . ورُسِمَتْ هذه اللفظةُ « تفتؤ » / بالواو والقياس « تفتأ »
بالألف ، ولذلك يُوْقَفُ لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخط الكريم أو القياس .
قوله : { حَرَضاً } الحَرَضُ : الإِشفاء على الموت يُقال منه : حَرَضَ الرجلُ
يَحْرُض حَرَضاً بفتح الراء ، فهو حَرِض بكسرها ، فالحَرَضُ مصدر ، فيجيء في الآية
الأوجهُ في « رجل عَدْل » وقد تقدَّم مراراً ، ويُطْلَق المصدر من هذه المادة على
الجُثَث إطلاقاً شائعاً ، ولذلك يَسْتوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر
والمؤنث تقول : هو حَرَضٌ ، وهما حَرَض ، وهم حَرَض ، وهنَّ حَرَض ، وهي حَرَض ،
ويقال : رجل حُرُض بضمتين نحو : جُنُب وشُلُل ويقال : أَحْرضه كذا ، أي : أهلكه .
قال الشاعر :
2820 إني امرؤٌ لَجَّ بيْ حُبٌّ فَأَحْرَضَني ... حتى بَلِيْتُ وحتى شَفَّني
السَّقَمُ
فهو مُحْرَض قال :
2821 أرى المَرْءَ كالأذْوادِ يُصبح مُحْرَضاً ... كإحراض بِكْرٍ في الديار مريضِ
وقرأ بعضهم : « حَرِضاً » بكسر الراء . قال الزمخشري : « وجاءَتِ القراءةُ بهما جميعاً
» . يعني بفتح الراء وكَسْرِها « وقرأ الحسن بضمتين ، وقد تقدم أنه كجُنُب وشُلُل
، وزاد الزمخشري » وغُرُب « قال الراغب : » الحَرَض : ما لا يُعْتَدُّ به ولا خيرَ
فيه ، ولذلك يقال لِما أشرف على الهلاك حَرِض ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً
} وقد أحرضه كذا ، قال الشاعر : « أني امرؤ لجَّ » البيت . والحُرْضَةُ : مَنْ لا
يأكل إلا لحمَ المَيْسِر لنذالتِه ، والتحريض : الحَثُّ على الشيء بكثرةِ التنزيين
وتسهيل الخَطْبِ فيه كأنه إزالةُ الحَرَضِ نحو : « قَدَّيْتُه » ، أي : أَزَلْتُ
عنه القذى ، وأَحْرَضْتُه : أَفْسَدْتُه نحو : أَفْذَيْتُه ، أي : جَعَلْتَ فيه
القذى « انتهى .
والحُرُض : الأُشْنان لإِزالته الفسادَ ، والمِحْرَضَةُ وعاؤُه ، وشُذوذُها كشذوذ
مُنْخُل ومُسْعُط ومُكْحُلَة .
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
والبَثُّ
أشدُّ الحزن كأنه لقوته لا يُطاق حَمْلُه فيبثُّه الإِنسان ، أي : يُفَرِّقُه
ويُذيعه ، وقد تقدم أنَّ أصلَ هذه المادةِ الدلالةُ على الانتشار . وجَوَّز فيه
الراغب هنا وجهين ، أحدهما : أنه مصدرٌ في معنى المفعول ، قال : « أي غَمِّي الذي
بَثَثْته عن كتمان ، فهو مصدر في تقدير مفعول أو يعني غَمِّي الذي بَثَّ فكري
فيكون في معنى الفاعل .
وقرأ الحسن وعيسى » وحَزَني « بفتحتين ، وقتادة بضمتين وقد تقدم .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قوله
تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ } : أي : استقصوا خبره بحواسِّكم ، ويكون في الخير والشر
. وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشر ، ولذلك قال هنا « فتحسَّسُوا » ، وفي
الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [ الآية : 12 ] ، وليس كذلك ، فإنه قد قرىء
بالجيم هنا . وتقدَّم الخلاف في قوله « وَلاَ تَيْأَسُواْ » . وقرأ الأعرج : «
تَيْئَسوا » .
والعامَّةُ على « رَوْح اللَّه » بالفتح وهو رحمتُه وتنفيسُه وقرأ الحسن وعمر بن
عبد العزيز وقتادة بضم الراء . قال الزمخشري ، « أي : مِنْ رحمتِه التي يحيا بها
العباد » . وقال ابن عطية : « وكأن معنى هذه القراءة : لا تَيْئَسوا مِنْ حَيٍّ
معه رُوح اللَّه الذي وهبه ، فإنَّ مَنْ بقي روحُه يُرْجَى ، ومِنْ هذا قول الشاعر
:
2822 وفي غيرِ مَنْ قدوارَتِ الأرضُ فاطْمَعِ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص :
2823 وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ ... وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ
وقراءة أُبَيّ رحمه اللَّه : { مِن رَّحْمَةِ الله } و { عِنْدِ الله } { مِن
فَضْلِ الله } تفسيرُ لا تلاوة .
وقال أبو البقاء : » الجمهورُ على فتح الراء ، وهو مصدر في معنى الرحمة ، إلا أنَّ
استعمالَ الفعل منه قليل ، وإنما يُسْتَعمل بالزيادة مثل أراح ورَوَّح ، ويُقرأ
بضم الراء وهي لغةٌ فيه . وقيل : هو اسمُ مصدرٍ مثل الشِّرْب والشُّرْب « .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قوله
تعالى : { مُّزْجَاةٍ } : أي : مَدْفُوعة يَدْفَعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها ،
ومنه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] ، أي :
يَسُوقها بالريح . وقال حاتم الطائي :
2824 لِيَبْكِ على مِلْحانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ ... وأَرمَلَةٌ تُزْجي مع الليل
أَرْمَلا
ويقال : أَزْجَيْتُ رديءَ الدرهم فَزُجِيَ ، ومنه استعير « زَجَا الخراج يَزْجُو
زَجَاءً » ، وخَراجٌ زاجٍ ، وقولُ الشاعر :
2825 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحاجةٍ غيرِ مُزْجاةٍ من الحاجِ
أي : غير يسيرةً يمكن دَفْعُها وصَرْفها لقلة الاعتداد بها/ فألف « مُزْجاةٌ »
منقلبة عن واو .
وقوله : { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } يجوز أن يُراد به حقيقته من الآلة ، وأن يُرادَ
به المَكِيل فيكونَ مصدراً .
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
وقوله تعالى : { هَلْ عَلِمْتُمْ } : يجوزُ أن يكونَ استفهاماً للتوبيخ وهو الأظهرُ . وقيل : هو خبر ، و « هل » بمعنى قد .
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
قوله
تعالى : { أَإِنَّكَ } : قرأ ابن كثير ، إنَّك « بهمزة واحدة والباقون بهمزتين
استفهاماً ، وقد عَرَفْتَ قراءاتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً وتسهيلاً وغيرَ ذلك
. فأمَّا قراءة ابن كثير فيحتمل أن تكون خبراً محضاً ، واستُبْعِد هذا مِنْ حيث
تخالُفُ القراءتين مع أن القائلَ واحد ، وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضَهم قاله
استفهاماً ، وبعضهم قاله خبراً ، ويحتمل أن تكونَ استفهاماً حُذِفَت منه الأداة
لدلالة السياق ، والقراءةُ الأخرى عليه . وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في الأعراف .
و » لأَنْتَ « يجوز أن تكونَ » أنت « مبتدأً و » يوسف « خبرُه ، والجملةُ خبر » إنَّ
« دَخَلَتْ عليها لامُ الابتداء . ويجوز أن يكونَ فصلاً ، ولا يجوز أن يكونَ
تأكيداً لاسم إنَّ؛ لأنَّ هذه اللامَ لا تَدْخُل على التوكيد .
وقرأ أُبَيّ : » أإنك أو أنت يوسف « ، وفيها وجهان ، أحدهما ما قاله أبو الفتح :
من أن الأصل أإنك لغيرُ يوسف أو أنت يوسفُ ، فحذف خبر » إن « لدلالة المعنى عليه .
الثاني ما قاله الزمخشري : وهو إنك يوسفُ أو أنت يوسف » فحذف الأول لدلالة الثاني
عليه ، وهذا كلامُ متعجبٍ مُسْتَغْرِبٍ لِما يَسْمع فهو يكرِّر الاستثباتَ « .
قوله : { يَتَّقِ } قرأ قنبل » يَتَّقي « بإثبات الياء وصلاً ووقفاً ، والباقون
بحذفها فيهما . وأمَّا قراءةُ الجماعة فواضحة لأنه مجزوم . وأما قراءةُ قنبل
فاخْتَلَفَ فيها الناسُ على قولين ، أجودهما : أنَّ إثباتَ حرفِ العلة في الحركة
لغةٌ لبعض العرب ، وأنشدوا على ذلك قولَ قيس ابن زهير :
2826 ألم يأتيك والأنباء تَنْمي ... بما لاقَتْ لَبونُ بني زيادِ
وقول الآخر :
2827 هَجَوْت زَبَّانَ ثم جِئْتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لم تَهْجُو
ولم تَدَعِ
وقول الآخر :
2828 إذا العجوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
ومذهبُ سيبويه أنَّ الجزمَ بحذف الحركة المقدرة ، وإنما تبعها حرفُ العلة في الحذف
تَفْرِقةً بين المرفوع والجزوم . واعتُرض عليه بأنَّ الجازم يُبَيِّن أنه مجزوم ،
وعَدَمَه يبيَّن أنه غير مجزوم . وأجيب بأنه في بعض الصور يُلْبِس فاطَّرَدَ
الحَذْفُ ، بيانُه أنك إذا قلت : » زُرْني أعطيك « بثبوت الياء احتمل أن يكون »
أعطيك « جزاءً لزيارته ، وأن يكونَ خبراً مستأنفاً ، فإذا قلت : » أُعْطك « بحذفها
تعيَّن أن يكونَ جزاءً له ، فقد وقَع اللَّبْسُ بثبوت حرف العلة وفُقِد بحَذْفِه ،
فيقال : حرفُ العلةُ يُحذف عند الجازم لا به . ومذهب ابن السَّراج أن الجازم أَثرَّ
في نفسِ الحرف فحذفه ، وفيه البحث المتقدم .
الثاني : أنه مرفوعٌ غير مجزومٍ ، و » مَنْ « موصولةٌ والفعل صلتُها ، فلذلك لم
يَحْذف لامَه . واعْتُرِض على هذا بأنه قد عُطِف عليه مجزومٌ وهو قولُه »
ويَصْبِرْ « فإنَّ قنبلاً لم يَقْرأه إلا ساكنَ الراء .
وأجيب
عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات . وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو : {
يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] . وأُجيب
أيضاً بأنه جُزِم على التوهُّم ، يعني لَمَّا كانت « مَنْ » الموصولةُ تُشْبه «
مَنْ » الشرطية . وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال : فيها
مراعاةٌ للشبه اللفظي ، ولا يقال للتوهُّم . وأجيب أيضاً بأنه سُكِّن للوقف ثم
أُجري الوصلُ مجرى الوقفِ . وأُجيب أيضاً بأنه إنما جُزم حملاً ل « مَنْ »
الموصولة على « مَنْ » الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاءُ في
خبرها .
قلت : وقد يُقال على هذا : يجوز أن تكونَ « مَنْ » شرطيةً ، وإنما ثَبَتَت الياءُ
، ولم تَجْزِمْ « مَنْ » لشببها ب « مَنْ » الموصولة ، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ
في قوله « ويَصْبر » فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر
فيما بعده ، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه . وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه
المسألة أولَ السورة في قوله { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] .
وقوله { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ } الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها : أمَّا
العمومُ في « المحسنين » ، وإمَّا الضميرُ المحذوف ، أي : المحسنين منهم ، وإمَّا
لقيام أل مُقامه والأصل : مُحْسِنيهم ، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير .
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قوله
تعالى : { آثَرَكَ } : أي : « تَفَضَّل عليك ، والإِيثار : التفضيلُ/ بجميع أنواع
العطايا ، آثَره يُؤْثِره إيثاراً ، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه
يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم ، وفي الحديث » ستكون بعدي أثَرة « ، أي : يَسْتأثر
بعضكُم على بعض ، ويقال : استأثر بكذا ، أي : اختصَّ به ، واستأثر اللَّه بفلانٍ
كنايةٌ عن اصطفائه ، قال الشاعر :
2829 واللَّه أَسْماك سُماً مبارَكا ... آثرك اللَّه به إيثارَكا
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قوله
تعالى : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } : « عليكم » يجوز أن يكون خبراً ل « لا » ،
و « اليومَ » : يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر ، أي : لا تثريبَ
مستقرٌّ عليكم اليومَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اليوم » خبرَ « لا » و « عليكم »
متعلقٌ بما تعلَّق به هذا الظرفُ . ويجوز أن يكون « عليكم » صفةً لاسم « لا » ، و
« اليوم » خبرُها أيضاً ، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ ب « تَثْريب
» لأنه يصير مُطَولاً شبيهاً بالمضاف ، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو : « لا
خيراً مِنْ زيد عندك » ، ويزيدُ عليه الظرفُ : بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ
المؤول بالموصولِ ومعموله بأجنبي وهو « عليكم » لأنه : إمَّا خبر وإمَّا صفة .
وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقاً ب « تَثْريب » فقال : « فإنْ قلت :
بِمَ يتعلَّق » اليوم «؟ قلت : بالتثريب أو بالمقدَّر في » عليكم « من معنى
الاستقرار ، أو ب » يَغْفر « . قلت : فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ ب » تَثْريب « فيه ما
تقدم . وقد أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما
فيه من تنوينٍ أو نون ، وجعل الفارسي من ذلك قوله :
2830 أراني ولا كُفْرانَ للَّه أيَّةً ... لنفسي ، لقد طالَبْتُ غيرَ مُنِيْلِ
قال : » فأيَّةً منصوب بكُفْران ، أي : لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي . ولا يجوزُ أن
تُنْصب « أيَّةً » بأَوَيْت مضمراً؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي « أرى »
بجملتين : أي ب « لا » وما في حَيِّزها ، و ب « أَوَيْت » المقدرة . ومعنى أَوَيْت
رَقَقْت . وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث « لا صَمْتَ يومٌ
إلى الليل » برفع « يومٌ » على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني
للمفعول ، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا .
وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه ، وابتدأ
ب { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } ، وأمَّا تعليقُه ب « يَغْفر » فواضِحٌ أيضاً ولذلك
وقف بعضُ القرَّاء على « عليكم » وابتدأ { اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } ،
وجوَّزوا أن يكونَ « عليكم » بياناً ك « لك » في نحو « سقياً لك » ، فعلى هذا
تتعلَّق بمحذوف ، ويجوز أن يكونَ خبرُ « لا » محذوفاً ، و « عليكم » و « اليوم »
كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه « تثريب » ، والتقدير : لا تثريب يَثْرِبُ
عليكم اليومَ ، كما قَدَّروا في
{
لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 43 ] لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ . قال
الشيخ : « لو قيل به لكان قوياً » .
وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز ، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر ،
وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب
لا يَثْرِب إلا مجازاً كقولهم : « شعرٌ شاعر » بخلاف « عاصم يَعْصِم » فإن نسبة
الفعل إلى العاصم حقيقة ، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز ، وهنا حَذْف شيئين
مع مجاز .
والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب ، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير ، مِنْ عَيَّرته
بكذا إذا عِبْته به ، وفي الحديث : « إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا
يُثَرِّبْ » ، أي : لا يُعَيِّر ، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من
الشحم ، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد ، فإذا قلت : «
ثَرّبْتُ فلاناً » فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت ثَرْبَه فضُرِب مَثَلاً في
تمزيق الأعراض .
وقال الراغب : « ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم » الثَّرْب « وهو شَحْمة
رقيقة ، وقولُه تعالى : { ياأهل يَثْرِبَ } [ الأحزاب : 13 ] يَصِحُّ أن يكونَ
أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة » .
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قوله تعالى : { بِقَمِيصِي } : يجوز أن يتعلق بما قبله على أنَّ الباءَ مُعَدِّيَةٌ/ كهي في « ذهبْتُ به » ، وأن تكون للحال فتتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : اذهبوا معكم قميصي . و « هذا » نعت له أو بيان أو بدل ، و « بصيراً » حال . و « أجمعين » تأكيدٌ ، وقد أُكِّد بها دون « كل » ، ويجوز أن تكونَ حالاً .
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
قوله
تعالى : { تُفَنِّدُونِ } : التَّفْنيد : الإِفساد ، يقال : فَنَّدت فلاناً ، أي :
أَفْسَدْت رأيَه ورَدَدْته ، قال :
2831 يا صاحِبيَّ دَعَا لَوْمي وتَفْنيدي ... فليسَ ما قُلْتُ من أمرٍ بمَرْدُوْدِ
ومنه « أَفْنَدَ الدهرُ فلاناً » قال :
2832 دَعِ الدهرَ يَفْعَلُ ما أرادَ فإنه ... إذا كُلِّفَ الإِفنادَ بالناسِ أفندا
والفَنَدُ : الفساد ، قال النابغة :
2833 إلاَّ سليمانَ إذ قال الإِلهُ له ... قُمْ في البرِيَّةِ فاحْدُدْها عن
الفَنَد
والفِنْد : شِمْراخ الجبل وبه سُمِّي الرجل فِنْداً ، والفِنْدُ الزمانيُّ أحدُ
شعراء الحماسة من ذلك . وقال الزمخشري : « يقال : شيخ مُفَنَّد ولا يقال : عجوز
مُفَنَّدة لأنهما لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنَّد في كبرها » وهو غريبٌ . و
جوابُ « لولا » الامتناعية محذوفٌ تقديرُه لَصَدَّقْتُموني . ويجوز أن يكونَ
تقديرُه : لأَخْبَرْتكم .
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
وقوله تعالى : { أَلْقَاهُ } : الظاهر أنَّ الفاعلَ هو ضمير البشير . وقيل : هو ضميرُ يعقوب . وفي « بصيراً » وجهان ، أحدهما : أنه حال أي : رَجَع في هذه الحال . والثاني : أنه خبرها لأنها بمعنى صار عند بعضهم . وبَصير مِنْ بَصُر بالشيء ، كظريف مِنْ ظَرُف . وقيل : هو مثالُ مبالغةٍ كعليم . وفيه دلالةٌ على أنه لم يذهب بَصَرُه بالكليَّة .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وقوله
تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } : من باب التغليب ، يريد أباه وأمَّه أو خالتَه .
و « سُجَّداً » حال . قال أبو البقاء : « حالٌ مقدرة؛ لأنَّ السجود يكون بعد
الخُرور » وفيه نظرٌ لأنه متصلٌ به غيرُ متراخٍ عنه .
قوله : { مِن قَبْلُ } يجوز أنْ يتعلق ب « رُؤْياي » ، أي : تأويل رُؤْياي في ذلك
الوقت . ويجوز أنْ يكونَ العاملُ فيه « تَأْويل » لأنَّ التأويلَ كان مِنْ حينِ
وقوعِها هكذا ، والآن ظهرَ له ، ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ « رُؤْياي » قاله أبو
البقاء ، وقد تقدم أنَّ المقطوعَ عن الإِضافةِ لا يقع حالاً .
قوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي } حالٌ من « رؤياي » ويجوز أن تكون مستأنفة . وفي
« حقاً » وجوه أحدُها : أنه حال . والثاني : أنه مفعولٌ ثان . والثالث : أنه مصدرٌ
مؤكد للفعل من حيث المعنى ، أي : حَقَّقها ربي حَقَّاً بجَعْلِه .
قوله : { أَحْسَنَ بي } « أَحْسَنَ » أصله أن يتعدَّى ب « إلى » . قال : {
وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] فقيل : ضُمِّن معنى
لَطُف فتعدى بالباء كقوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ البقرة : 83 ] وقولِ
كثيِّر عَزَّة :
2834 أَسِيْئِي بنا أو أَحْسِني لا مَلُوْمَةً ... لَدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ
تَقَلَّتِ
وقيل : بل يتعدى بها أيضاً . وقيل : هي بمعنى « إلى » . وقيل : المفعولُ محذوفٌ :
« أَحْسَنَ صُنْعَه بي » ، ف « بي » يتعلَّق بذلك المحذوفِ ، وهو تقدير أبي البقاء
. وفيه نظر؛ من حيث حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله ، وهو ممنوعٌ عند البصريين . و
« إذ » منصوبٌ ب « أَحْسَنَ » أو المصدرِ المحذوف قاله أبو البقاء ، وفيه النظر
المتقدم .
والبَدْوُ : ضد الحضارة وهو مِن الظهور ، بدا يبدو : إذا سكن البادية ، « إذا
بَدَوْنا جَفَوْنا » يروى عن عمر ، أي : تخلَّقْنا بأخلاقِ البدويين .
قوله : { لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } لَطُفَ أصلُه أن يتعدَّى بالباء ، وإنما تعدى
باللام لتضمُّنِه معنى مُدَبِّر ، أي : أنت مُدَبِّر بلطفك لِما تَشاء .
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
وقرأ
عبد اللَّه : « آتَيْتَنِ » و « عَلَّمْتَنِ » بغير ياءٍ فيهما ، وحكى ابن عطية :
أنَّ أبا ذر قرأ : « أتيتني » بغير ألفٍ بعد الهمزة و « مِنْ » في « مِن المُلْك »
وفي « مِنْ تأويل » للتبعيض ، والمفعولُ محذوفٌ ، أي : عظيماً من الملك فهي صفة
لذلك المحذوفِ وقيل : زائدة . وقيل : لبيان الجنس ، وهذان بعيدان .
و « فاطر » يجوز أن يكونَ نعتاً لربّ ، ويجوز أنْ يكون بدلاً أو بياناً أو منصوباً
بإضمار أَعْني أو نداءً ثانياً .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قوله تعالى : { ذَلِكَ } : مبتدأ ، و { مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } خبره ، و « نُوحيه » حال . ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، أو حالاً من الضمير في الخبر . وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ موصولاً بمعنى الذي . وقد تقدَّم نظيرُه . و « هم يَمْكُرون » حال .
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
[ قوله : ] { وَلَوْ حَرَصْتَ } : معترضٌ بين « ما » وخبرها . وجوابُ « لو » محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه .
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
و [ قوله ] : { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } : حال .
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
وقوله
تعالى : { مِّنْ عَذَابِ الله } : صفةٌ ل « غاشية » ، و « بَغْتة » حال وهو في
الأصلِ مصدر ، وتقدَّم نظيره .
والجمهور على جَرِّ « الأرض » عطفاً على « السماوات » والضمير في « عليها » للآية
فيكون « يمرُّون » صفة للآية أو حالاً لتخصُّصها بالوصفِ بالجار . وقيل : يعود
الضمير في « عليها » على الأرض فيكون « يمرون » حالاً منها . وقال أبو البقاء : «
وقيل منها ومن السماوات » ، أي : تكون الحال من الشيئين جميعاً ، وهذا لا يجوز إذ
كان يجب أن يقال « عليهما » ، وأيضاً فإنهم لا يَمُرُّون في السماوات ، / إلا أن
يُراد : يمرُّون على آياتهما ، فيعودُ المعنى إلى عَوْد الضمير للآية . وقد يُجاب
عن الأول بأنه مِنْ باب الحذف كقوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن
يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] .
وقرأ السدِّي « والأرضَ » بالنصب ، ووجهُه أنه من باب الاشتغال ، ويُفَسَّر الفعلُ
بما يوافقه معنى أي : يطؤون الأرض ، أو يسلكون الأرضَ يمرون عليها كقولك : « زيداً
مررت به » .
وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد : « والأرضُ » بالرفع على الابتداء ، وخبرُه الجملةُ
بعده ، والضمير في هاتين القراءتين يعودُ على الأرض فقط .
وقرأ أبو حفص ومبشر بن عبيد : أو « يَأْتيهم الساعة » بالياء من تحت لأنه مؤنث
مجازيٌّ وللفصلِ أيضاً .
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قوله
تعالى : { أَدْعُو إلى الله } : يجوز أن يكونَ مستأنفاً وهو الظاهر ، وأن يكونَ
حالاً من الياء . و « على بصيرة » حال من فاعل « أدعو » أي : أَدْعو كائناً على
بصيرة .
قوله : { وَمَنِ اتبعني } عطفٌ على فاعل « أدعو » ولذلك أكَّد بالضميرِ المنفصل في
قوله « أنا » ، ويجوز أن يكون مبتدأً والخبرُ محذوف ، أي : ومَنِ اتَّبعني يَدْعو
أيضاً . ويجوز أن يكون « على بصيرة » خبراً مقدماً ، و « أنا » مبتدأ مؤخرٌ ، و «
ومَن اتَّبعني » عطفٌ عليه ، ويجوزُ أن يكونَ « على بصيرة » وحده حالاً ، و « أنا
» فاعلٌ به ، « ومَنِ اتَّبعني » عطف عليه أيضاً . ومفعول « أدعو » يجوز أنْ لا
يُراد ، أي : أنا مِنْ أهل الدعاء إلى اللَّه ، ويجوز أن يُقَدَّر : أنْ أدعوَ
الناس .
وقرأ عبد اللَّه « هذا سبيلي » بالتذكير وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنَّث .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
قوله
تعالى : { نوحي } : العامَّةُ على « يوحى » بالياء من تحت مبنياً للمفعول . وقرأ حفص
« نوحي » بالنون مبنياً للفاعل اعتباراً بقوله « وما أَرْسَلْنا » وكذلك قرأ ما في
النحل وما في أول الأنبياء ، ووافقه الأخَوان على قوله : « نوحي إليه » في
الأنبياء على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى . والجملة صفةٌ ل « رجالاً » . و {
مِّنْ أَهْلِ القرى } صفة ثانية ، وكان تقديمُ هذه الصفةِ على ما قبلها أكثرَ
استعمالاً؛ لأنها أقربُ إلى المفردِ وقد تقدَّم تحريرُه في المائدة .
قوله : { وَلَدَارُ الآخرة } وما بعده قد تقدَّم في الأنعام .
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قوله
تعالى : { حتى } : ليس في الكلامِ شيءٌ تكون « حتى » غايةً له ، فمِنْ ثَمَّ اختلف
الناسُ في تقدير شيءٍ يَصِحُّ تَغْيِيَتُه ب « حتى » : فقدَّره الزمخشري : « وما
أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فتراخى نَصْرُهُمْ حتى » . وقَدَّره القرطبي : «
وما أَرْسَلْنا من قبلك يا محمدُ إلا رجالاً لم نعاقِب أُمَمَهم بالعقاب حتى إذا »
. وقدَّره ابن الجوزي : « وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فَدَعَوا قومهم
فكذَّبوهم وطال دعاؤُهم وتكذيبُ قومِهم حتى إذا » . وأَحْسَنُها ما قدَّمْتُه .
وتَصَيَّد ابن عطية شيئاً من معنى قوله : « أفلم يسيروا » فقال : « ويتضمَّن قولُه
» أفلم يسيروا « إلى » مِنْ قبلِهم « أنَّ الرسلَ الذين بعثهم اللَّه من أهل القرى
دَعَوْهم فلم يُؤْمنوا بهم حتى نَزَلَتْ بهم المَثُلاتُ فصبروا في حَيِّز مَنْ
يُعْتبر بعاقبته ، فلهذا المُضَمَّنِ حَسُن أن تَدْخُل » حتى « في قوله : » حتى
إذا « . قال الشيخ : » ولم يتلخَّصْ لنا من كلامِه شيءٌ يكون ما بعد « حتى » غايةً
له ، لأنه عَلَّق الغايةَ بما ادَّعَى أنه فَهِمَ ذلك مِنْ قوله : « أفلم يَسيروا
» . الآية « . قلت : دَعَوْهم فلم يؤمنوا هو المغيى .
قوله : { كُذِبُواْ } قرأ الكوفيون » كُذِبوا « بالتخفيف والباقون بالتثقيل .
فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها ، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي
الله عنها قالت : » معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها « وهذا ينبغي
أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة .
وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه ، أجودُها : أن الضميرَ في » وظنُّوا « عائدٌ على
المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن
قَبْلِهِمْ } [ يوسف : 109 ] ، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه . والضمير في
» أنهم « و » كُذِبوا « عائد على الرسل ، أي : وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ
قد كُذِبوا ، أي : كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم .
الثاني : أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل . قال الزمخشري في تقرير هذا
الوجه » حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا ، أي : كَذَّبَهم
أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب
، والمعنى : أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار ، وانتظارَ النصر من اللَّه
وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ ، حتى استشعروا القُنوط ، وتَوَهَّموا ألاَّ
نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا « انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر : إمَّا
أنفسُهم ، وإمَّا رجاؤُهم ، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو
تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين ، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن .
الثالث : أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل ، والظنُّ على بابه من
الترجيح ، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ، قالوا : والرسل بَشَرٌ
فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم ، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة
على الأنبياء عليهم السلام ، وحاشى الأنبياء من ذلك ، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ
كثيرة هذا التأويلَ ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك .
قال
الزمخشري : « إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس
في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمَّا الظنُّ الذي
هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين ، فما بالُ
رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟ » قلت : ولا يجوز أيضاً أن يقال : خَطَر ببالهم
شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه .
وقال الفارسي أيضا : « إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى : ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه
أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [ لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه
] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه ، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب
إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف
الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته » . وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : « معناه
وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال :
كانوا بشراً وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة :
214 ] .
الرابع : أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم ، أي : وظَنَّ المُرْسَلُ
إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ
لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن
جبير ومجاهد قالوا : ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون . ويُحكى
أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال : نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم
، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم » فقال الضحاك بن مزاحم وكان
حاضِراً : « لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً » .
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل ، أي : وظنَّ
الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم ، وفي صحيح
البخاري عن عائشة : « أنها قالت : هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا
طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ
قومهم ، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك » .
قلت : وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين ، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه ، وأن
يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم .
وقرأ
ابن عباس والضحاك ومجاهد « كَذَبوا » بالتخفيف مبنياً للفاعل ، والضمير على هذه
القراءة في « ظنُّوا » عائد على الأمم وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } عائدٌ على
الرسل ، أي : ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من
النصر أو من العقاب ، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في « ظنُّوا » على الرسل وفي {
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } على المُرْسَل [ إليهم ] ، أي : وظنَّ الرسلُ أن الأممَ
كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به ، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح
.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل ، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا
أن الأمم قد كذَّبوهم . وقال الزمخشري : بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل « ولو
قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه : وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم »
فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة ، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر
كلَّها تعود على الرسل ، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل
فقال : « وقرأ مجاهد » كَذَبوا « بالتخفيف على البناء للفاعل على : وظنَّ الرسلُ
أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة : إمَّا على تأويل ابن عباس
، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم : قد كَذَبْتُمونا
فيكونون كاذبين عند قومهم أو : وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا » .
قوله : { جَآءَهُمْ } جوابُ الشرط وتقدَّم الكلامُ في « حتى » هذه : ما هي؟
قوله : { فَنُجِّيَ } قرأ ابن عامر وعاصم/ بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على
أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول ، و « مَنْ » قائمة مقام الفاعل . والباقون بنونين
ثانيتهما ساكنةٌ ، والجيم خفيفة ، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و « مَنْ »
مفعولةٌ ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه . وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين
كقراءة عاصم ، إلا أنهم سَكَّنوا الياء . والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم ،
وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ]
وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله :
2835 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد خُلِطْ بجُلْجُلان
وتقدَّم معه أمثالُه . وقيل : الأصل : ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء
، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم . على أنه قد قيل بذلك في قوله { نُنجِي المؤمنين
} [ الأنبياء : 88 ] كما سيأتي بيانه .
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء . قال ابن عطية : « رواها ابنُ
هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلطٌ من ابن هبيرة » قلت : توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع
باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها ، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد
الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها : نصبُه بإضمار «
أنْ » بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه
{
وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 284 ] إلى أنْ قال : « فيغفر »
قرىء بنصبه ، وتقدم توجيهه ، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة
أو غيرَ جازمة كهذه الآية . وقرأ الحسن أيضاً « فَنُنَجِّي » بنونين والجيم مشددة
والياء ساكنة ، مضارع نجى مشدداً للتكثير . وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة
« فنجا » فعلاً ماضياً مخففاً و « مَنْ » فاعله .
ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك ، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر ،
و « مَنْ » مفعوله ، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها «
فنجي » بنونٍ واحدة نقله الداني . وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها ، فأشعر
هذا بوقوع خلافٍ في الرسل ، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من
الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ
للمفعول .
وقرأ أبو حيوة « يشاء » بالياء ، وقد تقدَّم أنه يقرأ « فنجا » أي فنجا مَنْ يشاء
اللَّه نجاته .
وقرأ الحسن « بأسَه » ، والضمير للَّه ، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
وقرأ
أبو عمرو في رواية عبد الوارث والكسائي في رواية الأنطاكي « قِصصهم » بكسر القاف
وهو جمع قِصة ، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عَوْدَ الضمير في « قصصهم » في
القراءة المشهورة على الرسل وحدهم ، وحكى أنه يجوز أن يعودَ على يوسُفَ وإخوته .
وحكى غيرُه أنه يجوز أن يعودَ على الرسل وعلى يوسف وإخوته جميعاً . قال الشيخ : «
ولا تَنْصُره يعني هذه القراءة إذا قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتملٌ على قصصٍ كثيرة
وأنباء مختلفة » .
قوله : { مَا كَانَ حَدِيثاً } في « كان » ضميرٌ عائد على القرآن ، أي : ما كان
القرآنُ المتضمِّنُ لهذه القصة الغريبة حديثاً مختلفاً ، وقيل : بل هو عائد على
القصص أي : ما كان القصص المذكور في قوله « لقد كان في قَصَصِهم » . وقال الزمخشري
: « فإن قلت : فالإمَ يَرْجِع الضمير في { مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى } فيمن قرأ بالكسر؟
قلت : إلى القرآن أي : ما كان القرآن حديثاً » . قلت : لأنه لو عاد على « قِصصهم »
بكسر القاف لوجب أن يكون « كانت » بالتاء لإِسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث ، وإن
كان مجازياً .
قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } العامَّةُ على نصب « تصديق » ، والثلاثة بعده على أنها
منسوقةٌ على خبر كان أي : ولكن كان تَصْدِيْقَ . وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفي
وعيسى الثقفي برفع « تصديق » وما بعده على أنها أخبار لمبتدأ مضمر أي : ولكن هو
تصديق ، أي : الحديث ذو تصديقٍ ، وقد سُمع من العرب مثلُ هذا بالنصب والرفع ، قال
ذو الرمة :
2836 وما كان مالي مِنْ تُراثٍ وَرِثْتُه ... ولا ديةً كانَتْ ولا كَسْبَ مأثمِ
ولكنْ عطاءَ اللَّه من كل رحلةٍ ... إلى كل محجوبِ السُّرادِقِ خِضْرَمِ
وقال لوط بن عبيد :
2837 - وإني بحمد اللَّه لا مالَ مسلمٍ ... أخذْتُ ولا مُعْطي اليمينِ مُحالِفِ
ولكنْ عطاء اللِّهِ مْنِ مالِ فاجرٍ ... قَصِيِّ المحلِّ مُعْوِرٍ للمَقارفِ
يُرْوى « عطاء اللَّه » في البَيتين منصوباً على « ولكن كان عطاء » ومرفوعاً على :
ولكن هو عطاء اللَّه . وتقدَّم نظيرُ ما بقي من السورة فأغنى عن إعادته .
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
قوله
تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ } : يجوز في « تلك » أن تكونَ مبتدأً والخبرُ { آيَاتُ
الكتاب } ، والمشارُ إليه آياتُ السورة . والمرادُ بالكتابِ السورةُ . وقيل :
إشارةٌ إلى ما قَصَّ عليه مِنْ أنباء الرسل .
وهذه الجملةُ لا محلَّ لها إن قيل : إنَّ « المر » كلامٌ مستقلٌ ، أو قُصِد به
مُجَرَّدُ التنبيهِ ، وفي محلِّ رفعٍ على الخبرِ إنْ قيل : إنَّ « المر » مبتدأٌ ،
ويجوز أن تكونَ « تلك » خبراً ل « المر » ، و { آيَاتُ الكتاب } بدلٌ أو بيانٌ .
وقد تقدَّم تقريرُ هذا بإيضاحٍ أولَ الكتاب ، وأَعَدْتُه . . . .
قوله : { والذي أُنزِلَ } يجوز فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأً ، و « الحقُّ
» خبرُه . الثاني : أن يكون مبتدأً ، و { مِن رَّبِّكَ } خبرُه ، وعلى هذا ف «
الحقُّ » خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو الحق . الثالث : أنَّ « الحقُّ » خبرٌ بعد خبر
. الرابع : أن يكونَ { مِن رَّبِّكَ الحق } كلاهما خبرٌ واحدٌ . قاله أبو البقاءُ
والحوفيُّ . [ وفيه بُعْدٌ ] ؛ إذ ليس هو مثلَ « هذا حلوٌ حامِضٌ » .
الخامس : أن يكون « الذي » صفةً ل « الكتاب » . قاله أبو البقاء : « وأُدْخِلَت
الواوُ [ في لفظه ، كما أُدْخِلت ] في » النازِلين « و » الطيبين « . قلت : يعني
أن الواوَ تكونُ داخلةً على الوصف . وفي المسألة كلامٌ يحتاج إلى تحقيقٍ ،
والزمخشريُّ [ يُجيز مثلَ ذلك ، ويجعلُ أنَّ ] في ذلك تأكيداً ، وسيأتي هذا أيضاً
إن شاء اللهُ تعالى في الحجر ، في قوله { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ
مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] . وقوله : » في النازلين « و » الطيبين « يشير إلى بيت
الخِرْنِقِ بنت هَفَّان في قولها حين مَدَحَتْ قومَها :
2838- لا يَبْعَدَنْ قوميْ الذين هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازِلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطيِّبين مَعاقِدَ الأُزْرِ
فعطَفَ » الطيبين « على » النازِلين « ، وهما صفتان لقومٍ معينين ، إلاَّ أنَّ
الفرقَ بين الآيةِ والبيتِ واضحٌ : من حيث إن البيتَ فيه عطفُ صفةٍ على مثلِها ،
والآيةُ ليست كذلك .
وقال الشيخ شيئاً يقتضي أن تكونَ ممَّا عُطِفَ فيها وَصْفٌ على مثلِه فقال : »
وأجاز الحوفي أيضاً أن يكونَ « والذي » في موضعِ رفعٍ عطفاً على « آيات » ، وأجاز
هو وابنُ عطية أن يكونَ « والذي » في موضعِ خفضٍ ، وعلى هذين الإِعرابين يكون «
الحقُّ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو الحق ، ويكون « والذي » ممَّا عُطِفَ فيه
الوصفُ على الوصفُ وهما لشيءٍ واحد ، كما تقول « جاءني الظريفُ والعاقلُ » وأنت
تريد شخصاً واحداً ، ومن ذلك قولُ الشاعر :
2839- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ
قلت : وأين الوصفُ المعطوفُ عليه حتى يجعلَه مثلَ البيتِ الذي أنشده؟
السادس : أن يكونَ « الذي » مرفوعاً نسقاً على « آيات » كما تقدَّمَتْ حكايتُه عن
الحوفي . وجَوَّز الحوفيُّ أيضاً أن يكونَ « الحقُّ » نعتاً ل « الذي » حالَ عطفِه
على { آيَاتُ الكتاب } .
وتَلَخَّص في « الحقِّ » خمسةُ أوجه ، أحدها : أنه خبرٌ أولُ أو ثانٍ أو هو مع ما
قبله ، أو خبرٌ لمبتدأ مضمر ، أو صفةٌ ل « الذي » إذا جَعَلْناه معطوفاً على «
آيات » .
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
قوله
تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } : هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من « السماوات »
، أي : رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد . ثم في هذا الكلامِ وجهان ، أحدُهما :
انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً ، أي : لا عَمَدَ فلا رؤيةَ ، يعني لا عَمَدَ
لها فلا تُرَى . وإليه ذهب الجمهورُ . والثاني : أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ
مرئيَّةٍ . وعن ابنِ عباس : « ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى؟ » ، وإليه ذهب
مجاهدٌ ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم : ما رأيت رجلاً صالحاً ، ونحوُه : { لاَ
يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ وقوله : ] .
2840- على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم . هذا إذا قُلْنَا : إنَّ « تَرَوْنها » صفةٌ ، أمَّا إذا قلنا : إنها
مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ .
والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ ، وعبارةُ بعضِهم « إنه جمعٌ » ،
نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان ، أحدهما : أنه عِماد ،
ونظيرُه إهاب وأَهَب . والثاني : أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم ، كذا قال
الشيخ : وقال أبو البقاء : « جمع عِماد ، أو عَمود مثل : أَدِيمْ وأَدَم ،
وأَفِيْق وأَفَق ، وإِهاب وأَهَب ، ولا خامسَ لها » . قلت : فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل
في ذلك ، وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعِيل على
كذا أن يُجْمع عليه فَعُول ، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على
فَعَل .
ثم قول أبي البقاء « ولا خامسَ لها » يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلاَّ هذه
الخمسةُ : عِماد ، وعَمُود ، وأَدِيم ، وأَفِيْق ، وإِهاب ، وهذا الحصرُ ممنوعٌ
لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نحو : قَضِيم وقَضَم . ويُجْمعان في القِلَّة على « أَعْمِدة
» .
وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب « عُمُد » بضمتين ، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً
كشِهاب وشُهُب ، وكِتاب وكُتُب ، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل ، وقد قرِئ في
السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمزة : 9 ] بالوجهين . وقال ابن عطية في
عَمَد : « اسم جمعِ عَمُود ، والبابُ في جمعه » عُمُد « بضم الحروفِ الثلاثة
كرَسُوْل ورُسُل » .
قال الشيخ : « وهذا وهمٌ ، وصوابُه بضم الحرفين؛ لأن الثالث هو حرفُ الإِعراب ،
فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع » .
والعِماد والعَمود : ما يُعَمَّد به ، أي : يُسْنَدُ ، يقال : عَمَدْتُ الحائطَ
أَعْمِدُه عَمْداً ، أي : أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد . والعَمَدُ :
الأساطينُ . قال النابغة :
2841- وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ ... يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح
والعَمَدِ
والعَمْدُ : هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه ، فهو ضِدُّ السهو ، وعمودُ الصبح :
ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة ، والعُمْدَةُ : ما يُعتمد عليه مِنْ
مالٍ وغيرِهِ ، والعَميد : السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ ، أي : يَقْصِدُونه .
قوله : { تَرَوْنَهَا } في الضميرِ المنصوبِ وجهان ، أحدهما : أنه عائدٌ على «
عَمَد » وهو أقربُ مذكورٍ ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً ل « عَمَد » ،
ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان : من كونِ العَمَد موجودةً ، لكنها لا تُرى ، أو
غيرَ موجودةٍ البتةَ .
والثاني
: أن الضميرَ عائدٌ على « السماوات » . ثم في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنها
مستأنفةٌ لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها كذلك ، ولم يَذْكر الزمخشريُّ
غيرَه . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن « السماوات » ، وتكونُ حالاً
مقدرة؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ ، والتقدير : رَفَعَها مَرْئيةً
لكم .
وقرأ اُبَيٌّ « تَرَوْنَه » مراعاةً للفظ « عَمَدَ » إذ هو اسمُ جمعٍ . وهذه
القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً ل « عَمَد » .
وزعم بعضُهم أنَّ « تَرَوْنَها » خبرٌ لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي : رَوْها وانظروا
إليها لتعتبروا بها . وهو بعيدٌ ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً؛ لأنَّ
الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً .
و « ثم » في « ثم استوى » لمجردِ العطفِ لا للترتيب؛ لأنَّ الاستواءَ على العرش
غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السماوات .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات } قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء
مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى ، وفيهما وجهان ، أحدُهما -وهو
الظاهر- : أنهما مستأنفان للإِخبارِ بذلك . والثاني : أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ «
سَخَّر » ، والثاني حالٌ مِنْ فاعل « يُدَبِّر » .
وقرأ النخعي وأبان بن تغلب : « نُدَبِّرُ الأمرَ ، نُفَصِّل » بالنون فيهما ،
والحسنُ والأعمشُ « نُفَصِّل » بالنون ، « يُدَبِّر » بالياء . قال المهدوي : « لم
يُخْتَلَفْ في » يُدَبِّر « ، يعني أنه بالياء ، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن
النخعيِّ وأبان بن تغلب .
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
والرَّواسِي
: الثوابت وهي الجبال ، وفَواعِل الوصفُ لا يَطَّرِدُ إلاَّ في الإِناثِ ، إلاَّ
أن المكسَّر ممَّا لا يَعْقِلُ يجري مَجْرى جمعِ الإِناث ، وأيضاً فقد كَثُرَ
استعمالُه كالجوامِد فجُمِعَ كحائط وحوائط وكاهِل وكواهل . وقيل : هو جمعُ راسِيَة
، والهاء للمبالغة ، والرُّسُوُّ : الثبوت قال :
2842- بهِ خالداتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ ... وَأشْعَثُ أَرْسَتْهُ الوَليدةُ
بالفِهْرِ
قوله : { وَمِن كُلِّ الثمرات } يجوز فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أَنْ يتعلَّقَ ب «
جَعَل » بعده ، أي : وجعل فيها زوجين اثنين مِنْ كلٍ ، وهو ظاهر . والثاني : أَنْ
يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « اثنين »؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له . والثالث :
أن يَتِمَّ الكلامُ على قوله { وَمِن كُلِّ الثمرات } فيتعلَّقَ ب « جَعَلَ »
الأولى على أنه من عطفِ المفردات ، يعني عَطَفَ على معمول « جعل » الأولى ،
تقديرُه : أنه جَعَلَ في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات . قال أبو البقاء : «
ويكون جَعَلَ الثاني مستأنفاً » .
و { يُغْشِي الليل } تقدَّم الكلامُ فيه وهو : إمَّا مستأنفٌ وإمَّا حالٌ مِنْ
فاعلِ الافعالِ قبله .
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
قوله
تعالى : { وَفِي الأرض قِطَعٌ } : العامَّة على رفع « قِطَعٌ » و « جنات » : إمَّا
على الابتداء ، وإمَّا على الفاعلية بالجارِّ قبله . وقرئ { قِطَعاً
مُّتَجَاوِرَاتٍ } بالنصب ، وكذلك في بعض المصاحف ، على إضمار « جَعَلَ » .
وقرأ الحسن « وجناتٍ » بكسر التاء وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنه جرٌ عطفاً على {
كُلِّ الثمرات } . الثاني : أنه نصبٌ نَسَقاً على { زَوْجَيْنِ اثنين } قاله
الزمخشري . الثالث : نَصْبُه نسقاً على « رواسي » . الرابع : نَصْبُه بإضمار «
جَعَلَ » وهو أَوْلى لكثرةِ الفواصلِ في الأوجهِ قبله . قال أبو البقاء : « ولم
يَقْرَأ أحدٌ منهم » وزرعاً « بالنصب » .
قوله : { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثير وأبو
عمرو وحفص بالرفع في الأربعة ، والباقون بالخفض . فالرفعُ في { زَرْعٌ وَنَخِيلٌ }
للنسقِ على « قِطَعٌ » وفي « صِنْوان » لكونِهِ تابعاً ل « نخيل » ، و « غيرُ »
لعطفِهِ عليه .
وعاب الشيخُ على ابن عطية قولَه « عطفاً على » قطع « قال : » وليسَتْ عبارةً
محررةً؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطف وهو صِنْوان « قلت : ومثل هذا غيرُ مَعيبٍ لأنه
عطفٌ محققٌ ، غايةُ ما فيه أنَّ بعضَ ذلك تابعٌ ، فلا يُقْدَحُ في هذه العبارة .
والخفضُ مراعاةُ ل » أعناب « . وقال ابن عطية : » عطفاً على أعناب « ، وعابَها
الشيخ بما تقدَّم ، وجوابُه ما تقدَّم .
وقد طعنَ قومٌ على هذه القراءة وقالوا : ليس الزرعُ من الجنات ، رُوِيَ ذلك عن أبي
عمروٍ . وقد أجيب عن ذلك : بأنَّ الجنةَ احتَوَتْ على النخيلِ والأعنابِ والزرعِ
كقوله : { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا
بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] . وقال أبو البقاء : »
وقيل : المعنى : ونبات/ زرعٍ فَعَطَفه على المعنى « . قلت : ولا أدري ما هذا الجوابُ؟
لأنَّ الذين يمنع أن تكون الجنةُ من الزرعِ يمنع أن تكونَ من نباتِ الزرع ، وأيُّ
فرق؟
والصَّنْوانُ : جَمْع صِنْوٍ كقِنْوان جمع قِنْو ، وقد تقدم تحقيق هذه البنية في
الأنعام . والصِّنْوُ : الفَرْعُ ، يَجْمعه وفرعاً آخر أصلٌ واحدٌ ، وأصله
المِثْلُ ، وفي الحديث : » عَمُّ الرجل صِنْوُ أبيه « ، أي : مثلُه ، أو لأنهما
يجمعهما أصلٌ واحد .
والعامَّة على كسرِ الصاد . وقرأ السلمي وابن مصرِّف وزيدُ بن علي بضمِّها ، وهي
لغةُ قيسٍ وتميم ، كذِئْب وذُؤْبان . وقرأ الحسنُ وقتادةُ بفتحها ، وهو اسمُ جمعٍ
لا جمعُ تكسيرٍ؛ لأنه ليس مِنْ أبنيتِه فَعْلان ، ونظيرُ » صَنْوان « بالفتح »
السَّعْدان « . هذا جمعُه في الكثرةِ ، وأمَّا في القِلَّة فيُجْمع على أَصْنَاءٍ
كحِمْل وأَحْمال .
قوله : » يُسْقَى « قرأه بالياء مِنْ تحتُ ابنُ عامر وعاصمٌ ، أي : يُسقى ما
ذُكِرَ ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ مراعاةً للفظِ ما تقدم ، وللتأنيث في قولِه »
بعضَها « .
قوله
: « ونُفَضِّل » قرأه بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعل الأخَوان ، والباقون بنونِ
العظمة . ويحيى بن يعمر وأبو حيوة « يُفَضَّل » بالياء مبنياً للمفعول ، « بعضُها
» رفعاً . قال أبو حاتم : « وَجَدْتُه كذلك في مصحف يحيى بن يعمر » وهو أولُ مَنْ
نَقَّط المصاحفَ . وتقدَّم الخلاف في « الأُكُل » في البقرة .
و { فِي الأكل } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه ظرفٌ للتفضيل . والثاني : أنه حال من
« بعضها » ، أي : نُفضِّل بعضَها مأكولاً ، أي : وفيه الأكلُ ، قاله أبو البقاء ،
وفيه بُعْدٌ مِنْ جهة المعنى والصناعة .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
قوله
تعالى : { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه خبرٌ
مقدمٌ ، و « قولُهم » مبتدأ مؤخرٌ ، ولا بد مِنْ حَذْفِ صفةٍ لتتِمَّ الفائدةُ ،
أي : فَعَجَبٌ أيُّ عَجَبٍ ، أو غريب ونحوه . والثاني : أنه مبتدأٌ ، وسَوَّغَ
الابتداءُ ما ذكرتْهُ مِن الوصفِ المقدِّرِ ، ولا يَضُرُّ حينئذٍ كونُ خبِرهِ ،
معرفةً ، وهذا كما اَعْرب سيبويهِ « كم » مِنْ « كم مالُك » و « خيرٌ » مِنْ «
اقصِدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه » مبتدأين لمسوِّغِ الابتداء بهما ، وخبرُهما معرفةً .
قاله الشيخ وللنزاعِ فيه مجالٌ .
على أنَّ هناك عِلَّةً لا تَتَأتَّى ههنا : وهي أن الذي حَمَلَ سيبويهِ على ذلك في
المسألتين أنَّ أكثرَ ما يقع موقعَ « كم » و « خير » ما هو مبتدأ ، فلذلك حَكَمَ
عليهما بحكمِ الغالبِ بخلافِ ما نحن فيه .
الثالث : أنَّ « عجبٌ » مبتدأٌ بمعنى مُعْجِب ، و « قولُهم » فاعلٌ به ، قاله أبو
البقاء ، ورَدَّ عليه الشيخُ : بانهم نَصُّوا على أن « فَعَلاً » و « فُعْلَة » و
« فِعْلاً » يَنُوب عن مفعولٍ في المعنى ولا يعمل عملَه ، فلا تقول : مررتُ برجلٍ
ذِبْحٍ كبشُه ، ولا غُرْفةٍ ماؤه ، ولا قَبَضٍ مالُه « . قلت : وأيضاً فإن الصفاتِ
لا تعملُ إلاَّ إذا اعتمَدَتْ على أشياءَ مخصوصةٍ ، وليس منها هنا شيءٌ .
قوله : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يجوز في هذه
الجملةِ الاستفهاميةِ وجهان ، أحدُهما : -وهو الظاهر- أنها منصوبةُ المحلِّ
لحكايتها بالقولِ . والثاني : أنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ
قولُهم » ، وبه بدأ الزمخشري ، ويكون بدلَ كلٍ مِنْ كل ، لأنّ هذا هو نفسُ قولِهم
. و « إذا » هنا ظرفٌ محضٌ ، وليس فيها معنى الشرطِ ، والعاملُ فيها مقدرٌ
يُفَسِّره { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } تقديرُه : أإذا كنا تراباً نُبْعَثُ أو
نُحْشَر ، ولا يَعْمل فيها { خَلْقٍ جَدِيدٍ } لأنَّ ما بعد « إذا » لا يعمل فيما
قبلها ، ولا يعمل فيها أيضاً « كُنَّا » لإِضافتها إليها .
واختلف القرَّاءُ في هذا الاستفهامِ المكررِ اختلافاً منتشراً ، وهو في أحدِ عشرَ
موضعاً من القرآن ، فلا بُدَّ مِنْ تَعيينِها وبيانِ مراتبِ القرَّاء فيها ، فإنَّ
في ضبطها عُسْراً يَسْهُل بعَوْنِ الله تعالى :
أمَّا المواضعُ المذكورةُ ، فأوَّلُها ما في هذه السورة . الثاني والثالث كلاهما
في « الإِسراء » وهما : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الآيتان : 49 ، 98 ] موضعان الرابع : في «
المؤمنون » { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ } [ الآية : 82 ] . وفي « النمل » : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً
وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } [ الآية : 67 ] ، وفي « العنكبوت » : {
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال }
[
الآيتان : 28 ، 29 ] . وفي « ألم ، السجدة » { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ الآية : 10 ] . وفي « الصافات » موضعان ، وفي
الواقعة موضعٌ : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ } [ الصافات : 16 ، 53 ، الواقعة : 47 ] . وفي « النازعات » : {
أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } [ الآية
: 11 ] .
هذه هي المواضعُ المختلَفُ فيها ، وأمَّا ضبطُ الخلافِ فيها بالنسبةِ إلى القرَّاء
ففيه طريقان ، أحدهما بالنسبة إلى ذِكْر القُرَّاء ، والثاني : بالنسبة إلى ذِكْر
السُّوَر وهذا الثاني أقربُ ، فلذلك بَدَأْتُ به فأقول : هذه المواضعُ تنقسم قسمين
: قسمٌ منها سبعةُ مواضعَ لها حكمٌ واحدٌ ، وقسمٌ منها أربعةُ مواضعَ ، لكلٍ منها
حكمٌ على حِدَته .
أمَّا القسم الأول : فمنه في هذه السورة ، والثاني والثالث في سبحان ، والرابع في
المؤمنين ، والخامس في ألم السجدة ، والسادس والسابع في الصَّافات ، وقد عَرَفْتَ
أعيانَها ممَّا تقدَّمَ .
أمَّا حكمُها : فإنَّ نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ويُخْبران في الثاني ،
وأن ابنَ عامرٍ يُخْبِر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون
في الأول والثاني .
وأمَّا القسمُ الثاني : فأوَّله [ ما في سورة النمل ] ، وحكمُه : أنَّ نافعاً
يُخْبِر في الأول ويستفهم في الثاني ، وأن ابنَ عامر والكسائي يعكِسُه ، أي :
يَسْتفهمان في الأول ويُخْبِران في الثاني ، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون فيهما .
الثاني : ما في سورة العنكبوت ، وحكمُه : أن نافعاً وابنَ كثير وابنَ عامرٍ وحفصاً
يُخْبرون في الأول ويستفهمون في الثاني ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الثالث :
ما في سورة الواقعة ، وحكمُه : أن نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ، ويُخبران
في الثاني ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الرابع ما في سورة النازعات ، وحكمه :
أنَّ نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني ، وأنَّ
الباقين يستفهمون فيهما .
وأمَّا الطريقُ الآخرُ بالنسبة إلى القراء فأقول : إن القراء فيها على أربعِ
مراتبَ ، والأولى : ان نافعاً -رحمه الله- قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في
الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عَكَس . المرتبة الثانية : أن ابن كثير
وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني ، إلا الأولَ من العنكبوت فقرآه بالخبر .
المرتبة الثالثة : أن ابنَ عامر قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني ، إلا
في النمل والواقعة والنازعات ، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول ،
وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما . المرتبة الرابعة : الباقون
-وهم أبو عمرو وحمزة وأبو بكر- قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني ، ولم يخالِفْ
أحدٌ منهم أصلَه ، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعُسْرهما وصعوبةِ استخراجهما من كتب
القراءات .
ثم الوجهُ في قراءةِ مَن ، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإِنكار ،
فاتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيداً له ، والوجهُ في قراءة منْ
أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى ، فإذا
أنكرَ في إحداهما حَصَل الإِنكار في الأخرى ، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من
ذلك فلاتِّباعِ الأثَر .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
قوله
تعالى : { قَبْلَ الحسنة } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له
، والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن « السَّيِّئة » قاله
أبو البقاء .
قوله : { وَقَدْ خَلَتْ } يجوز أن تكونَ حالاً وهو الظاهر ، وأن تكونَ مستأنفةً .
والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة ، الواحدة « مَثُلَة » كسَمُرَة وسَمُرات
، وهي العقوبةُ الفاضحة . قال ابن عباس : : العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ
قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما « ، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من
المماثلة كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ،
أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص ، يقال : أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه
وأقْصَصْته ، بمعنى واحد ، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها .
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء . قيل : وهي لغةُ الحجاز في » مَثْلة «
. / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء ، وهي لغة تميم . وقرأ الأعمشُ
ومجاهدٌ بفتحهما ، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما .
فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكونَ مخففاً مِنْ
قراءة مَنْ ضمَّهما . وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ اصلاً بنفسه لغةً ،
وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو : العُسُرِ في العُسْر ، وقد
عُرِفَ ما فيه .
قوله : { على ظُلْمِهِمْ } حال من » للناس « . والعامل فيها قال أبو البقاء : »
مغفرة « يعني أنه هو العامل في صاحبها .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
قوله
تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أن هذا كلامٌ
مستأنفٌ مستقلٌ من مبتدأ وخبر . الثاني : أنَّ { وَلِكُلِّ قَوْمٍ } متعلقٌ بهادٍ
، و « هادٍ » نَسَقٌ على مقدَّر ، أي : إنما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم . وفي هذا
الوجهِ الفصلُ بين حرفِ العطفِ والمعطوف بالجارِّ ، وفيه خلافٌ تقدَّم . ولمَّا ذكر
الشيخ هذا الوجهَ لم يذكر هذا الإِشكالَ ، ومِنْ عادته ذِكْرُه رادّاً به على
الزمخشري . الثالث : أنَّ هادياً خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : [ إنما أنت منذرٌ ]
، وهو لكلِّ قومٍ هادٍ ، ف « لكلِّ » متعلقٌ به أيضاً .
ووقف ابن كثير على « هادٍ » و { وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] حيث وقعا ، وعلى { وَالٍ }
[ الرعد : 11 ] هنا [ وباقٍ في التخل بإثبات ] الياء ، وحَذَفها الباقون . ونقل
ابن مجاهد عنه أنه يقف بالياء في جميع الباب ، ونَقَل عن ورش أنه خَيَّر في الوقف
[ بين الياءِ وحَذْفِها ، والباب ] هو كلُّ منقوصٍ منوَّنٍ غيرِ منصوبٍ .
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
قوله
تعالى : { الله يَعْلَمُ } : يجوز في الجلالة وجهان ، أحدُهما : أنها خبرٌ مبتدأٍ
مضمر ، [ أي : هو الله ، وهذا ] على قول مَنْ فَسَّر هادياً بأنه هو الله تعالى ،
فكأنَّ هذه الجملةَ تفسيرٌ له ، وهذا عَنَى الزمخشريُّ بقوله : « وأن يكونَ المعنى
: هو الله تفسيراً لهادٍ على الوجه الأخير ، ثم ابتدأ فقال : » يَعْلَم « .
والثاني : أن الجلالةَ مبتدأ و » يَعْلَمُ « خبرُها ، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ .
قال الشيخ : » ويَعْلَمُ هنا متعديةٌ إلى واحدٍ ، لأنه لو يُراد هنا النسبةُ ،
إنما المرادُ تعلُّق العلمِ بالمفردات « . قلت : وإذا كانت كذلك كانت عِرْفانيةً ،
وقد قدَّمْتُ أنه لا ينبغي أن يجوزَ نسبةُ هذا إلى اللهِ تعالى ، وحَقَّقْتُه فيما
تقدَّم ، فعليك باعتباره في موضعه من سورة الأنفال .
قوله : { مَا تَحْمِلُ } : » ما « تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكون موصولةً
اسميةً ، والعائدُ محذوف ، أي : ما تحمله . والثاني : أن تكونَ مصدريةً فلا عائدَ
. والثالث : أن تكونَ استفهاميةً ، وفي محلها وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ
رفعٍ بالابتداءِ ، و » تحملُ « خبرُه ، والجملة معلِّقةٌ للعلمِ . والثاني : أنها
في محلِّ نصبٍ ب » تَحْمل « قاله أبو البقاء ، وهو أوْلى ، لأنه لا يُحْوِجُ إلى
حَذْفِ عائدٍ ، ولا سيما عند البصريين فإنهم لا يُجيزون » زيدُ ضربْت « ، ولم يذكرِ
الشيخُ غيرَ هذا ، ولم يتعرَّضْ لهذا الاعتراضِ .
و » ما « في قوله { وَمَا تَغِيضُ . . . وَمَا تَزْدَادُ } محتملةٌ للأوجهِ
المتقدمة . وغاض وزاد سُمِع تعدِّيهما ولزومُهما ، فلك أن تدَّعيَ حَذْفَ العائدِ
على القول بتعدِّيهما ، وأن تجعلَها مصدريةً على القولِ بمصدرهما .
قوله : » عندَه « يجوزُ أن يكونَ مجرورَ المحلِّ صفةً لشيءٍ ، أو مرفوعَه صفةً ل »
كل « ، أو منصوبهَ لقوله » بمقدار « أو ظرفاً للاستقرار الذي تَعَلَّق به الجارُّ
لوقوعِه خبراً .
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
قوله تعالى : { عَالِمُ الغيب } : يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبرُه { الكبير المتعال } ، وأن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عالِمٌ . وقرأ زيد بن عليّ « عالِمَ » نصباً على المدح . ووقف ابن كثير وأبو عمرو في روايةٍ على ياء « المتعال » وصلاً ووقفاً ، وهذا هو الأشهرُ في لسانهم ، وحَذَفَها الباقون وصلاً ووقفاً لحَذْفِها في الرسم . واستسهل سيبويه حَذْفَها في الفواصل والقوافي ولأن « أل » تعاقِبُ التنوين ، فَحُذِفَتْ معها إجراءً لها مُجْراها .
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
قوله
تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ } : في « سواءٌ » وجهان ، أحدُهما :
أنه خبرٌ مقدَّمٌ ، و { مَّنْ أَسَرَّ } و { وَمَنْ جَهَرَ } هو المبتدأ ، وإنما
بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ ، وقد تقدَّم
الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ ، و « منكم » على هذا حالٌ من الضمير المستتر في
« سواءٌ » لأنه بمعنى « مُسْتَوٍ » . قال أبو البقاء : « ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً
من الضمير في » أَسَرَّ « أو » جَهَرَ « لوجهين ، أحدُهما : تقديمُ ما في الصلةِ
على الموصولِ أو الصفة على الموصوف ، والثاني : تقديمُ الخبرِ على » منكم « ،
وحقُّه أن يقعَ بعده » . قلت : [ قوله ] « وحقُّه أن يقع بعده » يعني بعده وبعد
المبتدأ ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له .
والثاني : أنه مبتدأ ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله « مِنْكم » وأَعْرَبَ
سيبويه « سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ » كذلك . وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ
ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة ، غَلَطٌ عليه .
قوله : { وَسَارِبٌ بالنهار } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على «
مُسْتَخْفٍ » ، ويُرادُ ب « مَنْ » حينئذٍ اثنان ، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ
« هو » على لفظِها فأفرده ، والخبرَ على معناها فثَنَّاه . الوجه الثاني : أن
يكونَ عطفاً على « { مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه . ويُرَجِّح
هذين الوجهين ما قاله الزمخشري . قال رحمه الله : » فإنْ قلت : كان حقُّ العبارة
أن يُقال : « ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ
معنى الاستواء المستخفي والساربُ ، وإلاَّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ
. قلت : فيه وجهان ، أحدٌهما : أنَّ قولَه » وساربٌ « عطفٌ على { مَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ } لا على » مُسْتَخْفٍ « . والثاني : أنه عَطْفٌ على » مُسْتَخْفٍ « ،
إلا أنَّ » مَنْ « في معنى الاثنين ، كقوله :
2843- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ
يَصْطَحِبانِ
كأنه قيل : سواءٌ منكم اثنان : { مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار } . قلت :
وفي عبارتِه بقوله » كان حقُّ العبارةِ كذا « سوءُ أدب . وقوله : كقولِه » نَكُنْ
مثلَ مَنْ « يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه :
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني ... نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان
وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى ، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط ، وهو
مقصودُه . وقوله : » وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ « لو قال بهذا
قائلٌ لأصاب الصوابَ ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ ، ذهبا إلى أن المتسخفي
والسارب شخصٌ واحد ، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ .
الثالث : أن يكونَ على حذف » مَنْ « الموصولة ، أي : ومَنْ هو سارِبٌ ، وهذا إنما
يَتَمَشَّى عند الكوفيين ، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول ، وقد تقدَّم استدلالُهم
ذلك .
والسَّارِب : اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ ، أي : تَصَرَّف كيف شاء . قال :
2844- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ ... وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
وقال آخر :
2845- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو
سارِبُ
أي : متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه ، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى ، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة
والقوة .
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قوله
تعالى : { لَهُ } الضميرُ فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه عائدٌ على « مَنْ »
المكررة ، أي : لِمَنْ أسرَّ القولَ ولِمَنْ جَهَرَ به ولِمَنْ استخفى وسَرَب
مُعَقِّبات ، أي : جماعة من الملائكة يَعْقُبُ بعضُهم بعضاً . الثاني : أنه يعود
على « مَنْ » الأخيرةِ ، وهو قولُ ابن عباس . قال ابنُ عطية : « والمُعَقِّبات على
هذا : حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُه الذين يحفطونَه . قالوا : والآيةُ على هذا في
الرؤساء الكفارِ ، واختاره الطبري في آخرين » ، إلا أنَّ الماورديَّ ذكر على التأويلِ
أنَّ الكلامَ نفيٌ ، والتقدير : لا يحفطونه . وهذا ينبغي أن [ لا ] يُسْمَعَ البتة
، كيف يَبْرُزُ كلامٌ موجَبٌ ويُراد به نفي؟ وحَذْفُ « لا » إنما يجوز إذا كان
المنفيُّ مضارعاً في جوابِ قسمٍ نحو : { تَالله تَفْتَؤُاْ } [ يوسف : 85 ] وقد
تقدَّم تحريرُه ، وإنما معنى الكلام -كما قال المهدوي -يحفظونه مِنْ أمرِ اللهِ في
ظنِّه وزعمه .
الثالث : أنَّ الضميرَ في « له » يعود على الله تعالى ذِكْرُه ، وفي « يَحْفظونه »
للعبد ، أي : لله ملائكةٌ يحفظون العبدَ من الآفات ، ويحفطون عليه أعمالَه ، قاله
الحسن .
الرابع : عَوْدُ الضميرين على النبي عليه السلام ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ قريبٌ
، ولتقدُّم ما يُشعر به في قوله : { لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 8 ] .
ومعَقِّبات : جمع « مُعَقِّب » بزنة مُفَعِّل ، مِنْ عَقَّب الرجلُ إذا جاء على
عَقِب الآخر؛ لأنَّ بعضَهم يعَقِّب بعضاً ، أو لأنهم يُعَقِّبون ما يتكلم به .
وقال الزمخشري : « والأصلُ معْتَقِبات ، فَأُدْغمت التاءُ في القاف كقوله : {
وَجَآءَ المعذرون } [ التوبة : 90 ] ، أي : : المُعْتَذِرُون » ، ويَجوز «
مُعَقِّبات » بكسر العين ولم يقرأ به . وقال الشيخ : « وهذا وهمٌ فاحشٌ لا تُدْغم
التاءُ في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا مِنْ كلمةٍ ولا مِنْ كلمتين ، وقد نصَّ
التصريفيون على أن القافَ والكاف كلٌ منهما يُدْغم في الآخر ، ولا يدغمان في
غيرهما ، ولا يُدْغم غيرهما فيهما . وأمَّا تشبيهُه بقوله : { وَجَآءَ المعذرون }
فلا يتعيَّن أن يكونَ أصلُه » المُعْتَذِرون « وقد تقدَّم توجيهُه ، وأنه لا
يتعيَّن ذلك فيه . وأمَّا قوله » ويجوز « مُعَقِّبات » بكسر العين فهذا لا يجوز
لأنه بناه على أنَّ أصلَه « مُتَعَقِّبات » فأُدْغِمَت التاءُ في القافِ ، وقد
بيَّنَّا أنَّ ذلك وهمٌ فاحشٌ « / .
وفي » مُعَقِّبات « احتمالان ، أحدهما : أن يكون » مُعَقِّبة « بمعنى مُعَقِّب
والتاء للمبالغة كعلاَّمَة ونسَّابة ، أي : مَلَكٌ مُعَقِّبٌ ، ثم جُمِع كعلاَّمات
ونسَّابات . والثاني : أن يكون » مُعَقِّبة « صفةً لجماعة ، ثم جُمِع هذا الوصفُ .
وذكر ابن جرير أنَّ » مُعَقِّبة « جمعُ مُعَقِّب ، وشبَّه ذلك برجل ورِجال ورجالات
. قال الشيخ : » وليس كما ذَكَر ، إنما ذلك كَجَمَل وجِمال وجِمالات ، ومُعَقِّبة
ومُعَقِّبات إنما هي كضاربةِ وضاربات .
ويمكن
أن يُجابَ عنه بأنه يريد بذلك أنه أُطْلِق مِنْ حيث الاستعمالُ على جمع مُعَقَّب ،
وإن كان أصلُه أن يُطْلَق على مؤنث « مُعَقِّب » ، فصار مثلَ « الوارِدَة »
للجماعة الذين يَرِدُون ، وإن كان أصلُه للمؤنثة من جهةِ أن جموعَ التكسير في
العقلاء تُعَامَلُ معاملةَ المؤنثة في الإِخبار وعَوْدِ الضمير ، ومنه قولهم «
الرجال وأعضادُها » ، [ و « العلماء ذاهبة إلى كذا » وتشبيهه ] ذلك برجل ورجال
ورِجالات من حيث المعنى لا الصناعةُ « .
وقرأ أُبَيّ وإبراهيم وعُبيد الله بن زياد » له مَعاقيبُ « . قال الزمخشري : [ جمع
مُعْقِب أو ] مُعْقِبة ، والياءُ عوضٌ مِنْ حذف إحدى القافين في التكسير » . قلت :
ويوضِّحُ هذا ما قاله ابنُ جني فإنه قال : « معاقيب تكسير [ مُعْقِب بسكونِ العين
] وكسر القاف كمُطْعِم ومَطاعِيْم ، ومُقْدِم ومَقاديم ، فكأنَّ مُعْقِباً جُمِع
على مَعاقِبَة ، ثم جُعِلَتِ الياء في » مَعاقيب « عوضاً من الهاء المحذوفة في
مَعاقبة » .
قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «
مُعَقِّبات » ويجوزُ أَنْ يعتلَّق بمعقِّبات ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، ويجوز
أن يكونَ حالاً من الضمير الذي هو في الظرف الواقع خبراً . والكلامُ على هذه
الأوجهِ تامٌّ عند قوله { وَمِنْ خَلْفِهِ } . وعَبَّر أبو البقاء عن هذه الأوجهِ
بعبارةٍ مُشْكلة هذا شَرْحُها ، وهي قولُه : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن
يكونَ صفةً لمعَقِّبات ، وأن يكون ظرفاً ، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضميرِ الذي فيه
، فعلى هذا يتم الكلامُ عنده « . انتهى .
ويجوز أَنْ يتعلَّق ب » يحفظونه « ، أي : يحفظونه مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه . [
فإن قلت : كيف يتعلَّق حرفان ] متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحد : وهما » مِنْ «
الداخلةُ على » بين « و » مِنْ « الداخلة على » أَمْرِ الله «؟ فالجواب أنَّ »
مِنْ « الثانيةَ مغايرةٌ للأولى في المعنى كما ستعرفه .
قوله { يَحْفَظُونَهُ } يجوز أن يكونَ صفةً ل » مُعَقِّبات « ، ويجوز أن يكونَ
حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبراً . و { مِنْ أَمْرِ الله }
متعلقٌ به ، و » مِنْ « : إمَّا للسبب ، أي : بسبب أمرِ الله ، -ويدلُّ له قراءة
علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة » بأَمْرِ الله « . وقيل : المعنى
على هذا : يحفظون عملَه بإذن الله ، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها .
قال أبو البقاء : » مِنْ أَْمْرِ الله ، أي : من الجنِّ والإِنس ، فتكون « مِنْ »
على بابها « . يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس
والجنِّ ، فتكون » مِنْ « لابتداء الغاية .
وجَوَّز
أيضاً أن تكونَ بمعنى « عن » ، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة .
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً ، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ
أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة : بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه ، وبكونها
تحفظُه ، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله ، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف
بالجارِّ ، وهو جائزٌ فصيح . وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره
، وأن الأصلَ : له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه ، لأنَّ
الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه .
قوله : { وَإِذَا أَرَادَ } العاملُ في « إذا » محذوفٌ لدلالة جوابِها عليه
تقديرُه : لم يُرَدَّ ، أو وقع ، ونحوُهما ، ولا يَعْمل فيها جوابُها؛ لأنَّ ما
بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
قوله
تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } : يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوفٌ ، أي :
يخافون خَوْفاً ويطمعون طَمَعاً . ويجوز أن يكونا مصدرين في موضعِ نصبٍ على الحال
، وفي صاحبِ الحال حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه مفعولُ « يُرِيْكم » الأول ، أي :
خائفين طامعين ، أي : تخافون صواعقَه ، وتطمعون في مطره ، كما قال المتنبي :
2846- فتىً كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجى ... يُرَجَّى الحَيا منها
وتُخْشى الصَّواعِقُ
والثاني : أنه البرقُ ، أي : يريكموه حالَ كونِه ذا خوفٍ وطمع ، أو هو في نفسه
خوفٌ وطمعٌ على المبالغة ، والمعنى كما تقدَّم . ويجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله ،
ذكره أبو البقاء ، ومنعه الزمخشري بعدمِ اتحاد الفاعلِ ، يعني أنَّ فاعلَ الإرادةِ
وهو الله تعالى غيرُ فاعلِ الخوف والطمع وهو ضميرُ المخاطبين ، فاختلف فاعلُ الفعل
المُعَلَّل وفاعلُ العلَّة . وهذا يمكن أن يجابَ عنه : بأنَّ المفعولَ في قوة
الفاعل ، فإنَّ معنى « يُريكم » يجعلكم رائين ، فتخافون وتطمعون ، ومثلُه في
المعنى قول/ النابغة الذبياني :
2847- وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍِ مُمَنِّعٍ ... تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا
حِذاراً على أن لا تُنال مَقَادَتي ... ولا نِسْوتي حتى يَمُتْنَ حَرائِرا
ف « حِذاراً » مفعولٌ من أجله ، وفاعلُه هو المتكلم ، والفعل المُعَلِّل الذي هو «
حَلَّتْ » فاعلُه « بيوتي » ، فقد اختلف الفاعل . قالوا : لكن لمَّا كان التقدير :
وأَحْلَلْتُ بيوتي حِذاراً صَحَّ ذلك .
وقد جوَّز الزمخشري : ذلك أيضاً على حَذْفِ مضاف فقال : « إلاَّ على تقدير حَذْفِ
المضاف ، أي : إرادةَ خوفٍ وطَمَع » . وجوَّزه أيضاً على أنَّ بعضَ المصادر ناب عن
بعض ، يعني : ان الأصلَ : يُريكم البرقَ إخافةً وإطماعاً؛ فإنَّ المُرْئِيَّ
والمُخِيفَ والمُطْمِعَ هو اللهُ تعالى ، وناب « خوف » عن إخافة ، و « طمع » عن
إطماع نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، على أنه قد ذهب
جماعةٌ منهم ابنُ خروفٍ إلى أنَّ اتحادَ الفاعل ليس بشرطٍ .
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قوله
تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ } : يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً أخبر عنهم بذلك
، ويجوز أن تكونَ حالاً . وظاهر كلام الزمخشري أنها حالٌ مِنْ مفعول « يُصِيب » ،
فإنه قال : « وقيل : الواوُ للحال ، [ أي : فيصيب بها مِنْ يشاء في حالِ جِدالِهم
» ] ، وجعلها غيرُه حالاً من مفعول « يشاء » .
قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } [ هذه الجملة حالٌ من الجلالة ] الكريمة ،
ويَضْعُفُ استئنافُها . وقرأ العامَّةُ بكسر الميم ، وهو القوة والإِهلاك ، قال
عبد المطلب :
2848- لا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ ... ومِحالُهم عَدْواً مِحالَكْ
وقال الأعشى :
2849- فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المَجْ ... دِ عظيمُ النَّدَى شديد المِحالِ
والمِحال أيضاً : أشدُّ المكايدة والمماكرة ، يقال : ماحَلَه مُمَاحَلةً ، ومنه :
تَمَحَّلَ فلانٌ لكذا ، أي : تكلَّف له استعمالَ الحيلة . وقال أبو زيد : « هو
النِّقْمة » . وقال ابنُ عرفةَ ، « هو الجِدال » [ وفيه على هذا ] مقابلةٌ معنوية
كأنه قيل : وهم يجادلون في الله وهو شديدُ الجِدال .
[ واختلفوا في ميمه ] : فالجمهور على أنها أصليةٌ من المَحْلِ وهو المَكْرُ والكيد
، ووزنُه فِعال كمِهاد . وقال القتبي : إنه مِنَ الحيلة ، وميمُه مزيدةٌ ، كمكان
من الكون ، ثم يقال : تمكَّنْتُ . وقد غلَّطه الأزهري وقال : لو كان مِفْعَلاً
مِنَ الحيلة لظهرت مثل : مِزْوَد ومِحْوَل ومِحْوَر « .
وقرأ الأعرج والضحاك بفتحِها ، والظاهر أنه لغةٌ في المكسورِها ، وهو مذهبُ ابن
عباس ، فإنه فسَّره بالحَوْل وفسَّره غيرُه بالحيلة . وقال الزمخشري : » وقرأ
الأعرج بفتح الميمِ على أنه مَفْعَل مِنْ حال يحولُ مَحالاً ، إذا احتال ، ومنه «
اَحْوَلُ مِنْ ذئب » ، أي : أشدُّ حِيْلة ، ويجوز أن يكونَ المعنى : شديد الفَقار
، ويكون مَثَلاً في القوَّة والقدرة ، كما جاء « فساعِدُ اللهِ أشدُّ ، ومُوْساه
أَحَدٌ » ، لأنَّ الحيوانَ إذا اشتدَّ مَحالُه كان منعوتاً بشدةِ القوةِ والاضطلاع
بما يَعْجُزُ غيرُه ، ألا ترى إلى قولهم : « فَقَرَتْه الفاقِرة » وذلك أنَّ
الفَقارَ عمودُ الظهرِ وقِوامُه « .
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
وقوله
: { لَهُ دَعْوَةُ الحق } : من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، والأصل : له الدعوةُ
الحقُّ كقوله : { وَلَدَارُ الآخرة } [ يوسف : 109 ] على أحدِ الوجهين . وقال
الزمخشري : « فيه وجهان ، أحدُهما : أن تُضافَ الدعوةُ إلى الحق الذي هو نقيض
الباطل ، كما تُضاف الكلمةُ إليه في قوله » كلمة الحق « . والثاني : أن تُضافَ إلى
الحق الذي هو اللهُ على معنى دعوةِ المَدْعُوِّ الحق الذي يسمع فيجيب » . قال
الشيخ : « وهذا الوجهُ الثاني لا يظهر؛ لأنَّ مآلَه إلى تقدير : لله دعوةُ الله
كما تقول : لزيدٍ دعوةُ زيد ، وهذا التركيبُ لا يَصِحُّ » . قلت : وأين هذا ممَّا
قاله الزمخشريُّ حتى يَرُدَّ عليه به؟
قوله : { والذين يَدْعُونَ } يجوز أن يُرَاد بالذين المشركون ، فالواوُ في «
يَدْعُون » عائده ، ومفعولُه محذوفٌ وهو الأصنام ، والواوُ في { لاَ
يَسْتَجِيبُونَ } عائدٌ على مفعول « يَدْعون » المحذوفِ ، وعاد عليه الضمير
كالعقلاء لمعاملتِهم إياه معاملتَهم . والتقدير : والمشركون الذين يَدْعُون
الأصنام لا تستجيب لهم الأصنامُ إلا استجابةً كاستجابةِ باسطِ كَفَّيْه ، أي :
كاستجابة الماءِ مَنْ بَسَطَ كَفَّيْه إليه ، يطلب منه أن يَبْلُغَ فاه ، والماءُ
جمادٌ لا يَشْعُر ببَسْط كَفَّيْه ولا بعطشِه ، ولا يَقْدِرُ أن يُجيبَه ويَبْلُغَ
فاه ، قال معناه الزمخشري . ولمَّا ذكر أبو البقاء قريباً من ذلك وقدَّر التقديرَ
المذكور قال : « والمصدرُ في هذا التقدير مضافٌ إلى المفعول كقوله : { لاَّ
يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } [ فصلت : 49 ] ، وفاعلُ هذا المصدرِ مضمرٌ
هو ضميرُ الماءِ ، أي : لا يُجيبونهم إلا كما يُجيب الماءُ باسطَ كفِّه إليه ،
والإِجابةُ هنا كنايةٌ عن الانقياد » . /
ويجوز أن يُرادَ بالذين الأصنامُ ، أي : والآلهة الذين يَدْعونهم مِنْ دونِ الله
لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابةً ، والتقديرُ كما تقدَّم في الوجهِ قبلَه .
وإنما جَمَعَهم جَمْعَ العقلاء : إمَّا للاختلاطِ؛ لأنَّ الآلهةَ عقلاءُ وجمادٌ ،
وإمَّا لمعاملتِهم إياها معاملةَ العقلاءِ في زعمهم ، فالواوُ في « يَدْعُون »
للمشركين ، والعائدُ المحذوفُ للأصنام ، وكذا واوُ « يستجيبون » .
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمروٍ « تَدْعُونَ » بالخطاب وهو مُقَوِّيَةٌ للوجهِ الثاني
: ولم يذكرِ الزمخشريُّ غيرَه .
قوله : « ليَبْلُغَ » اللامُ متعلقةٌ ب « باسِط » وفاعلُ « ليبلُغَ » ضميرُ الماءِ
.
قوله : { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في « هو » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ
الماء . والهاء في « ببالغِه » للفم ، أي : وما الماء ببالغِ فيه . الثاني : أنه
ضميرُ الفم ، والهاء فيي « ببالِغه » للماء ، أي : وما الفمُ ببالغِ الماءِ؛ إذ
كلُّ واحدٍ منهما لا يبلُغُ الآخرَ على هذه الحالِ ، فنسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ
وعدمُها صحيحتان . الثالث : أن يكون ضميرَ الباسط ، والهاء في « ببالغه » للماء ،
أي : وما باسطُ كَفَّيْهِ إلى الماء ببالغٍ الماءَ .
ولا
يجوز أن يكون « هو » ضميرَ الباسط ، وفاعلُ « ببالغِه » مضمراً والهاء في «
ببالِغه » للماء ، لأنه حينئذٍ يكونُ من باب جَرَيان الصفةِ على غير مَنْ هي ] له
، ومتى كان كذا لزِم إبرازُ الفاعلِ فكان التركيبُ هكذا : وما هو ببالغِه الماءُ ،
فإن جَعَلْتَ الهاءَ في « ببالغِه » للماءِ جاز أن يكونَ « هو » ضميرَ الباسط كما
تقدَّم تقريرُه .
والكافُ في « كباسطِ » : إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، وإمَّا حالٌ من ذلك المصدرِ
كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة .
وقال أبو البقاء : « والكاف في » كباسط « إنْ جعلتَها حرفاً كان فيها ضميرٌ يعود
على الموصوفِ المحذوفِ ، وإنْ جعلْتَها اسماً لم يكن فيها ضميرٌ » . قلت : وكونُ
الكافِ اسماً في الكلام لم يَقُلْ به الجمهورُ ، بل الأخفشُ ، ويعني بالموصوفِ ذلك
المصدرَ الذي قدَّره فيما تقدَّم .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قوله
تعالى : { طَوْعاً وَكَرْهاً } : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجله ، وإمَّا حال ، أي :
طائعِين وكارهين ، وإمَّا منصوبٌ على المصدر المؤكِّد بفعلٍ مضمر . وقرأ ألو
مِجْلَز : « والإِيصال » بالياء قبل الصاد . وخرَّجها ابنُ جني على أنه مصدرٌ «
آصَلَ » كضارَبَ ، أي : دَخل في الأصيل ، كأصْبَح ، أي : دخل في الصباح .
و « ظلالُهم » عطف على « مَنْ » . و « بالغُدُوِّ » متعلِّقٌ بيَسْجُد ، والباء
بمعنى في ، أي : في هذين الوقتين .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
وقرأ
الأخَوان وأبو بكر عن عاصم « يَسْتوي » بالياء من تحتُ ، والباقون بالتاء من فوق ،
والوجهان واضحان باعتبار أنَّ الفاعلَ مجازيٌّ التأنيث ، فيجوز في فِعْله التذكيرُ
والتأنيثُ ، كنظائرَ له مرَّتْ .
وقوله : « أَمْ هَلْ » هذه « أم » المنقطعةُ ، فتتقدَّر ب « بل » والهمزةِ عند
الجمهور ، و ب « بل » وحدَها عند بعضهم ، وقد تقدَّم ذلك محرِّراً ، وقد
يَتَقَوَّى بهذه الآيةِ مَنْ يرى تقديرَها ب « بل » فقط بوقوع « هَل » بعدها ، فلو
قَدَّرْناها ب « بل » والهمزةِ لزم اجتماعُ حرفَيْ معنى ، فَتُقَدِّرها ب « بل »
وحدها ولا تقويةَ له ، فإنَّ الهمزةَ قد جامَعَتْ « هل » في اللفظ كقول الشاعر :
2850- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أهلْ رَأَوْنا بوادِي
القُفِّ ذي الأَكَمِ
فَأوْلَى أن يجامِعَها تقديراً . ولقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّمُ أنَّ « هل » هذه
استفهاميةٌ بل بمعنى « قد » ، وإليه ذهب جماعةٌ ، وإن لم يجامِعْها همزةٌ كقولِه
تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ } [ الإِنسان : 1 ] ، أي : قد أتى ، فهنا
أَوْلى ، والسماعُ قد رَوَدَ بوقوع « هل » بعد « أم » وبعدمِه . فمِنَ الأوَّلِ
هذه الآيةُ ، ومن الثاني وما بعدها مِنْ قولِه : « اَمْ جَعَلوا » ، وقد جمع
الشاعرُ أيضاً بين الاستعمالين في قوله :
2851- هل ما عَلِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبْلُها إذ نَأَتْكَ اليومَ
مَصْرومُ
أَمْ هَلْ كبيرٌ بكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَه ... إثرَ الأحبَّةِ يومَ البَيْنَ
مَشْكُومُ
/ والجملةُ من قوله : خَلَقوا « صفةٌ لشركاء .
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قوله
تعالى : { أَوْدِيَةٌ } : هو جمعُ وادٍ ، وجمعُ فاعِل على أَفْعِلَة ، قال أبو
البقاء : « شاذٌّ ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحرف ، ووجهُه : أنَّ فاعِلاً قد
جاء بمعنى فَعِيل ، وكما جاء فَعِيل وأفْعِلَة كجَرِيْب وأَجْرِبَة ، وكذلك فاعِل
» ، قلت : قد سُمع فاعِل وأفْعِلة في حرفين آخرين ، أحدُهما : قولهم : جائز
وأجْوِزَة ، والثاني : ناحِية وأَنْحِية .
قوله : « بقَدَرها » فيه وجهان ، أحدُهما « أنه متعلِّقٌ ب » سالَتْ « ، والثاني :
أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل » أَوْدية « . وقرأ العامَّةُ بفتح الدال ، وزيد
بن علي والأشهب العقيلي وأبو عمرو في روايةٍ بسكونها ، وقد تقدَّم ذلك في سورة
البقرة .
و » احتمل « بمعنى حَمَل فافْتَعَلَ بمعنى المجرد ، وإنما نكَّر الأودية وعَرَّف
السيلَ؛ لأنَّ المطر يَنْزِل في البِقاع على المناوبة ، فتسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ
دونَ بعضٍ ، وتعريفُ السيل لأنه قد فُهِم من الفعل قبله وهو » فسالَتْ « وهو لو
ذُكِرَ لكان نكرةً ، فلمَّا اُعيد اُعِيدَ بلفظِ التعريفِ نحو : » رايت رجلاً
فأكرمت الرجلَ « [ والزَّبَد : وَضَرُ الغَلَيان وخَبَثُه ] قال النابغة :
2852- فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له ... تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ
بالزَّبَدِ
وقيل : هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونحوه ، وما يرمي به [ على ] ضفَّته
من الحَباب . وقيل : هو ما يَطْرحُه الوادي إذا جاش ماؤه ، وارتفعت أمواجُه . وهي
عباراتٌ متقاربة . والزُّبَد : المستخرجُ من اللبن . قيل : مشتقٌّ مِنْ هذا
لمشابَهَتِه إياه في اللون ، ويقال : زَبَدْتُه زَبْداً ، أي : أعطيته مالاً ،
يُضرب به المثلُ في الكثرةِ ، وفي الحديث : » غُفِرَتْ له ذنوبُه وإن كانت مِثْلَ
زَبَد البحر « .
قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } هذا الجارُّ [ خبر مقدَّمٌ ، ومبتدَؤه » زَبَدٌ «
] . و » مثلُه « صفةُ المبتدأ ، والتقدير : ومن الجواهرِ التي هي كالنحاس والذهب
والفضة زَبَدٌ ، أي : خَبَثٌ مثلُه ، أي : مثلُ زَبَدِ الماء ، ووجهُ المماثلةِ :
أنَّ كلاًّ منهما ناشئٌ مِن الأَكْدار .
وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ » يُوقِدُوْن « بالياء من تحت ، أي : الناسُ ، والباقون
بالتاء مِنْ فوقُ على الخطاب .
و » عليه « متعلقٌ ب » يُوْقِدون « . وأمَّا » في النار « ففيه وجهان ، أحدُهما :
أنه متعلقٌ ب يوقِدون ، وهو قول الفارسيِّ والحوفيِّ وأبي البقاء . الثاني : أنه
متعلقٌ بمحذوف ، أي : كائناً أو ثابتاً ، قاله مكي وغيره . ومنعوا تعلُّقه ب »
يُوقِدُون « لأنهم زعموا أنه لا يُوْقَد على شيء إلا وهو في النار ، وتعليقُ حرفِ
الجر ب » يُوْقِدون « يقتضي تخصيصَ حالٍ من حالٍ أخرى . وهذا غيرُ لازمٍ . قال أبو
علي : » قد يُوْقَد على الشيء وإن لم يكنْ في النارِ ، كقولِه تعالى : {
فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين }
[
القصص : 38 ] والطِّين لم يكن فيها ، وإنما يُصيبُه لَهَبُها ، وأيضاً فقد يكونُ
ذلك على سبيلِ التوكيدِ كقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [
الأنعام : 38 ] .
قوله : « ابتغاءَ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولٌ مِنْ اجله . والثاني : أنه
مصدرٌ في موضع الحال ، أي : مُبْتَغِين حِلْية ، و « حِلْيةٍ » مفعولٌ معنىً . «
أو متاعٍ » نَسَقٌ على « حِلْيةٍ » ، فالحلْيَةُ ما يُتَزَيَّن به ، والمَتَاع :
مَا يَقْضُون به حوائِجَهم كالمَساحي من الحديد ونحوِها . و « مِنْ » في قوله : {
وَمِمَّا يُوقِدُونَ } تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ لابتداءِ الغاية ، أي :
ومنه ينشأ زَبَدٌ مثلُ زَبَدِ الماء . والثاني : أنها للتبعيضَ ، بمعنى : وبَعْضُه
زَبَدٌ .
قوله : « جُفاءً » حال . والجُفَاءُ : قال ابن الأنباري : « المتفرِّقُ » . يقال :
جَفَأَتِ الريحُ السحابَ ، أي : قَطَعَتْه وفَرَّقته . وقيل : الجُفاء : ما
يَرْمِي به السَّيْلُ . يُقال : جَفَأَتِ القِدْرُ بزَبَدِها تَجْفَأُ ، وجَفَأَ
السَّيْلُ بزَبَدِه وأَجْفَأَ وأَجْفَلَ ، وباللامِ قرأ رُؤبة بن العجاج . قال أبو
حاتم : « لا يُقرأ بقراءةِ رؤبة ، لأنه كان يأكلُ الفارَ » يعني أنه أعرابيٌّ جافٍ
. قلت : قد تقدَّم ثناءُ الزمخشري عيله أولَ البقرة ، وذِكْرُ فصاحتِه . وقد
وجَّهوا قراءَتَه بأنها مِنْ أَجْفَلَتِ الريحُ الغنمَ ، أي : فَرَّقَتْه قِطَعاً
فهي في المعنى كقراءةِ العامَّة بالهمزة .
وفي همزة « جُفاء » وجهان ، أظهرهُما : أنها أصلٌ لثبوتِها في تصاريف هذه المادةِ
كما رأيتَ . والثاني : بدلٌ من واو ، وكأنه مختارُ أبي البقاء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ
مادة جفا يَجْفو لا يليق معناها هنا ، والأصلُ عدمُ الاشتراكِ .
قوله : « كذلك يَضْرِب » / الكافُ في محلِّ نصبٍ ، أي : مثلَ ذلك الضَّرْبِ
يَضْرِب .
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قوله
تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب « يَضْرِب
» وبه بدأ الزمخشريُّ . قال : « أي : كذلك يضرب الأمثالَ للمؤمنين الذين استجابوا
، وللكافرين الذين لم يَسْتَجيبوا » . والحُسْنى صفةٌ لمصدرِ « استجابوا » ، اي :
استجابوا الاستجابةَ الحُسْنى . وقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض }
كلامٌ مبتدأٌ في ذِكْر ما أعَدَّ لغيرِ المستجيبين « . قال الشيخ : » والتفسيرُ
الأولُ أَوْلى « يعني به أنَّ » للذين « خبرٌ مقدَّم ، و » الحُسْنى « مبتدأ مؤخر
كما سيأتي إيضاحُه .
قال : » لأن فيه ضَرْبَ الأمثالِ غيرُ مقيَّدٍ بمثل هذين ، واللهُ تعالى قد ضَرَبَ
أمثالاً كثيرةً في هذين وفي غيرِهما ، ولأنَّ فيه ذِكْرَ ثواب المستجيبين ، بخلاف
قولِ الزمخشريِّ ، فكما ذَكَر ما لغير المستجيبين من العقابِ ذَكَر ما للمستجيبين
من الثَّواب ، ولأنَّ تقديرَه بالاستجابة الحُسْنَى مُشْعِرٌ بتقييدِ الاستجابة ،
ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابةِ مطلقاً ، إنما مقابلُها نفيُ الاستجابةِ الحسنى ،
واللهُ تعالى قد نفى الاستجابةِ مطلقاً ، ولأنَّه على قولِه يكون قولُه { لَوْ
أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض } مُفْلَتاً أو كالمُفْلَتِ؛ إذ يصير المعنى : كذلك
يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للمؤمنين وللكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض ، فلو كان
التركيبُ بحرفٍ رابطٍ « لو » بما قبلَها زال التفلُّت ، وأيضاً فيُوهِمُ الاشتراكَ
في الضمير ، وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً « .
قلت : قوله » لأنَّ فيه ضرْبَ الأمثال غيرُ مقيَّدٍ « ليس في قول الزمخشري ما
يقتضي التقييدَ . وقوله : » ولأنَّ فيه ذِكْرُ ثوابِ المستجيبين « إلى آخره ، ما
ذكره الزمخشري ايضاً يُؤْخذ مِنْ فحواه ثوابُهم . وقوله » واللهُ تعالى نفى
الاستجابة مطلقاً « ممنوعٌ؛ بل نفى تلك الاستجابةَ الأولى ، لا يُقال : فَثَبَتَتْ
استجابةٌ غيرُ حسنى؛ لأنَّ هذه الصفةَ لا مفهومَ لها؛ إذ الواقعُ أنَّ الاستجابةَ
لله لا تكون إلا حُسْنى . وقوله : » يصيرُ مُفْلَتاً « كيف يكون مُفْلَتاً مع قول
الزمخشري : [ كلامٌ ] مبتدأٌ في ذِكْر ما أعدَّ لهم؟ وقوله : » وأيضاً فيوهِمُ
الاشتراك « كيف يُتَوَهَّمُ هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله » وإنْ كان
تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً « فإذا عُلِم كيف يُتوَهَّم؟
والوجه الثاني : أن يكونَ » للذين « خبراً مقدَّماً ، والمبتدأ » الحُسْنَى « ، و
{ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأٌ ، وخبرُه الجملةُ الامتناعيةُ بعده . ويجوز
على الوجه الأول أن يكون { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأً ، وخبره الجملةُ
الامتناعية بعده ، وإنما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا ، لانتفاعِهم دونَ
غيرِهم .
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
قوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ } كقولِه : « أَفَلَمْ » وقد تقدَّم تقريرُ القولين فيه ، ومذهب الزمخشري فيه بُعْدٌ هنا .
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
قوله تعالى : { الذين يُوفُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لأولِي أو بدلاً منه أو بياناً له ، أو مرفوعاً على إضمار مبتدأ ، أو منصوباً على إضمار فِعْلٍ ، كلاهما على المدح ، أو هو مرفوعٌ بالابتداء ، وما بعده عطفٌ عليه . و { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } خبره .
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
قوله
تعالى : { ابتغاء وَجْهِ } يجوز أن يكونَ مفعولاً له وهو الظاهرُ ، وأن يكونَ
حالاً ، أي : مُبْتَغِين ، والمصدرُ مضافٌ لمفعوله .
قوله : { عقبى الدار } يجوز أن يكونَ مبتدأً ، خبرُه الجارُّ قبله ، والجملةُ خبرُ
« أولئك » ، ويجوز أنْ يكونَ « لهم » خبرَ « أولئك » و « عُقْبى » فاعلٌ
بالاستقرار .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
قوله
تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } : يجوز أن يكون بدلاً مِنْ « عقبى » ، وأن يكونَ
بياناً ، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون مبتدأً خبرُه « يَدْخُلونها » وقرأ
النخعيُّ « جنةُ » بالإِفراد . وتقدَّم الخلافُ في « يَدْخُلونها » .
والجملةُ مِنْ « يَدْخُلونها » تحتمل الاستئنافَ او الحاليةَ المقدرةَ .
قوله : { وَمَنْ صَلَحَ } يجوز أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على الواو ، وأغنى الفصلُ
بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل ، وأن يكونَ منصوباً على المفعولِ معه ، وهو
مرجوحٌ .
وقرأ ابن أبي عبلة « صَلُحَ » بضم اللام ، وهي لغةٌ مَرْجوحة .
قوله : { مِنْ آبَائِهِمْ } في محلِّ الحال مِنْ { وَمَنْ صَلَحَ } و « مِنْ »
لبيان الجنس . وقرأ عيسى الثقفي « وذُريَّتِهم » بالتوحيد .
قوله : « سلامٌ » الجملةُ محكيَّةٌ بقولٍ مضمر ، والقولُ المضمرُ حالٌ مِنْ فاعلِ
« يَدْخُلون » ، أي : يَدْخُلون قائلين .
/ قوله : « بما صَبَرتم » متعلِّقٌ بما تعلَّق به « عليكم » ، و « ما » مصدريَّةٌ
، أي : بسبب صَبْركم . ولا يتعلَّقُ ب « سلامٌ » لأنه لا يُفْصَل بين المصدرِ
ومعمولِه بالخبر .
قاله أبو البقاء . وقال الزمخشري : « ويجوز أن يتعلَّق ب » سلام « ، أي : نُسَلِّم
عليكم ونُكْرمكم بصبركم » ، ولمَّا نقله عنه الشيخ لم يَعْترض عليه بشيء .
والظاهرُ أنه لا يُعْترَض عليه بما تقدَّم؛ لأنَّ ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري
، وفعل ، وهذا المصدرُ ليس من ذلك . والباءُ : إمَّا سببيَّةٌ كما تقدَّم ، وإمَّا
بمعنى بَدَل ، أي : بَدَلَ صبركم ، أي : بما احتملتم مَشاقَّ الصبر . وقيل : « بما
صَبَرْتُم » خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا الثوابُ الجزيل بما صبرتم .
وقرأ الجمهور « فنِعْمَ » بكسرِ النونِ وسكونِ العين ، وابن يعمر بالفتحِ والكسر ،
وقد تقدَّم أنها الأصلُ كقوله :
2538- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَعِمَ السَّاعُون في
القومِ الشُّطُرْ
وابنُ وثاب بالفتح والسكون ، وهي تخفيفُ الأصلِ ، ولغةُ تميم تسكينُ عينِ فَعِل
مطلقاً . والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ، أي : الجنة .
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
قوله تعالى : { والذين يَنقُضُونَ } : مبتدأ ، والجملة مِنْ قوله : { أولئك لَهُمُ اللعنة } خبرُه . والكلامُ في اللعنةِ كالكلامِ في { لَهُمْ عقبى الدار } [ الرعد : 22 ] .
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
وقرأ
زيدُ بنُ عليّ « ويَقْدُر » بضم العين .
قوله « وفَرِحوا » هذا استئنافُ إخبار . وقيل : بل [ هو عطفٌ على صلةِ « الذين » ]
قبله . وفيه نظرٌ : من حيث الفصلُ بين أبعاضِ الصلةِ بالخبر ، وأيضاً فإنَّ هذا
ماضٍ وما قبله مستقبلٌ ، ولا بد من التوافق في الزمان ، إلا أن يُقال : المقصودُ
استمرارُهم بذلك ، وإنَّ الماضي متى وقع صلةً صَلَحَ للمُضِيِّ والاستقبال .
قوله : { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة } ، أي : في جنب الآخرة . وهذا الجارُّ
في موضع الحال تقديرُه : وما الحياةُ القريبةُ كائنةً في جنب الآخرة إلا متاعٌ ،
ولا يجوز تعلُّقُه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان في الآخرة .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
والضميرُ في « عليه » عائدٌ على الله تعالى ، أي : إلى دينِهِ وشَرْعه . وقيل : على الرسول . وقيل : على القرآن .
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
قوله
تعالى : { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ } يجوز فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن
يكون مبتدأً خبرُه الموصولُ الثاني ، وما بينهما اعتراضٌ . [ الثاني : أنه بدلٌ ]
مِنْ « مَنْ أناب » . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ له . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ
. أنه منصوبٌ بإضمارِ فعل .
قوله : { بِذِكْرِ الله } يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب « تطمئنُّ » فتكون الباءُ سببيةً ،
أي : بسبب ذِكْرِ الله . وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكونَ مفعولاً به ، أي :
الطمأنينةُ تَحْصُل بذكْر الله ، الثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ
» قلوبُهم « أي : تطمئنُّ وفيها ذِكْرُ اللهِ » .
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قوله
تعالى : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } : فيه أوجه : أن يكونَ بدلاً من « القلوبُ
» على حَذْفِ مضاف ، أي : قلوب الذين آمنوا ، وأن يكونَ بدلاً مِن « مَنْ أناب » ،
وهذا على قولِ مَنْ لم يجعلِ الموصولَ الأول بدلاً مِن « مَنْ أناب » ، وإلا كان
يَتَوالَى بدلان . وأن يكونَ مبتدأً ، و « طُوْبَى لهم » جملةٌ خبرية ، وأن يكونَ
خبرَ مبتدأ مضمر . وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ . والجملةُ مِنْ « طُوبَى لهم »
على هذين الوجهين حالٌ مقدَّرة ، العاملُ فيها « آمَنُوا وعَمِلوا » .
وواوُ « طُوبَى » منقلبةٌ عن ياءٍ لأنها من الطِّيب ، وإنما قُلِبَتْ لأجلِ الضمة
قبلها كمُوسِر ومُوْقِن من اليُسْر واليقين . واختلفوا فيها : فقيل : هي اسمٌ
مفردٌ مصدر كبُشْرى ورُجْعى ، مِنْ طاب يطيب . وقيل : بل هي جمعُ « طَيِّبة » كما
قالوا : كُوْسَى في جمع كَيِّسَة ، وضُوْقَى في جمع ضَيِّقة . ويجوز أن يقال : «
طِيْبى » بكسر الفاء وكذلك الكِيْسَى والضِيقَى . وهل هي اسمٌ لشجرةٍ بعينِها أو
اسمٌ للجنة بلغةِ الهند أو الحبشة؟ خلافٌ مشهور .
وجاز الابتداءُ ب « طُوبَى » : إمَّا لأنها عَلَمٌ لشيءٍ بعينه ، وإمَّا لأنها
نكرةٌ في معنى الدعاء كسَلام عليك ووَيْل له ، كذا قال سيبويه . وقال ابن مالك : «
إنه يُلزم رَفْعُها بالابتداء ، ولا تدخُلُ عليها نواسِخُه » . وهذا يَرُدُّ عليه
: أنَّ بعضَهم جعلها في الآيةِ منصوبةً بإضمارِ فِعْلٍ ، أي : وجَعَلَ لهم طُوْبَى
، وقد يَتَأَيَّد ذلك بقراءةِ عيسى الثقفي « وحُسْنَ مآب » بنصب النون . قال : «
إنه معطوفٌ على » طُوْبَى « ، وإنها في موضع نَصْبٍ » . قال ثعلب : « وطُوْبَى على
هذا مصدرٌ كما قالوا : سُقْياً » . وخَرَّج هذه القراءةَ صاحبُ « اللوامح » على
النداء ك { ياأسفى } [ يوسف : 84 ] على الفَوْت ، يعني أنَّ « طُوْبَى » تضاف
للضمير ، واللام/ مقحمةٌ ، كقوله :
2845- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً
لأقوامِ
و [ قوله ] :
2855- يا بُوسَ للحَرْبِ التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
ولذلك سقط التنوينُ مِنْ « بؤس » كأنه قيل : يا طِيْباهم ، أي : ما أَطيبَهم
وأحسنَ مآبَهم . قال الزمخشري : « ومعنى طُوْبَى لك : أَصَبْتَ خيراً وطِيباً ،
ومحلُّها النصبُ أو الرفع كقولك : طِيباً لك وطِيبٌ لك ، وسلاماً لك ، وسلامٌ لك ،
والقراءةُ في قوله : » وحُسن مآب « بالنصب والرفع تدلُّك على مَحَلَّيْها ،
واللامُ في » لهم « للبيان ، مثلها في » سَقْياً لك « . فهذا يدلُّ على أنها تتصرَّفُ
ولا تلزم الرفعَ بالابتداء .
وقرأ مَكْوَزَةُ الأعرابي » طِيْبَى « بكسرِ الطاء لِتَسْلَمَ الياءُ نحو : بِيْض
ومَعِيْشة .
وقُرِئ » وحُسْنَ مآبٌ « بفتح النون ورفع » مآب « على أنه فعلٌ ماضٍ ، أصلُه »
حَسُن « فَنُقِلَت ضمةُ العينِ إلى الفاءِ قَصْداً للمدح ، كقولهم :
2856- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
. حُسْنَ ذا أَدَبا
و » مَآبٌُ « فاعلُه .
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قوله
تعالى : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } : الكافُ في محلِّ نصبٍ كنظائرها . قال
الزمخشري : « مثلَ ذلك الإِرسالِ أَرْسلناك ، يعني : ارسلناك إرسالاً له شأن » .
وقيل : الكافُ متعلِّقةٌ بالمعنى الذي في قوله { إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ
ويهدي } [ الرعد : 27 ] ، أي : « كما أنفذ اللهُ هذا كذلك ارسلناك » . وقال ابن
عطية : « الذي يظهر لي أن المعنى : كما أَجْرَيْنا العادةَ بأنَّ الله يُضِلُّ
ويَهْدِيْ لا الآياتِ المقترحةَ ، فكذلك أيضاً فَعَلنا في هذه الأمَّةِ :
أرسَلْناك إليها بوحيٍ لا بآيات مقترحة » .
وقال أبو البقاء : « كذلك » [ التقديرُ : ] الأمر كذلك فجعلها في موضعِ رفعٍ .
وقال الحوفي : « الكافُ للتشبيه في موضع نصب ، أي : كفِعْلِنا الهدايةَ والإِضلال
» . والإِشارةُ ب « ذلك » إلى ما وَصَفَ به نفسَه مِنْ أنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ
يشاء ويَهْدِي مَنِ يشاء .
قوله : { قَدْ خَلَتْ } جملةٌ [ في محلِّ جرٍّ صفةً ] . و « للتلُوَ » متعلِّقٌ ب
« أَرْسَلْناك » .
قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً وأن تكونَ
حاليةً ، والضميرُ في « وهم » عائدٌ على « أمة » من حيث المعنى ، ولو عاد على
لفظِها لكان التركيبُ « وهي تكفر » . وقيل : الضميرُ عائدٌ على « أمَّة » وعلى «
أُمَم » . وقيل : على الذين قالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ } [ الرعد : 27 ] .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قوله
تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } : جوابُها محذوفٌ ، أي : لكان هذا القرآنُ ،
لأنه في غاية ما يكونُ من الصحة . وقيل : تقديرُه : لما آمنوا . ونُقِل عن الفراء
أنَّ جوابَ « لو » هي الجملة مِنْ قولِه { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } ففي الكلامِ
تقديمٌ وتأخيرٌ ، وما بينهما اعتراضٌ . وهذا في الحقيقة دالٌّ على الجوابِ . وإنما
حُذِفَت التاءُ في قوله « وكُلِّم به المَوْتى » وثَبَتَتْ في الفعلَيْن قبله لأنه
من باب التغليب؛ لأنَّ « المَوْتى » يشمل المذكرَ والمؤنث .
قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين } أصلُ اليَأْسِ : قَطْعُ الطمعِ عن الشيء
والقُنوطُ فيه . واختلف الناسُ فيه ههنا : فقال بعضهم : هو هنا على بابه ، والمعنى
: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش ، وذلك أنَّهم لَمَّا
سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الايات ليؤمِنَ الكفار ،
وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال : أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم ، قاله الكسائي .
وقال الفراء : « أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً
فقال : أفلم يَيْئسوا عِلْماً ، يقول : أَيْئَسهم العِلْم مضمراً ، كما تقول في
الكلام : يَئِست منك أن لا تفلح ، كأنه قال : عَلِمه علماً » ، قال : فيَئِسَتْ
بمعنى عَلِمَت ، وإنْ لم يكنْ قد سمع ، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل « .
وقال ابن عطية : » ويحتمل أن يكونَ « اليأسُ » في هذه الآية على بابه ، وذلك : أنه
لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } على التأويلين في
المحذوفِ المقدَّر قال في هذه : أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً
منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً « .
وقال الزمخشري : » ويجوز أن يتعلَّقَ { أَن لَّوْ يَشَآءُ } بآمَنوا على : أولم
يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ
جميعاً ولهداهم « وهذا قد سبقه إليه أبو العباس .
وقال الشيخ : » ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه : وهو أنَّ الكلامَ
تامٌّ عند قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } وهو تقريرٌ ، أي : قد يَئِس
المؤمنون من إيمان المعاندين ، و { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ
، أي : وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ
« أنْ » مع « لو » ، كقولِ الشاعر :
2857- أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً ... وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ
وقول الآخر :
2858- فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ ... لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وقد ذكر سيبويه أنَّ « أنْ » تأتي بعد القَسَم ، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم
بالجملة المُقْسَمِ عليها .
وقال بعضُهم : « بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن . قال القاسم بن معن وهو من
ثقاتِ الكوفيين : » هي لغة هوازن « .
وقال
ابن الكلبي : « هي لغةُ حيّ من النَّخَع ، ومنه قولُ رباح بن عدي :
2859- ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ ... وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقول سحيم :
2860- أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني ... ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ
زَهْدَمِ
وقول الآخر :
2861- حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا ... غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها
وردَّ الفراء هذا وقال : » لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ « . ورُدَّ عليه :
بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن
عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد
وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة : » أو لم يتبيَّنْ « ،
مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه . وقد افترى مَنْ قال : » إنما كتبه الكاتب وهو
ناعِسٌ ، وكان أصله « أفلم يتبيَّن » فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين «
.
قال الزمخشري : » وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [ كتاب الله الذي لا
يأتيه ] الباطلُ مِنْ [ بينِ ] يديه ولا مِنْ خلفِه ، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى
بين دَفَتَيْ الإِمام ، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في
دين الله ، المهيمنين عليه ، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه ، خصوصاً عن
القانون الذي إليه المرجعُ ، والقاعدةُ التي عليها المبنى ، هذه واللهِ فِرْيَةٌ ،
ما فيها مِرْيَةٌ « . وقال الزمخشري أيضاً : » وقيل : إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى
العِلْم ، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في
معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك « .
ويُحتمل في » أَنْ « قولان ، أحدُهما : أنها المخففةُ من الثقيلة فاسمُها ضميرُ
الشأنِ ، والجملةُ الامتناعيةُ بعدها خبرُها ، وقد وقع الفصلُ ب » لو « ، و » أنْ
« وما في حَيِّزها إن عَلَّقْناها ب » آمنوا « تكونُ في محلِّ نصبٍ أو جَرّ على
الخلاف بين الخليلِ وسيبويه ، إذ أصلُها الجرُّ بالحرفِ ، أي : آمَنوا بأن لو
يشاءُ الله ، وإن عَلَّقْناها ب » يَيْئَس « على أنه بمعنى » عَلِمَ « كانت في
محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ المفعولين .
والثاني : أنها رابطةٌ بين القًسَمِ والمُقْسِمِ عليه كما تقدم .
قوله : { أَوْ تَحُلُّ } يجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الخطاب [ أي : ] أو تَحُلُّ
أنت يا محمدُ ، وأن يكونَ ضميرَ القارعة ، وهذا أَبْيَنُ ، أي : تُصيبهم قارِعَةٌ
، أو تَحُلُّ القارعة .
وقرأ ابن جبير ومجاهد » يَحُلُّ « بالياء مِنْ تحتُ ، والفاعلُ على ما تقدم :
إمَّا ضميرُ القارعة ، وإنما ذكَّر الفعلَ لأنها بمعنى العذاب ، أو لأن التاءَ
للمبالغة ، والمرادُ قارِع ، وإمَّا ضميرُ الرسول ، أتى به غائباً . وقرآ أيضاً »
مِنْ ديارهم « وهي واضحة .
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
قوله
تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } : « مَنْ » موصولةٌ ، صلتُها « هو قائم »
والموصولُ مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه : كمَنْ ليس كذلك مِنْ
شركائِهم التي لا تَضُرُّ ولا تنفع . ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه { وَجَعَلُواْ
للَّهِ شُرَكَآءَ } ونحوُه قولُه تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ
لِلإِسْلاَمِ } [ الزمر : 22 ] تقديره : كَمَنْ قَسا قلبُه ، يَدُلُّ عليه {
فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله } وإنما حَسَّن حَذْفَه
كونُ الخبرِ مقابلاً للمبتدأ . وقد جاء منفياً كقولِه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن
لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] .
قوله : { وَجَعَلُواْ } يجوز أن يكونَ استئنافاً وهو الظاهرُ ، جيءَ به للدلالةِ
على الخبرِ المحذوفِ كما تقدم تقريرُه . وقال الزمخشري : « ويجوز أَن يُقَدَّر ما
يقع خبراً للمبتدأ ، ويُعْطَفَ عليه و » جعلُوا « ، وتمثيلُه : أفَمَنْ هو بهذه
الصفةِ لم يوحِّدوه ، / وجعلوا له وهو اللهُ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه شركاءَ .
قال الشيخ : » وفي هذا التوجيهِ إقامةُ الظاهر مُقامَ المضمر في قوله « وجعلوا لله
: أي له » ، وفيه حَذْفُ الخبرِ عن المقابل ، وأكثرُ ما جاء هذا الخبرُ مقابلاً «
. وقيل : الواو للحال والتقدير : اَفَمَنْ هو قائمٌ على نفسٍ موجودٌ ، والحالُ
أنهم جعلوا له شركاءَ ، فَأُقيم الظاهرُ -وهو الله- مُقامَ المضمرِ ، تقريراً
للإِلهية وتصريحاً بها .
وقال ابن عطيَّة : » ويظهر أن القولَ مرتبطٌ بقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ
شُرَكَآءَ } كأن التقديرَ : أَفَمَنْ له القدرةُ والوحدانيةُ ، ويُجْعَلُ له شريكٌ
، أَهْلٌ أن ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا « . وقيل : » وجعلوا « عطفٌ على » استُهزِئ «
بمعنى : ولقدِ استهزَؤُوا وجعلوا .
وقال أبو البقاء : » وهو معطوفٌ على « كَسَبَت » ، أي : وبجَعْلِهم لله شركاءَ « .
قوله : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أم هذه منقطعةٌ مقدَّرةٌ ب » بل « والهمزةِ ،
والاستفهامُ للتوبيخ : بل أتُنَبِّئونه شركاء لا يعلمهم في الأرض ، ونحوُه : {
قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [
يونس : 18 ] ، فجعل الفاعلَ ضميراً عائداً على الله ، والعائدُ على » ما « محذوفٌ
، تقديرُه : بما لا يعلمُهُ اللهُ ، وقد تقدَّم في تلك الآيةِ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ
يعودُ على » ما « وهو جائزٌ هنا أيضاً .
قوله : { أَم بِظَاهِرٍ } الظاهرُ أنها منقطعة . و » الظاهر « هنا قيل : الباطلُ .
وأنشدوا :
2862- أَعَيَّرْتَنا ألبانَها ولحومَها ... وذلك عارٌ يا بنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ
أي باطِلٌ ، وفَسَّره مجاهدٌ » بكذبٍ « وهو موافقٌ لهذا . وقيل : » أم « متصلةٌ ،
أي : اتنبئونه بظاهرٍ لا حقيقةَ له .
قوله : { وَصُدُّواْ } قرأ الكوفيون » وصُدُّوا « مبنياً للمفعول ، وفي غافر {
وَصُدَّ عَنِ السبيل } [ الآية : 37 ] كذلك . وباقي السبعة مبنيِّين للفاعل . و »
صَدَّ « جاء لازماً ومتعدياً فقراءةُ الكوفةِ من المتعدِّي فقط ، وقراءةُ الباقين
تتحمل أن يكونَ من المتعدِّي ومفعولُه محذوفٌ ، أي : وصَدُّوا غيرَهم أو أنفسَهم ،
وأن يكونَ مِنَ اللازم ، أي : أَعْرَضوا وتَوَلَّوا .
وقرأ ابنُ وثاب » وصِدُّوا « و { وصِدَّ عن السبيل } بكسرِ الصاد ، وهو مبنيٌّ
للمفعول ، اجراه مُجْرى قِيْل وبِيْع ، فهو كقراءة { رِدَّت إلينا } ، [ وقوله : ]
2863- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلَمائِنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقد تقدم .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قوله
تعالى : { مَّثَلُ الجنة } : مبتدأ ، وخبرُه محذوفٌ تقديره : فيما قَصَصْنا ، أو
فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة ، وعلى هذا فقولُه { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأنهار } تفسيرٌ لذلك المَثَل . وقال أبو البقاء : « فعلى هذا » تَجري « » حالٌ
من العائدِ المحذوف في « وُعِد » ، أي : وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها «
. ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله » تجري « . قال : » وهذا خطأٌ عند البصريين
« . قال : » لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ ، وإنما هو من صفاتِ
المضافِ إليه ، وشُبْهَتُه : انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه « صِفَةُ
زيدٍ أنه طويلٌ » ، ويجوز أن يكونَ « تجري » مستانَفاً « .
قلت : وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ : ونَقَل غيرُه عن الفراء
في الآية تاويلين آخرين ، أحدُهما : على حذف لفظةِ » أنَّها « والأصلُ : صفةُ
الجنَّة أنها تجري ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، وكيف يَحْذِفُ » أنها « من
غير دليلٍ . والثاني : أنَّ لفظةَ » مثل « زائدةٌ ، والأصل : الجنة تجري مِنْ
تحتِها الأنهار ، وزيادةُ » مَثَل « كثيرةٌ في لسانِهم . ومنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ } [ البقرة :
137 ] وقد تقدَّم .
وقال الزمخشري : » وقال غيرُه : -أي سيبويه - الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار
} كما تقول : صفةُ زيدٍ أسمرُ « . قال الشيخ : » وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ «
تَجْري » خبراً عن الصفةِ ، ولا « أسمر » خبراً عن الصفة ، وإنما يُتَأَوَّل «
تجري » على إسقاطِ « أنْ » ورفعِ الفعل ، والتقدير : أَنْ تَجْري ، أي :
جَرَيانُها .
وقال الزجَّاج : « مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري ، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما
غاب عنَّا بما نشاهده » . ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال : « لا يَصِحُّ ما قال الزجاج
، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ
ولا تكونُ الصفة ، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو
حَدَثٌ ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا
بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ ، فهو كقولِه تعالى : { وَلِلَّهِ المثل
الأعلى } [ النحل : 60 ] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة ، وقال : معناه
الشبه .
وقرأ عليٌّ وابن مسعود » أمثال الجنة « ، أي : صفاتها .
و { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } كقوله » تَجْرِي « في الاستئناف التفسيري أو الخبرية أو
الحالية . وقد تقدَّم خلافُ القرَّاءِ فيه في البقرة » .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قوله تعالى : [ { ولا أُشْرِكَ } ] : قرأ نافع في روايةٍ عنه برفع { ولا أُشْرِكُ } وهي تحتمل القطع ، أي : وأنا لا أُشْرِك ، وقيل : هي حالٌ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المنفيَّ ب « لا » كالمُثْبِتِ في عدمِ مباشرة واوِ الحال له .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
و { حُكْماً } حال/ من مفعولِ « أنزلناه » . والكاف في « كذلك » نصب ، أي : وكما يَسَّرنا هؤلاء للفرحِ ، وهؤلاء لإِنكار البعضِ كذلك اَنْزَلْناه حُكْماً .
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ كثيرٍ وعاصمٌ : « ويُثْبتُ » مخففاً مِنْ اَثْبَتَ ، والباقون بالتشديد والتضعيف ، والهمزةُ للتعدية . ولا يَصِحُّ ان يكونَ التضعيفُ للتكثير ، إذ من شرطِه أن يكون متعدياً قبل ذلك . ومفعولُ « يُثْبِتُ » محذوفٌ ، أي : ويُثْبِتُ ما يشاء .
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قوله تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } : جوابٌ للشرط قبله . قال الشيخ : « والذي تقدَّم شرطان؛ لأنَّ المعطوفَ على الشرط شرطٌ : فامَّا كونُه جواباً للشرط الأول فليس بظاهرٍ؛ لأنه لا يترتَّب عليه؛ إذ يصير المعنى : وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ ما نَعِدُهم من العذاب فإنَّما عليك البلاغُ ، وأمَّا كونُه جواباً للشرطِ الثاني وهو { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } فكذلك؛ لأنه يصير التقدير : إنْ ما نَتَوَفَّيَنَّك فإنَّما عليك البلاغُ ، ولا يترتَّب جوابُ التبليغِ عليه - على وفاتِه عليه السلام - لأنَّ التكليفَ ينقطعُ عند الوفاة فيُحتاج إلى تأويل : وهو أنْ يُقَدَّرَ لكلِّ شرطٍ ما يناسبُ أَنْ يكون جزاءً مترتباً عليه ، والتقدير : وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذلك شافيك مِنْ أعدائك ، أو : إنْ نَتَوَفَّيَنَّك قبل خَلْقِه لهم فلا لَوْمَ عليك ولا عَتَبَ » .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
قوله
تعالى : { نَنقُصُهَا } : حال : إمَّا مِنْ فاعل « نأتي » أو مِنْ مفعوله . وقرأ «
نُنَقِّصُها » بالتضعيف الضحَّاكُ ، عدَّاه بالتضعيف .
قوله : { لاَ مُعَقِّبَ } جملةٌ حالية ، وهي لازمةٌ . والمُعَقِّبُ : الذي يكُرُّ
على الشيء ، فيُبْطله . قال لبيد .
2864- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... طَلَبُ
المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
قوله تعالى : { وَسَيَعْلَمُ } قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون « الكفَّار » جمعَ تكسير ، والباقون « الكافر » بالإِفراد ، ذهاباً إلى الجنس . وقرأ عبد الله « الكافرون » جمعَ سلامةٍ .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قوله
تعالى : { وَمَنْ عِندَهُ } : العامَّة [ على فتح ميم ] « مَنْ » ، وهي موصولةٌ ،
وفي محلِّها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ ، أي
: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه . والثاني : أنها في
محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [ الجلالة ، إذ هي ] فاعلةٌ ، والباءُ زائدةٌ فيها .
الثالث : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه محذوف ، أي : ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ
وأمضى قولاً .
و { عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً ، و « عِلْمُ » فاعلٌ به .
واختاره الزمخشري ، وتقدَّم تقريرُه ، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ ،
والجملةُ صلةٌ ل « مَنْ » .
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب : إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى .
قال ابن عطية : « ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز
، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ » . واعترض الشيخُ عليه بأنَّ « مَنْ » لا يُوصَفُ بها
ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني ، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على
بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف .
قلت : ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ
فمعلومٌ .
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة
والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب }
جعلوا « مِنْ » حرفَ جرّ ، و « عندِه » مجرورٌ بها ، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ
، و « عِلْم » مبتدأ مؤخر . وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع { وَمَنْ
عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجعلون « مِنْ » جارَّةً ، و « عُلِمَ » مبنياً للمفعول ،
و « الكتابُ » رفعٌ به . وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد « عُلِّم » . والضمير في «
عنده » على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط . وقُرئَ أيضاً « وبمَن » بإعادةِ الباءِ
الداخلةِ على الجلالة .
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
قوله
تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } : يجوزُ أَنْ يرتفعَ خبراً ل « ألر »
إن قلنا إنها مبتدأٌ ، والجملةُ بعده صفةٌ ، ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي
: هذا كتابٌ ، وأن يرتفعَ بالابتداء ، وخبرُه الجملةُ بعده ، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ
لأنها موصوفةٌ تقديراً . تقديره : كتابٌ أيُّ كتابٍ ، يعني عظيماً مِنْ بينِ
الكتبِ السماوية .
قوله : « لِتُخْرِجَ » متعلقٌ ب « أَنْزَلْنا » وقُرِئَ « ليَخْرج الناسُ » بفتح
الياء وضمَِّ الراء مِنْ خَرَجَ يَخْرُج ، « الناس » رفعاً على الفاعلية .
قوله : « بإذنِ » يجوز أن يتعلَّقَ بالإِخراج ، أي : بتسهيله وتيسيرِه ، ويجوز أَن
يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ « تُخْرِجَ » ، أي : مأذوناً لك .
قوله : { إلى صِرَاطِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من قوله { إِلَى النور }
بإعادةِ العامل ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالجارِّ لأنه من معمولاتِ العاملِ في
المُبْدَلِ منه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه جوابُ سؤالٍ مقدَّر ،
كأنه قيل : إلى أيِّ نور؟ إلى صراط .
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
قوله
تعالى : { الله الذي } : قرأ نافعٌ وابن عامرٍ برفعِ الجلالةِ والباقون - ورواها
الأصمعيُّ عن [ نافع ] - بالجرِّ .
فأمَّا الرفعُ فعلى وجهين ، أحدُهما : أنه مبتدأٌ ، خبرُه الموصولُ بعده ، أو
محذوفٌ تقديرُه : اللهُ الذي له ما في السماواتِ وما في الأرضِ العزيزُ الحميد ،
حُذِف لدلالة ما تقدَّم . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو اللهُ ، وذلك
على المدح .
وأمَّا الجرُّ فعلى البدلِ عند أبي البقاء والحوفي وابنِ عطية ، والبيان عند
الزمخشري قال : « لأنه جَرَى مَجْرَى الأسماءِ الأعلام لغلبتِه على المعبودِ بحق
كالنجم للثريا » . قال الشيخ : « وهذا التعليلُ لا يتمُّ إلا أن يكونَ أصلُه
الإِله ، ثم فُعِل فيه ما تقدَّم أولَ هذا الموضوع » . وقال الأستاذ ابن عصفور : «
ولا تُقََدَّمُ صفةٌ على مَوصوفٍ إلا حيث سُمِع ، وهو قليلٌ ، وللعربِ فيه وجهان ،
أحدُهما : أنْ تتقدَّمَ الصفةُ بحالها ، وفيه إعرابان للنحويين ، أحدُهما : أن
تُعْرَبَ صفةً متقدمةً . والثاني : أن يُجعل/ الموصوفُ بدلاً من صفتِه . الثاني من
الأولين : أن تُضيفَ الصفةَ إلى الموصوف . فعلى هذا يجوز أن يُعْرَبَ { العزيز
الحميد } صفةً متقدِّمة ، ومِنْ مجيء تقديمِ الصفةِ قولُه :
2865- والمُؤْمِنِ العائذاتِ الطيرِ يَمْسَحُها ... رُكْبانُ مكةَ بين الغِيل
والسَّنَدِ
وقول الآخر :
2866- وبالطويل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً ... يريد : الطير العائذات ، وبالعمر
الطويل . قلت : وهذا فيما لم يكنِ الموصوفُ نكرةً ، أمَّا إذا كان نكرةً صار لنا
عملٌ آخرُ : وهو أن تنتصبَ تلك الصفةُ على الحال .
قوله : { وَوَيْلٌ } جاز الابتداءُ به لأنه دعاء ك » سلامٌ عليكم « . و » للكافرين
« خبره . و { مِنْ عَذَابٍ } متعلِّقٌ بالويل . ومنعه الشيخ . لأنه يَلْزَمُ منه
الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه ، وقد تقدَّم لك بحثٌ في ذلك : وهو أنَّ ذلك ممنوعٌ
حيث يتقدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ ، ولذلك جَوَّزوا تعلُّقَ { بِمَا
صَبَرْتُمْ } [ الرعد : 24 ] ب » سلام « ولم يَعْترضوا عليه بشيء ، وقد تقدَّم ذلك
في السورةِ قبلها ، ولا فرقَ بين الموضعين .
وقال الزمخشريُّ : » فإنْ قلتَ : ما وجهُ اتصالِ قولِه : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }
بالويل؟ قلت : لأنَّ المعنى يُوَلْوِلون من عذاب شديد « . قال الشيخ : » فظاهره
يدلُّ على تقدير عاملٍ يتعلَّقُ به { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } . ويجوز أنْ يتعلَّقَ
بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للمبتدأ ، وفيه سَلامةٌ من الاعتراضِ المتقدم ، ولا يَضُرُّ
الفصلُ بالخبر .
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قوله
تعالى : { الذين يَسْتَحِبُّونَ } يجوز أن يكون مبتدأً خبرُه « أولئك » وما بعده ،
وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم الذين ، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ على
المدح فيهما ، وأن يكون مجروراً على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ ، قاله الزمخشري
وأبو البقاء والحوفيُّ وغيرُهم . وردَّه الشيخ بأنَّ فيه الفَصْلَ بأجنبي وهو
قولُه { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال : « ونظيرُه إذا كان صفةً أن تقول : » الدارُ
لزيدٍ الحسنةُ القُرَشِيِّ : وهذا لا يجوز ، لأنك فَصَلْتَ بين زيد وصفتِه
بأجنبيٍّ منهما وهو صفةُ الدار ، وهولا يجوز ، والتركيبُ الفصيحُ أن تقول : الدارُ
الحسنةُ لزيدٍ القرشيِّ ، أو : الدارُ لزيدٍ القرشيِّ الحسنةُ « .
و » يَسْتَحِبُّون « : استفعلَ فيه بمعنى أَفْعَل كاستجاب بمعنى أجاب ، أو يكونُ
على بابه ، وضُمِّن معنى الإِيثار ، ولذلك تعدَّى ب على .
وقرأ الحسن » ويُصِدُّون « مِنْ أَصَدَّ ، وأَصَدَّ منقولٌ مِنْ صَدَّ اللازمِ ،
والمفعولُ محذوفٌ ، أي : غيرَهم ، أو أنفسَهم .
و { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } تقدَّم مثله .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
قوله
تعالى : { إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } : يجوز أن يكونَ حالاً ، أي : إلاَّ
متكلِّماً بلغةِ قومِهِ . وقرا العامَّةُ « بلسان » بزِنَةِ « كِتاب » ، أي :
بلغةِ قومِه . وأبو الجوزاء وأبو السَّمَّال وأبو عمران الجوني : بِلِسْنِ « بكسر
اللام وسكون السين . وفيه قولان ، أحدُهما : أنهما بمعنى واحدٍ كالرِّيش والرِّياش
. والثاني : أن اللسانَ يُطْلَقُ على العضوِ المعروف وعلى اللغةِ ، وأمَّا
اللِّسْنُ فخاصٌّ باللغة ، ذكره ابن عطية وصاحب » اللوامح « .
وأبو رجاء وأبو المتوكل والجحدريُّ » بِلُسُن « بضمِّ اللام والسين وهو جمع »
لِسان « ككِتاب وكُتُب . وقرئ بسكونِ السين فقط ، وهو تخفيفٌ للقراءةِ قبلَه ، نحو
: رُسُل في رُسُل ، وكُتْب في كُتُب .
والهاءُ في » قومه « الظاهرُ عَوْدُها على » رسول « المذكور . وعن الضحاك : أنها
تعودُ لمحمد صلَّى الله عليه وسلم ، وغَلَّطوه في ذلك؛ إذ يصير المعنى : أنَّ
التوراةَ وغيرَها أُنْزِلَتْ بلسان العربِ ، ليُبَيِّن لهم النبيُّ صلَّى الله
عليه وسلَّم التوراة .
قوله : { فَيُضِلُّ } استئنافُ إخبارٍ ، ولا يجوز نصبُه عطفاً على ما قبله ، لأنَّ
المعطوفَ كالمعطوف عليه في المعنى ، والرسلُ اُرْسِلَتْ للبيانِ لا للإِضلالِ .
قال الزجاج : لو قَرِئ بنصبِه على أنًّ اللامَ لامُ العاقبة جاز » .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
قوله
تعالى : { أَنْ أَخْرِجْ } : يجوز أن تكونَ « أنْ » مصدريةً ، أي : بأَنْ أخْرِجْ
. والباءُ في « بآياتنا » للحال ، وهذه للتعدية . ويجوز أن تكونه مفسرةً للرسالة .
وقيل : بل هي زائدةٌ ، وهو غلطٌ .
قوله : { وَذَكِّرْهُمْ } يجوز أن يكونَ منسوقاً على « أَخْرِجْ » فيكونَ من
التفسير ، وأن لا يكونَ منسوقاً ، فيكونَ مستأنفاً . و « أيام الله » عبارةٌ عن
نِعَمه ، كقوله :
2867- وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينا
أو نَقَمه ، كقوله :
2868- وأيامُنا مشهورةٌ في عَدُوِّنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
ووجهه : أنَّ العرب تتجوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ/ إلى الزمان مجازاً ، وتُضيفُه
إليها كقولهم : نهارٌ صائمٌ ، وليل قائمٌ ، ومَكْرُ الليلِ .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
قوله
تعالى : { إِذْ أَنجَاكُمْ } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ منصوباً
ب « نِعْمَةَ » . الثاني : أن يكونَ ب « عليكم » ويوضِّح ذلك ما ذكره الزمخشريُّ
فإنه قال : « إذ أنْجاكم ظرفٌ للنعمة بمعنى الإِنعام ، أي : إنعامه عليكم ذلك
الوقت . فإن قلت : هل يجوزُ أن ينتصِبَ ب » عليكم «؟ قلت : لا يَخْلو : إمَّا أن
يكونَ صلةً للنعمة بمعنى الإِنعام ، أو غيرَ صلة إذا أردت بالنعمة العَطِيَّة ،
فإذا كان صلةً لم يعملْ فيه ، وإذا كان غيرَ صلةٍ بمعنى : اذكروا نعمةَ الله
مستقرةً عليكم عَمِلَ فيه . ويتبيَّن الفرقُ بين الوجهين : أنك إذا قلت : {
نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } فإنْ جَعَلْتَه صلةً لم يكن كلاماً حتى تقول : فائضة
أو نحوها ، وإلاَّ كان كلاماً . والثالث : أنه بدلٌ من » نعمة « ، أي : اذكروا
وقتَ إنجائِكم وهو مِنْ بدلِ الاشتمال .
قوله : { وَيُذَبِّحُونَ } حالٌ أُخرى مِنْ { آلِ فِرْعَوْنَ } . وفي البقرة دون
واو لأنه قُصِد به التفسيرُ فالسَّوْم هنا غيرُ السَّوْمِ هناك .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ } يجوزُ أن يكونَ نِسَقاً على { إِذْ أَنجَاكُمْ } ، وأن يكونَ منصوباً ب « اذكروا » مفعولاً لا ظرفاً . وجَوَّز فيه الزمخشري أن يكون نَسَقاً على « نعمة » فهو مِنْ قولِ موسى ، والتقدير : وإذ قال موسى : اذكروا نعمةَ الله واذكروا حين تَأَذَّن . وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في الأعراف . وقرأ ابن محيصن « يَذْبَحون » مخففاً .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قوله
تعالى : { قَوْمِ نُوحٍ } : بدلٌ أو عطفُ [ بيانٍ ] .
قوله : { والذين مِن بَعْدِهِمْ } يجوز أن يكونَ عطفاً على الموصولِ الأولِ ، او
على المبدل منه ، وأن يكونَ مبتدأً ، خبرُه { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } ، و
« جاءَتْهُم » خبر آخر . وعلى ما تقدَّم يكون « لا يعلمهم » حالاً من « الذين » ،
أو من الضمير في { مِن بَعْدِهِمْ } لوقوعِه صلةً ، وهذا عنى أبو البقاء بقوله : «
حال من الضمير في { مِن بَعْدِهِمْ } ، ولا يُريد به الضميرَ المجرورَ ، لأنَّ
مذهبَه مَنْعُ الحالِ من المضاف إليه ، وإن كان بعضُهم جَوَّزه في صورٍ . وجَوَّز
أيضاً هو الزمخشري أن تكونَ استئنافاً .
وقال الزمخشري : » والجملةُ مِنْ قولِه { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراضٌ
. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاعتراضَ إنما يكون بين جُزْأَيْن أحدهما يطلب الآخر ،
ولذلك لمَّا أَعْرَبَ الزمخشريُّ « والذين » مبتدأً و « لا يَعْلمهم » خبره ، قال
: « والجملةُ مِنَ المبتدأ والخبر اعتراضٌ » . واعترضه الشيخُ أيضاً بما تقدَّم .
ويمكنُ أن يُجابَ عنه في الموضعين : بأنَّ الزمخشريَّ يمكن أن يعتقدَ أنَّ «
جاءَتْهم » حالٌ مما تقدَّم ، فيكون الاعتراضُ واقعاً بين الحالِ وصاحبِها ، وهذا
كلامٌ صحيح .
قوله : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكونَ الضمائرُ للكفَّارِ
، أي : فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواههم من الغيظ . و « في » على بابِها من
الظرفية ، أو فَرَدُّوا أيديَهم على أفواههم ضحكاً واستهزاءً . ف « في » بمعنى على
، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولِهم : إنَّا كَفَرْنا ، فهي
بمعنى إلى . ويجوز أن يكونَ المرفوعُ للكفار والآخران للرسل ، على أن يُراد
بالأيدي النِّعَم ، أي : رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُل وهي نصائحُهم في أفواهِ الرسل ،
لأنهم إذا كَذَّبوها كأنهم رَجَعوا بها من حيث جاءَتْ على سبيل المثل . [ ويجوز أن
يُراد هذا المعنى ، والمرادُ بالأيدي الجوارح ] . ويجوز أن يكون الأوَّلان للكفار
، والأخيرُ للرسُل ، أي : فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواهِ الرسُل ، أي :
أطبِقُوا أفواهَكم ، يشيرون إليهم بالسكوت ، أو وَضَعُوها على أفواههم يمنعونهم
بذلك من الكلامِ .
وقيل : « في » هنا بمعنى الباء . قال الفراء : « قد وَجَدْنَا من العرب مَنْ يجعل
» في « موضعَ الباء . يُقال : أَدْخَلَكَ بالجنَّة ، وفي الجنَّة ، وأنشَد :
2869- وأرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورَهْطِهِ ... ولكنَّني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ
أي : أرغب بها . وقال أبو عبيدةَ : » هذا ضَرْبُ مَثَلٍ ، تقول العرب : « رَدَّ
يَدَه في فيه » ، إذا أمسكَ عن الجوابِ « ، وقاله الأخفش أيضاً . وقال القتيبي : »
لم نسمعْ أحداً يقول : « رَدَّ يده في فيه » إذا تَرَكَ ما أُمِرَ به « . ورُدَّ
عليه ، فإنَّ مَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ يَحْفَظْ .
وقرأ طلحة » تَدْعُونَّا « بإدغامِ نونِ الرفع في نون الضميرِ ، كما تُدْغَم في
نونِ الوقاية .
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
قوله
تعالى : { أَفِي الله شَكٌّ } : يجوز في « شَكٌّ » وجهان ، أظهرُهما : أنه فاعل
بالجارِّ قبله ، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام . والثاني : أنه مبتدأٌ وخبره
الجارُّ ، والأولُ أوْلَى ، بل كان ينبغي أن يَتَعَيَّن لأنه يلزمُ مِنَ الثاني
الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بأجنبيّ وهو المبتدأ ، وهذا بخلاف الأول ، فإنَّ
الفاصلَ ليسَ أجنبياً؛ إذ هو فاعلٌ ، والفاعلُ كالجزء من رافعه . ويدلُّ على ذلك
تجويزُهم : « ما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد » بنصب « أحسنَ »
صفةً ورفع « الكحلُ » فاعلاً بأَفْعَلَ ، ولم يَضُرَّ الفصلُ به بين أَفْعَل وبين
« مِنْ » لكونه كالجزء مِنْ رافعِه ، ولم يُجيزوا رَفْعَ « أحسن » خبراً مقدَّماً
و « الكحلُ » مبتدأ مؤخر ، لئلا يلزم الفصلُ بين أَفْعَل وبين « مِنْ » بأجنبي .
ووجهُ الاستشهادِ من هذه المسألة : أنهم جعلوا المبتدأَ أجنبياً بخلاف الفاعل ،
ولهذه المسألةِ موضعٌ غيرُ هذا .
وقرأ العامَّةُ « فاطرِ » بالجرِّ . وفيه وجهان : النعتُ والبدليةُ ، قاله أبو
البقاء : وفيه نظر؛ فإنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ ، ولو جعله عطفَ بيانٍ كان
أسهلَ . قال الزمخشريُّ : « أُدْخِلَتْ همزةُ الإِنكارِ على الظرف ، لأنَّ الكلامَ
ليس في الشَّكِّ ، إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشكَّ لظهورِ
الأدلَّةِ وشهادتِها عليه/ .
وقوله : » لِيَغْفِرَ « اللامُ متعلِّقةٌ بالدعاء ، أي : لأجلِ غفران ربِّكم ،
كقوله :
2870- دَعَوْتُ لِما نابني مِسْور ا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
ويجوز أن تكونَ اللامُ مُعَدِّيةً كقولِك : دَعَوْتُكَ لِزيدٍ ، وقوله : { إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى [ الإيمان ] } [ غافر : 10 ] . والتقدير : يَدْعُوْكم إلى غفرانِ
ذنوبِكم .
وقوله : { أَن تَصُدُّونَا } العامَّة على تخفيفِ النون . وقرأ طلحةُ بتشديدها كما
شدَّد » تَدْعُونَّا « . وفيها تخريجان ، أحدُهما : ما تقدَّم في نظيرتِها على
أَنْ تكونَ » أَنْ « هي المخففةَ لا الناصبةَ ، واسمُها ضميرُ الشأنِ ، وشذَّ
عَدَمُ الفصلِ بينها وبين الجملة الفعلية . والثاني : أنها الناصبةُ ، ولكنْ
أُهْمِلَتْ حملاً على » ما « المصدريَّةِ ، كقراءةِ » أَنْ يُتِمُّ « برفع »
يُتِمُّ « . وقد تقدَّمَ القولُ فيه .
و » مِنْ « في { مِّن ذُنُوبِكُمْ } قيل : مزيدةٌ . وقيل : تبعيضيةٌ . وقيل :
بمعنى البدلِ أي : بدلَ عقوبةِ ذنوبكم ، كقوله : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا
مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
قوله : » تُرِيْدون « يجوز أن يكونَ صفةً ثانيةً ل » بَشَرٌ « ، وحُمِل على معناه؛
لأنَّ بمنزلةِ القومِ والرَّهْط ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن :
6 ] وأَنْ يكونَ مُسْتَأنفاً .
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ } : يجوز أن يكونَ خبرَ « كان » : « لنا » ، و { أَن نَّأْتِيَكُمْ } اسمَها ، أي : وما كان لنا إتيانُكم بسلطانٍ . و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حالٌ . ويجوز أن يكونَ الخبرُ { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } و « لنا » تبيينٌ .
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
قوله
تعالى : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ } : كقوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [
البقرة : 246 ] وقد تقدَّم و « لَنَصْبِرَنَّ » جوابُ قسمٍ . وقوله : « ما
آذَيْتُمونا » يجوز أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً ، وهو الأرجحُ لعدم الحاجةِ إلى
رابطٍ ادُّعِيَ حَذْفُه على غير قياس والثاني أنها موصولةٌ اسميةٌ ، والعائدُ
محذوفٌ على التدريج ، إذ الأصل : آذيْتُمونا به ، ثم حُذِفَت الباءُ ، فَوَصَلَ
الفعلُ إليه بنفسِه .
وقرأ الحسن بكسرِ لامِ الأمرِ في « فَلْيَتَوَكَّلْ » وهو الأصلُ .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
و
{ لَنُخْرِجَنَّكُمْ } : جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ ، كقوله : « ولَنَصْبِرَنَّ » .
قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ } في « أوْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها على بابِها
مِنْ كونِها لأحدِ الشيئين . والثاني : أنها بمعنى « حتى » . والثالث : أنها بمعنى
« إلا » ، كقولهم : « لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَني حقي » . والقولان الأخيران
مَرْدُودان؛ إذ لا يَصِحُّ تركيبُ « حتى » ولا تركيبُ « إلا » مع قولِه «
لَتَعُودُونَّ » بخلافِ المثال المتقدم .
والعَوْدُ هنا : يُحتمل أن يكونَ على بابِه ، أي : لَتَرْجِعُنَّ . و { فِي
مِلَّتِنَا } متعلقٌ به ، وأن يكونَ بمعنى الصيرورةِ ، فيكونَ الجارُّ في محلِّ
نصبٍ خبراً لها ، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه . [ قال : ] « فإنْ قلتَ : كأنَّهم
على مِلَّتهم حتى يَعُودوا فيها . قلت : مَعاذَ اللهِ ، ولكنَّ العَوْدَ بمعنى
الصيرورة ، وهو كثيرٌ في كلام العرب كثرةً فاشيةً ، لا تكاد تسمعهم يستعملون » صار
« ، ولكن » عاد « : ما عُدْتُ أراه ، عاد لا يكلمني ، ما عاد لفلان مالٌ ، أو
خاطبوا به كلَّ رسولٍ ومَنْ آمن به ، فَغَلَّبوا في الخطاب الجماعةَ على الواحد »
. فقوله « أو خاطبوا » إلى آخره هو الوجهُ الأولُ بالتأويلِ المذكورِ ، وهون
تأويلٌ حسنٌ .
قوله : { لَنُهْلِكَنَّ } جوابُ قسمٍ مضمر ، وذلك القسمُ وجوابُه فيه وجهان ،
أحدُهما : أنَّه على إضمارِ القول ، أي : قال : لَنُهْلِكَنَّ . والثاني : أنه
أجرى الإِيحاءَ مُجْرى القول لأه ضَرْبٌ منه .
وقرأ أبو حَيْوَةَ « لَيُهْلِكَنَّ » ، و « لَيُسْكِنَنَّكم » بياءِ الغَيْبة
مناسَبَةً لقوله « ربُّهم » .
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
قوله
تعالى : { ذلك } : مبتدأٌ ، وهو مُشارٌ به إلى توريثِ الأرضِ . و « لِمَنْ خاف »
الخبر . و « مَقامي » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مُقْحمٌ وهو بعيدٌ؛ إذ
الأسماءُ لا تُقْحم . الثاني : أنه مصدرٌ مضافٌ للفاعل .
قال الفراء : « مَقامي : مصدرٌ [ مضافٌ ] لفاعِله ، أي : قيامي عليه بالحِفْظ » .
الثالث : أنه اسمُ مكانٍ . قال الزجاج : « مكان وقوفِه بين يَدَي الحسابِ ، كقولِه
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ الرحمن : 46 ] .
قوله : » وَعِيْد « أثبت الياءَ هنا وفي ( ق ) في موضعين : { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل
فَحَقَّ وَعِيدِ } [ الآية : 14 ] { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [
الآية : 45 ] وصلاً وحَذَفَها وَقْفاً ورشٌ عن نافع ، وحذفها الباقون وَصْلاً
ووقفاً .
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
قوله
تعالى : { واستفتحوا } : العامَّةُ على « استفتحوا » فعلاً ماضياً ، وفي ضميرِه
أقوالٌ ، أحدُها : أنه عائدٌ على الرسلِ الكرام ، ومعنى الاستفتاحِ : الاستنصارُ :
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] . وقيل : طَلَبُ
الحكم من الفُتاحة . الثاني : أن يعودَ على الكفَّار ، أي : استفتح أُمَمُ الرسلِ
عليهم ، كقولِه : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32
] . وقيل : عائدٌ على الفريقين لأنَّ كُلاًّ طلبَ النصرَ على صاحبِه . وقيل :
يعودُ على قريشٍ لأنهم في سِنِي الجَدْبِ اسْتَمْطَرُوْا فلم يُمْطِروا ، وهو على
هذا مستأنفٌ ، وأمَّا على غيرِه من الأقوال فهو عطفٌ على قولِه { فأوحى إِلَيْهِمْ
} .
وقرأ ابنُ/ عباسٍ ومجاهدٌ وابنُ محيصن « واسْتَفْتِحوا » على لفظِ الأمر ، أمراً
للرسل بطلبِ النُّصرة ، وهي مقوِّيةٌ لعَوْدَهِ في المشهورةِ على الرسل . والتقدير
: قال لهم : لنهلكنَّ وقال لهم : اسْتَفْتِحُوا .
قوله : « وخابَ » هو في قراءةِ العامَّةِ عطفٌ على محذوفٍ تقديرُه : انتَصروا
وظَفِرُوا وخاب . ويجوز أن يكونَ عطفاً على « اسْتَفْتحوا » على انَّ الضميرَ فيه
للكفار . وفي غيرها على القولِ المحذوف ، وقد تقدَّم أنه يُعْطَفُ الطلبُ على
الخبر وبالعكس .
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
و
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } : جملةٌ في محل جَرٍّ صفةً ل « جبارٍ » . ويجوز أَنْ
تكونَ الصفةُ وحدَها الجارِّ ، و « جهنمُ » فاعلٌ به . وقوله : « ويُسْقََى » صفةٌ
معطوفةٌ على الصفةِ قبلَها ، جملةٌ فعلية على اسمية . وإنْ جَعَلْتَ الصفةَ من
الجارِّ وحدَه ، وعَلَّقْته بفعلٍ كان من عطفِ فعليةٍ على فعلية . وقيل : عطفٌ على
محذوفٍ ، أي : يُلْقَى فيها ويُسْقَى .
و « وراء » هنا على بابها . وقيل : بمعنى « أمام » فهو من الأضداد ، وهذا عنى
الزمخشري بقوله : « منْ بين يديه » وأنشد :
2871- عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه ... يكون وراءَه فَرَجٌ قريبُ
وهو قولُ أبي عبيدة وقطرب وابن جرير . وقال الآخَرُ في ذلك :
2872- أيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي ... وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائِيا
أي : قُدَّامي . وقال آخر :
2873- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي ... لُزومُ العَصَا تُحْنى عليها
الأَصابعُ
وقال ثعلب : « هو اسمٌ لِما توارَى عنك ، سواءً كان خلفَكَ أم قدَّامك » .
قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } في « صديد » ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنه نعتٌ ل «
ماء » وفيه تأويلان ، أحدهما : أنه على حَذْفِ أداة التشبيه ، أي : ماءٍ مثلِ صديد
، وعلى هذا فليس الماءُ الذي يَشْرَبونه صَديداً ، بل مثلُه . والثاني : أنَّ
الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ ، وليس هو ماءً حقيقةً ، وعلى
هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء . وهو قول ابن عطية . وإلى كونِه
صفةً ذَهَبَ الحوفيُّ وغيره . وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتقٍ ، إلا على مَنْ فسَّره
بأنه صَدِيدٌ بمعنى مَصْدود ، أخذه مِن الصَّدِّ ، فكأنه لكراهيِتِه مَصْدودٌ عنه
، أي : يَمْتنع عنه كلُّ أحدٍ .
الثاني : أنه عطفُ بيانٍ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، وليس مذهبَ البصريين جريانُه في
النكرات ، إنما قال به الكوفيون ، وتَبعهم الفارسيُّ أيضاً .
الثالث : أن يكونَ بدلاً . وأعرب الفارسيُّ « زَيتونةٍ » مِنْ قولِه : « [
بُوْقَدُ ] مِنْ شجرةٍ مباركةٍ زَيْتُونةٍ » عطفَ بيان أيضاً .
والصَّديدُ : ماءٌ يسيل مِنْ أجساد أهل النار . وقيل : ما حالَ بين الجلدِ واللحمِ
مِنَ القَيْحِ .
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قوله
تعالى : { يَتَجَرَّعُهُ } : يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً ل « ماءٍ » ، وان تكونَ
حالاً من الضمير في « يُسْقَى » ، وأن تكونَ مستأنفةً . و « تَجَرَّع » تَفَعَّل
وفيه احتمالاتٌ ، أحدُها : أنه مطاوعٌ لجَرَّعْتُه نحو : عَلَّمْتُه فَتَعَلَّمْ .
والثاني : أن يكونَ للتكلُّف نحو : تَحَلَّم ، أي ، يتكلَّفُ جَرْعَه ، ولم يذكر
الزمخشريُّ غيرَه : الثالث : أنه دالٌّ على المُهْلة نحو : فَهَّمته ، أي : يتناوله
شيئاً فشيئاً بالجَرْع ، كما يَفْهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم . الرابع : أنه بمعنى
جَرَع المجرد نحو : « عَدَوْت الشيءَ » و « تَعَدَّيْتُه » .
{ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } ، أي : لم يقارِبْ إساغَته فكيف بحصولها؟ كقوله : «
لَمْ يَكَدْ يَرَاها » وستأتي إن شاء الله .
قوله : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } في الضمير وجهان ، أظهرُهما : أنه
عائدٌ على « كل جبار » . والثاني : أنه عائدٌ على العذابِ المتقدِّمِ .
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
قوله
تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } : فيه أوجه ، أحدُها : - وهو مذهبُ سيبويه -
أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديرُه : فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الذين كفروا ،
وتكون الجملة من قوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر ،
كأنه قيل : كيف مَثَلُهم؟ فقيل : كيت وكيت . والمَثَلُ استعارةٌ للصفةِ التي فيها
غرابةٌ كقولِكََ ، صفةُ زيدٍ ، عِرْضُه مَصُونٌ ، ومالُه مبذول .
الثاني : أن يكونَ « مَثَلَ » مبتدأً ، و « أعمالُهم » مبتدأ ثانٍ ، و « كرمادٍ »
خبرُ الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول . قال ابن عطية : « وهذا عندي أرجحُ
الأقوالِ ، وكأنك قلت : المتحصِّلُ في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملةُ
المذكورةُ » . وإليه نحا الحوفي . قال الشيخ : « وهو لا يجوزُ لأنَّ الجملةَ التي وقعت
خبراً للمبتدأ لا رابطَ فيها يربُطها بالمبتدأ ، وليست نفسَ المبتدأ فَتَسْتَغْني
عن رابطٍ » . قلت : بل الجملةُ نفسُ المبتدأ ، فإنَّ نفسَ مَثَلِهم هو نفسُ
أعمالِهم كرمادٍ في أنَّ كلاًّ منها لا يفيد شيئاً ، ولا يَبْقَى له أثرٌ ، فهو
نظيرُ قولك / « هَجِّيْرى أبي لا إله إلا اللهُ » .
الثالث : أنَّ « مَثَلَ » مزيدةٌ ، قاله الكسائيُّ والفراء : أي : الذين كفروا
أعمالُهم كرَمادٍ ، فالذين مبتدأ « أعمالُهم » مبتدأٌ ثانٍ و « كرمادٍ » خبرُه .
وزيادة الأسماءِ ممنوعةٌ .
الرابع : أن يكونَ « مَثَلَ » مبتدأً ، و « أعمالُهم » بدلٌ منه ، على تقدير :
مَثَلُ أعمالِهم ، و « كرمادٍ » الخبرُ . قاله الزمخشريُّ : ، وعلى هذا فهو بدلُ
كلٍ مِنْ كلٍ ، على حَذْفِ المضافِ كما تقدَّم .
الخامس : أن يكونَ « مَثَل » مبتدأً ، و « أعمالُهم » بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ ، و «
كرمادٍ » الخبر ، كقول الزَّبَّاء :
2874- ما للجِمال مَشْيِها وئيدا ... أجَنْدَلاً يَحْمِلْن أم حديدا
والسادس : أن يكونَ « مَثَل » مبتدأً ، و « أعمالُهم » خبرَه ، أي : مَثَلُ
أعمالِهم ، فحذف المضاف . و « كرماد » على هذا خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، وقال أبو
البقاء حين ذكر وجهَ البدل : « ولو كان القرآن لجاز إبدالُ » أعمالهم « من » الذين
« وهو بدلُ اشتمال » ، يعني أنه كان يُقْرَأُ « أعمالِهم » مجرورةً ، لكنه لم
يُقرأْ به .
و « الرمادُ » معروفٌ « وهو ما سَحَقَتْه النارُ من الأَجْرام ، وجمعُه في الكثرة
على رُمُد ، وفي القلَّة على أرْمِدَة كجَماد وجُمُد وأَجْمِدَة ، وجمعُه على »
أَرْمِدَاء « شاذٌّ . والرِّماد : السَّنَةُ أيضاً ، السَّنةُ : المَحْل ،
أَرْمَدَ الماءُ ، أي : صار بلون الرماد ، والأَرْمَدُ : ما كان على لونِ الرَّماد
. وقيل للبعوض » رُمْد « لذلك ، ويقال : رَمادٌ رِمْدِدٌ ، صار هباءً .
قوله : { اشتدت بِهِ الريح } في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد ، و » في يوم « متعلِّقٌ ب
» اشْتَدَّت « .
قوله
: « عاصفٍ » فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه على تقدير : عاصفٍ ريحُه ، أو عاصفِ الريح ،
ثم حُذِفَ « الريح » وجُعلت الصفةُ لليوم مجازاً كقولهم : « يومٌ ماطر » و « ليلُ
نائم » . قال الهرويُّ : « فَحُذِفَتْ لتقدُّم ذِكْرِهَا ، كما قال :
2875- إذا جاء يومٌ مظلِمُ الشمسِ كاسفُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
أي : كاسِفُ الشمسِ .
الثاني : أنه على النَّسَبِ ، أي : ذي عُصُوفٍ كلابِن وتامِر .
الثالث : أنه خُفِض على الجِوار ، أي : كان الأصلُ أن يَتْبع العاصفُ الريحَ في
الإِعراب فيُقال : اشتدَّتْ به الريحُ العاصفُ في يوم ، فلمَّا وقع بعد اليوم
أُعْرِبَ بإعرابه ، كقولهم : » جُحرُ ضَبّ خَربٍ « . وفي جَعْلِ هذا من باب الخفضِ
على الجوارِ نظرٌ ، لأنَّ مِنْ شرطِه : أن يكون بحيث لو جُعِل صفةُ لِما قُطع عن
إعرابه لَصَحَّ كالمثال المذكورِ ، وهنا لو جَعَلْتَه صفةً للريح لم يَصِحَّ
لتخالفِهما تعريفا وتنكيراً في هذا التركيبِ الخاصِّ .
وقرأ الحسن وابنُ أبي إسحاق بإضافة » يوم « ل » عاصِفٍ « . وهي على حَذْفِ
الموصوفِ ، أي : في يومِ ريحٍ عاصِف ، فَحُذِفَ لفَهْم المعنى الدالِّ على ذلك .
ويجوز أن يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوف إلى صفته عند مَنْ يَرَى ذلك نحو :
بَقْلَةُ الحَمْقَاء .
ويقال : ريحٌ عاصِفٌ ومُعْصِفٌ ، وأصلُه من العَصْفِ ، وهو ما يُكْسَرُ مِن
الزِّرْع فقيل ذلك للريحِ الشديدة لأنها تَعْصِفُ ، أي : تكسِرُ ما تَمُرُّ عليه .
قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ } مستأنفٌ ، ويَضْعُفُ أن يكونَ صفةً ليوم على حَذْفِ
العائد ، أي : لا يَقْدِرُون فيه ، و » مِمَّا كَسَبُوا « متعلِّقٌ بمحذوفٍ ،
لأنَّه حالٌ من » شيء « إذ لو تأخَّر لكانَ صفةً . والتقديرُ : على شيءٍ مِمَّا
كسبوا .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
قوله
تعالى : { أَلَمْ تَرَ } : قرأ أبو عبد الرحمن بسكونِ الراء وفيه وجهان ، أحدُهما
: أنه أَجْرَى الوصلَ مُجْرى الوقف . والثاني : أنَّ العربَ حَذَفَتْ لامَ الكلمة
عند عدمِ الجازمِ فقالوا : « ولو تَرَ ما الصبيانُ » فلما دخل الجازمُ تخيَّلوا أن
الراءَ محلُّ الجزم ، ونظيرُه : لم أُبَلْ فإنَّ أصلَه أبالي ، ثم حذفوا لامَه
رفعاً فلمَّا جزموه لم يَعْتَدُّوا بلامِه ، وتوهَّموا الجزم في اللام .
والرؤية هنا قلبيةٌ ف « أنَّ » في محلِّ المفعولَيْن أو أحدهما على الخلاف . وقرأ
الأخَوان هنا { خالقَ السماوات والأرض } « خالق » اسمُ فاعلٍ مضافاً لِما بعده ،
فلذلك خفضوا ما عُطِفَ عليه وهو الأرض . وفي النور : { خَالقُ كُلِّ دَآبَّةٍ } [
الآية : 45 ] اسمُ فاعل مضافاً لما بعده . والباقون « خَلَقَ » فعلاً ماضياً ،
ولذلك نصبوا « الأرضَ » و { كُلِّ دَآبَّةٍ } ، فكسرُه « السماواتِ » في قراءة
الأخوين خفضٌ ، وفي قراءةِ غيرِهما نصبٌ . / ولو قيل بأنه في قراءة الأخوين يجوزُ
نَصْبُ « الأرضَّ » على أحدِ وجهين : إمَّا على المحلِّ ، وإمَّا على حَذْفِ
التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون « السماواتِ » منصوبةً لفظاً وموضعاً ، لم
يمتنعْ ، ولكن لم يُقْرأْ به .
و « بالحقِّ : متعلِّقٌ ب » خلق « على أن الباءَ سببيةٌ ، وبمحذوفٍ على أنها
حاليةٌ : إمّا من الفاعلِ ، أي : مُحِقَّاً ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسةً
بالحق .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
قوله
تعالى : { تَبَعًا } : يجوز أن يكونَ جمع « تابِع » كخادِم وخَدَم وغائِب وغَيَب ،
ويجوزُ أن يكونَ مصدراً نحو : قومٌ عَدْلٌ ، ففيه ثلاثةُ التأويلاتِ المشهورةِ .
قوله : { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } في « مِنْ » أوجهٌ : أحدُها : أنَّ :
مِنْ « الأولى للتبيين ، والثانيةَ للتبعيض ، تقديرُه : مُغْنون عنا بعضَ الشيءِِ
الذي هو عذابُ الله ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : » هذا يقتضي التقديمَ في قوله «
مِن شَيْءٍ » على قوله { مِنْ عَذَابِ الله } ؛ لأنه جَعَلَ { مِن شَيْءٍ } هو
المُبَيِّنَ بقولِهِ من عذاب ، و « مِنْ » التبيينيةُ مقدَّمٌ عليها ما تُبَيِّنه
ولا يتأخَّر « . قلتُ : كلامُ الزمخشري صحيحٌ من حيث المعنى ، فإنَّ { مِنْ
عَذَابِ الله } لو تأخَّر عن » شيء « كان صفةً له ومُبَيِّناً ، فلمَّا تقدَّم
انقلب إعرابُه من الصفة إلى الحال ، وأمَّا معناه وهو البيانُ فباقٍ لم يتغيَّرْ .
الثاني : أن تكونا للتبعيضِ معاً بمعنى : هل أنتم مُغْنُوْن عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ
عذابِ الله؟ أي : بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : » وهذا يقتضي أن
يكونَ بدلاً ، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص ، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ
الشيء مطلقةٌ ، فلا يكون لها بعضٌ « . قلت : لا نزاعَ أنه يقالُ : بعضُ البعض ،
وهي عبارةٌ متداولةٌ ، وذلك البعضُ المُتَبَعِّضُ هو كلُّ لأبعاضِه بعضٌ لكلِّه ،
وهذا كالجنسِ المتوسط هو نوعٌ لِما فوقَه ، جنسٌ لِما تحته .
الثالث : أنَّ » مِنْ « في { مِن شَيْءٍ } مزيدةٌ ، و » مِنْ « في { مِنْ عَذَابِ
} فيها وجهان ، أحدُهما : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها في الأصل صفةٌ لشيء ، فلمَّا
تقدَّمَتْ نُصِبت على الحال . والثاني : أنها تتعلَّق بنفس » مُغْنُوْنَ « على أن
يكون » من شيء « واقعاً موقعَ المصدر ، أي : غِنى . ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء
، قال : » ومِنْ زائدةٌ ، أي : شيئاً كائناً من عذاب الله ، ويكون محمولاً على
المعنى تقديره : هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكونَ « شيء » واقعاً موقعَ المصدر
، أي : غِنَى ، فيكون { مِنْ عَذَابِ الله } متعلقاً ب « مُغْنُوْن » . وقال
الحوفيُّ أيضاً : { ومِنْ عَذَابِ الله } متعلٌ ب « مُغْنُون » ، و « مِنْ » في {
مِن شَيْءٍ } لاستغراقِ الجنسِ زائدةٌ للتوكيد « .
قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } إلى آخرِه ، فيه قولان ، أحدُهما : أنه مِنْ كلام
المستكبرين . والثاني : أنه من كلام المستكبرين والضعفاءِ معاً . وجاءَتْ كلٌّ
جملةٍ مستقلةٍ من غيرِ عاطف دلالةً على أنَّ كلاًّ من المعاني مستقلٌّ بنفسه كافٍ
في الإِخبار . وقد تقدَّم الكلامُ في التسويةِ والهمزةِ بعده في أول البقرة .
والجَزَعُ : عدمُ احتمالِ الشِّدَّةِ . قال امرؤ القيس :
2876- جَزِعْتُ ولم أَجْزَعْ من البَيْنِ مَجْزِعاً ... وعَزَّيْتَ قلباً بالكواعب
مُولَعا
وقال الراغب : » أصلُ الجَزَعِ : قَطْعُ الحَبْل مِنْ نصفه يقال : جَزَعْتُه
فانْجَزَعْ ، ولتصَوُّرِ الانقطاع فيه قيل : جَزْعُ الوادي لمُنْقَطَعِه ،
ولانقطاعِ اللونِ بتغيُّره . قيل للخرزِ المتلوِّن : جَزْعٌ ، واللحمُ المُجَزَّع
ما كان ذا لونين ، والبُسْرَة المُجَزَّعَة أن يَبْلغَ الإِرطابُ نصفَها ،
والجازِع خشبةٌ تُجعل في وسط البيت تلْقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين ، وكأنه
سُمِّي بذلك تَصَوُّراً لجَزَعِهِ لِما حُمِل عليه من العِبْء أو لقطعِه وسطَ
البيت « والجَزَعُ أخصُّ من الحزن ، فإنَّ الجَزَعَ حُزْنٌ يَصْرِف الإِنسان عمَّا
هو بصددِه .
والمَحيصُ : يكون مصدراً ويكون مكاناً . ويقال : جاض بالضاد المعجمة وجَيْضاً ،
بها وبالجيم .
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
قوله
تعالى : { وَعْدَ الحق } : يجوز أن يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، أي : الوعد
الحق ، وأن يرادَ بالحق صفةُ الباري تعالى ، أي : وَعَدَكم الله وَعْدَه ، وأن
يراد بالحقِّ البعثُ والجزاءُ على الإِجمال ، فتكونَ إضافةً صريحةً .
قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ
لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ . والثاني : أنه
متصلٌ ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ ،
وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه ، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ .
وقُرِئَ « فلا يَلُوْموني » بالياء من تحتُ على الالتفاتِ ، كقولِه : { حتى إِذَا
كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
قوله : { بِمُصْرِخِيَّ } العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها
تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ . وقرأ حمزةُ بكسرِها ، وهي لغةُ بني
يَرْبوع . وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً : فمِنْ
مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها ، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ ، ومِنْ
مجوِّزٍ لها بضعفٍ .
قال حسين الجعفي : « سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه » . وهذه الحكايةُ
تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة ، منها ما تقدَّم ، ومنها : « سألت أبا عمروٍ وقلت : إن
أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال : هي جائزة أيضاً ، إنما أراد تحريك الياء
، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ » . وعنه : مَنْ شاء فتحَ ،
ومَنْ شاء كسر ، ومنها أنه قال : إنها بالخفضِ حسنةٌ . وعنه قال : قَدِم علينا أبو
عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً ، فسألتُه عن شيء [ مِنْ ]
قراءة الأعمش واستشعرتُه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجرِّ فقال : هي
جائزةٌ ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها .
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ ، ولا التفاتَ إليه لأنه
عَلَمٌ من اعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [ مَنْ
فوقَ السجستاني ] :
2877- وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ
القناعيسِ
ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات : منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين ،
وذلك أنَّ/ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ ، فلمَّا
التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين . الثاني : أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ
كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد ، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً
، وبياءٍ إذا كانت مكسورة ، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة ، فَتُكْسَرُ
كما تُكْسَرُ الهاءُ في « عليْهِ » ، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ ، كما يَصِل ابن
كثير نحو : « عليهي » بياء ، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ ، إذ أصلُه يقتضي
عدَمها . وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع ، قال : يزيدون على ياء الإِضافة
ياءً ، وأنشد :
2878-
ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ
أنشده الفراء وقال : « فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين » . وقال
أبو عليّ : « قال الفراء في كتاب » التصريف « له : زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ ،
وكان ثقةً بصيراً » .
ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال : « هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ
مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ » . وقال أبو جعفر : « صار هذا إدغاماً
، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ » . وقال الزمخشري : « هي
ضعيفةٌ ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول :
2879- قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ ... قالت له : ما أنت بالمَرْضِيِّ
وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً ، وقبلها ياءٌ ساكنة ، فحرَّكها بالكسر لِما عليه
أصلُ التقاءِ الساكنين ، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا
مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو : » عصايَ « فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ :
جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [
ساكنةً » بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل . قلت : هذا قياسٌ
حسنٌ ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه
القياساتُ « .
قال الشيخ : » أمَّا قولُه « واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ ، فقد ذكر غيرُهُ أنه
للأغلبِ العجليّ ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون : »
ما فِيَّ أفعلُ « بكسر الياء » . قلت : الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو
شامةَ ، قال : « ورأيتُه أنا في أول ديوانِه ، وأولُ هذا الرجز :
2880- أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ ... عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ
ثم قال الشيخ : » وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج .
وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه « حيث قبلها ألفٌ » فلا أعلم « حيث » تضاف إلى
الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو : « قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر » فيحتاج هذا التركيب
إلى سماعٍ « قلت : إطلاقُ النحاةِ قولَهم : إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا ،
ولا يُحتاج [ إلى ] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية .
ثم قال : وأمَّا قولُه » ياء الإِضافةِ إلا آخره « قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف
، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو » محياْيْ « . قلت : مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا
يُفيده ههنا ، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ
. وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ ، وهو قوله :
2881- عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب » المعاني « له : » وقد خَفَضَ الياء مِنْ « بمُصْرِخِيِّ »
الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً ، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش ،
ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء ، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ ، ولعله
ظنَّ أن الباءَ في « بمُضْرِخِيَّ » خافضةٌ للفظِ كلِّه ، والياءُ للمتكلم خارجةٌ
من ذلك « .
قال
: « ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله : { نُوَلِّهْ مَا تولى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ
} بالجزم في الهاء » . ثم ذكر غيرَ ذلك .
وقال أبو عبيد : « أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً ، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ
كلَّ ما بعدها ، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغَ به
هذا كلِّه ، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها » .
قال الأخفش : « ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين » .
قال النحاس : « فصار هذا إجماعاً » .
قلت : ولا إجماعَ . فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ .
وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ ، قال في « حُجَّته » . « وجهُ
ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ ، فالياءُ في
النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما ، وكالكاف في » أكرمتُك « و » هذا لك « ، فكما أنَّ
الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا : لهُوْ ، وضَرَبَهُوْ ، / ولحقَ الكاف أيضاً
الزيادةُ في قولِ مَنْ قال » أَعْطَيْتُكاه « و » أَعْطَيْتُكِيْه « فيما حكاه
سيبويه ، وهما أختا الياء ، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر :
2882- رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ ... وما أَخْطَأْتِ [ في ] الرَّمْيَهْ
كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا : » فِيَّ « ، ثم حُذِفَتْ الياءُ
الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال :
2883- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . .
. . . لَهْ أَرِقانِ
وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ » .
قلت : مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه : « لَهْ أَرِقان » حَذْفُ الصلةِ
، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ ، ولو مَثَّل بنحو « عليهِ » و « فيهِ »
لكن أولى .
ثم قال الفارسيُّ : « كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل : أعطيتكَهُ
وأَعْطَيْتُكِهِ ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها
، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت
عليه من الكسرِ » . قال : « فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان
غيرُها أَفْشى منها ، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول :
إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ ، وما كان كذلك لا يكون
لحناً » .
قلت : وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه . وأما
التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً ، قال الزجاج : « أجاز الفراء على وجهٍ
ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ » .
قال
الفراء : « ألا ترى أنهم يقولون : مُذُ اليومِ ، ومُذِ اليوم ، والرفعُ في الذال
هو الوجهُ ، لأنه أصلُ حركةِ » منذ « ، والخفضُ جائزٌ ، فكذلك الياءُ من »
مُصْرِخيَّ « خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب » .
قلت : تشبيهُ الفراءِ المسألةَ ب « مذ اليوم » فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ
، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله
فيما قدَّمْتُه عنه : « فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح » . وقد اضطرب النقلُ عن
الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ « مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً ،
والتصويبَ أخرى ، ولعل الأمرَ كذلك ، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما
يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ .
التوجيهُ الثالث : أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها ، وهو كسرُ الهمزِ من » إنِّي
« كقراءةِ » الحمدِ لله « ، وقولهم » بِعِير وشِعِير وشِهيد ، بكسر أوائِلها
إتباعاً لما بعدها ، وهو ضعيفٌ جداً .
التوجيه الرابع : أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها
لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام ، فأشبهتِ الحروفَ
الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما
قبلها ، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه
بالحروفِ الصِّحاح .
والمُصْرِخُ : المُغِيْث يُقال : اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني ، أي : أعانني ،
وكأنَّ همزتَه للسَّلْب ، أي : أزال صُراخي . والصَّارخ هو المستغيثُ . قال الشاعر
:
2884- ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ ... وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ
ويُقال : صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة . قال :
2885- كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ ... كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ
يريد : كان بدل الإِصراخ ، فحذف المضافَ ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي
نحو : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والصَّريْخُ : القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال :
2886- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ... ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو
سافِِعِ
والصَّريخُ أيضاً : المُغِيثون فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على
فَعِيْل كالخَليط ، وأن يكونَ مصدراً في الأصل . وقال : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ }
[ يس : 43 ] فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل ، أي
: فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر ، وتَصَرَّخ : تكلَّف الصُّراخ .
قوله : { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } يجوزُ في « ما » وجهان : أحدُهما : أَنْ تكونَ
بمعنى الذي . ثم في المراد بهذا الموصولِ وجهان ، أحدُهما : أنه الأصنامُ ،
تقديرُه : بالصنمِ الذي أطعتموني كما أَطَعْتُمُوه ، كذا قال أبو البقاء ،
والعائدُ محذوفٌ ، فقدَّره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حُذِفَ ، يعني بعد
حذف الجارِّ ووصولِ/ الفعلِ إليه ، ولا حاجةَ إلى تقديرِه مجروراً بالباء؛ لأنَّ
هذا الفعلَ متعدٍّ لواحدٍ نحو : شَرَكْتُ زيداً ، فلمَّا دَخَلَتْ همزةُ النقل
أَكْسَبته ثانياً هو العائد ، تقول : أَشْرَكْتُ زيداً عمراً ، جعلتُه شريكاً له .
الثاني
: أنه الباري تعالى ، أي : بما أشركتموني ، أي : بالله تعالى ، والكلامُ في
العائدِ كما تقدَّم ، إلا أنَّ فيه إيقاعَ « ما » على مَنْ يَعْلَمُ ، والمشهورُ
فيها أنها لغير العاقل .
قال الزمخشريُّ : « ونحو : » ما « هذه » ما « في قولهم » سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ «
، ومعنى إشراكهم الشيطانَ بالله تعالى طاعتُهم له فيما كان يُزَيِّنُه لهم مِنْ
عبادةِ الأوثانِ » . قال الشيخ : « ومن مَنَع ذلك جَعَل » سبحان « عَلَماً للتسبيح
كما جعل » بَرَّة « عَلَماً للمَبَرَّة ، و » ما « مصدرية ظرفية » ، أي : فيكون
على حذفِ مضافٍ ، أي : سبحانَ صاحبِ تسخيرِكنَّ؛ لأنَّ التسبيحَ لا يليقُ إلاَّ
بالله .
الثاني من الوجهين الأولين : أنها مصدريةٌ ، أي : بإشراككم إياي .
قوله : { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ ب « كَفَرْتُ » على القولِ الأول ، أي : كفرتُ
مِنْ قبلُ ، حين أَبَيْتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو اللهُ تعالى ، و ب «
أشركْتُ » على الثاني ، أي : كفرتُ اليومَ بإشراكِكم إيَّاي مِنْ قبلِ هذا اليوم ،
أي في الدنيا ، كقوله : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر :
14 ] هذا قولُ الزمخشريِّ . وأمَّا أبو البقاء فإنه جَوَّز تعلُّقَه بكفرْتُ
وبأشركتموني ، من غير ترتيبِ على كون « ما » مصدريةً أو موصولية فقال : « ومِنْ
قبلُ : متعلِّقٌ بأشركتموني ، أي : كفرْتُ الآن أَشْرَكتموني مِنْ قبل . وقيل :
وهي متعلِّقةٌ ب » كفرتُ « أي : كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إشراكِكم فلا أنفعُكم شيئاً »
.
وقرأ أبو عمروٍ وبإثباتِ الياء في « أشركتموني » وصْلاً وحَذْفِها وقفاً ،
وحَذَفها الباقون وصلاً ووقفاً .
وهنا تمَّ كلامُ الشيطان . وقوله : { إِنَّ الظالمين } مِنْ كلامِ الله تعالى ،
ويجوز أن يكونَ مِنْ كلامِ الشيطان . و « عذاب » يجوز رَفْعُه بالجارِّ قبلَه على
أنه الخبر ، وعلى الابتداءِ وخبرُه الجارُّ .
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قوله
تعالى : { وَأُدْخِلَ } قرأ العامَّةُ « أُدْخِلَ » ماضياً مبنياً للمفعولِ ،
والفاعلُ اللهُ أو الملائكة . والحسن وعمرو بن عبيد « وأُدْخِلُ » مضارعاً مسنداً
للمتكلم وهو الله تعالى ، فمحَلُّ الموصولِ على الأول رفعٌ ، وعلى الثانية نصبٌ .
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } في « [ قراءةِ ] العامَّةِ يتعلق بأُدْخِلَ ، أي :
أُدْخِلوا بأمرهِ وتيسيرِه . ويجوز تعلُّقه بمحذوف على أنه حالٌ ، أي : ملتبسين
بأمرِ ربهم ، وجوَّز أبو البقاء أن يكون من تمام » خالدين « يعني أنه متعلِّقٌ به
، وليس بممتنعٍ . وأمَّا على قراءة الشيخين فقال الزمخشري : » فيم تتعلَّق في
القراءة الأخرى ، وقولُك « وأُدْخِلُ أنا بإذنِ ربِّهم » كلامٌ غير مُلتئمٍ؟ قلت :
الوجهُ في هذه القراءة أَنْ يتعلق بما بعده ، أي : تحيتُهم فيها سلامٌ بإذن ربهم «
. ورَدَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يتقدَّم معمولُ المصدر عليه .
وقد عَلَّقه غيرُ الزمخشري بأُدْخِلُ ، ولا تنافٌرَ في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلم
أن المتكلم - في قوله : وأُدْخِلُ أنا - هو الربُّ تعالى . وأحسنُ من هذين أن
تتعلَّقَ في هذه القراءة بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم تقريرُه . و » تحيتُهم «
مصدرٌ مضاف لمفعولِه ، أي : يُحَيِّيهم الله أو الملائكة . ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً
لفاعله ، أي : يُحَيِّي بعضُهم بعضاً . ويعضد الأولَ : { وَالمَلاَئِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] . و
» فيها « متعلقٌ به .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
قوله
تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ «
ضَرَبَ » متعديةٌ لواحدٍ ، بمعنى : اعتمد مثلاً ، ووضَعَه ، و « كلمةً » على هذا
منصوبةٌ بمضمرٍ ، أي : جعل كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة ، وهو تفسيرٌ لقولِه { ضَرَبَ
الله مَثَلاً } كقولك : « شرَّفَ الأميرُ زيداً ساه حُلَّة ، وحمله على فرس » ،
وبه بدأ الزمخشري . قال الشيخ : « وفيه تكلُّفُ إضمار لا ضرورةَ تدعو إليه » . قلت
: بل معناه إليه فيُضطرُّ إلى تقديرِهِ محافظةً على لَمْح هذا المعنى الخاصِّ .
الثاني : أنَّ « ضَرَب » متعديةٌ لاثنين لأنها بمعنى « صَيَّر » ، لكنْ مع لفظ «
المَثَل » خاصة ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا أولَ هذا الموضوعِ ، فتكون « كلمةً »
مفعولاً أولَ ، و « مَثَلاً » هو الثاني ، فيما تقدَّم .
الثالث : أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو « مَثَلاً » و « كلمةً » بدلٌ منه ، و « كشجرةٍ »
خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي كشجرةٍ طيبةٍ ، وعلى الوجهين قبله تكون « كشجرةٍ »
نعتاً ل « كلمة » .
وقُرِئ « كلمةٌ » بالرفع ، وفيها وجهان . أحدهما : أنها خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو
، أي : المَثَلُ كلمةٌ طيبةٌ ، « كشجرةٍ » على هذا نعتاً لكلمة . والثاني : أنها
مرفوعةٌ بالابتداء ، و « كشجرةٍ » خبرُه .
وقرأ أنس بن مالك « ثابتٍ أصلُها » . قال الزمخشري : « فإن قلت : أيُّ فرقٍ بين
القراءتين؟ قلت : قراءةُ الجماعةِ أقوى معنىً؛ لأنَّ قراءةَ أنسٍ أُجْرِيَتِ
الصفةُ على » الشجرة « / وإذا قلت : » مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ « فهو أقوى مِنْ »
برجل قائمٍ أبوه « لأنَّ المُخْبَرَ عنه إنما هو الأبُ لا رجل » .
والجملةُ مِنْ قولِه « أصلُها ثابتٌ » في محلِّ جرّ نعتاً لشجرة .
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{ تؤتي أُكُلَهَا } : ويجوز فيهما أَنْ تكونا مستأنفتين . وجوَّز أبو البقاء في « تُؤْتي » أن تكونَ حالاً من معنى الجملة التي قبلها ، أي : ترتفع مُؤْتِيَةً . وتقدَّم الخلاف في « أُكُلَها » بالنسبة إلى القرَّاء .
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
وقُرِئ
« ومَثَلَ » بنصب « مثلَ » عطفاً على « مثلَ » الأول ، « واجْتُثَّتْ » صفةٌ لشجرة
. ومعنى « اجْتُثَّتْ » : بَلَغَتْ جُثَّتَها ، أي : شخصَها ، والجُثَّةُ : شَخْصُ
الإِنسانِ قاعداً ونائماً يقال : اجْتَثَثْتُ الشيءَ ، أي : اقتَلَعْتُ ، فهو
افتِعال من لفظ الجُثَّة ، وجَثَثْتُ الشيءَ : قَلَعْتُهُ . قال لقيط الإِيادي :
2887- هو الجَلاءُ الذي يَجْتَثُّ أصلَكُمُ ... فَمَنْ رَأَى مثلَ ذا يوماً ومَنْ
سَمِعا
وقال الراغب : « جُثَّة الشيءِ شَخْصُه الناتِئُ ، والمَجَثَّةُ : ما يُجَثُّ به ،
والجَثِيْثَة : لِما يأتي جُثَّته بعد طَحْنه ، والجَثْجاث نَبْتٌ » .
و « مِنْ قَرار » يجوز أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي ، وأن
يكونَ مبتدأً . والجملةُ المنفيَّةُ : إمَّا نعتٌ لشجرة وإما حالٌ مِنْ ضميرِ «
اجْتُثَّتْ » .
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قوله
تعالى : { بالقول } : فيه وجهان ، أحدُهما : تعلُّقُه ب « يُثَبَّتُ » . والثاني «
أنه متعلقٌ ب » آمنوا « .
قوله : » في الحياةِ « متعلِّقٌ ب » يُثَبَّتُ « ، ويجوز أن يتعلَّقَ بالثابِتِ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
قوله
تعالى : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } فيه أوجهٌ :
أحدُها : أنَّ الأصلَ بَدَّلوا شكرَ نعمةِ [ الله ] كفراً ، كقوله : {
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] [ أي ] :
شُكر رزقكم ، وَجَبَ عليهم الشكرُ فوضَعُوا موضعَه الكفرَ .
الثاني : أنهم بدَّلوا نفسَ النعمةِ كفراً ، على أنهم لمَّا كَفَروها سُلِبوها ،
فبَقُوا مَسْلوبِي النعمةِ موصوفين بالكفر حاصلاً لهم . قالهما الزمخشري . قلت :
وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف على هذا ، وقد تقدَّم أن « بَدَّلَ » يتعدَّى
لاثنين ، أَوَّلُهما من غير حرف ، والثاني بالباء ، وأن المجرورَ هو المتروكُ ،
والمنصوبَ هو الحاصلُ ، ويجوز حَذْفُ الحرفِ ، فيكونُ المجرورُ بالباءِ هنا هو «
نعمة » لأنها المتروكةُ . وإذا عَرَفْتَ هذا عَرَفْتَ أنَّ قولَ الحوفيِّ وأبي
البقاء أنَّ « كفراً » هو المفعولُ الثاني ليس بجيدٍ؛ لأنه هو الذي يَصِل إليه
الفعل بنفسِه لا بحرف الجر ، وما كان كذا فهو المفعولُ الأول .
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
قوله
تعالى : { جَهَنَّمَ } : فيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ من « دارَ » . الثاني
: أنه عطفُ بيانٍ لها . وعلى هذين الوجهين فالإِحلالُ يقع في الآخرة . الثالث :
أَنْ يَنْتَصِبَ على الاشتغال بفعلٍ مقدَّر ، وعلى هذا فالإِحلالُ يقع في الدنيا ،
لأنَّ قولَه { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } واقعٌ في الآخرة .
ويؤيِّد هذا التأويلَ قراءةُ ابن أبي عبلة « جهنمُ » بالرفع ، على أنها مبتدأٌ ،
والجملةُ بعدها الخبرُ . وتحتمل قراءةُ ابن أبي عبلة وجهاً أخرَ : وهو أن يرتفعَ
على خبرِ ابتداءٍ مضمر ، و « يَصْلَوْنها » حالٌ : إمَّا مِنْ « قومَهم » ، وإمَّا
مِنْ « دارَ » ، وإمَّا مِنْ « جهنمَ » . وهذا التوجيهُ أَوْلى من حيث إنه لم
يتقدَّمْ ما يرجِّح النصبَ ، ولا ما يَجْعلُه مساوياً ، والقرَّاءُ الجماهيرُ على
النصبِ ، فلم يكونوا ليتركُوا الأفصحَ ، إلاَّ لأن المسألة لَيستْ من الاشتغالِ في
شيءٍ . وهذا الذي ذكرتُه أيضاً مُرَجِّح لنصبهِ على البدليَّة أو البيانِ على انتصابِه
على الاشتغال .
والبَوارُ : الهَلاكُ ، قال الشاعر :
2888- فلم أرَ مثلَهُم أبطالَ حربٍ ... غداةَ الرَّوْعِ إذ خِيْفَ البوارُ
وأصلُه من الكَسادِ ، كما قيل : كَسَد حتى فَسَد ، ولَمَّا كان الكسادُ يؤدي إلى
الفسادِ والهلاكِ أُطْلِقَ عليه البَوار . ويقال : بار يَبُورُ بَواراً وبُوراً ،
ورجل حائرٌ بائرٌ ، وقوله تعالى : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ]
يحتمل أن يكونَ مصدراً وُصِفَ به الجمعُ ، وأن يكونَ جمع بائر في المعنى . ومِنْ
وقوعِ « بُور » على الواحد قوله :
2889- يا رسولَ المَليكِ إنَّ لساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ
أي : هالِكٌ .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قوله
تعالى : { لِّيُضِلُّواْ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا : { وَجَعَلُواْ للَّهِ
أَندَاداً لِّيَضِلُّواْ } بفتح الياء ، والباقون بضمِّها ، مِنْ « أَضَلَّه » .
واللامُ هي لامُ الجرِّ مضمرةً « أنْ » بعدها ، وهي لامُ العاقبةِ لمَّا كان
مآلُهم إلى كذلك . ويجوز أن تكونَ للتعليل . وقيل : هي مع فتحِ الياءِ للعاقبةِ
فقط ، ومع ضمِّها محتملةٌ للوجهين ، كأنَّ هذا القائلَ تَوَهَّم أنهم لم يجعلوا
الأندادَ لضلالِهم ، وليس كما زَعَم؛ لأنَّ منهم مَنْ كفر عناداً ، واتخذ الآلهةَ
ليضلَّ بنفسِه .
قوله : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } « إلى النارِ » خبرُ « إنَّ » . و «
المصير » مصدرٌ ل صار التامة ، أي : فإنَّ مرجعَكم كائن إلى النار . وأجاز
الحوفيُّ أَنْ يتعلقَ « إلى النار » ب « مصيرَكم » . وقد ردَّ هذا بعضُهم بأنه لو
جعلناه مصدراً صار بمعنى انتقل ، و « إلى النار » متعلقٌ به ، بقيَتْ « إنَّ » بلا
خبر ، لا يقال : خبرُها حينئذ محذوفٌ؛ لأنَّ حَذْفَه في مثل هذا يَقِلُّ ، وإنما
يكثرُ حَذْفُه إذا كان الاسمُ نكرةً : والخبرُ ظرفاً أو جارَّاً كقوله :
2890- إنَّ مَحَلاًّ وإنْ مُرْتَحَلا ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
قوله
تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } فيه أوجهٌ ، أحدُها :
أنَّ « يُقيموا » مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه : ليقيموا ، فحُذِفَتْ وبقي
عملُها ، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه ، كقولِه :
2891- محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا
يريد : لِتَفْدِ . أنشده سيبويه ، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر . قال الزمخشري : «
ويجوزُ أن يكونَ » يُقيموا « و » يُنْفِقوا « بمعنى : لِيُقيموا ولِيُنْفقوا ،
ويكون هذا هو المَقُولَ . قالوا : وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو »
قُلْ « عِوَضٌ منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم
يَجُزْ » . قلت : وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ هذه اللامِ
على أضربٍ : قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ . فالكثيرُ : أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر
كالآيةِ الكريمةِ ، والقليلُ : أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله : « محمدُ تَفْدِ »
البيت ، والمتوسط : أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله :
2892- قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها ... تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها
الثاني : أنَّ « يُقيموا » مجزوم على جوابِ « قُلْ » ، وإليه نحا الأخفش والمبرد .
وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم : أقيموا « أَنْ
يَفْعلوا ، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر . وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المرادَ
بالعباد المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً ، والمؤمنون متى أَمَرَهم
امْتَثَلُوا .
الثالث : أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره : قل لعبادي : أقيموا
وأَنْفِقُوا ، يُقيموا وينفقوا . قال أبو البقاء : وعزاه للمبرد- » كذا ذكره جماعة
ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه . وهو فاسد لوجهين ، أحدُهما : أنَّ جوابَ الشرطِ
يُخالِفُ الشرطَ : إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما ، فأمَّا إذا كان مثلَه
في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك : قم تقمْ ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا
الوجه : إنْ يُقيموا يُقيموا . والوجه الثاني : أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة ،
و « يُقيموا » على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ ، إذا كان الفاعل واحداً « . قلت :
أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول : قل
لعبدي أَطِعْني يُطِعْك ، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال .
الرابع : أنَّ التقديرَ : إن تَقُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، وهذا مَرْوِيٌّ عن
سيبويه فيما حكاه ابن عطية . قلت : وهذا هو القولُ الثاني .
الخامس : قال ابن عطية : » ويحتمل أن يكونَ « يُقيموا » جوابَ الأمرِ الذي يعطينا
معناه قولُه « قُلْ »؛ وذلك أن تجعلَ قولَه « قُلْ » في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ
وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا « .
السادس : قال الفراء : » الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول : « أَطِعِ اللهَ
يُدْخِلْكَ الجنَّةَ » .
والفرقُ
بين هذا وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط ، وفي
هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ .
السابع : قال الفارسيُّ : « إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه :
أقيموا » . وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه .
وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني ، كما بُني المنادى في نحو : « يا
زيدُ » لوقوعِه موقعَ الضمير ، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على حَدِّ
حَذْفها في قولِه : « لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا
» .
وفي معمول « قُلْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : الأمرُ المقدَّرُ ، أي : قُلْ لهم :
أقيموا ، يُقيموا ، الثاني : أنه نفسُ « يُقيموا » على ما قاله ابنُ عطية الثالث :
أنَّه الجملةُ من قولِه { الله الذي خَلَقَ } إلى آخره ، قاله ابن عطية . وفيه
تفكيكٌ للنَّظْم ، وجَعْلُ الجملةِ « يُقيموا الصلاة » إلى آخره مُفلتاً ممَّا
قبلَه وبعدَه ، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعمولِه ، لكنه لا يترتَّبُ على
قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً .
قوله : « سِرَّاً وعلانِيَةً » في نصبِهِما ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنهما حالان
ممَّا تقدَّم ، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في « زيد عَدْل » ، أي : ذوي سر وعلانية
أو مُسِرِّين ومُعْلِنين ، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً . الثاني
: أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية . الثالث : أنهما/
منصوبان على المصدرِ ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية .
قوله : « مِنْ قبل » متعلِّقٌ ب « يُقيموا » و « يُنْفِقوا » ، أي : يفعلون ذلك
قبل هذا اليوم .
وقد تقدَّم خلاف القراء في { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } . والخِلال :
المُخالَّة وهي المصاحبةُ . يقال : خالَلْتُه خِلالاً ومُخَالَّةً . قال طرفة :
2893- كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُه ... لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ
وقال امرؤ القيس :
2894- صَرَفْتُ الهَوَى عنهنَّ مِنْ خشيةِ الرَّدى ... ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ
ولا قالِ
وقال الأخفش : « خِلال جمعاً لخُلَّة ، نحو : بُرْمَة وبِرام » .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
قوله
تعالى : { مِنَ السمآء } يجوز أن يتعلَّق بأًنْزَل ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية ،
وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « ما » لأنه صفةٌ ، في الأصل ، وكذلك «
مِن الثمرات » في الوجهين .
وجَوَّز الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ أن تكونَ « مِنْ » لبيان الجنسِ ، أي : رِزْقاً هو
الثمرات . ويُرَدُّ عليهما : بأنَّ التي للبيان إنما تجيء بعد المبهم . وقد يُجاب
عنهما : بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإِعراب . وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك
في البقرة .
و « بأَمْرِهِ » يجوز ان يكونَ متعلِّقاً ب « تَجْرِي » ، أي : بسببِه ، أو
بمحذوفٍ على أنها للحالِ ، أي : ملتبسةً به .
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
قوله تعالى : و { دَآئِبَينَ } : حالٌ مِنَ الشمسِ والقمرِ ، وتقدَّم اشتقاقُ الدَّأْبِ .
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
قوله
تعالى : { مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } : العامَّةُ على إضافةِ « كُلّ » إلى «
ما » وفي « مِنْ » قولان ، أحدُهما : أنها زائدةٌ في المفعولِ الثاني ، أي : كُلِّ
ما سألمتموه ، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الأخفش . والثاني : أن تكونَ تبعيضيَّةً
، أي : آتاكم بعضَ جميعِ ما سالتموه نظراً لكم ولمصالحكم ، وعلى هذا فالمفعولُ
محذوفٌ ، تقديرُه ، وآتاكم شيئاً مِنْ كُلِّ ما سألتموه ، وهو رأيُ سيبويه .
و « ما » يجوز فيها أن تكونَ موصولةً اسمية أو حرفية أو نكرةً موصوفةً ، والمصدرُ
واقعٌ موقعَ المفعولِ ، أي : مَسْؤولكم . فإن كانت مصدريَّةً فالضميرُ في «
سَأَلْتموه » عائدٌ على الله تعالى ، وإن كانتْ موصولةً أو موصوفةً كان عائداً
عليها ، ولا يجوزُ أن يكون عائداً على اللهِ تعالى ، وعائدُ الموصولِ أو الموصوفِ
محذوفٌ؛ لأنه : إمَّا أن يُقَدَّر متصلاً : سألتموهوه أو منفصلاً : سألتموه إياه ،
وكلاهما لا يجوز فيه الحَذْفُ لِما قدَّمْتُ لك أولَ البقرةِ في قوله { وَممَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
وقرأ ابنُ عباس ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والحسن والضحّاك وعمرو بن فائد وقتادة
وسلام ويعقوب ونافع في روايةٍ ، { مِّن كُلِّ } منونةً . وفي « ما » على هذه
القراءة وجهان ، أحدُهما : أنها نافية ، وبه بدأ الزمخشري فقال : « وما سأَلْتُموه
نفيٌ ، ومحلُّه النصبُ على الحال ، أي : آتاكم من جميعِ ذلك غيرَ سائِلية » . قلت
: ويكون المفعولُ الثاني هو الجارِّ مِنْ قوله « مِنْ كُلٍ » ، كقوله : { وَأُوتِيَتْ
مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] .
والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، هي المفعول الثاني لآتاكم . وهذا التخريجُ
الثاني أَوْلَى ، لأنَّ في الأول منافاةً في الظاهر لقراءةِ العامَّة . قال الشيخ
: « ولما أحسَّ الزمخشريُّ بظهورِ التنافي بين هذه القراءةِ وبين تلك قال : »
ويجوز أن تكونَ « ما » موصولةً على : وآتاكم مِنْ كُلِّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم
تصلُحْ أحوالُكُم ولا معائِشُكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه أو سألتموه بلسانِ الحال
، فتأوَّل « سَأَلْتموه » بمعنى ما احتجتم إليه « .
قول : » نعمةَ « في معنى المُنْعِمِ به ، وخُتِمَتْ هذه ب { إِنَّ الإنسان
لَظَلُومٌ } ، ونظيرتُها في النحل ب { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل :
18 ] ، لأنَّ في هذه تقدَّمَ قولُه { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ
الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] ، وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [
إبراهيم : 30 ] ، فجاء قولُه { إِنَّ الإنسان } شاهداً بقُبْحِ مَنْ فَعَلَ ذلك ،
فناسَبَ خَتْمَها بذلك ، والتي في النحل ذكر فيها عدةَ تفصيلاتٍ وبالَغَ فيها ،
وذكر قولَه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ، أي : مَنْ أوجَدَ
هذه النِّعَمَ السابقَ ذكرُها كَمَنْ لم يَقْدِرْ منها على شيءٍ ، فَذَكَرَ أيضاً
أنَّ مِنْ جملة تَفَضُّلاتِه اتصافَه بهاتين الصفتين .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
قوله
تعالى : { هذا البلد آمِناً } : مفعولا الجَعْلِ التصييري ، وقد تقدَّم تحريرُه في
البقرة . قال الزممخشري : « فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين قولِه { اجعل هذا بَلَداً
آمِناً } [ البقرة : 126 ] وبين قولِه { هذا البلد آمِناً } ؟ قلت : قد سأل في
الأول أن يجعلَه مِنْ جملة البلادِ التي يأْمَنُ أهلُها ولا يخافون ، وفي الثاني
أن يُخْرجَه مِنْ صفةٍ كان عليها من الخوفِ إلى ضِدِّها من الأمنِ ، كأنه قال : هو
بلدٌ مَخُوفٌ فاجْعَلْه آمِناً » .
قوله : { واجنبني } يُقال : جَنَبَه شرَّاً ، / وأَجْنَبَه إياه ، ثلاثياً ،
ورباعياً ، وهي لغةُ نجدٍ ، وجَنِّبه إياه مشدداً ، وهي لغةُ الحجازِ ، وهو
المَنْعُ ، وأصلُه مِنَ الجانب . وقال الراغب : « وقولُه تعالى : { واجنبني
وَبَنِيَّ } مِنْ جَنَبْتُه عن كذا ، أي : أَبْعَدْتُه منه . وقيل : مِنْ جَنَبْتُ
الفَرَسَ كأنما أن يقودَه عن جانبِ الشِّرْك بألطافٍ منه وأسبابٍ خفيَّةٍ » .
و { أَن نَّعْبُدَ } على حَذْفِ الحرف ، أي : عن أن . وقرأ الجحدريُّ وعيسى الثقفي
« وأَجْنِبْني » بقطعِ الهمزة مِنْ أَجْنَبَ .
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
والضميرُ
في « إنَّهُنَّ » و « أَضْلَلْنَ » عائدٌ على الأصنامِ لأنها جمعُ تكسيرٍ غيرُ
عاقلٍ . وقوله « مني » ، أي : من أشياعي .
قوله : { وَمَنْ عَصَانِي } شرطٌ ، ومحلُّ « مَنْ » الرفعُ بالابتداءِ ، والجوابُ
{ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والعائدُ محذوفٌ ، اي : له .
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قوله
تعالى : { مِن ذُرِّيَّتِي } : يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً ، وهذا الجارُّ
صفتُه ، أي : أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي . ويجوز أن تكونَ « مِنْ » مزيدةً عند
الأخفش .
قوله : « بوادٍ » ، أي : في وادٍ ، نحو : هو بمكة .
قوله : { عِندَ بَيْتِكَ } يجوز أن يكونَ صفةً ل « وادٍ » . وقال أبو البقاء : «
ويجوز أن يكونَ بدلاً منه » ، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ ، لأنَّ الواديَ
أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت . وفيه نظرٌ ، من حيث إنَّ « عند » لا تتصرَّف .
قوله : « ليُقِيموا » يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ ، وأن تكونَ لامَ
علَّة . وفي متعلقها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ
، ويكون النداءُ معترضاً . الثاني : أنها متعلقةٌ باجْنُبْني ، أي : اجْنُبْهم
الأصْنامَ ليُقِيموا ، وفيه بُعْدٌ .
قوله : { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } العامَّةُ على « أفْئِدة » جمع « فُؤاد »
كغُراب وأَغْربة . وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة ، فقيل : إشباع ، كقوله
:
2895- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُحِبَّك عَظْمٌ في
الترابِ تَرِيْبُ
أي : تَرِب ، وكقوله :
2896- أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ
وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا : الإِشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف
يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين
بين ، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة ، قال : « كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ
واختلاسُه في » بارئكم « و » يَأْمُركم « أنه سَكَّن » . وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ
الرواةَ أجلُّ من هذا .
وقرأ زيدٌ بن عليّ « إفادة » بزنةِ « رِفادة » ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ
مصدراً لأِفاد كأَقام إقامةً ، أي : ذوي إفادةٍ ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم
. والثاني : أن يكون أصلُها « وِفادة » فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو : إشاح وإعاء
.
وقرأت أمُّ الهيثم « أَفْوِدَة » بواوٍ مكسورة ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ
جمع « فُوَاد » المُسَهًّل : وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها
يَطَّرِد قَلْبُها واواً نحو : جُوَن ، ففُعِل في « فُؤاد » المفرد ذلك ،
فأُقِرَّت في الجمع على حالها . والثاني : قال صاحب « اللوامح » : « هي جمعُ وَفْد
» . قلت : فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ « أَوْفِدة » بتقديم الواو ، إلا أن يُقال :
إنه جَمَعَ « وَفْداً » على « أَوْفِدَة » ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة ، كقولهم :
آرام في أرْآم وبابِه ، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو : نَجْد
وأَنْجدة ، وَوَهْي وأَوْهِيَة . وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة
.
وقُرِىء « آفِدَة » بزِنَةِ ضارِبة ، وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ
مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفاً ، فوزنها
أَعْفِلة كآرام في أرْآم .
والثاني
: أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ ، أي : قَرُب ودَنا ، والمعنى : جماعة
آفِدَة ، أو جماعات آفِدة .
وقُرِئ « آفِدَة » بالقَصْرِ ، وفيها وجهان أيضاً ، أحدُهما : أن يكونَ اسمَ فاعلٍ
على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح . [ والثاني ] : أن تكونَ محففةً من « أَفْئِدة » .
بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها ، وحَذْفِ الهمزةِ .
و « من الناس » في « مِنْ » وجهان ، أحدُهما : أنها لابتداءِ الغاية . قال
الزمخشريُّ : « ويجوز أن تكونَ » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ كقولك : » القلبُ مني
سقيم « تريد : قلبي ، كأنه قيل : أفئدةَ ناسٍ ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا
التمثيلِ لتنكيرِ » أَفْئدة « لأنها في الآية نكرةٌ ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ » .
قال الشيخ : « ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ
ينتهي إليها ، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس » .
والثاني : أنها للتبعيضِ ، وفي التفسير : لو لم يقل « من الناس » لحجَّ الناسُ
كلُّهم .
قوله : « تَهْوي » هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل . والعامَّة « تَهْوِي » بكسرِ
العين بمعنى : تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم . قال :
2897- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه ... يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ
وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام ، كقوله :
2898- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها ... طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها
بِتَكُ
وإنَّما عُدِّي ب « إلى » لأنه ضُمِّنَ معنى « تميل » ، كقوله :
2899- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى ... ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها
وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح
الواو ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنَّ « إلى » زائدةٌ ، أي : تهواهم . والثاني :
أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل ، ومصدرُ الأول على « هُوِيّ » ، كقوله :
2900- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...
يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل
والثاني على « هَوَى » . وقال أبو البقاء : « معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى
- يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه ، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل » .
وقرأ مسلمة بن عبد الله : « تُهْوَى » بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ «
أهوى » المنقول مِنْ « هَوِيَ » اللازمِ ، أي : يُسْرَع بها إلى إليهم .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
قوله
تعالى : { عَلَى الكبر } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « على » على بابها من
الاستعلاءِ المجازيِّ . والثاني : أنها بمعنى مع كقوله :
2901- إنِّي على ما تَرَيْنَ من كِبَري ... أعلمُ مِنْ تُؤْكَلُ الكَتِفَ
قاله الزمخشري . ومحلُّ هذا الجارِّ النصبُ على الحالِ من الباء في « هَبْ لي » .
قوله : { لَسَمِيعُ الدعآء } فيه أوجه ، أحدُها : أن يكون فعيل مثالَ مبالغةٍ
مضافاً إلى مفعولِه ، وإضافتُه مِنْ نصبٍ ، وهذا دليلٌ لسيبويه على أن فَعِيلاً
يعملُ عملَ اسمِ الفاعل ، وإن كان قد خالف جمهور البصريين والكوفيين .
الثاني : انَّ الإِضافةَ ليسَتْ مِنْ نصبٍ ، وإنما هو كقولك : « هذا ضاربُ زيدٍ أمس
» . الثالث : أنَّ سميعاً مضافٌ لمرفوعه ويُجْعَلُ دعاءُ الله سميعاً على المجاز ،
والمراد سماع الله ، قاله الزمخشري .
قال الشيخ : « وهو بعيدٌ لاستلزامِهِ أن يكونَ من الصفة المشبهة والصفةُ متعديةُ ،
وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الفارسيِّ فإنه يُجيز أن تكونَ الصفةُ المشبهة من
الفعلِ المتعدِّي بشرطِ أَمْنِ اللَّبْس نحو : » زيد ظالمُ العبيد « إذا عُلِم أن
له عبيداً ظالمين ، وأمَّا هنا فالَّبْسُ حاصلٌ؛ إذ الظاهرُ أنه من إضافةِ المثالِ
للمفعولِ لا للفاعل » .
قلت : واللَّبْسُ أيضاً هنا مُنْتَفٍ لأن المعنى على الإِسناد المجازي كما تقرَّر
فانتفى اللَّبْسُ .
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
قوله
تعالى : { وَمِن ذُرِّيَتِي } : عطفٌ على المفعولِ الأول ل « اجعلني » ، أي :
واجعل بعضَ ذرِّيَّتي مقيمَ الصلاة . وهذا الجارُّ في الحقيقة صفةٌ لذلك المحذوفِ
، أي : وبعضاً من ذريتي .
قوله : { وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } قرأ أو عمروٍ وحمزةُ وورشٌ بإثبات الياء وصلاً
وحَذْفِها وقفاً ، والبزيُّ بإثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ،
وقد روي بعضُهم إثباتَها وقفاً أيضاً .
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قوله
تعالى : { وَلِوَالِدَيَّ } : العامَّةُ على « والِدَيَّ » بألفٍ بعد الواو
وتشديدِ الياء ، وابن جبير كذلك ، إلا أنه سَكَّن الياءَ أراد والده وحدّه كقولِه
{ واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] .
وقرأ الحسين بن علي ومحمد وزيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر « ولولدي » دون ألف ،
تثنية وَلَد ، ويعني بهما إسماعيل وإسحاق ، وأنكرها الجحدريُّ بأنَّ في مصحف
أُبَيّ « ولأبويَّ » فهي مفسِّرةٌ لقراءةِ العامَّة .
ورُوي عن ابنِ يعمر أنَّه قرأ « ولِوُلْدي » بضمِّ الواو وسكونِ الياء ، وفيها
تأويلان ، أحدُهما : أنه جمع « وَلَد » كأُسْد في « أَسَد » ، وأنْ يكونَ لغةً في
الوَلَد كالحُزْن والحَزَن ، والعَدَم والعُدْم ، والبُخْل والبَخَل ، وعليه قول
الشاعر :
2902- فليتَ زياداً كان في بَطْنِ أمِّه ... وليت زياداً كان وُلْدَ حمارِ
وقد قُرِئَ بذلك في مريم والزخرف ونوح في السبعة ، كما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى .
و « يومَ » نصبٌ ب « اغفر » .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
قوله تعالى : { لِيَوْمٍ } : أي : لأَجْلِ يومٍ ، فاللامُ للعلَّة وقيل : بمعنى إلى ، أي : للغاية . وقرأ العامَّة « يُؤَخِّرُهم » بالياء لتقدُّم اسمِ الله الكريم . وقرأ الحسن والسلميُّ والأعرج وخلائق - وتُروى عن أبي عمرو - « نَؤَخِّرُهم » بنون العظمة . و « تَشْخَصُ » صفةٌ ل « يوم » ومعنى شُخُوصِ البصر حِدّةُ النظرِ وعَدَمُ استقرارِه في مكانِه ، ويقال : شَخَص سَهْمُهُ وبَصَرُه وأشخصَهما صاحبُهما ، وشَخَصَ بصرُه : لم يَطْرِفْ جَفْنُه ، ويقال : شَخَص/ مِنْ بلدِه ، أي : بَعُدَ ، والشَّخْص : سوادُ الإِنسانِ المَرْئِيِّ من بعيد .
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
قوله
تعالى : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } : حالان من المضافِ المحذوفِ؛ إذ
التقديرُ : أصحاب الأبصار ، إذ يُقال : شَخَصَ زيدٌ بصرَه ، أو تكون الأبصارُ
دلَّتْ على أربابِها فجاءت الحالُ مِن المدلولِ عليه ، قالهما أبو البقاء . وقيل :
« مُهْطِعين » منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، اي : يُبْصِرُهم مُهْطِعين . ويجوز في «
مُقْنِعي » أن يكونَ حالاً من الضمير في « مُهْطِعين » فتكون حالاً متداخلةً .
وإضافة « مُقْنعي » غيرُ حقيقيةٍ فلذلك وَقَعَتْ حالاً .
والإِهطاع : قيل : الإِسراعُ في المشي قال :
2903- إذا دعانا فأَهْطَعْنا لدَعْوَته ... داعٍ سميعٌ فَلَفُّونا وساقُوْنا
وقال :
2904- وبمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأن عِنَانَه ... في [ رأس ] جَذْعٍ . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . .
وقال أبو عبيدة : « قد يكون الإِسراعَ وإدامةَ النظر » . وقال الراغب : « هَطَع
الرجلُ ببصره إذا صَوَّبه ، وبعيرٌ مُهْطِعٌ إذا صَوَّب عُنُقَه » . وقال الأخفش :
« هو الإِقبالُ على الإِصغاء » وأنشد :
2905- بِدِجْلَةَ دارُهُمْ ولقد أراهُمْ ... بِدِجْلِةَ مُهْطِعِيْن إلى السَّماعِ
والمعنى : مُقْبِلِيْن برؤوسهم إلى سَماع الدَّاعي . وقالَ ثعلب : « أَهْطِع
الرجلُ إذا نظر بِذُلٍّ وخُشُوعِ ، لا يُقْلِعُ ببصره » ، وهذا موافِقٌ لقول أبي
عبيدٍ فقد سُمِعَ فيه : أَهْطَعَ وهَطَعَ رباعياً وثلاثياً .
والإِقناع : رَفْعُ الرأسِ وإدامةُ النظر من غيرِ التفاتٍ إل غيرِه ، قاله
القتبيُّ وابنُ عرفة ، ومنه قولُه يَصِفُ إبلاً ترعى أعالي الشجر فترفع رؤوسها :
2906- يُباكِرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ ... نواجِذُهُنَّ كالِحَدأ الوَقيع
ويقال : أَقْنَعَ رأسَه ، أي : طَأْطَأها ونَكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعَةُ
: الاجتِزاءُ باليسير ، ومعنى قَنِع بكذا : ارتفع رأسُه عن السؤال ، وفَمٌ
مُقَنَّع : مَعْطُوفُ الأسنان داخله ورجلٌ مُقَنَّعٌ بالتشديد . ويقال : قَنِعَ
يَقْنَعُ قَناعةً وقَنَعاً إذا رَضِيَ ، وقَنَعَ قُنُوعاً إذا سَأَل ، فوقع الفرقُ
بالمصدر .
وقال الراغب : « قال بعضُهم : » أصلُ هذه الكلمةِ مِن القِناع ، وهو ما يُغَطَّي
الرأسَ ، والقانِعُ مَنْ [ لا ] يُلحُّ في السؤال فَيَرْضَى بما يأتيه كقوله :
2907- لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْني ... مَفاقِرَه أعفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مَقْنَعٌ يُقْنِعُ به . قال :
2908- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شُهودِيْ على
لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ
والرُّؤوس : جمع رَأْس وهو مؤنثٌ ، ويُجْمَع في القلة على أَرْؤُس ، وفي الكثرةِ
على رُؤوس ، والأَرْأَسُ : العظيم الرأسِ ، ويُعَبَّر بها عن الرجل العظيم كالوجهِ
، والرئيس مشتق مِنْ ذلك ، ورِئاسُ السيفِ مَقْبَضُهُ ، وشاةٌ رَأْساء اسْوَدَّت
رأسُها .
قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ } في محلِّ نصب على الحال أيضاً من الضمير في «
مُقْنِعِي » . ويجوز أن يكونَ بدلاً من « مُقْنِعي » كذا قال أبو البقاء ، يعني
أنه يَحُلُّ مَحَلَّه . ويجوز أن يكونَ استئنافاً .
والطَّرْفُ في الأصل مصدرٌ ، وأُطْلِقَ على الفاعلِ لقولِهم : « ما فيهم عَيْنٌ
تَطْرِفُ » ، [ ولعلَّه ] هنا العينُ . قال :
2909- وأَغُضُّ طَرْفي ما بَدَتْ لي جارَتي ... حتى يُواري جارَتي مَأْواها
والطَّرْفُ : الجَفْنُ أيضاً ، يقال : ما طَبَّق طَرْفَه - أي : جَفْنَه - على
الآخر ، والطَّرْفُ أيضاً تحريكُ الجَفْن .
قوله
: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } يجوز أن يكونَ استئنافاً ، وأن يكون حالاً ،
والعاملُ فيه : إمَّا « يَرْتَدُّ » ، وإمَّا ما قبله من العوامل . وأفرد « هواء »
وإن كان خبراً عن جمعٍ لأنه في معنى : فارغة متخرِّقة ، ولو لم يقصِدْ ذلك لقال :
« أَهْوِيَة » ليُطابِقَ الخبرُ مبتدأه .
والهواءُ : الخالي من الأجسام ، ويُعَبَّر به عن الجبن ، يقال : جَوْفُه هواءٌ ،
أي : فارغ ، قال زهير :
2910- كأن ارَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ ... من الظَّلْمَانِ جُؤْجُؤُه هَواءُ
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
2911- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأنت مُجَوَّفٌ
نَخِبٌ هواءُ
النَّخِب : الذي أَخَذْتَ نُخْبَته ، أي : خِيارَه .
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
قوله
تعالى : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } : مفعولٌ ثانٍ ل « أَنْذِرْ » ، أي : خَوِّفْهم
عذابَ يومٍ ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ إذ يَؤُول إلى قولِك : أَنْذِرْ
عذابَ يومِ يأتيهم العذابُ ، فلا حاجةَ إلى ذلك . ولا جائزٌ أن يكونَ ظرفاً له ،
لأنَّ ذلك اليومَ لا إنذارَ فيه ، سواءً قيل : إنه يومُ القيامةِ ، أو يومٌ
لهلاكهم ، أو يومَ يلقاهم الملائكةُ . وقوله : « نُجِبْ » جوابُ الأمر .
قوله : { أَوَلَمْ تكونوا } قال الزمخشريُّ : « على إرادةِ القول ، وفيه وجهان :
أن يقولوا ذلك بَطَراً وأَشَرَاً ، وأَنْ يقولوه بلسان الحالِ حيث بَنَوْا شديداً
وأمَّلوا بعيداً » .
و « مالكم » جوابُ القسمِ ، وإنما جاء بلفظِ الخطابِ ، لقوله : « أَقْسَمْتُمْ »
ولو جاء بلفظِ المُقْسِمين لقيل : ما لنا . وقَدَّر الشيخ ذلك القولَ من قولِ الله
تعالى أو الملائكةِ ، أي : فيقال لهم : أو لم تكونوا . وهو عندي أظهرُ مِن الأول ،
أعني جَرَيانَ القولِ مِنْ غيرهم لا منهم .
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
قوله
تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن } : أصلُ « سَكَن » التعدِّي ب « في » كما في هذه
الآيةِ ، وقد يتعدَّى بنفسه . قال الزمخشريُّ : « السُّكْنَى مِن السكونِ الذي هو
اللُّبْث ، وأصلُ تَعَدِّيه ب » في « كقولك : قَرَّ/ في الدارِ ، وأقامَ فيها ،
وغَنِي فيها ، ولكنه لمَّا نُقِل إلى سكونٍ خاص تصَرَّفَ فيه ، فقيل : » سَكَنَ الدارَ
« كما قيل : تبوَّأَها وأَوْطَنها ، ويجوز ان يكونَ مِن السُّكون ، اي : قَرُّوا
فيها واطمأنُّوا » .
قوله : « وتَبَيَّنَ » فاعلُه مضمرٌ لدلالةِ الكلامِ عليه ، [ أي ] : حالُهم
وخبرُهم وهلاكُهم . و « كيف » نَصْبٌ بفَعَلْنا ، وجملةُ الاستفهامِ ليست معمولةً ل
« تَبَيَّن »؛ لأنه من الأفعال التي لا تُعَلَّق ، ولا جائزٌ أن يكونَ « كيف »
فاعلاً ، ؛ لأنها : إمَّا شرطيةٌ أو استفهاميةٌ ، وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدَّمه
، والفاعلُ لا يتقدَّم عندنا .
وقال بعض الكوفيين : « إنَّ جملةَ » كيف فَعَلْنا « هو الفاعلُ » ، وهم يُجيزون أن
تكونَ الجملةُ فاعلاً ، وقد تقدم هذا قريباً في قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ
مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
والعامَّةُ على « تَبَيَّن » فعلاً ماضياً . وقرأ عمر لن الخطاب والسُّلَمي في
روايةٍ عنه : « ونُبَيِّنَ » بضمِّ النونِ الأولى والثانية ، مضارع « بَيَّن » ،
وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ حالٌ ، أي : ونحنُ نبيِّن . وقرأ السُّلَميُّ -
فيما نقل المهدويُّ - كذلك إلاَّ أنه سَكَّن النونَ للجزمِ نَسَقاً على « تكونوا »
، فيكونُ داخلاً في حيِّز التقدير .
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
قوله
تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } : يجوز أن يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لفاله
كالأولِ بمعنى : أنَّ مَكْرَهُمْ الذي مكروه جزاؤُه عند الله تعالى ، أو للمفعولِ
، بمعنى : أنَّ عند الله مَكْرَهم الذي يَمْكُرُهم به ، أي : يُعَذِّبهم . قالهما
الزمخشري . قال الشيخ : « وهذا لا يَصِحُّ إلا إنْ كان » مَكَرَ « يتعدَّى بنفسِه
كما قال هو ، إذ قدَّر : يمكرهم به ، والمحفوظ أنَّ » مَكَر « لا يتعدَّى إلى
مفعولٍ به بنفسِه . قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [
الأنفال : 30 ] ، وتقول : زيدٌ ممكورٌ به ، ولا يُحْفظ » زيدٌ ممكورٌ « بسبب كذا »
.
قوله « لِتَزُولَ » قرأ العامَّةُ بكسر اللام ، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا
القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛
لأنها بعد كونٍ منفيّ ، وفي « كان » حينئذٍ قولان ، أحدُهما : أنها تامَّةٌ ،
والمعنى : تحقيرُ مَكْرِهم ، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في
ثبوتِها وقوتِها . ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله : « وما كان مَكْرُهم » .
القول الثاني : أنها ناقصةٌ ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين
والكوفيين : هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به ، وإليه ذهب البصريون ، أو هذه اللام
وما جَرَّتْه ، كما هو مذهبُ الكوفيين ، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران .
الوجه الثاني : أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة . قال الزمخشري : « وإنْ عَظُمَ
مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته ، أي : وإنْ
كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك » . وقال ابن عطية : « ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه
القراءةِ : تَعظيمَ مَكْرِهم ، أي : وإن كان شديداً ، إنما يفعل لتذهب به عظامُ
الأمور » فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ .
والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابُها محذوف ، أي : وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً
لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي ، وهي المعجزات والآيات ، فالله مجازِيْهم بمكرٍ
هو أعظمُ منه . وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه
معارضةً لقراءة الكسائي ، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ ، وقراءةَ غيره
تُؤْذن بالنفي .
وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام
غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها ، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ
بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، فلا تَعارُضَ ، إذ
لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً .
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي « إنْ » وجهان : مذهبُ البصريين ، أنها المخففةُ واللام
فارقة ، ومذهبُ الكوفيين : أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى « إلا » ، وقد تقدَّم تحقيقُ
المذهبين .
وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة « وإن كاد مكرهم لَتزول
» كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون « كان » دالاًّ فعلَ مقاربة ، وتخريجها
كما تقدَّم ، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ .
وقُرِء « لَتَزُوْل » بفتح اللامين . وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ
مَنْ يفتح لام « كي » .
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
قوله
تعالى : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ } : العامَّةُ على إضافة « مُخْلِف » إلى « وعدِه »
وفيها وجهان ، أظهرهما : أن « مُخْلف » يَتَعَدَّى لاثنين كفعلِه ، فقدَّم
المفعولَ الثاني ، وأُضيف إليه اسمُ الفاعل تخفيفاً نحو : « هذا كاسِيْ جُبَّةٍ
زيداً » قال الفراء وقطرب : « لمَّا تعدَّى/ إليهما جميعاً لم يُبَالَ بالتقديمِ
والتأخير » . وقال الزمخشري : « فإن قلت : هلا قيل : مُخْلِفَ رسلِه وعدَه ، ولِمَ
قَدَّم المفعولَ الثاني على الأول؟ قلت : قَدَّمَ الوعدَ ليُعْلِمَ أنه لا
يُخْلِفُ الوعدَ ثم قال » رسله « ليُؤْذِنَ أنه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحداً - وليس
من شأنِه إخلافُ المواعيد - كيف يُخْلِفُه رُسلَهُ » .
وقال أبو البقاء : « هو قريب من قولهم :
2912- يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ ... وأنشد بعضُهم نظيرَ الآيةِ الكريمة قولَ
الشاعر :
2913- ترى الثورَ فيها مُدخِلَ الظلِ رأسَهُ ... وسائرُه بادٍ إلى الشمسِ أجمعُ
والحُسبان هنا : الأمر المنتفي ، كقوله :
2914- فلا تَحسَبَنْ أني أَضِلُّ مَنِيَّتي ... فكلُّ امرِئٍ كأسَ الحِمام يذوقُ
الثاني : أنه متعدٍّ لواحدٍ ، وهو » وعدِه « ، وأمَّا » رُسُلَه « فمنصوبٌ بالمصدر
، فإنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ تقديرُه : مُخْلِفُ ما وعدَ رُسَلَه ، ف »
ما « مصدريةٌ لا بمعنى الذي .
وقرأت جماعةٌ { مُخْلِفَ وَعْدَ رُسَلَهُ } بنصبِ » وعدَه « وجرِّ » رسلِه «
فَصْلاً بالمفعولِ بين المتضايفين ، وهي كقراءةِ ابن عامرٍ { قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ
شُرَكَآئِهِمْ } قال الزمخشري جرأةً منه : » وهذه في الضَّعْفِ كمَنْ قرأ { قَتْلُ
أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ } .
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
قوله
تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ } : يجوز فيه عدةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ منصوباً
ب « انتقام » ، أي : يقع انتقامُهُ في ذلك اليوم . الثاني : أن ينتصبَ ب « اذكْر »
. الثالث : ان ينتصبَ بما يتلخَّص مِنْ معنى { عَزِيزٌ ذُو انتقام } . الرابع : أن
يكونَ بدلاً من { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } [ إبراهيم : 44 ] . الخامس : أن ينتصبَ ب «
مُخْلِف » . السادس : أن ينتصبَ ب « وَعْدِه » ، و « إنَّ » وما بعدها اعتراضٌ .
ومنع أبو البقاء هذين الأخيرين ، قال « لأنَّ ما قبل » إنَّ « لا يعمل فيما بعدها
» . وهذا غيرُ مانعٍ لأنه كما تقدَّم اعتراضٌ فلا يُبالَى به فاصلاً .
وقوله : « والسماواتُ » تقديرُه : وتُبَدَّل السماواتُ غيرَ السماواتِ . وفي
التبديلِ قولان : هل هو متعلِّقٌ بالذات أو بالصفة؟ وإلى الثاني مَيْلُ ابنِ عباس
، وأنشد :
2915- فما الناسُ بالناسِ الذين عَهِدْتُهُمْ ... ولا الدارُ التي كنتُ تَعْلَمُ
وقرئ « نُبَدِّل » بالنون ، « الأرضَ » نصباً ، و « السماواتِ » نَسَقٌ عليه .
قوله : « وبَرَزوا » فيه وجهان : أحدُهما أنها جملةٌ مستأنفةٌ ، أي : ويَبْرُزُون
، كذا قدَّره أبو البقاء ، يعني أنه ماضٍ يُراد به الاستقبالُ ، والأحسنُ أنه
مِثْلُ { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [
الأعراف : 44 ] { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] { أتى أَمْرُ
الله } [ النحل : 1 ] لتحقُّقِ ذلك .
والثاني : أنها حالٌ من الأرض ، و « قد » معها مُرادةٌ ، قاله أبو البقاء ، ويكون
الضميرُ في « بَرَزوا » للخَلْق دَلَّ عليهم السياقُ ، والرابطُ بين الحالِ وصاحِبِها
الواوُ .
وقرأ زيدُ بنُ علي « وبُرِّزوا » بضم الباءِ وكسر الراء مشددةً على التكثير في
الفعلِ ومفعوله .
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
قوله
تعالى : { مُّقَرَّنِينَ } : يجوز أن يكونَ حالاً على أنها بَصَرية ، وأن يكونَ
مفعولاً ثانياً على أنها عِلْمية . و { فِي الأصفاد } متعلِّقٌ به . وقيل :
بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو صفةٌ ل « مُقَرِّنين » . والمُقَرَّنُ : مَنْ جُمِعَ في
القَرَن ، وهو الحبلُ الذي يُرْبط به ، قال :
2916- وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ
البُزْلِ القَناعِيٍسِ
وقال آخر :
2917- والخيرُ والشرُّ مَلْزُوْزان في قَرَنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
وفي التفسير : أنَّ كلَّ كافرٍ يُقْرَنُ مع شيطانِه في سلسلة .
والأَصْفاد : جمعُ صَفَد وهوى الغِلُّ والقيد ، يُقال : صَفَده يَصْفِدُه صَفْداً
: قَيَّده ، والاسمُ : الصَّفَد ، وصَفَّده مشدداً للتكثير . قال :
2981- فآبُوا بالنهَّائِبِ والسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلوكِ مُصفَّدينا
والصِّفاد مثلُ الصَّفَدِ ، وأَصْفَده ، أي : أعطاه ، فَفَرَّقوا بين فَعَل
وأَفْعل . وقيل : بل يُستعملان في القَيْد وفي العطاء .
قال النابغة :
2919- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم أُعَرِّض -أبيتَ اللَّعْنَ-
بالصَّفَد
أي : بالإِعطاءِ ، وسُمِّي العَطاءُ صَفَداً لأنه يُقَيِّدُ مَنْ يعطيه ومنه « أنا
مَغْلولُ أياديك ، وأَسِيْرُ نِعْمَتِك » .
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
قوله
تعالى : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } : مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال :
إمَّا من « المجرمين » ، وإمَّا من « مُقَرَّنين » ، وإمَّا مِنْ ضميره . ويجوز أن
تكونَ مستانفةً ، وهو الظاهر .
والسَّرابيلُ : الثياب . وسَرْبَلْتُه ، أي : أَلْبَسْتَه السِّربال . قال :
2920- أَوْدَى بنَعْلَيَّ وسِرْباليَهْ ... ويُطلقُ على ما يُحَصَّنُ في الحَرْب ،
من الدِّرْع وشبهِه ، قال تعالى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل :
81 ] .
والقَطِران : ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإِبلُ الجُرُبُ
لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته ، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشتعال به . وفيه لغاتٌ :
قَطِران بفتح/ القاف وكسر الطاء ، وهي قراءةُ العامَّة . وقَطْران بزنة سَكْران
وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب . وقال أبو النجم :
2921- لَبَّسَه القَطْرانَ والمُسُوحَا ... وقِطْران بكسر القافِ وسكونِ الطاء
بزنة سِرْحان ، ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْت .
وقرأ جماعةٌ كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة والحسَن «
بَقَطِرٍ » بفتح القافِ وكسرِ الطاءِ وتنوينِ الراء ، « آنٍ » بوزن عانٍ ، جعلوهما
كلمتين والقَطِر : النحاس ، والآني : اسمُ فاعل مِنْ أَنَى يَأْني ، أي : تناهى في
الحرارةِ كقوله : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] ، وعن عمرَ رضي الله
عنه « ليس بالقَطْران ، ولكنه النحاسُ الذي يَصير بلَوْنِه » .
وقرىء : « وتَغَشَّى » بتشديدِ الشينِ ، أي : وتَتَغشَّى ، فحذف إحدى التاءين .
وقُرِئ برفعِ « وجوهُهم » ونصبِ « النار » على سبيلِ المجاز ، جَعَلَ ورودَ
الوجوهِ النارَ غِشْياناً .
والجملةُ من قوله « وتَغْشى » قال أبو البقاء : « حالٌ أيضاً » ، يعني أنها
معطوفةٌ على الحال ، ولا يَعْني أنها حالٌ ، والواوُ للحال؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ .
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ } : في هذه الآيةِ وجهان . أولاهما : أن يتعلَّق ب « بَرَزُوا » ، وعلى هذا فقولُه « وَتَرَى » جملةٌ معترضةٌ بين المتعلِّق والمتعلِّق به . والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : فَعَلْنا بالمجرمين ذلك ليَجْزي كلَّ نفس؛ لأنه إذا عاقب المجرمَ أثاب الطائعَ .
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
وقوله
تعالى : { هذا } إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِن قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ } [ إبراهيم
: 47 ] إلى هنا ، أو إلى كلِّ القرآن نُزِّل مَنْزِلةَ الحاضر .
قوله : « وَلِيُنْذَروا » فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي :
وليُنْذِرُوا به أَنْزَلْنا عليك .
الثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ ، ذلك المحذوفُ متعلقٌ ب « بلاغ » ، تقديره :
ليُنْصَحوا ولِيُنْذَروا . الثالث : أن الواوَ مزيدةٌ و « لِيُنْذَروا » متعلقٌ ب
« بلاغ » ، وهو رأيُ الأخفش ، نقله الماوردي . الرابع : أنه محمولٌ على المعنى ،
أي : ليُبَلَّغُوا ولِيُنْذَرُوا . الخامس : أن اللامَ لامُ الأمر . قال بعضُهم :
وهو حسنٌ لولا قولُه « ولِيَذَّكَّر » فإنه منصوبٌ فقط . قلت : لا محذورَ في ذلك
فإنَّ قولَه « ولِيَذَّكَّرَ » ليس معطوفاً على ما تقدَّمه ، بل متعلِّقٌ بفعلٍ
مقدر ، أي : ولِيَذَّكَّر أَنْزَلْناه وأَوْحيناه . السادس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ
. التقدير : هذا بلاغٌ وهو ليذَّكَّر ، قاله ابن عطية . السابع : أنه عطفُ مفردٍ
على مفردٍ ، أي : هذا بلاغٌ وإنذار ، قاله المبرد ، وهو تفسيرُ معنى لا إعرابٍ .
الثامن : أنه معطوفٌ على قوله { لِتُخْرِجَ الناس } [ إبراهيم : 1 ] في أولِ
السورة . وهذا غريبٌ جداً . التاسع : قاله أبو البقاء : « المعنى : هذا بلاغٌ
للناسِ وللإِنذار ، فتعلَّق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جَعَلْتَ » الناس « صفةً ،
ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره : ولِيُنْذَروا به أُنْزِل وتُلِي » . قلت :
فيؤدي التقدير إلى أَنْ يَبْقى التركيبُ : هذا بلاغٌ للإِنذار ، والإِنذارُ لا
يتأتَّى فيه ذلك .
وقرأ العامَّة : « لِيُنْذَرُوا » مبنياً للمفعول ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس : «
ولِتُنْذِرُوا » بتاءٍ مضمومة وكسرِ الذال ، كأنَّ البلاغَ للعموم والإِنذار
للمخاطبين .
وقرأ يحيى بن عُمارة الذارع عن أبيه ، وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي . «
ولِيُنْذَرُوا » بفتح الياء والذال مِنْ نَذَر بالشيء ، أي : عَلِم به فاستعدَّ له
، قالوا : ولم يُعرف له مصدرٌ فهو كَعَسَى وغيرِها من الأفعالِ التي لا مصادرَ لها
.
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ } تقدَّم نظيرُها في أولِ الرعد . والإِشارة ب « تلك » إلى ما تضمَّنته السورةُ ، ولم يذكرْ الزمخشري غيرَه . وقيل : إشارةٌ إلى الكتب السالفة . وتنكيرُ القرآنِ للتفخيم .
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
قوله
تعالى : { رُّبَمَا } { رُبَ } : فيها قولان ، أحدُهما : أنها حرفُ جرٍّ ، وزعم
الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم . ومعناها التقليلُ على المشهور .
وقيل : تفيد التكثير . وقيل : تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله :
29220- فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ
وقد أُجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النظير . ودلائلُ هذه الأقوال في النحو . وفيها
لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها : « رُبَ » بالضم والتشديد ، أو التخفيف ، وبالثانية قرأ نافع
وعاصم . و « رَبَ » بالفتح مع/ التشديد والتخفيف ، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع
السكون فيهما . وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك ، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ
بن علي : رُبَّتَما . وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت
ولات ، فتكثر الألفاظ ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها : لزومُ تصديرِها ، ومنها تنكيرُ
مجرورِها وقوله :
2923- رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ ... وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى
ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ « الجامِل » . وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ
بعده ، يُستغنى بتثيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه
كقولِه «
2924- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ورُبَّه
عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقةُ نحو : : رُبَّهما رجلين » نادرةٌ . وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف
إلى ضميرِه نحو : « رُبَّ رجلٍ وأخيه » . وها يلزم وَصْفُ مجرورِها ، ومُضِيُّ ما
يتعلَّق به؟ خلاف ، والصحيحُ عدمُ ذلك . فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ :
2925- يا رُبَّ قائلةٍ غداً ... يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ
ومن مجيء المستقبلِ قولُه :
2926- فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ ... عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقولُها : « يا رُبَّ قائلةٍ غداً » البيت ، وقول سليم :
2927- ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى ... سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب
فإنَّ حرف التنفيس و « غداً » خَلَّصاه للاستقبالِ .
و « ما » في « رُبما » تحتمل وجهين ، أظهرُهما : أنها المهيِّئَةُ ، بمعنى : أن «
رُبَّ » مختصةٌ بالأسماء ، فلمَّا جاءت « ما » هَيَّأت دخولَها على الأفعال . وقد
تقدَّم نظيرُ ذلك في « إنَّ » وأخواتها ، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِه :
2928- رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . .
في روايةِ مَنْ رَفَعه ، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه . والثاني : أنَّ « ما »
نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها ، والعائدُ على « ما » محذوفٌ ، تقديره :
رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا .
وقوله : { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم
يَحْتَجْ إلى تأويلٍ ، ومَنْ التَزَم ذلك قال : لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله
تعالى واقعٌ لا محالةَ ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه ، كقوله : { أتى
أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ونحوِه .
قوله : { لَوْ كَانُواْ } يجوز في « لو » أن تكونَ الامتناعيةَ ، وحينئذٍ يكون
جوابُها محذوفاً . تقديره : لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك ، أو لَخَلصوا ممَّا هم
فيه . ومفعولُ « يَوَدُّ » محذوفٌ على هذا التقديرِ : أي : رُبَّما يودُّ الذين
كفروا النجاةَ ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية .
والثاني : أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة . وحينئذٍ
يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة ، أي : يَوَدُّون كونَهم مسلمين ، إنْ
جعلنا « ما » كافةً ، وإنْ جعلناها نكرةً كانت « لو » وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ
« ما » .
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قوله
تعالى : { ذَرْهُمْ } : هذا لا يُستعمل له ماضٍ إلا قليلاً استغناءً عنه ب «
تَرَكَ » بل يُستعمل منه المضارعُ نحو : { وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] . ومن
مجيء الماضي قولُه عليه السلام : « ذَرُوا الحبشة ما وَذَرَتْكم » ، ومثله : دَعْ
ويَدَعُ ، ولا يقال « وَدَعَ » إلاَّ نادراً ، وقد قرئ « ما وَدَعك » مخفَّفاً ،
وأنشدوا قوله :
2929- سَلْ أميري ما الذي غيَّرهْ ... عن وصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
و { يَأْكُلُواْ } مجزومٌ على جوابِ الأمر ، وقد تقدَّم أنَّ « تَرَكَ » و « ذَرْ
» يكونان بمعنى صَيَّر ، فعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفاً ، أي : ذَرْهُمْ
مُهْمِلين ، ولا يكونوا هو الثاني ولا حالاً؛ إذ كان يجبُ رفعه .
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
قوله
تعالى : { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ } : فيه أوجه ، أحدُها : - وهو الظاهرُ- أنها
واوُ الحالِ ، ثم لك اعتباران ، أحدُهما : أن تجعل الحالَ وحدَها الجارَّ ، ويرتفع
« كتابٌ » به فاعلاً . والثاني : أن تجعلَ الجارَّ خبراً مقدماً ، و « كتاب »
مبتدأ والجملةُ حالٌ ، وهذه الحالُ لازمةٌ .
الثاني : أنَّ الواوَ مزيدةٌ ، وأيَّد هذا قولَه بقراءة ابن أبي عبلة « إلا لها »
بإسقاطِها . والزيادةُ ليسَتْ بالسهلةِ .
الثالث : أنَّ الواوَ داخِلةٌ على الجملةِ الواقعة صفةً تأكيداً ، قال الزمخشري :
« /والجملةُ واقعةٌ صفةً لقرية ، والقياسُ أن لا تتوسطَ هذه الواوُ بينهما كما في
قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء :
208 ] وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوق الصفة بالموصوف ، كما تقول : » وجاءني زيد
عليه يوبُه ، وجاءني وعليه ثوبُه « . وقد تَبِعَ الزمخشريُّ في ذلك أبو البقاء
تعالى : وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله تعالى : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الآية : 216 ] .
قال الشيخ : » ولا نَعْلَمُ أحداً قاله من النحويين ، وفي محفوظي أنَّ ابنَ جني
سَبَقهما إلى ذلك « . ثم قال الشيخ : » وهو مبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعد « إلا »
يكون صفةً ، وقد مَنَعُوا ذلك . قال الأخفش : « لا يُفْصَل بين الصفةِ والموصوفِ ب
» إلا « . ثم قال : وأمَّا نحوُ : » ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ « على تقدير : إلا
رجلٌ راكب ، وفيه قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسم » . وقال أبو عليّ : « تقول :
ما مررتُ بأحدٍ إلا قائماً ، » قائماً « حال ، ولا تقول : إلا قائمٍ ، لأنَّ »
إلاَّ « لا تعترضُ بين الصفةِ والموصوفِ » . وقال ابنُ مالك -وقد ذكر ما ذهب إليه
الزمخشريُّ في قوله « ما مررت بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه » : إنَّ الجملة بعد « إلا
» صفةٌ ل « أحد » : « إنه مذهبٌ لا يُعرف لبصريٍّ ولا كوفيٍّ ، فلا يُلتفتُ إليه ،
وأَبْطَلَ قولَه : إن الواوَ توسَّطت لتأكيدِ لُصوقِ الصفةِ بالموصوف .
قلت : قولُ الزمخشريُّ قويٌّ من حيث القياسُ ، فإنَّ الصفةَ كالحال في المعنى ،
وإن كان بينهما فرقٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ ، فكما أن الواوُ تدخلُ على الجملةِ
الواقعةِ حالاً كذلك تَدْخلُ عليها واقعةً صفةً . ويقوِّيه أيضاً ما نظَّره به من
الآيةِ الأخرى في قوله { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } ويُقَوِّيه أيضاً قراءةُ ابن
أبي عبلة المتقدمةُ .
وقال منذر بن سعيد : » هذه الواوُ هي التي تعطي أنَّ الحالةَ التي بعدها في اللفظ
هي في الزمنِ قبل الحالةِ التي قبل الواوِ ، ومنه قولُه تعالى : { حتى إِذَا
جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] .
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
قوله تعالى : { مِنْ أُمَّةٍ } فاعلُ « تَسْبِقُ » ، و « مِنْ » مزيدةٌ للتأكيد ، وحُمِل على لفظِ « أمَّة » في قوله « أجلَها » فأفردَ وأنَّثَ . وعلى معناها في قولِه { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } فَجَمَعَ وَذَكَّرَ . وحَذَفَ متعلِّق « يَسْتأخِرُون » ، تقديرُه : « عنه » للدلالةِ عليه ، ولوقوعِه فاصلةً .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قوله تعالى : { نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } العامَّةُ على « نُزِّل » مشدَّداً مبنيَّاً للمفعول ، وزيدُ بنُ علي « نَزَلَ » مخففاً مبنياً للفاعل .
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
قوله
تعالى : { لَّوْ مَا } حرفُ تحضيضٍ كهَلاَّ ، وتكون أيضاً حرفَ امتناعٍ لوجود ،
وذلك كما أنَّ « لولا » مترددةٌ بين هذين المعنيين ، وقد عُرِف الفرقُ بينهما :
وهو أنَّ التحضيضيَّةَ لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً كقولِهِ :
2930- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . لولا الكَمِيَّ
المُقَنَّعَا
والامتناعيةُ لا يليها إلا الأسماءُ لفظاً أو تقديراً عند البصريين . وقولُه :
2931- ولولا يَحْسَبُون الحِلْمَ عَجْزاً ... لَمَا عَدِمَ المُسِيْئُون احتمالي
مؤولٌ خلافاً للكوفيين . فمِنْ مجئ « لَوْما » حرفَ امتناعٍ قولُه :
2932- لَوْما الحياءُ ولوما الدينُ عِبْتُكما ... ببعضِ ما فيكما إذ عِبْتُما
عَوَري
واخْتُلِف فيها : هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟ فقال الزمخشري : « لو » رُكِّبَتْ مع «
لا » ومع « ما » لمعنيين ، وأمَّا « هل » فلم تُرَكَّب إلا مع « لا » وحدَها
للتحضيض . واخْتُلِف أيضاً في « لوما » : هل هي أصلٌ بنفسِها أو فرعٌ على « لولا
»؟ وأن الميمَ مبدلةٌ من اللامِ كقولهم : خالَلْتُه وخالَمْته فهو خِلِّي وخِلْمي
، أي : صديقي . وقالوا : استولى عليَّ كذا ، واستومَى عليه بمعنى؟ خلاف مشهور .
وهذه الجملةُ من التحضيضِ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها .
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قوله
تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } قرأ أبو بكر : « ما نُنَزِّل » بضمِّ التاء
وفتحِ النونِ والزايِ مشددةً مبنياً للمفعول ، « الملائكةُ » مرفوعاً لقيامِه
مَقامَ فاعلِه ، وهو موافقٌ لقولِه : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان
: 25 ] ، ولأنها لا تُنَزَّلُ إلا بأمرٍ من الله ، فغيرُها هو المُنَزِّل لها وهو الله
تعالى .
وقرأ الأخَوان وحفصٌ بضم النون وفتح الثانية وكَسْرِ الزاي مشددةً مبنياً للفاعل
المعَظَّم ، وهو الباري تعالى ، « الملائكةَ » نصباً مفعولاً بها ، وهو موافِقٌ
لقولِه تعالى { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة } [ الأنعام : 111
] ، ويناسِبُ قولَه قبل ذلك { وَمَآ أَهْلَكْنَا } [ الحجر : 4 ] ، وقولُه بعده {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] وما بعده من ألفاظِ التعظيمِ . والباقون
من السبعةِ « ما تَنَزَّلُ » بفتح التاء والنون والزايِ/ مشددةً ، و « الملائكةُ »
مرفوعةً على الفاعلية ، والأصل : تَتَنَزَّل بتاءين ، فَحُذِفت إحداهما ، وقد
تقدَّم تقريرُه في { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ونحوه ، وهو موافقٌ لقولِه
{ تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ « ما نَزَلَ » مخفَّفاً مبنياً للفاعل ، « الملائكة » مرفوعةً
بالفاعلية ، وهو كقولِه { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
قوله : { إِلاَّ بالحق } يجوز تعلٌُّق بالفعلِ قبله ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ
مِنَ الفاعلِ أو المفعولِ ، أي : ملتبسين بالحق . ودعله الزمخشريُّ نعتاً لمصدر
محذوف ، أي : تَنَزُّلاً ملتبساً بالحقِّ .
قوله : « إَذَنْ » قال الزمخشري : « إذن » حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ لأنَّها جوابٌ لهم ،
وجزاءُ الشرطِ مقدرٌ ، تقديرُه : ولو نَزَّلْنا الملائكة ما كانوا مُنْظرين ومات
أُخِّر عذابُهم .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قوله تعالى : { نَحْنُ } : إمَّا مبتدأ ، وإمَّا تأكيدٌ ، ولا يكون فصلاً لأنه لم يقع بين اسمين . والضمير في « له » للذِّكْر ، وهو الظاهرُ . وقيل : للرسولِ عليه السلام .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
قوله
تعالى : { أَرْسَلْنَا } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : أرسلنا رسلاً من قبلك ، ف « مِنْ
قبلك » يجوز أن يتعلَّقَ ب « أَرْسَلْنَا » ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أنه نعتٌ
للمفعولِ المحذوفِ .
و { شِيَعِ الأولين } قال الفراء : « هو من إضافة الموصوفِ لصفتِه ، والأصلُ : في
الشِّيَع الأولين كصلاة الأُولى ، وجانب الغربيّ » . والبصريون يُؤَوِّلُونه على
حذفِ الموصوفِ ، اي : في شِيَع الأممِ الأوَّلين ، وجانب المكانِ الغربي ، وصلاة
الساعةِ الأولى .
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
قوله
تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم } قال الزمخشري « حكايةُ حالٍ ماضيةٍ؛ لأنَّ » ما « لا
تدخُل على مضارعٍ إلا وهو في موضع الحال ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال »
. وهذا الذي ذكرَه هو الأكثرُ في لسانِهم ، لكنه قد جاءَتْ مقارِنَةً للمضارعِ
المرادِ به الاستقبالُ كقولِه تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَآءِ نفسي } [ يونس : 15 ] ، وأنشدوا للأعشى يمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم
:
2933- له صَدَقاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُها ... وليس عطاءُ اليومِ مانِعَه غَدا
وقولَ أبي ذؤيب :
2934- أودَى بَنِيَّ وأَوْدَعُونيْ حَسْرة ... عند الرُّقَادِ وعَبْرةً ما
تُقْلِعً
قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حالاً من مفعولِ «
يَأتِيهمْ » . ويجوزُ أن تكونَ صفةً ل « رسول » فيكونَ في محلِّها وجهان : الجرُّ
باعتبارِ اللفظ ، والرفعُ باعتبارِ الموضعِ ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مقدرةٌ .
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
قوله
تعالى : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } يجوز في الكافِ أن تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على
أنها خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : الأمرُ كذلك ، و « نَسْلُكُه » مستأنفٌ . ويجوز أن
تكونَ منصوبةَ المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف ، أي : مثلَ ذلك السَّلْكِ
ونحوِه نَسْلُكُه ، أي : نَسْلُكُ الذِّكْرَ ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المقدَّرِ
.
والهاءُ في « نَسْلُكُه » يجوز عَوْدُها للذِّكْر ، وهو الظاهر . وقيل : يعودُ
للاستهزاء . وقيل : على الشِّرك . !
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
والهاء
في : { بِهِ } يجوز عَوْدُها على ما تقدَّم من الثلاثة ، ويكون تأويلُ عَوْدِها
على الاستهزاءِ والشِّرْكِ ، أي : لا يؤمنون بسببِه . وقيل : للرسولِ ، وقيل :
للقرآن . وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكونَ حالاً ، أي : لا يؤمنون مُسْتهزئين »
قلت : كأنه جعل « به » متعلقاً بالحالِ المحذوفةِ قائماً مَقامَها ، وهو مردودٌ؛
لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلةً أو خبراً تعلَّق بكونٍ مطلقٍ لا خاصٍ
، وكذا الظرفُ .
ومحلُّ { لاَ يُؤْمِنُونَ } النصبُ على الحال ، ويجوز أَنْ لا يكونَ لها محلَّ ،
لأنها بيانٌ لقوله { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } .
وقوله { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } استئناف .
والسَّلْكُ : الإِدخال . يقال : سَلَكْتُ الخيطَ في الإبْرة ، ومنه { مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] يُقال : سَلَكَه وأَسْلكه ، أي : نَظَمَه
، قال الشاعر :
2935- وكنتُ لِزازَ خَصْمِك لم أُعَرِّدْ ... وقد سَلَكُوكَ في أَمْرٍ عَصِيْبِ
وقال الآخر في « أَسَلَكَ » :
2936- حتى إذا أَسْلَكُوهمْ في قُتائِدَةٍ ... شَلاًّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالةُ
الشُّرُدا
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
قوله تعالى : { فَظَلُّواْ } : هي الناقصةُ ، والضميرُ في « فظلُّوا » عائدٌ على الكفارِ المُفَتَّحِ لهم البابُ . وقيل : يعودُ على الملائكة . وقرأ الأعمشُ وأبو حَيْوة « يَعْرِجون » بكسر الراء ، وهي في لغةُ هُذَيْلٍ في عَرَج يَعْرِج ، أي : صَعِد .
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قوله
تعالى : { سُكِّرَتْ } : قرأ ابن كثير « سُكِرَتْ » مبنياً للمفعول مخففَ الكاف ،
وباقي السبعة كذلك ، إلا أنهم شدَّدُوا الكاف . والزهري « سَكِرَتْ » بفتح السين
وكسرِ الكاف خفيفةً مبنياًَ للفاعل .
فأمَّا القراءةُ الأولى فيجوز أن تكونَ بمعنى المشددة ، فإنَّ التخفيفَ يَصْلُح
للقليلِ والكثير ، وهما مأخوذتان من « السِّكْر » بكسرِ السينِ وهو السَّدُّ ،
فالمعنى : حُبِسَتْ أبصارنا وسُدَّت . وقيل : بمعنى عُطِبَتْ . وقيل : بمعنى
أُخِذَتْ . وقيل : بمعنى سُحِرَتْ . وقيل : المشدَّدُ مِنْ سِكْرِ الماء ،
والمخفَّفُ بمعنى سُحِرَتْ . / وقيل : المشدَّدُ مِنْ سِكْر الماءِ بالكسرِ ،
والمخفَّفُ مِنْ سُكْرِ الشَّراب بالضم .
والمشهورُ أنَّ « سَكَر » لا يتعدَّى فكيف بُني للمفعول . فقال أبو علي : « ويجوز
أن يكونَ سُمِع متعدَّياً في البصر » والذي قاله المحققون مِنْ أهل اللغة أنَّ «
سَكَرَ » : إنْ كان مَنْ سَكِرَ الشرابِ ، أو مِنْ سَكَرِ الريح ، فالتضعيفُ فيه
للتعدية ، وإن كان مِنْ سَكَرِ الماءِ فالتضعيفُ للتكثيرِ لأنه متعدًّ مخففاً ،
وذلك أنه يُقال : سَكَرَتْ الريح تَسْكُرُ سَكَراً إذا رَكَدَتْ ، وسَكِر الرجلُ
من الشراب سَكَراً إذا رَكَد ولم يَنْفُذْ لحاجته ، فهذان قاصران ، فالتضعيفُ
فيهما للتعدية . ويقال : سَكَرْتُ الماءَ في مجارِيْه : إذا مَنَعْتَه من الجَرْيِ
، فهذا متعدٍّ ، قالتضعيفُ فيه للتكثير .
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فإن كانت مِنْ سَكَر الماءِ فواضحةٌ لأنه متعدٍّ ، وإن
كانَتْ مِنْ سَكَرِ الشَّرابِ أو سَكَر الريحِ فيجوز أن يكون الفعلُ استُعْمل
لازماً تارةً ومتعدياً أخرى ، نحو : رَجَع زيدٌ ، ورَجَعَه غيرُه ، وسَعَدَ وسَعَدَه
غيرُه .
وقال الزمخشري : « وسُكِّرت : حُيِّرَتْ ، أو حُبِسَتْ من السَّكَر أو السَّكْر ،
وقُرئ » سُكِرَتْ « بالتخفيف ، أي : حُبِسَتْ كما يُحْبَسُ النهرُ مِنَ الجَرْيِ »
فجعل قراءة التشديدِ محتملةً لمعنيين ، وقراءةَ التخفيفِ لمعنىً واحدٍ .
وأمَّا قراءةُ الزُّهريِّ فواضِحَةٌ ، أي : عُطِبَتْ . وقيل : هي مطاوعُ
أَسْكَرْتُ المكانَ فسَكِرَ ، أي : سَدَدْتُه فانْسَدَّ .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
قوله
تعالى : { جَعَلْنَا } : يجوز أن يكونَ بمعنى خَلَقْنا ، فيتعلَّقَ به الجارُّ ،
وأن يكونَ بمعنى صَيَّرنا ، فيكون مفعولُه الأول « بُروجاً » ، ومفعولُه الثاني
الجارَّ ، فيتعلَّقُ بمحذوف .
و « للناظرين » متعلِّقٌ ب « زيَّنَاها » . والضميرُ للسماء . وقيل : للبروجِ ،
وهي الكواكبُ ، زَيَّنها بالضوء . والنظر عينيٌّ . وقيل : قلبيٌّ . وحُذِف
متعلِّقُه لِيَعُمَّ .
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مَنِ استرق } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : في محلِّ نصب على
الاستثناءِ المتصلِ ، والمعنى : فإنها لم تُحْفَظْ منه ، قاله غيرُ واحدٍ . والثاني
: منقطع ، ومحلُّه النصبُ أيضاً . الثالث : أنه بدلٌ مِنْ { كُلِّ شَيْطَانٍ }
فيكون محلُّه الجرَّ ، قاله الحوفي وأبو البقاء . وفيه نظر؛ لأن الكلامَ موجَبٌ .
الرابع : أنه نعتٌ ل { كُلِّ شَيْطَانٍ } ، فيكونُ محلُّه الجرَّ على خلافٍ في هذه
المسألة . الخامس : أنه في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه «
فأَتْبعه » . وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لأنَّ « مَنْ » : إمَّا شرطيةٌ ، وإمَّا
موصولةٌ مُشَبَّهَةٌ بالشرطية ، قاله أبو البقاء ، وحينئذ يكونُ من بابِ الاستثناء
المنقطع .
والشِّهاب : الشٌُّعْلَةُ من النار ، وسُمِّي بها الكوكبُ لِشِدَّة ضوئِه
وبَرِيْقِهِ ، ويُجمع على شُهُب في الكثرة ، وأَشْهِبَة . والشُّهْبَةُ : بياضٌ
مختلِط بسوادٍ تشبيهاً بالشهاب لاختلاطِه بالدخان ، ومنه كتيبةٌ شَهْباءُ لسوادِ
القوم وبياضِ الحديد ، ومِنْ ثَمَّ غَلِط الناسُ في إطلاقهم الشُّهْبَةَ على
البياضِ الخالِص .
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
قوله
تعالى : { والأرض مَدَدْنَاهَا } : « الأرض » نصبٌ على الاشتغالِ ، ولم يُقرأ
بغيرِه؛ لأنه راجحٌ مِنْ حيث العطفُ على جملةٍ فعليةٍ قبلها ، وهي قوله { وَلَقَدْ
جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً } [ الحجر : 16 ] .
قال الشيخ : « ولمَّا كانَتْ هذه الجملةُ بعدها جملةً فعليةً كان النصبُ ارجحَ
مِنَ الرفع » قلت : لم يَعُدُّوا هذا من القرائن المرجَّحة للنصب ، إنما عَدُّوا
عطفَها على جملةٍ فعليةٍ قبلَها لا عطفَ جملةٍ فعليةٍ عليها ، ولكنه القياسُ ، إذ
تُعْطَفُ فيه فعليةٌ على مثلِها بخلافِ ما لو رَفَعْتَ ، إذ تَعْطِفُ فعليةً على
اسميةٍ ، لكنهم لم يعتبروا ذلك والضميرُ في « فيها » للأرض . وقيل : للرواسي .
وقيل : لهما .
قوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز في « مَنْ » أن تكونَ تبعيضيةً وهو الصحيحُ ،
وأن تكونَ مزيدةً عند الكوفيين والأخفش .
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
قوله
تعالى : { وَمَن لَّسْتُمْ } : يجوز في « مَنْ » خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو قول
الزجاج - أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ تقديرُه : وأَعَشْنا مَنْ لستم لهم برازقين ،
كالعبيد والدوابِّ/ والوحوشِ . الثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على « معايش » ، أي :
وجعلنا لكم فيها مَنْ لستم له برازقين من الدوابِّ المنتفعِ بها . الثالث : أنه
منصوبٌ عطفاً على محلِّ « لكم . الرابع : أنه مجرورٌ عطفاً على » كم « المجرورِ
باللام ، وجاز ذلك مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ على رأيِ الكوفيين وبعضِ البصريين ،
وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة البقرة ، عند قوله { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد } [ البقرة
: 217 ] . الخامس : أنه مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ . أي : ومَنْ لستم له
برازقين جَعَلْنا له فيها معايشَ ، وسُمِع من العرب » ضربْتُ زيداً وعمروٌ « برفع
» عمرٌو « مبتدأً ، محذوفَ الخبر ، أي : وعمرٌو ضربْتُه .
و » مَنْ « يجوز أن يُرادَ بها العقلاءُ ، أي : ومَنْ لستُمْ له برازقين مِنْ
مواليكم الذين تزعمون أنَّكم ترزقونه من وأن يُرادَ بها غيرُهم ، أي : ومَنْ
لَسْتُمْ له برازقين من الدوابِّ ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم ، وإليه ذهب
جماعةٌ من المفسِّرين . ويجوز أن يُراد بها النوعان ، وهو حَسَنٌ لفظاً ومعنى .
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
قوله
تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ } : « إنْ » نافيةٌ ، و « مِنْ » مزيدةٌ في المبتدأ ،
و « عندنا » خبرُه ، و « خزائنُه » فاعلٌ به لاعتماده ، ويجوز أن يكونَ « عندنا »
خبراً لما بعده ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، والأولُ أَوْلى لقُرْب الجارِّ من المفرد
.
قوله : { إِلاَّ بِقَدَرٍ } يجوزُ أن يتعلَّق بالفعلِ قبلَه ، ويجوز أن يتعلَّقَ
بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ ، أي : إلاَّ ملتبساً بقَدرٍ .
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
قوله
تعالى : { لَوَاقِحَ } حالٌ مقدرةٌ من « الرياح » . وفي اللواقح أقوال ، أحدها :
أنه جمع « مُلْقِح » لأنه مِنْ أَلْقَحَ يُلْقِحُ فهو مُلْقِحٌ ، فحقُّه مَلاقِح ،
فَحُذِفَتِ الميمُ تخفيفاً . يقال : أَلْقَحتِ الريحُ السحابَ ، كما يقالُ : ألقح
الفحلُ الأنثى . ومثله الطوائح ، وأصلُه « المَطاوِح » لأنه مِنْ أطاح يُطيح قال :
2937- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوائِحُ
وهذا قول أبي عبيدة .
والثاني : أنها جمع لاقِح يُقال : لَقِحَتِ الريحُ : إذا حَمَلَتِ الماءَ . وقال
الأزهري : « حوامِلُ تحملُ السَِّحابَ كقولك : أَلْقَحَتِ الناقةُ فَلَحِقَتْ ،
إذا حَمَلَتِ الجنينَ في بطنِها ، فشُبِّهَتْ الريحُ بها ، ومنه قوله :
2938- إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تَهِرُّ الناسَ أنيابُها
عُصْلُ
والثالث : أنها جمعُ » لاقِح « على النَسب ك لابنِ وتامرِ ، أي : ذاتُ لِقاح؛
لأنَّ الريحَ إذا مَرَّتْ على الماء ، ثم مَرَّتْ على السحابِ والماءِ كان فيها
لِقاحٌ ، قاله الفراء . وقد تقدَّم الخلافُ في » معايش « في الأعراف ، وفي »
يُنَزِّل « ، وفي » الريح « في البقرة . ولم يَبْقَ هنا إلا مَنْ أفردَ » الريح «
، فإنه يُقال : كيف نصبَ الحالَ مجموعةً عن مفردٍ؟ وقد تقدم أن المرادَ به الجنسُ
وهو جمعٌ في المعنى فلا محذورَ .
قوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } يقال : أَسْقاه وسَقاه وسيأتي بيانُهما في السورة
بعدها فإنه قُرِئ بهما . واتصل الضميران هنا لاختلافِهما رتبةً ، ولو فُصِل
ثانيهما لجاز عند غير سيبويه ، وهذا كما تقدَّم في قولِه { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [
هود : 28 ] .
قوله : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } جملةٌ مستأنفة و » له « متعلِّقٌ ب »
خازنين « .
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
قوله تعالى : { لَنَحْنُ } « نحن » يجوز أن يكونَ مبتدأً ، و « نُحْيِيْ » خبرُه ، والجملةُ خبرُ « إنَّا » . ويجوز أن يكونَ تأكيداً ل « ن » في « إنَّا » ، ولا يجوز أن يكونَ فَصْلاً لأنه لم يَقَعْ بين اسمين ، وقد تقدَّم نظيرُه . وقال أبو البقاء : « لا يكون فَصْلاً لوجهين ، أحدهما : أنَّ بعده فعلاً ، والثاني : أنَّ معه اللامَ . قلت : الوجهُ الثاني غَلَطَ فإنَّ/ لامَ التوكيد لا يمتنع دخولُها على الفَصلِ ، نصَّ النحاةُ على ذلك ، ومنه قولُه تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص } [ آل عمران : 62 ] جَوَّزوا فيه الفصلَ مع اقترانِه باللامِ .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
قوله
تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } : « مِنْ » لابتداء الغاية أو للتبعيضِ . والصَّلْصال :
قال أبو عبيدة : « وهو الطينُ المختلِطُ بالرَّمْل ، ثم يَجِفُّ ، فيُسمع له
صَلْصَلَةٌ ، أي : تَصْوِيْت » . وقال الزمخشري : « الطين اليابسُ الذي يُصَلْصِلُ
من غيرِ طبخٍ ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار » . وقال أبو الهيثم : « هو صوت اللِّجامِ
وما أشبهه كالقَعْقَعَة في الثوبِ » . وقال الزمخشري أيضاً : « قالوا : إذا
تَوَهَّمْتَ في صوتِه مَدَّاً فهو صَليل ، وإن توهَّمْتَ فيه ترجيعاً فهو
صَلْصَلَة . وقيل : هو مِنْ تضعيفِ » صَلِّ : إذا أَنْتَنَ « . انتهى . وصَلْصال
هنا بمعنى مُصَلْصِل كزَلْزال بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون فَعْلال أيضاً مصدراً نحو :
الزِّلزال . ويجوز كسرُه أيضاً .
وفي وزن هذا النوعِ أعني ما تكَّررت فاؤه وعينُه خلاف ، فقيل : وزنه فَعْفَع ،
كُرِّرَتْ الفاءُ والعينُ ولا لامَ للكلمة ، قاله الفراء وغيرُه . وهو غَلَطٌ
لأنَّ أقلَّ الأصولِ ثلاثةٌ : فاء وعين ولام . الثاني : أنّ وزنَه فَعْفَل وهو
قولُ الفرّاء . الثالث : أنه فَعَّل بتشديدِ العينِ وأصلُه صَلَّل ، فلما اجتمع
ثلاثةُ أمثالٍ أبدل الثاني من جنسِ فاءِ الكلمةِ وهو مذهبٌ كوفي . وخصَّ بعضُهم
هذا الخلافَ بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوطِه نحو : لَمْلَمَ وكَبْكَبَ فإنك تقول
فيهما : لَمَّ وكَبَّ ، فلو لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه نحو : سِمْسِم ، قال : فلا
خلاف في أصالةِ الجميع .
قوله : { مِّنْ حَمَإٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال ،
فيتعلَّقُ بمحذوف . والثاني : أنه بدلٌ من » صَلْصال « بإعادة الجارِّ .
والحَمَأُ : الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ . قال الليث : » واحدُه حَمَأة بتحريك
العين « ، جعله اسمَ جنسٍ ، وقد غَلِط في ذلك؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا : لا يُقال
إلا » حَمْأة « بالإِسكان ، ولا يُعْرَفُ التحريكُ ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة ،
وأنشدوا لأبي الأسود :
2939- يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً ... يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ
فلا تكون » الحَمْأَةُ « واحدةَ » الحَمَأ « لاختلاف الوزنين .
والمَسْنُون : المَصْبوبُ مِنْ قولهم : سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه لرطوبتِهِ جُعِل
مَصْبوباً كغيره من المائعات ، فكأنَّ المعنى : أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ
الجواهرُ المُذابة . قال الزمخشري : » وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون
صفةً لصَلْصال ، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ « . قلت : يعني
أنه يصيرُ التقدير : مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر ، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ
على الصريح إذا جَعَلْنَا { مِّنْ حَمَإٍ } صفةً لصَلْصال ، أمَّا إذا جَعَلْنَاه
بدلاً منه فلا . وقيل : مَسْنُون مُصَوَّر ، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه . قال
الشاعر :
2940- تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . .
وقال الزمخشري : » مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر : إذا حَكَكْتُه به فالذي يَسِيل
بينهما « سَنينٌ » ولا يكون إلا مُنْتِناً « . وقيل : المَسْنُون : المنسوبُ إليه
، والمعنى : يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً ، وكأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع . وقيل
: هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر ، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين .
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
قوله
تعالى : { والجآن خَلَقْنَاهُ } : منصوبٌ على الاشتغال ، ورُجِّح نصبُه لعطفِ
جملتِه على جملةٍ فعلية . والجانُّ أو الجنُّ وهو إبليس كآدم أبي الإِنس . وقيل :
اسمٌ لجنسِ الجِنِّ .
وقرأ الحسن « والجَأَنَّ » وقد تقدَّم القولُ في ذلك في أواخر الفاتحة .
و { مِن قَبْلُ } و { مِن نَّارِ } متعلقان ب « خَلَقْنا »؛ لأن الأولى لابتداءِ
الغاية والثانيةَ للتبعيض ، وفيه دليلٌ على أن « مِنْ » لابتداء الغايةِ في
الزمانِ ، وتأويلُ البصريين له ولنظائِره بعيدٌ .
والسَّمومُ : ما يَقْتُل من إفراطِ الحَرِّ من شمسٍ أو ريحٍ أو نار؛/ لأنها
تَدْخُل في المَسامِّ فتقتُل . وقيل : السَّموم ما كان ليلاً ، والحَرُور ما كان
نهاراً .
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
قوله تعالى : { أَجْمَعُونَ } : تأكيدٌ ثانٍ ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت ، خلافاً لبعضهم . قال أبو البقاء : « لكان حالاً [ لا ] توكيداً » يعني أنه يُفيد إفادةَ الحال مع أنه توكيدٌ ، وفيه نظر؛ إذ لا منافاةَ بينهما بالنسبة إلى المعنى . ألا ترى أنه يجوز « جاؤوني جميعاً » مع إفادتِه للتوكيدِ ، وقد تقدَّم لك تحريرُ هذا وحكايةُ ثعلب مع ابن قادم .
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
قوله
تعالى : { لأَسْجُدَ } : هذه لامُ الجحودِ .
وقوله : { فَقَعُواْ لَهُ } [ الحجر : 29 ] يجوز أن تتعلَّقَ اللامُ بالفعل قبلها
، وأن تتعلَّق بساجدين . وقد تقدم نظائرُ ألفاظِ هذه القصة في البقرة والأعراف .
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
قوله تعالى : { إلى يَوْمِ } يجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار في « عليك » ، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ اللعنةِ .
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
والضميرُ في : { لَهُمْ } لذرِّيَّةِ آدم ، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ للعِلْمِ بهم .
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قوله
تعالى : { هَذَا صِرَاطٌ } : « هذا » إشارةٌ إلى الإِخلاص المفهومِ من «
المُخْلَصين » . وقيل : « هذا » ، أي : انتفاءُ تَزْيينِه وإغوائه . و « عليَّ » ،
أي : مَنْ مَرَّ عليه مَرَّ عليَّ ، أي على رضواني وكرامتي . وقيل : على بمعنى إلى
، نُقِل عن الحسن .
وقرأ الضَّحاك وأبو رجاء وابن سيرين ويعقوب في آخرين : عَلِيٌّ « ، أي : عالٍ
مرتفعٌ .
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
قوله
تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه استثناءٌ
متصل ، لأنَّ المرادَ بعبادي العمومُ طائعهم وعاصيهم ، وحينئذ يَلْزَمُ استثناءُ
الأكثرِ من الأقل ، وهي مسالةُ خلافٍ .
والثاني : أنه منقطعٌ؛ لأنَّ الغاوين لم يَنْدرجوا في « عبادي »؛ إذ المرادُ بهم
الخُلَّصُ ، والإِضافةُ إضافةُ تشريفٍ .
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
و { أَجْمَعِينَ } : تأكيدٌ . وقال ابن عطية : « تأكيدٌ فيه معنى الحال » وفيه جنوحٌ لِمَنْ يَرَى اتحادَ الوقت . قوله : { لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } في « أجمعين » وجهان أظهرُهما : أنه تأكيدٌ للضمير . والثاني : أنه حالٌ منه ، والعاملُ فيه معنى الإِضافة ، قاله أبو البقاء . وقد عَرَفْتَ خلافَ الناس في مجيءِ الحالِ من المضافِ إليه . ولا يَعْمل فيها المَوْعِدُ إن أريد به المكانُ ، فإن أُريد به المصدرُ جاز أَنْ يعملَ لأنه مصدرٌ ، ولكن لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ، أي : مكان موعدِهم .
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قوله
تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً وهو
الظاهرُُ ، ويجوز أن تكونَ خبراً ثانياً ، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من « جهنم »
لأنَّ « إنَّ » لا تعملُ في الحال ، قاله أبو البقاء ، وقياسُ ما ذكروه في ليت
وكأنَّ ولعلَّ مِنْ أخواتها ، مِنْ عملِها في الحال ، لأنها بمعنى تَمَنَّيْتُ
وشَبَّهْتُ وترجَّيْتُ : أن تعمل فيها « إنَّ » أيضاً؛ لأنها بمعنى أكَّدْتُ ،
ولذلك عَمِلَتْ عَمَلَ الفعلِ ، وهي أصلُ البابِ .
قوله : « منهم » يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ « جُزْء » لأنه في الأصل صفةٌ له ،
فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً . ويجوز أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ في
الجارِّ ، وهو « لكلِّ بابٍ » والعاملُ في هذه الحالِ ما عَمِل في هذا الجارَّ .
ولا يجوز أن تكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في « مَقْسُوم » لأنَّ الصفةَ لا
تعمل فيما قبل الموصوفِ . ولا يجوز أن تكونَ صفةً ل « باب » لأنَّ البابَ ليس من
الناس .
وقرأ أبو جعفر بتشديد الزَّاي من غير همزٍ ، كأنه ألقى حركةَ الهمزةِ على الزاي ،
ووَقَفَ عليها فَشَدَّدها ، كقولهم : « خالدّْ » ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ
.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
وكَسرَ عينَ { وَعُيُونٍ } : منكِّراً و « العِيون » مُعَرَّفاً حيث وقع ابنُ كثير والأخوان وأبو بكر وابن ذكوان . والباقون بالضمِّ وهو الأصل .
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
قوله
تعالى : { ادخلوها } : العامَّةُ على وَصْلِ الهمزةِ من دَخَل يَدْخُل . وقد
تقدَّم خلافُ القرِّاء في حركةِ هذا التنوين/ لالتقاء الساكنين في البقرة . وقرأ
يعقوب بفتح التنوين وكسرِ الخاء . وتوجيهُها : أنه أمرٌ مِنْ أَدْخَل يُدْخِل ،
فلمَّا وقع بعد « عيون » ألقى حركة الهمزةِ على التنوين لأنها همزةُ قطع ، ثم
حذفها . والأمرُ مِنَ الله تعالى للملائكةِ ، أي أَدْخِلوها إياهم .
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً « أُدْخِلوها » ماضياً مبنياً للمفعول ، إلا أنَّ يعقوبَ
ضمَّ التنوين ، ووجهُه : أنه أخذه مِنْ أَدْخَلَ رباعياً ، فألقى حركَة همزةِ
القطع على التنوين ، كما ألقى حركةَ المفتوحةِ في قراءتِه الأولى . والحسن كَسَره
على أصلِ التقاءِ الساكنين ، ووجهُه : أن يكونَ أجرى همزةَ القطعِ مُجْرى همزةِ
الوصلِ في الإِسقاط .
وقراءةُ الأمرِ على إضمارِ القول ، أي : يُقال لأهل الجنة : ادْخُلوها . أو يُقال
للملائكة : أَدْخِلُوها إياهم . وعلى قراءة الإِخبار يكون مستأنفاً مِنْ غيرِ
إضمارٍ قولٍ .
قوله : « بسلامٍ » حالٌ ، أي : ملتبسين بالسلامة ، أو مُسلَّماً عليكم .
قوله : آمِنين « حالٌ أخرى وهي بدلٌ مِمَّا قبلها : إمَّا بدلُ كلٍ من كلٍ ،
وإمَّا بدلُ اشتمال؛ لأنَّ الأَمْنَ مُشْتملٌ على التحيةِ أو بالعكس .====
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق