ج4. الشعراوي
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
إن
الشيطان قد يوسوس لكم بأن الإنفاق إفقار لكم، ويحاول أن يصرفكم عن الإنفاق في وجوه
الخير، ويغريكم بالمعاصي والفحشاء، فالْغَنِيُّ حين يقبض يده عن المحتاج فإنه
يُدْخِل في قلب المحتاج الحقد. وأي مجتمع يدخل في قلبه الحقد نجد كل المنكرات
تنتشر فيه. ويعالج الحق هذه المسائل بقوله:{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ
يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ
وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }[محمد: 36-37]
إن الحق سبحانه وتعالى لا يسألك أن ترد عطاءه لك من المال، إنما يطلب الحق تطهير
المال بالإنفاق منه في سبيل الله ليزيد ولينمو، وليخرج الضغن من المجتمع؛ لأن
الضغن حين يدخل مجتمعا فعلى هذا المجتمع السلام. ولا يُفيق المجتمع من هذا الضغن
إلا بأن تأتيه ضربة قوية تزلزله، فينتبه إلى ضرورة إخراج الضغن منه لذلك يحذرنا
الله أن نسمع للشيطان:{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم
بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 268]
فالذي يسمع لقول الشيطان ووعده، ولا يستمع إلى وعد الله يصبح كمن رجّح عدو الله
على الله ـ أعاذنا الله وإياكم من مثل هذا الموقف ـ إن الشيطان قد وسوس لكم بالفقر
إذا أنفقتم، وخبرة الإنسان مع الشيطان تؤكد للإنسان أن الشيطان كاذب مضلل، وخبرة
الإنسان مع الإيمان بالله تؤكد للإنسان أن الله واسع المغفرة، كثير العطاء لعباده.
والحكمة تقتضي أن نعرف إلى أي الطرق نهتدي ونسير. وبعد ذلك يقول الحق: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً... }
(/270)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه النافع. فكأن الحق يقول: كل ما أمرتكم به هو عين
الحكمة؛ لأني أريد أن أُؤَمِّنَ حياتكم الدنيا فيمن تتركون من الذرية الضعفاء،
وأُؤَمِّنَ لكم سعادة الآخرة. فإن صنع العبد المؤمن ما يأمر به الله فهذا وضع
الأشياء في موضعها وهو أخذ بالحكمة.
وقد أراد الحق أن يعلم الإنسان من خلال عاطفته على أولاده، لأن الإنسان قد تمر
عليه فترة يهون فيها عنده أمر نفسه، ولا ينشغل إلا بأمر أولاده، فقد يجوع من أجل
أن يشبع الأولاد، وقد يعرى من أجل أن يكسوهم. ولنا المثل الواضح في سيدنا إبراهيم
خليل الرحمن عليه السلام، لقد ابتلاه ربه في بداية حياته بالإحراق في النار، ولأن
إبراهيم قوى الإيمان فقد جعل الله النار برداً وسلاماً
. وابتلاه الله في آخر حياته برؤيا ذبح ابنه، ولأن إبراهيم عظيم الإيمان فقد امتثل
لأمر الرحمن الذي افتدى إسماعيل بكبش عظيم. والإنسان في العمر المتأخر يكون تعلقه
بأبنائه أكبر من تعلقه بنفسه. وهكذا كان الترقي في ابتلاء الله لسيدنا إبراهيم
عليه السلام، ولذلك أراد الله أن يضرب للبشر على هذا الوتر وقال:{ وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }[النساء: 9]
إن الحق سبحانه يريد من عباده أن يؤمّنوا على أولادهم بالعمل الصالح والقول
السديد.
ومثال آخر حين أراد الحق أن يحمي مال اليتامى، وأعلمنا بدخول موسى عليه السلام مع
العبد الصالح الذي أوتى العلم من الله، يقول ـ سبحانه ـ:{ فَانطَلَقَا حَتَّىا
إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن
يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ
قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }[الكهف: 77]
كان موسى عليه السلام لا يعلم علم العبد الصالح من أن الجدار كان تحته كنز
ليتيمين، كان أبوهما رجلاً صالحا، وأهل هذه القرية لئام، فقد رفضوا أن يطعموا
العبد الصالح وموسى عليه السلام، لذلك كان من الضروري إقامة الجدار حتى لا ينكشف
الكنز في قرية من اللئام ويستولوا عليه ولا يأخذ الغلامان كنز أبيهما الذي كان
رجلاً صالحاً.
إذن فالحق سبحانه يعلمنا أن نُؤَمِنَ على أبنائنا بالعمل الصالح، وهذه هي الحكمة
عينها التي لا يصل إليها أصحاب العقول القادرة على الوصول إلى عمق التفكير السديد.
وسيدنا الحسن البصري يعطينا المثل في العمل الصالح عندما يقول لمن يدخل عليه طالبا
حاجة: مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة. إن سيدنا الحسن البصري قد
أوتي من الحكمة ما يجعله لا ينظر إلى الخير بمقدار زمنه، ولكن بمقدار ما يعود عليه
بعد الزمن.
وقد ضربت من قبل المثل بالتلميذ الذي يَجِدُّ ويتعب في دروسه ليحصل على النجاح، بينما
أخوه يحب لنفسه الراحة والكسل. ثم نجد التلميذ الذي يتعب هو الذي يرتقي في
المجتمع، بينما الذي ارتضى لنفسه الكسل يصير صعلوكاً في المجتمع. وبعد ذلك يقول
سبحانه: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
(/271)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
وقد عرفنا النفقة من قبل، فما هي مسألة النذر؟. إن النذر هو أن تُلزم نفسك بشيء من
جنس ما شرع الله فوق ما أوجب الله. فإذا نذرت أن تصلي لله كل ليلة عددا من الركعات
فهذا نذر من جنس ما شرع الله؛ لأن الله قد شرع الصلاة وفرضها خمسة فروض، فإن نذرت
فوق ما فرضه الله فهذا هو النذر. ويقال في الذي ينذر شيئا من جنس ما شرع الله فوق
ما فرضه الله: إن هذا دليل على أن العبادة قد حَلَتَ له، فأحبها وعشقها، ودليل على
أنه قارب أن يعرف قدر ربه؛ وأن ربه يستحق منه فوق ما افترضه عليه، فكأن الله في
افتراضه كان رحيماً بنا، لأنه لو فرض ما يستحقه منا لما استطاع واحد أن يفي بحق
الله.
إذن فعندما تنذر أيها العبد المؤمن نذراً، فإنك تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع
الله لك فوق ما فرض الله عليك. وأنت مخير أن تقبل على نذر ما، أو لا تقبل. لكن إن
نطقت بنذر فقد لزم. لماذا؟ لأنك ألزمت نفسك به. ولذلك فمن التعقل ألا يورط الإنسان
نفسه ويسرف في النذر، لأنه في ساعة الأداء قد لا يقدر عليه.
وأهل القرب من الله يقولون لمن يخل بالنذر بعد أن نذر: هل جربت ربك فلم تجده أهلاً
لاستمرار الود. وليس فينا من يجرؤ على ذلك؛ لأن الله أهل لعميق الود. ولهذا فمن
الأفضل أن يتريث الإنسان قبل أن ينذر شيئا.
ونقف الآن عند تذييل الآية: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }. إن الظالمين
هم من ظلموا أنفسهم؛ لأن الحق عرفنا أن ظلم الإنسان إنما يكون لنفسه، وقال لنا:{
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ }[يونس: 44]
ومن أشد الظلم للنفس الإنفاق رياءً، أو الإنفاق في المعاصي، أو عدم الوفاء بالنذر،
فليس لمن يفعل ذلك أعوان يدفعون عنه عذاب الله في الآخرة. ويقول الحق من بعد ذلك:
{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَآءَ... }
(/272)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما تفعلون؛ لتكونوا قدوة لغيركم، ولتردوا الضغن عن
المجتمع. وإن أخفيتم الصدقة وأعطيتموها الفقراء فإن الله يكفر عنكم بذلك من
سيئاتكم، والله خبير بالنية وراء إعلان الصدقة ووراء إخفاء الصدقة. والتذييل في
هذه الآية الكريمة يخدم قضية إبداء الصدقة وقضية إخفاء الصدقة، فالحق خبير بنية من
أبدى الصدقة، فإن كان غنياً فعليه أن يبدي الصدقة حتى يحمي عرضه من وقوع الناس
فيه؛ لأن الناس حين يعلمون بالغني فلا بد أن يعلموا بإنفاق الغني، وإلا فقد يحسب
الناس على الغني عطاء الله له، ولا يحسبون له النفقة في سبيل الله. لماذا؟ لأن
الله يريد أن يحمي أعراض الناس من الناس.
أما إن كان الإنسان غير ظاهر الغنى فمن المستحسن أن يخفي الصدقة. وإن ظهرت الصدقة
كما قلت ليتأسى الناس بك، وليس في ذهنك الرياء فهذا أيضا مطلوب. والحق يقول: {
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي أن الله يجازي على قدر نية العبد في
الإبداء أو في الإخفاء.
إنه باستقراء الآيات التي تعرضت للإنفاق نجده سبحانه يسد أمام النفس البشرية كل
منافذة الشُح، ويقطع عنها كل سبيل تحدثه به إذا ما أرادت أن تبخل بما أعطاها الله،
والخالق الذي وهب للمخلوق ما وهبه يطلب منه الإنفاق، وإذا نظرنا إلى الأمر في عرف
المنطق وجدناه أمراً طبيعيا؛ لأن الله لا يسأل خلقه النفقة مما خَلَقُوا ولكنه
يسألهم النفقة مما خلقه لهم.
إن الإنسان في هذا الكون حين يُطلب إيمانياً منه أن ينفق فلازم ذلك أن يكون عنده
ما ينفقه، ولا يمكن أن يكون عنده ما ينفقه إلا إذا كان مالكاً لشيء زاد على حاجته
وحاجة من يعوله، وذلك لا يتأتى إلا بحصيلة العمل. إذن فأمر الله للمؤمن بالنفقة
يقتضي أن يأمره أولاً بأن يعمل على قدر طاقته لا على قدر حاجته، فلو عمل كل إنسان
من القادرين على قدر حاجته، فكيف توجد مقومات الحياة لمن لا يقدر على العمل؟.
إذن فالحق يريد منا أن نعمل على قدر طاقتنا في العمل لنعول أنفسنا ولنعول من في
ولايتنا، فإذا ما زاد شيء على ذلك وهبناه لمن لا يقدر على العمل.
ولقائل أن يقول: إذا كان الله قد أراد أن يحنن قلوب المنفقين على العاجزين فلماذا
لم يجعل العاجزين قادرين على أن يعملوا هم أيضاً؟
نقول لصاحب هذا القول: إن الحق حين يخلق.. يخلق كوناً متكاملاً منسجماً دانت له
الأسباب، فربما أطغاه أن الأسباب تخضع له، فقد يظن أنه أصبح خالقاً لكل شيء، فحين
تستجيب له الأرض إن حرث وزرع، وحين يستجيب الماء له إن أدلى دلوه، وحين تستجيب له
كل الأسباب، ربما ظن نفسه أصيلاً في الكون.
فيشاء الله أن يجعل القوة التي تفعل في الأسباب لتنتج، يشاء ـ سبحانه ـ أن يجعلها
عرضاً من أعراض هذا الكون، ولا يجعلها لازمة من لوازم الإنسان، فمرة تجده قادراً،
ومرة تجده عاجزاً.
فلو أنه كان بذاتيته قادراً لما وُجَدَ عَاجزٌ. إذن فوجود العاجزين عن الحركة في
الحياة لفت للناس على أنهم ليسوا أصلاء في الكون، وأن الذي وهبهم القدرة يستطيع أن
يسلبهم إياها ليعيدها إلى سواهم، فيصبح العاجز بالأمس قادراً اليوم، ويصبح القادر
بالأمس عاجزاً اليوم وبذلك يظل الإنسان منتبهاً إلى القوة الواهبة التي استخلفته
في الأرض.
ولذلك كان الفارق بين المؤمن والكافر في حركة الحياة أنهما يجتمعان في شيء، ثم
ينفرد المؤمن في شيء، يجتمعان في أن كل واحد من المؤمنين ومن الكافرين يعمل في
أسباب الحياة لينتج ما يقوته ويقوت من يعول، ذلك قدر مشترك بين المؤمن والكافر.
والكافر يقتصر على هذا السبب في العمل فيعمل لنفسه ولمن يعول.
ولكن المؤمن يشترك معه في ذلك ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو: أن يفيض عنه شيء يمكن
أن يتوجه به إلى غير القادر على العمل. محتسبا ذلك عند الله.
ولذلك قلنا سابقا: إن الحق سبحانه حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها مرة مطلوبة
أداء، وتكلم عنها مرة أخرى مطلوبة غاية فقال: } وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ
فَاعِلُونَ {. ولم يقل للزكاة مؤدون، فالمؤمنون لا يعلمون لقصد الزكاة إلا إن
عملوا عملا على قدر طاقاتهم ليقوتهم وليقوت من يعولهم، ثم يفيض منهم شيء يؤدون عنه
الزكاة.
والحق سبحانه وتعالى في أمر الزكاة:{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ
وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[البقرة: 110]
إذن فحصيلة الأمر أن الزكاة مقصودة لهم حين يقبلون على أي عمل. لقد صارت الزكاة
بذلك الأمر الإلهي مطلوبة غاية، فهي أحد أركان الإسلام وبذلك يتميز المؤمن على
الكافر.
والحق سبحانه وتعالى حين تعرض لمنابع الشُح في النفس البشرية أوضح: أن أول شيء
تتعرض له النفس البشرية أن الإنسان يخاف من النفقة لأنها تنقص ما عنده، وقد حذر
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشح في قوله: " اتقوا الظلم؛ فإن الظلم
ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا
دماءهم واستحلوا محارمهم ". هي كذلك، ولكن الحق سبحانه أوضح لكل مؤمن: أنها
تنقص ما عندك، ولكنها تزيدك مما عند الله؛ فهي إن أنقصت ثمرة فعلك فقد أكملتك بفعل
الله لك. وحين تكملك بفعل الله لك، يجب أن تقارن بين قوة مخلوقة عاجزة وقوة خالقة
قادرة.
ويلفتنا سبحانه: أن ننظر جيداً إلى بعض خلقه وهي الأرض، الأرض التي نضع فيها
البذرة الواحدة ـ أي الحبة الواحدة ـ فإنها تعْطِي سبع سنابل في كل سنبلة مائة
حبة، فلو نظر الإنسان أول الأمر إلى أن ما يضعه في الأرض حين يحرث ويزرع يقلل من
مخازنه لما زرع ولما غرس، ولكنه عندما نظر لما تعطيه الأرض من سبعمائة ضعف أقبل
على البذر، وأقبل على الحرث غير هياب؛ لأنها ستعوضه أضعاف أضعاف ما أعطى.
وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي هذا العطاء، فكيف يكون عطاء خالق الأرض؟{
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261]
إذن فقد سدّ الحق بهذا المثل على النفس البشرية منفذ الشُح. وشيء آخر تتعرض له
الآيات، وهو أن الإنسان قد يُحْرَج في مجتمعه من سائل يسأله فهو في حرصه على ماله
لا يحب أن ينفق، ولحرصه على مكانته في الناس لا يحب أن يمنع، فهو يعطي ولكن بتأفف،
وربما تعدى تأففه إلى نهر الذي سأله وزجره، فقال الحق سبحانه وتعالى ليسد ذلك الموقف:{
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ
غَنِيٌّ حَلِيمٌ }[البقرة: 263]
وقول الله: } قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ { يدل على أن المسئول قد أحفظه سؤال
السائل وأغضبه الإحراج، ويطلب الحق من مثل هذا الإنسان أن يغفر لمن يسأله هذه
الزلة إن كان قد اعتبر سؤاله له ذنباً:{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ
مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }[البقرة: 263]
وبعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى " المن " الذي يفسد العطاء؛ لأنه
يجعل الآخذ في ذلة وانكسار، ويريد المعطي أن يكون في عزة العطاء وفي استعلاء
المنفق، فهو يقول: إنك إن فعلت ذلك ستتعدى الصدقة منك إلى الغير فيفيد، ولكنك أنت
الخاسر؛ لأنك لن تفيد بذلك شيئا، وإن كان قد استفاد السائل. إذن فحرصا على نفسك لا
تتبع الصدقة بالمن ولا بالأذى.
ثم يأتي الحق ليعالج منفذا من منافذ الشح في النفس البشرية هو: أن الإنسان قد يحب
أن يعطي، ولكنه حين تمتد يده إلى العطاء يعز عليه إنفاق الجيد من ماله الحسن،
فيستبقيه لنفسه ثم يعزل الأشياء التي تزهد فيها نفسه ليقدمها صدقة فينهانا ـ
سبحانه ـ عن ذلك فيقول:{ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ }[البقرة: 267]
أي إن مثل هذا لو أُعطى لك لما قبلته إلا أن تغمض وتتسامح في أخذه وكأنك لا تبصر
عيبه لتأخذه، فما لم تقبله لنفسك فلا يصح أن تقبله لسواك. ثم بعد أن تكلم القرآن عن
منافذ الشُح في النفس الإنسانية بين لنا أن الذي ينتج هذه المنافذ ويغذيها إنما هو
الشيطان:
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:
268]
فإن سوّيتم بين عِدَةِ الشيطان ووعد الله لكم بالرضوان كان الخسران والضياع.
فراجعوا إيمانكم، وعليكم أن تجعلوا عدة الشيطان مدحورة أمام وعد الله لكم بالفضل
والمغفرة.
ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن الصدقة وعن حال إنفاقها ـ ظاهرة أو باطنة ـ وتكون النية
عندك هي المرجحة لعمل على عمل، فإذا كنت إنسانا غنيا فارحم عرضك من أن يتناوله
الناس وتصدق صدقة علنية فيما هو واجب عليك لتحمي عرضك من مقولهم، وأن أردت أن
تتصدق تطوعا فلا مانع أن تُسر بها حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك.. فعن ابن
عباس رضي الله عنهما: صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة
الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا.
وكأن الله فتح أمام النفس البشرية كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح. انظروا بعد ذلك
إلى الحق سبحانه حينما يحمي ضعاف المؤمنين ليجعلهم في حماية أقوياء المؤمنين. اعلم
أيها العبد المؤمن أنك حين تتلقى حكم الله لا تتلقاه على أنه مطلوب منك دائما،
ولكن عليك أن تتلقى الحكم على أنه قد يَصير بتصرفات الأغيار مطلوبا لك، فإن كنت
غنيا فلا تعتقد أن الله يطالبك دائما، ولكن قَدّرْ أنك إن أصبحت بعرض الأغيار في
الحياة فقيراً سيكون الحكم مطلوباً لك. فقدر ـ حال كونه مطلوباً منك الآن؛ لأنك
غني ـ أنّه سيطلُب لك إن حصلت لك أغيار، فصرت بها فقيراً.
إذن فالتشريع لك وعليك، فلا تعتبره عليك دائما لأنك إن اعتبرته عليك دائما عزلت
نفسك عن أغيار الحياة، وأغيار الحياة قائمة لا يمكن أن يبرأ منها أحد أبدا لذلك
أمر ـ سبحانه ـ المؤمنَ أن يكفل أخاه المؤمن.
انظروا إلى طموحات الإيمان في النفس الإنسانية، حتى الذين لا يشتركون معك في
الإيمان. إن طُلب منك أن تعطي الصدقة المفروضة الواجبة لأخيك المؤمن فقد طلب منك
أيضا أن تتطوع بالعطاء لمن ليس مؤمنا. وتلك ميزة في الإسلام لا توجد أبدا في غيره من
الأديان، إنه يحمي حتى غير المؤمن. ولذلك يقول الحق: } لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ... {
(/273)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
ما أصل هذه المسألة؟
أصل هذه المسألة أن بعض السابقين إلى الإسلام كانت لهم قرابات لم تسلم. وكان هؤلاء
الأقرباء من الفقراء وكان المسلمون يحبون أن يعطوا هؤلاء الأقارب الفقراء شيئا من
مالهم، ولكنهم تحرجوا أن يفعلوا ذلك فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا
الأمر.
وهاهي ذي أسماء بنت أبي بكر الصديق وأمها " قُتَيْلَةَ " كانت مازالت
كافرة. وتسأل أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي من مالها شيئا لأمها حتى
تعيش وتقتات. وينزل الحق سبحانه قوله: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } ، " وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمتْ عليّ أمي وهي راغبة. أفأصل أمّي؟ قال: "
نعم صلي أمّكِ ". ولقد أراد بعض من المؤمنين أن يضيقوا على أقاربهم ممن لم
يؤمنوا حتى يؤمنوا، لكن الرحمن الرحيم ينزل القول الكريم: { لَّيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }.
إنه الدين المتسامي. دين يريد أن نعول المخلوق في الأرض من عطاء الربوبية وإن كان
لا يلتقي معنا في عطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق
وتربية.
والرزق والتربية مطلوبات لكل من كان على الأرض؛ لأننا نعلم أن أحداً في الوجود لم يستدع
نفسه في الوجود، وإنما استدعاه خالقه، وما دام الخالق الأكرم هو الذي استدعى العبد
مؤمناً أو كافراً، فهو المتكفل برزقه. والرزق شيء، ومنطقة الإيمان بالله شيء آخر،
فيقول الحق: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن
يَشَآءُ }.
أو أن الآية حينما نزلت في الحثّ على النفقة ربما أن بعض الناس تكاسل، وربما كان
بعض المؤمنين يعمدون إلى الرديء من أموالهم فينفقونه.
وإذا كان الإسلام قد جاء ليواجه النفس البشرية بكل أغيارها وبكل خواطرها، فليس
بعجيب أن يعالجهم من ذلك ويردهم إلى الصواب إن خطرت لهم خاطرة تسيء إلى السلوك
الإيماني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حين ينزل أي أمر أن يلتفت المسلمون إليه
لفتة الإقبال بحرارة عليه، فإذا رأى تهاوناً في شيء من ذلك حزن، فيوضح له الله:
عليك أن تبلغهم أمر الله في النفقة، وما عليك بعد ذلك أن يطيعوا. { لَّيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }.
ولقائل أن يقول: ما دام الله هو الذي يهدي فيجب أن نترك الناس على ما هم عليه من
إيمان أو كفر، وما علينا إلا البلاغ، ونقول لأصحاب هذا الرأي: تنبهوا إلى معطيات
القرآن فيما يتعلق بقضية واحدة، هذه القضية التي نحن بصددها هي الهداية، ولنستقرئ
الآيات جميعا، فسنجد أن الذين يرون أن الهداية من الله، وأنه ما كان يصح له أن
يعذب عاصياً، لهم وجهة نظر، والذين يقولون: إن له سبحانه أن يعذبهم؛ لأنه ترك لهم
الخيار لهم وجهة نظر، فما وجهة النظر المختلفة حتى يصير الأمر على قدر سواء من
الفهم؟
إن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم في قرآنه الكلام الموحَى، فهو يطلب منا أن
نتدبره، ومعنى أن نتدبره ألا ننظر إلى واجهة النص ولكن يجب أن ننظر إلى خلفية
النص.
} أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ { يعني لا تنظر إلى الوجه، ولكن انظر ما يواجه الوجه وهو
الخلف.{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن }[النساء: 82]
فالحق سبحانه وتعالى قد قال:{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ
الْعَمَىا عَلَى الْهُدَىا }[فصلت: 17]
كيف يكون الله قد هداهم، ثم بعد ذلك يستحبون العمى على الهدى؟ إذن معنى "
هدام " أي دلهم على الخير. وحين دلَّهم على الخير فقد ترك فيهم قوة الترجيح
بين البدائل، فلهم أن يختاروا هذا، ولهم أن يختاروا هذا، فلما هداهم الله ودلَّهم
استحبوا العمَى على الهدى. والله يقول لرسوله في نصين آخرين في القرآن الكريم:{
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }[القصص: 56]
فنفى عنه أنه يهدي. وأثبت له الحق الهداية في آية أخرى يقول فيها:{ وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[الشورى: 52]
فكيف يثبت الله فعلاً واحداً لفاعل واحد ثم ينفي الفعل ذاته عن الفاعل ذاته؟ نقول
لهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدل الناس على منهج الله ولكن ليس عليه أن
يحملهم على منهج الله؛ لأن ذلك ليس من عمله هو، فإذا قال الله: } إِنَّكَ
لَتَهْدِي { أي لا تحمل بالقصر والقهر من أحببت، وإنما أنت " تهدي " أي
تدل فقط، وعليك البلاغ وعلينا الحساب.
إذن فقول الحق: } لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن
يَشَآءُ { ليس فيه حجة على القسرية الإيمانية التي يريد بعض المتحللين أن يدخلوا
منها إلى منفذ التحلل النفسي عن منهج الله ونقول لهؤلاء: فيه فرق بين هداية
الدلالة وهداية المعونة، فالله يهدي المؤمن ويهدي الكافر أي يدلهم، ولكن من آمن به
يهديه هداية المعونة، ويهديه هداية التوفيق، ويهديه هداية تخفيف أعمال الطاعة
عليه.
} لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا
تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُم { تلك قضية تعالج الشُح منطقياً، وكل معطٍ
من الخلق عطاؤه عائد إليه هو، ولا يوجد معطٍ عطاؤه لا يعود عليه إلا الله، هو وحده
الذي لا يعود عطاؤه لخلقه عليه، لأنه ـ سبحانه ـ أزلا وقديما وقبل أن يخلق الخلق
له كل صفات الكمال، فعطاء الإنسان يعود إلى الإنسان وعطاء ربنا يعود إلينا.
ولذلك قال بعض السلف الذين لهم لمحة إيمانية: ما فعلت لأحد خيراً قط؟ فقيل له:
أتقول ذلك وقد فعلت لفلان كذا ولفلان كذا ولفلان كذا؟ فقال: إنما فعلته لنفسي.
فكأنه نظر حينما فعل للغير أنه فعل لنفسه. ولقد قلنا سابقا: إن العارف بالله
" الحسن البصري " كان إذا دخل عليه من يسأله هشّ في وجهه وبشّ وقال له:
مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.
إذن فقد نظر إلى أنه يعطيه وإن كان يأخذ منه. فالحق سبحانه وتعالى يعالج في هذه
القضية } وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ { أي إياكم أن تظنوا أنني
أطلب منكم أن تعطوا غيركم، لقد طلبت منكم أن تنفقوا لأزيدكم أنا في النفقة
والعطاء، ثم يقول: } وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ { ومعنى
التوفية: الأداء الكامل. ولا تظنوا أنكم تنفقون على من ينكر معروفكم؛ لأن ما
أنفقتم من خير فالله به عليم. إذن فاجعل نفقتك عند من يجحد، ولا تجعل نفقتك عند من
يحمد، لأنك بذلك قد أخذت جزاءك ممن يحمدك وليس لدى الله جزاء لك.
كنت أقول دائما للذين يشكون من الناس نكران الجميل ونسيان المعروف: أنتم المستحقون
لذلك؛ لأنكم جعلتموهم في بالكم ساعة أنفقتم عليهم، ولو جعلتم الله في بالكم لما
حدث ذلك منهم أبداً. } وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا
تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ { أهذه الآية تزكية لعمل المؤمنين،
أم خبر أريد به الأمر؟ إنها الاثنان معا، فهي تعني أنفقوا ابتغاء وجه الله. }
وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {
أنتم لا تظلمون من الخلق، ولا تظلمون من الخالق، أما من الخلق فقد استبرأتم دينكم
وعرضكم حين أديتم بعض حقوق الله في أموالكم، فلن يعتدي أحد عليكم ليقول ما يقول،
وأما عند الله فهو سبحانه يوفي الخير أضعاف أضعاف ما أنفقتم فيه.
وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن مصرف من مصارف النفقة كان في صدر الإسلام: }
لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الأَرْضِ {
(/274)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
ساعة أن نسمع " جاراً ومجروراً " قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقاً.
ما هو الذي للفقراء؟ هو هنا النفقة، أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل
الله. وإذا سألنا: ما معنى " أحصروا " فإننا نجد أن هناك " حَصر
" وهناك " أحصر " وكلامهما فيه المنع، إلا أن المنع مرة يأتي بما
لا تقدر أنت على دفعه، ومرة يأتي بما تقدر على دفعه.
فالذي مرض مثلاً وحُصِرَ على الضرب في الأرض، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟ لا، ولكن
الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً، إذن فيئول الأمر
من الأمرين إلى المنع، فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من وجود فعل الغير،
فهم أحصروا في سبيل الله. حُصِرُوا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة، أو
حَصَرُوا أنفسهم على الجهاد، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لأن الإسلام كان لا يزال
في حاجة إلى قوم يجاهدون. وهؤلاء هم أهل الصُّفة { لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ
أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ } وعدم
استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في
سبيل الله، هذا من الجائز وذاك من الجائز.
وكان الأنصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه، ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري
المسجد، وكلما جاع واحد من أهل الصفة أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر، فينزل بعض التمر
فيأكل، وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه، وهذا هو ما قال الله
فيه: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ }.
وإذا نظرنا إلى قول الحق: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ } و "
الضرب " هو فعل مِن جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى
القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها بذراً، لا تأخذ
الأمر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ
ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ }[الملك: 15]
إن الأرض مسخرة من الحق سبحانه للإنسان، يسعى فيها، ويضرب فيها ويأكل من رزق الله
الناتج منها.
وحين يقول الله سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون الضرب في
الأرض { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أي يظنهم الجاهل
بأحوالهم أنهم أغنياء، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة، وإذا كان التعفف هو ترك
المسألة فالله يقول بعدها: { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافاً } والسمة هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد فيهم
خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا، ولكنك تعرفهم من حالتهم
التي تستحق الإنفاق عليهم، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: {
لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن
الإلحاحٍ والإلحاف فيه، ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح أَمَا كان
هذا دليلاً على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم، لكنه قال: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } إذن فليس هناك سؤال، لا سؤال على إطلاقه، ومن باب
أولى لا إلحاف في السؤال؛ بدليل أن الحق يقول: { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } ، ولو
أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو مطلق
السؤال، وأما كلمة " الإلحاف " فجاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها
أسلوب الإعجازي، ما هو؟
إن " السيما " ـ كما قلنا ـ هي العلامة المميزة التي تدل على حال
صاحبها، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من
حالتهم البائسة، فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتبر سؤاله إلحاحاً؛ لأن حاله تدل
على الحاجة، ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال، فإذا
ما سأل مجرد سؤاله فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها.
وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله
بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل، لأنك لو عرفت بـ " السيما " فأنت ذكي، أنت
فطن، أنا لو لم تعرف بـ " السيما " وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك، إذن
فعندك تقصير في فطنة النظر، فهو سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يكون فطن النظر
بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى من عليه هم الحاجة ومن عنده
خواطر العوز، فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطانة إيمانية.
ولنا العبرة في تلك الواقعة، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل
وخرج ومعه شيء، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته: ما يبكيك؟. قال: إن
فلاناً طرق بابي. قالت: وقد أعطيته فما الذي أبكاك؟. قال: لأني تركته إلى أن
يسألني.
إن العارف بالله بكى؛ لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته، وأن
يتعرف على أخبار إخوانه. ولذلك شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ
من إخوانه، ما الذي أقعده: أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل
ويسأل، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان. } وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ { يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك
ستعطي، فالأمر محسوب عنده بميزان، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره، وما قدره قديما
يلزم حاليا، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل. وكل فعل من
الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن ليل أو نهار.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى مبينا حالات الإنفاق والأزمان التي يحدث فيها وذلك في
قوله تعالى: } الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ
سِرّاً وَعَلاَنِيَةً... {
(/275)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
إن المسألة في الإنفاق تقتضي أمرين: إما أن تنفق سراً، وإما أن تنفق علانية.
والزمن هو الليل والنهار، فحصر الله الزمان والحال في أمرين: الليل والنهار فإياك
أن تحجز عطيّةً تريد أن تعطيها وتقول: " بالنهار أفعل أو في الليل أفعل؛ لأنه
أفضل " وتتعلل بما يعطيك الفسحة في تأخير العطاء، إن الحق يريد أن تتعدى
النفقة منك إلى الفقير ليلاً أو نهاراً، ومسألة الليلية والنهارية في الزمن،
ومسألة السرية والعلنية في الكيفية لا مدخل لها في إخلاص النية في العطاء.
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً
وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أقالت الآية: الذين ينفقون
أموالهم بالليل أو النهار؟ لا، لقد طلب من كل منا أن يكون إنفاقه ليلاً ونهاراً
وقال: " سراً وعلانية " فأنفق أنت ليلاً، وأنفق أنت نهارا، وأنفق أنت
سراً، وأنفق أنت علانية، فلا تحدد الإنفاق لا بليل ولا بنهار، لا بزمن ولا بكيفية
ولا بحال.
إن الحق سبحانه استوعب زمن الإنفاق ليلاً ونهارا، واستوعب أيضاً الكيفية التي يكون
عليها الإنفاق سراً وعلانية ليشيع الإنفاق في كل زمن بكل هيئة، وهنا يقول الحق سبحانه
وتعالى عن هؤلاء: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } وهذا القول يدل على
عموم من يتأتى منه الإنفاق ليلاً أو نهاراً، سراً أو علانية.
وإن كان بعض القوم قد قال: إنها قيلت في مناسبة خاصة، وهي أن الإمام عليًّا كرم
الله وجهه ورضى عنه كانت عنده أربعة دراهم، فتصدق بواحد نهاراً، وتصدق بواحد ليلا،
وتصدق بواحد سراً، وتصدق بواحد علانية، فنزلت الآية في هذا الموقف، إلا أن قول
الله: { فَلَهُمْ } يدل على عموم الموضوع لا على خصوص السبب، فكأن الجزاء الذي
رتبه سبحانه وتعالى على ذلك شائع على كل من يتأتى منه هذا العمل.
وقول الله: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } هنا نجد أن كلمة " أجر
" تعطينا لمحة في موقف المؤمن من أداءات الإنفاق كلها؛ لأن الأجر لا يكون إلا
عن عمل فيه ثمن لشيء، وفي أجر لعمل. فالذي تستأجره لا يقدم لك شيئا إلا مجهودا،
هذا المجهود قد ينشأ عنه مُثْمَنٌ، أَيْ شيء له ثمن، فقول الله { فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } يدل على أن المؤمن يجب أن ينظر إلى كل شيء جاء عن
عمل فالله يطلب منه أن ينفق منه.
إن الله لا يعطيه ثمن ما أنفق، وإنما يعطيه الله أجر العمل، لماذا؟ لأن المؤمن
الذي يضرب في الأرض يخطط بفكره، والفكر مخلوق لله، وينفذ التخطيط الذي خططه بفكره
بوساطة طاقاته وأجهزته؛ وطاقاتُه وأجهزته مخلوقة لله، ويتفاعل مع المادة التي يعمل
فيها، وكلها مخلوقة لله، فأي شيء يملكه الإنسان في هذا كله؟ لا الفكر الذي يخطط،
ولا الطاقة التي تفعل، ولا المادة التي تنفعل؛ فكلها لله.
إذن فأنت فقط لك أجر عملك؛ لأنك تُعمل فكرا مخلوقا لله، بطاقة مخلوقة لله، في مادة
مخلوقة لله، فإن نتج منها شيء أراد الله أن يأخذه منك لأخيك العاجز الفقير فإنه
يعطيك أجر عملك لا ثمن عملك. لكن المساوي لك في الخلق هو الإنسان إن أخذ منك حصيلة
عملك فهو يعطيك ثمن ما أخذ منك، فهي من المخلوق المساوي " ثمن " ، وهي
من الخالق الأعلى أجر؛ لأنك لا تملك شيئا في كل ذلك.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { والخوف
هو الحذر من شيء يأتي، فمن الخائف؟ من المخوف؟ ومن المخوف عليه؟ } وَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ { ممن؟
يجوز أن يكون } وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ { من أنفسهم؛ فقد يخاف الطالب على نفسه من
أن يرسب، فالنفس واحدة خائفة ومخوف عليها، إنها خائفة الآن ومخوف عليها بعد الآن.
فالتلميذ عندما يخاف أن يرسب، لا يقال: إن الخائف هو عين المخوف؛ لأن هذا في حاله،
وهذا في حاله.
أو } وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ { من غيرهم، فمن الجائز أن يكون حول كثير من
الأغنياء أناس حمقى حين يرون أيدي هؤلاء مبسوطة بالخير للناس فيغمرونهم ليمسكوا
مخافة أن يفتقروا كأن يقولوا لهم: " استعدوا للزمن فوراءكم عيالكم ".
لكن أهل الخير لا يستمعون لهؤلاء الحمقى.
إذن فـ } وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ { لا من أنفسهم، ولا من الحمقى حولهم. ويتابع
الحق: } وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { أي لا خوف عليهم الآن، ولا حزن عندهم حين
يواجهون بحقائق الخير التي ادخرها الله سبحانه وتعالى لهم بل إنهم سيفرحون.
بعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى قضية من أخطر قضايا العصر، وهذه القضية كان
ولابد أن يتعرض لها القرآن؛ لأنه يتكلم عن النفقة وعن الإنفاق ولا شك أن ذلك يقتضي
منفِقا ومنفَقاً عليه؛ لأنه عاجز، فهب أن الناس شحّوا، ولم ينفقوا، فماذا يكون
موقف العاجز الذي لا يجد؟ إن موقفه لا يتعدى أمرين: إما أن يذهب فيقترض، وإن لم
يقبل أحد أن يقرضه فهو يأخذ بالربا والزيادة وإلا فكيف يعيش؟
إذن فالآيات التي نحن بصددها تعرّضت للهيكل الاقتصادي في أمة إسلامية جوادة، أو
أمة إسلامية بخيلة شحيحة، لماذا؟
لأن الذي خلق الخلق قد صنع حسابا دقيقا لذلك الخلق، بحيث لو أحصيت ما يجب على
الواجدين من زكاة، وأحصيت ما يحتاج إليه من لا يقدر لأن به عجزا طبيعيا عن العمل،
لوجدت العاجزين يحتاجون لمثل ما يفيض عن القادرين بلا زيادة أو نقصان، وإلا كان
هناك خطأ والعياذ بالله في حساب الخالق، ولا يمكن أن يتأتى ذلك أبداً.
وحين ننظر إلى المجتمعات في تكوينها نجد أن إنساناً غنيا في مكان قد نبا به مكانه،
واختار أن يقيم في مكان آخر، فيعجب الناس لماذا ترك ذلك المكان وهو في يسر ورخاء
وغنى؟ ربما لو كان فقيراً لقلنا طلبا للسعة، فلماذا خرج من هذا المكان وهو واجد،
وهو على هذا الحال من اليسر؟ إنهم لم يفطنوا إلى أن الله الذي خلق الخلق يُدير
كونه بتسخير وتوجيه الخواطر التي تخطر في أذهان الناس، فتجد مكانه قد نبا به،
وامتلأت نفسه بالقلق، واختار أن يذهب إلى مكان آخر.
ولو أن عندنا أجهزة إحصائية دقيقة وحسبنا المحتاجين في البيئة التي انتقل منها
لوجدنا قدرا من المال زائد على حاجة الذين يعيشون في هذه البيئة؛ فوجهه الله إلى
مكان آخر يحتاج إلى مثل هذا الكم منه. وهكذا تجد التبادل منظما. فإن رأيت إنسانا
محتاجا أو إنسانا يريد أن يرابي فاعلم أن هناك تقصيراً في حق الله المعلوم ولا
أقول في الحق غير المعلوم. أي أن الغني بخل بما يجب عليه إنفاقه للمحتاج.
والقرآن حين يواجه هذه المسألة فهو يواجهها مواجهة تُبشِّع العمل الربوي تبشيعا
يجعل النفس الإنسانية المستقيمة التكوين تنفر منه فيقول سبحانه: } الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ... {
(/276)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
وانظروا إلى كلمة { يَأْكُلُونَ } ، هل كل حاجات الحياة أكل؟ لا، فحاجات الحياة
كثيرة، الأكل بعضها، ولكن الأكل أهم شيء فيها؛ لأنه وسيلة استبقاء النفس. و {
الرِّبَا } هو الأمر الزائد، وما دام هو الأمر الزائد يعني هو لا يحتاج أن يأكل،
فهذا تقريع له.
إن الحق يريد أن يبشع هذا الأمر فيقول: لهم سمة. هذه السمة قال العلماء أهي في
الآخرة يتميزون بها في المحشر، كما يقول الحق:{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ
بِسِيمَاهُمْ }[الرحمن: 41]
فهؤلاء غير المصلين لهم علامة مميزة، وهؤلاء غير المزكين لهم علامة أخرى مميزة
بحيث إذا رأيتهم عرفتهم بسيماهم، وأنهم من أي صنف من أصناف العصاة فكأنهم حين
يقومون يوم القيامة يقومون مصروعين كالذي يتخبطه ويضربه الشيطان من المس فيصرعه،
أو أن ذلك أمر حاصل لهم في الدنيا، ولنبحث هذا الأمر:
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }. نريد أن نعرف كلمة " التخبط
" وكلمة " الشيطان " وكلمة " المس ". " التخبط
" هو الضرب على غير استواء وهدى، أنت تقول: فلان يتخبط، أي أن حركته غير
رتيبة، غير منطقية، حركة ليس لها ضابط، ذلك هو التخبط. و " الشيطان "
جنس من خلق الله؛ لأن الله قال لنا: إنه خلق الإنس والجن، والجن منهم شياطين، وجن
مطلق، والشيطان هو عاصي الجن. ونحن لم نر الشيطان، ولكننا علمنا به بوساطة إعلام
الحق الذي آمنا به فقال: أنا لي خلقا مستتر، ولذلك سميته الجن، من الاستتار ومنه
المجنون أي المستور عقله، والعاصي من هذا الخلق اسمه " شيطان ".
إذن فإيماننا به لا عن حس، ولكن عن إيمان بغيب أخبرنا به من آمنا به. وحين نجد
شيئاً اسمه الإيمان يجب أن نعرف أنه متعلق بشيء غير مُحس؛ لأن المُحس لا يقال لك:
آمن به؛ لأنه مشهود لك، فأنا لا أقول: أنا أؤمن بأن المصباح منير الآن، أنا لا
أؤمن بأننا مجتمعون في المسجد الآن، لا أقول ذلك لأن هذا واقع مشهود ومُحسّ. إذن
فالأمر الإيماني يتعلق بالغيب، مثل الإيمان بوجود الملائكة. فإذا ما كنا قد آمنا
بالغيب نجد الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا صورة للشيطان، ولكنه حين يعطينا صورة
للشيطان أو لرأس الشيطان المميزة له، كما أن رءوسنا نحن هي التي تميزنا يتكلم
سبحانه عن شجرة الزقوم فيقول جل شأنه:{ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ }[الصافات: 64-65]
وشجرة الزقوم في الآخرة في النار، إذن فنحن لا نراها، ورءوس الشياطين لا نراها،
فكيف يشبه الله ما لم نره بما لم نره، يشبه شيئا مجهولاً بشيء مجهول؟ نقول: نعم،
وذلك أمر مقصود للإعجاز القرآني؛ لأن للشيطان صورة متخيلة بشعة، بدليل أنك لو طلبت
من رسامي العالم في فن الكاريكاتير، وقلت لهم: ارسموا لنا صورة الشيطان، ولم تعطهم
ملامح صورة محددة، فكل منهم يرسم وفق تخيله كياناً غاية في القبح: فهذا يصوره
بالقبح من ناحية، وذلك يصوره بالقبح من ناحية أخرى بحيث لو جمعت الرسوم لما اتحد
رسم مع رسم.
إذن فكل واحد يستبشع صورة يرسمها. وساعة نعطي الجائزة لمن رسم صورة الشيطان أنعطي
الجائزة لأجملهم صورة أم لأقبحهم صورة؟ إننا نعطي الجائزة لصاحب أشد الصور قبحا.
إذن فصورة الشيطان المتمثلة صورة بشعة قبيحة، ولو جاء على صورة واحدة من القبح
لاختلف الناس حول هذه الصورة فلعل هذا يكون قبحا عندك ولا يكون قبحا عن آخر، ولكن
حين يُطلق الله أخيلة الناس في تصور القبح، يكون القبح مائلا وواضحا في عمل كل
إنسان فتكون الصورة أكمل وأوفى فالأكمل والأوفى أن يكون القبح شائعا فيها جميعا.
ويقول الحق: } الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ { الشيطان قلنا:
إنه العاصي من الجن، وقلنا: إن ربنا سبحانه وتعالى حكى لنا كثيرا أن الشياطين لهم
التصاق واتصال بكثير من الإنس:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }[الجن: 6]
و } لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
الْمَسِّ { فكأن الشيطان قد مس التكوين الإنساني مساً أفسد استقامة ملكاته،
فالتكوين الإنساني له استقامة ملكات مع بعضها البعض؛ فكل حركة لها استقامة، فإذا
ما مسّه الشيطان فسد تآزر الملكات، فملكاته النفسية تكون غير مستقيمة وغير منسجمة
مع بعضها البعض، فتكون حركته غير رتيبة وغير منطقية.
وما المناسبة بين هذه الصورة وبين عملية الربا؟. إن أردنا في الآخرة ميزة، فساعة
ترى واحداً مصروعاً فاعرف أنه من أصحاب الربا، هذا في الآخرة، وفي الدنيا تجد
أيضاً أن له حركة غير منطقية، هستيرية، كيف؟
انظر إلى العالم الآن، لقد خلق الله العالم على هيئة من التكامل. فهذا إنسان يتمتع
بإمكانات ومواهب، وذاك يتمتع بمواهب وإمكانات أخرى، حتى يحتاج صاحب هذه الإمكانات
إلى صاحب تلك الإمكانات فيكتمل الكون، ولو أن كل إنسان كان وحدة متكررة لاستغنى
الكل عن الكل. ولو أن الأفراد متساوون في المواهب لما احتاج الناس لبعضهم البعض.
لكن المواهب تختلف؛ لأنك إن أجدت فنًّا من فنون الحياة فقد أجاد سواك فنونا أخرى
أنت محتاج إليها، فإن احتاجوا إليك فيما أَجَدْت، فقد احتجت إليهم فيما أجادوا،
وهكذا يتكامل العالم. وكذلك خلق الله الكون: مناطق حارة، ومناطق باردة، ومناطق بها
معادن، ومناطق بها زراعة؛ حتى يضطر العالم إلى أن يتكامل، ويضطر العالم إلى أن
يتعايش مع بعضه ولذلك يقول الحق في سورة " الرحمن ":
{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10]
} وَضَعَهَا { لمن؟. } وَالأَرْضَ { ، أي أرض، وأي أنام؟. الأرض كل الأرض، والأنام
كل الأنام، فإن تحددت بحواجز فسدت. إن منع الإنسان من حرية الانتقال من مكان إلى
مكان يفسد حركة الإنسان في الكون، فقد يرغب إنسان في أن ينتقل إلى أرض بكر
ليعمرها، فيرفض أهل تلك الأرض، فلو أن الأرض كل الأرض كانت للأنام بحيث إن ضاق
العمل في مكان ذهبت إلى مكان آخر، بدون قيود عليك، تلك القيود التي نشأت من السلطات
الزمنية التي تحتجز الأماكن لأنفسها، فهذا ما يفسد الكون. فهناك بيئات تشتكي قلة
القوت، وبيئات تشتكي قلة الأيدي العاملة لأرض خراب وهي تصلح أن تزرع، فلو أن الأرض
كل الأرض للأنام كل الأنام لما حدث عجز.
ونلاحظ ما يُقال: ازدحام السكان أو الانفجار السكاني، بينما توجد أماكن تتطلب
خلقاً! ويوجد خلق تتطلب أماكن، فلماذا هذا الاختلال؟ هذا الاختلال ناشئ من أن
السلوك البشري غير منطقي في هذا الكون. والكون الذي نعيش فيه، فيه ارتقاءات عقلية
شتّى، وطموحات ابتكارية صعدت إلى الكواكب، وتغزو الفضاء، ووُجِدَت في كل بيت آلات الترفيه،
أما كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم سعيداً مستريحاً؟
كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم مستريحاً هادئاً؛ لأنه في كل يوم يبتكر أشياءَ
تعطي له أكبر الثمرة بأقل مجهود في أقل زمن، فماذا نريد بعد هذا؟ ولكن هل العالم
الذي نعيش فيه منطقي مع هذا الواقع؟ لا، بل نحن نجد أغنى بلاد العالم وأحسنها وفرة
اقتصادية هي التي يعاني الناس فيها القلق، وهي التي تمتلئ بالاضطراب، وهي التي
ينتشر فيها الشذوذ، وهي التي تشكو من ارتفاع نسبة الجنون بين سكانها.
إذن فالعالم ليس منطقياً. وهذا التخبط يؤكد ما يقوله الحق: } إِلاَّ كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ { إنها حركة هستيرية في الكون
تدل على أنه كون غير مستريح، كون غير منسجم مع طموحاته وابتكاراته.
أما كان على هذا الكون بعقلائه أن يبحثوا عن السبب في هذا، وأن يعرفوا لماذا نشقى
كل هذا الشقاء وعندنا هذه الطموحات الابتكارية؟ كان يجب أن يبحثوا، فالمصيبة عامة،
لا تعم الدول المتخلفة أو النامية فقط، بل هي أيضاً في الدول المتقدمة، كان يجب أن
يعقد المفكرون المؤتمرات ليبحثوا هذه المسألة، فإذا ما كانت المسألة عامة تضم كل
البلاد متقدمها ومتأخرها وجب أن نبحث عن سبب مشترك، ولا نبحث عن سبب قد يوجد عند
قوم ولا يوجد عن قوم آخرين؛ لأننا لو بحثنا لقلنا: يوجد في هذه البيئة. وكذلك هو
موجود في كل البيئات، فلا بد أن يوجد القدر المشترك.
فالأرزاق التي توجد في الكون تنقسم إلى قسمين: رزق أنتفع به مباشرة، ورزق هو سبب
لما أنتفع به مباشرة.
أنا آكل رغيف الخبز، هذا اسمه رزق مباشر، وأشرب كون الماء، وهو رزق مباشر، واكتسي
بالثوب وذلك أيضاً رزق مباشر، وأسكن في البيت وهذا رابعاً رزق مباشر، وأنير
المصباح رزق مباشر. ولكن المال يأتي بالرزق المباشر، ولا يغني عن الرزق المباشر.
فإذا كان عندي جبل من ذهب وأنا جوعان، ماذا أفعل به؟. إذن فرغيف العيش أحسن منه،
هذا رزق مباشر، فالنقود أو الذهب أشتري بها هذا وهذا، لكن لا يغنيني عن هذا وهذا.
وقد جاء وقت أصبح الناس يرون فيه أن المال هو كل شيء حتى صار هدفا وتعلق الناس
به.. وفي الحق أنّ المال ليس غاية، ولا ينفع أن يكون غاية بل هو وسيلة. فإن فقد
وسيلته وأصبح غاية فلا بد أن يفسد الكون؛ فعلة فساد الكون كله في القدر المشترك
الذي هو المال، حيث أصبح المال غاية، ولم يعد وسيلة.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطهر حياة الاقتصاد للناس طهارة تضمن حِلّ ما يطعمون،
وما يشربون، وما يكتسون، حتى تصدر أعمالهم عن خليات إيمانية طاهرة مصفاة؛ ذلك أن
الشيء الذي يصدر عن خلية إيمانية طاهرة مصفاة لا يمكن أن ينشأ عنه إلا الخير.
ومن العجيب أن نجد القوم الذين صدروا لنا النظام الربوي يحاولون الآن جاهدين أن
يتخلصوا منه، لا لأنهم ينظرون إلى هذا التخلص على أنه طهارة دينية، ولكن لأنهم
يرون أن كل شرور الحياة ناشئة عن هذا الربا. وليست هذه الصيحة حديثة عهد بنا،
فقديما أي من عام ألف وتسعمائة وخمسين قام رجل الاقتصاد العالمي " شاخت
" في ألمانيا وقد رأى اختلال النظام فيها وفي العالم، فوضع تقريره بأن الفساد
كله ناشئ من النظام الربوي، وأن هذا النظام يضمن للغني أن يزيد غنى، وما دام هذا
النظام قد ضمن للغني أن يزيد غنى، فمن أين يزداد غنى؟ لاشك أنه يزداد غنى من
الفقير. إذن فستئول المسألة إلى أن المال سيصبح في يد أقلية في الكون تتحكم في
مصائره كلها ولاسيما المصائر الخلقية. لماذا؟.
لأن الذين يحبون أن يستثمروا المال لا ينظرون إلا إلى النفعية المالية، فهم يديرون
المشروعات التي تحقق لهم تلك النفعية. وهناك رجل اقتصاد آخر هو " كينز "
الذي يتزعم فكرة " الاقتصاد الحر " في العالم يقول قولته المشهورة: إن
المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى درجة الصفر. ومعنى ذلك
أنه لا ربا.
وإذا ما نظرنا إلى عملية عقد الربا في ذاتها وجدناها عقداً باطلاً؛ لأن كل عقد من
العقود إنما يوجد لحماية الطرفين المتعاقدين، وعقد الربا لا يحمي إلا الطرف الدائن
فقط، وهناك أمر خلقي آخر وهو أن الإنسان لا يعطي ربا إلا إذا كان عنده فائض زائد
على حاجته.
ولا يأخذ إنسان من المرابي إلا إذا كان محتاجاً. فانظروا إلى النكسة الخلقية في
الكون. إن المعدم الفقير الذي لا يجد ما يسد جوعه وحاجته يضطر إلى الاستدانة، وهذا
الفقير المعدم هو الذي يتكفل بأن يعطي الأصل والزائد إلى الغني غير المحتاج.
إنها نكسة خلقية توجد في المجتمع ضِغناً، وتوجد في المجتمع حقداً، وتقضي على بقية
المعروف وقيمته بين الناس، وتنعدم المودة في المجتمع. فإذا ما رأى إنسان فقيرٌ
إنساناً غنياً عنده المال، ويشترط الغني على الفقير المعدم أن يعطيه ما يأخذه وأن
يزيد عليه، فعلى أية حال ستكون مشاعر وأحاسيس الفقير؟ كان يكفي الغني أن يعطي
الفقير، وأن يسترد الغني بعد ذلك ما أخذه الفقير، ولكن الغني المرابي يطلب من
الفقير أن يسدد ما أخذه ويزيد عليه. وكانوا يتعللون ويقولون: إن النص القرآني إنما
يتكلم عن الربا في الأضعاف المضاعفة، فإذا ما منعنا القيد في الأضعاف المضاعفة لا
يكون حراماً!!
أي أنهم يريدون تبرير إعطاء الفقير مالاً، وأن يرده أضعافاً فقط لا أضعافاً
مضاعفة؛ حتى لا يصير ذلك الاسترداد بالزيادة حراماً. ولهؤلاء نقول: إن الذين
يقولون ذلك يحاولون أن يتلصصوا على النص القرآني، وكأن الله قد ترك النص ليتلصصوا
عليه ويسرقوا منه ما شاءوا دون أن يضع في النص ما يحول دون هذا التلصص، ولو فطنوا
إلى أن الله يقول في آخر الأمر:{ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ
لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }[البقرة: 279]
هذا القول الحاسم يوضح أن الله لم يستثن ضعفاً ولا أضعافاً. إذن فقوله الحق:{ يَآ
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[آل عمران: 130]
إن هذا القول الحكيم لم يجئ إلا ليبين الواقع الذي كانوا يعيشونه، ولم يستثن الله
ضعفاً أو أضعافاً؛ لأن الحق جعل التوبة تبدأ من أن يأخذ الإنسان رأس ماله فقط، فلا
يسمح الله لأحد أن يأخذ نصف الضعف أو الضعف أو الضعفين، ولا يسمح بالأضعاف ولا
بالمضاعفات.
وكانوا يتعللون أن اتفاق الطرفين على أي أمر يعتبر تراضياً ويعتبر عقداً. وقد يكون
ذلك صحيحاً إن لم يكن هناك مشرع أعلى من كل الخلق يسيطر على هذا التراضي. فهل كلما
تراضى الطرفان على شيء يصير حلالاً؟
لو كان الأمر كذلك لكان الزنا حلالاً: لأنهما طرفان قد تراضيا. وكل ذلك لا يتأتى ـ
أي رضاء الطرفين ـ إلا في الأمور التي ليس فيها تشريع صدر عن المشرع الأعلى، وهو
الله الحيّ القيوم.
إن الله قد فرض أمراً يقضي على التراضي بيني وبينك؛ لأنه هو المسيطر، وهو الذي حكم
في الأمر، فلا تراضي بيننا فيما يخالف ما شرع الله أو حكم فيه.
وإذا نظرنا نظرة أخرى فإننا نجد أن التراضي الذي يدعونه مردود عليه. إنه "
تراضٍ " باطل بالفحص الدقيق والبحث المنطقي. لماذا؟ لأننا نقول إن التراضي
إنما ينشأ بين اثنين لا يتعدى أمر ما تراضيا عليه إلى غيرهما، أما إذا كان الأمر
قد تعدى من تراضيا عليه إلى غيرهما فالتراضي باطل.
فهب أن واحداً لا يملك شيئا، وواحداً آخر يملك ألفا، والذي يملك ألفا هي ملكه،
وأدار بها عملا من الأعمال، وحين يدير صاحب الألف عملا فالمطلوب له أجر عمله ليعيش
من هذا الأجر. أما الذي لا يملك شيئا إذا ما أراد أن يعمل مثلما عمل صاحب الألف،
فذهب إلى إنسان وأخذ منه ألفا ليعمل عملا كعمل صاحب الألف، فيشترط من يعطيه هذه
الألف من الأموال أن يزيده مائة حين السداد، فيكون المطلوب من الذي اقترض هذه
الألف أجر عمله كصاحب الألف الأول ومطلوب منه أيضا أن يزيد على أجره تلك المائة
المطلوبة لمن أقرضه بالربا.
فمن أين يأتي من اقترض ألفا بهذه المائة الزائدة؟ إن سلعته لو كانت تساوي سلعة
الآخر فإنه يخسر. وإن كانت سلعته أقل من سلعة الآخر فإنها تكسد وتبور.
إذن فلا بد له من الاحتيال النكد، وهذا الاحتيال هو أن يخلع على سلعته وصفا شكليا
يساوي به سلعة الآخر، ويعمد إلى إنقاص الجواهر الفعالة في صنعة سلعته، فيسحب منها
ما يوازي المائة المطلوب سدادها للمرابي. فن الذي سيدفع ذلك؟ إنه المستهلك.
إذن فالمستهلك قد أضير بهذا التراضي؛ فهو الذي سيغرم؛ لأنه هو الذي يدفع أخيراً
قيمة قرض الرجل المتاجر بالسلعة وقيمة النسبة الربوية التي حددها المرابي. إذن
فالعقد بين المقترض والمرابي ـ حتى في عرفهم ـ عقد باطل رغم أن الاثنين ـ المقترض
والمرابي ـ قد اعتبرا هذا العقد تراضيا.
إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يشيع في الناس الرحمة والمودة. وأن يشيع في الناس
التعاطف. إنه الحق ـ سبحانه ـ صاحب كل النعمة أراد أن يشيع في الناس أن يعرف كل
صاحب نعمة في الدنيا أنه يجب عليه أن تكون نعمته متعدية إلى غيره، فإن رآها
المحروم علم أنه مستفيد منها، فإذا كان مستفيداً منها فإنه لن ينظر إليها بحقد،
ولا أن ينظر إليها بحسد، ولا يتمنى أن تزول لأن أمرها عائد إليه. ولكن إذا كان
السائد هو أن يريد صاحب النعمة في الدنيا أن يأخذ بالاستحواذ على كل عائد نعمته،
ولا يراعي حق الله في مهمة النعمة، ولا تتعدى هذه النعمة إلى غيره، فالمحروم عندما
يرى ذلك يتمنى أن تزول النعمة عن صاحبها وينظر إليها بحسد. ويشيع الحقد ومعه
الضغينة، ويجد الفساد فرصة كاملة للشيوع في المجتمع كله.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسيطر على الاقتصاد عناصر ثلاثة:
العنصر الأول: الرفد والعطاء الخالص، فيجد الفقير المعدم غنيا يعطيه، لا بقانون
الحق المعلوم المفروض في الزكاة، ولكن بقانون الحق غير المعلوم في الصدقة، هذا هو
الرفد.
العنصر الثاني: يكون بحق الفرض وهو الزكاة.
العنصر الثالث: هو بحق القرض وهو المداينة.
إذن فأمور ثلاثة هي التي تسيطر على الاقتصاد الإسلامي: إما تطوع بصدقة، وإما أداءٌ
لمفروض من زكاة، وإما مداينة بالقرض الحسن، وذلك هو ما يمكن أن ينشأ عليه النظام
الاقتصادي في الإسلام. ولننظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى حين عرض هذه المسألة
وبشّع هيئة الذين يأكلون الربا بأنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه ويصرعه
الشيطان من المس.
لماذا؟ لأن الحق قال فيهم: } ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبَا { فهل الكلام في البيع، أو الكلام في الربا؟ إن الكلام في الربا.
وكان المنطق يقتضي أن يقول: " الربا كالبيع " ، فما الذي جعلهم يعكسون
الأمر؟
إن النص القرآني هنا يوحي إلى التخبط حتى في القضية التي يريدون أن يحتجوا بها.
كأنهم قالوا: ما دمت تريد أن تحرم الربا، فالبيع مثل الربا، وعليك تحريم البيع
أيضا.
وكان القياس أن يقولوا: " إنما الربا مثل البيع " ، لكن الحق سبحانه
أراد أن يوضح لنا تخبطهم فجاء على لسانهم: إنما البيع مثل الربا فإن كنتم قد حرمتم
الربا فحرموا البيع، وإن كنتم قد حللتم البيع فحللوا الربا. إنهم يريدون قياسا إما
بالطرد، وإما بالعكس.
فقال الله القول الفصل الحاسم:
} وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ
رَّبِّهِ فَانْتَهَىا { [البقرة: 275]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل
الربا وموكله ".
إنها موعظة من الله جاءت، الموعظة إن كانت من غير مستفيد منها، فالمنطق أن تُقبل ـ
بضم التاء ـ أما الموعظة التي يُشَك فيها، فهي الموعظة التي تعود على الواعظ بشيء
ما. فإذا كانت الموعظة قد جاءت ممن لا يستفيد بهذه الموعظة، فهذه حيثية قبولها }
فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَىا { ، ولنر كلمة " ربه
" حينما تأتي هنا فلنفهم منها أن المقصود بها الحق سبحانه الذي تولى تربيتكم،
ومتولي التربية خلقا بإيجاد ما يستبقي الحياة، وإيجاد ما يستبقي النوع، ومحافظة
على كل شيء بتسخير كل شيء لك أيها الإنسان، فيجب أن تكون أيها الإنسان مهذبا أمام
ربك فلا توقع نفسك في اتهام الرب الخالق في شبهة الاستفادة من تلك الموعظة ـ معاذ
الله ـ.
لماذا؟ لأن الخالق رب، وما دام الخالق رباً فهو المتولي تربيتكم، فإياك أيها
الإنسان أن تتأبَّى على عظة المُربّي. } فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ
فَانْتَهَىا فَلَهُ مَا سَلَفَ { ومعنى ذلك أن الأمر لن يكون بأثر رجعي فلا يؤاخذ
بما مضى منه؛ لأنه أخذ قبل نزول التحريم؛ تلك هي الرحمة، لماذا؟
لأنه من الجائز أن يكون المرابي قد رتب حياته ترتيباً على ما كان يناله من ربا قبل
التحريم، فإذا كان الأمر كذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعفو عما قد سلف.
وعلى المرابي أن يبدأ حياته في الوعاء الاقتصادي الجديد.
تلك هي عظمة التشريع الرباني } فَانْتَهَىا فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ { أي أن له ما سبق وما مضى قبل تحريم الربا. وتفيد كلمة } وَأَمْرُهُ
إِلَى اللَّهِ { أن الله سبحانه وتعالى حينما يعفو عما سلف فله طلاقة الحرية في أن
يقنن ما شاء، فيجب أن تتعلق دائما باستدامة الفضل من الله. } وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ { إن مثل هذا الإنسان ربما قال: سأنهار اقتصاديا ومركزي سيتزعزع، وسأصبح
كذا وكذا. لا. اجعل سندك في الله، ففي الله عوض عن كل فائت، هو سبحانه لا يريد أن
يزلزل مراكز الناس، ولكن يريد أن يقول لهم: إنني إن سلبتكم نعمتي فاجعلوا أنفسكم
في حضانة المنعم بالنعمة.
وما دمت قد جعلت نفسك في حضانة المنعم بالنعمة، إذن فالنعمة لا شيء؛ لأن المنعم
عوض عن هذه النعمة، والربا من السبع الموبقات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم
باجتنابها حيث قال: " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟
قال: الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل
مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " }
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ { أي عاد بعد الموعظة ماذا يكون أمره؟ }
فَأُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {. وكان يكفي أن يقول
عنهم: إنهم } أَصْحَابُ النَّارِ { فلعل واحداً يكون مؤمنا وبعد ذلك عاد إلى
معصية، فيأخذ حظه من النار.
إنما قوله: } هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { يدل على أنه خرج عن دائرة الإيمان. وافهم
السابق جيداً لتفهم التذييل اللاحق؛ لأن هنا أمرين: هنا ربا حرمه الله، وأناس
يريدون أن يُحلّلوا الربا عندما قالوا: } إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا { ،
فإن عدت إلى الربا حاكما بحرمته فأنت مؤمن عاصٍ تدخل النار.
إنما إن عدت إلى ما سلف من المناقشة في التحريم، وقلت: البيع مثل الربا، وناقشت في
حرمة الربا وأردت أن تحلله كالبيع فقد خرجت عن دين الإسلام. وحين تخرج عن دين
الإسلام فلك الخلود في النار.
ومن هنا يجب أن نلفت الذين يقولون بالربا، ونقول لهم: قولوا: إن الربا حرام،
ولكننا لا نقدر على أنفسنا حتى نبطله ونتركه، وعليكم أن تجاهدوا أنفسكم على الخروج
منه حتى لا تتعرضوا لحرب الله ورسوله. إنهم باعتقادهم أن الربا حرام يكونون عاصين
فقط، أما أن يحاولوا تبرير الربا ويحللوه فسيدخلون في دائرة أخرى شر من ذلك، وهي دائرة
الكفر والعياذ بالله.
وقد عرفنا أن آدم عليه السلام عصى ربه، وأكل من الشجرة، وإبليس عصى ربه، فلما تلقى
آدم من ربه كلمات فتاب عليه، أما إبليس فقد طرده الله، ولماذا طرد الله إبليس وأحل
عليه اللعنة؟
لأن آدم أقر بالذنب وقال: " ربنا ظلمنا أنفسنا ". لقد اعترف آدم: حكمك
يا رب حكم حق، ولكني ظلمت نفسي. ولكن إبليس عارض في الأمر وقال: } أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً { ، فكأنه رد الأمر على الآمر.
وبعد ذلك حين بين الله الحكم في الربا، وبين أن من انتهى له ما سلف، فماذا عن الذي
يعود؟ } وَمَنْ عَادَ { وهي المقابل } فَأُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ { ، يريد سبحانه أن يقول: إياكم أن يخدعكم الربا بلفظه،
فالألفاظ تخدع البشر؛ لأنكم سميتموه " ربا " بالسطحية الناظرة: لأن
الربا هو الزيادة، والزكاة تنقص، فالمائة في الربا تكون مائة وعشرة مثلا حسب سعر
الفائدة، وفي الزكاة تصبح المائة (97.5)، في الأموال وعروض التجارة، وتختلف عن ذلك
في الزروع وغيرها، وفي ظاهر الأمر أن الربا زاد، والزكاة أنقصت، ولكن هذا النقصان
وتلك الزيادة هي في اصطلاحاتكم في أعرافكم. والحق سبحانه وتعالى يمحق الزائد،
وينمي الناقص؛ فهو سبحانه يقول: } يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ... {
(/277)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
وكلمة { يَمْحَقُ } من " محق " أي ضاع حالا بعد حال، أي لم يضع فجأة،
ولكن تسلل في الضياع بدون شعور، ومنه " المحاق " أي الذهاب للهلال. {
يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا } أي يجعله زاهيا أمام صاحبه ثم يتسلل إليه الخراب من
حيث لا يشعر.
ولعلنا إن دققنا النظر في البيئات المحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك. فكم من أناس
رابوا، ورأيناهم، وعرفناهم، وبعد ذلك عرفنا كيف انتهت حياتهم. { يَمْحَقُ اللَّهُ
الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات } ويقول في آية أخرى:{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن
رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ
}[الروم: 39]
فإياكم أن تعتقدوا أنكم تخدعون الله بذلك.. ما هو المقابل؟{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن
زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }[الروم:
39]
و { الْمُضْعِفُونَ } هم الذين يجعلون الشيء أضعافاً مضاعفة. وعندما يقول الحق: {
يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا } فلا تستهن بنسبة الفعل لله؛ إن نسبة الفعل لفاعله
يجب أن تأخذ كيفيته من ذات الفاعل، فإذا قيل لك: فلان الضعيف يصفعك، أو فلان
الملاكم يصفعك، فلابد أن تقيس هذه الصفعة بفاعلها، فإذا كان الله هو الذي قال: {
يَمْحَقُ اللَّهُ }. أيوجد محق فوق هذا؟ لا، لا يمكن.
وأيضا حين يقول الله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات } في
القرآن الذي يُتلى وهو معجز؛ ومحفوظ ومُتحدي بحفظه، فهذه قضية مصونة { يَمْحَقُ
اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات }؛ لأن الذي قالها هو الله في كتاب الله
المحفوظ، الذي يُتلى مُتَعَبِّداً به، أي أن القضية على ألسنة الجماهير كلها، وفي
قلوب المؤمنين كلها، أيقول الله قضية يحفظها ذلك الحفظ ليأتي واقع الزمن ليكذبها؟
لا، لا يمكن. فالإنسان لا يحفظ إلا المستند الذي يؤيده!! أنا لا أحفظ إلا "
الكمبيالة " التي تخصني! فما دام هو حافظه وهو القائل:{ إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9]
فمعنى ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه قضايا، وهذه القضايا هو الذي تَعهد بحفظها، ولا
يتعهد بحفظها إلا لتكون حجة على صدقه في قولها. فالشيء الذي لا يكون فيه حُجة لا
نحافظ عليه. وهو سبحانه القائل:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
}[الصافات: 173]
إن هذه قضية قرآنية تعهد الله بحفظها، فلابد أن يأتي واقع الحياة ليؤيدها، فإذا
كان واقع الحياة لا يؤيدها، ماذا يكون الموقف؟ أنكذب القرآن ـ وحاشانا أن نكذب
القرآن ـ الذي قاله الحق الذي لا إله سواه ليُدير كوناً من ورائه.
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ }. ولماذا قال الحق: " كفار " ولم يقل: " كافر
" ، ولماذا قال: " أثيم " وليس مجرد " آثم "؟ لأنه يريد
أن يرد الحكم على الله وما دام يريد أن يرد الحكم على الله، فقد كفر كفرين اثنين: كفر
لأنه لم يعترف بهذه، وكفر لأنه ردّ الحكم على الله، وهو " أثيم " ، ليس
مجرد " آثم " ، وفي ذلك صيغة المبالغة لنستدل على أن القضية التي نحن
بصددها قضية عمرانية اجتماعية كونية، إن لم تكن كما أرادها الله فسيتزلزل أركان
المجتمع كله.
وبعد أن شرح لنا الحق مرارة المبالغة في " كفار " وفي " أثيم
" يأتي لنا بالمقابل حتى ندرك حلاوة هذا المقابل، ومثال ذلك ما يقول
الشاعر:فالـوجه مـثل الصـبح مـبـيضّ والشـعر مـثل اللـيل مسـودُّضـدّان لمـا
اسـتـجـمـعا حَسُنا والضـد يظـهر حسـنَه الضدُّفكأن الله بعد أن تكلم عن الكَفَّار
والأثيم يرجعنا لحلاوة الإيمان فيقول: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ... {
(/278)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
وقلنا: إن كلمة " أجر " تقتضي أنه لا يوجد مخلوق يملك سلعة، إنما كلنا
مستأجرون، لماذا؟ لأننا نشغل المخ المخلوق لله، بالطاقة المخلوقة لله، في المادة
المخلوقة لله، فماذا تملك أنت أيها الإنسان إلا عملك، وما دمت لا تملك إلا عملك
فلك أجر { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ }. وكلمة { عِندَ رَبِّهِمْ } لها
ملحظ؛ فعندما يكون لك الأجر عند المساوي لك قد يأكلك، أما أجرك عند رب تولّى هو
تربيتك، فلن يضيع أبداً.
ويتابع الحق: { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } لا من أنفسهم على أنفسهم، ولا من
أحبابهم عليهم، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }؛ لأن أي شيء فاتهم من الخير سيجدونه
مُحضرا أمامهم. وبعد ذلك يقول الحق: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ
اللَّهَ... }
(/279)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
وحين يقول الحق: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فنحن نعرف أن النداء بالإيمان
حيثية كل تكليف بعده، وساعة ينادي الحق ويقول: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }
أي يا من آمنتم بي إلها قادراً حكيماً، عزيزاً عنكم غالباً على أمري، لا تضرني
معصيتكم، ولا تنفعني طاعتكم، فإذا كنتم قد آمنتم بي وأنا إله قادر حكيم فاسمعوا
مني ما أحبه لكم من الأحكام.
إذن فكل { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } في القرآن هي حيثية كل حكم يأتي بعدها،
وأنت تفعل ما يأمرك به الله، وإن سألك أحد: وقال لك: لماذا فعلت هذا الأمر؟ فقل له
فعلته لأني مؤمن، والذي أمرني به هو الذي آمنت بحكمته وقدرته. وأنت لا تدخل في
متاهة علل الأحكام، لأنك آمنت بأن الله إله حكيم قادر، أنزل لك تلك التكاليف،
وإياك أن تدخل في متاهة علة الأحكام، لماذا؟ لأن هناك أشياء قد تغيب علّتها عنك،
أكنت تؤجلها إلى أن تعرف العلة؟.
أكنا نؤجل تحريم لحم الخنزير إلى أن يثبت حالياً بالتحليل أنه ضار؟ لا، إذا كان قد
ثبت حالياً بالتحليل أنه ضار فنحن نزداد ثقة في كل حكم كلفنا الله به، ولم نهتد إلى
علته، والحق يقول: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } ومن عجائب
كلمة { اتَّقُواْ } أنها تأتي في أشياء يبدو أنها متناقضة، إنما هي ملتقية {
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } ولم يقل هنا: اتقوا النار كما
قال في آية أخرى: { اتَّقُواْ النَّارَ }. إذن فكيف يقول: { اتَّقُواْ اللَّهَ }
ويقول: { اتَّقُواْ النَّارَ }؟ لأن معنى { اتَّقُواْ }: أي اجعلوا وقاية بينكم
وبين ربكم.
كيف نجعل وقاية بيننا وبين ربنا مع أن المطلوب منا إيمانياً أن نلتحم بمنهج الله
لنكون دائما في معية الله؟ نقول: الله سبحانه وتعالى له صفات جلال كالقهار،
والمنتقم، والجبار، وذي الطول وشديد العقاب؛ فهو يطلب من عبده المؤمن أن يجعل بينه
وبين صفات جلاله وقاية، فالنار جند من جنود صفات الجلال، وحين يقول سبحانه: {
اتَّقُواْ اللَّهَ } يعني: اجعلوا وقاية بينكم وبين صفات الجلال التي من جنودها
النار. إذن فـ { اتَّقُواْ اللَّهَ } مثل { اتَّقُواْ النَّارَ } أي اجعلوا وقاية
بينكم وبين النار.
ويتابع الحق: { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ،
و { ذَرُواْ } أي اتركوا، ودعوا، وتناسوا، واطلبوا الخير من الله فيما بقى من
الربا إن كنتم مؤمنين حقاً بالله. كأن الله أراد أن يجعلها تصفية فاصلة، يولد من
بعدها المؤمن طاهرا نقيا.
إنه أمر من الحق: دعوا الربا الذي لم تقبضوه؛ لأن الذي قبضتموه أمره { فَلَهُ مَا
سَلَفَ } والذي لم تقبضوه اتركوه: { اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فإن قلتم إن التعاقد قد صدر قبل التحريم،
والتعاقد قد أوجب لك الحق في ذلك، تذكر أنك لم تقبض هذا الحق ليصير في يدك، ولا
تقل إن حياتي الاقتصادية مترتبة عليه، فترتيب الحياة الاقتصادية لم ينشأ بالاتفاق
على هذا الربا، ولكنه ينشأ بقبضه وأنت لم تقبضه. ويتابع الحق: { فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... }
(/280)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
في هذه الآية قضية كونية يتغافل عنها كثير من الناس. لقد جاء نظام ليحمي طائفة من
ظلم طائفة، ولم يأت هذا النظام إلا بعد أن وجدت طائفة المرابين الذين ظلموا طائفة
الفقراء المستضعفين. وحَسْبُ هؤلاء المستضعفين الذين استغلوا من المرابين أن
ينصفهم القرآن وأن يُنهي قضية الربا إنهاءً يعطي الذين رابوا ما سلف لأنهم بنوا
حياتهم على ذلك.
و { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } كلمة (الألف والذال والنون) من " الأذن "
وكل المادة مشتقة من " الأذن " و " الأذُن " هي الأصل الأول
في الإعلام؛ لأن الإنسان ليس مفروضاً أنه قارئ أولا، إنّه لا يكون قارئاً إلا إذا
سمع، إذن فلا يمكن أن ينشأ إعلام إلا بالسماع والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن
أدوات العلم للإنسان قال:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78]
ولذلك عندما جاء علم وظائف الأعضاء ليبحث ذلك وجدوها طبق الأصل كما قال الله عنها.
فالوليد الصغير حين يولد إن جاء إصبع إنسان عند عينيه فلا يهتز له رمش؛ لأن عينه
لم تؤد مهمتها بعد، ولكن إن تصرخ بجانب أذنه فإنه ينفعل.
وعرفنا أن أول أداة تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان الوليد هي أذنه، وهي أيضا الأداة
التي تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان مستيقظاً كان أو نائماً. إن العين تغمض في النوم
فلا ترى، لكن الأذن مستعدة طوال الوقت لأن تسمع؛ لأنها آلة الاستدعاء. إذن فمادة
" الأَذَان " و " الأُذُن " كلها جاءت من مهمة السمع، وقال
الله سبحانه وتعالى:{ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }[الانشقاق: 5]
ما معنى أذنت؟. أنت حين تسمع من مساو لك، فقد تنفذ وقد لا تنفذ، لكن حين تسمعه من
إله قادر فلا مناص لك إلا أن تنفذ، فكأن الله يقول: إن الأرض تنشق حين تسمع أمري
بالانشقاق. فبمجرد أن تسمع الأرض أمر الحق فإنها تفعل، وحق لها أن تفعل ذلك؛ إنها
أذنت لأمر الله، أي خضعت؛ لأن القائل لها هو الله.
إذن كل المادة هنا جاءت من " الأذن ". ولذلك فالله يقول لمن لا يفعل ما
أمر به الله في الربا؛ { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ }. أما حرب الله فلا نقول فيها إلا قول الله:{ وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[المدثر: 31]
ولا يستطيع أحد أن يحتاط لها. وأما حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي
الأمر الظاهر. كأن الله سبحانه وتعالى يجرد على المرابين تجريدة هائلة من جنوده
التي لا يعلمها إلا هو، وحرب رسول الله جنودها هم المؤمنون برسوله، وعليهم أن
يكونوا حربا على كل ظاهرة من ظواهر الفساد في الكون؛ ليطهروا حياتهم من دنس الربا.
وهكذا وضع الله نهاية لأسلوب التعامل، حتى يتطهر المال من ذلك الربا، فإذا قال
الحق: } فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ {
فمعنى هذا أنه سبحانه يبين لنا بهذا القول أنه لا حق للمرابين في ضعف ولا ضعفين،
ولا في أضعاف مضاعفة. وحينئذ } لاَ تَظْلِمُونَ { من رابيتم، بأن تأخذوا منهم
زائدا عن رأس المال.
ولكن ما موقع } وَلاَ تُظْلَمُونَ { ، ومن الذي يظلمهم؟ قد يظلمهم الضعيف الذي
ظُلِمَ لهم سابقا، ويأخذ منهم بعض رأس المال بدعوى أنهم طالما استغلوه فأخذوا منه
قدراً زائدا على رأس المال. إن المشرع يريد أن يمنع الظالم السابق فينهي ظلمه، وأن
يسعف المظلوم اللاحق فيعطيه حقه، وهو سبحانه لا يريد أن يوجه ظلما ليستغل به من
ظُلم فيظلم الذي ظلمه أولا، بل سبحانه يشاء بهذا الحكم أن ينهي هذا النوع من الظلم
على إطلاقه، وأن يجعل الجميع على قدر سواء في الانتفاع بمزايا الحكم.
وكثير من النظريات التي تأتي لتقلب نظاما في مجتمع ما تعمد إلى الطائفة التي
ظَلَمَت، فلا تكتفي بأن تكفها عن الظلم، ولكن تمكن للمظلوم أن يظلم من ظلمه، وذلك
هو الإجحاف في المجتمع، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الناس جيدا؛ لأن الله الذي
أنصفك أيها المظلوم من ظالمك، فمنع ظلمه لك، هنا يجب أن تحترم حكمه حينما قال: }
فَلَهُ مَا سَلَفَ { وبهذا القول انتهت القضية.
ويستأنف سبحانه الأمر بعدالة جديدة تجمعك وتجمعه على قدم المساواة بدون ظلم منك
أيها المظلوم سابقا بحجة أنه طالما ظلمك. والمجتمعات حين تسير على هذا النظام }
لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ { إنما تسير على نمط معتدل لا على ظلم موجه.
فنحن نعيب على قوم أنهم ظلموا، ثم نأتي بقوم لنجعلهم يَظْلِمون، لا.. إن الجميع
على قدم المساواة من الآن.
وفساد أي نظام في المجتمع يأتي من توجيه الظلم من فئة جديدة إلى فئة قديمة، فبذلك
يظل النظام قائما، طائفة ظَلَمَت، وتأتي طائفة كانت مظلومة لتظلم الطائفة الظالمة
سابقا، نقول لهم: ذلك ظلم موجه، ونحن نريد أن تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد
المجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه، فالذي ظَلَمَ سابقا منعناه عن ظلمه، والمغلوب
سابقا أنصفناه، وبذلك يصير الكل على قدم المساواة؛ ليسير المجتمع مسيرة عادلة
تحكمه قضية إيمانية. إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وبعد ذلك يجيء القرآن ليفتح باب جديدا من الأمل أمام المظلومين. وليضع حدا للذين
كانوا ظالمين أولا، وحكم لهم برأس المال ومنعهم من الزائد على رأس المال، فحنن
قلوبهم على هؤلاء. أَيْ ليست ضربة لازب أن تأخذوا رأس المال الآن، ولكن عليكم أن
تُنْظِروا وتمهلوا المدين إن كان معسراً، وإن تساميتم في النضج الإيماني اليقيني
وارتضيتم الله بديلا لكم عن كل عوض يفوتكم، فعليكم أن تتجاوزوا وتتنازلوا حتى عن
رءوس أموالكم التي حكم الله لكم بها لتترفعوا بها وتهبوها لمن لا يقدر. فيأتي قول
الحق: } وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىا مَيْسَرَةٍ... {
(/281)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
و { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } حكم بأن للدائن رأس المال، ولكن هب أنّ المدين ذو
عسرة، هنا قضية يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية، لقد درسوها
صناعة، ولكنها عزت عليهم ملكة؛ لأن اللغة ليست صناعة فقط، اللغة طبع، واللغة ملكة،
اللغة وجدان، يقولون: إن القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته. فمثلا
جاءوا بهذه الآية: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىا مَيْسَرَةٍ وَأَن
تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.
قال بعض المستشرقين: نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر { كَانَ } في قوله: {
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } ، صحيح لا نجد خبر { كَانَ } ، ولكن الملكة العربية
ليست عنده؛ لأنه إذا كان قد درس العربية كان يجب أن يعرف أن { كَانَ } تحتاج إلى
اسم وإلى خبر، اسم مرفوع وخبر منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة، كان يجب
أن يفهم أيضا معها أنها قد تأتي تامة أي ليس لها خبر، وتكتفي بالمرفوع، وهذه تحتاج
إلى شرح بسيط.
إن كل فعل من الأفعال يدل على حدث وزمن، وكلمة { كَانَ } إن سمعتها دلت على وجود
وحدث مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها، كان مجتهدا؟ كان كسولا؟ مثلا فهي
تدل على وجود شيء مطلق أي ليس له حالة، ومعنى ذلك أن { كَانَ } دلت على الزمن
الوجودي المطلق أي على المعنى المجرد الناقص، والشيء المطلق لا يظهر المراد منه
إلا إذا قيد، فإن أردت أن تدل على وجود مقيد ليتضح المعنى، ويظهر، فلا بد أن
تأتيها بخبر، كأن تقول: كان زيد مجتهدا، هنا وجد شيء خاص وهو اجتهاد زيد. إذن فـ {
كَانَ } هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود الخاص، فإذا لم يكن الأمر
كذلك وأردنا الوجود فقط تكون { كَانَ } تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط مثل أن تقول:
عاد الغائب فكان الفرح أي وجد، أو أشرقت الشمس فكان النور، والشاعر يقول:وكـانت
وليـس الصـبح فيـها بأبيـض وأضـحت وليـس اللـيـل فيـها بأسـودفقوله { وَإِن كَانَ
ذُو عُسْرَةٍ } أي فإن وجد ذو عسرة.. أي إن وجد إنسان ليس عنده قدرة على السداد، {
فَنَظِرَةٌ } من الدائن { إِلَىا مَيْسَرَةٍ } أي إلى أن يتيسر، ويكون رأس المال في
هذه الحالة { قَرْضاً حَسَناً } ، وكلما صبر عليه لحظة أعطاه الله عليها ثوابا.
ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن الصدقة حين تعطيها فقد
قطعت أمل نفسك منها، ولا تشغل بها، وتأخذ ثوابا على ذلك دفعة واحدة، لكن القرض حين
تعطيه فقلبك يكون متعلقا به، فكلما يكون التعلق به شديدا، ويهب عليك حب المال
وتصبر فأنت تأخذ ثوابا. لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضا حسنا والمقترض
معذور بحق؛ لأن فيه فرقاً بين معذور بحق، ومعذور بباطل، المعذور بحق هو الذي يحاول
جاهدا أن يسدد دينه، ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك، أما المعذور بباطل فيجد
عنده ما يسد دينه ولكنه يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم.
ولذلك جرب نفسك، ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه حرص على السداد ولم
يسدد، وكل دين كان برداً وسلاماً على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ولا يقدر أن
يسدد، وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك. وهؤلاء لا يطول
بهم الدّيْنُ طويلا؛ لأن الرسول حكم في هذه القضية حكما، فقال صلى الله عليه وسلم:
" من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها
أتلفه الله ".
فما دام ساعة أخذها في نيته أن يؤدي فإن الله ييسر له سبيل الأداء، ومن أخذها يريد
إتلافها، فالله لا ييسر له أن يسدد؛ لأنه لا يقدر على ترك المال يسدد به دينه وهذه
حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر لنا هذا الحديث، فقد مات رجل عليه
دين، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مدين؛ قال لأصحابه: صلوا على
أخيكم.
إذن فهو لم يصل، ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا، لماذا لم يصل؟ لأنه قال قضية
سابقة: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه " ما دام قد مات
ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن يماطل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع
أصحابه من الصلاة عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يأتي للمعسر ويعامله معاملة الأريحية الإيمانية فيقول:
" من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ".
ومعنى " أنظر " أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فلا يلاحقه، فلا يحبسه في
دَيْنِه، فلا يطارده، وإن تسامى في اليقين الإيماني، يقول له: " اذهب، الله
يعوض عليَّ وعليك " وتنتهي المسألة، ولذلك يقول الحق: } وَأَن تَصَدَّقُواْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ { والثمرة هي حسن الجزاء من الله. فإما
أن تنظر وتؤخر، وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين، وأنت حر في أن تفعل ما
تشاء. فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل
للبيئة الجاهلية.
ولقد عرفنا مما تقدم أن الإسلام قد بنى العملية الاقتصادية على الرفد والعطاء،
وتكلم الحق سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى: }
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ {.
وتكلم طويلاً عن النفقة. والنفقة تشمل ما يكون مفروضاً عليك من زكاة، وما تتطوع به
أنت. والمتطوع بشيء فوق ما فرض الله يعتبره سبحانه حقاً للفقير، ولكنه حق غير
معلوم، ولذلك حينما تعرضنا إلى قوله سبحانه:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ }[الذاريات: 15-17]
أيتطلب الإسلام منا ألا نهجع إلا قليلاً من الليل؟ لا، إن للمسلم أن يصلي العشاء
وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر، هذا ما يطلبه الإسلام. لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن
المحسنين الذين دخلوا في مقام الإحسان مع الله.{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 15-18]
هل التشريع يلزم المؤمن أن يقوم بالسحر ليستغفر؟ لا، إن المسلم عليه أن يؤدي
الفروض، ولكن إن كان المسلم يرغب في دخول مقام الإحسان فعليه أن يعرف الطريق:{
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 18]
والكلام هنا في مقام الإحسان. ويضيف الحق عن أصحاب هذا المقام:{ وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19]
إن الله سبحانه قد حدد في أموال من يدخل في مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم، ولم
يحدد الله قيمة هذا الحق أو لونه. هل هو معلوم أو غير معلوم. لكن حين تكلم الله عن
المؤمنين قال سبحانه:{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ *
لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[المعارج: 24-25]
وهكذا نجد في أموال صاحب مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم، لكن في أموال صاحب
الإيمان حق معلوم وهو الزكاة. ومقام الإحسان يعلو مقام الإيمان؛ لأن الحق في مال
المؤمن معلوم، أما في مقام الإحسان فإن في مالهم حقا للإحسان إلى الفقير وإن لم
يكن معلوما، أي لم يحدد.
وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتبر الزكاة ـ ما دامت حقاً للفقير عند الغني ـ فإن منع
الغني ما قدره نصاب سرقة تُقطع يد الغني، لأنه أخذ حق الفقير. ونصاب السرقة ربع
دينار ذهباً، فيبني الإسلام قضاياه الاجتماعية إما عل النفقة غير المفروضة وإما
على النفقة المفروضة. فإذا ما شحّت نفوس الناس، ولم تستطيع أن تتبرع بالقدر الزائد
على المفروض، وتمكن حب مالها في نفسها تمكنا قوياً بحيث لا تتنازل عنه يقول الله
سبحانه لكل منهم:
أنت لم تتنازل عن مالك، وأنا حرمت الربا، فكيف نلتقي لنضع للمجتمع أساساً سليماً؟
سنحتفظ لك بمالك ونمنع عنك فائدة الربا، وهكذا نلتقي في منتصف الطريق، لا أخذنا
مالك، ولا أخذت من غيرك الزائد على هذا المال.
وشرح الحق سبحانه آية الديْن، وأخذت هذه الآية أطول حيز في حجم آيات القرآن،
لماذا؟. لأن على الديْن هذا تُبنى قضايا المجتمع الاقتصادية عند من لا يجد مورداً
مالياً يُسيّر به حركة حياته.
وحين وضع الحق آية الديْن لم يضعها وضعاً تقنينياً جافاً جامداً، وإنما وضعها
وضعاً وجدانيا. أي مزج التقنين بالوجدان، مزج الحق جمود القانون بروح الإسلام، فلم
يجعلها عملية جافة.
والمشرعون من البشر عندما يقننون فهم يضعون القانون جافاً، فمثال ذلك: من قتل
يقتل، وغير ذلك. لكن الحق يقول غير ذلك حتى في أعنف قضايا الخلاف، وهي خلافات
الدم، فقال سبحانه:{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ }[البقرة: 178]
والحق سبحانه وتعالى قبل أن يأتي بآية الديْن، يقول: } وَاتَّقُواْ يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ... {
(/282)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
ولقد أوضحنا من قبل أن تقوى الله تقتضي أن تقوم بالأفعال التي تقينا صفات الجلال
في الله، وأوضحنا أن الله قال: { وَاتَّقُواْ يَوْماً } أي أن نفعل ما يجعل بيننا
وبين النار وقاية، فالنار من متعلقات صفات الجلال. وهاهو ذا الحق سبحانه هنا يقول:
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً } ، فهل نتقي اليوم، أو نتقي ما ينشأ في اليوم؟ إن اليوم
ظرف زمان، والأزمان لا تُخاف بذاتها، ولكن يخاف الإنسان مما يقع في الزمن.
لكن إذا كان شيء في الزمن مخيفاً، إذن فالخوف ينصب على اليوم كله، لأنه يوم هول؛
كل شيء فيه مفزّع ومخوف، وقانا الله وإياكم ما فيه من هول، وانظر إلى الدقة
القرآنية المتناهية في قوله: { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ }.
إن الرجوع في هذا اليوم لا يكون بطواعية العباد ولكن بإرادة الله. وسبحانه حين
يتكلم عن المؤمنين الذين يعملون الصالح من الأعمال؛ فإنه يقول عن رجوعهم إلى الله
يوم القيامة:{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ
إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }[البقرة: 45-46]
ومعنى ذلك أن العبد المؤمن يشتاق إلى العودة إلى الله؛ لأنه يرغب أن ينال الفوز.
أما غير المؤمنين فيقول عنهم الحق:{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىا نَارِ جَهَنَّمَ
دَعًّا }[الطور: 13]
إن رجوع غير المؤمنين يكون رجوعاً قسرياً لا مرغوباً فيه. والحق يقول عن هذا
اليوم: { ثُمَّ تُوَفَّىا كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
وبعد ذلك يقنن الحق سبحانه للدين فيقول سبحانه: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... }
(/283)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
إنها أطول آية في آيات القرآن ويستهلها الله بقوله: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ } وهذا الاستهلال كما نعرف يوحي بأن ما يأتي بعد هذا الاستهلال من حكم،
يكون الإيمان هو حيثية ذلك الحكم، فما دمت قد آمنت بالله فأنت تطبق ما كلفك به؛
لأن الله لم يكلف كافراً، فالإنسان ـ كما قلنا سابقاً ـ حر في أن يُقبل على
الإيمان بالله أو لا يُقبل.
فإن أقبل الإنسان بالإيمان فليستقبل كل حكم ن الله بالتزام. ونضرب هذا المثل ـ
ولله المثل الأعلى ـ إن الإنسان حين يكون مريضاً، هو حر في أن يذهب إلى الطبيب أو
لا يذهب، ولكن حين يذهب الإنسان إلى الطبيب ويكتب له الدواء فالإنسان لا يسأل
الطبيب وهو مخلوق مثله: لماذا كتبت هذه العقاقير؟.
إن الطبيب يمكن أن يرد: إنك كنت حرا في أن تأتي إليّ أو لا تأتي، لكن ما دمت قد
جئت إلى فاسمع الكلام ونفذه. والطبيب لا يشرح التفاعلات والمعادلات لا، إن الطبيب
يشخص المرض، ويكتب الدواء. فما بالنا إذا أقبلنا على الخالق الأعلى بالإيمان؟
إننا نفذ أوامره سبحانه، والله لا يأمر المؤمن إلا عن حكمة، وقد تتجلى للمؤمن بعد
ذلك آثار الحكمة ويزداد المؤمن ثقة في إيمانه بالله. يقول الحق: { ياأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } وعندما نتأمل قول الحق: { تَدَايَنتُم } نجد فيها " دَيْن
" ، وهناك " دِين " ، ومن معنى الدِيّن الجزاء، ومن معنى الدِّين
منهج السماء، وأما الدَّيْن فهو الاقتراض إلى موعد يسدد فيه. هكذا نجد ثلاثة معان
واضحة: الدِّين: وهو يوم الجزاء، والدَّيْن وهو المنهج السماوي والدَّيْن: هو
المال المقترض.
والله يريد من قوله: { تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أن يزيل اللبس في معنيين، ويبقى
معنى واحداً وهو الاقتراض فقال: { بِدَيْنٍ } فالتفاعل هنا في مسألة الدَيْن لا في
الجزاء ولا في المنهج، والحق يحدد الدَيْن بأجل مُسمّى. وقد أراد الله بكلمة
" مُسمّى " مزيداً من التحديد، فهناك فرق بين أجل لزمن، وبين أجل لحدث
يحدث، فإذا قلت: الأجل عندي مقدم الحجيج. فهذا حدث في زمن، ومقدم الحجيج لا يضمنه
أحد، فقد تتأخر الطائرة، أو يصاب بعض من الحجيج بمرض فيتم حجز الباقين في الحجر
الصحي.
أما إذا قلت: الأجل عندي شهران أو ثلاثة أشهر فهذا يعني أن الأجل هو الزمن نفسه،
لذلك لا يصح أن يؤجل أجل دينه إلى شيء يحدث في الزمن؛ لأنه من الجائز ألا يحدث ذلك
الشيء في هذا الزمن. إن التداين بديْن إلى أجل مُسمى يقتضي تحديد الزمن، والحق
يوضح لنا: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ }
وكلمة { فَاكْتُبُوهُ } هي رفع لحرج الأحباء من الأحباء.
إنه تشريع سماوي، فلا تأخذ أحد الأريحية، فيقول لصاحبه: " نحن أصحاب " ،
إنه تشريع سماوي يقول لك: اكتب الديْن، ولا تقل: " نحن أصدقاء " فقد
يموت واحد منكما فإن لم تكتب الديْن حرجاً فماذا يفعل الأبناء، أو الأرامل، أو
الورثة؟.
إذن فإلزام الحق بكتابة الديْن هو تنفيذ لأمر من الله يحقق رفع الحرج بين الأحباء.
ويظن كثير من الناس أن الله يريد بالكتابة حماية الدائن. لا، إن المقصود بذلك
والمهم هو حماية المدين، لأن المدين إن علم أن الديْن عليه موثق حرص أن يعمل ليؤدي
ديْنه، أما إذا كان الدين غير موثق فيمن الجائز أن يكسل عن العمل وعن سداد الديْن.
وبذلك يحصل هو وأسرته على حاجته مرة واحدة، ثم يضن المجتمع الغني على المجتمع
الفقير فلا يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك الإنسان عن السداد ذريعة لذلك، ويقع هذا
الإنسان الذي لم يؤد دينه في دائرة تحمل الوزر المضاعف، لأنه ضيّق باب القرض
الحسن.
إن الله يريد أن يسير دولاب الحياة الاقتصادية عند من لا يملك، لأن من يملك يستطيع
أن يسيّر حياته، أما من لا يملك فهو المحتاج. ولذلك فهناك مثل في الريف المصري
يقول: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. إنه يقترض ويسدد، لذلك يثق فيه كل الناس،
ويرونه أميناً ويرونه مُجداً، ويرونه مخلصاً، ويعرفون عنه أنه إذا أخذ وفّى، فكل
المال يصبح ماله.
إذن فالله ـ سبحانه ـ بكتابة الديْن يريد حماية حركة الحياة عند غير الواجد؛ لأن
الواجد في غير حاجة إلى القرض. لذلك جاء الأمر من الحق سبحانه: } إِذَا
تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ {. ومن الذي يكتب الديْن؟.
انظر الدقة: لا أنت أيها الدائن الذي تكتب، ولا أنت أيها المدين، ولكن لابد أن
يأتي كاتب غير الاثنين، فلا مصلحة لهذا الثالث من عملية الدين } وَلْيَكْتُب
بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ {. وفي ذلك إيضاح بأن الإنسان الذي يعرف الكتابة إن طُلب منه أن
يكتب ديْناً ألا يمتنع عن ذلك، لماذا؟ لأن الآية ـ آية الديْن ـ قد نزلت وكانت
الكتابة عند العرب قليلة، كان هناك عدد قليل فقط هم الذين يعرفون الكتابة، فكان
هناك طلب شديد على من يعرف الكتابة.
ولكن إن لم يُطْلَب أحد من الذين يعرفون الكتابة أن يكتب الديْن فماذا يفعل؟. إن
الحق يأمره بأن يتطوع، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح " فليكتب "؛ لأن
الإنسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه أن يعمل، والظرف لا يحتمل تجربة، فالشرع
يلزمه أن يندب نفسه للعمل.
هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة، وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق، أو هو غير
قادر على إدارة الدفة، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة، إنه يندب نفسه
للعمل، فلا مجال للتجربة.
والحق سبحانه وتعالى حين عرض قضية الجدب في قصة سيدنا يوسف قال:{ تَزْرَعُونَ
سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ
مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ }[يوسف: 47-48]
وقال سيدنا يوسف:{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىا خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ }[يوسف: 55]
إن المسألة جدب فلا تحتمل التجربة، وهو كفء لهذه المهمة، يملك موهبة الحفظ والعلم،
فيندبُ نفسه للعمل. كذلك هنا } وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ { إذا طلب منه وإن لم يطلب منه وتعين } فَلْيَكْتُبْ {.
وهذه علة الأمرين الاثنين، وما دامت الكتابة للتوثيق في الدَّيْن؛ فمن الضعيف؟ إنه
المدين، والكتابة حجة عليه للدائن، لذلك يحدد الله الذي يملل: الذي عليه الديْن،
أي يملي الصيغة التي تكون حجة عليه } وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ {
ولماذا لا يملي الدائن؟ لأن المدين عادة في مركز الضعف، فلعل الدائن عندما تأتي
لحظة كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا الميعاد، وقد يخجل المدين أن يتكلم ويصمت؛
لأنه في مركز الضعف. ويختار الله الذي في مركز الضعف ليملي صيغة الديْن، يملي على
راحته، ويضمن ألا يُؤخذ بسيف الحاجة في أن موضع من المواضع.
لكن ماذا نفعل عندما يكون الذي عليه الديْن سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل
هو؟ إن الحق يضع القواعد } فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ
ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ
{ والسفيه هو البالغ مبلغ الرجال إلا أنه لا يمتلك أهلية التصرف. والضيف هو الذي
لا يملك القدرة التي تُبلغه أن يكون ناضجا النضج العقلي للتعامل، كأن يكون طفلا
صغيرا، أو شيخا بلغ من الكبر حتى صار لا يعلم من بعد علمه شيئا، أو لا يستطيع أن
يمل. أي أخرس فيقول بالإملاء الولي أو القيمّ أو الوصيّ.
ويأتي التوثيق الزائد: بقوله ـ تعالى ـ: } وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن
رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الأُخْرَىا {.
ولننظر إلى الدقة في التوثيق عندما يقول الحق: } وَاسْتَشْهِدُواْ { نستشهد ونكتب،
لأنه سبحانه يريد بهذا التوثيق أن يؤمّن الحياة الاقتصادية عند غير الواجد؛ لأن
الحاجة عندما تكون مؤمَّنَة عند غير الواجد فالدولاب يمشي وتسير حركة الحياة
الاقتصادية؛ لأن الواجد هو القليل، وغير الواجد هو الكثير، فكل فكر جاد ومفيد
يحتاج إلى مائة إنسان ينفذون التخطيط.
أن الجيب الواجد الذي يصرف يحتاج إلى مائة لينفذوا، ولهذا تكون الجمهرة من الذين
لا يجدون، وذلك حتى يسير نظام الحياة؛ لأن الله لا يريد أن يكون نظام الحياة تفضلا
من الخلق على الخلق، إنما يريد الله نظام الحياة نظاما ضروريا؛ فالعامل الذي لا
يعول أسرة قد لا يخرج إلى العمل، لذلك فالحق يربط خروج العامل بحاجته.
إنه يحتاج إلى الطعام ورعاية نفسه وأسرته فيخرج اضطرارا إلى العمل، وبتكرار الأمر
يعشق عمله، وحين يعشق العمل فهو يحب العمل في ذاته.
وبذلك ينتقل من الحاجة إلى العمل، إلى حب العمل في ذاته، وإذا ما أحب العمل في
ذاته، فعجلة الحياة تسير. والحق سبحانه حين يحدد الشهود بهذا القول: }
وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ {.
ولماذا قال الحق: } شَهِيدَيْنِ { ولم يقل " شاهدان "؟ لأن مطلق شاهد قد
يكون زوراً، لذلك جاء الحق بصيغة المبالغة. كأنه شاهد عرفه الناس بعدالة الشهادة
حتى صار شهيدا. إنه إنسان تكررت منه الشهادة العادلة؛ واستأمنه الناس على ذلك،
وهذا دليل على أنه شهيد. وإن لم يكن هناك شهيدان من الرجال فالحق يحدد لنا }
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ {.
إن الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا على قدر طاقتنا أي من نرضى نحن عنهم، وعلل الحق
مجيء المرأتين في مقابل رجل بما يلي: } أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىا {؛ لأن الشهادة هي احتكاك بمجتمع لتشهد فيه وتعرف ما
يحدث. والمرأة بعيدة عن كل ذلك غالبا.
أن الأصل في المرأة ألا علاقة لها بمثل هذه الأعمال، وليس لها شأن بهذه العمليات،
فإذا ما اضطرت الأمور إلى شهادة المرأة فلتكن الشهادة لرجل وامرأتين؛ لأن الأصل في
فكر المرأة أنه غير مشغول بالمجتمع الاقتصادي الذي يحيط بها، فقد تضل أو تنسى
إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، وتتدارس كلتاهما هذا الموقف، لأنه ليس من واجب
المرأة الاحتكاك بجمهرة الناس وبخاصة ما يتصل بالأعمال.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ { فكما قال
الحق عن الكاتب ألا يمتنع عن توثيق الديْن، كذلك الشهادة على هذا الديْن. وكيف
تكون الشهادة، هل هي في الأداء أو التحمل؟ إن هنا مرحلتين: مرحلة تحمل، ومرحلة
أداء.
وعندما نطلب من واحد قائلين: تعال اشهد على هذا الديْن. فليس له أن يمتنع، وهذا هو
التحمل. وبعدما وثقنا الديْن، وسنطلب هذا الشاهد أمام القاضي، والوقوف أمام القاضي
هو الأداء. وهكذا لا يأبى الشهداء إذا ما دعوا تحملا أو أداءً.
لكن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن كل نفس بشرية لها مجال حركتها في الوجود ويجب ألا
تطغى حركة حدث على حدث، فالشاهد حين يُستدعى ـ بضم الياء ـ ليتحمل أولا أو ليؤدي
ثانيا ينبغي ألاّ تتعطل مصالحه؛ إن مصالحه ستتعطل؛ لأنه عادل، ولأنه شهيد، لذلك
يضع الله لذلك الأمر حداً فيقول: } وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ {.
إذن فالشهادة هنا تتطلب أن نحترم ظرف الشاهد. فإن كان عند الشاهد عمل أو امتحان أو
صفقة أو غير ذلك، فلنا أن نقول للشاهد: إما أن تتعين في التحمل حيث لا يوجد من
يوثق به ويطمأن إليه أما في الأداء فأنت مضطر.
إن الشاهد يمكنه أن يذهب إلى أمره الضروري الذي يجب أن يفعله، فلا يطغى حدث على
حدث، لذلك علينا أن نبحث عن شاهد له قدرة السيطرة على عمله بدرجة ما. وإن لم نجد
غيره، فماذا يكون الموقف؟
لقد قال الحق: } وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ { إذن فعلينا أن نبحث له عن
" جُعْل " يعوض عليه ما فاته، فلا نلزمه أن يعطل عمله وإلا كانت عدالته
وَبالاً عليه، لأن كل إنسان يُطلب للشهادة تتعطل أعماله ومصالحه. والله لا يحمي
الدائن والمدين ليضر الكاتب أو الشهيد.
وقوله الحق لكلمة: } يُضَآرَّ { فمن الممكن أن تأتي الكلمة على وجهين في اللغة،
فمرة تأتي } يُضَآرَّ { بمعنى أن الضرر يأتي من الكاتب أو الشهيد، ومرة أخرى تأتي
كلمة } يُضَآرَّ { بمعنى الضرر يقع على الكاتب أو الشهيد. فاللفظ واحد، ولكن حالة
اللفظ بين الإدغام الذي هو عليه حسب قواعد اللغة وبين فكه هي التي تُبَيِّنُ لنا
اتجاه المعنى. فإن قلنا: } وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ { ـ بكسر الراء
ـ، فالمعنى في هذه الحالة هو أن يقع الضرر من الكاتب فيكتب غير الحق، أو أن يقع
الضرر من الشهيد فيشهد بغير العدل.
وإن قلنا: } وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ { ـ بفتح الراء ـ فالمنهي عنه
هو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد من الذين تؤدي الكتابة غرضا لهم، وتؤدي
الشهادة واجبا بالنسبة لهم؛ ليضمن الدائن دَيْنه، وليستوثق أن أداءه محتم.
والكاتب والشهيد شخصان لهما في الحياة حركة، ولكل منهما عمل يقوم به ليؤدي مطلوبات
الحياة، فإذا عُلِمَ ـ بضم العين وكسر اللام وفتح الميم ـ أنه كاتب أو شهد بأنه
عادل، عند ذلك يتم استدعاؤه في كل وقت من أصحاب المصلحة في المداينة، وربّما تعطلت
مصالح الكاتب أو الشهيد.
ويريد الله أن يضمن لذلك الكاتب أو الشهيد ما يبقى على مصلحته. ولذلك أخذت
القوانين الوضعية من القرآن الكريم هذا المبدأ، فهي إن استدعت شاهدا من مكان ليشهد
في قضية فإنّها تقوم له بالنفقة ذهابا وبالنفقة إيابا، وإن اقتضى الأمر أن يبيت
فله حق المبيت وذلك حتى لا يضار، وهو يؤدي الشهادة، وحتى لا يتعطل الشاهد عن عمله
أو يصرف من جيبه.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أيضا أن يضمن مصالح الجميع لا مصلحة جماعة على حساب
جماعة.
ويقول الحق في هذه " المضارة ": } وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ { أي وإن تفعلوا الضرر من هذا أو من ذاك فإنه فسوق بكم، إنه سبحانه يحذر أن
يقع الضرر من الكاتب أو الشهيد، أو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد.
ففعل الضرر فسوق، أي خروج عن الطاعة.
والأصل في " الفسق " هو خروج الرطبة من قشرتها، فالبلح حين يرطب تكون
القشرة قد خلعت عن الأصل من البلحة، فتخرج الثمرة من القشرة فيقال: " فسقت
الرطبة ". ومنها أخذ معنى الفسوق وهو الخروج عن طاعة الله في كل ما أمر.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ { وعلمنا من قبل معنى كلمة
" التقوى " حين يقول الله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ { أو يقول سبحانه: }
وَاتَّقُواْ النَّارَ { } وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ {
، وكل هذه المعاني مبنية على الوقاية من صفات جلال الله، وجبروته، وقهره، وإذا
قلنا: } وَاتَّقُواْ النَّارَ { فالنار من جنود صفات القهر لله، فـ } وَاتَّقُواْ
اللَّهَ { هي بعينها } وَاتَّقُواْ النَّارَ { هي بعينها } وَاتَّقُواْ يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ {.
ويقول الحق سبحانه: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ {. وهنا مبدأ
إيماني يجب أن نأخذه في كل تكليف من الله؛ فإن التكاليف إن جاءت من بشر لبشر، فأنت
لا تنفذ التكليف من البشر إلا إن أقنعك بحكمته وعلته؛ لأن التكليف يأتي من مساوٍ
لك، ولا توجد عقلية أكبر من عقلية، وقد تقول لمن يكلفك: ولماذا أكون تبعا لك وأنت
لا تكون تبعا لي؟ إنك إذا أردت أن تكلفني بأمر من الأمور وأنت مساو لي في
الإنسانية والبشرية وعدم العصمة فلا بد أن تقنعني بحكمة التكليف.
أما إن كان التكليف من أعلى وهو الحق سبحانه وهو الله الذي آمنا بقدرته وعلمه
وحكمته وتنزهه عن الغرض العائد عليه فالمؤمن في هذه الحالة يأخذ الأمر قبل أن يبحث
في الحكمة؛ لأن الحكمة في هذا الأمر أنه صادر من الله، وحين ينفذ المؤمن التكليف
الصادر من الله فسيعلم سر هذه الحكمة فيما بعد؛ فأسرار الحكم عند الله تأتي للمؤمن
بعد أن يقبل على تنفيذ التكاليف الإيمانية.
إن الحق سبحانه ـ على سبيل المثال ـ لا يقنع العبد بأسرار الصوم، ولكن إن صام
العبد المؤمن كما قال الله وعند ممارسة المؤمن لعبادة الصوم سيجد أثر حكمة الصوم
في نفسه بما لا يمكن إقناعه به أولا. إن المؤمن حين يفعل التكليف الإيماني فإن
الله يعلمه حكمة التكليف. ولنا في قوله سبحانه الدليل الواضح:{ يِا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً
وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ }[الأنفال: 29]
إن الله سبحانه يَعِدُ عباده المؤمنين أنهم عندما يتقونه فإنه يجعل لهم دلائل تبين
لهم الحق من الباطل ويستر عنهم السيئات ويغفر لهم. لماذا؟ لأن الله الذي يعلمنا هو
الحق سبحانه العليم بكل شيء.
وعلم الله ذاتي، أما علم الإنسان فقد يكون أثرا من ضغط الأحداث عليه فيفكر الإنسان
في تقنين شيء يخرجه مما يكون فيه من شر ولكن علم العليم الأعلى سابق على ذلك لأنه
علم ذاتي.
وفيما سبق علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الديْن هذه العناية ليضمن للحياة
حركتها الطاهرة، حركتها السليمة؛ لأن المعدم لا وسيلة له في حركة الحياة إلا أمور
ثلاثة، الأمر الأول: الرِّفْدُ أي عطاء تطوعي يستعين به على حركة الحياة. والأمر
الثاني: الفرض الذي فرضه الله في الزكاة. والأمر الثالث: القرض الذي شرعه.
فعندما لا يجد المؤمن المعدم الرفد أو الفرض فماذا يكون بعد ذلك؟ إنه القرض. إذن
فالقرض هو المفزَع الثالث للحركة الاقتصادية عند المعدمين. وعرفنا أن القرض عند
الله يفوق ويعلو الصدقة في الثواب؛ لأن الصدقة حين تتصدق بها تكون قد خرجت من نفسك
من أول الأمر فلا مشغولية لذهنك بعد ذلك، ولكن القرض نفسك تكون متعلقة به؛ لأنك لا
تزال مالكاً له، وكلما صبرت عليه أخذت ثواباً من الله على كل صبرة تصبرها على
المدين.
وعرفنا كذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد استوثق لعملية الديْن استيثاقا يجب أن نفهمه
من وجهيه، الوجه الأول: أنه يحفظ بذلك ثمرة حركة المتحرك في الحياة وهي أن يتمول،
أي أن يكون عنده مال؛ فإن لم نَحْم له ثمرة حركته في الحياة استهان بالحركة، وإذا
استهان بالحركة تَعطلت مصالح كثيرة؛ لأن حركة المتحرك في الحياة تنفع بشراً كثيرين
قصد المتحرك ذلك أو لم يقصد، وضربنا المثل بمن يريد بناء عمارة، وعنده مال، فيسلط
الله عليه خاطراً من خواطره مصداقاً لقوله الحق:{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ
إِلاَّ هُوَ }[المدثر: 31]
فيقول: ولماذا أكنز المال؟ ولماذا لا أبني عمارة أستفيد من إيجارها؟. وبذلك لا
يتناقص المال بل يزيد. وليس في بال ذلك الرجل أن ينفعَ أحداً. إن باله مشغول بأن
ينفع نفسه، لكن حركته وإن لم يقصد نفعَ الغير ستنفع الغير.. فالذي يحفر الأرض
سيأخذ أجراً لذلك، والذي يضرب الطوب سيأخذ أجراً لذلك، وكل من يشترك في عمل لإقامة
هذا البنيان من بناء أو إدخال كهرباء أو توصيل مياه أو تحسين وتجميل كل واحد من
هؤلاء سيأخذ أجره، وبذلك يستفيد الجميع وإن لم يقصد المتحرك في الحياة.
إذن فالحق يريد أن يحمي حركة المتحرك في الحياة لأنه لو لم يحم الله ثمرة حركته في
الحياة؛ لاكتفى المتحرك في حركته بما يقوته ويقوت من يقول، ويبقى الضعيف في
الحياة؛ فمن ذا يعوله؟. إذن لابد أن يضمن للمتحرك ماله حتى يتشجع على الحركة إن
الله الذي وهب الناس أرزاقهم، عندما يطلب من القوي المتحرك أن يعطي أخاه الضعيف
المحتاج قرضاً، لا يقول الله: " اقرض المحتاج " ، ولكنه جل وعلا يقول:
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }[البقرة: 245]
إن الله سبحانه وتعالى قد احترم حركة الإنسان المتحرك في الحياة وجعل المال مال
المتحرك، فلا يقول الله للمتحرك: أعط المحتاج من المال الذي وهبتك إياه. لا، إنه
مال المتحرك، ويقول الله للمتحرك: اقرضني لأن أخاك في حاجة إليه، كما نقول للتقريب
لا للتشبيه ـ ولله المثل الأعلى ـ أنت تأخذ من حصالة ابنك لمصلحة أخيه، وتعد ابنك
الذي أخذت من حصالته أنك سوف تعطيه الكثير. والمال الذي أخذته من حصالة ابنك قرضا
أنت الذي أعطيته له أولا.
إذن فالله يريد أن يحمي حركة الحياة، وإن لم نحم حركة الحياة، لا يكون كل إنسان آمناً
على ثمرة حركته، فستفسد الحياة كلها ويستشري الضغن والحقد والذي يقول الله سبحانه
وتعالى:{ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ
تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }[محمد: 36-37]
وساعة يتفشى الضغن في المجتمع فلا فائدة في هذا المجتمع أبداً. إذن فالحق حين يوثق
الديْن يريد أن يحمي حركة المتحرك؛ لأن الناس تختلف فيما بينها في الحركات
الطموحية. ولا توجد الحركات الطموحية في كل الناس، بل توجد في بعضهم، فلنستغل حركة
الطموح عند بعض الناس؛ لأنهم سيفيدون المجتمع: قصدوا ذلك أو لم يقصدوا.
وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يحمي أيضاً الإنسان من نفسه؛ لأنه إن علم أن
الديْن الذي عليه موثق، ولا وسيلة لإنكاره حاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليؤديه.
وحين يتحرك الإنسان ليؤدي عن نفسه الدين فإن ذلك يزيد الحركة في الحياة،ويزداد
النفع. وهكذا نرى أن الله أراد بالتوثيق للدين حماية المديْن من نفسه؛ لأن المدين
قد تطرأ عليه ظروف فيماطل، وإذا ما ماطل فلن تكون الخسارة فيه وحده، ولكنه سيصبح
أسوة عند جميع الناس وسيقول كل من عنده مال: لا أعطي أحداً شيئاً لأن فلاناً الغني
مثلي قد أعطى فلاناً الفقير وماطله وأكله، وعند ذلك تتوقف حركة الحياة ولكن إذا
كان الدين موثقا ومكتوبا فإن المدين يكون حريصا على أدائه. والله يريد أن يضمن
لحركة الحياة دواماً واستمراراً شريفاً نظيفاً. ولذلك نجد في آية الدَّين أن كلمة
" الكتابة " ومادتها " الكاف والتاء والباء " تتكرر أكثر من
مرة بل مرات كثيرة.
} ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ
مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ
كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً
فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ
يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ
وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىا وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ
إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً
إِلَىا أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَىا أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا
وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن
تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [البقرة: 282]
وهذا التكرار في هذه الآية لعملية الكتابة يؤصل العلاقة بين الناس؛ فالكتابة هي
عمدة التوثيق، وهي التي لا تغش، لأنك إن سجلت شيئاً على ورقة فلن تأتي الورقة
لتنكر ما كتبته أنت فيها، ولكن الأمر في الشهادة قد يختلف، فمن الجائز أن يخضع
الشاهد لتأثير ما فينكر الحقيقة، ولذلك فإن الحق يعطينا قضية إيمانية جديدة حين
يقول: " أن يكتب كما علمه الله " أي أن يكتب الكاتب على وفق ما علمه
الله، فكأنه لابد أن يكون فقيهاً عالماً بأمور الكتابة، أو " كما علمه الله
" أي أنّ الله أحسن إليه وعلمه الكتابة دون غيره، فكما أحسن الله إليه بتعلم
الكتابة فليحسن ولْيُعَدِّ أثر الكتابة إلى الغير.
وليست المسألة مسألة كتابة فقط، إنما ذلك يشمل ويضم كل شيء أو موهبة خص الله بها
فرداً من الناس من مواهب الله على خلقه؛ فالمؤمن هو من يعمل على أن يعدي أثر
النعمة والموهبة إلى الغير. وعليك أن تعدي أثر مواهب الغير إليك فتنفع بها سواك،
وبذلك يشيع الخير ويعم النفع لأنك إن أخذت موهبة فستأخذ موهبة واحدة تكفيك في
زاوية واحدة من زوايا حياتك، وعندما تعديها للجميع وتنقلها إليهم فيعدي الجميع
مواهبهم المجتمعة لمصلحتك، فأيهما أكسب؟
حين تعدي وتنقل موهبتك إلى الناس، تكون أنت الأكثر كسباً؛ لأن الجميع يعدون
وينقلون مواهبهم إليك. وإذا أتقنت صنعك للناس فالصنعة التي في يدك واحدة، وعندما
تتقنها فإن الله يسلط جنود الخواطر على كل من يصنع لك شيئاً أن يتقنه، كما أتقنْت
أنت لسواك. وبعد ذلك يعلمنا الحق سبحانه شدة الحرص على التوثيق فيقول: } وَإِن
كُنتُمْ عَلَىا سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ... {
(/284)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن
تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة
الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر،
واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا
الحق يوضح لك: { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ }. إذن فلم يترك الله مسألة الديْن حتى في
السفر فلم يشرِّع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرَّع أيضا للسفر { فَرِهَانٌ
مَّقْبُوضَةٌ } وهكذا الكتابة، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر
هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع.
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى
رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا.
إنه الحق سبحانه يقول: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } إنه الطموح الإيماني، لم يَسُدّ الله مسألة المروءة
والإيثار في التعامل. إن كتابة الديْن والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال:
{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }.
وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهنا
رهان، وذلك معناه وجود مسألتين، المسألة الأولى هي " الديْن " ،
والمسألة الثانية هي " الرهان المقبوضة " وهي مقابل الديْن. فواحد مأمون
على الرهن في يده. والآخر مأمون على الديْن. ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من
بيده الرهن، ومن بيده الدَّيْن ومعنى ذلك أن يؤدي مَن معه الرهن أمانته، وأن يؤدي
الآخر ديْنه. وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في
التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد
التوثيق الإيماني عند كل الناس؟.
أنضمن الظروف؟. نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل
والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك:
إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك.
ومعنى " أمانة " أنه لا يوجد صك، ولا شهود، وتكون الذمة هي الحكم، فإن
شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة، وإن شئت أنكرتها. إن الرجل الذي يفعل معك ذلك
إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية، ومن الجائز أن تقول له لحظة
أن يفعل معك ذلك: نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة. وتكون نيتك أن
تؤديها له ساعة أن يطلبها، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك، وأنت كإنسان من
الأغيار. ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة،
أو يجعلك تنكرها، فتقول لمن ائتمنك:
ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء، وإن ملكت نفسي وقت التحمل.
والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة
التي نحن بصددها والحق ـ سبحانه ـ يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول ـ جل شأنه
ـ:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72]
إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة
للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء.
لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمُّل الأمانة وكأنها قالت: إنّا يا ربنا نريد أن
نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها
الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة
الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني
أستطيع الاختيار بين البدائل.
وهنا نُذَكِّر الإنسان: إنك قد تكون قوياً لحظة التحمل، ولكن ماذا عن حالك وقت
الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان: } وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُوماً جَهُولاً { لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو
ظلوم. وهو جهول لأنه قدّرَ وقت التحمل، ولم يقدّر وقت الأداء، أو ضمنها ثم خاس
وخالف ما عاهد نفسه على أدائها.
إذن فالإنسان وإن كان واثقاً أنه سيؤدي الأمانة إلاّ أنه عرضة للأغيار، لذلك قال
الحق سبحانه: } وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىا
أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ { فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من
الضعف وقت الأداء، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقاً لا يجعلك أيها
العبد خاضعاً لذمتك الإيمانية فقط، ولكنّك تكون خاضعاً للتوثيق الخارج عن إيمانيتك
أيضاً، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله.
ويقول الحق سبحانه: } وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ { وهذه الكلمة } وَلاَ
تَكْتُمُواْ { إنما هي أداء معبر، لأن كلمة " شهادة " تعني الشيء الذي
شهدته، فما دمت قد شهدت شيئاً فهو واقع، والواقع لا يتغير أبداً، ولذلك فالإنسان
الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه
يستوحي واقعاً.
لكن الكذّاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛
لأنه لا يستوحي واقعاً. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، وما دام الأمر
مشهوداً وواقعاً، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكبته بالكتم؛ لأن
كلمة " الكتم " تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك
يقول الحق: } وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ { فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية
تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع.
لذلك يأتي الأمر من الحق؛ } وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه {. وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان
الذي لم يقل الشهادة؟.
إن الشاعر يقول:إن الكـلام لفـي الفـؤاد وإنـما جعـل اللسـان على الفؤاد
دليلاًوساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول:
أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنّك تذْكر الجارحة
التي لها دخل في هذه المسألة.
وعندما يقول الحق: } فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه { إنّ كل الجوارح تخضع للقلب: }
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ { أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم
الله شيئاً، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في
الموطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة
شريفة وطاهرة.
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف، ويصيبها العطل، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا
يصنع في الحياة؟. إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على
الواجد فإنه يكره النعمة عنده، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد، فالنعمة
نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه. إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه
بعضها متعلق بالبعض الآخر.
إن النعمة تحب المُنعم عليه ـ بضم الميم وفتح العين ـ أكثر من حب المنعم عليه
للنعمة وتذهب إلى من أنعم الله عليه بها بعشق، فمن كره النعمة عند منعم عليه
فالنعمة تستعصي عليه حتى كأنها تقول له: لن تنال مني خيراً. وليجربها كل إنسان.
أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك، إنك إنْ أحببت النعمة عند غيرك
فإنها تأتي إليك لتخدمك. وأيضاً فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد
وجهد، قد تكون النعمة مجرد فضل من الله، يفضل به بعض خلقه، فحين تكرهها أنت عند
المنعم عليه تكون قد اعترضت على قدر الله في النعمة. وحين تعترض على قدر الله في
النعمة فإن الحق ـ سبحانه ـ لا يجعلك تنتفع منها بشيء.
فإن رأيت قريباً حبس نعمته عن أقاربه فاعلم أنهم يكرهون النعمة عنده. ولو أحبوها
لسعت النعمة إليهم. إن المنهج الإلهي يريد أن يجعل الناس كتلة متكافلة متكاملة
بحيث إذا رأيت أنا النعمة عندك ونلت منها، أحببتها عندك، وحين أحب النعمة عندك فإن
العطاء يجيء من هذه النعمة إليّ، ولا تجد فارقاً بين واجد ومعدم. إنك لا تجد
فارقاً بين واجد ومعدم إلا في مجتمع لا يؤدي حكم الله في شيء.
لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار الإنسان إلى الربا لأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً،
ولم يجد من يؤدي فرض الله له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا، وبذلك
يدخل المجتمع الربوي في حرب مع الله، وهل لأحد جلد على أن يدخل في حرب مع الله؟
لا.
والمجتمع الربوي يدخل في حرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الربا وقال في حجة الوداع: " إن كل ربا
موضوع ولكن رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس
بن عبد المطلب موضوع كله ".
وتلك سمة سمو التشريع السماوي، إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من
التقنين، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب. وكان الأسوة في ذلك
سيدنا عمر بن الخطاب، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه
ويقول:
ـ سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنه نكالاً
للمسلمين. ويعلنها عمر أمام الناس، ولماذا أعلن عمر ذلك؟؛ لأن كثيرا من الناس
يجاملون أولياء الأمور، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحداً
يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند
الناس برغم أنف الناس. وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئاً.
لكن حين يعلن ولي الأمر على الناس ولأقاربه أنه لا تفرقة أبداً فيما يقنن وأن
القانون سائر على نفسه وعلى أهله فمن استغل اسماً لولي الأمر أو اصطنع شيئاً
فالتبعة على من فعل له وعليه، وبذلك تستقيم الأمور. لكن أن تظهر الحقائق في
استغلال أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم الحكام، فهنا نقول: ولماذا لم نعرف كل
شيء من البداية؟. وأين كانت الحقائق في وقتها؟.
إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تُطبق عليه أولاً وعلى
من يعول. هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " وربَا
الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبَانا، رِبَا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله
".
وفي معركة بدر، أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بيته ليحاربوا؛ لأنه لو لم
يخرج أحداً من أَهل بيتهِ لقال واحد من الكفار: إنه يحمي أهل بيته، ولو أن أجر
الاستشهاد هو الجنة فلماذا يقدم الأباعد ولا يقدم أحبابه للقتال؟
لكن هاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه، فهو العارف من ربه
بأمر الشهادة وكيف أنها تقصر على الإنسان متاعب الحياة وتدخل الجنة. هكذا كانت
المحاباة في صدر الإسلام، إنها محاباة في الباقي، ولم تكن كمحاباة الحمقى في
الفاني.
وحين يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب
التي يجب أن تقوم، حرب من الله المالك القادر على المحاربة، أما الضعاف الذين لا
يستطيعون القتال فهم لا يحاربون؛ لأنهم أمام خالقهم وقاهرهم فلا يقدرون على حربه
ولذلك يجب أن تتنبه الدولة إلى مثل هذه الأمور وتقنن تقنينا إسلامياً وبعد ذلك إذا
لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي
بحاجة المحتاجين.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح الأمر عقيدة في قوله: } اللَّهُ لاَ إِلَـاهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ { ، وتقنيناً للعقيدة في قوله: } لاَ إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ { ، وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا لتكون كلمة
الله هي العليا، وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة الاقتصاد في الإنفاق أولاً في
سبيل الله، والإنفاق على المحتاجين. يقول سبحانه بعد ذلك: } للَّهِ ما فِي
السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ... {
(/285)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
استهلت الآية بتقديم { لله } على ما في السماوات والأرض، والحق سبحانه يقول: {
للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ذلك هو الظرف الكائنة فيه
المخلوقات، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له، لكن قد يوجد في السماوات أو في
الأرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها
مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله، والبشر الذين صعدوا إلى السماء
وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا
ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب.
ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله: { للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
} وهو يوضح لنا: إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه
فهو لم يعط هذه الملكية إلا عَرَضَاً يؤخذ منهم، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا، وإما
أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب.
وكلمة " لله " تفيد الاختصاص، وتفيد القصر، فكل ما في الوجود أمره إلى
الله، ولا يدعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر
لا يملك نفسه أن يدوم.
نحن لم نر واحداً لم تنله الأغيار، وما دامت الأغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم
أن الله يريد من خلقه أن يتعاطفوا، وأن يتكاملوا، ويريد الله من خلقه أن يتعاونوا،
والحق لا يفعل ذلك لأن الأمر خرج من يده ـ والعياذ بالله ـ لا، إن الله يبلغنا:
أنا لي ما في السماوات وما في الأرض، وأستطيع أن أجعل دولاً بين الناس.
ولذلك نقول للذين يَصلون إلى المرتبة العالية في الغنى، أو الجاه، أو أي مجال،
لهؤلاء نقول: احذر حين تتم لك النعمة، لماذا؟ لأن النعمة إن تمت لك علواً وغنىً
وعافيةً وأولاداً، أنت من الأغيار، وما دامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لاشك
من الأغيار، فإن النعمة تتغير إلى الأقل. فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير
فلا بد له أن ينزل عن هذه القمة، ولذا يقول الشاعر:إذا تـم شـيء بـدا نقـصـه
تـرقـب زوالاً إذا قـيـل تـموالتاريخ يحمل لنا قصة المرأة العربية التي دخلت على
الخليفة وقالت له: أتم الله عليك نعمته. وسمعها الجالسون حول الخليفة ففرحوا،
وأعلنوا سرورهم، لكن الخليفة قال لهم: والله ما فهمتم ما تقول، إنها تقول: أتم
الله عليك نعمته، فإنها إن تمت تزول؛ لأن الأغيار تلاحق الخلق. وهكذا فهم الخليفة
مقصد المرأة.
والشاعر يقول:نفـسي التي تمـلك الأشـياء ذاهبة فكـيف آسـى على شيء لها ذهـباإن
النفس المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟
والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي: أن الكون كله لله،
والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن لا يخفر على الله، والحق سبحانه
لا يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب، بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا.
إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه.. فسبحانه يقول:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ
مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىا بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
}[الإسراء: 13-14]
والحساب معناه أن للإنسان رصيدا، وعليه أيضا رصيد. والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا
(له وعليه) بالميزان كما نعرف في موازين الأشياء عندنا وهو سبحانه يقول:{
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ
أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }[الأعراف: 8-9]
إن حساب الحق دقيق عادل، فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون
بالفردوس، والذين باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة،
فصاروا من أصحاب النار.
إذن نحن أمام نوعين من البشر، هؤلاء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب، وهؤلاء
الذين ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب. فماذا عن الذين تساوت الكفتان في
أعمالهم. استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب الأعراف، الذين ينالون المغفرة من
الله؛ لأن مغفرة الله وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعلا. ولو لم يجيء أمر
أصحاب الأعراف في القرآن لقال واحد: لقد قال الله لنا خبر الذين ثقلت موازينهم،
وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم، ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع
حسناتهم.
لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده،
لذلك فالحساب لا يكتفي الحق فيه بالعلم فقط، ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق، لذلك
يطمئننا الحق سبحانه فيقول:{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً
فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان: 70]
إن الحق يطمئننا على أن ما نصنعه من خير نجده في كفة الميزان، ويطمئننا أيضا على
أنه ـ سبحانه ـ سيجازينا على ما أصابنا من شر الأشرار وأننا سنأخذ من حسناتهم
لتضاف إلى ميزاننا، إذن فالطمأنينة جاءت من طرفين: طمأننا الحق على ما فعلناه من
خير، فلا يُنسى أنه يدخل في حسابنا، وطمأننا أيضا على ما أصابنا من شر الأشرار
وسيأخذ الحق من حسناتهم ليضيفها لنا.
ونحن نجد في الكون كثيراً من الناس قد يحبهم الله لخصلة من خصال الخير فيهم، وقد
تكون هذه الخصلة الخيّرة خفية فلا يراها أحد، لكن الله الذي لا تخفى عليه خافية
يرى هذه الخصلة في الإنسان، ويحبه الله من أجلها، ويرى الحق أن حسنات هذا الرجل
قليلة، فيجعل بعض الخلق يصيبون هذا الرجل بشرورهم وسيئاتهم حتى يأخذ من حسنات
هؤلاء ليزيد في حسنات هذا الرجل.
ومعنى } تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ { أي تصيروا الوجدانيات إلى نزوعيات
عملية، ولكن هل معنى } أَوْ تُخْفُوهُ { هو ألا تصيروا الوجدانيات النفسية إلى
نزوعيات عملية؟ لا، فليس لكل شيء نزوع عملي، ومثال ذلك الحب؛ إن الإنسان قد يحب،
ولا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع أنه محترق في حبه، وكذلك الذي يحقد
قد لا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع عن حقده، إذن فهناك أعمال تستقر في
القلوب، فهل يؤاخذ الله بما استقر في النفوس؟
إن هذه المسألة تحتاج إلى دقة بالغة؛ لأننا وجدنا بعضا من صحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد وقفوا فيها موقفا أبكى بعضهم، هذا عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما حينما سمع هذه الآية قال: لئن آخذنا الله على ما أخفينا في نفوسنا لنهلكن.
وبكى حتى سُمع نشيجه بالبكاء. وبلغ ذلك الأمر ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبد
الرحمن لقد وجد إخوانه المسلمون مثلما وجد من هذه الآية. فأنزل الله بعدها } لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا { إلى آخر السورة. ولنعلم أن نوازع
النفس كثيرة؛ فهناك شيء اسمه " هاجس " وهناك شيء آخر اسمه " خاطر
" وهناك ما يسمى " حديث نفس " ، وهناك " هم " وهناك
" عزم " ، إنها خمس حالات، والأربع الأولى من هذه الحالات ليس فيها شيء،
إنما الأخيرة التي يكون فيها القصد واضحا يجب أن نتنبه لها ولنتناول كل حالة
بالتفصيل.
إن الهاجس هو الخطرة التي تخطر دفعة واحدة، أما الخاطر فهو يخطر.. أي يسير في
النفس قليلا، وأما حديث النفس فإن النفس تظل تتردد فيه، وأما الهم فهو استجماع
الوسائل، وسؤال النفس عن كل الوسائل التي ينفذ بها الإنسان رغباته، أما العزم
(القصد) فهو الوصول إلى النهاية والبدء في تنفيذ الأمر.
والقصد هو الذي يُعني به قوله تعالى: } وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ { وقد وجدنا كثيرا من العلماء قد وقفوا عند
هذا القول وتساءل بعض من العلماء: هل الآية التي جاءت بعد ذلك والتي يقول فيها: }
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا { هل هي نسخ للآية السابقة عليها؟
ولكن نحن نعرف أن الآية هي خبر، والأخبار لا تنسخ إنما الأحكام هي التي يتم نسخها،
وعلى ذلك يكون القصد والعزم على تنفيذ الأمر هو المعنى بقوله الحق: } وَإِن
تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ { فهذا
هو الذي يحاسبنا الله عليه.
وعندما يقول الحق سبحانه: } فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ { فمن هم؟ لقد بين الله من
يشاء المغفرة لهم، إنهم الذين تابوا، وهم الذين أنابوا إلى الله، هم الذين قال
فيهم الحق:
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ
اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان:
70]
وتبديل المغفرة حسنة مسألة يجب أن يقف عندها الإنسان المكلف من الله وقفة ليرى فضل
الله، لأن الذي صنع سيئة ثم آلمته، فكما آلمته السيئة التي ارتكبها وحزن منها، فإن
الله يكتب له حسنة. ولكن الذي لم يصنع سيئة لا تفزعه هذه، وبعض العارفين يقول:
رُبّ معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة. أورثت عزا واستكبارا.
إنك لتجد الخير الشائع في الوجود كله ربما كان من أصحاب الإسراف على أنفسهم في شيء
ما قد اقترفوه وتابوا عنه ولكنه لا يزال يؤرقهم.
يكون الواحد منهم قويا في كل شيء، إلا أنه ضعيف أمام مسألة واحدة، وضعفه أمام هذه
المسألة الواحدة جعله يعصي الله بها وهو يحاول جاهداً في النواحي التي ليس ضعيفاً
فيها أن يزيد كثيراً في حسناته، حتى يمحو ويذهب الله هذه بهذه. فالخير الشائع في
الوجود ربما كان من أصحاب السيئات الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية من النواحي،
فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم متجهين إلى نواحٍ من الخير قائلين: ربما هذه
تحمل تلك.
لكن الذي يظل رتيباً هكذا لا تلذعه معصية ربما تظل المسائل فاترة في نفسه. ولذلك
يجب أن ننظر إلى الذين أسرفوا على أنفسهم لا في زاوية واحدة، ولكن في زوايا
متعددة، ونتأدب أمامهم وندعو الله أن يعفيهم مما نعرفه عنهم، وأن يبارك لهم فيما
قدموه؛ ليزيل الله عنهم أوزار ما فعلوا.
وبعض العلماء يرى في قوله الحق: } فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ
{ أن الله قد جعل المغفرة أمراً متعلقاً بالعابد لله، فإن شئت أن يغفر الله لك
فاكثر من الحسنات حتى يبدل الله سيئاتك إلى حسنات. وإن شئت أن تعذب ـ وهذا أمر لا
يشاؤه أحد ـ فلا تصنع الحسنات.
وهذه المسألة تجعلنا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا الإيمان به فإنه
يُملكنا الزمام. وبمجرد إيماننا به فنحن نتلقى منه زمام الاختيار، والدليل واضح في
الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول الله ـ عز وجل ـ: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني. إن ذكرني
في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأهم خيرٌ منهم وان تقرب مني
شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلىّ ذراعا، تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي
أتيتُه هَرْوَلَةً ".
إذن فبمجرد إيمانك ملكك الله الزمام، فإن أردت أن يتقرب الله إليك ذراعا، فتقرب
أنت إليه شبرا، فالزمام في يدك.
وإن شئت أن يتقرب الله منك باعا، فتقرب أنت ذراعا. وإن شئت أنت أن يأتي ربك إليك
مهرولاً ـ جرياً ـ فأت إليه مشيا. فبمجرد أن يراك الله وأنت تقبل وتتجه إليه، كأنه
يقول لك: لا.. استرح أنت، أنا الذي آتي إليك.
ولذلك قلنا من قبل في مسألة الصلاة حين تؤمن ـ أيها العبد ـ بالله وبعد ذلك ينادي
المؤذن للصلاة، فتذهب أنت إلى الصلاة، صحيح أنت تذهب إلى الصلاة المفروضة، لكن هل
منعك الله أن تقف بين يديه في أية لحظة؟. لقد طلب الله منك أن تحضر بين يديه خمس
مرات في اليوم، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً لك ـ أيها المؤمن ـ فالله لا يمل حتى
يمل العبد.
والإنسان في حياته العادية ـ ولله المثل الأعلى ـ إذا أراد أن يقابل عظيماً من
العظماء فإن الإنسان يطلب الميعاد، فإما أن يقبل العظيم من البشر لقاء من يطلب
الميعاد أو يرفض. وإذا قبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد، فإن العظيم من
البشر يحدد الزمن، ويحدد المكان، وربما طلب العظيم من البشر أن يعرف سبب وموضوع
المقابلة. لكن الله يترك الباب مفتوحاً أمام العبد المؤمن، يلقى الله عبده في أي
شيء، وفي أي وقت، وفي أي مكان، وفي أي زمان.حسب نفسي عزاً بأنَّيَ عبد يحتفي بي
بلا مواعيد ربُّهو في قدسه الأعز ولكن أنا ألقى متى وأين أحبُّالزمام إذن في يد
من؟. إن الزمام في يد العبد المؤمن. لذلك فالذين قالوا في فهم } فَيَغْفِرُ لِمَن
يَشَآءُ { إن البشر في أيديهم أمر المغفرة لهم، فإن شاء البشر أن يغفر الله لهم
فإنهم يفعلون أسباب المغفرة، ويتوبون إلى الله، ويكثرون من الحسنات، ومن يريد أن
يتعذب فليظل سادراً في غيه في فعل السيئات. ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل: } آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ... {
(/286)
آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صلى الله
عليه وسلم: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ }. وبعد ذلك
يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة { وَالْمُؤْمِنُونَ }. وبعد ذلك يمتزج
إيمان الرسول بإيمان المؤمنين { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }.
أي أن كلا من الرسول والمؤمنين آمنوا بالله. إن الإيمان الأول هو إيمان الرسول صلى
الله عليه وسلم، والإيمان أيضاً من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً
على توزيع الفاعل في { آمَنَ } بين الرسول والمؤمنين. وبعد ذلك يجمعهما الله ـ
الرسول والمؤمنين ـ في إيمان واحد، وهذا أمر طبيعي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم
آمن بالله أولاً، وبعد ذلك بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنا بالله وبه ثم
امتزج الإيمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول هو إيماننا، وهذا ما
يوضحه القول الحق: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ }.
إذن فالرسول في مرحلته الأولى سبق بالإيمان بالله، والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن
بالله أن يؤمن بأنه رسول الله، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: أشهد أن محمداً
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول:
أشهد أني رسول الله.. إنّه يقولها بفرحة.
ومثال ذلك ما روي " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان
بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة
فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا فجعلت أستنظره إلى
قابل " أي أطلب منه أن يمهلني إلى عام ثان " فيأبى فَأخبر بذلك النبي
صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي،
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول (اليهودي) أبا القاسم، لا أنظره
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى فجئت
بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل ثم قال: أين عريشك يا
جابر فأخبرته، فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى
فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم
قال يا جابر، جذّ واقض فوقف في الجذاذ فَجذذْتُ منها ما قضيته، وفضل منه فخرجت حتى
جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله ".
والحق سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا هو:
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ
الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
}[آل عمران: 18]
إذن فالله يشهد أن لا إله إلا هو، ورسول الله يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد
أيضاً أنه رسول الله، يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين الإيماني، ولذلك يقول الحق
عن ذلك: } كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ {. والحق
يأتي بـ " كلً " ـ بالتنوين ـ أي كل من الرسول والمؤمنين.
ويورد لنا سبحانه عناصر الإيمان: } كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {. ونحن نعرف
أن الإيمان بالله وكل ما يتعلق بالإيمان لابد أن يكون غيباً؛ فلا يوجد إيمان بمحس
أبداً. فالأشياء المحسة لا يدخلها إيمان؛ لأنها مشهودة. وعناصر الإيمان في هذه
الآية هي:
إيمان بالله وهو غيب. وإيمان بالملائكة وهي غيب من خلق الله، ولو لم يبلغنا الله
أن له خلقاً هم الملائكة لما عرفنا، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون
الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة إيمان
بالكتب والرسل.
وقد يقول قائل: هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر، والكتب
مشهودة. ولمثل هذا القائل نقول: لا، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على
الرسول، وهذا يعني أن عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه الله ويؤمن به
المؤمنون.
وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم؟. ونقول: إن الرسل المبلغين عن الله
إنما يبلغون منهجاً عن الله فيه العقائد التي تختلف باختلاف العصور، وفيه الأحكام
التي تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها.
إذن فالأصل العقدي في كل الرسالات أمر واحد، ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف؛
لأن أقضية الحياة تختلف، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع
المناسب، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو، ولذلك يأتي القول الحكيم:
} لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ { فنحن لا نفرق بين الرسل في أنهم
يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد، وما تختلف من ناحية
الأحكام التي تناسب أقضية كل عصر.
وبعد ذلك يقول الحق؛ } وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا { إذن السماع هو بلوغ
الدعوة والطاعة هي انفعال بالمطلوب، وأن يمتثل المؤمن أمراً ويمتثل المؤمن نهياً
في كل أمر يتعلق بحركة الكون. فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة
يقولون: إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج. وبعد ذلك يحاولون
عزل حركة الحياة عن الدين.
لهؤلاء نقول: أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة، وإنما جاء
ليعطي الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية، لكن الدين الإسلامي جاء
خاتماً للأديان منظماً لحركة الحياة، فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في
حدود الطاعة.
ونحن حين نقرأ القرآن الكريم، نجد القول الحكيم:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
}[الجمعة: 9]
إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى،
فهو لم يأخذهم من فراغ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي، وهو إعلان من كل مؤمن
بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات. وبعد أن يقضي المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم
الحق سبحانه؟ يقول لهم:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ
وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ }[الجمعة: 10]
إذن فالانتشار في الأرض هو حركة في الحياة، تماماً كما كان النداء إلى السعي لذكر
الله. وهكذا تكون كل حركة في الحياة داخلة في إطار الطاعة، إذن " سمعنا
وأطعنا " أي سمعنا كل المنهج، ولكن نحن حين نسمع المنهج، وحين نطيع فهل لنا
قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات؟.
ولأن أحداً لن يتم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق: } غُفْرَانَكَ رَبَّنَا
وَإِلَيْكَ الْمَصِير { فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك، وأنت الإله الحق، لذلك
فنحن العباد نطلب منك المغفرَة حتى نلقاك، ونحن آمنون على أن رحمتك سبقت غضبك
ويقول الحق: } لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... {
(/287)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إنّه سبحانه لم يكلفكم إلا ما
هو في الوسع. لماذا؟ لأن الأحداث بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام: القسم
الأول: هو ما لا قدرة لنا عليه، وهذا بعيد عن التكليف. القسم الثاني: لنا قدرة
عليه لكن بمشقة أي يجهد طاقتنا قليلا. القسم الثالث: التكليف بالوسع. إذن { لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي أن الحق لا يكلف النفس إلا
بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف، كلف الحق كل مسلم بالصلاة خمسة فروض كل
يوم، وتملأ أوقاتها بالصلاة وكان من الممكن أن تكون عشرة، بدليل أن هناك أناساً
تتطوع وهو سبحانه كلف كل مسلم بالصوم شهراً، ألا يوجد من يصوم ثلاثة أشهر؟ ومثل
هذا في الزكاة؛ فهناك من كان يخرج عن ماله كله لله، ولا يقتصر على ما يجب عليه من
زكاة.
إذن فهذا في الوسع، ومن الممكن أن تزيد، إذن فالأشياء ثلاثة: شيء لا يدخل في
القدرة فلا تكليف به، شيء يدخل في القدرة بشيء من التعب، وشيء في الوسع، والحق حين
كلف، كلف ما في الوسع. ومادام كلف ما في الوسع فإن تطوعت أنت بأمر زائد فهذا موضوع
آخر { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } مادمت تتطوع من جنس ما فرض.
إذن فالتكليف في الوسع وإلا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة. فسبحانه يقول:
{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ويأتي بعد ذلك ليعلمنا فيقول:
{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ
مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، وهو
القائل: { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إذن ـ سبحانه ـ
يكلفنا بما نقدر عليه ونطيقه.
فقد روي أن الله حينما سمع رسوله وسمع المؤمنين يقولون: { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ
عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال سبحانه:
قد فعلت.
وعندما قالوا: { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال
سبحانه: قد فعلت. ولم يكلفنا سبحانه إلا بما في الوسع، وهو القدر المشترك عند كل
المؤمنين. وهناك أناس تكون همتهم أوسع من همة غيرهم، ومن تتسع همته فإنه يدخل
بالعبادات التي يزيد منها في باب التطوع، ومن لا تتسع همته فهو يؤدي الفروض
المطلوبة منه فقط وعندما يطرأ على الإنسان ما يجعل الحكم في غير الوسع؛ فإن الله
يخفف التكليف؛ فالمسافر تقول له الشريعة: أنت تخرج عن حياتك الرتيبة، وتذهب إلى
أماكن ليس لك بها مستقر، لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك أن تفطر في نهار رمضان،
ولك أن تُقصر الصلاة.
والحق سبحانه يعلم أن الوسع قد يضيق لذلك فإنه ـ جل شأنه ـ يخفف حكم التكليف ويمنح
الرخص عند ضيق الوسع، ومثال ذلك قوله الحق:
{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ
مِّنكُمْ مِّأْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ }[الأنفال: 66]
كانت النسبة في القتال قبل هذه الآية هي واحداً لعشرة، وخففها الحق وجعلها واحداً
إلى اثنين لأن هناك ضعفا، وهكذا نرى أنه سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد عن
الوسع. وكثير من الناس يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف: إنها فوق وسعهم
ولهؤلاء نقول: لا. لا تحدد أنت الوسع، ثم تقيس التكليف عليه، بل انظر هل كلفك أو
لم يكلفك؟ فإذا كان قد كلفك الحق فاحكم بأنه كلفك بما في الوسع، وكل تكاليف الرحمن
تدخل في الوسع } لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ {.
و } لَهَا { تفيد الملكية والاختصاص وهي ما تُفيد وتُكْسِبُ النفسَ ثوابا، و }
عَلَيْهَا { تفيد الوزر، ونلاحظ أن كل } لَهَا { جاءت مع } كَسَبَتْ { ، وكل }
عَلَيْهَا { جاءت مع } اكْتَسَبَتْ { إلا في آية واحدة يقول فيها الحق:{ بَلَىا
مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة: 81]
وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن " كسب " تعني أن هناك فرقاً في المعالجة
الفعلية الحدثية بينها وبين كلمة } اكْتَسَبَتْ { ، لأن " اكتسب " فيها
" افتعل " أي تكلف، وقام بفعل أخذ منه علاجاً، أما " كسب "
فهو أمر طبيعي إذن فـ " كسب " غير " اكتسب " وكل أفعال الخير
تأتي كسباً لا اكتساباً.
مثال ذلك عندما ينظر الرجل إلى زوجته، ويرى جمالها، فهل هو يفتعل شيئاً، أو أن ذلك
أمر طبيعي؟ إنه أمر طبيعي، ولكن عندما ينظر الرجل إلى غير محارمه فإنه يرقب هل يرى
أحد النظرة؟ وهل رآه أحد من الناس؟ وهل سينال سخرية واستهزاء على ذلك الفعل أو لا؟
لماذا؟ لأنه ارتكب عملاً مفتعلاً.
مثال آخر، إنسان يأكل من ماله، أو من مال أبيه، إنه يأكل كأمر طبيعي، أما من يدخل
بستاناً ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل، ويريد أن يستر نفسه، فصاحب الشر
يفتعل، أما صاحب الخير فإن أفعاله سهلة لا افتعال فيها.. فالشر هو الذي يحتاج إلى
افتعال.
والمصيبة الكبرى ألا يحتاج الشر إلى افتعال؛ لأن صاحبه يصير إلى بلادة الحس
الإيماني، وتكون الشرور بالنسبة إليه سهلة؛ لأنه تعود عليها كثيراً، ويقول الحق: }
بَلَىا مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ { إن الخطيئة تحيط به
من كل ناحية، ولم يعد هناك منفذ، وهو لا يفتعل حتى صارت له ملكة في الشر؛ فاللص
مثلاً في بداية عمله يخاف ويترقب، لكن عندما تصبح اللصوصية مهنته فإنه يحمل أدوات
السرقة ويصير حسه متبلداً.
ففي المرحلة الأولى من الشر يكون أهل الشر في حياء من فعل الشر، وذلك دليل على أن
ضمائرهم وقلوبهم مازال فيها بعض من خير، لكن عندما يعتبرون الشر حرفة وملكة فهنا
المصيبة، وتحيط بكل منهم خطيئة وتطوقه ولا تجعل له منفذاً إلى الله ليتوب.
فالذي يلعب الميسر، أو طوقته خطيئة الفحش قد يقول فرحاً: " كانت سهرة الأمس
رائعة " ، أما الذي يرتكب الخطأ لأول مرة فإنه يقول: " كانت ليلة سوداء
يا ليتها ما حدثت " ، ويظل يؤنب نفسه ويلومها؛ لأنه تعب وأرهق نفسه؛ لأنه
ارتكب الخطأ.
إذن فقول الحق: } لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ { يوضح لنا أن
فعل الشر هو الذي يحتاج إلى مجهود، فإن انتقلت المسألة من اكتسبت إلى كسبت فهذه هي
الطامة الكبرى، ويكون قد أحاطت به خطيئته. ويكون على كل نفس ما اكتسبت. والعاقل هو
من يكثر ما لنفسه، ولا ما عليها؛ لأن الذي يقول ذلك هو الحق العالم المالك الذي
إليه المصير، فليس من هذا الأمر فِكاك. وبعد ذلك يقول الحق على لسان عباده
المؤمنين: } رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا { ، ولقائل
أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأننا، فقال: " رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
فكيف يأتي القرآن بشيء مرفوع عن الأمة الإسلامية ليدعو به الناس ربهم ليرفعه
عنهم؟.
على مثل هذا القائل نرد: هل قال لك أحد: إن رفع الخطأ والنسيان والاستكراه كان من
أول الأمر؟. لعل الرفع حدث بعد أن دعا الرسول والسابقون من المؤمنين، فما دام قد
رُفِعَ ـ بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين ـ فمعنى ذلك أنه كان موجوداً، إذن فلا
يقولن أحد: كيف تدعو بشيء غير موجود. أو أن ذلك يدل على منتهى الصفاء الإيماني، أي
الله يجب ألاّ يُعْصى إلا خطأ أو نسياناً، وأن الله لا يصح ولا يستقيم أن يُعصى
قصداً؛ لأن الذي يعرف قدر الله حقاً، لا يليق منه أن يعصي الله إلا نسياناً أو
خطأ؛ لأن الخالق هو المنعم بكل النعم، وبعد ذلك كلفنا، وكان يجب ألا نقصد المعصية.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى قد سمى ما حدث من آدم معصية مع أنه يقول:{ وَلَقَدْ
عَهِدْنَآ إِلَىا ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه:
115]
وسمى الله النسيان في قصة آدم معصية: } وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا { فكان
النسيان أولاً معصية، ولكن الله أكرم أمة محمد، فرفع عنها النسيان. وفي مسألة آدم
هناك ملحظ يجب على المؤمن أن يتنبه إليه؛ فآدم خُلِقَ بيد الله، ونحن مخلوقون
بقانون التكاثر، وآدم تلقى التكليف من الله مباشرة وليس بواسطة رسول، وكُلِّفَ
بأمر واحد وهو ألا يأكل من الشجرة.
فإذا كان آدم مخلوقاً من الله مباشرة ومكلفاً من الله مباشرة، ولم يكلف إلا بأمر
واحد وهو ألا يقرب هذه الشجرة، ولم تكن هناك تكاليف كثيرة فماذا نسى؟ وماذا تذكر؟
إنها معصية إذن. لقد كان النسيان بالنسبة لآدم معصية؛ لأنه مخلوق بيد الله.{ قَالَ
ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }[ص: 75]
لذلك فلم يكن من المناسب أن ينسى هذا التكليف الواحد، وما كان يصح له أن ينسى،
وَلَعلّ سيدنا آدم نُسِّيَ لحكمة يعلمها الله رُبَّما تكون ليعمر الأرض التي جعله
الله خليفة فيها؛ أما بالنسبة لأمة محمد فحينما نقول: } رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا
إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا { فكأننا يا رب نقدرك، حق قدرك، ولا نجترئ على
عصيانك عمدا، وإن عصينا فإنما يكون العصيان نسياناً أوْ خطأ، وهذه معرفة لقدر الحق
سبحانه وتعالى.
ولكن ما النسيان؟ وما الخطأ؟
أولاً فيه " أخْطَأ " وفيه " خَطِئَ " و " الخِطْء
" لا يكون إلا إثما؛ لأنه تعمد ما لا ينبغي، فأنت تعلم قاعدة وتخطئ، والذي
أخطأ قد لا يعرف القاعدة، فأنت تصوب له خطأه لأنه حاد عن الصواب.
ومثال ذلك: عندما تتعلم في المدرسة أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وفي وسط السنة
يصححون لك القاعدة حتى تستقر في ذهنك، إنما في أيام الامتحان أيصحح لك المدرس أم
يؤاخذك؟ إنه يؤاخذك؛ لأنك درست طوال السنة هذه القاعدة، إذن ففيه خَطِئ وفيه أخطأ،
فأخطأ مرة تأتي عن غير قصد؛ لأنه لا توجد قاعدة أنا خالفتها، أو لم أعرف القاعدة
وإنما نطقت خطأ؛ لأنهم لم يقولوا لي، أو قالوا لي مرة ولم أتذكر، أي لم تستقر
المسألة كملكة في نفسي؛ لأن التلميذ يخطئ في الفاعل والمفعول مدة طويلة، وبعد ذلك
ينضج وتصير اللغة ملكة في نفسه إن كان مواظبا على صيانتها.
كان التلميذ في البداية يقول: قطع محمد الغصن، ولا يقولها مُشَكَّلةً ولكن يسكن
الآخر في نهاية نطقه لاسم محمد، وساعة يتذكر القاعدة ينطقها " محمد "
بالرفع وينطق " الغصن " بالنصب لماذا؟ لأنه ترد ثلاث قواعد على ذهنه،
هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع، فهي مرفوعة، فهو يمر بقضية عقلية، لكن بعدما يمر
عليها يقرأها صحيحة وقد لا يتذكر القاعدة، فقد صارت المسألة ملكة لغوية عنده، هذه
الملكة اللغوية مثلما نقول: " صارت آلية ".
ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم الخياطة، انظر كم من الوقت يمر ليتعلم كيف يمسك بخيط
ليدخله في سم الإبرة، وقد يضربه معلمه أكثر من مرة ليتعلمها؛ وفتلة الخيط تنثني
منه لأنها طويلة فيقصرها ثم لا تدخل في العين فيبرمها لتدخل، إنه يأخذ وقتا كثيرا
ثم يعمل الغرزة فتخرج غير منتظمة وبعد ذلك يظل مدة، ثم يفعل كل هذه الأعمال
بتلقائية وهو يتكلم مع غيره؛ لأن هذه الأعمال صارت ملكة ذاتية أي عملاً آليًّا.
والتدريب على العمل الذهني ـ حسب قواعد محددة مثل تعلم اللغة ـ نسميه ملكة. أما
التدريب على عمل الجوارح ـ مثل إدخال الخيط في سم الإبرة نسميه آلية.
وعلى سبيل المثال في العمل الذهني عندما تسأل سؤالاً في الفقه لطالب في الأزهر
فإنه يحتار قليلا إلى أن يتعرف على الباب الذي فيه إجابة للسؤال، أما إذا سألت
السؤال نفسه لعالم مدرب فبمجرد أن توجه له السؤال فإنه يقول لك الحكم والباب الذي
فيه هذا الحكم، لقد صار الفقة بالنسبة للعالم ملكة.
ويقول الحق من بعد ذلك: } رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا { والإصر هو الشيء الثقيل الذي يثقل على
الإنسان، ومثال ذلك الإصر الذي نزل على اليهود " إن أردتم التوبة فاقتلوا
أنفسكم أو تصدقوا أو زكوا بربع أموالكم " لكن الله لم يعاملنا كما عامل الأمم
السابقة علينا، وعندما نقول: } رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا
بِهِ { فنحن نصدق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله نعم
" ومعنى قال الله نعم أنه سبحانه وتعالى أجاب الدعاء برفع المشقة عن الأمة.
أي أن الله لن يحملنا ما لا طاقة لنا به. وعندما نقول: } وَاعْفُ عَنَّا { فنحن
نتوجه إلى الله ضارعين: أنت يا حق تعلم أننا مهما أوتينا من اليقظة الإيمانية
والحرص الورعي فلن نستطيع أن نؤدي حقك كاملاً، ولذلك لا ندخل عليك إلا من باب أن
تعفو عنا.
ومعنى العفو محو الأثر، كالسائر في الصحراء تترك قدماه علامة، وتأتي الريح لتزيل
هذا الأثر. كأن هناك ذنباً والذنب له أثر، وأنت تطلب من الله أن يمحوا الذنب.
وعندما تقول: } وَاغْفِرْ لَنَا { فأنت تعرف أن من مظاهر التكوين البشري النية
التي تريد أن تحول العزم إلى حيز السلوك والانفعال النزوعي؛ فالمسألة تحتاج منك
إلى تدريب، ومثال ذلك، عندما يذنب واحد في حقك فلك أن ترد عليه الذنب بالذنب، ولك
أن تكظم الغيظ، لكن يظل الغيظ موجوداً وأنت تحبسه، ولك أن تعفو.
لكن ماذا عن مثل هذا الأمر بالنسبة للخالق الذي له كمال القدرة؟ إن الله قد لا
يعذب العبد المذنب ولكنه قد يظل غاضبا عليه، ومن منا قادر على أن يتحمل غضب الرب؟
لذلك نطلب المغفرة، ونقول: } وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ { فنحن ندعوه سبحانه
ألا يدخلنا في الذنب الذي يؤدي إلى غضبه ـ والعياذ بالله ـ علينا. فالعفو هو أن
نرتكب ذنبا ونطلب من الله المغفرة، ولكن الرحمة هي الدعاء بألا يدخلنا في الذنب
أصلا.
وعندما يقول الحق: } أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
{ فهذا اعتراف بعبوديتنا له، وأنه الحق خالقنا ومتولي أمورنا وناصرنا، ومادام الحق
هو ناصرنا، فهو ناصرنا على القوم الكافرين؛ فكان ختام سورة البقرة منسجما مع أول
سورة البقرة في قوله: } الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {.
في أول السورة ضرب الله المثل بالكافرين والمنافقين.. وفي ختامها يقول الحق دعاء
على لسان المؤمنين: } فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ { هذا القول يدل
على استدامة المعركة بين الإيمان والكفر، وأن المؤمن يأخذ أحكام الله دائما لينازل
بها الكفر أيان وجد ذلك الكفر، ويثق المؤمن تمام الثقة أن الله متوليه؛ لأن الله
مولى الذين آمنوا، أما الكافرون فلا مولى لهم. فإذا كان الله هو مولى المؤمن، وإذا
كان الكافر لا مولى له، فمعنى ذلك أنه يجب أن تظل المعركة بين المؤمن والكافر
قائمة، بحيث إذا رأى المؤمن اجتراءً على الإسلام في أي صورة من صوره فليثق بأن
الله ناصره، وليثق بأن الله معه، وليثق المؤمن أن الله لا يطلب منه إلا أن ينفعل
بحكمه وتأييده بالنصر؛ لأنه هو الذي يغلب فهو القائل جل وعلا: } قَاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ {.
يجب أن تظل دائما مؤمناً متيقظاً لعملية الكفر في أي لون من ألوانها؛ فهذا الكفر
بعملياته يريد أن يشوه حركة الحياة وأن يتعب الكون، وأن يجعل القوانين الوضعية
البشرية هي المسيطرة، كما يجب عليك أيها المؤمن أن تكون من المتقين الذين استهل
بهم الله سورة البقرة، وبعد ذلك تسأل الله أن ينصرك دائماً على القوم الكافرين.
هذا هو مسك الختام من سورة البقرة } فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
{.
وختام السورة بهذا النص يوحي بأن الذي آمن يجب أن يعدي إيمانه بربه إلى الخلق
جميعا، حتى تتساند حركة الحياة، ولا توجد فيها حركة مؤمن على هدى لتصطدم حركة كافر
على ضلال؛ لأن في ذلك إرهاقاً للنفس البشرية، وتعطيلاً للقوى والمواهب التي أمد
الله بها ذلك الإنسان الذي سخر من أجله كل الوجود، فلا يمكن أن يعيش الإنسان الذي
سوّده الله وكرّمَه على سائر الخلق إلا في أمان واطمئنان وسلام وحركة تتعاون
وتتساعد لتنهض بالمجتمع الذي تعيش فيه نهضة عمرانية تؤكد للإنسان حقاً أنه هو
خليفة الله في الأرض.
ولا يكتفي الإيمان منا بأن يؤمن الفرد إيماناً يعزله عن بقية الوجود، لأنه يكون في
ذلك قد خسر حركة الحياة في الدنيا، والله يريد له أن يأخذ الدنيا تخدمه كما شاء
الله لها أن تكون خادمة، فحين يعدي المؤمن إيمانه إلى غيره ينتفع بخير الغير، وإن
اكتفى بإيمان نفسه فقط وترك الغير في ضلالة، انتفع الغير بخير إيمانه وأصابته مضرة
الكافر وأذاه.
إذن فمن الخير له أن يؤمن الناس جميعاً، ويجب أن يعدي ذلك الإيمان إلى الغير.
ولكن الغير قد يكون منتفعاً بالضلال؛ لأنه يؤدي به طغيانه، عندئذ تنشأ المعركة،
تلك المعركة التي غاية كل من دخل فيها أن ينتصر، فيعلمنا الله أن نطلب النصر على
الكافرين منه؛ لأن النصر على الكافرين لا يعتبر نصراًَ حقيقياً إلا إن أَصَّل صفات
الخير في الوجود كله، وحين تتأصل صفات الخير في الوجود كله يكون المؤمن قد انتصر
بحق.
وحين يطلب منا الله أن نسأله أن ينصرنا لابد أن نكون على مطلوب الله منا في
المعركة، بأن نكون جنوداً إيمانيين بحق. وقد عرفنا أن المؤمنين حين يدخلون في
معركة مع غيرهم يستطيعون أن يحددوا مركزهم الإيماني من غاية المعركة. فإن انتهت
المعركة بنصرهم وغلبتهم علموا أنهم من جنود الله، وإن هُزموا وغُلبوا فليراجعوا
أنفسهم؛ لأن الله أطلقها قضية إيمانية في كتابه الذي حفظه فقال:{ وَإِنَّ جُندَنَا
لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173]
فإن لم نغلب فلننظر في نفوسنا: ما الذي أخللنا به من واجب الجندية لله. وحين
يعلمنا الحق أن نقول: } فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ { ، أي بعد أن
أخذنا أسباب وجودنا من مادة الأرض المخلوقة لنا بالفكر المخلوق لله، نعمل فيها
بالطاقة المخلوقة لله، وحينئذ نكون أهلاً للنصر من الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى
قد مد يده بأسباب النصر:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ }[الأنفال:
60]
حينئذ لا تخافون أبداً؛ لأن لله جنوداً لم تروها، ولا يتدخل الله بالجنود غير
المرئية لنا إلا إذا استنفدنا نحن أسباب الله الممدودة لنا.
وحين يختم الحق سبحانه وتعالى سورة البقرة وهي الزهراء الأولى لتأتي بعدها الزهراء
الثانية وهي سورة آل عمران نجد أن هذا هو الترتيب القرآني (الآن) وهو ليس على
ترتيب النزول الذي حدث، فللقرآن ترتيبان: ترتيب نزولي حين نزلت الآيات لتعالج
حدثاً وقع للأمة المسلمة في صراعها مع الكافرين بربهم، وفي تربيته لنفوسهم، فكانت
كل آية تأتي لتعالج حادثة. والأحداث في الوجود إنما تأتي على أيدي البشر، فليس من
المعقول أن تنزل آيات من القرآن. تعالج أحداثا أخرى لا صلة بينها وبين ما يجري من
أحداث في المجتمع الإسلامي أو ما ينشأ في الكون من قضايا.
إذن فلابد أن توجد الأحداث أولا، ويأتي بعدها النص القرآني ليعالج هذه الأحداث،
ولكن بعد أن اكتمل الدين كما قال الله:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً }[المائدة:
3]
جاء الترتيب الذي يرتب القضايا ترتيباً كلياً، لأنه عالجها من قبل علاجا جزئيا.
فحين نقول: إن هذه السورة نزلت بعد كذا، أو فيها آية كذا، نزلت بعد كذا، ونجد أن
ذلك يختلف عن النسق النزولي نعلم أن لله سبحانه وتعالى في كتابه ترتيبين:
الترتيب الأول: حسب النزول.
والترتيب الثاني: الذي وُجد عليه القرآن الآن وتمت به كلمة الله في خدمة الهداية
الإيمانية وهذا الأخير من عند الله أيضا.
(/288)
الم (1)
وجاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة،
وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور " المص "
و " المر " كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله
في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر.
والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم هذه
الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في
الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو
ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: "
ألف ـ لام ـ ميم " ، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة
لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن
عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه.
وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ } يناسب أيضاً سورة آل عمران، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه
معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب
الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئاً
منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف
الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله
لهم: { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك
رسول الله.{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا
بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
}[الرعد: 43].
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب
الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي
لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم
بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران،
وجعل لهم سورة في القرآن.
إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي
عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى
التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن
هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها " آل عمران " وذلك
تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها.
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
(/393)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية، { اللَّهُ لا
إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }. و { اللَّهُ } كما يقولون مبتدأ، و { لا إِلَـاهَ إِلاَّ
هُوَ } خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة { اللَّهُ } متضحة
في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ { اللَّهُ } الوصف الذي يليق به وهو { لا
إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }. ولذلك يقول الحق:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ }[العنكبوت: 61].
إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء
القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ } فهذه
قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ
هُوَ }[آل عمران: 18].
وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم
يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما
يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها
على نفسه وقال: { لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في
غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا
دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة
العالية، لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي
يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي.
فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة،
لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله
إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك تنتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض،
وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه
ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن
معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه
وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع
ليناقضها، فـ { لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ } كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم
نجدً معارضاً. وقلنا سابقاً: إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون
لصاحبها إلى أن يوجد المعارض. وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد
ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني
حافظة نقود.
فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم
يدعها أحد، إذن فهي له.
إن الله قد قال: } لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ { ، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا،
ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله } لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ { ومادام لا إله إلا هو،
وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلا بد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب
حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها
لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له.
و " قيّوم " هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة
على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، و " أكول
" غير " آكل " ، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا " آكل " ،
لكن ليس كلنا يُطلق علينا " أكول " لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث.
وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو
قَيُّوماً؟ لابد أن يكون قَيُّوماً. و " قيوم " معناها أيضا: قائم
بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة " قيّوم " صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم
بذاته، ويُقيم غيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً
فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيّوما.
إن قوله الحق: } اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ { هو سند
المؤمن في كل حركات حياته، " عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: }
اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ { فضرب في صدري وقال:
" ليهنك العلمُ أبا المنذر "
وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل
الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل همّا،
إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حيّ، وأنا قيّوم، و
" قيّوم " يعني قائم بأمرك.
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: } لاَ تَأْخُذُهُ
سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ { ، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت
أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته فـ }
اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ { ، وما دام هو "
الحيّ " و " القيّوم " فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع
لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.
ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات
مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها:{
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }[فصلت: 10].
إنه سبحانه يطمئنا على القوت، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه: } نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ... {
(/394)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن
المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى
إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ } و { نَزَّلَ } تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى
ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من
مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو
أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل
عزة، فقال: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ }. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول:{
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193].
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ
نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }[الإسراء: 105].
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه " نزل " ، فجبريل
عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه
وتعالى يقول:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }[الإسراء: 105].
وبذلك تتساوى " أنزل " مع " نزل ". وحين نأتي للحدث أي الفعل
في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن
الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل
القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق
سبحانه وتعالى يقول:{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[القدر: 1].
والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو
الذي أنزله الله في ليلة القدر.
إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من " أنزل ".
الآخر: تنزيل من " نَزّل ".
إذن فالمقصود من قوله ـ سبحانه ـ: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }
أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما
أنزله الله في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على
حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر.
لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛
لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول:
} نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ { [آل عمران: 3]
وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: " نَزَّل " وقال عن
التوراة والإنجيل: " أنزل ". لقد جاءت همزة التعدية وجمع ـ سبحانه ـ بين
التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما
الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما
ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم
الخلق إلى يوم البعث.
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن.{
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً
}[الفرقان: 32].
وكان النجم من القرآن ينزل, ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر،
والله سبحانه يقول:{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ
وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33].
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا
الأمور التي تغمض عليهم.
وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة
ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على
أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما
جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية
مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع
فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك
أسهل وأوثق. والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين " نزّل " و " أنزل
" فقال: } مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ... {
(/395)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
ويأتي القول الفصل في: ـ { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ }.
هنا الجمع بين " نزل " و " أنزل ".
وساعة يقول الحق عن القرآن: { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } فمعنى ذلك أن
القرآن يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية
الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في
بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي
لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير.
ومعنى " مصدق " أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه " الصدق
". وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه " كذبا ". إذن، فالواقع
هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛
لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما
الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول
الناس: " إن كنت كذوبا فكن ذكورا ". أي إن كنت تكذب ـ والعياذ بالله ـ
فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي
عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر.
ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير
وسبحانه يقول هنا: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى
لِّلنَّاسِ }.
وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من
الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من
الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة:
إنها " الوَرْى " ـ بسكون الراء ـ وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب
عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى " ، أي قد خرجت ناره. وقال بعض
العلماء أيضا: إن الإنجيل من " النجْل " ، وهو الزيادة.
وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن
التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات علما على
تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربياً فكل ألفاظه
عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على
لسان العرب، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها.
والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة " بنك "
وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي
أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم
تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء
مصدقا لهما قال ـ جل شأنه ـ:
} مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ { [آل
عمران: 4]
فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: } هُدًى لِّلنَّاسِ {؟ لاشك أنهم الناس الذين
عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل
ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون
بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه
القرآن هو الحجة علينا، فيكون } هُدًى لِّلنَّاسِ { معناها: الذين عاصروا هذه
الديانات وهذه الكتب ، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: " وأنزل الفرقان " يدل على أن الكتاب ـ
أي القرآن ـ سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة " الفرقان " لا تأتي إلا في وجود
معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة
وانحراف، إذن فكلمة " الفرقان " تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة
صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله
معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق
نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية
بقوله: } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {.
ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟ أي مادام القرآن فرقاناً
فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم
الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا } إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {. والعذاب إيلام،
ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير
صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته، فإذا كان العذاب صادراً من
قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق. } لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ { أي لا يُغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده،
وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.
وقوله الحق سبحانه وتعالى: إنه " قيّوم " أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً
وإمداداً، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم
الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من
البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟
لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما
يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم
يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛
لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري.
ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في
عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.
إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو ـ
سبحانه ـ يعلم علماً واسعاً، بحيث لا يُستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن
يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟! كأنكم
تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له!.
لا، لا تستدركوا على الله، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه، ولا يطرأ شيء
على علمه، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن، وهو سبحانه يقول: } إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَخْفَىا عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ {
(/396)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها، مادام قيُّوما وقائما بأمور
الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء،
ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء. إن
الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن
بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه. إذن فالآية حصاد على
التشريع وعلى الجزاء { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىا عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ
وَلاَ فِي السَّمَآءِ }. وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الأول بالنسبة
للإنسان فيقول: { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ... }
(/397)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه
الهيئة تختلف نوعيتها: ذكورة وأنوثة. والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء
وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي
منها:{ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ }[الروم: 22].
هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج
مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية.
إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره، لكن في الخلق
البشري كل واحد بقالبه الخاص، وكل واحد بشكله المخصوص، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن
له بصمة كبصمة اليد، وكل واحد بلون، إذن فهي من الآيات، وهذا دليل على طلاقة
القدرة، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج، معنى عملية علاج أي
يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته. لا، هو ـ جل شأنه ـ يقول:{ بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىا أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ }[البقرة: 117].
إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف، ويخلق الله معظم
الناس خلقاً سويا، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب
بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين.. وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا
الحق إلى حسن وجمال خلقه. لأن من يرى ـ وهو السويّ ـ إنساناً آخر معوَّقاً عن
الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه.
وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده،
يعْرف حكمة وجود الأصابع الخمس، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح، وبضدها تتمايز
الأشياء، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه
لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي. ولو خلق الله الإنسان
بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة.
إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فرداً
من أفراد الشذوذ. والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم
بفقدها في غيرهم. فساعة أن يرى مبصرٌ مكفوفاً يسير بعكاز، يفطن إلى نعمة البصر
التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه. إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية
تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها.
هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم، ولذلك تجدها أمامك، وأيضا كي
لا تستدرك على خالقك، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقاً هكذا؟ فهو
سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر.
ونضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ عن الذي ساح في الدنيا " تيمور لنك
الأعرج " وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط
والقتال تعويضاً له عن العرج. ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً، لماذا؟
لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر، فيأتي
النبوغ. إذن فـ } هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ {
وكل تصوير له حكمة. ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل.
عليك ألاّ تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه، بل خُذ كل خلق مع حكمته. إن الذي
يجعلك تقول: هذا قبيح، إنك تفصل المخلوق عن حكمته، ومثال ذلك: التلميذ الذي يرسب
قد يحزن والده، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى
الجدية في الاستذكار، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب
ونجح سيلعبون ويقولون: هذا لعب ونجح.. إذن فلا بد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده.
كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة
بجريمتها، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن،
هنا نقول لك: أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً، إنما لو استحضرت
جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصاً فقد قُتُل غيره ظلماً، فلا تبعد هذه عن هذه.
} هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ
هُوَ { ومعنى } لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ { أي سيُصوِّر وهو عالم أن ما يصوِّره
سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له: هذه لا تعجبني وسأصور صورة
أخرى، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز، أي لا يغلب على أمر، وكل ما يريده يحدث وكل أمر
عنده لحكمة، لأنه عندما يقول: } يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ { قد يقول أحد من
الناس: إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية. وهو سبحانه يقول لك: أنا حكيم،
وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته، خذ الحدث بحكمته، وإذا أردت الحدث بحكمته
تجده الجمال عينه، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء، هذا من ناحية مادته.
وهو سبحانه يوضح: فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة
الوجود مع بعضها يقول سبحانه: } هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... {
(/398)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج
للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء
بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله
جميل وكله خير. فيقول سبحانه: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ }.
ماذا يعني الحق بقول: { آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ }؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب
إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا
يختلف فيها الناس، فعندما يقول:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ
أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38].
هذه آية تتضمن حُكما واضحا. وهو سبحانه يقول:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا }[النور: 2].
هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه
الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و " المُتشابه " هو
الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه ـ كما قلت لك ـ خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالمُحْكم
جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة
من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها
ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: " أنا لم أفهم " ،
إن الأحكام تقول لك: " افعل كذا ولا تفعل كذا " فهي حين تقول: "
افعل "؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك:
افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: " افعل ".
وساعة يقول لك: " لا تفعل " ، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: " افعل
ولا تفعل " إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول
لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك
يقول الحق في الصلاة:{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ
}[البقرة: 45].
فعندما يقول لي: " افعل ولا تفعل " معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن
أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما
في حيِّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له:{ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[يونس: 101].
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ
ذالِكَ أَزْكَىا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }
[النور: 30-31].
ومعنى } يَغُضُّواْ { و } يَغْضُضْنَ { أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛
اليد تتحرك فيأمرك ـ سبحانه ـ ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً،
ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً.
إذن فهو سبحانه يأتي في " افعل ولا تفعل " ويحدد شهوات النفس في الفعل
أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت
شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً
ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل
حركات الإنسان محكومة بـ " افعل ولا تفعل " ، وعقلك وسيلة من وسائل
الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن
يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة
البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم
العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد
كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق:{ لاَّ تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الأنعام:
103].
نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *
إِلَىا رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة: 22-23].
ويتكلم عن الكفار فيقول:{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَّمَحْجُوبُونَ }[المطففين: 15].
إذن فالعقل ينشغل بقوله: } لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ { ، وهذا يحدث في الدنيا،
أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله، نحن الآن في
هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى
الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في
دنيانا، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له
فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء
لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا
يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر
على كل شيء.
إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك ـ بضم الياء وفتح الراء ـ أو لا يُدْرَك،
فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ
من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صلى الله عليه
وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم:
" إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه
فآمنوا به ".
إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل
به، والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثال ذلك عندما نسمع قول
الله عز وجل:{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىا نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَىا بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
}[الفتح: 10].
إن الإنسان قد يتساءل: " هل لله يد "؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق
} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. وعندما يسمع المؤمن قول الحق:{ الرَّحْمَـانُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَىا }[طه: 5].
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن
الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن
استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست
كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك
المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن
يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن
يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {
فله ذلك أيضا وهذا أسلم.
والحق يقول: } مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ { ومعنى } أُمُّ
{ أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى
المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق:{ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11].
ولماذا قال الحق: } هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ {؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن
تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك
فلنسمع قول الحق:{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىا
رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }[المؤمنون: 50].
لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه
دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن
فهما معاً يكونان الآية، وكذلك } هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
{ فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل
الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه
أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك.
فقوله الحق: } لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ { لا يترتب عليه أي حكم، هنا يكفي
الإيمان فقط.
لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: } فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ {؟. ولنا أن نعرف أن " الزيغ " هو الميْل، فزاغ يعني مال،
وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى
خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل
وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً.
إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة. كأن
الزيغ أمر طارئ على القلوب، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ، فالفطرة السليمة لا
زيغ فيها، لكن الأهواء هي التي تجعل القلوب تزيع، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله
الصحيح في أمر ما، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله. والميل صنعة
القلب، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه، ولذلك فرسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به "
لماذا؟ لأن آفة الرأي الهوى، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم، لكن الواحد منهم
ينحرف لما يهوى، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في
الانحراف يتوب ويعلن توبته، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل
تَكَلَّفٌ تبريري، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق، ومثال ذلك: عندما ينظر
الإنسان إلى حلاله، فإنه لا يجد انفعال ملكة يناقض انفعال ملكة أخرى، ولكن عندما
ينظر إلى واحدة ليست زوجته، فان ملكاته تتعارك، ويتساءل: هل ستقبل منه النظرة أم
لا؟ إن ملكاته تتضارب، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه. لذلك فالإيمان
هو اطمئنان ملكات، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى.
مثال آخر: عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته، أما
إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت
منطق الحق والاستقامة والواقع.
} فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ { إذن فاتباعهم للمتشابه منه
ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم. فالميل موجود عند
قلوبهم أولاً ثم بدأ الفكر يخضع للميل، والعبارة تخضع للفكر، وهكذا نرى أن الأصل
في الميل قد جاء منهم.. ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول:{ فَلَمَّا
زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }[الصف: 5].
كأنه يقول: مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه. والحق سبحانه لا يبدأ
إنساناً بأمر يناقض تكليفه، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ، فيتخلى الله
عنه: ويدفعه إلى هاوية الزيغ.
وآية أخرى يقول فيها الحق:{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ
إِلَىا بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ
قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }[التوبة: 127].
إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان. وكذلك
الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة، ويريدون بذلك فتنة عقول
الذين لا يفهمون، وما داموا يريدون فتنة عقول من لا يفهمون فهم ضد المنهج، وما
داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن، وماداموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى
الخير، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم،
ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله. لكن عندما لا يكون مؤمنا فكيف يطلب المعونة من
الله، إنه سبحانه يقول:
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك).
إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه، ويبتغون تأويله، ومعنى التأويل هو الرجوع، لأننا
نقول: " آل الشيء إلى كذا " أي رجع الشيء إلى كذا، فكأن شيئاً يرجع إلى
شيء، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى
المُحكم، أو يؤمنوا به كما هو.
يقول الحق بعد ذلك: } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ { إن الله لو
أراد للمتشابه أن يكون محكما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك
آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة
التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن
يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على
الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم
ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة.
إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها
تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر
وتدبر.{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىا قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ
}[محمد: 24].
كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده
الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام
أن تفعل } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ {. والذين في قلوبهم زيغ
يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا
يعلمه إلا الله.
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت
بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف
عنه.
والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق: } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
{: بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق: } وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ { كلاماً مستأنفاً، إنهم يقولون: إن الله وحده الذي يعلم تأويل
المتشابه، والمعنى: } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ { أي الثابتون في العلم،
الذين لا تغويهم الأهواء، إنهم: } يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا { وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الراسخين في العلم يقولون:
إن المحكم من الآيات سيعلمون به، والمتشابه يؤمنون به، وكل من المتشابه والمحكم من
عند الله.
أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله: } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ {
نقول له: إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه، وكان نتيجة علمهم قولهم: }
آمَنَّا بِهِ {.
إن الأمرين متساويان، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف. فالمعنى ينتهي
إلى شيء واحد. وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم:
} يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا { فالمحكم من عند ربنا،
والمتشابه من عند ربنا، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر
ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل، وبعد ذلك يلقي الأعلى الأمر آخر ولا يبين علته،
فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة، وواحد آخر يقول: لا، عليك أن توضح لي العلة.
فهل الذي آمن آمن بالأمر أو بالعلة؟
إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة
للإيمان. إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت
بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر.
وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً، ويظهر في العصر
الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار، فهل
امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم
الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله، حتى دون أن يَعْرِّفنا
الحكمة، إن المؤمن بالله يقول: إن الله قد خلقني ولا يمكن ـ وهو الخالق ـ أن
يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته.
إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، هو الذي ينال
الثواب، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له.
وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة. وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للآمر
بالحكم.
إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم
الأهواء، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق. ومادامت
ابتغاءات غير الحق، فغير الحق هو الباطل، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي
بشيء يتفق مع هواه.
ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسان ما قد يناقض هوى
إنسان آخر، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء. والحق سبحانه
يقول:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ
مُّعْرِضُونَ }[المؤمنون: 71].
إذن فلا بد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق، والدين إنما جاء ليعصمنا من
الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير
الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً
مقابلاً، إنه يلوي المسألة على حسب هواه، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن
يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض عند آدم عليه السلام؟
لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة
زمنية، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم. ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في
العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على
أمر المعابد. كان الحكم كله لهم، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله.
ولماذا لم يستمر هذا الأمر، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية
وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي
إلى خدمة أهوائهم، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن
حكم آخر في قضية متشابهة. إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة، لكن حكم
الهوى يختلف من قضية إلى أخرى، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول، فقال الناس عن هؤلاء
الكهنة:
لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم، ليثبتوا لهم سلطة زمنية، فنحن لم نعد
نأمنهم على ذلك. وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال
التقنين. لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم
يأخذون الأحكام من منهج الله، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم
من منهج الله، ولكن من الهوى البشري، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما
يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة.
وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ:
أولا: الهواء هو ما بين السماء والأرض، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها
وجمعه: الأهوية وهذا أمر حسي. ثانيا: الهوَى: وهو ميل النفس، وجمعه: الأهواء، وهو
مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال.
ثالثا: الهَوىّ: بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي:
بمعنى سقط. وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط، والاشتقاقات اللغوية تعطي
هذه المعاني.
إنها متلاقية. إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله. وأما الذين
يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح. فإن الريح مالت، مالوا حيث تميل.
ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا {. وهنا تلتقي المسألة، فنحن
نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه
وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق
فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ
الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا
تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم
يفهم.
والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا
والمتشابه من عند ربنا:
ويضيف سبحانه: } وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ { و } أُوْلُواْ
الأَلْبَابِ { أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى
يتمايل به. } وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ { و " اللب
" هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء
وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ. الحق يأمر بقطع يد
السارق. وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة ويقول: " هذه
وحشية وقسوة "!
هذا ظاهر الفهم، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛
لأن كل واحد يخاف على ذاته، فيمنعه ذلك أن يسرق. وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة
قد ينتج عنها مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله، فلا
تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب، ولكن انظر إلى
الجريمة حين تقع منه، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت
وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك
ليأخذ دمه من عرقك أنت.
إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن، هذا " لُبّ " الفهم،
ولذلك يقول تعالى: } وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ { ، إياكم أن تقولوا: إن هذا
القصاص اعتداء على حياة فرد. لا، لأن } وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ { إنّ من
علم إنه إن قَتل فسيقتل، سيمتنع عن القتل، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه،
وهكذا يكون في القصاص حياة، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى
يلفتنا وينبهنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها، بل نأخذها بلبها، وندع القشور التي
يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله. و } وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ { حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله ـ سبحانه
ـ: } رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن
لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {
(/399)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
فكأن قول الراسخين في العلم: إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله، والمحكم نعمل
به، والمتشابه نؤمن به، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية،
والمعنى: يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع. وهذا يدلنا على أن
القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني:
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن
لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8].
إنهم يطلبون رحمة هبة لا رحمة حق، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه
الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن
هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا
كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة. والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا
فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا:
إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر،
هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها
محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول
الحق على لسان الراسخين في العلم: { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ
لاَّ رَيْبَ فِيهِ... }
(/400)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
وقولهم: { رَبَّنَآ } نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال
من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته،
والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له.
والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة،
فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت
ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن
الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي
ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا
نحن العباد: " إن شاء الله " لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما
وعد.
حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ
وَقُلْ عَسَىا أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَداً }[الكهف:
23-24].
قُلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت
إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله،
لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك
شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول
وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسان لا يملك من هذه
الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسان
لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسان لا يملك الزمن، ولا يملك
المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل
هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله.
لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى:{ وَلاَ
تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ
وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىا أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ
مِنْ هَـاذَا رَشَداً }[الكهف: 23-24].
إن كلمة { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا
يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً
واحداً من عناصر هذا الفعل. وعندما يقول الحق: { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ
النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن
يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن
التغير ليس من صفات القديم الأزلي.
وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف
الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم:
عملنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من
عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس
فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا. وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه: }
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ
أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً... {
(/401)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
ساعة تسمع وأنت المؤمن، ويسمع معك الكافر، ويسمع معك المنافق: { رَبَّنَآ إِنَّكَ
جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ } ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك
اليوم، كعزوة الأولاد، أو كثرة مال يشتري نفسه به، أو خلة، أو شفاعة، هنا يقول
الحق لهم: لا، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا.
وفي اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن
الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم
القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا
أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه.
وكان الكافرون على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ
يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلا بد أن يعطينا في
الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً } إذن
فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر
تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة،
ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم
الآخر:{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىا عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ
لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف
أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع، لكن
الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في
الآخرة وهو الله ـ جلت قدرته ـ فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن
الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في
الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله.{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }[الفتح: 11].
إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل
الآية التي نحن بصددها: { وَأُولَـائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } إنهم المعَذبون،
وسوف يتعذبون في النار. ولنر النكاية الشديدة بهم، إن الذين يُعَذَّبون هم الذي
يُعَذَّبُون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار. إن المعَذَّب ـ بفتح العين وفتح
الذال مع التشديد ـ يكون هو المعَذِّب ـ بفتح العين وكسر الذال مع التشديد-
فهذه ثورة الأبعاض. فذرّات الكافر مؤمنة، وذرات العاصي طائعة، والذي جعل هذه
الذرات تتجه إلى فعل ما يُغضب الله هو إرادة صاحبها عليها.
وضربنا قديما المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ وقلنا: هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض
في الكتيبة أن تسمع أمر القائد، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر
والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له: بحكم الأمر نفذنا
العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه. وفي الحياة
الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق:{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النور:
24].
فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعِنٌ لصاحبه. واليد تتقدم إلى المعصية وهي
كارهةٌ لصاحبها ولاعِنةٌ له، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على
يده ولسانه في الدنيا، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه
أنه أجبرها على فعل المعاصي، وتعذب الأبعاض بعضها، وعندما يقول الحق: }
وَأُولَـائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ { وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من
واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض
العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين
وبالعاصين، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه
الدنيا.
ويقول الحق مثالاً على ذلك: } كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا... {
(/402)
كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
وساعة تسمع " كدأب كذا " فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول: فلان
دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائماً أن يفعل كذا. أو نقول: ليس لفلان دأب إلا أن
يغتاب الناس.
فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس، أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟ إنه
يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب، وهذا هو الدأب. فالدأب هو السعي
بكدح وتوالٍ حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة. إذن فقوله الحق: { كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ } أي كعادة آل فرعون. وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية،
وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم، إنه سبحانه لم
يؤخر عقابهم إلى الآخرة؛ لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى
الآخرة؛ لأنه قال:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـائِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ }[آل عمران: 10].
لا، بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقاً لقوله الحق:{ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ
مِن وَاقٍ }[الرعد: 34].
إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء، لذلك يأتي الله بأمثلة
من الحياة ويقول: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي كعادة آل فرعون، ولا تصير مسألة
عادة إلا بالكدح في العمل، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون
الألوهية.
ويقول سبحانه: { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فصار الدأب منهم، ومما وقع
بهم، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب. لقد كان
دأب آل فرعون هو التكذيب، والخالق ـ سبحانه ـ يجازيهم على ذلك بتعذيبهم، ولتقرأ إن
شئت قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ * وَالَّيلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ *
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ
بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ *
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر: 1-14].
فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب. إذن فقوله الحق: {
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي أوقع بهم
العذاب في الدنيا، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومن قبلهم من القوم
الكافرين.
وعندما تسمع قول الله: { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فالذهن ينصرف إلى أن هناك
ذنباً يستحق العقاب. وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المُحسَّات؛ لأن
الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسِّية، وتُنقل الأشياء الحسّية
إلى المعنويات بعد ذلك.
لماذا؟ لأن الشيء الحسِّي مشهود من الجميع، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا
المتعقلون، والإنسان له أطوار كثيرة. ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان
إلا الأمر المحسوس أمامه.
وقلت قديما في معنى كلمة " الغصب ": إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق
بقوة، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً.
ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه، إنه كالسلخ تماماً، فالكلمة تأتي للإيضاح.
وكلمة " ذنب " وكلمة " عقوبة " مترابطتان؛ فكلمة " ذنب
" مأخوذة من مادة ذنب؛ لأن المادة كلها تدل على " التالي "
والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان. والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء.
إذن فهناك ذنب وهناك عقاب. لكن ماذا قبل الذنب، وماذا يتلو العقاب؟ لا يوجد ذنب
إلا إذا وُجِدَ نص يُجرّم، فلا ذنب إلاّ بنص. فليس كل فعل هو ذنب، بل لابد من وجود
نص قبل وقوع الذنب. يجرّم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر، فقال: لا
يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة
ويقول: هذا العمل جريمة يعاقب عليها. بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على
تجريم هذا العمل.
إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من
العمل، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يُجّرم، ويكون ذلك هو الذنب، فكأن الذنب جاء
تالياً لنص التجريم. والعقاب يأتي عقب الجريمة، وهكذا نجد أن كلا من الذنب
والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه؛ فالذَّنَبُ هو التالي للشيء. ولذلك
يسمون الدلو الذي يملأونه بالماء " ذَنُوبَاً " لأنه هو الذي يتلو
الحبل. وأيضا الجزاء في الآخرة:{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ
ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ }[الذاريات: 59].
أي ذَنوباً تتبع، وتتلو جريمتهم. إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد
لنا القضية القانونية الاصطلاحية الموجودة في كل الدنيا: إنه لا عقوبة دون تجريم.
فكان العقابُ بعد الجريمة أي بعد الذنب، والذنب بعض النص، فلا نأتي لواحد بدون نص
سابق ونقول له: أنت ارتكبت ذنباً. وهذه تحل إشكالات كثيرة، مثال ذلك:{ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىا إِثْماً عَظِيماً }[النساء:
48].
إن الله يغفر ما دون الشرك بالله، فالشرك بالله قمة الخيانة العظمى؛ وهذا لا غفران
فيه وبعد ذلك يغفر لمن يشاء. ويقول الحق في آية أخرى:{ قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُواْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
[الزمر: 53].
فهناك بعض من الناس يقولون: إن الله قال: إنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء، حتى إنهم قالوا: إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الآية التي قال فيها
الحق: } إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً { قال: " إلا الشرك
" وذلك حتى لا تصطدم هذه الآية من الآية الاخرى.
والواقع أنه حين يدقق أولو الألباب فلن نجد اصطداما، لأن الذين أسرفوا على أنفسهم.
هم من عباد الله الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحداً، ولكنهم زلُّوا وغووا ووقعوا
في المعاصي فهؤلاء يقال عنهم: إنهم مذنبون؛ لأنهم مؤمنون بالله ومعترفون بالذي
أنزله، أما المشرك فلم يعترف بالله ولا بما شرع وقنن من أحكام، فما هو عليه لا
يسمى ذنبا وإنما هو كفر وشرك. فلا تعارض ولا تصادم في آيات الرحمن.
وعندما يقول الحق:
} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ { [آل عمران:
11].
فهذا القول الحكيم متوازن ومُتّسِق، فالذنب يأتي بعد نص، والعقاب من بعد ذلك.
ويقول الحق آمرا رسوله ببلاغ الكافرين: } قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىا جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {
(/403)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
إنه أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله، أن يحمل للكافرين
خبراً فيه إنذار. من هم هؤلاء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟ الأمر جائز. هل هم اليهود؟
الأم جائز. فالبلاغ يشمل كل كافر.
والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب، ولأضرب هذا
المثل ـ ولله المثل الأعلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل ـ أنت تقول لابنك:
اذهب إلى عمك، وقل له: إن أبي سيحضر لزيارتك غدا. فماذا يكون كلام الابن للعم؟ إن
الابن يذهب للعم ويقول له: إن أبي سيزورك غدا. لكن الآمر وهو الأب يقول: قل لعمك
إن أبي سيزورك غدا. فإذا كان الابن دقيق الأمانة فهو يقول:
ـ قال أبي: ـ قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. وعندما يقول الحق سبحانه { قُلْ
لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىا جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ }.
فهذا معناه قمة الأمانة من الرسول المبلغ عن الله، فنَقَل للكافرين النص الذي أمره
الله بتبليغه للكافرين. وإلا كان يكفي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب للكافرين
ويقول لهم: ستُغلبون وتُحشرون. لكن من يدريهم أن هذا الكلام ليس من عند محمد وهو
بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أبلغه أن يبلغهم بقوله: {
قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىا جَهَنَّمَ
وَبِئْسَ الْمِهَادُ }.
إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول: لا، إنما أبلغهم نص البلاغ الذي أبلغه به الله.
وساعة يأمر الحق في قرآنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ أمرا للكافرين فإن
الرسول صلى الله عليه وسلم مُخاطب، والكفار مُخاطبون، فعندما يواجههم فإنه يقول
لهم: ستُغلبون.. وفي آية أخرى يقول الحق:{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن
يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الأَوَّلِينَ }[الأنفال: 38].
إن القياس أن يقول: إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف، لكن الحق قال: { إِن يَنتَهُواْ
} ، فكأن الله حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول الله هو الحاضر
للخطاب، والله يتكلم عن غائبين.
ولكن الله ـ سبحانه ـ في هذه الآية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلاغ فمرة
يكون النقل من الآمر الأول كما صدر منه سبحانه كقوله: { إِن يَنتَهُواْ } ومرة
يأمره الآمر الأول أن يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي لا تقل: سيغلبون وقل: {
سَتُغْلَبُونَ } لأنك أنت الذي ستخاطبهم. وهذه الدقة الأدائية لا يمكن إلا أن تكون
من قادر حكيم.
إنه بلاغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا. والغلب سيكون في الدنيا، والحشر
يكون في الآخرة.
فإذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل النص القرآني { سَتُغْلَبُونَ }
فمتى قالها رسول الله؟ لقد قالها والمسلمون قلة لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا
يقدرون على شيء.
وكل مؤمن يحيا في كنف آخر، أو يهاجر إلى مكان بعيد. فهل يمكن أن يأتي هذا البلاغ
إلا ممن يملك مطلق الأسباب؟
لقد قالها الرسول مبلغا عن الله، والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد
قالها، فهي حجة عليه، لأنّ مَن أبلغه إياها وهو الله قادر على أن يفعلها. } قُلْ
لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ { ليس العقاب في الدنيا فقط، ولكن في الآخرة
أيضا } وَتُحْشَرُونَ إِلَىا جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ { هذه المسألة بشارة
لرسول الله ولأصحابه وإنذار للكافرين به، ويتم تحقيقها في موقعة بدر. فسيدنا عمر
بن الخطاب لما نزل قول الله:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
}[القمر: 45].
تساءل عمر بن الخطاب: أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على ذلك،
وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة، ولكن رسول الله لم يكن يكلم المؤمنين
بالأسباب، إنما برب الأسباب، فإذا ما تحدى وأنذرهم، مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم، فقد
جاء الواقع ليثبت صدق الحق في قوله: } سَتُغْلَبُونَ { ويتم انتصار المسلمين
بالفعل، ويغلبون الكافرين.
ألا يُجعل صدق بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على
ما يحدث في الآخرة؟ إن تحقيق } سَتُغْلَبُونَ { يؤكد } وَتُحْشَرُونَ إِلَىا
جَهَنَّمَ {. وفي هذه الآية شيئان: الأول؛ بلاغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر
يشهده الناس جميعا، والأمر الآخر هو في الآخرة وقد يُكذبه بعض الناس. وإذا كان
الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغَلَبَة
عليهم. ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم. ومادام قد
صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الأولى ولم يكن يملك الأسباب فلابد أن
يكون صادقا في البلاغ في الثانية وهي البلاغ عن الحشر في نار جهنم.
وبعض المفسرين قد قال: إن هذه المقولة لليهود؛ لأن اليهود حينما انتصر المسلمون في
بدر زُلزِلوا زِلزَالا شديدا، فلم يكن اليهود على ثقة في أن الإسلام والمسلمين
سينتصرون في بدر، فلما انتصر الإسلام في بدر؛ قال بعض اليهود: إن محمداً هو الرسول
الذي وَعَدَنا به الله والأوْلَى أن نؤمن به فقال قوم منهم: انتظروا إلى معركة
أخرى. أي لا تأخذوها من أول معركة، فانتظروا، وجاءت معركة أحد، وكانت الحرب سجالا.
ولنا أن نقول: وما المانع أن تكون الآية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟
فاللفظ عام وإن كان قد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع اليهود في سوق
بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسْلِموا قبل أن
ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل.
فماذا قالوا له؟ قالوا له: لا يَغُرنَّك أنك لقيت قوما أغماراً ـ أي قوما من غمار
الناس لم يجربوا الأمور ـ لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت
أنّا نحن الناس، فأنزل الله قوله: } قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ.. {
إلخ الآية.
والمهاد هو ما يُمهّد عادة للطفل حتى ينام عليه نوماً مستقراً أي له قرار، وكلمة }
وَبِئْسَ الْمِهَادُ { تدل على أنهم لا قدرة لهم على تغيير ما هم فيه، كما لا قدرة
للطفل على أن يقاوم من يضعه للنوم في أي مكان. ويقول الحق بعد ذلك: } قَدْ كَانَ
لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ... {
(/404)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
وحين يقول الحق: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ }. فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن
المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنا أو كافرا،
فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية
بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي
الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية.
نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة
الإيمان أو فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء
في المعركة بين الحق والباطل، لأن لله جنودا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة
الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية، فقد وقعت المعركة بين
الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق.
وكلمة { فِئَةٌ } إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس، ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد
جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة. ولكن حين نسمع كلمة { فِئَةٌ } فهي تدل على
جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر.
ولكن كلمة { فِئَةٌ } تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية
واحدة.
ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ
في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا
يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل
عن جماعته. ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته.
إذن فكلمة { فِئَةٌ } تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائما
في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ
فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } أي أن هناك صراعا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة
فيقول: { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ }. وحين ندقق
النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل
الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أنّ الفئة
التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة
تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل
الشيطان.
لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية.
وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى.
فمقابل الكافرة مؤمنة، وعرفنا - أيضاً - أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل
الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله. ويسمون ذلك في
اللغة " احتباك ". وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني، وتحذف
من الثاني نظير ما أثبت في الأول، وذلك حتى لا تكرر القول، وحتى توضح الالتحام بين
القتال في سبيل الله والإيمان، والقتال في سبيل الشيطان والكفر.
إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي: لقد كان لكم آية، أي أمر عجيب جدا لا
يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين، فعندما التقت الفئة المؤمنة في
قتال مع الفئة الكافرة، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من
أجلها - وهي القتال في سبيل الله - أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل
الشيطان.
وبعد ذلك يقول الحق: } يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ { فنحن أمام
فئتين، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم
المؤمنين فالمرئي هم الكافرين. وإن كان الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون
ولنر الأمر على المعنيين:
فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم،
وكان عدد الكافرين يقرب من ألف. إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم، أي
ألفين. وقد يكون المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي.
وقل يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب
من ثلاثمائة وأربعة عشر، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلا.
فأن أخذنا معنى " مِّثْلَيْهِمْ " على عدد المؤمنين، فالكافرون يرونهم
حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلا، وإن أخذنا معنى " مِّثْلَيْهِمْ "
على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين. وما الهدف من ذلك؟ إن الحق
سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر.
وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون: كيف يقول القرآن: } يَرَوْنَهُمْ
مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ { وهو يقول في موقع آخر:{ إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ
قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ
مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }[الأنفال: 43-44].
وهذه الآية تثبت كثرة، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين، والآية التي نحن بصدد
تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة، والمشككون في القرآن يقولون: كيف يتناول
القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشككين: أنتم قليلو الفطنة؛
لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية
التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين: قلل الحق
هؤلاء في أعين هؤلاء، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين
قليلا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر.
والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم.
ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة
في الأعداد المواجهة، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة
بالإستعداد المكثف لمواجهة الكفار. وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما
توقع، إذن فيقول الحق:{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ
قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ
مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }[الأنفال: 44].
يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف فلا تنشأ المعركة. لكن ما
إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد
ونقل الشيء من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس،
والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد.
لقد قلل الحق الأعداد أولا حتى لا يتهيبوا المعركة، وفي وقت المعركة جعلهم الله
كثيراً في أعين بعضهم البعض، فترى كل فئةٍ الطرف الآخر كثيرا، فتتفجر طاقات
الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة، وتخور نفوس الكافرين
عندما يواجهون أعدادا أكثر مما يتوقعون. والحق سبحانه وتعالى يقول:
} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ
لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ { [آل عمران: 13]
إن هذه الأية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل
كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة. فإياكم أن تقيموا الأمور
بمقاييس الأسباب، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا
تتمة كل ذلك للقدر، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير، ولا تغتروا معشر الكفار
بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن عدداً قليلا من المؤمنين قد غلب عددا
كثيرا من الكافرين.
ومن معاني الآية - أيضا - أن الكافرين يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين، أي ضعف
عددهم. ومن معانيها - ثالثا - أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي.
ومن معاني الآية - رابعا - أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم، أي مثل المؤمنين
مرتين، أي ستمائة نفر وقليلا، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من
العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين. إذن فما حكاية " مِّثْلَيْهِمْ " هذه؟
لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال:
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن
مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ
مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ }[الأنفال: 65].
والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم، ذلك وعد الله،
وحين أراد الله التخفيف قال الحق:{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ
وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ }[الأنفال: 66].
لقد خفف الله النسبة، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين. فالمؤمنون
موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف. والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين،
المنذرة للكافرين، والتي نحن بصددها الآن: } وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن
يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ {.
ونحن نسمع كلمة " عبرة " كثيرا، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول
من مكان إلى مكان، فقال عن ذلك " عُبور " ، ونحن في حياتنا العادية نخصص
في الشوارع أماكن لعبور المشاة، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من
ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه. وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى
شاطئ آخر.
إذن فمادة " العبور " تدل على النفاذ من مكان إلى مكان، و " العَبرة
" أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد. و " العِبارة
" أي الجملة التي نتكلم بها، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن، وهي عبور أيضا. و
" العبير " أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان
قليلا لتنفذ إلى أنفه. إذن فمادة " العبور " تدل على " النفاذ
".
وحين يقول الحق: } إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً {. أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم
أيها المؤمنون لأنكم قليل، وهم كثير، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون،
وتنقلكم أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم. فالعبرة هي حدث
ينقلك من شيء إلى شيء مغاير، كالظالم الذي نرى فيه يوما، ونقول إن ذلك عبرة لنا،
أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة.
وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن،
فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل، فالحق يقول في بداية
هذه الآية: } قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا { وتنتهي الآية
بقوله: } إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ {.
إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا
لسياسة نفسك، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار
بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك، ولكن الله يريد أن يكون عذاب
الكافرين بأيدي المؤمنين:
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[التوبة: 14].
ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون
تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين. }
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ { ، و " الأيد " هو القوة، إذن فهو يريد منك فقط النواة
العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، " وأيَّده " أي قواه، ويؤيد
الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار.
وقد يقول قائل: أتكون العبرة لأولي الأبصار؛ أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول: إن
العبرة هنا لأولى الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي، أمر
محسوس، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما، فإذا كان التفكير والتدبر ليس أمرا موهوبا
لكل مخلوق من البشر، فإن البصر موجود للغالبية من الناس، وكل منهم يستطيع أن يفتح
عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي.
وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون
قلة وعددهم معروف محدود، وعتادهم قليل، ولم يخرجوا بقصد حرب، إنما خرجوا لقصد
الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضا عما اغتصبه المشركون
من أموالهم في مكة، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة
التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط. ولكن
الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة، أي الطائفة القوية المسلحة، لقد وعدهم الله
بالنصر على إحدى الطائفتين:{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ
وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ }[الأنفال: 7].
لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين، والأمل البشرى كان يود
الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير، ولكن مثل
هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة، فقد كان من السهل أن
يقال: إن محمداً ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش، ولكن
الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق.
إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا
للقتال، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة
بأفلاذ أكبادها. وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر
حقيقي، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله. وتصير عبرة للغير. لذلك نجد العجائب
في هذه المعركة - معركة بدر -.
الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة. وتجد الأب والابن لكل منهما
موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما، فمثلا ابن أبي بكر رضي الله عنه، وكان هذا
الابن لم يسلم بعد، وكان في جانب الكفار، وأبوه الصديق مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر: لقد
تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك. فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي: والله
لو تراءيت لي أنت لقتلتك.
وكلا الموقفين منطقي، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر، ويرى وجه أبيه،
فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل، ويعرف تمام
العلم أنه باطل، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه.
لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه، ومن المؤكد
أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر، فلو رآه يوم بدر لقتله.
ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش، ولله حكمة فيمن
أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها
البلاء الحسن. فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب
الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله
المسلول، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلا عبقريا.
لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا
حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان. والله لم
يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ
إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها، ويحاربون في صفوف
المؤمنين وهذا نصر جديد.
ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليبشر بدين الله، ويعلِّم أهل المدينة، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف،
وأمه صاحبة ثراء، وبعد ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد
أن كان يلبس الحرير، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى
الإيمان ماذا فعل بصاحبكم ".
والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز، وأبو عزيز على الكفر، ومصعب رضي الله
عنه مسلم يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحين يرى مصعب رضي الله عنه أخاه أبا
عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر، فيقول مصعب: يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛
فإن أمه غنية وذات متاع، وستفديه بمال كثير.
فيقول له أخوه أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيراً إلى أبي اليسر: هذا
أخي دونك.
كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر، طاقة
إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة، وعاطفة الأبوة، وعاطفة البنوة. وقد جعل الله
من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين، أو قلت عُدّتهم، وحتى لا
يغتر كافر، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم.
وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني، ولذلك يقال: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في
النفوس. ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم، فسيدخل المؤمنون
الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين:{
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ
نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ
بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ }[التوبة: 52].
فالظفر هنا بأحد أمرين: إما النصر على الكافرين، وإما الاستشهاد في سبيل الله،
ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل. والمؤمنون يتربصون بالكافرين، إما أن
يصيب الله الكفار بعذاب من عنده، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين. إنها معادلة
إيمانية واضحة جلية. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ... {
(/405)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)
الموضع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو: موقع ذكر المعركة الإسلامية التي
جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى
الله، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك
الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه، وتسليح غيره
أيضا.
فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية
التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة
من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ " وكلمة " زُيِّنَ " تعطينا فاصلا بين المتعة التي
يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر.
فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها.
فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل
نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ ". وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما.
وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة
استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا
هو الممقوت.
وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس، وأن الحيوان
يفضل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى
من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً اخر منها. والفحل أيضاً اذا ما
جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس
كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة.
ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول في وصف شهوة الإنسان: أن عند فلان شهوة
بهيمية. ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر
الضروري، لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعا
يسمى: دناءة شهوة النفس.
والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه، والبقاء له نوعان: أن يُبقِي
الإنسان حياته بالمطعم والمشرب، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزواج.
ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما. إنه يعلم أن طفولة أي حيوان
بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه، مثال ذلك: الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران،
ثم لا تعرف أين ذهب فرخها، لكن حصيلة الإلتقاء بين الرجل والمرأة، والتي أراد الله
لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد، وذلك ليكون هناك تكافؤ
وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل
الاستمتاع بها واستبقائها.
فقول الحق سبحانه: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
" فمن المزين؟ إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر، فهذا من شغل
الشيطان، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله.
ونجد الحق يضيف " البنين " إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران، ولم يقل
البنات، لماذا؟ لأن البنين هم الذين يُطلبون دائما للعزوة كما يقولون ولا يأتي
منهم العار، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار، والمحبوب لدى الرجل في
الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها،
سواء كان رجلا أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً.
ويضيف الحق إلى مجال الشهوات: } وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ { ، والقناطير هي جمع قنطار، والقنطار هو وحدة وزن، وهذا الوزن حددته
كثافة الذهب، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً، لكنهم رأوا الحجم هذا
يزن قدراً كمياً، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن.
وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه
ذهبا، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً، وكانت هذه عملية بدائية. وبعد ذلك
أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزنا. إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً، فصار ووزناً.
وساعة تسمع } وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ { فهو
يريد أن يحقق فيها القنطارية، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل
الوزن، وليس مجرد قنطار تقريباً، كما نقول أيضاً: " دنانير مدنرة ".
وعادة نجد في اللغة العربية لفظاً يأتي من جنس اللفظ يضم إليه كي يعطيه قوة، فيقال
" ظل ظليل " أي ظل كثيف، ويقال " ليل أليل " أي أن الليل في
ظلمة شديدة، وهي مبالغة في كثافة الظلام.
والظلام على سبيل المثال يحجب الشمس، وحاجب الشمس عنك قد يكون حجاباً واحداً، وقد
يكون الشيء الذي يظلك فوقه شيء آخر يظلله أيضاً فيكون الظل ظليلاً، ولذلك يكون
الظل تحت الأشجار جميلاً، لأن ورقة تستر الشمس وورقة أخرى تستر الورقة الأولى،
وهكذا، فتصنع تكييفاً طبيعياً للهواء.
ولذلك فهم يصنعون الآن خياماً مكيفة الهواء مصنوعة من قماش فوقه قماش آخر، وبينهما
مسافة، فيكون هناك قماش يُظلل ظِلاً آخر، فإذا ما وضعوا قطعة ثالثة من القماش تُظل
الظلين الأولين، فإن الظل يكون ظليلاً ولذلك قلنا: إن ظل الأشجار هو ظل ظليل، فيه
حنان، فكل ورقة تظل الإنسان تكون نفسها مظَّللةَ بورقة أخرى، وتكون أوراق الشجر
التي تظلل بعضها بعضا مختلفة الأوضاع، وتعطي الأوراق للنسيم فرصة المرور، أما
الخيام فهي تحجب النسيم.
والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال:تصد الشمس أَنَّى واجهتها فتحجبها وتأذن
للنسيمإذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة
الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ } مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ {. وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة
"
قول الحق: } وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ { نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات
متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى
تأكل منها كما تريد، وليست خيلاً مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضاً
تعنى أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر.
ومسوَّمة أيضا، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن
مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لا بد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن
أعطته لما كلمة " مُسَوَّمَةِ "؟
سائمة، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام. ومُعلَّمة أي فيها
علامات كالغّرة والتحجيل، وهذا جواد أدهم، وذلك جواد أشقر، أو أنها معلمة أي
مروضة. فماذا تتطلب الحرب؟.
إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزاً، سواء كانت
شهوة للنساء، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن
ينفقه في سبيل الله، والخيل أيضاً يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله.
ونلحظ أن هذه الآية - التي تعدّد أنواع الزينة - جاءت بعد الآية التي تتحدث عن
الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها:
} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ
لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ { [آل عمران: 13]
وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك
الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في
النساء، وفي البنين، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفي الخيل المسوَّمة
والأنعام وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام:{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي
بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ
اللَّهُ بِهَـاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ كَذِباً
لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ }
[الأنعام: 143-144].
حساب ذلك هو إثنان من الضأن، وإثنان من الماعز، وإثنان من الإبل، وإثنان من البقر
أي ثمانية أزواج. ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديماً، لا؛ إن
الزوج لا يعني اثنين من الشيء، ولكن الزوج واحد، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من
جنسه. ومثال آخر هو كلمة " التوأم " ، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره،
وهما توأمان، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين.
والحق يقول في مجال زينة الشهوات: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ " وحين
تسمع كلمة " الْحَرْثِ " فافهم أن المراد بها هنا الزرع، ولكن الله
سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون معالجتك فإنه
يريد منك أيضاً أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث.
والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة، فلا بد أن يهيّجها الإنسان بالحرث، أي
أن تفك يبوستها - وتَلاَصُق ذراتها لأن تلاَصُقَ ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة
للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء، ويحتاج من الإنسان أن
يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى.
إذن فالحرث يتثير الأرض، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن
الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات
الحياة من الأرض، وكلما قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان، وتصيران مجرد
ورقتين. فأين ذهب حجم الفلقتين؟
لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض،
ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة. ولذلك يقولون: إن الأرض الطينية
السوداء تكون صعبة، وغير خصبة، ويقال: إن الأرض الرملية أيضاً غير خصبة، لماذا؟.
لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض: الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها
الماء ليشرب الزرع، والصفة الأخرى ألاّ تُسرب الماء بعيداً، فإذا كانت الأرض طينية
فإن جذور الزرع تختنق وتتعفن، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيداً، لذلك نحتاج
في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية، أي أرض صفراء. والله حين يتكلم عن الزرع
فإنه يقول: " الْحَرْثِ " وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعاً
لا بد أن يجدّ ويحرث الأرض. وهو سبحانه القائل:{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *
أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }[الواقعة: 63-64].
وعبِّر الحق عن الزرع بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع. وكل ما تقدم من
الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة
والأنعام والحرث، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله: "
ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ".
إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا
تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به. وعندما نتأمل
الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، إنه
سبحانه يقول:
} زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ { [آل عمران: 14]
هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، إنه - سبحانه
- يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن
يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟.
لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية
من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون،
يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد
هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل
شخصية مفتاح هوى.
والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي
يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما
يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب.
إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح
من يريدون إغراءه وإغواءه. وحين يقول الحق أنَ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس.
قد يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟
وعلى هذا القول نرد: إن الحق مادام قد قال: } زُيِّنَ { وبناها - كما يقول النحاة
- للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله، فمن الذي زيِّن؟ لقد كان الله قادرا أن يقول
لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديدا، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن
يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو
الذي يزين، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين:{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا
مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً }[الفرقان: 74].
إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل
لكل نعمة من نعم الحياة عملا يعمله الإنسان فيها، فالمرأة إنما اتَّخَذَت سكنا أي
ارتياحا عندها، ارتياحاً يعطيك كل الحنان والعطف، وهو سبحانه القائل:{ وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
[الروم: 21].
إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن
أعراض الناس. لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا:{ قَالَ
رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ
أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }[مريم: 4-6].
لقد طلب زكريا عليه السلام وليَّا يرثه، والأنبياء لا تُورث منهم أموال، إنما
يُورِّثون العلم والحكمة، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن يرث ابنه الحكمة منه
ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِيَّا. فلو كان الأنبياء يورِّثون المال، لكان
البعض قد فهم أن طلب زكريا للإبن كي يرثه في المال، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاّ
يُورِّثوا المال، بل يورِّثون العلم بمنهج الله. وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج
الله في الأرض.
وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على
الجهاد، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه، كل هؤلاء
ينالهم المدح والثناء والجزاء الكثير من الله. لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من
الله مُحتملا أن تتجه به إلى الخير المراد لله، ومحتملا أن تتجه به إلى الشر
المراد لنفسك. وأنت - أيها العبد - حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد
أنه من الممكن أن توجِّهها وِجهة خير. يقول الحق:{ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
}[الفرقان: 74].
لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج
السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم. إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة
سلوكية. والذي يحب الخيل يمكن أن يوجه هذا الحب إلى الخير، ألم يقل رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مِنْ
خير معاش الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع
هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة ".
وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُروِّض الخيل، إذن فمن الممكن أن تكون
هذه الأشياء مساراً للخير. وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها،
ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده.
ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزينة: " ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا " أي أن الذي ينظر الى هذه الاشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية
سيجدها مجرد متاع، وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت بالدنيا الفانية.
ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير، وتصعيد قيمة الخير يأتي
من تنمية نوعه، أي الزيادة في نوع الخير، ومن استدامته، ومن أن الإنسان لا يترك
هذا الخير.
إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه. واستدامة الخير فلا
ينقطع، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له، وألاّ يذهب الخير عنه، وأمر رابع هو
ألاّ تربط هذا الخير بأغيار، أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به، فقد يضعف، أو
يمرض، أو يغيب، أو يغدر بك.
إذن فلا بد من أربعة عناصر: الاول: تصعيد الخير، أي نوع الخير الذي تفعله يكون
أرقى من خير آخر، فنعمل دائما على زيادته وتنميته. والثاني: استدامة الخير.
والثالث: أن تدوم أنت للخير، وتحرص على أن تعيش له، والأمر الرابع: ألاّ تربط هذا
الخير بالأغيار. بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك.
وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي. فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال
والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا. ولنسلم جدلا أن شيئا لن
يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك. فما قيمة الدنيا وهي
مقاسة بآلاف السنين، والإنسان لا يعيش فيها إلا قدرا محددا من الأعوام يقرره الحق
سبحانه وتعالى.
إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره، لأن عمر الدنيا
لغيرك لا يخصك. هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة وحرث وأنعام
وعدة وعتاد قد دامت لك، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة. ولا أحد يستطيع أن
يستديم الدنيا، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود.
وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حداً يبلغه الإنسان. إن الله لم يحدد
عمرا يموت فيه الإنسان، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌّ محدود بحياته، فعندما يولد أي
طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا.
وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان، ولذلك يقال إن الإبهام هو
أعلى درجات البيان، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان. متى يأتي؟ في أي زمان
وفي أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة.
إن الإبهام للموت هو البيان الوافي، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير
مضمونة للإنسان أن يحياها، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته، وإن لم تذهب
الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها. فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة
التي نحياها الآن، إنّ اسمها " الدنيا " أي " السفلى " ومقابل
" الدنيا " هو " العليا " وهي الحياة في الآخرة.
ولماذا هي " عليا "؟ لأنها ستصعد الخير.
فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة, يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة،
وهذا أول تصعيد. ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع. ويضمن المؤمن أنه خالد في
الجنة فلا يموت فيها. ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار
معرفة الفاعل للخير. ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة، ومعرفة الله للخير كمال
مطلق.
فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير. إذن فحياتنا هي
الدنيا، أي السفلى، وهناك الآخرة العليا. فإذا طلب المنهج منا ألاّ ننخدع بالدنيا،
وألاّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟
إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن، لقد
بيّن المنهج أن في الدنيا ألوانا من المتع هي كذا وكذا وكذا، والدنيا محدودة ولا
تدوم لإنسان، ولا يدوم إنسان لها، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على
قدر الإنسان، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي، فمن
المنطقي جدا أن يقول الله لنا: } ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ {. وحسن المآب تعني حسن المرجع.
والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك، فقد يظن الإنسان
السطحي أن في ذلك حجراً على حرية العين، ولكن هذا الغض للبصر أمر به - سبحانه -
إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد
في الخير.
ولنفترض أن معك مبلغا قليلا من المال وقابلت فقيرا مسكينا فآثرت أنت هذا الفقير
على نفسك، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثوابا مضاعفا. إذن فقضية الدين هي أنانية
عالية سامية، لا أنانية حمقاء. ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه: } قُلْ
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ... {
(/406)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
وحين تسمع كلمة " أؤخبركم " فما نسمعه بعد ذلك كلام عادي، أما عندما
نسمع " أَؤُنَبِّئُكُمْ " فما نسمعه بعدها هو خبر هائل لا يقال إلا في
الأحداث العظام، فلا يقول أحد لآخر: سأنبئك بأنك ستأكل كذا وكذا في الغداء، ولكن
يقال " أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى " ، هذا في المستوى البشرى فما
بالنا بالله الخالق الأعلى، ولذلك يقول الله الحق:{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ
النَّبَإِ الْعَظِيمِ }[النبأ: 1-2].
إنه الأمر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها، فحين يقول الحق: { قُلْ
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ } فمعنى ذلك أن الله يخبرنا بخبر من هذه
الأشياء، ومن ذلك نعرف أن الله قد جعل هذه الأشياء مقياساً، لماذا؟
لأنه مقياس محس، وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال: { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ
رَبِّهِمْ } والمؤمن هو من ينظر بثقة إلى كلمة { عِندَ رَبِّهِمْ } أي الرب
المتولى التربية والذي يتعهد المربيَِّ حتى يبلغه درجة الكمال المطلوب منه.
والعندية هنا هي عند الرب الأعلى. فماذا أعد المربي الأعلى للمتقين؟ لقد أعد لهم {
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ولنر الخيرية في هذه الجنات، وهي
تقابلٍ في الدنيا الحرث والزرع، وقد قلنا: إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفاً
له ب " الحرث " لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة وعملاً.
أما في الآخرة فالجنات جاهزة لا تتطلب من المؤمن حركة أو تعباً، ولا يقف الأمر عند
ذلك، بل إن هذه الجنات تجر من تحتها الأنهار وفيها للإنسان المؤمن ما وعده الله
به: { خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } إنه الخلود الذي لا يفنى، ولا
يتركه الإنسان ولا يترك هو الإنسانِ.
والأزواج المطهرة هي وعد من الله للمؤمنين، ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن
المرأة في الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر، إما خَلْقاً تكوينياً، وإمَّا
خُلًُقاً، فهناك وقت لا يحب الرجل أن يقرب فيه المرأة، وقد يكون فيها خصلة من
الخصال السيئة فيكره الإنسان جمالها.
لذلك فالرجل قد ينخدع بالمنظر الخارجي للمرأة في الدنيا، وقد يقع الإنسان في هوى
واحدة فيجد فيها خصلة تجعله يكرهها، أما في الآخرة فالأمر مختلف، إنها { أَزْوَاجٌ
مُّطَهَّرَةٌ } أي مطهرة من كل عيب يعيب نساء الدنيا، فيأخذ المؤمن جمالها، ولا
يوجد فيها شرور الدنيا، فقد طهرها الله منها.
{ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من الذي طهرها؟ إنه هو الله - سبحانه - طهرها
خَلْقاً وَخُلُقاً. فالرجل في الدنيا قد يهوى إمرأة، وتستمر نضارتها خمسة عشر
عاماً تستميله وتجذبه، ثم تبدأ التجاعيد والترهل والتنافر. أما في الآخرة فالمرأة
مطهرة من كل شيء، وتظل على نضارتها وجمالها إلى الأبد، أليس هذا تصعيداً للخير؟
ونلاحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين:
الأمر الأول: هو جنات تجري من تحتها الأنهار، ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا.
والأمر الآخر: هو الأزواج المطهرة، ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضا، ولم
يورد الحق أي شيء عن بقية الأشياء، فأين القناطير المقنطرة من الذهب؟ وأين الخيل؟
وأين الأنعام وأين البنون؟
إننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الأمرين المزينين، واحداً يستهل به الآية،
والأمر الآخر يأتي في آخر الآية، ولنقرأ الآية التي فيها التزيين: } زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ {
إن البداية هي النساء، ذلك هو القوس الأول، والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس
الثاني، وبين القوسين بقية الأشياء المزينة، وقد أعطانا الله عوض القوسين، وأوضح
لنا إنهما هما الخير الْمُصَعَّد، ولم يورد بقية الأشياء المزينة، وهذا يعني أن
نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به انتُفِعَ، أي أن كل ما ينتفع به الإنسان رزق،
الخُلُق الطيب رزق, سماع العلم رزق، أدب الإنسان رزق، حلم الإنسان رزق، صدق
الإنسان رزق، ولكن الرزق يأتي مرة مباشرا بحيث تنتفع به مباشرة، ومرة أخرى يأتي
الرزق لكنه لا ينفع مباشرة، بل قد يكون سببا ووسيلة لما ينفع مباشرة.
مثال ذلك الخبز، إنه رزق مباشر، والنقود هي رزق، لكنها رزق غير مباشر؛ لأن الإنسان
قد يكون جائعاً وعنده جبل من الذهب فلو قال واحد لهذا الإنسان: خذ رغيفا مقابل جبل
من الذهب. سيعطي الإنسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف؛ لأن الإنسان لا يأكل
الذهب، وكذلك كوب الماء بالنسبة للعطشان.
إذن فهناك رزق لا يطلب لذاته، ولكن يطلبه الإنسان لأنه وسيلة لغيره فالوسيلة لغيره
أنت لن تحتاج إليها في الآخرة؛ لأنك ستعيش ببدل الأسباب بقول الحق: " كن
". فالإنسان لن يحتاج في الجنة إلى مال. أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛
لأن كل ما تشتهيه النفس ستجده، ولن تحتاج في الآخرة إلى خيل مسومة؛ لأنك لن تجاهد
عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها.
وكل ما لا تحتاج إليه في الآخرة من أشياء أعطاها لك الله في الدنيا لتسعى بها في
الأسباب، ولم يورده الله في قوله: } قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ { لم يوردها في النص الكريم، لأن عطاء الله في الآخرة بالرزق
المباشر، أما الأشياء التي يسعى بها الإنسان إلى الرزق المباشر في الدنيا فلم
يوردها لعدم الحاجة إليها في الآخرة، فنحن نحب المال، ولماذا؟ لأنه يحقق لنا شراء
الأشياء، والخيل المسومة نحبها؛ لأنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل
الله.
والأنعام؛ لتحقق لنا المتعة.
أما الجنة في الآخرة فالمؤمن يجد فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وكل ما يخطر ببال من
يرزقه الله الجنة سوف يجده؛ فالوسائط لا لزوم لها. لذلك تكلم الحق عن الأشياء
المباشرة، فأورد لنا ذكر الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر لنا الأزواج
المطهرة.
وعندما نتأمل قول الحق: } قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ { قد يقول
قائل: ألم يَكن من المنطق أن يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به، بدلاً من
أن يسألنا: أيخبرنا بهذا الخير، أم لا؟
ونقول: أنت لم تلتفت إلى التشويق بالأسلوب الجميل، وحنان الله على خلقه. إنه
سبحانه وتعالى يقول لنا: ألا تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الأشياء التي
تسيركم في الدنيا. فكأن الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه. ولم ينتظر الحق أن
نقول له: قل لنا يارب.
لا، إنه يقول لنا دون طلب منا، ويقال عن هذا الأسلوب في اللغة إنه " استفهام
للتقرير " ، فالإنسان حين يسمع: } أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ {
فالذهن ينشغل، فإن لم يسمع النبأ، فلسوف يظل الذهن مشغولاً بالنبأ، ويأتي الجواب
على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن.
ويأتي النبأ } لِلَّذِينَ اتَّقَوْا { ، فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت
من نساء وبنين وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث، ألا يكون من
المناسب فيها أن يتقي الإنسان ربه في مجالها؟
إن التقوى لله في هذه الأشياء واجبة، ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين
يريدون أن يجعلوا الحياة زهداً وانحساراً عن الحركة، وأن يوقفوا الحياة على
العبادة في أمور الصلاة والصوم، وأن نترك كل شيء. لهؤلاء نقول: لا؛ إن حركتك في
الحياة تعينك على التقوى؛ لأننا عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه
وبين النار حجاباً، وأن تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية. فإذا ما أخذت نعم الله
لتصرفها في ضوء منهج الله فهذا هو حسن استخدام النعم.
وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق: } اتَّقُواْ اللَّهَ {
وتأتي مرة أخرى } اتَّقُواْ النَّارَ { فهما ملتقيان؛ فاتقاء النار حتى لا يصاب
الإنسان بأذى، وعندما يتقي الإنسان الله فهو يتقي غضب الله؛ لأن غضب الله يورد
العذاب، والعذاب من جنود النار. إذن فالذين يتقون الله لا يظنون أنهم زهدوا في هذه
الحياة لذات الزهد فيها، ولكن للطمع فيما هو أعلى منها، إنه الطمع في النعيم
الأخروي الدائم.
ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: أنكم لن تتمتعوا في الآخرة لضرورة الحاجة
للمتعة، بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها، إن الأمر لا يقتصر على ذلك
وإنما يتعداه إلى أنكم - أيها المؤمنون - تحبون فقط أن تروا المنعم، فمادام المؤمن
الذي يدخل الجنة يجد كل ما يشتهي بل إنه لا يشتهي شيئا حتى يأتيه، ويستمتع على قدر
عطاء الله وقدراته.
وإذا لم يشته الإنسان ثماراً في الجنة أو نساء، ويصبح مشغولاً برؤية ربه فإن مكانه
جنة من الجنان اسمها " عليّون " و " عليّون " هذه ليس فيها
شيء مما تسمعه عن الجنة، ليس فيها الا أن تلقى الله. إن الرزق والنعم ليسا من أجل
قوام الحياة في الجنة، بل إن الإنسان سيكون له الخلود فيها؛ فالذي يحتاج إليه
الإنسان هو رضوان من الله.
إن رضواناً من الله أكبر من كل شيء. ولقد نبأنا الله بما في الجنات، ونبأنا بالخير
من كل ذلك. لقد نبأنا الله بأن رضوانه الأكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية
ربّه. وهذا ما يقول في الله.{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىا رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ }[القيامة: 22-23].
إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية. ويخبرنا الحق من بعد ذلك: } وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ { أي أن الله سيعطى كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه، فمن أطاع
الله رغبة في النعيم بالجنة يأخذ جنة الله، ومن أطاع الله لأن ذات الله أهل لأن
تطاع فإن الله يعطيه متعة ولذة النظر إليه - سبحانه - تقول رابعة العدوية في هذا
المعنى:كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظا جزيلاًإنِنّي لست مثلهم ولهذا لست
أبغي بمن أحب بديلاوقالت أيضاً: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك
فادخلني فيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، إنما أعبدك لأنك
تستحق أن تُعبد.
إذن فـ } اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ { أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته
في الحركة؛ فالذي أحب ما عند الله من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها الله عليه. أما
الذي أحب الله وإن سلب منه النعمة، فإن الله يعطيه العطاء الأوفى، وذلك هو مجال
مباهاة الله لملائكته.. ومن أقوى دلائل الإيمان وكماله.. إيثار محبة الله ورسوله
على كل شيء في الوجود:
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد
بهن حلاوة الإيمان: مّنْ كان الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ
لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن
يَقَذف في النار " إن هناك العبد الذي يحب الله لذاته؛ لأن ذاته سبحانه تستحق
أن تعبد، فذات الله تستحق العبادة؛ لأنه الوهاب، الذي نظم لنا هذا الكون الجميل.
إذن فقوله الحق: } واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ { يعني أن الله يعلم مقدار ما
يستحق كل عابد لربه، وعلى مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء، فمن عبد الله
للنعمة أعطاه الله النعمة المرجوة في الجنة ليأخذها، ومن أطاع الله لأنه أهل لأن
يطاع وإن أخذت - بضم الألف وكسر الخاء - النعمة منه فإن الله يعطيه مكاناً في
عليين.
ولذلك قيل: إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل.
لماذا؟ لأن ذلك دليل صدق المحبة. والإنسان عادة يحب من يحسن إليه، ولا يحب من تأتي
منه الإساءة إلا إن كانت له منزلة عالية كبيرة. إنه مطمئن إلى حكمته، إنه ابتلاه -
وهو يعلم صبره - ليعطيه ثوابا جزيلا وأجرا كبيرا، والحق يقول:{ قُلْ إِنَّمَآ
أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىا إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ
وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً
وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }[الكهف: 110].
لقد قال: } فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ { ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب
ألا تشغلنا النعمة - الجنة - عن المنعم وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الحق قد
طلب منا ألا نشرك بعبادة ربنا أحداً فلنعلم أن الجنة أَحَدٌ.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا...
{
(/407)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
إن قولهم: { رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا } هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن
الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه، لأن الإيمان له حق
يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك، فيارب
اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس.
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك.
وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن
ما جاء إلينا من مأثور القول، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن
كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم. وكنتم تعتقدون أني أراكم فلم
جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو
يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟
إن قول المؤمنين: { إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا } دليل على أنهم علموا أن
الإيمان مطلوباته صعبة. { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب
غفران الذنب على الإيمان. لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة،
وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم
نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب،
فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار.
ولماذا لا يكون قوله { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي
لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي،
وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال:{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً }[نوح: 10].
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي
على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة
كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله
فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل
في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه،
فإن يرجع إلى ربه.
وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع
البشري، فإنه - سبحانه - يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق
الإستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها. وأن
يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما
لذعتهم أعطاهم الله حسنة.
كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن
الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله
مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن
يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن
الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا
يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: } وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا
ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن " اتقوا
الله " و " اتقوا النار " ملتقيتان، لأن معنى " اتقوا النار
" كي لا تصيبكم بأذى، " اتقوا الله " تعني أن نضع بيننا وبين غضب
الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي.
وبعد ذلك يقول الحق: } الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ.... {
(/408)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والأزواج
المطهرة، ورضوان من الله أكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله،
ومستغفرون بالأسحار.
وصابرون على ماذا؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله، لأننا أول ما نسمع عن
التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة, والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حرية
العبد.
لقد خلقك الحق خلقا صالحا لأن تفعل كذا أو لا تفعل. فساعة يقول لك: افعل..فإنه قد
سد عليك باب " لا تفعل " وساعة يقول لك الحق: لا تفعل فإنه يكون قد سد
عليك باب " افعل " ، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة
الإختيار فيه مشقة، فإذا ما جاء أمر الله بـ " افعل " فقد يكون الفعل في
ذاته شاقا، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة " افعل " فأنت
صابر، لأنك صبرت على الطاعة..وقد تصبر عن المعصية، عندما يلح عليك شيء فيه غضب
الله فترفض أن ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.
إذن ففي " افعل " صبر على مشقتها، وفي " لا تفعل " صبر عنها،
فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لأن التكليف إما أن يكون بافعل، وإما أن يكون بلا
تفعل. فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة.. وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت
قد صبرت على المشقة.. وعندما يأتي التكليف بـ " لا تفعل " كأمر الحق
بعدم شرب الخمر، أو " لا تسرق " فأنت قد صبرت عنها.. إذن فـ " افعل
" ولا " تفعل " قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك أحداث
لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل
هي القهرية والقسرية.
فساعة أن يطلب منك أن تفعل، أي إنه قد خلقك صالحا ألا تفعل كما قلنا من قبل. إلاّ
إن كنت مجبرا على الفعل فقط. وكذلك إذا قال لك الحق: " لا تفعل ".
والشيء القدرى الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على
الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا، والرب هو الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد
الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه، كالمرض أو الكوارث
الطارئة، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة، فكل ذلك هي أمور لا دخل لـ
" افعل " ولا " تفعل " فيها.
وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو الإيمان بحكمة من أجراها عليك. لأن الذي
أجراها رب، وهو الذي خلقني فأنا صنعته.
وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا. فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه،
فالذي أجراه له فيه حكمة, فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب
الصابرين.
إذن فالصابرون أنواع هم: صابر على الطاعة ومشاقها، صابر على المعاصي ومغرياتها،
وصابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه. وإذا رأيت إنسانا قد
صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به، فاعرف حبه
لربه ورضاه عنه.
ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه: } الصَّابِرِينَ { } وَالصَّادِقِينَ {.
والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: يأتي حين توافق النسبة
الكلامية التي يتكلم بها الإنسان، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون.
فإن قلت: " حصل كذا وكذا " فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم، فإن وافقها الواقع
بأنه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا. وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما
أخبر به يكون المتكلم كاذبا. لماذا؟ لأن كلام المتكلم العاقل لا بد له من نسب
ثلاث:
الأولى وهي النسبة الذهنية: فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني، وذهني هو الذي
يعطي الإشارة للساني ليتكلم، هذه هي النسبة الأولى واسمها " نسبة الذهن
". وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم، فتكون النسبة
الذهنية قد وُجِدت، والنسبة الكلامية لم توجد.
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية. ونأتي بعد
النسبة الكلامية لنرى: هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد
وقع، يكون الكلام مني صدقا. وإن لن يكن قد وقع، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما
أخبرت به. فإننا نقول: " هذا كلام كذب " إذن: فالصدق: هو أن تطابق
النسبة الكلامية الواقع. والكذب: هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيرا ما
يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الأساليب.
مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال:{ إِذَا جَآءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }[المنافقون: 1] تلك
نسبة كلامية صدرت منهم، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة
للواقع. ويؤكد الحق ذلك بقوله:{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ
}[المنافقون: 1].
بعد ذلك يقول الحق سبحانة:{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1].
فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: } إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ {؟ لا. إن
الحق لم يكذبهم في قولهم: } إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ {؛ لأن الله قد أيد هذه
الحقيقة بقوله } وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ {.
ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: } نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ {. لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو أن محمدا
صلى الله عليه وسلم رسول من الله، إن الله يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة
للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم.
إن كلام المنافقين مردود من الله. لماذا؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب
ويوافقه. وقولهم: شهادة لا توافق قلوبهم وتعنى كذبهم.
إذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: } إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ { دون "
نشهد " لكان قولهم: قضية " سليمة ". ولذلك كان تكذيب الله
لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ {. إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق،
وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم: " نشهد
". فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والصدق - كما قلنا من قبل - حق،
والحق لا يتعدد، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه أن يروي واقعة
شهدها بعينيه، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبدا، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات
الشهادة. لكن إن كانت الواقعة كذبا، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه، فيروي الواقعة
بألوان متعددة لا اتساق فيها، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى،
وهكذا ينكشف سر الكذب. لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكى، وهو الذي لا
تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق.
فعندما نقول: " إن زيدا مجتهد " ، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولا،
ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن
اجتهاد زيد. إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولا، وبعد ذلك تأتي النسبة
الذهنية، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية.
ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا لا واقع له، كأن نقول
لواحد: اجتهد. إننا قبل أن نقول لإنسان ما: " اجتهد " فمعنى ذلك أن
الإجتهاد كان أمرا في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح " نسبة كلامية ".
وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبة الذهنية، والنسبة كلامية، وهذا هو الإنشاء.
إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية. والصادقون
هم الذين أراد الله أن يمدحهم، لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق
حركتهم مع منهج الله، لأنهم حين قالوا: " لا إله إلا الله " ، وآمنوا
به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة. ومعنى " لا إله إلا الله
" أي لا معبود إلا الله. ومعنى إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله.
والطاعة - كما نعرف - هي امتثال أمر، وامتثال نهي.
إذن فمجال " لا إله إلا الله " يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا
مُطاع في تكليفه إلا الله، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلا للأمر القادم من الله؛ فإن
امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله: " لا إله إلا الله " كان هذا
الإنسان صادقا في قوله: " لا إله إلا الله ".
وهذا هو صدق القمة، أن تكون كل تصرفات قائل: " لا إله إلا الله "
متطابقة مع هذا القول. والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله. هذا
هو الإنسان الصادق. أما الذي يقول بلسانه: " لا إله إلا الله، لا معبود بحق
إلا الله " ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا أن نقول له: أنت كاذب في قولك
" لا إله إلا الله " لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها. إن هذا
الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: أنت منافق، لماذا؟ لأننا
عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا: إن المؤمن حين يؤمن بالله
يكون صادقا مع نفسه؛ لأنه قال: " لا إله إلا الله " وهو مؤمن بها،
والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا.
أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء.
إن المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق:{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ
لاَ إِلَىا هَـاؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَـاؤُلاءِ }[النساء: 143].
إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: " لا إله إلا الله " لأنه لا
يعتقدها. أما المنافق فقد قال: " لا إله إلا الله " وهي غير مطابقة
لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه. إذن، فقول الحق: }
وَالصَّادِقِينَ { مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج
الله، فلا يؤمنون بقضية، ويفعلون أخرى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ
مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2-3].
أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل، لا تتطابق النسبة. فالصادقون هم
الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه
السلسة: " لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله " أي لا مطاع في أمر
أو نهي إلا الله، فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا
لك: أنت كاذب في قولك: " لا إله إلا الله ".
" فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين
يشربها وهو مؤمن ".
هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات
عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق: } وَالْقَانِتِينَ { والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة.
والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا، فقد
يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته.
وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر، فهم يثقون
في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله.
إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر. وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله
نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }[الأنفال:
29].
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان: إن الله قد أراد لي بهذا الأمر
أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر، لذلك قال أحد العارفين بالله:
إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه،
وحين تتقي الله في هذا الأمر، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك، ولذلك يقول الله:{
وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
}[البقرة: 282].
فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك، فتقبل على تنفيذ
التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك، وهذا هو الفارق بين الأمر من المساوى،
والأمر من الأعلى. وعندما ترتقي كلمة " الأعلى " ، فإنها لا تنطبق إلا
على الأعلى المطلق وهو الله، لأنه الأعلى في الحكمة، والأعلى في المنزلة، والأعلى
في المكانة، والأعلى في الربوبية.
إذن، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له، فإن قال لك أحد من البشر: افعل
الشيء الفلاني. فإنك تسأله: لماذا؟ فإن أقنعك، فأنت تقوم بالفعل. وتكون قد قمت
بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له.
ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى، فإنك أيها العبد المؤمن
تنفذ الأمر فورا عشقا في طاعته. والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله
الأعلى، وهو منزه عن كل شبيه، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية: إن نجحت في
المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدَّراجة. فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي
الحصول على الدراجة كهدية؟ لا، ليست هذه هي العلة، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم
الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العلة، ويقول لنفسه: لقد كان أبي على
حق.
إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من
الله؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفاً، فإن العبد قد يجد مشقة في
فهم العلة. والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى.
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن، ولا يساويه أحد،
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولا بأن الله هو الإله الواحد - سبحانه - له مطلق
الحكمة، وله القوة وله كل شيء في الكون، وسبق أن ضربت المثل - ولله المثل الأعلى.
إن الإنسان قد يمرض، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب إلى طبيب، ويقول
له: إنني أتعب من معدتي، أو من قلبي أو من أمعائي. إنه يحدد ما يشكو منه. وعقل
الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب
ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة. إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون
أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة
كيماوية، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض: لأن
الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعدة، أو القلب، أو الأمعاء أو
أي عضو يشكو منه الإنسان.
والطبيب قد يخطىء، إنما حكم الله لا يخطئ أبدا، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما.
إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك
آثار الحكمة الربانية في نفسه. وكلمة " قانتين " كما عرفنا هي وصف لمن
يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامة. لماذا الخضوع، والخشوع؟
لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛
إننا نرى كثيرا من الناس - إذا ما لا حظنا واقع الحياة - إذا وجدوا رئيسا قوى
الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد
المحدد، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل، فلا
يشربون الشاي، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء، وغير ذلك من الأعمال. ويأتي
واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس " إنه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي
إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق، ولن
أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه ". إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت
واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن
باستعلاء.
إنها طاعة بلا حب، ولكنها باستعلاء. وقد يحاول عبد أن يقول: ماذا يطلب الله مني؟
ألا يطلب منى الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك. لمثل هذا العبد نقول:
لا، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى
أجراها الله على العبد. إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية،
حتى يكون الإنسان سويا وله قيمة في الحياة.
إن معنى " قانت " هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع، وباطمئنان،
وباستدامة. لماذا؟ لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله
فلم يجد الله أهلا للود. أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة، لأنه ذاق
حلاوة استدامة العبادة لله، ومادام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع،
واطمئنان، واستدامة، ويدخل في دائرة القانتين.
وبعد " القانتين " يقول الله سبحانه: } وَالْمُنْفِقِينَ { وكلمة أنفق و
" نفق " ، مأخوذة من كلمة " نفق الحمار " أي مات، و "
ونفقت السوق " أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء. و "
نفقة " مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما
أنفقه من نفسه، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا، وعلى علان كذا، أي يعلم يقينا أن
ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ، ولا
إذلال.
إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج
من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد. " والنفقة " ، تقتضي وجود
منفق، ومنفقا عليه، ومنفقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ،
والمنفق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات.
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرك في
الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزا، ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين
يعيش، إن الله لا بد أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله.
لقد جعل الله القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا.
ومادامت القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر من الله بأن
ينفق على غير القادر، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة،
والقادر الآن من الأغيار، لذلك فهو عرضة لأن يصير غدا من العاجزين، ويقول القادر
لنفسه: " عندما أصبح عاجزا سوف أجد من يعطيني ". أليس ذلك هو التأمين
الحق؟ إنه تأمين المؤمن. إن المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتى يجنبه الله مشقة
السؤال إن جاءت الأغيار، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه.
إننا يجب أن نلحظ في الحكم، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم، ولكن ساعة أن
يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم. فالذي يطلب منه أن ينفق، عليه أن يقدر أنه قد يصبح
عاجرا، ولنا أن نسأله: لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟
إن هذا هو التأمين الحق، لأن التأمين في يد الله، ومادامت الأغيار عرضة لأن يصير
القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق
فلا يتذكر وجه من أنفق عليه، ولا يخبر أحدا بما أنفق.
عد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من
السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل
إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج
منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله
خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب
العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ، إما أن يأخذ إن
طرأت له الأغيار في الدنيا، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافا مضاعفة.
إذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين لا
يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين
بفضل ما لديهم، يظهرون حكمة الله في الوجود، لأن الله ما دام قد خلقنا، وفينا
القادر، وفينا العاجز، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق.
فإن قدرت الآن فقد تُسلب - بضم التاء - منك هذه القدرة، وما دامت القدرة يتم
سلبها، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما،
وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المسألة. لا.
إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء. ومادامت الأغيار تذهب وتجيء فلا بد أن يضع المؤمن
نصب عينيه عطاء القادر الأعلى.
وقلنا سابقا: إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا، والذين أعد الله
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك حتى يحمى الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة
في الوجود. إن الإنفاق ليس أخذا من العبد، إنما هو مناولة، هذه المناولة تتضح في
أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، إلا بحركتك في الحياة.
وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري، ومادة
يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها, أو آلة يتم الصنع بها، ولا شيء
للإنسان من هذا في الكون. إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقة التي تنفذ
هي عطاء من الله. ونحن نرى في الحياة إنسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر،
ونجد إنسانا آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة
التي يتفاعل معها.
إذن فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان، إنها كلها عطاء من الله. فليعمل المؤمن
مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله. إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه
إنما يريده الله لأخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب
الأغيار.
هكذا تكون } وَالْمُنْفِقِينَ { صفة من صفات الذين اتقوا ربهم. والحق سبحانه
وتعالى قد جعل في الصبر، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية. وفي الصدق
انسجاما مع واقع لا إله إلا الله، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر.
وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول: } وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالأَسْحَارِ { إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس
البشرية. البداية هي إقرارهم بالإيمان، ودعاؤهم الحق - سبحانه - أن يغفر لهم وقد
طلبوا الوقاية من عذاب النار، وصبروا، وصدقوا، وقنتوا في العبادة، وأنفقوا في سبيل
الله، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم
يأتون حال السكون بالليل، ويستغفرون الله.
إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد
فيما يفعله من أمور الطاعة. وكلمة } بِالأَسْحَارِ { توضح لنا لحظات من اليوم يكون
الإنسان فيها محل الكسل والراحة، إن الذي سوف يصحو في السحر لا بد أن يكون قد
اكتفى من الراحة، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار، ثم إن بعضهم يأخذه لهو
الحياة ليلا.
وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا. إن كد الحياة - إن أخذ - يأخذ نهارا، وبعد
ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا، مما نشاهده من لهو الحديث، ولهو السهرات، وبعد ذلك
يأتي الإنسان لينام متأخرا، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟ إن الذي
يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا،
ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس،
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته، وعندما يصحو إنسان
في السحر ويدعو الله، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة.
وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت، فمعنى هذا أنه سيأخذ
الكثير من رحمة الله. وإياك أن تقول: لو صحونا جميعا في الأسحار لنفدت الرحمة
والعطاء " لا " لأن الله قد قال:{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ
اللَّهِ بَاقٍ }[النحل: 96].
إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده. إن كل هذه الأشياء
من التقوى، والإقرار بالإيمان، وطلب المغفرة للذنوب، وطلب الوقاية من عذاب النار،
والصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار، كل ذلك
نتيجة للتقوى الأولى.
إنها الثمرة من " لا إله إلا الله ". وما دامت هذه هي الثمرة من "
لا إله إلا الله " فليعلم كل إنسان، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود،
بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله، وكفى بالله شهيدا. ولذلك يقول الحق:
} شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ... {.
(/409)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها: لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو،
أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه، وشاهده، أو ما يقوم مقام ذلك. إن " شهد "
بمعنى علم.
إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك
إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله.
ّإذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو. وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي
شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها. فعندما يقول
الحق:{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىا أَمْراً فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[البقرة: 117].
بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك من يعارض مبتغاه،
أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة أن يقول:
" كن " فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: " لا تكن ".
إن الحق لا بد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن
بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر، ويلقى الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه.
وأليس من مطلوبات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال في صلاته: " أشهد أن محمدا رسول الله ".
ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر
عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد
قالها فهي حق.
إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة. ونحن نرى في
التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صلى الله عليه وسلم. قرأت هذه
المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته
من الكافرين. وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحراس، وقال
لهم ما معناه: إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم.
وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة، فشغلتها هذه
المسألة، وتساءلت: ألم يكن هؤلاء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم:
" لا تحرسوني " لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غش الدنيا
كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه في حياته؟
وأجابت المرأة على نفسها: لا يمكن، لا بد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن
الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد
ليقتله؟ قالت المرأة: والله لو خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته، أشهد ألا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن، } شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ { هي شهادة الذات للذات،
وكفى بالله شهيدا. وشهدت الملائكة أيضا، والملائكة هم الغيب الخفي عنا، وتتلقى
الأوامر من الحق. إن الملائكة لم يروا أحدا آخر يعطي لهم الأوامر، إنه الإله
الواحد القادر. وهذه هي شهادة المشهد. ويضاف إلى الملائكة } وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ
{ الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله.
إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود، الله في القمة، ومحمد صلى الله
عليه وسلم، والملائكة وأولوا العلم. ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد
قرنهم بالملائكة.
إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة, والذي
يجلس، ويتفكر ويتدبر، ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو،
وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة. إن كانت " لا إله
إلا الله " صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله
هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم
يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق
الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو.
وتظل " لا إله إلا الله " لصاحبها - جل شأنه - " شهد الله أنه لا
إله إلا هو " وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد
يعطي علوا، وقد يعطي استكبارا.. لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي " لا
إله إلا هو " يخبرنا أنه قائم بالقسط. ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك
على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط.
ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء } شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ
هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ { لماذا لم
يقل الله إن " الملائكة " و " أولوا العلم " ، الذين شهدوا
أنه لا إله إلا هو " قائمين " بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو
قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية..
لماذا؟ لأن الله لو قال: " قائمين بالقسط " لكان الله مشهودا عليه من
هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل.
لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر، وأولوا
العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ
يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو
لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها
الحياة. لا، وهذه من عدالة الرحمن.
إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه
في صناعة الملبس والمأكل، والمشرب، جعل الله المهارات موزعة بين البشر.. فأتقنت
مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم، ويسد حاجة غيرهم، وكذلك
تبادلوا مع غيرهم المنافع، فالإنسان - بمفرد - لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه
ويغزله وينسجه؛ ليلبس، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم
يخبزه.
إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله
المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ
يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات. وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة
البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في
المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد، فما دام
واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا
يتبادل الناس المنافع رغما عنهم.
ولذلك نجد الكون متكاملا. ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم،
وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة
الحياة؟
إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة. وهذا قمة
العدل. وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام
بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين
نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة: نعم.
إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في صنعته
عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد، وجعل
الناس متكاتفين قهرا عنهم، لا تفضيلا منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما
يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان
تكون حاجته فيها أقل الحاجات، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول: " باب النجار
مخلع " ، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو،
بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا.
وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعا، وبذلك
تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد. وعندما سأل أحد الظرفاء: ولماذا يكون
باب النجار هو " المخلع "؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه: لأنه الباب الوحيد
الذي لن يأخذ النجار أجرا لإصلاحه، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة، فنجد
أطباء اخصائيين في ألوان من المرض، وصاروا أعلاما في مجالات تخصصاتهم، ويشاء الحق
سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم
بشيء، إنما أفاد الآخرين. ولننظر إلى الآية في مجملها: } شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ
لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً
بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { لقد استهلها الله
بقوله: } شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ { ثم قال بعد ذلك: } لاَ إِلَـاهَ
إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات
للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون
قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه، فخذوها مسلمة: " لا إله إلا هو ".
وما دام " لا إله إلا هو " فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن
اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره.
قال صلى الله عليه وسلم: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله,
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،
ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام،
وجفت الصحف ".
فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال. إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف
أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب. فإن
آمنت به وحده، فلك الفوز. وكلمة " وحده " قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند
الذي تستند إليه في القياس البشرى، فيقال: " أنا لاجئ إلى فلان وحده "
وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء
إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق. إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد
كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة " وحده " هنا تغنيك وتكفيك عن الكل.
اعمل لوجه واحد. يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره.
وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره, وهو صاحب كل
الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه الله سبحانه
وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه،
وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ، وما دام الشيء موضوعا في
مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه
مأخوذة من " الحَكمة " التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها "
اللجام " وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من
الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه
الصحيح.
إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا، وما دام الله قد
شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه
الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم
إليه، وأن ينقاد له. وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له شريك
ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس
له شريك في التشريع.
إذن.. فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم
وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على
الله، لكن الله سبحانه عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها
وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر
فأنا قائم بالقسط.
والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا، إن الحق يقول عن نفسه: "
قائما بالقسط " وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول، وهذا الخلق
إنما قام على العدل والقسط. وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط. والعدل
والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة
القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في
الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا، فلم يجعل أمر
الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق
بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على
حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات،
وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات.
إذن.. فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل
شيء، بل جبرنا بأنه - سبحانه - لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات
التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا
المطر. كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل
أن تكون له قدرة. هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة
التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه
الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم.
لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلا، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة
على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان - وهو سبحانه الإله القادر -
تحرك التنفس إلى أن توجد له إرادة. ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم
بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من
الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم. فماذا يصنع
الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟
لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس - على سبيل المثال - بيده هو
سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو
اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره.
إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا، ولم يمنع تخييرا. وذلك هو العدل المطلق. لقد
احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان،
فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت
فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا - الحق - أريدها لك،
وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك
جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي. ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت
ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل. وإن شئت
أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل. وهذا مطلق العدل.
ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله: } قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ { مشتملا على
التكليف أيضا، أي إن عدالته في التكليف مطلقة. فأناس يقولون: " لا إله "
وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين. هو إله موجود يا من
تقول: " لا إله ". وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره. وهذا قيام
بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام. ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من
العبد طلبا باتا، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد
فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء،
ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار.
لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة
على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان - وهو الإله القادر - تحرك في
الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق
عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج.
لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه
هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك. وهكذا نجده سبحانه
قد عدل في هذا الأمر.
إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط.. نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف
نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط، فما الذي يمنعك أيها
الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ
الإِسْلاَمُ... {.
(/410)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
بعد أن قال لنا: إنه إله واحد، وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه - سبحانه -
إلها واحدا فكأن قوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } هو نتيجة
لقوله: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ }. لماذا؟ لأنه لا تسليم لأحد إلا
الله، وما دام الله إلها واحدا، فلا إله غيره يشاركه، يقول الحق:{ مَا اتَّخَذَ
اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـاهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ
إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ
عَمَّا يَصِفُونَ }[المؤمنون: 91].
وما دام قد ثبت أنه هو الإله الواحد، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده
منك؟ إذن فقول الحق بعد ذلك: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } هو أمر
منطقي جدا يجب أن ينتهي إليه العاقل، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالى فأرسل لنا
رسلا لينبهونا إلى القضية السببية، والمسببية، والمقدمة والنتيجة { إِنَّ الدِّينَ
عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } وإذا سألنا: ما هو الدين؟ تكون الإجابة: إن الدين
كلمة لها إطلاقات متعددة فهي من " دان " تقول: دنت لفلان: رجعت له
وأسلمت نفسي له، وائتمرت بأمره. ويُطلق الدين أيضا على الجزاء، فالحق يقول عن يوم
الجزاء: " يوم الدين " وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية، وعلى أن
الإنسان المؤمن قد دان لأمر الله، فكلها تلتقي في قول الحق: { إِنَّ الدِّينَ
عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها الناس، ولكنها
ليست أديانا عند الله؛ ألم يقل الحق:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }[الكافرون:
6].
إن معنى ذلك أن هناك دينا لغير الله فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لأوامر، ولكن
ليس دينا لله، ولا دينا عند الله. إن الدين المعترف به عند الله هو الإسلام.
والدين يطلق مرة على الملة ومرة أخرى على الشريعة، فإن أراد المؤمن الأحكام
المطلوبة فلك أن تسميها شريعة، وإن أراد المؤمن الطاعة، والخضوع، وما يترتب عليهما
من الجزاء فليسمها المؤمن الدين، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها الملة.
إذن فقوله سبحانه: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } تعني أنه لا دين
عند الله إلا الإسلام، وكلمة " الإسلام " مأخوذة من مادة " سين
" و " لام " و " ميم ". و " السين " و "
اللام " و " الميم " لها معنى يدور في كل اشتقاقاتها، وينتهي عند
السلامة من الفساد. وينتهي المعنى أيضا إلى الصلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان
وربه، وبين الإنسان والكون، وبين الإنسان وإخوانه، إنه صلاح وعدم فساد، كل مادة
السين واللام والميم تدل على ذلك، وما دامت المادة المكونة منها كلمة " إسلام
" تدل على ذلك فلماذا لا نتبعها؟.
لقد قلنا سابقا: إن الإنسان لا يخضع لمثيله إلا إذا اقتنع بما يقول، إن الإنسان
يقول لمساويه الذي يأمره: لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك لا بد أن تقنعني
بالحكمة من ذلك الأمر، لكن عندما يؤمن الإنسان بإله واحد قائم بالقسط، ويصدر من
هذا الإله أمر،فعلى الإنسان الطاعة.
إذن.. فالإسلام معناه الخضوع، والاستسلام بعزة وفهم، وعزة وتعقل؛ لأن هناك عبودية
تَعَقّل عندما يقف الإنسان عند المعنى السطحي، وهناك عزة تعقل عندما يقف الإنسان
عند المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يده أو من خلفه، إن هذا هو عزة العقل فلا
يستهويه أي شيء سوى الخضوع للأمر الثابت الذي لا يتناقض أبدا.
فما دام الله إلها واحدا قائما بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه،
فهذه عزة في الفهم وعزة في التعقل، وعزة في العبودية أيضا، لأنني أعبد الله الذي
هو فوق كل المخلوقات والكائنات، ولا أعبد مساويا لي، وإن الذي يعبد مساويا له لا
يملك إلا إنفة وحميّة الذليل، وما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع
لغير مساو، و " أسلم " أي دخل في السلم، أي دخل في الصلح، وعدم التناقض،
وفي الأمان والراحة، أي خلص نفسه من كل شيء إلا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق:{
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً
سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر: 29].
كأن الله يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لأمر سيد واحد، وبين الخاضع لِسَادَةٍ
كثيرين. وضرب الله لنا المثل بالأمر المشهور عندنا، فقال ما معناه: هب أن عبداً له
من السادة عشرة، وكل سيّد له منه طلب، فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد آخر له سيد
واحد، هذا العبد يكون مستريحا لأنّ له سيدا واحدا، بينما الآخر المملوك لعشرة
تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة.
إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لأن الشركاء غير متفقين، إنهم شركاء متشاكسون،
فإذا رآه سيده يفعل أمرا لسيد آخر، أمره بالعكس، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر
تعبه، ولكن الرجل السلم لرجل، هو مستريح، وكذلك التوحيد، لقد جاء الحق سبحانه بمثل
من واقعنا ليقرب لنا حلاوة التوحيد. إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد الله لأنه
خاضع لإله واحد. إذن فما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم
بكسر السين - أو الدخول في السلم - بفتح السين - يقول الحق:{ وَإِن جَنَحُواْ
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ }[الأنفال: 61].
هذا الخضوع ليس لمساو، بل لأعلى. والأعلى الذي نخضع له هو الذي خلق، وهو الأعلى
الذي أمدنا بقيوميته بكل شيء.
إذن فإذا أسلم الإنسان، فإن هذا الإسلام له ثمن هو المثوبة من الله. إن من مصلحة
الإنسان أن يسلم. } إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ { وما دام الدين
المعترف به عند الله هو الإسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والإسلام هو دين
الرسل جميعا، وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد قال:{ رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
}[البقرة: 128].
ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم له:{ أَمْ كُنتُمْ
شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ
مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـاهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
}[البقرة: 133].
ويقول - جل شأنه -:{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
}[الأنعام: 161-163].
إذن فالإسلام دين شائع، والمسلمون كلمة شائعة في الأديان، وبذلك لا يقف الإسلام
عند رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقط، إنما الإسلام خضوع من مخلوق لإله
في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات، إلاّ أن الإسلام بالنسبة لهذه الرسالات كان
وصفا، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لأمم
الرسل السابقة، وصار الإسلام - أيضا - علما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن
رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضمنت منتهى ما يوجد من إسلام في الأرض، فلم
يعد هناك مزيد عليها، وانفردت أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صار الإسلام
علما عليها.
إذن فالإسلام في الأمم السابقة كان وصفا، وأما بالنسبة لرسالة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقد صار علما لأنه لم يأت بعدها دين، فإسلامها إسلام عالمي، ولذلك فنحن
بهذا الدين نقول: " نحن مسلمون " أما أصحاب الديانات الأخرى فهم أيضا
مسلمون لكن بالوصف فقط. نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين
فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام مراد ربه:{
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ
فَنِعْمَ الْمَوْلَىا وَنِعْمَ النَّصِيرُ }[الحج: 78].
لقد صار الإسلام اسما لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا يُطلق هذا الوصف
اسما إلا على من بالغ في التسليم.
كيف؟ نحن نعلم أن لفظ الجلالة " الله " علم لواجب الوجود، ونعلم أن
" حي " صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. ولكن صارت كلمة " حي
" اسما من أسماء الله؛ لأن الله حي حياة كاملة أزلية. إذن لا تكون الصفة اسما
إلا إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والإطلاق. وعلى هذا القياس يكون الرسل السابقون
على محمد صلى الله عليه وسلم، والأمم السابقة على أمة الإسلام، كانوا مسلمين،
وكانوا أمما مسلمة بالوصف، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بالإسلام وصفا
وعَلَما، فصار الأمر بالنسبة إليها اسما، ونظرا لأنه لن يأتي شيء بعدها، لذلك صار
إسلام أمة رسول الله " علما ". ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلام بهذا
الأمر: } مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ {
[الحج: 78] إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل } هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ { ولم يقل الحق: " هو وصفكم بالمسلمين ". لا، إنما قال:
} هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ { ، لأن الأمم السابقة موصوفة بالإسلام وأما أمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مسماة بالإسلام. وتجد من إعجازات التسمية، أننا
نجد لأتباع الأديان الأخرى أسماء أخرى غير الإسلام، فاليهود يسمون أنفسهم باليهود
نسبة لـ " يوها ". ويقولون عن أنفسهم: " موسويون " نسبة إلى
موسى عليه السلام. والمسيحيون يسمون أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم.
ولم نقل نحن أمة رسول الله عن أنفسنا: " إننا محمديون " لقد قلنا عن
أنفسنا: " نحن مسلمون ". ولم يأت على لسان أحد قط إلا هذه التسمية لأمة
محمد صلى الله عليه وسلم، وصار اسم الإسلام لنا شرفا. إذن، فقول الله الحق: }
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ { يعني أنه، إن جاز أن يكون لرسول أو
لأتباع رسول وصف الإسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الأمم السابقة فنزيده
نحن بالتسليم، وبزيادتنا - نحن المسلمين - بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن
أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صار الإسلام لا يُطلق إلا علينا.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم
العلم. ولماذا اختلفوا؟ جاءت الإجابة من الحق. الأعلى: } بَغْياً بَيْنَهُمْ {
وكلمة الاختلاف هذه توحي أن هناك شيئا متفقا عليه، وما دام الإسلام هو خضوعا لمنهج
الله. لأنه إله واحد وقائم بالقسط، فمن أين يوجد الاختلاف؟ وما الذي زاد حتى يوجد
اختلاف؟ أبرز إلهٌ آخر يناقض الله في ملكه؟ لا لم يحدث. وما دام الإله واحدا، وما
دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
إن الحق يوضح لنا أن الاختلاف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم
وتلك هي النكاية، وذلك هو الشر، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم
لقلنا: " إنهم معذورون في الاختلاف ".
ولكن أن يحدث الاختلاف من بعد أن جاء العلم من الإله الواحد القائم بالقسط فلنا أن
نقول لهم: ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟ إن الذي جَدَّ هو من عالم الأغيار، وما دام
الجديد قد جاء إليهم من عالم الأغيار، فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل، ونريد أن
نعرف أولا معنى الاختلاف، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه
نفس أخرى.
ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم أن الإله واحد، وهو قائم بالقسط؟ لا بد لنا أن نستنتج
أن شيئا جديدا قد نبت، ما هو هذا الشيء؟ إنه الهوى المختلف، وحينما يقال: "
اختلفوا " فنحن نعلم أن جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر.
وقد نستنتج أن طرفا قد ذهب إلى حق، وأن الطرف الآخر قد ذهب إلى باطل، أو أنهم
جميعا قد ذهبوا إلى باطل. والذهاب إلى الباطل قد يختلف؛ لأن كل باطل له لون مختلف.
هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: أنا أنزلت الأديان، ومن رحمتي بخلقي تركت
بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ عليهم أناس يختلفون معهم. وتجد
المثال لذلك في اليهود، عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد اختلفوا،
وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم، بينما الآخرون لم يسلموا، ومن أسلم
هم الذين كانوا على الحق، ومن رحمة الله تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول
الله أن يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا الإيمان، بينما
أصر البعض الآخر على كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على الإنكار. إن الذين أسلموا
هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر:إن الذي جعل الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة
جيلاوإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن.
ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة، وأنصفهم الله:{ لَيْسُواْ
سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ }[آل عمران: 113-114].
لقد أنصفهم الله حق الإنصاف، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد
اهتدوا إلى الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: } أُوتُواْ الْكِتَابَ { هذا القول
يقتضي أن نقف عند " أُوتُواْ " أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى.
إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن
أن يختلفوا فيه أو حوله، وبناء " أُوتُواْ " للمفعول يجعلنا نسأل: من
الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف
فيه.
وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف. يقول الحق:{ وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء: 82].
وكأن الله بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر، فلا بد أن تحدث
فيه خلافات. إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف
أبدا. لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت - بضم الواو
وكسر الجيم - أشياء زائدة عن ذلك، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون:
إنهم منسوبون إلى الله.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من
إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة. أي إنكم أيها الأتباع لا
تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون
أحدا من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم
يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة
والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج
الحق دائما قد أخذه الرسل من الله.
وحين يقول الحق: " الكتاب " فلنا أن نعرف أن كلمة " الكتاب "
قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة
" قرآنا " لأنه يقرأ، ويسميه الحق أيضا " الكتاب " وذلك دليل
على أنه يُكتب، وحين نقول: إن القرآن من " القراءة " فهذا يعني أن نبرز
ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه
بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب.
وعندما يقول الحق " من أهل الكتاب " ، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو
منهج مكتوب، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، إنه منهج مكتوب، هكذا
حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن، إنه مكتوب، فإن لعبت أهواء النفوس كما
لعبت، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه. ولنا أن ننتقل الآن إلى المعرفة "
العلم ": ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود
تستطيع أن تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا
يستطيع أحد أن يدلل عليه.
مثال ذلك: نحن نقول: " الأرض كروية " إن كروية الأرض هي نسبة حدثت،
ونقولها ونحن جازمون بها. والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم: " إن الأرض
مسطحة " ، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك, ولكن الذين
أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل. وفي العصر الحديث صارت
كروية الأرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف أنه "
ليس مع العين أين " إن الكروية بالنسبة للأرض، هي نسبة، نقولها ونجزم بها، والواقع
أنها كذلك، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل.
هذا هو العلم المستوفى، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة
ويسمونها " علما " كقولهم: إن الإنسان أصله قرد، لا، إن أحدا لا يستطيع
الجزم بذلك، وتلك قضية ليست من العلم، إن كلمة " علم " تُطلق على القضية
المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود، ونستطيع أن ندلل عليها، وإذا كانت القضية
مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها، فماذا تسمي هذه
القضية؟ هذا ما يطلق عليه " تقليد " تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن
ينضج عقله فيقول: " لا إله إلا الله، الله واحد ". ومثلما يأخذ التلميذ
عن أستاذه القضية العلمية، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها، فهذا نطلق عليه
" تقليدا " ، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث
بحثا آخر لتقيم الدليل.
إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها، وواقعة، ولا يوجد عليها دليل. وهكذا نعرف أن
" العلم " يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل، لكن إذا ما كانت
هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل. إن
الجهل لا يعني عدم علم الإنسان، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة
للواقع ومناقضة له. أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح،
فالجاهل أمره يختلف، إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه
الحكم الصحيح، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من
أمرين، إخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه.
ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي
يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج إلى أن
يعرف. وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم،
مساوية للجزم؟ هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم
فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم.
إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي: أولا: علم. ثانيا: تقليد. ثالثا: جهل. رابعا:
شك. خامسا: ظن. سادسا: وهم. والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا. ولذلك نجد
أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم
من العلم. ولم يقل الحق: إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن، أو الجهل أو
الشك، إنما قال الحق: إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم.
وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد، فالمسألة القادمة منه
وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن، ففيم الاختلاف؟ لا بد أن أمراً ما قد جدّ.
والذي يجد إنما هو قادم من الأغيار، وهي الأهواء، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر
بقوله " بَغْياً بَيْنَهُمْ ". ما البغي؟ البغي هو طلب الاستعلاء بغير
حق. إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في
الكون. وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو
غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية، إن
العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما، فإن العالم يحكم على نفسه
بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا
نافعة، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي
بذلوه، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم.
إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما على الجهد. ولكن
أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي. لقد أثبت الله لنا في هذه
الآية، أن كل خلاف بين رجال الدين، أو بين دين ودين، إنما مرجعه إلى نشوء البغي،
ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق. ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق
هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم، وتخالف ما أنزله الحق.
إن الواحد من هؤلاء يدعى لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله
الله، ويدعى أنه يأخذ الدين بروح العصر، ويدعى لنفسه عدم الجمود، ويذهب إلى حد
اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان
هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد، أو
بين دين ودين، منبعه قول الحق: } بَغْياً بَيْنَهُمْ {. وهذا يعني اتباع البعض
للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله.
لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل الله حكما محكما لا رأى فيه لأحد، ولا
يستطيع أحد أن ينقضه، وإما أن ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد.
ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد، إنما جعل الأحكام على لونين، وذلك حتى
يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمة، فيأتي بقضية ويبحثها
ويرجع سببا على سبب. وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله، إنها رحمة من الله حتى
لايجمد العقل الإنساني.
إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في
هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن: } بَغْياً بَيْنَهُمْ { فمن البغي يهب الهوى
الذي تنشأ منه الأعاصير، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي
لنفسه أنه أرقى في الفكر، أو يستعلى عند من يملكون له أمرا، أو يستعلي عندما يوافق
حاكما في رأي من الآراء، ويبرر للحاكم حكما من الأحكام.
إن كلمة } بَغْياً بَيْنَهُمْ { يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله،
والتي نراها في الكون، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد الأمراض
النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك
بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة
فيقول لنا صلى الله عليه وسلم: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك
وكرهت أن يطلع عليه الناس " ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في
الحديث التالي: فيقول صلى الله عليه وسلم: " البر ما سكنت إليه النفس واطمأن
إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون
".
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن
يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم
الله وبالأحكام؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا. فقد يصبح
أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة
الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب.
وهنا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون
بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين
بغيا بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من
الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة
" يستفتونك " أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم
الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صلى
الله عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع
لكل فتوى.
ويقول الحق: } وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ {. إذن فمن هو الذي يكفر بآيات
الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم،
أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك " كفرا " والمراد منه هنا
التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية
بقوله: } فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {. فإياك أن تستطيل أمر الجزاء
وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر
البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه
يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في
الدنيا، وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا
الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة.
وقد يقول قائل: إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة، والعلامات الصغرى
للقيامة نحن في مراحلها، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر. لمثل هذا
القائل نقول: هناك فرق بين الحدث في ذاته، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث. هناك
فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعا، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة
ليست في حسبانه، فقد يفتى الإنسان فتوى اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة
إلى سريع الحساب، فإن استبطأ إنسان الحساب، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له
أسرع من مسائل الدنيا, لأن الإنسان لا يملك القدرة على أن ينقل إليه من يريد في أي
وقت. وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا، وكلمة
" حساب " كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن
كفر به أو عصاه، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه، ويقول الحق من بعد ذلك: }
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ... {.
(/411)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } هذا هو القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقى منهجه على
الرسول الخاتم، ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه، لقد جابه الرسول صلى الله عليه وسلم
ثلاثة معسكرات. المعسكر الأول: هم مشركو قريش، وكان كفرهم في القمة. والمعسكر
الثاني: هو معسكر اليهود والنصارى ويجمعهم معا لأنهم أهل كتاب. والمعسكر الثالث:
هو معسكر المنافقين. والمحاجّة قد أتت من المعسكر الثاني، لأن كفار قريش لم يدعوا
أن عندهم دينا قد نزل من السماء، أما أهل الكتاب فهم يدعون أن عندهم دينا منزلا من
السماء، وعندما يناطح الشرك دينا فهذا أمر معقول، أما أن يناطح أهل دين نزل من
السماء رسولا جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف عنده.
ومعنى { فَإنْ حَآجُّوكَ } أي أنهم يحاججون الرسول صلى الله عليه وسلم وتم إدغام
الحرفين المتشابهين وهما حرفا " الجيم " حتى لا تصبح ثقيلة على اللسان.
ومعنى المحاجة: أن يدلي كل واحد من الخصمين بحجته. وهذا يعني النقاش، وما دام هناك
نقاش بين حق وبين باطل، فإن الله لا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يقول له:
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } أي إن ناقشوك في أمر الإسلام الذي جئت به كدين خاتم مناقض
لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب بتغييره من مراد الله فقل يا محمد:
{ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } وقد قلنا من قبل: إننا عندما نسمع قول الحق {
فَقُلْ } كان من الجائز أن يكتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقول القول,
وضربنا مثلا على ذلك، حين يقول الأب لابنه: اذهب إلى عمك وقل له: كذا وكذا. وساعة
أن يذهب الابن إلى العم فيقول له: الأمر كذا، وكذا. إن الابن لا يقول لعمه: قل
لعمك كذا وكذا.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه
لأن النص واضح. { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } فهل هذا رد
بالحجة؟ نعم هذا هو الرد، لأن أهل الكتاب وكفار قريش يأتي فيهم القول:{ وَلَئِن
سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }[الزخرف: 9].
ويأتي فيهم القول الحكيم:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ }[الزخرف: 87].
والكون كما نعرف " مكان " و " مكين " فالمكان: هو السماء
والأرض. والمكين وهو الإنسان. والمكان مخلوق لله، والمكين مخلوق لله. وكان من
المنطق أن نسلم وجهنا لمن خلق.
إذن فقول الحق: { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي انتبهوا أيها الناس،
إنني لم أخرج عن دائرة الإيمان بالإله الواحد، والذي تؤمنون به. إنه هو الذي خلق
وهو الذي أوجد الكون.
وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله
مظهر الخضوع. لأن الوجه هو السمة العالية المميزة، وهو الذي يظهر عليه انفعالات
الأحداث في الكون من سرور أو حزن، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره
للسجود، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة.
وقول الحق: } أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ {. تعني أن الوجه المسلم لله وهو أشرف
شيء في الإنسان قد خضع للحق، وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لأشرف
شيء في الإنسان وهو الوجه، والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها، فعندما يقول
إنسان: } أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ { فهو يعني " أسلمت ذاتي " بكل ما أوتيت
الذات من جوارح ومن أعضاء.ولنقرأ قول الحق سبحانه:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[القصص: 88].
أي كل شيء هالك إلا ذاته سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود بـ } إلا وجهه { وإلا إن
أخذنا الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل: أليس لله يد مثلا؟ ونقول إن له يدا
في نطاق ليس كمثله شيء، ولذلك فلا يد الله تهلك ولا أي شيء فيه يهلك، ووجهه يعْني
ذاته في نطاق ليس كمثله شيء. وأطلق الوجه على الذات، لأن الوجه هو المشخص للذات،
فلا يستطيع أحد أن يميز أعضاء بدن عن أعضاء بدن، إنما التمييز يأتي بسمة الوجه،
لأنها السمة المميزة، وقول الحق في تلقينه لرسول الله: } فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ {. تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه لله؛ لأن
الله خاطبه بوساطة الوحي، والوحي يباشره صلى الله عليه وسلم، ولكن حين يقول: }
وَمَنِ اتَّبَعَنِ { فقد قام الليل لمن اتبعني، وإن لم يكن مخاطبا من الله مباشرة.
إذن فلا مجال لأن يقول قائل للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت أسلمت وجهك لله لأنه
خاطبك وحدك، وكأن صاحب هذا القول يريد خطابا لكل مؤمن، قال سبحانه: } وَمَنِ
اتَّبَعَنِ { فمن اتبع الرسول فقد آمن بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول صدق
مبلغ عن الله منهج حق، فلا مجال لطلب البلاغ لكل فرد؛ لأن البلاغ قد وصل إليهم
بالإيمان بما أنزله الله على رسوله الكريم ويأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه
وسلم } وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ {.
وساعة تقرأ أو تسمع أسلوبا فيه " همزة الاستفهام " فلك أن تعرف أن
الاستفهام يطلب منه أن تُعرف الحقيقة، كقول إنسان لآخر: أعندك محمد؟ أو أزارك
فلان؟ إن هذا استفهام المراد به فهم الحقيقة، ومرة يريد الاستفهام مجرد الأمر
بشيء، كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك والدك فيقول لك: أصنعت قهوة لضيفك؟ إن
ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك أن تسرع في القيام بهذا الواجب.
وعلى ذلك نفهم قول الحق: } أَأَسْلَمْتُمْ { ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد
الكلام عن الخمر:{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن
ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }[المائدة: 91].
إن قول الحق: } فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ { يتضمن استفهاما، والاستفهام هنا
يعني الأمر بالانتهاء. وفي مجال الآية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق: }
أَأَسْلَمْتُمْ { تعني الدعوة للإسلام، أي " أسلموا " وجاء بعد ذلك قول
الحق الكريم: } فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ { ومعنى " اهتدوا
" أنهم عرفوا الطريق الموصل للغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان. وهنا يجب
أن نعلم أن كلمة " الإسلام " هنا جاءت لتدل على الخضوع, و الخضوع لا
يلمح إلا من خاضع، وعملية الخضوع تعرف بالحركة والسلوك، ولا تعرف فقط بالاعتقاد،
ولذلك فالإمام علي كرم الله وجهه الذي أوتي شيئا من نفح النبوة في الأداء الإيماني
بالأسلوب البياني الجميل قال الإمام عليّ لإخوانه: سأنسب الإسلام نسبا لم ينسبه
قبلى أحد: الإسلام هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار, والإقرار
هو الأداء، والأداء هو العمل، والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل. ونحن في حياتنا
العادية نسأل: ما نسب فلان؟
أي أننا نسأل " هو ابن مَن "؟ ومعنى كلمة " نسابة " عند العرب
هو الرجل الذي يعرف سلسلة النسب، ومَن ابن مَن، ففلان ابن فلان ابن فلان، ابن
فلان. والإمام عليّ كرم الله وجهه، حين ينسب الإسلام ينسبه بالفعل إلى نسب لم
ينسبه قبله أحد. وحين ينتهي الإمام عليّ كرم الله وجهه إلى أن نسب الإسلام إلى
العمل
قال:
المؤمن يعرف إيمانه بالعمل، فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله. ويضيف
الإمام عليّ كرم الله وجهه: والكافر يُعرف كفره بالإنكار، وإن المؤمن قد أخذ دينه
من ربه، ولم يأخذه برأيه. والسيئة في الإسلام خير من الحسنة في غيره؛ لأن السيئة
في الإسلام تغفر، والحسنة في غيره لا تُقبل؛ لأن الكفر يصاحبها بالله, هل هناك نسب
للإسلام أروع من هذا؟ وهكذا نجد القول الكريم: } فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ
اهْتَدَواْ {. والمقابل للإسلام يأتي بعد ذلك: } وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاَغُ { إن المقابل هو " تولوا " أي لم يسلموا، إنه الحق
ينبه رسوله ألا يحزن, وألا يأسف إن تولوا, كما جاء في قوله الكريم:{ فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ
أَسَفاً }[الكهف: 6].
لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ فقط، وما دام قد جاء في صدر
الآية: } أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ { فإن البلاغ أيضا يشمل
النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية
الإيمانية، ولتبقى الرسالة في أمته صلى الله عليه وسلم، ولتخبرنا أيضا لماذا لم
يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمناء على أن يعدلوا
فساد السلوك في الكون، فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد، ولهذا السبب قال
الرسول: صلى الله عليه وسلم:
" العلماء ورثة الأنبياء ".
إذن } فعليك البلاغ { نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن
به، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى:{ كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ
خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }[آل
عمران: 110].
ويقول الحق في آية أخرى:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ... }[الحج: 78]
ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة، وميراث
النبوة كما يكون شرف تبليغ، فهو أيضا تجلّد وتحمل، إن ميراث النبوة يكون مرة هو
نيل شرف التبليغ لرسالةً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى يكون ميراث
النبوة هو جلادة التحمل، في سبيل أداء الرسالة، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف
بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكلما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة
فإننا نرثه في جلادة التحمل، وهذا هو معنى القول الحق:{ لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ }[الحج: 78].
فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه ما دام
قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته، فعلينا ايضا أن نقتدي به. لقد ناضل رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة،
فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله
فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة. ولذلك إذا رأيت عالما من علماء
الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء.
لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أعداء وكان يواجههم، فساعة أن ترى
رجل دين وله أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث الأنبياء ولننظر الآن إلى قول
الحق سبحانه تذييلا للآية يوضح لنا ما الإسلام: } وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
{ لم يقل الله: إنه عليم بالعباد، لأن " عليم " تكون للأمور العقدية، لقد
قال الحق في وصف ذاته هنا: " إنه بصير بالعباد " ، والبصر لايأتي إلا
ليدرك حركة وسلوكا.
فماذا يرى الله من العباد؟ إنه - سبحانه - يرى العباد المتحركين في الكون، وهل
حركة العبد منهم تطابق الإسلام أولا؟ ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج
إلى البصر، ولا تحتاج إلى العلم، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم تعتقدون
أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون
الناظرين إليكم؟
إذن فقول الحق: } وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ { نفهم منها أن الإسلام سلوك لا
اعتقاد فقط، لأن الذي يُرى هو الفعل لا المعتقدات الداخلية. ومادام الله بصيرا بكل
سكنات الإنسان وحركاته فإن الإنسان يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب، وأضرب هذا
المثل للتقريب لا للتشبيه فالحق سبحانه له المثل الأعلى وليس كمثله شيء، ونحن في
حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن يظهر أمام كبار عائلته كمدخن،
فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار، فما بالنا بالعبد وهو يعتقد أن الله
يراه؟ وبعد ذلك يقول الحق: } إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ... {.
(/412)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
وقلنا إن الحق حين يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } هم
الذين يكفرون بآيات الله على إطلاقها، وهناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر
بالله. لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات
الدالة على وجود الله موجودة في الكون.
إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على
وجود الخالق. إن الحق لم يقل هنا: إن الذين يكفرون بالله، وذلك حتى يوضح لنا أنّ
الحق غيب، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون، لذلك قال: { إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّين }. ولنا أن نلاحظ هنا،
أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة
النبي، وهو الرسول، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله، فيُقدر
الله خلقه على أن يقتلوا الرسول. ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية
للمؤمنين، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا
لمنهج من الله. وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ
منهجه، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول.
إن الخلق لا يقدرون على رسول أرسله الله، لكنهم قد يقدرون على الأنبياء، وكل واحد
من الأنبياء هو أسوة سلوكية، ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق
عليه، فلماذا يقتل الخلق الأسوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلاء قد جاء ليكون مجرد
أسوة، ولم يأت بدين جديد؟ فلو كان النبي من هؤلاء قد جاء بدين جديد، لقلنا: إن
التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه، لكن النبيّ أسوة في السلوك،
فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلاء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم يتنبهون إلى أن
السلوك الذي يفعله النبيّ لا يأتي وفق أهوائهم.
إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين لا يوافقون على أن يسلكوا السلوك
الإسلامي الذي يعني إخضاع الجوارح، والحركة لمنطق الدين ولمنطق الإسلام، لماذا؟
لأن النبيّ وهو ملتزم بشرع الرسول السابق عليه، حينما يلتزم بدين الله بين جماعة
من غير الملتزمين يكون سلوكه قد طعن غير الملتزمين.
إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله، ويخضع جوارحه، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة
تدّعي أنها تدين الله، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا: لماذا
يفعل النبي هذا السلوك القويم، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان، ونحن غير
ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير
الملتزمة بدين الله، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين.
إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا
ليكونوا مثله.
إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد
إعلان الإيمان بمنهج الله، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله، وتكون أسوة النبيّ
مُحقرة لفعلهم. ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه، فإننا نجد غير
الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ
والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله، ويسأل غير الملتزم نفسه:
لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على
ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه. لماذا؟ لأن غير
الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله،
وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله
فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول
غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون
ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله، كما يقول الحق سبحانه وتعالى:{ إِنَّ
الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا
مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ
انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ
لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ }[المطففين: 29-33].
ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا
للملتزمين بمنهج الله؟ ألا نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج الله: "
خذنا على جناحك "؟ إن هؤلاء غير الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق:{ وَإِذَا
مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ
انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ
لَضَالُّونَ }[المطففين: 30-32].
إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله.
وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال. والحق سبحانه وتعالى
يرد على هذا الاتهام بالقول الكريم:{ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ
}[المطففين: 33].
الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج الله، فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من
الكفار، ويتساءل الحق بجلال قدرته وتمام جبروته:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 34-36].
هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم، فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا
أن نسأل: لماذا وصف الله قتل النبيين بأنه " بغير حق " ، وهل هناك قتل
لنبيّ بحق؟ لا يمكن أن يكون هناك قتل لنبي بحق، وإذا كان الله قد قال: }
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ { هذا القول الكريم قد أتى ليوضح
واقعا، إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير
حق: } وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ { إنهم لم
يكتفوا بقتل النبيين، بل يقتلون أيضا من يدافع من المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟
لأنه ساعة يُقتل نبيّ، فالذين التزموا بمنهج النبيّ، وكانوا معه لابد لهم أن
يغضبوا ويحزنوا.
إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن
لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن
المنكر، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر
لتصرفهم: ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا، وبالنسبة لرسولنا محمد صلى
الله عليه وسلم، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله، وذلك
يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال.
لماذا؟ لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن نبيا فقط، ولكنه
رسول أيضا. وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد، فلو كان محمد صلى الله
عليه وسلم نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل، لكنه
رسول من عند الله، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا، وهذا المنهج يسفه أحلامهم، ويوضح
أكاذيبهم، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم.
إذن، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا يحمل رسالة ومنهجا، وحينما أرادوا أن
يقتلوه كنبيّ، غفلوا عن كونه رسولا. ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صلى
الله عليه وسلم:{ يَـاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[المائدة: 67].
الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بالله من أعدائه، والحق سبحانه وتعالى قد حكى
عن الذين يقتلون الأنبياء، وأراد أن يطمئن المؤمنين، ويطمئن الرسول على نفسه، وأن
يعرف خصوم رسول الله أنه لا سبيل إلى قتله، فيقول الحق:{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }[البقرة: 91].
ولماذا يأتي الله بـ " من قبل " هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولأعداء محمد
صلى الله عليه وسلم أن مسألة قتل الأنبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول الله،
لكن هذه المسألة صارت منتهية، ولا يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول الله، وبذلك
طمأن الحق المؤمنين، وطمأن رسول الله بأن أحدا لن يناله بأذى، ولذلك قال الحق:{
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }[المائدة: 67].
وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول الله فقد قال لهم:{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ }[البقرة: 91].
ولو أن المسألة مسألة نبوة، ورسالة رسول الله غير داخلة في مواجيدهم، وكان إنكارهم
لرسالته عنادا، لكانوا قد قالوا: " إن مسألة قتل الأنبياء لا تتوقف عند
" من قبل " لأننا سنجعلها " من بعد " أيضا، لكانوا قد كتلوا
قواهم وقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الله سبحانه أيأسهم وقنطهم من
ذلك، وذلك من مناط قدرة الله.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل الأنبياء، وقتل الذين يأمرون
بالقسط، أكان ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلام لمن؟ إنه موجه لبعض من
أهل الكتاب، إنه موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل، وقتلوا الذين
يأمرون بالقسط، لقد آمنوا كإيمان السابقين لهم من قتلة الأنبياء، وقتلهم للذين
يأمرون بالقسط.
وهذا تقريع لهؤلاء الذين اتبعوا في الإيمان قوما قتلوا الأنبياء من قبل، وقتلوا
الذين يأمرون بالقسط، إنه تقريع وتساؤل. كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا الأنبياء؟
وكيف تتبعون من فعل مثل ذلك؟ وقد قص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن بني إسرائيل
قد قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا دفعة واحدة، فقام مائة وسبعون من أتباع الأنبياء
لينكروا عليهم ذلك، فقتلوهم، وهذا هو معنى هذه الآية الكريمة:
} وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { [آل
عمران: 21]
لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟ أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن
يؤتى فيه الفعل الذي يسر؟ إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر، كتبشير الحق
للمؤمنين بالجنة، ومعنى التبشير بالجنة أن الله يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن،
ويعطي الحقّ الفرصة للمؤمن لينفذ منهج الله ليأخذ الجائزة والبشارة.
لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لأبناء الذين فعلوا ذلك؟ لأننا نعرف أن الذين
قتلوا النبيين وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا
الآية، إن المعاصرين من أهل الكتاب لنزول هذه الآية هم أبناء الذين قتلوا الأنبياء
وقتلوا الذين أمروا بالقسط، ويبشرهم الحق بالعذاب الأليم؛ لأنهم ربما رأوا أن ما
فعله السابقون لهم كان صوابا. فإن كانوا قد رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان
صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب.
وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا, ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم، رغم أن البشارة
غالبا ما تكون إخبارا بالخير، وعملية العذاب الأليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف
أنه ساعة نسمع كلمة " أبشر " فإن النفس تتفتح لاستقبال خبر يسر, وعندما
تستعد النفس بالسرور وانبساط الأسارير إلى أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول: أبشر بعذاب
أليم، ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم, ابتداء مطمع " فبشرهم
" وانتهاء مُيْئِس (بعذاب أليم) وهنا يكون الإحساس بالمصيبة أشد، لأن الحق لو
أنذرهم وأوعدهم من أول الأمر بدون أن يقول: " فبشرهم " لكان وقوع الخبر
المؤلم هينا.
لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعاً صاعقا، ومثال لذلك قول الحق:{ وَإِن
يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }[الكهف: 29].
إنهم يستغيثون في الآخرة، ويغاثون بالفعل، ولكن بماذا يغيثهم الله؟ إنه يغيثهم
بماء كالمهل يشوي الوجوه. إننا ساعة أن نسمع " يغاثوا " قد نظن أن هناك
فرجا قادما، ولكن الذي يأتي هو ماء كالمهل يشوي الوجوه. وهكذا تكون البشارة
بالنسبة لمن قتلوا الأنبياء أو لأتباع القتلة الذين آمنوا بمثل ما آمن به هؤلاء
القتلة. } فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { وكلمة " عذاب " تعني إيلام
حيّ يحس بالألم. والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما، أما القتل فهو ينهي النفس
الواعية وهذا ليس بعذاب، بل العذاب أن يبقى الشخص حيَّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب،
وقول الحق: } بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { يلفتنا إلى قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَزِيزاً حَكِيماً }[النساء: 56].
أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب. وبعد ذلك يقول الحق: }
أُولَـائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ... {.
(/413)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
إنهم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين أمروا بالقسط
بين الناس، هؤلاء لهم العذاب، ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا والآخرة، وكذلك من
نهج نهجهم، ومعنى " حبطت " أي لا ثمرة مرجوة من العمل، إن كل عمل يعمله
العاقل لا بد أن يكون لهدف يقصده، فأي عمل لا يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس
لها هدف. إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي أن يعرف الغاية منه، وما الذي يحققه
من النفع؟ وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع وأدومه، أو هو أقل من ذلك؟
وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله، وحينما يقول الحق: { أُولَـائِكَ
الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } فهو سبحانه يريد
أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عملا هو في ظاهره خير، فإياك أن تغتر أيها المؤمن
بأنه عَمِلَ خيرا. لماذا؟ لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن
يجازى فالإنسان إن عمل عملا قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن، فلماذا يكون عمل هؤلاء
حابطا في الدنيا، وفي الآخرة؟ إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطا لأنه لم
يصدر من مؤمن، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل، لا ثقة بالأمر
الأعلى.
إن الإنسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في الأمر الأعلى. وبعض من
الناس في عصرنا يأخذون على الإسلام أنه لا يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا
بأعمال مفيدة للبشرية. يقوم الواحد منهم: هل يعقل أحد أن " باستير "
الذي اكتشف الميكروبات، والعالم الآخر الذي اكتشف الأشعة، وكل هؤلاء العلماء
يذهبون إلى النار؟ ولهؤلاء نقول: نعم، إن الحق بعدالته أراد ذلك، ولنتقاض نحن
وأنتم إلى أعراف الناس. إن الذي يطلب أجرا على عمل يطلبه ممن؟ إنه يطلب الأجر ممن
عمل له. فهل كان الله في بال هؤلاء العلماء وهم يفعلون هذه الأعمال؟ إن بالهم كان
مشغولا بالإنسانية، وقد أعطتهم الإنسانية التخليد، وغير ذلك من مكاسب الدنيا،
وينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن أول الناس يُقْضَى يوم
القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال؛
فاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل، ثم أمر به
فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به
فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك
القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن، ليقال: هو قارئ
فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه،
وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال:
ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت
ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار ".
إذن فإذا كان الجزاء من الله، فلنا أن نسأل: هل كان الله في بال هؤلاء العلماء
حينما أنتجوا مخترعاتهم؟ لم يكن في بالهم الله. والذي يطلب أجرا، فهو يطلبه ممن
عمل له. ولم يُضع الله ثمرة عملهم، بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة. لم
يضع الله أجر من أحسن عملا.{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
وقد قلت لكم قديما: تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عملا هو في ظاهره خير، ولكن
لم يكن ربه في باله، هذا ينطبق عليه قول الحق:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا
جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور: 39].
إنه يفاجأ بوجود الله، ولم يكن هذا الإله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو
في ظاهره خير، كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل: أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت
بهذا العمل، فخذ جزاءك ممن كان في بالك. } أُولَـائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ { إن
أعمالهم حبطت في الدنيا، لأنهم قد يعملون عملا يراد به الكيد للإسلام، لذلك لا
يمكنهم الله من ذلك، بل يخذلهم جميعا. وانتصر دين الله رغم قلة العُدّة. وليس
لهؤلاء ناصرون. أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن
يجدوا ناصرا إذا هزمهم الله، فليس مع الله أحد غيره. وبعد ذلك يقول الحق: } أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ... {
(/414)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
ونعرف أننا ساعة نسمع قول الحق: { أَلَمْ تَرَ }. فهنا همزة استفهام، وهنا أداة
نفي هي " لم " ، وهنا " تر " ومعناها أن يستخدم الإنسان آلة
الإبصار وهي العين. فإذا ما قال الله لرسوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ }. إن هذه
دعوة لأمر واضح. لكن في بعض الأحيان تأتي { أَلَمْ تَرَ } في حادث كان زمانه قبل
بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يره رسول الله كقول الحق:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل، إذن فساعة تسمع { أَلَمْ تَرَ }
إن كان حدثها من المعاصر، فمن الممكن أن تكون رؤية، والرؤية تؤدي إلى علم يقين،
لأنها رؤية لمشهود, وإن جاءت { أَلَمْ تَرَ } في أمر قد حدث من قبل، أو أمر لما
يحدث بعد فهي تعني " ألم تعلم "؛ لأن الرؤية سيدة الأدلة، فكأن الله
سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول: ألم تر؟ فهذا معناه: ألم
تعلم؟
وقد يقول قائل: ولماذا لم يأت بـ " تعلم " وجاء ب " تر "؟ لأن
سيادة الأدلة هو الدليل المرئي، فكأن الله يريد أن يخبرنا بـ { أَلَمْ تَرَ } أن
نأخذ المعلومة من الله على أنها مرئية، وليكن ربك أوثق عندك من عينك، إنك قد لا
ترى بالفعل هذا الأمر الذي يخبرك به الله، ولكن لأن القائل هو الله، ولا توجد قدرة
تُخرج ما يقوله الله على غير ما يقوله الله. لذلك فقد قلنا ساعة يعبر الله عن
الأمر المستقبل الذي سيأتي بعد، فإنه قد يعبر عنه بالماضي، فالحق قد قال:{ أَتَىا
أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ
}[النحل: 1].
فهل ينسجم قوله: { أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ } مع { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ }؟ إن
الأمر الذي يخبرنا به الله قد أتى، فكيف يمكن عدم استعجاله؟ إن " أتى "
معناها أن الأمر قد حصل قبل أن يتكلم. يجب علينا إذن أن نعرف أن الذي قال: "
أتى " قادر على الإتيان به، فكأنه أمر واقع، إنها مسألة لا تحتاج إلى جدال؛
لأنه لا توجد قوة تستطيع أن نتازع الله لتبرز أمرا أراده في غير مراده. فكأن قوله
الحق: { أَلَمْ تَرَ } إن كانت تحكى عن حدث فات زمنه فالذي يأتي منها هو العلم،
لأنه إخبار الله، وإن كانت تحكى عن حدث معاصر فالذي يأتي منه أيضا هو العلم؛ لأنه
صادر عن رؤية ومشاهدة.
وعندما يقول الحق: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ
الْكِتَابِ }.
" وأوتوا " تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى. ولذلك يأتي في
القرآن ذكر المنهج بـ " نزل " و " أنزل " ، وذلك حتى نشعر
بعلو المكانة التي نزل منها المنهج. وما هو النصيب؟ إننا نسمي النصيب " الحظ
" ، أو خارج القسمة، كأن يكون عندنا عشرون دينارا، ونقسمهما على أربعة فيكون
لكل واحد خمسة، هذه الخمسة الدنانير هي التي تسمى " نصيبا " أو "
حظا " ، والنصيب: " حظ " أو " قسمة " يضاف لمن أخذه.
إذن، فلماذا يقول الحق: } الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ { إنها
لفتة جميلة، فالكتاب كله لم يبق لهم، إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من
الكتاب، فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول والسامعين له أن يعذروا هؤلاء القوم حيث لم
يصلهم من الكتاب إلا جزء يسير منه، إن نصيبا من الكتاب فقط هو الذي وصلهم.
ويشرح الحق ذلك في آيات أخرى:{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىا
خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ }[المائدة: 13].
إن الجزء المنسي من الكتاب لم يأخذه المعاصرون لرسول الله. وقلنا أيضا: إن الحق قد
أوضح أن بعضهم كتم بعضا من الكتاب.{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[البقرة: 146].
وما دام هناك من كتم بعضا من الكتاب فمعنى ذلك كتمانه عن المعاصرين له، وهناك أناس
منهم مخدوعون، فشيء من الكتاب قد نسى، وبالتالي مسح من الذاكرة، وهناك شيء من
الكتاب قد كتم، فصار معلوما عند البعض، وغير معلوم عند البعض الآخر، وحتى الذي لم
يكتموه، جاء فيه القول الحكيم:{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[آل عمران: 78].
إذن فالكتاب الذي أنزل إليهم من الله قد تعرض لأكثر من عدوان منهم، ولم يبق إلا حظ
من الكتاب، وهذا الحظ من الكتاب هو الذي يجادل القرآن به هؤلاء الناس، إن القرآن
لا يجادلهم فيما تبدل عندهم بفعل أحبارهم ورهبانهم السابقين، ولكنه يجادلهم
بالنصيب الذي أوتوه.
يقول الحق: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىا
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ {. وعن أي كتاب لله تتحدث هذه الآية؟ هل
تتحدث عن القرآن؟ لو كان الحديث عن القرآن فلا بد أنه حُكِّمَ في أمر بينهم وبين
رسول الله، لكن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب قد اختلفوا فيما بينهم، ولماذا
يختلفون فيما بينهم؟ السبب هو أيضا لون من البغي فيما بينهم.
وإذا كان الكتاب هو القرآن، أليس القرآن مصدقا لما معهم؟
إذن فعندما يدعون ليتم التصديق على ما جاء في كتبهم، فالدعوة هنا لأن يسود حكم
القرآن. وما معنى } يُدْعَوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللَّهِ { ، إن الداعي هو الرسول
صلى الله عليه وسلم، وهم المدعون، وما دام الحق قد قال: } أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ
الْكِتَابِ { فهل كان خلافهم في النصيب الذي بين أيديهم أم النصيب المحذوف؟ إنه
خلاف بينهم في النصيب الذي بين أيديهم، ليكون ذلك حجة على أنهم غير مأمونين حتى
على ما وصل إليهم وما هو مكتوب عندهم. وعندما تكلم العلماء عن هذه المسألة أوردوا
لذلك الأمر حادثة. لقد اختلفوا في أمر سيدنا إبراهيم وقالوا: إن سيدنا إبراهيم
يهودي وقال بعضهم: إنه نصراني. وجاء القرآن حاسما:{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[آل عمران: 67].
لماذا.. لأن كلمة يهودي ونصراني قد جاءت بعد إبراهيم، وكان لا بد لهم أن يخرجوا من
قلة الفطنة وأن يرتبوا الأحداث حسب زمنها، إذن ففي إي أمر اختلفوا؟ هل اختلفوا في
أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل اختلفوا في حكم موجود عندهم في التوراة؟
لقد كانت الدعوة موجهة إليهم في ماذا؟ إنهم } يُدْعَوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ { وذلك يدل على أن كلمة:{ بَغْياً بَيْنَهُمْ }[آل عمران:
19].
هي حالة شائعة بينهم، لماذا؟ لأن العلماء حينما ذكروا الحادثة التي دعوا للحكم
فيها بكتاب الله، قال العلماء: إن اثنين من يهود خيبر - امرأة - خيبرية ورجل من
خيبر، قد زنيا، وكان الاثنان من أشراف القوم، ويريد الذي يحكمون في هذا الأمر
بكتاب التوراة ألا يبرزوا حكم الله الذي جاء بالتوراة، وهو الرجم، فاحتالوا حيلة،
وهي أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولماذا يذهبوا في هذه الجزئية
إلى رسول الله عليه وسلم؟ إننا نأخذ مجرد الذهاب إلى رسول الله ارتضاء لحكمه.
لكن لماذا لم يرتضوا من البداية بكل ما جاء به رسول الله؟ لقد أرادوا أن يذهبوا
لعلهم يجدون نفعا في مسألة يبغونها، أما في غير ذلك فهم لا يذهبون إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، إن مجرد ذهابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا فكرة
عنهم، لقد كانوا يريدون حكما مخففا غير الرجم. إن الزاني وهو من خيبر والخيبرية
الزانية أرادا أن يستنقذا أنفسهما من حكم التوراة بالرجم، إنهما من أشراف خيبر،
ولأن اليهود قد صنعوا لأنفسهم في ذلك الوقت سلطة زمنية، فذهب الزاني والزانية
ومعهما الأحبار الذين الذين يريدون أن يلووا حكم الله السابق نزوله في التوارة وهو
الرجم.
وعندما دخلوا على رسول الله كان هناك واحد اسمه " النعمان بن أوفى " ،
وواحد اسمه " بحرى بن عمرو " فقالوا: يارسول اقض بين هؤلاء، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: أوَ ليس عندكم حكم؟ وأضاف رسول الله ما معناه:
أنا احتكم إلى التوراة وهي كتابكم، فماذا قالوا:؟قالوا: أنصفتنا.
وكان رسول الله قد بين لهم حكم الإسلام في الزنا بأنه الرجم، وجيء بالجزء الباقي
عندهم من التوراة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتضمن الحكم الملزم دليلا
على أن الله أطلعه على أشياء لم تكن في بال أحد. فدعا بقسم من التوراة، وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: أيكم أعلم بالتوراة؟ فقالوا شخص اسمه عبد الله
بن صورية فأحضروه، وأعطاه التوراة، وقال: اقرأ مجلس عبد الله بن صورية يقرأ، فلما
مر على آية الرجم وضع كفه عليها ليخفيها، وقرأ غيرها وكان عبد الله بن سلام حاضرا،
فقال: يا رسول الله أما رأيته قد ستر بكفه آية وقرأ ما بعدها؟ وزحزح ابن سلام كف
الرجل، وقرأ هو فإذا هي آيةُ الرجم.
هذه المسألة تعطينا أن الحكم في القرآن الكريم هو الحكم في التوراة في أمر الزنا،
وتعطينا أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض الله عليه من إلهاماته فجاء
بالجزء من التوراة الذي يحمل هذا النص. وجاء بعد ذلك جندي من جنود الله هو عبد
الله بن سلام وكان يهوديا قد أسلم ليظهر به رغبة القوم في التزييف والتزوير.
وإسلام عبد الله بن سلام له قصة عجيبة، فبعد أن اختمر الإيمان في قلبه، جاء إلى
رسول الله قائلا: لقد شرح الله صدري إلى الإسلام ونطق بكلمة " لا إله إلا
الله محمد رسول الله " ولكني أحب قبل أن أعلن إسلامي أن تحضر رؤساء اليهود
لتسألهم رأيهم في شخصى، لأن اليهود " قوم بهت " فيهم افتراء وفيهم الكذب
وفيهم التضليل، فلما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء اليهود عن رأيهم في
عبد الله بن سلام قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا.. إلخ. وأفاضوا في صفات المدح
والإطراء والتقدير. فقال عبد الله بن سلام أمامهم: الآن أشهد ألا إله إلا الله،
وأن محمدا رسول الله، فانقلب رؤساء اليهود، وقالوا في عبد الله بن سلام: عكس ما
قالوه أولا، قالوا: إنه خبيثنا وابن خبيثنا.. إلخ.
لقد غيروا المديح إلى ذم. فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله أما قلت لك: إنهم
قوم بهت؟ والله لقد أردت أن أعلمك برأيهم في قبل أن أسلم. ذلك هو عبد الله بن سلام
الذي زحزح كف عبد الله بن صورية عن النص الذي فيه آية الرجم في التوراة، وفي ذلك
جاء القول الحق: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ
الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
يَتَوَلَّىا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ { إنهم الذين أعرض فريق منهم عن
قبول الحق.
ما سبب هذا الإعراض؟ أهو قضية عامة؟ أو أنّ سبب هذا الإعراض هو السلطة الزمنية
التي أراد اليهود أن يتخذوها لأنفسهم؟ ومعنى السلطة الزمنية أن يجيء أشخاص فيأخذوا
من قداسة الدين ما يفيض عليهم هم قداسة، ويستمتعوا بهذه القداسة ثم يستخدموها في
غير قضية الدين، هذا هو معنى السلطة الزمنية. وقلنا سابقا: إن كل تحوير في منهج
الله سببه البغي، والمفروض أن أهل الكتاب من أصحاب التوراة كانوا يستفتحون على
العرب ويقولون: سيأتي نبي من العرب نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوه سابقا في كتبهم كفروا به، ولذلك يقول الحق
سبحانه وتعالى في مثل هذه القضية موضحا موقفهم من قضية الإيمان العليا:{ وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }[الرعد: 43].
فكأن من عنده علم بالكتاب كان مفروضا فيه أن يشهد لصالح رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإلا فلا يقول الله: } وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ { لن يقول الحق ذلك
إلا إذا كان عند علماء أهل الكتاب ما يتفق مع ما جاء به الله في صدق رسوله صلى
الله عليه وسلم في البلاغ عنه، وكان السبب في محاولة بعض اليهود لإنكار رسالة رسول
الله هو السلطة الزمنية، وأرادوا أن ييسروا لأتباعهم أمور الدين.
إن كل دعي - أي مزيف - في مبدأ من المبادئ يحاول أن يأخذ لنفسه سلطة زمنية، فيأتي
إلى تكاليف، الدين التي قد يكون فيها مشقة على النفس، ويحاول أن يخفف من هذه
التكاليف، أو يأتي بدين فيه تخفيف مخل بالعبادات، فإذا نظرنا إلى مسيلمة الكذاب
نجده قد خفف الصلاة حتى يُرغب في دينه من تشق عليه الصلاة، وينضم إلى دين مسيلمة،
وحذف مسيلمة جزءا من الزكاة، وهذا يعطي فرصة التحلل من تكاليف الدين، ولذلك فالذي أفسد
الأديان السابقة على الإسلام أن بعضا من رجال الدين فيها كلما رأوا قوما على دين
فيه تيسيرات أخذوا من هذه التيسيرات ووضعوها في الدين؛ لأن تكاليف الدين شاقة ولا
يحمل إنسان نفسه عليها إلا من آمن بها إيمان صدق وإيمان حق، ولذلك يقول الحق
سبحانه وتعالى في عمدة العبادات وهي الصلاة:{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة: 45].
ويقول في موقع آخر في القرآن الكريم عن الصلاة:{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ
لِلتَّقْوَىا }[طه: 132].
إن الحق عليم حكيم بمن خلق وهو الإنسان، ويعلم أن الضعف قد يصيب روح الإنسان فلا
يصطبر على الصلاة، أو يراها تكليفا صعبا، لكن الذي يقيم الصلاة ويحافظ عليها فهو
الخاشع لربه.
ولذلك فإننا نجد أن كل منحرف يأتي ويحاول أن يخفف من تكاليف الدين، ويحاول أن يحلل
أشياء محرمة في الدين، ولم نر منحرفا يزيد في الأشياء المحرمة. إن المنحرفين
يريدون إنقاص الأمور الحرام. إذا سألنا هؤلاء المنحرفين: لماذا تفعلون ذلك؟ فإننا
نجد أنهم يفعلون ذلك لجذب الناس إلى أمور محرمة يحللها هؤلاء المنحرفون. ولذلك
أراد أراد بعض اليهود أن يسهلوا على أتباعهم الدين، وقال بعض من أحبارهم: لا
تخافوا من أمر يوم القيامة. وجاء القول الحق يحكي عنهم وكأنهم حاولوا أن يفهموا
الأمر بأن الله يحلل لهم أمورا, لا، إن الله لم يحلل إلا الحلال، ولم يحرم إلا
الحرام. وإذا كان الحق قد قال:{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }[التحريم: 2].
فهذا القول الحكيم جاء في مناسبة محددة وينطبق فقط في مجال ما حلل الله فلا تحرمه،
أما ما حرم الله فلا تقربه، لقد أرادوا أن يبيحوا للأتباع ارتكاب الآثام، لأن
النار لن تصيبهم إلا أيام معدودة، وإذا دققنا التأمل في القول الحق الذي جاء على
لسانهم، فإننا نجد الآتي: إننا نعرف أن لكل حدث زمان، ولكل حدث قوة يحدث عليها،
فمن ناحية الزمان. قال هؤلاء المزوّرون لأحكام الله عن يوم القيامة إنها أيام
معدودة، فلا خلود في النار، وحتى لو كان العذاب شديدا فإنه أيام معدودة، فالإنسان
يستطيع أن يتحمل، ومن ناحية قوة الحدث أرادوا أن يخففوا منه، فقالوا: إنه عذاب ليس
بشديد إنما هو مجرد مس. إنهم يحاولون إغراء الناس لإفسادهم وقال هؤلاء الأحبار:
نحن أبناء الله وأحباءه أرأيتم أحدا يعذب أبناءه وأحباءه؟ لقد أعطى الله يعقوب
النبوة، ولا يمكن أن يعاقب ذريته أبدا، إلا بمقدار تحلة القسم.{ وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }[ص: 44].
إن أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته إذا برئ من مرضه مائة سوط، وأراد الله
أن يحله في هذا القسم فأمره أن يأخذ حزمة من حشيش أو عشب فيها مائة عود ويضربها
بها ضربة خفيفة ليبرّ في قسمه، وكان ذلك رحمة من الله به وبزوجه التي قامت على
رعايته وقت المرض، وكان أيوب عبدا شاكراً لله، كأن الضربة الواحدة هي مائة ضربة،
وهذا تحليل للقسم، وقال بعض من بني إسرائيل: إن ذرية بني يعقوب لن تُعذب من الله
إلا بمقدار تحلة القسم، وكل ذلك ليزينوا للناس بقاءهم على هذا الدين الذي سوف تكون
الآخرة فيه بعذابها مجرد مس من النار، وأيام معدودة، بادعاء أن بني يعقوب هم أبناء
الله وأحباؤه، وأن الله قد أعطى وعداً ليعقوب بأنه لن يعذب أبناءه إلا بمقدار تحلة
القسم، وهذا بطبيعة الحال هو تزييف لدين الله ومنهجه لقد تولوا عن منهج الله،
وأعرضوا عنه بعصيان، يوضح لنا هذا المعنى القول الكريم: } ذالِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ... {
(/415)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
لقد تولوا وهم معرضون عن حكم الله لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
ولنا أن نعرف معنى " غرهم " ولنا أن نسأل ما الغرور؟ إن الغرور هو
الأطماع فيما لا يصح ولا يحصل، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله: " أنت مغرور
" فأنت تقصد أنه يسلك سبيلا لا يوصله إلى الهدف المنشود. إذن فالغرور هو
الإطماع فيما لا يصح ولا يحصل، ولذلك يسمى الله الشيطان " الغرور ".{
ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ
مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }[فاطر: 5-6].
إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض الأمور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها، وعندما
تحدث فإن هذه الأمور لا صواب فيها، فهي مما زينه الشيطان، لذلك فحصيلتها لا تتناسب
مع الطمع فيها. والحق سبحانه يقول عن الدنيا:{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ
إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }[الحديد: 20].
ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة: إنه " غِرٌّ " فيأتي بأشياء بدون
تجربة؛ فلا ينتفع منها، ولا تصح. إذن، فكل مادة " الغرور " مأخوذة من
إطماع فيما لا يصح ولا يحصل. لذلك سمى الله الشيطان " الغرور " لأنه
يطمعنا نحن البشر بأشياء لا تصح ولا تحدث، ولهذا سوف يأتي الشيطان يوم القيامة
ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلاهة:{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ
أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ
أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[إبراهيم:
22].
ما معنى { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ }؟ السلطان أي القوة التي
تقنع الإنسان بعمل فعل ما، وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما، فتفعله،
وإما أن يكون سلطان القوة، فيرغمك أن تفعل، السلطان - إذن - نوعان: سلطان حجة،
وسلطان قوة، والفرق بين سلطان الحجة و سلطان القوة القاهرة على الفعل، هو أن سلطان
الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع، أما سلطان القوة القاهرة فهو لا يُقنع الإنسان،
ولكنه يُرغم الإنسان على فعل ما، ولذلك فالشيطان يعلن لأتباعه يوم القيامة: لم يكن
لي سلطان عليكم، لا حجة عندي لأقنعكم بعمل المعاصي، ولا عندي قوة ترغمكم على
الفعل، لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي.
ويضيف الشيطان مخاطبا أتباعه:{ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ }[إبراهيم: 22].
أي أن الشيطان يؤكد أنه لن يفزع لأحد من الذين اتبعوه لينجده، إن كلمة " يصرخ
" تعني أن هناك مَنْ يفزع لأحد تلبية لنداء أو استغاثة. الشيطان إذن لن ينجد
أحدا من عذاب الله، ولن ينجد أحد الشيطان من عذاب الله، وهكذا ذهب بعض من أهل
الكتاب إلى الغرور في دين الله، فافتروا أقوالا على الله، لم تصدر عنه، وصدقوا
افتراءاتهم، ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لأن الغرور في غير الدين تكون المصيبة
فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى، لماذا؟ لأن الغرور في أي أمر يخضع
لقانون واضح، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته، لكن الغرور في امر الدين مختلف
لماذا؟ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان، إنه مستمر، لأن منهج قيم صدر من
الحق إلى الخلق، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا، فإن فشلت فالفشل يقف عند
هذه الجزئية وحدها، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن، لكن الغرور في الدين يجعل
العمر كُله يضيع، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى
العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة يقول الحق:{ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا
كَانُواْ يَفْتَرُونَ }[آل عمران: 24].
والإفتراء هو تعمد الكذب، إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول: إن حصل ذلك منكم
وأعرضتم عن حكم الله الذي دعيتم إليه في كتاب الله، وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم
إلا أياما معدودة، وادعيتم كذبا أن الأيام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل،
وادعيتم أنكم أبناء الله وأحباءه، إن ذلك كله غرور وافتراءات، ويا ليتهم كانوا
يعلمون صدق هذه الافتراءات، لكنهم هم الذين قالوها ويعرفون أنها كذب، فإذا جاز ذلك
لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم وحالهم عندما يجمعهم الله في يوم لا ريب فيه؟
وفي هذا يقول الحق: } فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ
فِيهِ.... {
(/416)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
إن كذبهم سينكشف في هذا اليوم، فالفاضحة قد جاءت، والفاضحة هي القيامة، إنها تفضح
كل كذاب وكل غشاش وكل داعية بغير الحق. إن الحق يتساءل: كيف يصنعون ذلك كله في
الحياة التي جعلنا لهم فيها اختيارا، فيفعلون ما يريدون، ولا يفعلون ما لا يريدون،
يحدث منهم كل ذلك وهم يعلمون أن الحق قد جعل الثواب لمن اتبع تكاليف الله، وجعل
العقاب لمن يخرج عن مراد الله، كيف يتصرفون عندما يسلب الحق منهم الاختيار ويجئ
يوم القيامة. لقد كانوا في الدنيا يملكون عطاء الله من قدرة الاختيار بين
البديلات، وركز الله لهم في بنائهم أن كل جوارحهم خاضعة لارادتهم كبشر من خلق
الله، فمنهم من يستطيع ان يستخدم جوارحه فيما يرضى الله، وفيهم من يستخدم جوارحه
المسخرة له - بفضل الله - فيما لا يرضى الله، إن الجوارح كما نعلم جميعا خاضعة
لإرادة الإنسان، وإرادة الإنسان هي التي تختار بين البديلات، لكن ماذا يفعل هؤلاء
يوم القيامة؟ إن الجوارح التي كانت تطيع الخارجين عن منهج الله في الفعل لا تطيعهم
في هذا اليوم العظيم؛ لأن الطاعة اختيار أن تفعل وتطيع، والجوارح يوم القيامة لا
تكون مقهورة لإرادة الإنسان، إن الجوارح يوم القيامة تنحل عنها صفة القهر والتسخير
لمراد الإنسان، وتصير الجوارح على طبيعتها:{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ *
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }[النور: 24-25].
إن اللسان كان أداة إعلان الكفر، وهو يوم القيامة يشهد على الكافر، واليد كانت
أداة معصية الله، وهي يوم القيامة تشهد على صاحبها، والجلود تشهد أيضا، لقد كانت
الجوارح خاضعة لإرادة أصحابها، وتفعل ما يريدونها أن تفعل، ولكنها كانت تفعل الفعل
العاصي لله وهي كارهة لهذا الفعل؛ لذلك يقول الحق:
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [آل عمران: 25].
كيف يكون حالهم يوم يجمعهم الله للجزاء في يوم لا ريب فيه ولا شك في مجيئه.. وهذا
اليوم قادم لا محالة لقيام الأدلة على وجوده، رغم خصومتهم لله فإن الله العادل
الحق لا يظلمهم بل سيأخذهم بمقاييس العدل.
(/417)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
وساعة تسمع كلمة " ملك " ، فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي " مُلك
" بضم الميم، وكلمة أخرى هي " مِلك " بكسر الميم. إن كلمة "
مِلك " تعني أن للإنسان ملكية بعض من الأشياء، كملكية إنسان لملابسه وكتبه
وأشيائه، لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه " مُلك " ، فإذا كانت
هذه الملكية في الأمر الظاهر لنا، فإننا نسميه " عالم الملك " ، وهو
العالم المُشاهد، وإذا كانت هذه الملكية في الأمر الخفي فإننا نسميه " عالم
الملكوت ". إذن، فنحن هنا أمام " مِلك " ، و " مُلك " و
" ملكوت ". ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم
خليل الرحمن وكشف له ما خفي عن العيون وما ظهر، قال سبحانه:{ وَكَذَلِكَ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
}[الأنعام: 75].
أي أن الله سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات
والأرض، أي كل الأشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد. وهكذا نرى مراحل
الحيازة كالآتي: ملك، أي أن يملك الإنسان شيئا ما، وهذا نسميه مالكا للأشياء فهو
مالك لاشيائه، ومالك لمتاعه أما الذي يملك الانسان الذي يملك الاشياء فإننا نسميه
" مُلك " ، أي أنه يملك من يملك الأشياء، والظاهرة في الأولى نسميها
" مِلْك " فكل إنسان له ملكية بعض من الاشياء، وبعد ذلك تنحاز الى
الأقل، اي ان تنسب ملكية أصحاب الأملاك إلى ملك واحد. فالملكية بالنسبة للإنسان
تتلخص في أن يملك الإنسان شيئا فيصير مالكا، وإنسان آخر يوليه الله على جماعة من
البشر فيصير مَلِكاً، هذا في المجال البشرى.
أما في المجال الإلهي، فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك، إنه الله سبحانه
وتعالى. ولا يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد
الله فيه, فكل إنسان يملك بما يريده الله له من رسالة, فإذا انحرف العباد, فلا بد
أن يولى الله عليهم ملكا ظالما، لماذا؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس.{
وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
}[الأنعام: 129].
وكأن الحق سبحانه يقول: يأيها الخيِّر - بتشديد الياء - ضع قدما على قدم ولا تلوث
يدك بأن تنتقم من الظالم، فسوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير، إنني
أربأ بك أن تفعل ذلك، وسأنتقم لك، وأنت أيها الخيِّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم,
ولذلك نجد قول الحق:{ وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا
كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[الأنعام: 129].
ونحن جميعا نعرف القول الشائع: " الله يسلط الظالمين على الظالمين ".
ولو أن الذين ظلموا مُكِّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في
بعضهم بعضا. إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين، وينجى أهل الخير من موقف
الانتقام ممن ظلموهم.
إذن فنحن في هذه الحياة نجد " مالك " , و " ملك " وهناك فوق
كل ذلك " مالك الملك " ، ولم يقل الله: إنه " ملك الملك "؛
لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله. } قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ { إنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد
حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط
عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوى الله - عز وجل - السموات يوم
القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين
المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين
المتكبرون؟ ".
إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله. إنما الملك يريده
الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه،
ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك
الحاكم مظلوما. إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده.
إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريم: } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ { إن كلمة
" اللهم " وحدها فيها عجب من العجائب اللغوية، إن القرآن قد نزل باللسان
العربي, وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان والبلاغة، وشاء الحق أن يكون للفظ
الجلالة " الله " خصوصية فريدة في اللغة العربية.
إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي ألا يُنادي ما فيه، أداة التعريف، مثل
" الرجل " بـ " يا " فلا يقال: " يا رجل " بل يقال:
" يأيها الرجل " لكن اللغة التي يسرها الله لعباده تخص لفظ الجلالة
بالتقديس، فيكون من حق العباد أن يقولوا: " يا الله ". وهذا اللفظ
بجلاله له تميز حتى في نطقه.
ولنا أن نلحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك، فكأن الله
يرغم حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجلالة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع
المؤمنين: " يا الله ". أما بقية الأسماء التي تسبقها أداة التعريف فلا
يمكن أن تقول: " يا الرجل " أو " يا العباس " لكن لا بد أن تقول
" يأيها الرجل " ، أو " يأيها العباس " ، ولا تقول حتى في
نداء النبي: " يا النبي " ، وإنما تقول: " يأيها النبي ".
لكن عند التوجه بالنداء إلى الله فإننا نقول: " يا الله " ، إنها خصوصية
يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه وحده المخصوص بها، وأيضا ما رأينا في لغة العرب
عَلَماً دخلت عليه " التاء " كحرف القسم إلا الله، فإننا نقول "
تالله " ، ولم نجد أبدا من يقول " تزيد " أو " تعمرو ".
إننا لا نجد التاء كحرف قسم إلا في لفظ الجلاله، ولا نجد أيضا علما من الأعلام في
اللغة العربية تحذف منه " يا " في النداء وتستبدل بالميم إلا في لفظ
الجلالة فنقول: " اللهم " كل ذلك ليدل على أن اللفظ في ذاته له خصوصية
المسمى. " قل اللهم " وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن الله هو وحده
المستدعى بدون حرف نداء. " اللهم " وفي بعض الألسنة يجمعون الياء
والميم، مثل قول الشاعر:إني إذا ما حادث ألمَّا أقول ياللهم يا اللهمَّاإنها خصوصية
لصاحب الخصوصية الأعلى. } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ { وقد يسأل إنسان
لماذا لم يقل الحق: " ملك الملك "؟ هنا لا بد أن نعرف أنه سيأتي يوم لا
تكون فيه أي ملكية لأي أحد إلا الله، وهو المالك الوحيد، فهو سبحانه يقول:{
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىا مَن
يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ
يَخْفَىا عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 15-16].
إن قول الحق هنا: " مالك الملك " توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة
والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته: " ملك الملك
" لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، إنه الحق وحده مالك
الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء. وهنا
نلاحظ أن قول الحق: إنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء تأتي
بعد عملية المحاجّة، وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم الله بعد أن
دعوا إليه، فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم الله، وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء الله
وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
كل هذه خيارات من لطف الله وضعها أمام هؤلاء العباد، خيارات بين اتباع حكم الله أو
اتباع حكم الهوى، لكنهم لم يختاروا إلا الاختيار السيء، حكم الهوى. ولذلك يأتي
الله بخبر اليوم الذي سوف يجيء، ولن يكون لأحد أي قدرة، أو اختيار.
إن حق الاختيار موجود لنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نحسن الاختيار في ضوء منهج
الله.
ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة، حينما جاءت غزوة
الأحزاب التي اجتمع فيها كل خصوم الدعوة، واشتغل اليهود بالدس والوقيعة، وأراد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة
المنورة. ومعنى " الخندق " ، أي مساحة من الأرض يتم حفرها بما يعوق
التقدم. وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن يقفز مسافة ما من الأمتار.
لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل، ولننظر إلى
دقة الإدارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم
حفر الخندق، وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صلى الله عليه
وسلم الفكرة وأقرها، وفعلها المسلمون.
إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن
الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تطبيق كل الأعمال النافعة، سواء أكان قد فعلها
الكفار من قبل أم لا، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عملية الحفر مرهقة بسبب
جمود الأرض وصخريتها في بعض المواقع، لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من
الصحابة، وبذلك وزع الرسول الكريم العمل والمسئولية، ولم يترك الأمر لكل جماعة
خشية أن يتواكلوا على غيرهم.
وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع
بقية الجماعات وقد يسأل سائل: ولماذا لم يوزع الرسول صلى الله عليه وسلم التكليف
لكل واحد بمفرده؟ ونقول: إنها حكمة الإدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صلى الله
عليه وسلم يتعرف على حقيقة واضحة، وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون
في القدرة والمجهود، لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الأمر مشاعا، بل كان هناك تحديد للمسئولية،
لكنه لم يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد، وذلك حتى يساعد
الأقوياء الضعيف من بينهم. لقد ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعيف بقوة
إخوانه، وساعة أن يوجد ضعيف بين عشرة من الإخوان يحملون عنه ويحفرون، فإن موقفه من
أصحابه يكون المحبة والألفة، ويكون القوي قد أفاض على الضعيف.
وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فلما جاءوا ليحفروا
صادفتهم منطقة يقال عنها: " الكئود " ، ومعنى " الكئود " هي
المنطقة التي تكون صلبة أثناء الحفر، فالحافر إذا ما حفر الأرض قد يجد الأرض سهلة
ويواصل الحفر، أما إذا صادفته قطعة صلبة في الأرض فإنه لا يقدر عليها بمعوله لأنها
صخرية صماء، فيقال له: " أكدى الحافر ".
وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود، قالوا
لسلمان: " اذهب فارفع أمرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ". ومن هذا
نتعلم درسا وهو أن المُكلّفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن
أداء المهمة فلا بد أن يعود إلى من كلفه بها.
وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها، فحدث شرر أضاء من
فرط قوة الاصطدام بين الحديد والصخرة، فهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله
أكبر فُتِحَتْ قصور بصرى بالشام، ثم ضرب ضربة أخرى، وقال الرسول صلى الله عليه
وسلم: الله أكبر فُتِحَتْ قصور الحمراء بالروم. وضرب ضربة ثالثة وقال: الله أكبر
فُتِحَتْ قصور صنعاء في اليمن، فكأنه حين ضرب الضربة أوضح الله له معالم الأماكن
التي سوف يدخلها الإسلام فاتحا ومنتصرا، فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول الله صلى
الله عليه قال الأعداء للصحابة: يمنيكم محمد بفتح قصور صنعاء في اليمين، والحمراء
في الروم، وفتح قصور بصرى، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا لنا للقتال فأنزل الله
قوله: } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ
وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ... {.
إن المسألة ليست عزما من هؤلاء المؤمنين، إنما هي نية على قدر الوسع، فإن فعلت أي
فعل على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد الأعلى سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه هو الذي يعطي الملك، وهو الإله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى
والروم وصنعاء، ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول الله وأصحابه، وينزعه من قريش،
وينزع الملك من يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك.
إن قول الحق: } وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ { تجعلنا نتساءل: ما النزع؟
إنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به، لماذا؟
لأن بعضا ممن يجلسون على كراسي السلطان ينظرون إليه كمغنم بلا تبعات فلا عرق ولا
سهر ولا مشقة أو حرص على حقوق الناس، إنهم يتناسون سؤال النفس " وماذا فعلت
للناس "؟ إن الواحد من هؤلاء لا يلتفت إلى ضرورة رعاية حق الله في الخلق
فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على حقوق الناس.
إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم، فلنعلم أن الحكم عنده مغنم، لا مغرم. ولنر
ماذا قال سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له: إن فقدناك - لا نفقدك - نولى عبد
الله بن عمر، وهو رجل قرقره الورع.
. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل
واحد، لماذا؟ لأن الحكم في الإسلام مشقة وتعب.
لقد جاء الحق بالقول الحكيم: } وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ { وذلك
لينبهنا إلى هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم وينزعهم الله منها، إن المؤمن عندما
ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك
فيها على أهون سبب. لماذا؟ إنها إرادة الخالق الأعلى، فعندما يريد فلا راد لقضائه.
إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام، وإما أن يأخذه هو من
الحكم، ونحن نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم، بحيث يصعب على من يريد أن
يخلعه منه أن يخلعه بسهولة، لكن الله يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ { لأن ظواهر
الكون لا تقتصر على من يملك فقط، ولكن كل ملك حوله أناس هم " ملوك ظل ".
ومعنى " ملوك الظل " أي هؤلاء الذين يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا
ظاهرين أمام الناس، ومن هؤلاء يأتي معظم الشر. إنهم يستظلون ويستترون بسلطان
الملك، ويفعلون ما يشاءون، أو يفعل الآخرون لهم ما يأمرون به، وحين يُنزع الملك
فلا شك أن المغلوب بالظالمين يعزه الله، وأما الظالمون لأنفسهم فيذلهم الله؛ لذلك
كان لا بد أن يجيء بعد } تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشَآءُ { هذا القول الحق: } وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ
{. لماذا؟ لأن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه، فإذا ما انتهى سلطان هذا
الملك، ظهر هؤلاء المستمعون على السطح. وهذا نشاهده كل يوم وكل عصر. } وَتُعِزُّ
مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْر {.
ونلاحظ هنا: أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير. ونزع الملك في أعراف الناس شر.
ولهؤلاء نقول: إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه، ولكنه خير لمن أوتي الملك. وقد
يكون خيرا لمن نزع منه الملك أيضا. لأن الله حين ينزع منه الملك، أو ينزعه من
الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقلا، لتقبل ذلك وقال: إن
الله يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب..
إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الأشخاص، ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما
يجري في كون الله من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز، ثم نزع الملك وما يتبعه من
إذلال، كل ذلك ظاهرة خير في الوجود، لذلك قال الحق هنا: } بِيَدِكَ الْخَيْر { ولو
دقق كل منا النظر إلى مجريات الأمور، لوجد أن: الله هو الذي يؤتي، والله هو الذي
ينزع، والله هو الذي يعز، والله هو الذي يذل، ولا بد أن يكون في كل ذلك صور للخير
في الوجود، فيقول: } بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {.
إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية، وأحيانا يكون الوصول
إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، أو السياسية، وكذلك نزع الملك يحتاج إلى
نفس الجهد.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول: ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي
اللانهائية، لأنني لا أتناول الأفعال بعلاج، أو بعمل، إنما أنا أقول: " كن
" فتنفعل الأشياء لإرادتي، ويأتي الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات
الله في الوجود على صدق قضية } إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { فيقول وقوله
الحق: } تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
الْلَّيْلِ... {
(/418)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
إن الحق يقول لنا: عندكم ظاهرة تختلف عليكم، وهي الليل والنهار، وظاهرة أخرى، هي
الحياة والموت. إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لأنها آية من الآيات العجيبة،
والحق يقول عنها: { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
الْلَّيْلِ } إن الحق لم يصنع النهار بكمية محدودة من الوقت متشابهة في كل مرة،
لا، إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحيانا عن النهار خمس ساعات، وأحيانا يزيد النهار
على الليل خمس ساعات.
ولنا أن نتساءل.. هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة هل
يفاجئنا النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة؟ هل يكون الليل
مفاجئاً لنا في الطول أو القصر؟ لا، إن المسألة تأتي تباعا، بالدورة، بحيث لا تحس
ذلك، إن هناك نوعا من الحركة اسمها الحركة الترسية. إننا عندما ننظر إلى الساعة في
كل الزمن؟ لا، إن كل ترس له زمن يتوقف فيه، وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد
دورته، ويعمل، وإذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فإننا نستطيع أن نلحظ ذلك.
إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى، وهذا اللون
من الحركة نسميه " حركة ترسية " ، وهناك حركة أخرى ثانية نسميها "
حركة انسيابية " ، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركة، كما يحدث الأمر في
ظاهرة النمو بالنسبة للإنسان والنبات والحيوان.
إن الطفل الوليد لا يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي، أو محسوس، إنه يكبر
بالفعل دون أن نلحظ ذلك، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول، وهذا الملليمتر شائع
في كل ذرات الثواني من النهار، إن الطفل لا يظل على وزنه وطوله أربعا وعشرين ساعة
من النهار، ثم يكبر فجأة عند انتهاء اليوم، لا، إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة
تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من النهار، وهذه العملية تحتاج إلى الدقة
المتناهية في توزيع جزيئات الحدث على جزيئات الزمان، وهذه هي العظمة للقدرة
الخالقة التي يظل الإنسان عاجزا عنها إلى الأبد.
وقد قلت لكم مرة: إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد، وظل ناظراً له طوال
العمر فلن يلحظ الإنسان منكم كبر ابنه على الإطلاق، لكن عندما يغيب الإنسان عن
ابنه شهرا أو شهورا، ثم يعود، هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه
وقد أصبح واضحا. ولو زرع الإنسان نباتا ما، وجلس ينظر إلى هذا النبات، فهو لن يرى
أبدا نمو هذا النبات لماذا؟ لأن الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس الإنسان طريقة
نموها.
ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضا، ولا توجد عند الإنسان قدرة للملاحظة
المباشرة لذلك، وفي الحياة أمثلة أخرى، نأخذ منها هذا المثل، فعندما قام العلماء
بتصوير الأرض من الأقمار الصناعية، كانت الصور الأولى لمدينة نيويورك هي صورة
لنقطة بسيطة، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصورة ظهرت الجزئيات، كالشوارع
وغيرها، أين كانت الشوارع في هذه النقطة الصغيرة؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير
بصورة تستحيل معها على آلات الإدراك عند الإنسان أن تراها، ولذلك فلا بد من
التكبير لهذه الصورة حتى يمكن للإنسان أن يراها، ونحن نرى الشيء البعيد صغيرا،
ولكما قربناه كبر في نظرنا.
إذن فقول الله: } تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
الْلَّيْلِ { هو لفت للانتباه البشرى إلى أن الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع
بنسبة متساوية لكل منهما، لا، إنه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار
في الليل. إن معنى " تُولج " هو " تُدخل " ، ومثال ذلك أن
يؤذن المؤذن لصلاة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة، ويؤذن المؤذن لصلاة
المغرب في أيام أخرى في الساعة السابعة. إن ذلك لا يحدث فجأة، ولا يقفز المغرب من
الخامسة إلى السابعة، إنما يحدث ذلك بانسيابية، ورتابة. ومن ذلك نتلقى الدرس
والمثل.
إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائما على حضارة مؤصلة، فاعلم أن هناك عوامل دقيقة لا
تراها بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك. وهكذا تنهار
الحضارات بعد أن تبلغ أوج الارتقاءات، ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة
وإمكانات هائلة، وذلك لأن عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات.
إن الحق بلفتنا إلى جلال قدرته وعظمة دقة صنعه، بمثل الليل والنهار: } تُولِجُ
اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ {. ثم يأتي لنا
الحق الأعلى بمثل آخر، فيقول: } وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ
الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ { ، إنها القدرة المطلقة بدون أسباب.
والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه من اكتشاف لبعض
أسراره في كونه، لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة، فنرى أن ورقة النبات
تحدث فيها تفاعلات ولها حياة خاصة، ونرى أن الذرة فيها تفاعلات ولها حياة خاصة،
والتفاعل معناه الحركة، والحياة كما تعرف مظهرها الحركة، وغاية ما هناك أنه يوجد
فرق في رؤية الحياة عند العامة، ورؤية الحياة عند الخاصة. إن الإنسان العامى لا
يعرف أن النطفة فيها حياة، وأن الحبة فيها حياة، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أهل
العلم.
إن العامة من الناس لا يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية، ويكمن فيها نمو غير
ظاهر، ولا يعرف العامة أن هناك فرقا بين شيء حي، وشيء قابل لأن يحيا.
ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة، إنها كنواة تظل مجرد
نواة إلى أن يأخذها الإنسان، ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخلة.
إذن فالنواة قابلة للحياة، وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها
في بيئة لنصنع منها شيئا، ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة. ويقول العلماء: إن
الحركة الموجودة في ذرات رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لإدارة قطار كهربائي
بإمكانه أن يلف حول الكرة الأرضية عددا من السنوات.
إن هذه أمور يعرفها الخاصة، ولا يعرفها العامة. فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون
القول الحق: } وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ { كانوا يقولون: إن المثل على ذلك نواة البلح، وكانوا يعرفون أن النخلة
تنمو من النواة. ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة حياة وعرفوا كيفية
النمو.. وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته.. فليست الحياة هي
الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط، لا، بل إن هناك حياة في كل شيء.
إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج
الميت من الحي، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة،
فالتراب الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضا منه في مكان معزول، فلن يخرج منه شيء،
هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف " الميت في الدرجة الأولى " وأما
النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها في هذا التراب، فيصفها العلماء بأنها "
الميت من الدرجة الثانية ".
وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجة الثانية
تظهر لنا نتائج تدلل على حياة كل من التراب والنواة معا، وقد مس القرآن ذلك مسا
دقيقا، لأن القرآن حين يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول
الذي تتقبلها به كل العقول، فعقل الصفوة يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضا، لأن
القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع، ثم يكتشف العقل
البشري نفاصيل جديدة في هذا الأمر.
إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا: إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من
لون معين من الطاقة، ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الأشياء بالبيان الإلهي
القادر، وخصوصا أن هذه الأشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم أو المنهج. فلو عرف
الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الأحكام؟ ولو أن
أحدا أثبت أن الذرة ليس بها حياة فما الذي ينقص من أحكام المنهج الإيماني؟ لم يكن
الأمر من ناحية الأحكام ليزيد أو لينقص، وعندما نأخذ القرآن مأخذ الواعين به، ونفهم
معطيات الألفاظ فإننا نجد أن كلمة " الحياة " لها ضد هو " الموت
" ، وقد ترك الحق سبحانه كلمة " الموت " في بعض المواقع من الكتاب
الكريم وأورد لنا كلمة أخرى هي " الهلاك " قال الحق سبحانه:
{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ
وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }[الأنفال: 42].
إن " الهلاك " هنا هو مقابل الحياة، لماذا لم يورد الحق كلمة "
الموت " هنا؟ لانه الخالق الأعلم بعباده، يعلم أن العباد قد يختلفون في مسألة
" الموت " فبعض منهم يقول تعريفا للميت: إنه الذي لا توجد به حركة أو حس
أو نمو، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له، كحياة الذرة أو حياة حبة الرمل، أو
حياة أي شيء ميت، وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة يقابلها الهلاك. ويقول
الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامة:{ كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص: 88].
لقد استثنى الحق الوجه أو الذات الإلهية، وكل ما عداها هالك. وما دام كل شيء هالك
فمعنى ذلك أن كل شيء كان حيا وإن لم ندرك له حياة. اذن فالحياة الحقيقية توجد في
كل شيء بما يناسبه، مرة تدركها أنت، ومرة لا تدركها.
إذن فقوله الكريم: } وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ { يجوز أن تأخذه مرة بالعرف العام، أو تأخذه بالعرف الخاص، أي عرف
العلماء، وما دام ذلك أمرا ظاهرا في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في
الليل، أي أن الحق يدخل النهار في الليل، ويدخل الليل في النهار. وفي اللغة يسمون
بطانة الرجل - أي خاصة أصدقائه - " الوليجة " لماذا؟ لأنها تتداخل فيه،
لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من أصدقائه الذين
يتداخلون معه.
لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل، وجاءت
مسألة الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة. وإذا كانت تلك
الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن إذن يستكثر على الله قدرته في أنه يؤتي الملك من
يشاء، ويعز من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من الآيات
الكونية، ونراه كل يوم رأي العين. } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ.. تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ
وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
{.إنك أنت يا الله، الذي أجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها أمور من الخير،
وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر.
إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علاج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه
أن يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن، حتى ولو كان الأمر يتطلب التدخل الجراحي. إن الأب
هنا يفعل الخير للابن، والابن قد يتألم من العلاج، فإذا كان هذا أمر المخلوق في
علاقته بالمخلوق، فما بالنا بالخالق الأكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء، إيتاء ملك
أو نزعه، وإعزازا أو إذلالا، فكل ذلك لا بد أن يكون من الخير، وآيات الله تشهد بأن
الله على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الآية السابقة قوله:
} تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { [آل عمران: 27]
فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبدا لمسألة إيلاج الليل في النهار أو إخراج الحي من
الميت، فإنه لا بد أن يلتفت إلى رزقه، فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه، ولذلك
جاء الحق سبحانه بهذا الأمر الواضح: } وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {
وساعة تسمع كلمة " حساب " فإنك تعرف أن الحساب هو كما قلنا سابقا: يبين
لك مالك وما عليك.
وعندما نتأمل قول الحق: } وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {. فإننا نعلم
أن " الحساب " يقتضي " محاسبا " - بكسر السين ويقتضي "
محاسبا " - بفتح السين ويقتضي " محاسبا عليه " ، إن الحساب يقتضي
تلك العناصر السابقة. فعندما يقول الحق: } وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ { فلنا أن نقول: ممن؟ ولمن؟ من أين يأتي الرزق؟ وإلى أين؟ إنه يأتي من
الله، ويذهب إلى ما يقدره الله لأن الله هو الرزّاق، وهو الحق وحده، وهو الذي لا
يستطيع ولا يجرؤ أحد على حسابه، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعا، لا شريك له، وهو
الفعال لما يريد.
إن الحساب يجريه الله على الناس، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في
الوجود، بل يرزقهم أحيانا بما هو فوق حركتهم. وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوبا
عندك؛ لأن معنى الحساب هو ذلك الأمر التقديري الذي يخطط له الإنسان، كالفلاح الذي
يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا إردبا أو قنطارا، أو الصانع
الذي يقدر لنفسه دخلا محددا من صنعته. هذا هو الحساب، لكن الإنسان قد يلتفت فيجد
أن عطاء الله له من غير حساب. وقد يحسب الإنسان مرة ولا يأتي له الرزق.
مثال ذلك: قالوا: إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها، ولكن عندما نضج
المحصول هبت عاصفة أهلكت الزرع، وأكلت هذه الدولة قمحها من الخارج. فمن قالوا عن
أنفسهم: إنهم سيطعمون الناس أطعمهم الناس.
أليس ذلك مصداقا لقول الحق: " من غير حساب "؟ إنه الحق سبحانه لا يحسب
حركتك إيها الإنسان ليعطيك قدرها، ولكنه قد يعطيك أحيانا فوق حركتك.
ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض الله عليهم بثروة البترول، لقد تفجر البترول من تحت
أرجلهم دون جهد منهم إنه الله يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعلا، وأن الأرزاق
في يده هو. وننظر إلى الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل،
ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم، وعندما أفاء على
المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول التي تقول عن نفسها: أنها متقدمة، إنه
رزق بغير حساب.
إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلاقة القدرة، إن الحق قد خلق الأسباب، ولم يترك
الأسباب تتحكم وحدها، وقد يترك الحق الأسباب للإنسان ليعمل بها، وقد لا يعطيه
منها، ويعطي الحق الإنسان من جهة أخرى لم يحسب لها حسابا. والإنسان الذي يتأمل
تقدير أموره أو أمور من يعرف يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق، إنه سبحانه
يرزق بغير حساب، ولا يقول: " لقد فعلت على قدر يساوي كذا " ، والحق
سبحانه يعطي بغير حساب من الإنسان، لأن الموازنة التي قد يقوم بها الإنسان قد يأتي
لها من الأسباب ما يخرقها.
إذن } وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { تعني قدرة الحق المطلقة على
الرزق بغير حساب ولا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا فعلت؟ أو ماذا أعطيت؟ أو
من غير حساب منه سبحانه لخلقه، فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق، أو من غير
حساب للناس المرزوقين فيأتي رزقهم من حيث لم يقدروا، فإذا كانت كل هذه الأمور لله،
وهو مالك الملك ويعطي من يشاء، ويعز من يشاء، ويولج الليل في النهار، ويرزق من
يشاء بغير حساب، أليس من الحمق أن يذهب إنسان ليوالي من لا سلطان له ويترك هذا
السلطان، إن من يوالي غير الله هو الذي استبد به الغباء. ولنفطن لتلك القضية
الإيمانية: إي فما دامت كل الأمور عندي فإياكم أن توالوا خصومى، لأنني أنا الذي
بيده كل شيء، هاهوذا القول الحق:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ
بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }[آل عمران: 118].
إنه الحق يأمرنا ألا نوالي إلا الله، فإن كنت تجري حسابا لكل شيء وبتقدير مؤمن فلا
توال إلا صاحب هذه الأشياء، وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبده
في كل امور الكون ونواميسه، إياك أن تعمد الى أعداء الله لتتخذ منهم أولياء؛ لأنك
لو فعلت تكون غير صائب التفكير.
(/419)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
أنت لا تتخذ الكافر وليا إلا إن بانت لك مظاهر القوة فيه، ومظاهر الضعف فيك، إنك
عندما تتأمل معنى كلمة " ولي ". تجد أن معناها " معين " وحين
تقول: " الله هو الولي " فإننا نستخدم الكلمة هنا على إطلاقها، إن كلمة
الولي تضاف إلى الله على إطلاقها، وتضاف بالنسبية والمحدودية لخلق الله، فالحق
يقول:{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ }[البقرة: 257].
إن الله ولي على إطلاقه، والحق يقول:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[يونس: 62].
إن المفرد لأولياء الله هو " ولي الله " ، فالمؤمن ولي الله، والحق
يقول:{ هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً
}[الكهف: 44].
هكذا نلاحظ أن الولاية قد تضاف مرة إلى الله، ومرة إلى خلق الله. إن الله ولي
المؤمن، وهذا أمر مفهوم، وقد نتساءل: كيف يكون المؤمن ولي الله؟ إنا نستطيع أن
نفهم هذا المعنى كما يلي: إن الله هو المعين للعباد المؤمنين فيكون الله ولي الذين
آمنوا، أي معينهم ومقويهم. وأولياء الله، هم الذين ينصرون الله، فينصرهم الله، وهو
- سبحانه - الحق الذي قال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد: 7].
ألم يكن الله قادرا أن ينتقم من الكفار مرة واحدة وينتهي من أمرهم؟ ولكن الحق
سبحانه قال:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[التوبة: 14].
إن الحق لو قاتلهم فإن قتاله لهم سيكون أمرا خفيا، وقد يقولون: إن هذه مسائل كونية
في الوجود، لذلك يأتي بالقتال للمؤمنين الذين استضعفهم الكافرون. إذن مرة تُطلق
" الولي " ويراد بها " المعين ". ومرة أخرى تُطلق كلمة "
الولي " ويراد بها " المعان ". لأنك إن كنت أنت ولي الله، والله
وليك فإنه الحق سبحانه " معين " لك وأنت " معان ".
إن الحق سبحانه يريد لمنهجه ان يسود بإيمان خلقه به، وإلا لكان الحق سبحانه وتعالى
قد استخدم طلاقة قدرته على إرغام الناس على أن يكونوا طائعين، فلا أحد بقادر على
أن يخرج عن قدرة الله، والإنسان عليه أن يفكر تفكيرا واضحا، ويعرف أن حياته بين
قوسين: بين قوس ميلاده وقوس وفاته ولا يتحكم الإنسان في واحد من القوسين، فلماذا
يحاول التحكم في المسافة بين القوسين؟ إذن القواميس الكونية بيد الله وتسير
كالساعة، إنه سبحانه يقول:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ
خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[غافر: 57].
إن شيئا لم يخرج عن مراد الخالق الأعظم. إنما الحق سبحانه وتعالى أخذ هذه المسائل
في حركة السماوات والأرض بقوة قهره وقدرة جبروته، فلا شيء يخرج من يده، أما
بالنسبة للعباد فهو سبحانه يريد ان يأخذ قوما بحب قلوبهم.
إن الإيمان طريق متروك لاختيار الإنسان، صحيح أن الحق قادر على أن يأتي بالناس
مؤمنين، ولكنه يريد أن يرى من يجيء إليه وهو مختار ألا يجيء.
إن تسخير الأشياء يظهر لنا صفة القدرة الكاملة لله، واختيارات الإنسان هي التي
تظهر صفة المحبوبية لله، والله يريد لنا أن نرى قدرته، ويريد منا أن نتجه إليه بالمحبوبية
لذلك يقول الحق: } لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ { لماذا؟ لأن الكافرين وإن تظاهروا أنهم أولياء لك أيها
المؤمن، فهم يحاولون أن يجعلوك تستنيم لهم، وتطمئن إليهم وربما تسللوا بلطف ودقة،
فدخلوا عليك مدخل المودة، وهم ليسوا صادقين في ذلك، لأنهم ما داموا كافرين، فليس
هناك التقاء في الأصل بين الإيمان والكفر؛ لذلك يقول الحق: } وَمَن يَفْعَلْ
ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ {.
إن من يتخذ هؤلاء أولياء له، فليس له نصيب من نصرة الله، لماذا؟ لأنه اعتقد إن
هؤلاء الكافرين قادرون على فعل شيء له. لذلك يحذرنا الله ويزيد المعنى وضوحا أي:
إياكم أن تغتروا بقوة الكافرين وتتخذوا منهم أولياء. ولا تقل أيها المؤمن: "
ماذا أفعل؟ " لأن الله لا يريد منك إلا أن تبذل ما تستطيع من جهد، ولذلك قال
سبحانه:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن
دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }[الأنفال:
60].
إن الحق لم يقل: " أعدوا لهم ما تغلبونهم به " ، ولكنه قال: }
أَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ {. إن على المؤمن أن يعمل ما في استطاعته،
وأن يدع الباقي لله، ولذلك فهناك قضية قد يقف فيها العقل، ولكن الله يطمئننا؛ أي:
لا تخافوا ولا تظنوا أن أعدادهم الكبيرة قادرة على أن تهزمكم، ولا تسأل: "
ماذا أفعل يا الله "؟ لقد علمنا الحق ألا نقول ذلك، وعلمنا ما يحمينا من هذا
الموقف لذلك قال:{ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ
فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }[الأنفال:
12].
إذن فساعة يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب فماذا يصنعون مهما كان عددهم أو
عدتهم؟ أليس في ذلك نهاية للمسألة؟ إن الرعب هو جندي ضمن جنود الله، ولذلك فعلى
المؤمن ألا يوالي الكافرين من دون المؤمنين، لماذا؟ حتى لا ينطبق عليه القول الحق:
" وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ " ويضع الحق
بعد ذلك الاستثناء: } إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىا اللَّهِ الْمَصِيرُ {.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي المنهج للإنسان وهو من خلقه سبحان، ويعرف كل غرائزه،
وانفعالاته، وفكره، وفي أنه قد تأتي له ظروف أقوى من طاقته، لذلك يعامل الحق
الإنسان على أنه مخلوق محدود القدرات؛ وفي موضع آخر جاء الحق باستثناء آخر فقال:{
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلَىا فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }[الأنفال: 16].
إن الحق يقول في هذا الموضع من سورة آل عمران: } لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ
فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً {.
" وتقاة " مأخوذة من " الوقاية ". إنهم قد يكونون أقوياء
للغاية، وقد لا يملك المؤمن بغلبه الظن في أن ينتصر عليهم؛ وهم الكافرون، فلا مانع
من أن يتقي المؤمن شرهم.
إن التقية رخصة من الله، روى: أن مسيلمة الكذاب جاء برجلين من المسلمين وقال لواحد
منهما: " أتشهد أن محمدا رسول الله "؟ قال المؤمن " نعم ":
قال مسيلمة: " وتشهد أني رسول الله؟ " قال المؤمن: " نعم ".
وأحضر مسيلمة المسلم الآخر وقال له: " أتشهد أن محمداً رسول الله؟ " قال
المؤمن: " نعم ". قال مسيلمة: " أتشهد أني رسول الله؟ " قال
المؤمن الثاني: " إني أصم " كيف رد عليه المؤمن بدعوى الصمم؟ لقد علم
مسيلمة أنه يدعي الصمم، لذلك أخذه وقلته، فرفع الأمر إلى سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فماذا قال؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أما المقتول..فقد صدع بالحق
فهنيئا له، وأما الآخر فقد أخذ برخصة الله ". فالتقية رخصة،والإفصاح بالحق
فضيلة..
وعمار بن ياسر أخذ بالرخصة وبلال بن رباح تمسك بالقرعة.
ولننظر إلى حكمة التشريع في هذا الأمر. إن كل مبدأ من مبادئ الخير جاء ليواجه
ظاهرة من ظواهر الشر في الوجود، وهذا المبدأ يحتاج إلى منهج يأتي من حكيم أعلى
منه، ويريد صلابة يقين، وقوة عزيمة، كما يريد تحمل منهج، فالتحمل إنما يكون من أجل
أن يبقى المنهج للناس، والعزيمة من أجل أن يواجه المؤمن الخصوم، فلو لم يشرع الله
التقية بقوله:{ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ
}[النحل: 106].
لكنا حقيقة سنحقق الفدائية التي تفدي مناهج الحق بالتضحية بالحياة رخيصة في سبيل
الله، ولكن هب ان كل مؤمن وقف هذا الموقف فمن يحمل علم الله إلى الآخرين؟ لذلك
يشرع الحق سبحانه وتعالى التقية من أجل أن يبقى من يحمل المنهج، إنه يقرر لنا
الفداء للعقيدة، ويشرع لنا التقية من أجل بقاء العقيدة. لقد جاء الحق بالأمرين:
أمر الوقوف في وجه الباطل بالاستشهاد في سبيل الحق، وأمر التقية حماية لبعض الخلق
حتى لا يضيع المنهج الحق لو جاء جبار، واستأصل المؤمنين جميعا، لذلك يشرع الحق ما
يبقى للفداء قوما، ويبقى للبقاء قوما ليحملوا منهج الله، هل عرفنا الآن لماذا جاءت
التقية؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد منهجا يعمر الأرض، ويورث للأجيال المتتالية،
فلو أن الحق لم يشرع التقية بقوله:
{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل: 106].
لثبتت الفدائية في العقيدة، ولو ثبتت الفدائية وحدها لكان أمر المنهج عرضه لأن
يزول، ولا يرثه قوم آخرون، لذلك شرع الله التقية ليظل أناس حول شمعة الإيمان،
يحتفظون بضوئها؛ لعل واحدا يأخذ بقبسها، فيضيء بها نورا وهاجا. ولذلك، فلا ولاية
من مؤمن لقوم كافرين إلا أن يتقى منهم تقاة، لماذا؟ لأن الله يحذرنا نفسه بقوله: }
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىا اللَّهِ الْمَصِيرُ {.
فإياك أن تقبل على السلوك الذي يضعه أمامك الكفار بانشراح صدر وتقول: أنا أقوم
بالتقية، بل لا بد أن تكون المسألة واضحة في نفسك، وأن تعرف لماذا فعلت التقية، هل
فعلتها لتبقى منهج الخير في الوجود، أو لغير ذلك؟ هل فعلتها حتى لا تجعل جنود
الخير كلهم إلى فناء أو غير ذلك؟ إنك إن فعلت التقية بوعي واستبقيت نفسك لمهمة
استبقاء المنهج الإيماني، فأنت أهل الإيمان، وعليك أن تعرف جيدا أن الحق قد قال: }
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىا اللَّهِ الْمَصِيرُ {. إنه الحق يقول
للمؤمنين: إياكم أن تخلعوا على التقية أمرا هو مرغوب لنفوسكم، لماذا؟ لأن الحق قد
حددها:{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل: 106].
فلا غاية إلا الله، فإياكم أن تغشوا أنفسكم؛ لأنه لا غاية عند غيره؛ فالغاية كلها
عنده وبعد ذلك يقول الحق: } قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ
تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ... {
(/420)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
لأن الإنسان قد يقوم بالتقية كظاهرة شكلية، أما المؤمن فلا يفعل ذلك أبدا. لماذا؟
لأن التحذير واضح في هذه الآية. هنا قد يقول قائل: إن إخفاء ما في الصدر هو الذي
يعلمه الله أما إبداء ما في الصدر فإنه قد علمه أحد غير الله، فلماذا جاء هذا
القول؟ لقد جاء هذا القول الحكيم، لأنه قد يطرأ على بالك أن الله غيب فهو يعلم
الغيب فقط ولا يعلم المشهد. لكن الله لا يحجبه مكان عن مكان أو زمان عن زمان.
فإياك أن تعتقد ان الله غيب فلا يعرف إلا الغيب. إن الحق يعلم الغيب ويعلم ما برز
إلى الوجود. وبعد ذلك يقول الحق: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ مُّحْضَراً... }
(/421)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
إن العمل في ذاته ظاهرة تحدث وتنتهي، فكيف يأتي الإنسان يوم القيامة، ويجد عمله؟
إنه لا شك سوف يجد جزاء عمله، إننا حتى الآن نقول ذلك، لكن حين يفتح الله على بعض
العقول فتكتشف أسرارا من أسرار الكون فقد يكون تفسير هذه الآية فوق ما نقول، إنهم
الآن يستطيعون تصوير شريط لعمل ما وبعد مدة يقول الإنسان للآخر: انظر ماذا فعلت
وماذا قلت إن العمل المسجل بالشريط يكون حاضرا ومصورا، فإذا كنا نحن البشر نستطيع
أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن وسائل الحق سبحانه وتعالى؟ لا بد أنها تفوقنا قدرة،
إنه الحق يعلم كل شيء، في الصدر، أو في السماوات أو في الأرض: إن الحكم الإلهي
يشمل الكون كله مصداقا لقول الحق:{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ
إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ
إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ
يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[الأنعام: 59].
ويختم الحق هذه الآية بقوله: { وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إنه
القادر الذي يعلم عنا الغفلة، فينبهنا دائما إلى كمال قدرته، كما قال في آية
قبلها: { إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ونحن مخلوقون لله، وهو القادر
الأعلى، القادر على كل شيء ويأتي لكل منا بكتاب حسابه يوم الحساب:{ فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ }[الحاقة:
19].
إذن فمن تقف في عقله هذه المسألة، فليقل: { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً
} يعني أنه يجد جزاء عمله. أما ما عملته النفس من السوء فهي تود أن يكون بينه
وبينها أمد بعيد، أي غاية بعيدة، ويقول الإنسان لنفسه: " يا ليتها ما جاءت
". والحق سبحانه يقول: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ
بِالْعِبَادِ } إن الحق سبحانه يكرر التحذير لنستحضر قوته المطلقة، ولكنه أيضا
رءوف بنا رحيم ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ... }
(/422)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
ولنا أن نعرف أن كل " قل " إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي
من بعدها هو بلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، بلاغ للأمر وللمأمور به،
إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون: كان من الممكن أن يقول الرسول: { إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } لهؤلاء نقول: لو فعل الرسول
صلى الله عليه وسلم ذلك لكان قد أدى " المأمور به " ولم يؤد الأمر
بتمامه. لماذا؟ لأن الأمر في " قل ".. والمأمور به { إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ } وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل بلاغ عن الله بدأ بـ
" قل " إنما يبلغ " الأمر " ويبلغ " المأمور به "
مما يدل على أنه مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله.
إن الذين يقولون: يحب أن تحذف " قل " من القرآن، وبدلا من أن نقول: {
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلننطقها: " الله أحد ". لهؤلاء نقول: إنكم
تريدون أن يكون الرسول قد أدى " المأمور به " ولم يؤد " الأمر
".
إن الحق يقول: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ } هذه الآية تدل على ماذا؟ إنهم لا بد قد ادعوا أنهم يحبون الله، ولكنهم
لم يتبعوا الله فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم جعلوا الحب لله
شيئا، واتباع التكليف شيئا آخر، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد، وإمداد،
وتلك نعمة، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على المُكَلّف "
بفتح الكاف وتشديد اللام " ولم يعد منه شيء على المُكَلِّف بكسر الكاف فهذه
نعمة من المكلِّف.
إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد. إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما
يريد لنا أن نتبع قانون صيانة حياة الإنسان. وقد ضربنا المثل - ولله المثل الاعلى،
بالآلة المصنوعة بأيدي البشر، إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما، ويضع
قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في " افعل كذا " و "
لا تفعل كذا " ، ويختار لهذه الآلة مكانا محددا، وأسلوبا منظما للاستخدام.
إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة،
هي لفائدة المنتفع بالصنعة. هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة الله عز
وجل؟ إن لله إيجادا للإنسان، ولله إمدادا للإنسان، ولله تكليفا للإنسان، والحق قد
جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد. إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في
" افعل " و " لا تفعل " لفسد علينا الإيجاد والإمداد، إن من
تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه
للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف، وأن يحب
العبد ربه لأنه كلفة بالتكاليف الإيمانية.
إنك قد تحب الله، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله، وأن يحبك الله.
إن التكليف قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك: لا يكفي أن تحب الله
لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير،
إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان، فلا تهملها، ومن
الجائز أن تجد عبادا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدهم بكل أسباب الحياة، ولكن حب
الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته - سبحانه - في التكليف، إن الله يحب
العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف.
ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر، لا يبادله العاطفة، والمتنبي
قال:أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون حبيبا غير محبوبإن المتنبي يستعيذ أن يحب
واحدا لا يبادله الحب. فكأن الذين يدعون أنهم يحبون الله، لأنهم عبيد إحسانه
إيجادا وإمدادا، ثم بعد ذلك يستنكفون، أولا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء
التكليف لهؤلاء نقول: أنتم قد منعتم شطر الحب لله، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه
كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقل عن الإيجاد والإمداد.
لماذا؟ لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد، والحب - كما نعرف - هو ودادة القلب
وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله، فإننا نرى آثارها، وعملها، من عفو، ورحمة،
ورضا.
وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة. إن الحب الذي هو
ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب،
وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها، طاعة منه وحبا لله، ليتلقى محبة
الله له بآثارها، من عفو، ورحمة، ورضا.
والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق، أقول ذلك لنعلم جميعا، أنه الحق
سبحانه قائم بالقسط، فلا يكلف شططا, ولا يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة. إن الحب
المراد لله في التكليف هو الحب العقلي، ولا بد أن نفرق بين الحب العقلي والحب
العاطفي، العاطفي لا يفنن له. لا أقول لك: " عليك أن تحب فلانا حبا عاطفيا
" لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له. إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل
الذكاء أو صاحب عاهة، يحبه بعاطفته، ويكره قليل الذكاء بعقله.
والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه، وهو متفوق، فإنه يحب ابن الجار أو
ابن العدو بعقله، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته، ودليل ذلك أن الإنسان
عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران، هناك - إذن - فرق
بن حب العقل، وحب العاطفة.
والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل، ومع حب العقل قد يسأل
الإنسان نفسه: ماذا تكون حياتي وكيف.. لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا
وكيف، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟
إن هذا حديث العقل وحب العقل.
وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا، لكن المكلف به هو حب العقل، وليس الحب
العاطفي، ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - حينما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده
ووالده والناس أجمعين ".
وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال: أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني
أحبك أكثر من مالي، أو من ولدي، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء. وهكذا نرى صدق
الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكررها النبي صلى الله عليه وسلم
ثانيا، وثالثا، فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها لا بد أن تكون من
الحب المقدور عليه، وهو حب العقل، وليس حب العاطفة. وهنا قال عمر: " الآن
يارسول الله؟ " فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر، أي كمل
إيمانك الآن، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي.
ونريد هنا أن نضرب مثلا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول - نقول -
ولله المثل الأعلى: إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو
لا؟ إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله، لا بعاطفته.
إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه،
وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذاً فالمطلوب للتكليف الإيماني
" الحب العقلي " ، وبعد ذلك يتسامى ليكون " حبا عاطفيا "
وهكذا يكون قول الحق: } إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ { وهذا الحب ليس دعوى. إن الإنسان منا عندما يدعى أنه يحب
إنسانا آخر، فكل ما يتصل به يكون محبوبا، ألم يقل الشاعر: " وكل ما يفعل
المحبوب محبوب "؟ فإن كنتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعوه
بتنفيذ التكاليف الإيمانية، ولنلتفت إلى الفرق بين " اتبعني " و "
استمع لي ".
إن الاتباع لا يكون إلا في السلوك، فإن كانت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان
يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تفعل مثله، أما إذا كنت تدعى هذا الحب،
ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى فهذا عدم صدق في الحب، إن دليل صدقكم في الحب
المدعى منكم أن تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اتبعنا رسول الله نكون
قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقة
علينا، فيحبنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف.
إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا: أنتم أحببتم الله
للإيجاد والإمداد، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم، وهنا نقول: "
انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟ ". إنه
لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف.
وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم، فتصبح النعم هي " نعم الإيجاد " ، و
" الإمداد " ، و " التكليف " ، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد،
فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف، وما دمت
أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك لله، فلا بد أن يحبك الله، وكل منا يعرف أن حبه
لله لا يقدم ولا يؤخر، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر.
إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم: } فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ { أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله جاء
بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئا مما أُمِرَ بتبليغه، فلا يستقيم أن يضع أحد
تفريقا بين رسول الله وبين الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله كل
ما أنزل عليه.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ { إن مسألة } وَيَغْفِرْ
لَكُمْ { هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي، فمن لم يكن في باله
هذا الأمر؛ وهو حب الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يعرف أن عليه
مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وينفذ
التكليف الإيماني، وسيغفر له الله ما قد سبق، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها
الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم
بالحكم فيها.
وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد
قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني، إن الذين أبلغهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم، إن هذا الأمر لا
يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغا، وقد جاء البلاغ، ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة
على البلاغ، وبعد ذلك يقول الحق: } وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { إننا نعلم أن
المغفرة من الله والرحمة منه أيضا، وبعد ذلك يقول الحق: } قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ... {
(/423)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
وقد قلت من قبل في مسألة الأمر بالطاعة، إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة
ألوان: فمرة يقول الحق: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ }. كما جاء بهذه الآية
التي نحن بصدد تناولها بخواطرنا الإيمانية. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرر أمر
الطاعة، بل جعل الأمر واحدا، هو " أطيعوا " ، فإذا سألنا من المطاع؟
تكون الإجابة. الله والرسول معا.
إذن فقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغا عن الله { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ } يعني أن طاعة المؤمنين للرسول من طاعة الله. إن الرسول صلى الله عليه
وسلم لم يأمرنا بطاعته، ولكنه يأمرنا بطاعة الله، ولذلك لم يكرر الحق أمر الطاعة،
إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها لله وللرسول معا، إنه يعطف على المطاع الأول
وهو الله بمطاع ثانٍ هو الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق في كتابه العزيز:{
قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا
عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }[النور: 54].
إن الحق يورد أمر الطاعة ثلاث مرات، فمرة يكون أمر الطاعة لله، ومرة ثانية يكون
أمر الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة يقول الحق:{ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء: 59].
فما مسألة هذه الأوامر بالطاعة؟ إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها، إن الأحكام
المطلوب من المؤمنين أن يطيعوا فيها، مرة يكون الأمر من الله قد جاء بها وأن يكون
الرسول قد أكدها بقوله وسلوكه، إن المؤمن حين يطيع في هذا الأمر الواحد، فهو يطيع
الله والرسول معاً، ومرة يأتي حكم من الله إجمالا، ويأتي الرسول ليفصله.{
وَأَقِيمُواْ الصَّـلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[النور: 56].
إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلاة في اليوم، ولا عدد الركعات في كل صلاة، ولا
نعرف كيفيتها لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فصل لنا الأمر في كل صلاة، إذن،
فالمؤمن يطيع الله في الإجمال، ويطيع الرسول في التفصيل. إن علينا أن نلتفت إلى أن
هنا طاعتين: الأولى: طاعة الله، والثانية: طاعة الرسول، أما في الأمر المتحد،
فتكون الطاعة لله والرسول؛ لأنه أمر واحد. وأما الأمر الذي جاء من الله فيه تكليف
إجمالي فقد ترك الله للرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، فالمؤمن يطيع الله في الأمر
الإجمالي كأمر الصلاة، وإقامتها، ويطيع الرسول في تفصيل أمر الصلاة؛ وكيفيتها،
وأحيانا يجيء الحكم بالتفويض الأعلى من الله للرسول، فيقول الله لرسوله ما معناه
إنك أنت الذي تقرر في هذه الأمور، كما قال الحق:
{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ
}[الحشر: 7].
لقد ترك الحق سبحانه للرسول أن يصدر التشريعات اللازمة " لاستقامة حياة
المؤمنين " لقد أعطاه الحق سبحانه التفويض العام، وما دام سبحانه قد أعطى
الرسول صلى الله عليه وسلم التفويض العام فإن طاعة المؤمن تكون للرسول فيما يقوله
الرسول وإن لم يقل الله به. إننا على سبيل المثال لا نجد في القرآن دليلا على أن
صلاة الفجر ركعتان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فصل لنا الصلاة فعرفنا
أن الفجر ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر مثل الظهر، والمغرب ثلاث ركعات،
والعشاء أربع ركعات. إن الدليل هو تفصيل الرسول، وقول الحق:{ وَمَآ آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
إنه دليل من القرآن الكريم. هكذا نعرف أن الأمر بالطاعة جاء بالقرآن على ألوان
ثلاثة: اللون الأول: إن اتحد المطاع " الله والرسول " إن عطف الرسول هنا
يكون على لفظ الجلالة الأعلى. اللون الثاني: هو طاعة الله في الأمر الإجمالي وطاعة
الرسول في تفصيل هذا الأمر، فإن الحق يقول } أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ { اللون الثالث: وهو الذي لم يكن لله فيه حكم، ولكنه بالتفويض العام
للرسول، بحكم قوله الحق: } وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُواْ { هذه طاعة للرسول، ثم يأتي في أمر طاعة أولى الأمر فيقول
الحق:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء: 59].
إن الحق لم يورد طاعة أولي الأمر مندمجة في طاعة الله والرسول، لتكون طاعة واحدة.
لا. إن الحق أورد طاعة أولي الأمر في الآية التي يفرق فيها بين طاعة الله وطاعة
الرسول، ثم من بطن طاعة الرسول تكون طاعة أولي الأمر. لماذا؟ لأنه لا توجد طاعة
ذاتية لأولي الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم له الطاعة الذاتية. أما طاعة
أولي الأمر فهي مستمدة من طاعة أولي الأمر لله ورسوله، ولا طاعة لأولي الأمر فيما
لم يكن فيه طاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
إن الحق يقول: } قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {. إن الله يبلغ الرسول أن يبلغ هؤلاء الذين قالوا:
إنهم يحبون الله، بالشروط التي يمكن أن يبادل بها الحق عباده الحب، وذلك حتى تتحقق
الفائدة للبشر، لأن محبة الله تفوق ما يقدمه البشر من حب. إن اتباع الرسول وتنفيذ
التكليف بالطاعة لله والرسول.
ذلك هو أسلوب تعبير العباد عن حبهم لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أما إن تولوا،
أي لم يستمعوا إليك يا محمد، ولم يتبعوك، فإن موقفهم - والعياذ بالله - ينتقل إلى
الكفر؛ لأن الحق يقول عن الذين يتولون عن الله والرسول: } فإِن تَوَلَّوْاْ
فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {.
وليس هناك تفظيع أكثر من هذا.
إن كلمة " تولوا " توحي بأن الذين استمعوا إلى أوامر الحق قد نفروا
وأعرضوا، فهم لم يأخذوا حكم الله، ثم منعهم الكسل من تنفيذه. لا. إنهم أعرضوا عن
حكم الله - والعياذ بالله - ولذلك فقد قلت وما زلت أقول: فليحذر الذين يخالفون عن
أوامر الله ألا يفرقوا بين أمر متقبل على أنه الحكم الحق وبين حمل النفس على اتباع
الحكم وتنفيذه.
إياك أيها المسلم أن تنكر حكما لا تستطيع أن تحمل نفسك عليه أو لا تقدر عليه. إنك
إن أنكرت تنقل نفسك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والعياذ بالله. ولكن عليك أن
تؤمن بالحكم، وقل: " إنه حكم الله وهو صواب ولكني لا أستطيع أن أقدر على نفسي
" إن ذلك يجعل عدم تنفيذ الحكم معصية فقط. ويأتي الحق - سبحانه - بعد أن بيّن
لنا أصول العقائد في قوله:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ
وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[آل عمران: 18].
وبعد أن بشر الحق المؤمنين بأنه سبحانه وتعالى يعطيهم الملك الإيماني وأنه الإله
القادر، وطلاقة قدرته تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من
الميت وتخرج الميت من الحي، وبعد أن رسم سبحانه طريق محبته، فإن كنتم قد أحببتم
الله للإيجاد والإمداد، وتريدون أن يحبكم فعليكم بطاعة الله والرسول صلى الله عليه
وسلم في تنفيذ التكاليف.
وبعد أن وضع الله سبحانه وتعالى المبادئ الإيمانية عقدية وتشريعية، بعد هذا و ذاك
يعطي لنا نماذج تطبيقية من سلوك الخلق، ذلك أن هناك فرقا بين أن توضع نظريات ويأتي
الأمر للتطبيق فلا تجد من يطبق، إن الحق لم يكلف شططا ولا عبثا، إن الله يقول لنا:
أنا كلفت بالتكاليف الإيمانية ومن الخلق أمثالكم من استطاع أن يسير عليها وأن
ينفذها، لذلك يعرض الحق لنا النماذج التي توضح ذلك.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى أمة أمية، وكان الإسلام جديدا
عليهم، ولذلك يعرض الحق نماذج قديمة، وهذه النماذج تؤكد لنا أننا في دين الإسلام
لا نجد تعصبا، لأن الدين الذي جاء من الله على آدم عليه السلام هو الدين الذي جاء
به إبراهيم عليه السلام من عند الله وهو الدين الذي نزل إلى آل عمران وموسى عليه
السلام وعيسى عليه السلام.
إن الحق يعطي صفات التكريم لأهل أديان منسوبين إلى ما أنزله الله عليهم من منهج.
وجاء الإسلام لينسخ بعضا مما جاء في تلك الرسالات السابقة ويضعها في منهج واحد باق
إلى يوم القيامة، هو منهج الإسلام، إنه مطلق العظمة. ها هو ذا الحق يقول: } إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَىا ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ {
(/424)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
إنها عدالة القرآن الكريم، إنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلاغا يذكر
الأبناء بطهارة أصول الآباء، ومن الخسارة أن يصير الأبناء إلى ما هم عليه. { إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَىا ءَادَمَ } وكلمة { اصْطَفَىا } تدل على اختيار مُرضٍ. ولنا أن
نسأل: هل اصطفى الحق هؤلاء الرسل، آدم ونوحاً، وآل إبراهيم، وآل عمران فكانوا
طائعين، أم علم الحق أزلا أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟ إن الحق علمه أزلى، وعلمه
ليس مرتبا على كل شيء. وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى وتتفرس في إنسان ما،
وتوليه أمرا، وينجح فيه، هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها، بعلم الله
واقتداره؟
إن الذين اصطفاهم الله هم الذين علم الله أزلا أنهم سيكونون طائعين، وقد يقول
قائل: إنهم طائعون لله بالاصطفاء، لمثل هذا القائل نرد: إنهم طائعون بالنفس العامة
ويكونون في مزيد من الطاعة بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة، إنهم طائعون من
قبل أن يأخذوا أمور التكليف، ولو تركهم الحق للأمور العقلية لاهتدوا إلى طاعته،
وعندما جاءهم الأمر التكليفي ويصطفيهم الله يكونون رسلا وحملة منهج سماوي.
عندما يسمع الإنسان قول الحق: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىا ءَادَمَ } فقد يتساءل عن
معناها، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى " خصه " بنفسه
أو أخذه صفوة من غيره، فكيف كان اصطفاء آدم، ولم يكن هناك أحد من قبله، أو معه
لأنه الخلق الأول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه
السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية
الأنبياء.
إذن، فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى { اصْطَفَىا ءَادَمَ } - كما قلنا - تعني أن
الله قد اختاره أو أن " المصطفى عليه " يأتي منه ومن ذريته. نعم وقد جاء
المصطفى عليه من ذريته، وهذا المعنى يصلح، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا. إن الحق
يقول: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىا ءَادَمَ وَنُوحاً } ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً
عليه السلام واجه جماعة من الكافرين به، فأغرقهم الله في الطوفان، ونجا نوح ومن
معه بأمر الله.{ حَتَّىا إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا
احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }[هود: 40].
إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلام كانوا مؤمنين، ثم تعرضوا للأغيار. وجاءت هذه
الأغيار في أعقابهم، فنشأ كفر وإيمان، لماذا؟ لأن آدم عليه السلام حين خلقه الله
وضع له التجربة التكليفية في الجنة، كان من الواجب أن ينقل ما علمه له الله
لأبنائه.
لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وغير ذلك.
وكان يجب أن تكون معهم القيم. إن آدم عليه السلام قد أدى ذلك، وعلم أبناءه كيفية
صيانة مادتهم وعلمهم القيم أيضا، ولكن بمرور الزمان، ظل بعض من أبناء آدم يتخففون
من التكاليف حتى اندثرت وذهبت. ومن رحمة الله بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة
ببعث رسول جديد.
والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أولا، فيما يتعلق بالعقائد والأخبار،
والأشياء التي لا تتغير، وتأتي الرسالة الجديدة بالأحكام المناسبة لزمن الرسالة.
فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من سياسة البشر، يظل الأمر كما هو، فإن ارتكب واحد
منكرا وضرب قومه على يده، استقام أمر الرسالة وبقيت هذه الأمة على الخير. لماذا؟
لأن مصافى اليقين في النفس الإنسانية موجودة، ونحن نراها ونلمسها. إن هناك واحدا
تجد مصافي اليقين في ذاته، وقد لا يقدر على نفسه، فيرتكب المعصية، وتلومه نفسه،
فيرجع عن المعصية.
ومرة أخرى نجد إنسانا آخر لا يجد في نفسه مصافى اليقين، ولكنها موجودة في غيره،
فنجد من يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، فإذا امتنعت المصافي الذاتية للإيمان،
وكذلك امتنعت المصافي الإيمانية في المجتمع، فلا أمل هنالك، لذلك يجب أن يأتي رسول
جديد، وينبه الناس بمعجزة ما.
لقد شاءت إرادة الحق سبحانه ألا يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
وفي ذلك شهادة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن الله أمنها على منهج الله، فإذا
مُنِعت من أي نفس مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الاجتماعية، ولا بد أن يكون في
أمة محمد ذلك؛ لأن امتناع ذلك كان يستدعي وجود نبيّ جديد.
إن الله أمن أمة محمد على منهجه، ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم. لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو
الاجتماعية، ولذلك يأتي القول الحق:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }[آل عمران: 110].
إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الاجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم، إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلام جاء الله
باصطفاءات أخرى رحمة منه بالعالمين، ويقول الحق: } إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىا
ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {. ونحن
نقول على إبراهيم عليه السلام: " أبو الأنبياء " وأورد الحق نبأ بعض من
أبناء آل إبراهيم، وهم آل عمران وأعطاهم ميزة.
وكلمة " عمران " هذه حين ترد في الإسلام فلنا أن نعرف أن هناك اثنين
لهما الاسم نفسه، هناك " عمران " والد موسى وهارون عليهما السلام. وهناك
" عمران " آخر. إن عمران والد موسى وهارون كان اسم أبيه " يصهر
" وجده اسمه " فاهاث " , ومن بعده " لاوى " ومن بعده
" يعقوب " ، ومن بعده " إسحق " ، وبعده " إبراهيم "
، أما عمران الآخر، فهو والد مريم عليها السلام.
وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو " أي العمرانين يقصده الله هنا؟ "
والذي زاد من حيرة هؤلاء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلام اسمها
مريم، وكانت ابنة عمران والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران. وكانوا
في ذلك الزمن يتفاءلون باسم " مريم " لأن معناه " العابدة " ،
ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى، وكان يجب أن يفهموا
أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلام، بل عمران والد مريم،
ومنها عيسى عليه السلام، وعمران والد مريم هو ابن ماثان، وهو من نسل سليمان،
وسليمان من داود، وداود من أوشى، وأوشى من يهوذا، ويهوذا من يعقوب، ويعقوب من
إسحق.
وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف، فنقول " عمعم سدئيّا "
ومعناها.. عيسى ابن مريم، ومريم بنت عمران، وعمران ابن ماثان، وماثان من سليمان،
من داود من أوشى وأوشى من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق. لقد التبس الأمر
على الكثير وقالوا: أي العمرانين الذي يقول الله في حقه هذا القول الكريم؟ ولهؤلاء
نقول: إن مجيء اسم مريم عليها السلام من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم، وأيضا
يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن مريم:{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ
حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ
أَنَّىا لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن
يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وزكريا عليه السلام هو ابن آذن، وآذن كان معاصرا لماثان. إن المراد هنا هو عمران
والد مريم. هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله: } إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىا
ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {.
وعندما تقول: اصطفيت كذا على كذا، فمعنى ذلك أنه كان من الممكن أن تصطفى واحدا من
مجموعة على الآخرين، ولذلك نفهم المقصود بـ " على العالمين " أي على
عالمي زمانهم، إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا، أما الذي سيولد من بعد ذلك
فلا اصطفاء عليه، فلا اصطفاء على محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق بعد ذلك: }
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {
(/425)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
وحين يقول: { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } فلنا أن نسأل: هل المقصود بذلك
الأنساب أم الدين والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه
السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها، وإنما الأنساب
المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين. وكنا قد عرضنا من قبل لما
قاله الحق:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي }[البقرة:
124].
فردها الله عليه قائلا:{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124].
لماذا؟ لأن الإمام هو المقتدى في الهدايات. إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم. وهكذا
علم سيدنا إبراهيم ذلك بأن النسب للأنبياء ليس بوراثة الدم، إذن فنحن نفهم قول
الحق: { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } على أنها ذرية في توارثها للقيم. ونحن
نسمع في القرآن:{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ }[التوبة: 67].
إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم، إنها كلها أمور قيمية،
وحين يقال: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي أن الله يعرف الأقوال وكذلك الأفعال
والخبايا. وبعد ذلك يقول الحق: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً... }
(/426)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
وعندما تقرأ " إذ " فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة " اذكر
" ، ويقال " إذ جئتك " أي " اذكر أني جئتك ". وعندما
يقول الحق: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ } فبعض الناس من أهل الفتح والفهم
يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمران: " رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي " ، وهم يحاولون أن يربطوا هذه الآية بما جاء
قبلها، بأن الله سميع وعليم. ونقف عند قول امرأة عمران: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً }.
إننا عندما نسمع كلمة " مُحَرَّراً " فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا
قلنا: " حررت العبد " يعني ينصرف دون قيد عليه. أو " حررت الكتاب
" أصلحت ما فيه. إن تحرير أي أمر، هو إصلاح ما فيه من فساد أو إطلاقه من أي
ارتباط أو قيد. أما قولها: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي
مُحَرَّراً } هو مناجاة لله، فما الدافع إلى هذه المناجاة لله؟
إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولادها، وأولاد الناس - كما نعلم
- يحكمون حركة الناس، والناس تحكم حركة أولادهم، ويكد الناس من أجل أن يكون
الأبناء عزوة، وقرة عين، ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي، ولم تعجب امرأة
عمران بذلك، لقد أرادت ما في بطنها محررا من كل ذلك، إنها تريده محررا منها، وهي
محررة منه. وهذا يعني أنها ترغب في أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو
برعاية.
لماذا؟ لأن الإنسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين، فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه،
تمر عليه، وتشغله، لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محررا من كل ذلك،
وقد يقال: إن امرأة عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها، ونرد على
ذلك بما يلي:
لقد كانوا قديما عندما ينذرون ابنا للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم
الولاية عليه، ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد، وعند بلوغ سن الرشد فإن
للابن أن يختار بين أن يظل كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد.
إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية الإنسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته. كانت
امرأة عمران لا تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين، أو أن يكون معها، إنها تريده
محررا لخدمة البيت المقدس، وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود
ذكرا؛ لأن الذي كان يقوم بخدمة البيت هم الذكران.
ونحن نعرف أن كلمة " الولد " يطلق أيضا على البنت، ولكن الاستعمال
الشائع، هو أن يطلق الناس كلمة " ولد " على الذكر.
لكن معنى الولد لغويا هو المولود سواء أكان ذكرا أم أنثى. وعندما نسمع كلمة "
نذر " فلنفهم أنها أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به
الله.
إن الله قد فرض علينا خمس صلوات، فإذا نذر إنسان أن يصلي عددا من الركعات فوق ذلك،
فإن الإنسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به الله، وهو من جنس ما كلف
الله وهو الصلاة. والله قد فرض صيام شهر رمضان، فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي
الاثنين والخميس أو صيام شهرين فالإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله
من تكاليف، وهو الصيام. والله فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة، ولكن الإنسان
قد ينذر فوق ذلك، كمقدار عشرة بالمائة أو حتى خمسين بالمائة.
إن الإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، إن النذر هو زيادة
عما كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه. وكلمة " نذرت " من ضمن معانيها هو
أن امرأة عمران سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر، ولكنها فعلت ذلك، وهو
أمر زائد من أجل خدمة بيت الله.
والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف الله، فيلزم نفسه بالكثير من بعضها.
ودعت امرأة عمران الله من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت: " فتقبل مني
". " والتقبل " هو أخذ الشيء برضا، لأنك قد تأخذ بكره، أو تأخذ على
مضض، أما أن " تتقبل " فذلك يعني الأخذ بقبول وبرضا. واستجابة لهذا
الدعاء جاء قول الحق:{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ }[آل عمران: 37].
ونلاحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالت: } رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { ،
ولم تقل: " يا الله " وهذا لنعلم أن الرب هو المتولى التربية، فساعة
ينادي " ربي " فالمفهوم فيها التربية. وساعة يُنادي بـ " الله
" فالمفهوم فيها التكليف. إن " الله " نداء للمعبود الذي يطاع فيما
يكلف به، أما " رب " فهو المتولي التربية.
قالت امرأة عمران: } رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {. هذا هو الدعاء، وهكذا
كانت الاستجابة: } فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ { وبعد ذلك تكلم الحق
عن الأشياء التي تكون من جهة التربية. } وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً..
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا {. كل ذلك متعلق بالتربية وبالربوبية، فساعة نادت امرأة
عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها. وبعد ذلك جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة
القبول وهو الأخذ برضا.
} فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ {.
فالحسن هنا هو زيادة في الرضا، لأن كلمة " قبول " تعطينا معنى الأخذ
بالرضا، وكلمة " حسن " توضح أن هناك زيادة في الرضا، وذلك مما يدل على
أن الله قد أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا، وبشيء حسن، وهذا دليل على أن الناس
ستلمح في تربيتها شيئا فوق الرضا، إنه ليس قبولا عاديا، إنه قبول حسن. } وَأَنبَتَهَا
نَبَاتاً حَسَناً {. مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد حين نذرت ما في بطنها،
ألا تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في بيت الله.
ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الأولى للميلاد. إنها لن تتنعم بالمولود، ولذلك
قال الحق: } وكفلها زكريا { ، وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم. وبعد دعاء امرأة
عمران، يجيء القول الحكيم: } فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُهَآ أُنْثَىا... {
(/427)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
لقد جاء هذا القول منها، لأنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محررا لخدمة
البيت، وقولها: " محررا " تعني أنها أرادت ذكرا لخدمة البيت، لكن
المولود جاء أنثى. فكأنها قد قالت: ان لم أُمَكّنْ من الوفاء بالنذر، فلأن قدرك
سبق، لقد جاءت المولودة أنثى. لكن الحق يقول بعد ذلك: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
وَضَعَتْ }. وهذا يعني أنها لا تريد إخبار الله، ولكنها تريد أن تظهر التحسر، لأن
الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَىا
}. فهل هذا من كلامها، أم من كلام الله؟
قد قالت: { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىا } وقال الله: { وليس الذكر كالأنثى }.
إن الحق يقول لها: لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى،
إن هذه الأنثى لها شأن عظيم. أو أن القول من تمام كلامها: { إِنِّي وَضَعْتُهَآ
أُنْثَىا } ويكون قول الحق: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } هو جملة
اعتراضية ويكون تمام كلامها { وليس الذكر كالأنثى }. أي أنها قالت: يارب إن الذكر
ليس كالأنثى، إنها لا تصلح لخدمة البيت.
وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه، وسنجد أن المعنى الأول فيه إشراق أكثر، إنه تصور
أن الحق قد قال: أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر، وليكون في خدمة البيت،
ولقد وهبت لك المولود أنثى، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت، وأنا أريد
بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها
شعائر.
إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة.
ولأنني أنا الخالق، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها، وهي آية تثبت طلاقة
قدرة الحق، ولقد قلت من قبل: إن طلاقة القدرة تختلف عن القدرة العادية، إن القدرة
تخلق بأسباب، ولكن من أين الأسباب؟ إن الحق هو خالق الأسباب أيضا.
إذن فما دام الخالق للأسباب أراد خلقا بالأسباب فهذه إرادته. ولذلك أعطانا الحق
القدرة على رؤية طلاقة قدرته؛ لأنها عقائد إيمانية، يجب أن تظل في بؤرة الشعور
الإيماني، وعلى بال المؤمن دائما. لقد خلق الله بعضا من الخلق بالأسباب كما خلقنا
نحن، وجمهرة الخلق عن طريق التناسل بين أب وأم، أما خلق الحق لآدم عليه السلام فقد
خلقه بلا أسباب. ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين اثنين له قسمة عقلية ومنطقية، فما
دام هناك أب وأم، ذكر وأنثى، فسيجيء منهما تكاثر.. إن الحق يقول:{ وَمِن كُلِّ
شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[الذاريات: 49].
وعندما يجتمع الزوجان، فهذه هي الصورة الكاملة، وهذه الأولى في القسمة المنطقية
والتصور العقلي، وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية
والتصور العقلي.
أو أن ينعدم الزوج الأول ويبقى الطرف الثاني، وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية
والتصور العقلي، أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الأول، وهذه هي الرابعة في
القسمة المنطقية والتصور العقلي.
تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية. وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين، الرجل
والمرأة. أما آدم فقد خلقه الله بطلاقة قدرته ليكون السبب. وكذلك تم خلق حواء من
آدم. وأخرج الحق من لقاء آدم وحواء نسلا. وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح
عيسى ابن مريم بلا ذكر. وهذه هي الآية في العالمين، وتثبت قمة عقدية. فلا يقولن
أحد: ذكراً، أو أنثى، لأن نية امرأة عمران في الطاعة أن يكون المولود ذكرا، وشاء
قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في الطاعة، لذلك قال: } وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالأُنْثَىا {. أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه الأنثى.
وقالت امرأة عمران: } وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {. إن امرأة عمران قالت ما يدل على
شعورها، فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت الله فقد تمنت امرأة
عمران أن تكون المولودة طائعة، عابدة، فسمتها " مريم " لأن مريم في
لغتهم - كما قلنا - معناها " العابدة ".
وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان. إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودية.
إن الإنسان يريد أن يصير عابدا، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية. وأرادت إمرأة
عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من
نزغ الشيطان، وقد سمتها " مريم " حتى تصبح " عابدة لله " ،
ولأن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك
قالت: } وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
{.إن المستعاذ به هو الله، والمستعاذ منه هو الشيطان، وحينما يدخل الشيطان مع خلق
الله في تزيين المعاصي، فهو يدخل مع المخلوق في عراك، ولكن الشيطان لا يستطيع أن
يدخل مع ربه في عراك، ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي
يتراجع، ووصفه القرآن الكريم بأنه " الخنَّاس " ، إن الشيطان إنما ينفرد
بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدا عن الله، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان:{
وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[الأعراف: 200].
إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الإستعاذة بالله. وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان
بهذه الكلمة؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجيء الرجل امرأته، ومجيء الأهل هو
مظنة لمولود قد يجيء، فيقول العبد: " اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما
رزقتني " (من دعاء الرسول).
إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق " فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة
على المولود الذي يأتي بإذن الله. ولذلك قالت إمرأة عمران: } وِإِنِّي أُعِيذُهَا
بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {. والذرية قد يفهمها الناس
على أنها النسل المتكاثر، ولكن كلمة " ذرية " تطلق على الواحد وعلى
الاثنين، وعلى الثلاثة أو أكثر. والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى
عليه السلام، وتنتهي المسألة. وبعد دعاء إمرأة عمران } وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ { يجيء القول الحق: }
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا... {
(/428)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن، أما قوله الحق: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
} فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن، وهو الذي
أنبتها نباتا حسنا. إذن، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله. والدليل على ما
حدث عند كفالة مريم. لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من
أجل ذلك. وساعة تجد قرعة، أو إسهاما. فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة
إلى مراد الله. فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة، ويخصص سهم لكل مشترك فيها،
ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه، ويلجأ الناس لهذا الأمر؛ ليمنعوا هوى البشر عن
التدخل في الاختيار، ويصبح الأمر خارجا عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه
وتعالى، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم. ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم:{ ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا
كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44].
إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة
بالنسبة لكفالتها، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث
تنازع بينهم، عن أيهم يكفل مريم، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجا من
" إشاع " " أخت " " حنة " وهي أم مريم، فهو زوج
خالتها.
وكلمة " أقلامهم " قال فيها المفسرون: إنها القداح التي كانوا يصنعونها
قديما، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة، فرموها في البحر، فمن طفا قلمه لم يأخذ
رعاية مريم، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم. إذن فهم قد خرجوا عن
مراداتهم إلى مراد الله.
والخروج عن المرادات، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار - كقداح القرعة - لا
يوجد في النفس غضاضة. لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فلا بد
أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغصب. ولذلك فقد كان سائدا في ذلك
العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن
بأحد، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق، وكان لا بد لإنقاذها
أن ينزل واحد إلى البحر، وجاء القول الحكيم:{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ
مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ
كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ
}[الصافات: 139-144].
كان لا بد أن ينزل واحد من تلك السفينة، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم
معركة بين الموجودين على ظهر السفينة، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء، ولكن القرعة
حمت الناس من ظلم بعضهم بعضا.
قالوا: لنجر قرعة السهام، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به، وكان على يونس عليه
السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت. ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه. لقد
قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له. وهكذا
نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله. } فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا {.
وكلمة " كفلها " أي تولى كل مهمة تربيتها، هذه هي الكفالة، ونحن نعرف أن
الكفيل في عرفنا هو الضامن، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن
السداد، وقوله الحق: } وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا { يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا
عليه السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم.
ويتابع الحق الكريم قوله: } كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً { إنه لم يدخل مرة واحدة، بل دخل عليها المحراب مرات
متعددة. وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق، ولذلك كان لا
بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق، ولا بد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة، لذلك
يجيء القول الحق على لسان زكريا: } أَنَّىا لَكِ هَـاذَا {.
وساعة أن تسمع } أَنَّىا لَكِ هَـاذَا؟ { فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على
المكان الذي توجد به مريم، وإلا لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم، وكما يقولون:
فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب. وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك
من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق.
والرزق هو ما ينتفع به - بالبناء للمجهول - وعندما يقول زكريا عليه السلام: }
أَنَّىا لَكِ هَـاذَا {. فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله الله
على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الداخل، فلا بد أن يسأل كُلاًّ
منهم: من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام
بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد: من أين لك هذا؟
إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة، أو يجد
ابنه قد اشترى شيئا ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي
ليسأل: من أين لك هذا؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الإنهيار أو التحلل. فلو
فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته - " من أين لك هذا؟ "
لعرف كل تفاصيل حركتهم، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر.
وقول زكريا: " أنّى لك هذا؟ " هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق، ولننظر
إلى إجابتها: } قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ { ثم لا تدع البديهة الإيمانية
عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن: }
إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { وأثارت هذه المسألة في نفس
زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو
من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب، إنه الإله هو القادر على أن يقول:
" كن " فيكون.
وهنا ذكر زكريا نفسه، وكأن نفسه قد حدثته: " إذا كانت للقدرة طلاقة في أن
تفعل بلا أسباب، وتعطي من غير حساب، فأنا أريد ولدا يخلفني، رغم أنني على كبر ورغم
بلوغي من السن عتيّا، وامرأتي عاقر. إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على
مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب.
ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة، ولكن لا يستقر في
بؤرة الشعور. ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم، فلما وجد زكريا
الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره: } هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ
اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {. هنا تساءل زكريا: كيف فاتني هذا
الأمر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا: } هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ... {
(/429)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
إنها ساعة أن قالت له: إن الرزق من عند الله، وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير
حساب، هنا أيقظت فيه القضية الإيمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا
لنفسه: فلنطلب من ربنا أن يرزقنا ما نرجوه لأنفسنا، وما دام قد قال هذا القول فلا
بد أنه قد صدق مريم في قضيتها، بأن هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند الله، ودليل
آخر في التصديق, هو أنه لا بد وقد رأى أن الألوان المتعددة من الرزق التي توجد عند
مريم ليست في بيئته، أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك في المحراب.
ونحن نعرف أن المحراب كلمة يراد بها بيت العبادة. يقول الحق:{ يَعْمَلُونَ لَهُ
مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ
رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ }[سبأ: 13].
أو " المحراب " وهو مكان الإمام في المسجد، أو هو حجرة يصعد إليها بسلم،
كالمبلغات التي تقام في بعض المساجد. وما دامت مريم قد أخبرت زكريا وهي في المحراب
بأن الرزق من عند الله، وأيقظت بذلك تلك القضية الإيمانية في بؤرة شعوره، فماذا
يكون تصرفه؟ هنا دعا زكريا أثناء وجوده في المحراب. { رَبِّ هَبْ لِي مِن
لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ } إنه هنا يطلب الولد.
ولكن لا بد لنا أن نلاحظ ما يلي:
- هل كان طلبه للولد لما يطلبه الناس العاديون من أن يكون زينة للحياة أو "
عزوة " أو ذكرا؟ لا، إنه يطلب الذرية الطيبة، وذكر زكريا الذرية الطيبة تفيد
معرفته أن هنالك ذرية غير طيبة. وفي قول زكريا الذي أورده الحق:{ يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ }[مريم: 6].
أي أن يكون دعاء لإرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم، هكذا طلب زكريا الولد. لقد
طلبه لمهام كبيرة، وقول زكريا: " رب هب " تعني أنه استعطاء شيء بلا
مقابل، إنه يعترف. أنا ليس لي المؤهلات التي تجعل لي ولدا؛ لأني كبير السن وامرأتي
عاقر، إذن فعطاؤك يارب لي هو هبة وليس حقا، وحتى الذي يملك الاستعداد لا يكون هذا
الأمر حقا له، فلا بد أن يعرف أن عطاء الله له يظل هبة، فإياك أن تظن أن اكتمال
الأسباب والشباب هي التي تعطي الذرية، إن الحق سبحانه ينبهنا ألاّ نقع في خديعة
وغش أنفسنا بالأسباب.{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا
يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ }[الشورى: 49-50].
إن في ذلك لفتا واضحا وتحذيراً محدداً ألا نفتتن بالأسباب، إذن فلكل عطاء من الله
هو هبة، والأسباب لا تعطي أحدا ما يريد.
إن زكريا يقول: } رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ { وساعة أن تقول من: " لدنك
" فهو يعني " هب لي من وراء أسبابك ". لماذا؟ لأن الكل من الله.
ولكن هناك فرقا بين عطاء الله بسبب، كأن يذهب إنسان ليتعلم العلم ويمكث عشرين عاما
ليتعلم، وهناك إنسان يفيض الله عليه بموهبة ما، ولذلك يقول أهل الإشراقات: إنه علم
لدنى، أي من غير تعب، وساعة أن نسمع " من لدن " أي انعزلت الأسباب، كان
دعاء زكريا هو } رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ { وكلمة " هب " توضح ما
جاء في سورة مريم من قول زكريا:{ قَالَ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي غُلاَمٌ
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً }[مريم:
8].
إن " هب " هي التي توضح لنا هذه المعاني؛ هذا كان دعاء زكريا: } رَبِّ
هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ { فهل
المراد أن يسمع الله الدعاء؟ أم أن يجيب الله الدعاء؟ إنه يضع كل أمله في الله،
وكأنه يقول: إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلاقة قدرتك. لماذا؟
لأنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلام لا لشيء من أمور كقرة العين، والذكر،
والعز، وغيرها، إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الأرض، وبعد ذلك
يقول الحق: } فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ...
{
(/430)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
هل كل الملائكة اجتمعوا أو نادوا زكريا؟ لا، لأن جبريل عليه السلام الذي ناداه.
ولماذا جاء القول الحق هنا بأن الملائكة هي التي نادته؟ لقد جاء هذا القول الحق
لنفطن إلى شيء هو، أن الصوت في الحدث - كالإنسان - له جهة يأتي منها، أما الصوت
القادم من الملأ الأعلى فلا يعرف الإنسان من أين يأتيه، إن الإنسان يسمعه وكأنه
يأتي من كل الجهات، وكأن هناك ملكا في كل مكان.
والعصر الحديث الذي نعيشه قد ارتقى في الصوتيات ووصل لدرجة أن الإنسان أصبح قادرا
على جعل المؤثر الصوتي يحيط بالإنسان من جهات متعددة، إذن فقوله الحق: {
فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ } فهذا يعني أن الصوت قد جاء لزكريا من جميع الجهات.
{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىا مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً
وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39]
لقد نادته الملائكة في أورع لقاءاته مع ربه, أو هو حينما دعا أخذ ما علمه الله
للأنبياء إذا حزبهم أمر قاموا إلى الصلاة. أليس طلبه من الله؟ إذن فليقف بين يدي
الله. وليجربها كل واحد منا عندما يصعب عليك أي شيء، وتتأزم الأمور، وتمتنع
الأسباب، فليقم ويتوضأ وضوءا جديدا ويبدأه بالنية حتى ولو كان متوضئا. وليقف بين
يدي الله، وليقل -إنه أمر يارب عزّ عليّ في أسبابك، وليصل بخشوع، وأنا أجزم بأن
الإنسان ما إن يسلم من هذه الصلاة إلاّ ويكون الفرج قد جاء. ألم نتلق عن رسول الله
هذا السلوك البديع؟ إنه كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة؟
ومعنى حزبه أمر، أي أن أسبابه ضاقت، لذلك يذهب إلى الصلاة لخالق الأسباب، إنها
ذهاب إلى المسبب. وبدلا من أن تلف وتدور حول نفسك، اذهب إلى الله من أقصر الطرق
وهو الصلاة، لماذا تتعب نفسك أيها العبد ولك رب حكيم؟ وقديما قلنا: إن من له أب لا
يحمل هما، والذي له رب أليس أولى بالإطمئنان؟
إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام
إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي
من صلاته، { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ
أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ }.
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من
الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي
يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيَـىا } لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله بـ {
يَحْيَـىا } وفوق كل ذلك: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ }.
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول: } بِيَحْيَـىا مُصَدِّقاً {. هذا دليل على أنه
سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي
بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن
برسالة عيسى عليه السلام. وهو موصوف بالقول الحق: } وَسَيِّداً وَحَصُوراً
وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ {. أي ممنوعا عن كل ما حُرم عليه، أو ممنوعا عن
قمة الغرائز وهي الشهوة، وهو نبيّ، أي قدوة في اتباع الرسول الذي يجيء في عصره،
لقد دعا زكريا، وقام ليصلي، وتلقى البشارة بيحيى، وهنا ارتجت الأمور على بشرية
زكريا، ويصوره الحق بقوله: } قَالَ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي غُلاَمٌ... {
(/431)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
إن زكريا - وهو الطالب - يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل. كيف يكون ذلك؟ والحق
يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين، وليست في دائرات
التمكين، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في
أنه إذا ما حدث له ابتلاء فعليه الرجوع إلى الله، فيقول زكريا: { أَنَّىا يَكُونُ
لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ }.
إن بلوغ الكبر ليس دليلا على أنه عاجز عن الإنجاب لأنه يكون كبير العمر، وقادرا
على إخصاب امرأة، ذلك أن الإخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من
العمر إن لم يكن عاقرا، ولكن المرأة هي العنصر المهم، فإن كانت عاقرا، فذلك قمة
العجز في الأسباب. ولو أن زكريا قال فقط: { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } لكان أمرا غير
مستحب بالنسبة لزوجته، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة.
إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولها: { وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } ولنر دقة القول في: { بَلَغَنِي الْكِبَرُ } ‘ إنه لم يقل:
" بلغت الكبر " بل يقول: إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى
الكبر؛ لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه، وذكر زكريا {
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة، لقد أورد كل
الخوالج البشرية، وبعد ذلك يأتي القول الفصل: { قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ
مَا يَشَآءُ } إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب. ويقول
زكريا: { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً... }
(/432)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل.{ قَالَ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ
لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيّاً * قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ
مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }[مريم: 8 - 9].
لقد كان هذا القول تأكيدا لا شك فيه، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر. فماذا
يريد زكريا من بعد ذلك؟ إنه يطلب آية، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم
أمه، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض، ولا بد أنه عرف الآية لأنه
يعرف مسبقا أنها عاقر. لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات
الله عليه، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا، لا تتركني يارب إلى أن
أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار
الشكر لك على النعمة، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لا بد أن أحيا في نطاق الشكر؛ لأن
النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر.
إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر، إنه لم يطلب آية لأنه يشك - معاذ الله - في
قدرة الله، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا
ومعها الشكر عليها، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق: { قَالَ آيَتُكَ
أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ
كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }. لا بد أن معناها أنه يرغب في
الكلام فلا يستطيع.
إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم، وبين ألا يقدر على الكلام. وما
دامت الآية هبة من الله. فالحق هو الذي قال له: سأمنعك من أن تتكلم، فساعة أن تجد
نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا، أي
بالإشارة، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن
تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها، فإننا نعلم أن الله سينطقه.. {
وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }.
لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا، وجعل كل وقته ذكرا، فلم
ينشغل بالناس أو بكلام الناس، وذكر الرب كثيرا هو ما علمه - سبحانه - عن زكريا
عندما طلب الآية ليصحبها دائما بشكر الله عليها، إن قوله: { وَاذْكُر رَّبَّكَ
كَثِيراً } تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس، لذلك لا يريد
الله أن يشغله بكلام الناس، وكأن الله يريد أن يقول له: ما دمت قد أردت أن تعيش مع
النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر.
والذكر مطلقا هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له، والتسبيح هو
التنزيه لله، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه، فسبحان الله، معناها
تنزيه لله، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه..
إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب. تلك اللفتة.. التي جاءت من
قبل من مريم لزكريا.
وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد
لها بالرزق، يجيئها من غير زكريا، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب. وكأن التجربة قد
أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها؛ لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة، فلا بد
أن تعلم مسبقا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وبدون أسباب. فإن جاءت بولد بدون
سبب من أبوة فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فلما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا
أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني
غلاما؟ إذن فمقولة مريم: } إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {
قد لفتت زكريا، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره، ولا نقول أوجدت
إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنها أخرجت القضية
الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا: ما دام الأمر كذلك فأنا
أسأل الله أن يهبني غلاما.. وقول زكريا: } هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً
طَيِّبَةً { دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة
من الله. والهبة شيء بدون مقابل.
فلما سأل الله ذلك استجاب الله له، وقال له سبحانه: سأهبك غلاما بدون أسباب من
خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب
وأنا - الخالق - سأتولى الإيجاب بـ " كن " ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا
آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات - عادة - إنه تسمية المولود، فأفاض الحق
عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما.. هنا وقفة عند الهبة
بالاسم.{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ
أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىا مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }[آل عمران: 39].
حين يولد للناس ولد فهم يسمونه، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس. ولكن من يهمهم
أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون
أن يتحقق في المسمى، فيسمونه " سعيدا " أملا في أن يكون سعيدا، أو
يسمونه " فضلا " أو يسمونه " كريما ".
إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته, وذلك هو الأمل منهم ولكن
أتأتي المقادير على وفق الآمال؟
قد يسمونه سعيدا، ولا يكون سعيدا. ويسمونه فضلا، ولا يكون فضلا. ويسمونه عزا، ولا
يكون عزا. ولكن ماذا يحدث حين يسمى الله سبحانه وتعالى؟ لا بد أن يختلف الموقف
تماما، فإذا قال اسمه } يَحْيَـىا { دل على أنه سيعيش. وقديما قال الشاعر حينما
تفاءل بتسمية ابنه يحيى:فسميته يحيا ليحيا فلم يكن لرد قضاء الله فيه سبيلكان
الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا، ولكن الله لم يرد ذلك، فمات الابن. لماذا؟
لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة، ولكن
" المحيى " له طلاقة القدرة، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن
يحيا فلا بد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها
بقوله: " اسمه يحيى " بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة - لأن الرجل
حينما يسمى ابنه " يحيى " يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار، كما يحيا
الناس ستين عاما، أو سبعين، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل.
لكن الله حينما يسمى " يحيى " فانه لا يأخذ " يحيى " على قدر
ما يأخذه الناس، بل لا بد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، ويهيء له الحق من
خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا، وهو بالشهادة يصير حيا، فكأنه يحيا دائما،
فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس، ويحيا أطول من حياة الناس
إلى أن تقوم الساعة، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه
غلاما ويسميه يحيى، نجده قد استقبلها بالعجب. كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد
متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ } يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ {.
ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على
سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لا بد أن يندهش ويتعجب لذلك
قال: } رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي غُلاَمٌ {. فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية
عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو
يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس
التكاثر والإنجاب والنسل: } وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ {.
إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله.
فلما جاءته البشارة، لم يقل الله له: إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه،
أو وأنت على حالتك هذه. فيتشكك ويتردد ويقول: أترى يأتي الغلام الذي اسمه "
يحيى " منى وأنا على هذه الحالة، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر، أو
ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب.
إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله: } أَنَّىا يَكُونُ لِي
غُلاَمٌ * وَقد بلغني الكبر وامْرَأَتِي عَاقِراً { هذا التساؤل من زكريا يهدف به
إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب، لأن الإنجاب يأتي على حالات
متعددة. فلما أكد الله ذلك قال: " كذلك " ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن
الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما، أنت قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتك
عاقر. لأن العجيبة تتحقق بذلك، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه
أن يهبهما الولد؟ لا. لذلك قال الحق: } كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ {.
أي كما أنتما، وعلى حالتكما.
لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة، وقد يكون عدم
الكلام في نظر الناس مرضا لا، إنه ليس كذلك، لأن الحق يقول له: } وَاذْكُر
رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ { إن الحق يجعل زكريا
قادرا على التسبيح، وغير قادر على الكلام. وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله، إنه
اللسان الواحد، غير القادر على الكلام، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع، ولكن هذا
اللسان نفسه - أيضا - يصبح قادرا فقط على التسبيح، وذكر الله بالعشيّ والإبكار،
ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس، وذلك بيان لطلاقة القدرة.
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم، لأن مريم هي الأصل في
الكلام، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى
طلب الولد، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد، ثم عاد إلى قصة مريم: } وَإِذْ
قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ... {
(/433)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ } المراد بها جبريل عليه السلام، والسبب في أن
الحق يورد ذلك بـ { قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ } لأن كلام المتكلم - أي الإنسان - له
- كما قلنا - زاوية انطلاق يأتي من جهتها الصوت. وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما
يجيء لك صوت، فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر الصوت، فإن جاء الصوت من ناحية أذنك
اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك، وإذا جاءك الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال.
لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلام، ويأتي صوته من كل جهة حتى يصير الأمر
عجيبا، لهذا جاء الكلام منسوبا إلى الملائكة.
فماذا قال جبريل؟ قال جبريل مبلغا عن رب العزة: { يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ } وما
الاصطفاء؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي، أي الشيء
الخالص من الكدر. وعادة تؤخذ المعاني من المحسات، وعندما تقول الماء الصافي أي
الماء غير المكدر، أو كما يقول الحق:{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى }[محمد:
15].
وعندما يقول الحق: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىا
نِسَآءِ الْعَالَمِينَ } نحن هنا أمام اصطفاءين، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه
كلمة " على " والإصطفاء الثاني تسبقه كلمة " على " والمقصود
بالإصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب،
ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن " على " أي أن هذا الاصطفاء الأول
لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الإصطفاء آخرون، بدليل قول الحق:{ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَىا ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ }[آل عمران: 33].
ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق بـ
" على " فقال { وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ } إذن فهذا
خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق
بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها
هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها
فيها أحد.
وقوله الحق: { وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ } هذا القول يجب أن ينبه
في نفسها سؤالا هو: ما الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين؟ إن الذهن ينشغل بهذا
الأمر، وينشغل على أمر من وظيفة الأنثى، ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها: {
إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ونجد أن هذه كلها إيناسات
للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك، وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها، فلا بد أن يمهد الله له
تمهيدا مناسبا حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش الكرامة.
} وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ { ولنا أن نسأل: ما نتيجة الاصطفاء؟
لقد عرفنا أن الاصطفاء هو الاجتباء والآختيار، ويقتضي " مصطفِى " بفتح
الفاء. ويقتضي " مصطفِى " بكسر الفاء. والمصطفى هو الله، لكن ما علة
الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة، وتكون مهمة صعبة. إذن هو يصطفيه
حتى يشيع اصطفاؤه في الناس. كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم،
سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى
عليه. لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة. إذن فقد
اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر، ولذلك قال الحق عن الكعبة:{
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى
لِّلْعَالَمِينَ }[آل عمران: 96].
وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا، كاصطفائه لرمضان، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه،
وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان. إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو
لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله،
وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله. ولكن الله يصطفي زمانا على زمان، ومكانا على
مكان، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه. إذن فهل
يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه
جاء لمصلحتهم، والحق سبحانه يقول: } يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ... {
(/434)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول، والاصطفاء الثاني، يستحق منها القنوت، أي
العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة. وقد يقول قائل: ولماذا يصطفى الله واحدا، ليشيع
اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه
نظيره من الاختيارات غير المرضية، والحق سبحانه يريده نموذجاً لا يقع منه الا
الخير، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم
من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر، وذلك حتى يعطينا
الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية.
والحق يقول لمريم على لسان الملائكة: { يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } إنه أمر
بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها، وكلمة { لِرَبِّكِ } تعني التربية، فكأن
الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم، وتستحق منك القنوت { وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } و { وَاسْجُدِي } أي بَالِغِي في الخشوع،
والخضوع، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض، لأن السجود هو أعلى
مرتبة من الخضوع.
لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا، إنه الأمر
الحق يصدر لمريم { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت
الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود، بل عليك أن تركعي مع الراكعين، فلا يحق لك
يا مريم أن تقولي: " لقد أمرني الله بأمر " أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى
"
إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار:{
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ }[المدثر:
42-43].
إنهم كفار، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من
يصل، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله. وهنا يسأل سائل كريم: لماذا
قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم: { يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } ولم يقل الحق: " مع الراكعات "؟ هذا هو
السؤال.
وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيدا بسيطا إلى فلسفة الأسماء في وضعها على
مسمياتها. إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها. والمسميات مختلفة، فمنها
الجماد، ومنها النبات, ومنها الحيوان، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب
كالجن، والملائكة، وكل ما غيب الله. هذه الأسماء تدل على معانيها.
وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء، فكيف كان باستطاعة آدم
التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها؟ إذن لا بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع
حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظا واحدا موجزاً يشير إليه.
ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل
مثلا؟. أكان على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه؟ أم يكفي أن يقول له
لفظ " جبل " حتى يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى؟
إذن.. ففلسفة تعليم الحق للأسماء لنا أزاحت عنا عبئا كبيرا من صعوبة التفاهم. ولو
لا ذلك لما استطعنا أن نتفاهم على شيء إلا إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه. فكلمة
" جبل " وكلمة " صخر " وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات..
وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن آخذ السامع إليها وأشير إليه
قائلا " إن هذه هي أمريكا " ، لكن كلمة واحدة هي " أمريكا "
تعطي السامع معنى للمسمى، فتلحق الأحكام على مسمياتها. وما دامت المسألة هكذا فلا
بد من وجود أسماء لمسميات، هذه الأسماء علمها الله للإنسان حتى يتفاهم بها
والإنسان أصله من آدم.
وكلمة " آدم " حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة، والمذكر يقابله
المؤنث. وقد خلق الحق الأعلى: الذكورة والأنوثة؛ لأن من تزاوجهما سيخرج النسل. إذن
فكان لا بد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد. فالذكر والأنثى، هما بنو آدم،
ومنها ينشأ التكاثر، لكن العجيب أن الله حين سمى آدم ونطقناه اسما مذكرا وسمى
" حواء " ونطقناه اسما مؤنثا، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وجِدَ منه
الخلق هو " نفس ". لقد قال الحق:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي
تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
}[النساء: 1].
لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس، وهي مؤنثة، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى
التذكير، ولكن " التذكير " هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها
الحقيقية وكذلك التأنيث. إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا " نفس "
وهي كلمة مؤنثة، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاما آخر عن الخلق قال:{ ياأَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات: 13].
وكلمة " ناس " تعني مجموع الإنسان. وهكذا نعرف أن كلمة: " إنسان
" تُطلق مرة على المذكر، ومرة أخرى على المؤنث. إذن فالحق قد أورد مرة لفظا
مذكرا، ومرة أخرى أطلق لفظا مؤنثا، وذلك حتى لا نقول: أن المذكر أفضل وأحسن من
المؤنث، ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط، ولذلك يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع
الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها.{ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ
لِتَعَارَفُواْ }[الحجرات: 13].
ومعنى " لنتعارف " أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين.
وفي حياتنا العادية - ولله المثل الأعلى - نجد رجلا عنده أولاد كثيرون، لذلك يُطلق
على كل ابن اسما ليعرفه المجتمع به، والعجيب في هذه الآية الكريمة: }
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ {. أننا نجد كلمة "
شعوبا " مذكرة وكلمة " قبائل " مؤنثة. إذن فلا تمايز بالأحسن، ولكن
الكلمات هنا مسميات للتعارف. والحق الأعلى يقول:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ
لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 1-3].
إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن } الَّذِينَ آمَنُواْ {. ولماذا
أدخل الله المؤنث في الذكر؟ لأن المذكر هو الأصل، والمؤنث جاء منه فرعا. إذن
فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس.{ يَاأَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[البقرة: 21].
وهذا يعني أن " المؤنث " عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله.
والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس. وبنوعية الذكر
والأنثى. وفي الأمر الخاص بالمرأة، ويحدد الله المرأة بذاتيتها. فالحق سبحانه
وتعالى يقول:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً }[الأحزاب: 36].
لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد: الرجل والمرأة، زوج وزوجة،
فمثلا نجد زوجا يريد تطليق زوجته، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك. وإذا كان هناك أمر
خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم:{ يانِسَآءَ
النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً
مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَىا وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }[الأحزاب: 32-33].
إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صلى الله عليه
وسلم، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة " لستن " و " اتقيتن "
، و " لا تخضعن " ، و " قرن " ، و " لا تبرجن ".
الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا.
ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملا للرجل
والمرأة ويكون مذكرا، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة،
جاء قول الحق:{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ
وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً
وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }[الأحزاب:
35].
هكذا حسم الحق الأمر.
قال سبحانه تأكيدا لذلك؛{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَىا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ
يُظْلَمُونَ نَقِيراً }[النساء: 124].
إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو } وَهُوَ مُؤْمِنٌ { إذن فعندما يأتي
الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل
لأنها مبنية على الستر والحجاب، مطمورة فيه. داخله معه.. فإذا قال الحق سبحانه
لمريم: } وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ { فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول
" مع الراكعات " ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة، لذلك جاء الأمر
لمريم بأن تركع مع الراكعين، وبعد ذلك يقول الحق: } ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ... {
(/435)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
وقد قلنا من قبل: إن كلمة " نبأ " ، لا تأتي إلاّ في الخبر العظيم.
والغيب هو ما غاب عن الحس. وهناك " غياب عن الحس " من الممكن أن يدركه
مثلك. وهناك غياب عن الحس لا يدركه مثلك. وقلنا من قبل: إن حجب الغيب ثلاثة: مرة
يكون الحجاب في الزمن ماضيا، ومرة مستقبلا، ومرة ثالثة يكون الحجاب في المكان.
لماذا؟ لأن ظروف الأحداث زمان ومكان. فإذا أنبأني منبئ بخبر مضى زمنه فهذا اختراق
للحجاب الزمن الماضي، فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار ماضيا, وإذا أخبرني به
الآن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي، وإذا قال لي عن أمر سيحدث بعد سنتين
من الآن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل، وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر لزمنك الآن
نقول: هنا يوجد حجاب المكان، فعندما أكون معكم الآن لا أعرف ما الحادث في مدينة
أخرى غير التي نحن بها، ورغم أن الزمن واحد.
لذلك فعلينا أن نعرف، أنه مرة يكون الحجاب زمان.. أي قد يكون الزمن ماضيا، أو يكون
الزمن مستقبلا، وقد يكون حجاب مكان. فإذا كان الله ينبئ رسوله بهذا النبأ, فوسائل
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث؛ لأن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلاثة أمور:
مشاهدة؛ أو سماع؛ أو قراءة.
والوسيلة الأولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ، والنبأ الذي
أخبر الله به رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما لا يقل عن ستة قرون. إذن فالمشاهدة
كوسيلة علم بهذا النبأ لا تصلح، لأن النبأ قد حدث في الماضي. قد يقول قائل: لعل
الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأها، أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صلى الله عليه
وسلم أنه ليس بقارئ، فامتنعت هذه الوسيلة أيضا، وبإقرار خصومة صلى الله عليه وسلم
أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم. إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم بهذا النبأ إلا بالوحي، لذلك قال الحق سبحانه:
{ ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران: 44]
وقلنا قديما إن الوحي، هو إعلام بخفاء؛ لأن الإعلام العادي هو أن يقول إنسان
لإنسان خبراً ما، أو يقرأ الإنسان الخبر، أما الإعلام بخفاء فاسمه " وحي
". والوحي يقتضي " موحي " وهو الله، " وموحى إليه " وهو
الرسول الله صلى الله عليه وسلم، و " موحى به " وهو القرآن الكريم.
وإذا نظرنا إلى الإعلام بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة.
إن الله يوحي. لكن الموحي إليه يختلف. الله سبحانه وتعالى يوحي للأرض:{ إِذَا
زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ
الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَىا لَهَا }[الزلزلة: 1-5].
إنه إعلام بخفاء، لأن أحدا منا لم يسمع الله وهو يوحي للأرض، والحق سبحانه يوحي
للنحل، ويوحي للملائكة، ويوحي للأنبياء، وهناك وحي من غير الله، كوحي الشياطين.{
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }[الانعام: 121].
وهناك وحي من البشر للبشر:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً
شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ }[الأنعام: 112].
لكن الوحي إذا أُطلق، ينصرف إلى الوحي من الله إلى من اختاره لرسالة، وما عدا ذلك
من أنواع الوحي يسمونه " وحيا لغويا " إنما الوحي الاصطلاحي وحي من الله
لرسول، إذن فوحى الله للأرض ليس وحيا اصطلاحيا، ووحى الله للنحل ليس وحيا
اصطلاحيا، ووحي الله لأم موسى ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله للحواريين ليس وحيا
اصطلاحيا، إن الحق سبحانه يقول:{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ
آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
}[المائدة: 111].
إن هذا لون من الوحي غير اصطلاحي، بل هو وحي لغوي، أي أعلمهم بخفاء. لكن الوحي
الحقيقي أن يُعلم الله من اختاره لرسالة، وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صلى الله
عليه وسلم. يقول الحق: } ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا
كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {.
هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي، فلم يقرأه، ولم يشاهده، ونحن
نعرف أن خصوم رسول الله شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم. وهكذا يخبرنا الحق
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن موجودا مع قوم مريم حين ألقوا أقلامهم.
والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به، أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون
بها إذا اختلفوا على شيء. وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحا، ليعفروا من يظفر
بالشيء المختلف عليه ونسميها نحن القرعة، والقرعة يقومون بإجرائها لإخراج الهوى من
قسمة شائعة بين أفراد، وذلك حتى لا يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضلا له على
الآخرين، ولذلك فنحن أيضا نجري القرعة فنضع لكل واحد ورقة.
إذن فلا هوى لأحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة، وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى
قدر الله لأن الورقة لا هوى لها، ولما اختلف قوم مريم على كفالتها، واختصموا حول
مَن الذي له الحق في أن يكفلها. هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة،
وأرادوا أن تكون قدرية، ويكون القول فيها عن طريق قدح لا هوى له.
وهذا القدح سيجري على وفق المقادير. أما " أقلامهم " فقد تكون هي القداح
التي يقتسمون بها القرعة، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة تبركا.
وتساؤل البعض، ما المقصود بقول الحق: " إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ "
وأين تم إلقاء هذه الأقلام؟ قيل: إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت الأقلام في البحر
فمن الذي يتميز في ذلك؟ قيل: إنه إذا ما أطل قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز، أو
إذا غرقت كل الأقلام وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو الفائز. ولا بد أنهم اتفقوا على
علامة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم. } وَمَا كُنتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {.
وكلمة } إِذْ يَخْتَصِمُونَ { تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقا إلى كفالة
مريم، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة، وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى الاقتراع
بالأقلام.
وننتقل الآن إلى مرحلة أخرى.
(/436)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
لقد كانت المرحلة الأولى بالنسبة لإعداد مريم هي قوله الحق على لسانها: { إِنَّ
اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. وبذاك تعرفت على طلاقة قدرة
الله، والمرحلة الثانية هي سماعها لحكاية زكريا ويحيى وتأكيد الحق لها أنه اصطفاها
على نساء العالمين، وفي ذلك أمر يتعلق بالنساء، وكان ذلك إيناساً من الحق لها،
وتدخل مريم إلى مرحلة جديدة.
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِّنْهُ } [آل عمران: 45].
والبشارة لا تكون إلا بخبر عظيم مفرح، وقد يتساءل البعض؟ ماذا يقصد الحق بقوله: {
بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ }؟ والإجابة هي: أن الحق سبحانه وتعالى يزاول سلطانه في ملكه
بالكلمة، لا بالعلاج، فالحق سبحانه علمنا ذلك بقوله:{ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا
يَشَآءُ إِذَا قَضَىا أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[آل عمران:
47].
وهذا القول هو مجرد إيضاح لنا وتقريب لأنه لا يوجد عندنا أقصر في الأمر من كلمة
" كن " إن قدرته قادرة بطلاقتها أن تسبق نطقنا بالكاف وهي الحرف الأول
من " كن " ، ولكن الحق يوضح لنا بأقصر أمر على طريقة البشر، إن الحق
سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يقول له كن فيكون، وذلك إيضاح أن مجرد الإرادة
الإلهية لأمر ما تجعله ينشأ على الفور، و " كن " هي مجرد إظهار الأمر
للخلق، هكذا نفهم معنى بشارة الحق لمريم بـ { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ويقول الحق: {
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }. إنها ثلاثة أسماء، " المسيح
" ، " عيسى " ، " ابن مريم ".
ما معنى المسيح؟ قد يكون المسموح من الذنوب، أو أن تكون من آياته أن يمسح على
المريض فيبرأ، أو المسيح المبارك.. أما عيسى. فهذا هو الاسم، والمسيح هو اللقب،
وابن مريم هي الكنية.. ونحن نعرف أن العََلمَ في اللغة العربية يأتي على ثلاثة
أنواع: اسم أو لقب أو كنية. وابن مالك يقول: " واسما أتى وكنية ولقبا "
إن العَلَم على الشخص له ثلاث حالات. إما اسم وهو ما يطلق على المسمى أولا. والاسم
الثاني الذي أطلقناه عليه. إن كان يشعر برفعة صاحبه أو بضِعَته نسميه لقبا. أما ما
كان فيه أب أو أم فيقال له: " كنية " وجاءت الثلاثة في عيسى { اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }.
" المسيح " هو اللقب، " عيسى " هو الاسم " و " ابن
مريم " وهو الكنية. ومجيء عيسى باللقب والاسم والكنية ستكون لها حكمة تظهر لنا
من بعد ذلك. ويقول عنه الحق: { وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }.
ونحن في حياتنا نستعمل كلمة فلان وجيه من وجهاء القوم، والوجيه هو الذي لا يرده
مسئول للكرامة في وجهه، ونحن نسمع في حياتنا اليومية.
فلان لا يصح أن نسبب له الخجل برفض أي طلب له. وكما يقول العامة: (هو الوجه ده حد
يكسفه) إذن فالوجيه هو الذي يأخذ سمة وتميزا بحيث يستحي الناس أن يردوه إذا كان
طالبا، وهناك إنسان آخر قد يسألك أو يسأل الناس، فلا يبالي به أحد، إنه يريق ماء
وجهه وتنتهي المسألة.
إذن فقوله الحق في وصف عيسى بن مريم: } وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ { أي
أن أحدا لا يرده إن سأله. لكرم وجهه، فالإنسان يخجل أن يرد صاحب مثل هذه الكرامة،
لذلك نجد أن السائل قد يقول: أعطني لوجه الله. أي أنه يقول لك: لا تنظر إلى وجهي،
ولكن انظر إلى وجه الله؛ لأن الله هو الذي جاء بي إلى الدنيا وخلقني، وما دام قد
جاء بي الخالق إلى الدنيا فهو المتكفل برزقي، فأنت حينما تعين على رزق من استدعاه
الله إلى الوجود تكون قد أعطيت لوجه الله، إنه الخالق الذي يرزق كل مخلوق له حتى
الكافر.
إذن فعطاء الإنسان للسائل ليس عطاء لوجه السائل، ولكنه عطاء لوجه الله. والحق يقول
عن عيسى بن مريم: } وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ { وعرفنا كيف يكون
الإنسان وجيها في الدنيا، فلماذا نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة؟ وخصوصا أن كل
وجوه المؤمنين ستكون ناضرة، لقد نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة لأنه سوف يُسأل
سؤالا يتعلق بالقمة الإيمانية:{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }[المائدة: 116].
إياك أن تظن أن هذا السؤال هو تقريع من الله لعيسى بن مريم. لا إن الحق يريد أن
يقرّع من قالوا هذا الكلام. ولذلك يقول عنه الحق:{ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ
وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }[مريم: 33].
لأن ميلاده كان له ضجة، وبعض بني إسرائيل اتهموا والعياذ بالله أمه مريم البتول، و
" يوم الممات " ، كلنا نعرف حكاية الصلب وكان لها ضجة. إنه لم يصلب ولكن
صلب من خانه ووشي به فألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه. ويوم البعث حيا يوم يسأله
الله:{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ
اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
}[المائدة: 116].
إنه عيسى ابن مريم الذي أنعم الله عليه بالسلام في هذه المواقف الثلاثة. ويتابع
الحق فيصف عيسى ابن مريم بقوله: } وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ { إن كلمة " من المقربين " تدل على تعالى الحق في
عظمته، فحين يفتن بعض البشر في واحد منهم قد يغضب بعضهم من الشخص الذي فتن الآخرون
فيه مع أنه ليس له ذنب في ذلك.
والحق سبحانه يعلمنا أن للمغالي جزاءه ولكن المغالَى فيه تنجيه رحمة الغفار.
إن الحق يعلمنا أن فتنة بعض الناس بعيسى ابن مريم عليه السلام لا تؤثر في مكانة
عيسى عليه السلام عند الحق، إنه مقرب من الله، ولا تؤثر فتنة الآخرين في مكانته
عند الله، ويقول الحق: } وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ... {
(/437)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
الكلام: معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع، وقول الحق: { وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } ، معناه أن المواجه لعيسى عليه السلام في المهد هم الناس
و " المهد " هو ما أعد كفراش للوليد. ولقد أورد الحق { الْمَهْدِ
وَكَهْلاً } رمزية لشئ، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار، يطرأ عليه مرة أن يكون
في المهد، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلا، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن
يفتتن به أحد ليقول إنه " إله " أو " ابن إله ".
ونفهم أيضا من { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } سر وجود آية المعجزة التي
وهبها له الله وهو طفل في المهد. لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها،
فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا
الوليد أو زواج لها. وهذه المسألة لم نجد لها وجودا. مع أنها مسألة كان يجب أن
تقال لأنهم يمجدون نبيهم، وكان من الواجب ألا يغفلوا عن هذه العجيبة، إن كلام طفل
في المهد لما كان أمرا عجيبا كان لا بد أنّه سيكون محل حفظ وتداول بين الناس، ولن
يكتفي الناس برواية واقعة كلامه في المهد فقط، بل سيحفظون ما قاله، ويرددون قوله.
والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف من يصف عيسى عليه السلام
بوصف يناقض بشريته؛ لأن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق: إني عبد الله، فأخفوا هم
هذه المسألة كلها لأن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون أن يضعوا فيها عيسى عليه
السلام، إن الحق يقول: { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً }.
ونعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفل و " كهلا " أي بعد الثلاثين من
العمر, أي في العقد الرابع. والبعض قد قال: إن الكهولة.. بعد الأربعين من العمر.
وهو قد حدثت له في روايتهم حكاية الصلب قبل أن يكون كهلا، فإذا كان قد تكلم في
المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل، وقالوا إن حادثة الصلب أو عدم الصلب، أو الاختفاء
عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهلا، إذن فلا بد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن
مريم عندما يصير كهلا، وأيضاً قوله الحق: { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً } أي انه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلا أي ناضج التكوين، وبذلك نعرف
أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في
المهد هي الألوهية في الكهولة؟
إن كانت الألوهية في المهد فقط فهي ناقصة لأنه لم يستمر في المهد، وحدثت له أغيار،
وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث، وما دام محدثا فلا يكون إلها، وبعد ذلك يقول
الحق عن عيسى ابن مريم: { وَمِنَ الصَّالِحِينَ } ما حكايتها؟
إن العجيبة التي قال عنها الله: إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره، وكلامه
وهو كهل سيكون بالوحي، أي ليس له اختيار فيه أيضا، { وَمِنَ الصَّالِحِينَ } مقصود
بها عمله، أي الحركة السلوكية.
لماذا؟ لأنه لا يكفي أن يكون مبلغا، ولا يكفي أن يكون حامل آية، بل لا بد أن يؤدي
السلوك الإيماني.
ويقول الحق على لسان مريم البتول: } قَالَتْ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ... {
(/438)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها: { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي
وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } فلو أنها سكتت عند قولها: { أَنَّىا يَكُونُ
لِي وَلَدٌ } لكان أمرا معقولا في تساؤلها، ولكن إضافتها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ } تثير سؤالا، من أين أتت بهذا القول { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }؟ هل
قال لها أحد: إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك، لذلك انصرف
ذهنها إلى مسألة المس. إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله، عندما قال
لها: " المسيح عيسى ابن مريم ".
قالت لنفسها: إن نسبته بأمر الله هي لي، فلا أب له، لقد قال الحق: إنه " ابن
مريم " ولذلك جاء قولها: { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ذلك أنه لا يمكن أن
ينسب الطفل للأم مع وجود الأب. هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول. لقد
مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها، إن الحمل بعيسى لن يكون
بوساطة أب، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر. وقال الخالق الأكرم: { كَذَلِكَ }
أي لن يمسك بشر، ولم يقل لها: لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت، ولكن الحق
قال: { كَذَلِكَ } تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر. وتتجلى
طلاقة القدرة في قوله سبحانه: { اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }.
إنها طلاقة القدرة، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير
بالنسبة للإنسان, وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، ولو كانت طلاقة
القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، إنه الحق الأعلى القادر على أن
يخلق دون ذكورة أو أنوثة، كخلقه لآدم عليه السلام، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما،
كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة
يمكن أن يُحقق الخلق، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب، ها هو ذا القول
الحق:{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ
لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
}[الشورى: 49-50].
هذه هي إرادة الحق، إذن فلا تقل: إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث
الخلق، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق, { كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ
إِذَا قَضَىا أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }. فأنتم أيها
المحدثون تفعلون بالأسباب. لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد
بلا أسباب، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب.
ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلام: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ... }
(/439)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
وساعة نسمع { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل،
ولكن ما دام الحق قد أتبع ذلك بقوله: { التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } فلا بد لنا
أن نسأل. إذن ما المقصود بالكتاب؟ هل كان المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة،
كالزبور، والصحف الأولى، كصحف إبراهيم عليه السلام؟ إن ذلك قد يكون صحيحا، ومعنى {
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَاب } أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور داود، ومن صحف
إبراهيم، وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكملا لها.
وبعض العلماء قد قال: أُثِرَ عن عيسى عليه السلام أن تسعة أعشار جمال الخط كان في
يده. وبذلك يمكن أن نفهم { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } أي القدرة على الكتابة. وما
المقصود بقوله: إن عيسى عليه السلام تلقى عن الله بالإضافة إلى { وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتَابَ } أنه تعلم أيضا { الْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } وكلمة
الحكمة عادة تأتي بعد كتاب منزل، مثال ذلك قوله الحق:{ وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىا
فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْـمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
لَطِيفاً خَبِيراً }[الأحزاب: 34].
كتاب الله المقصود هنا هو القرآن الكريم، والحكمة هي كلام الرسول عليه الصلاة
والسلام. فالرسول له كلام يتلقاه ويبلغه، ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة، أما
التوراة التي علمها الله لعيسى عليه السلام فقد علمها له الله، لأننا كما نعلم أن
مهمة عيسى عليه السلام جاءت لتكمل التوراة، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة،
فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع المبعوث إليه فهو بالنص القرآني: {
وَرَسُولاً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ... }
(/440)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
إن كلمة رسول تحتاج إلى علامة، فليس لأي أحد أن يقول: " أنا رسول من عند الله
" بل لا بد أن يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من الله. والأية كما
نعرف هي الأمر العجيب الذي خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق الرسول في البلاغ،
وما دامت المعجزة خارجة عن نواميس البشر، فالمخالف نقول له: أنت حين تكذب أن حامل
المعجزة رسول، فكيف تعلل أنه جاء بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم
المنكر الذي يتحدى وتفحمه، لأنه لا يستطيع أن يأتي بمثلها، ولذلك قلنا: إن من لزوم
التحدي ألا يتحدى الله حين يعطي رسولا معجزة إلا بشيء نبغ فيه القوم المبعوث إليهم
ذلك الرسول؛ لأن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه، فالرد منهم يكون
للرسول بقولهم: إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه، ولو روّضنا أنفسنا
عليه لا ستطعنا أن نفعل مثله، وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه، لذلك
يرسل الحق الرسول - أي رسول - بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم..
مثال ذلك، موسى عليه السلام، أرسله الله إلى قوم كانوا نابغين في السحر، فكانت
معجزته تقرب من السحر.
وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لأن موسى عليه السلام لم ينزل بسحر ولكن
بمعجزة. كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين
ما يكون عليه ما يأتي به الله على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم، فيقول
القرآن:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَىا * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ
عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا * قَالَ
أَلْقِهَا يامُوسَىا * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىا }[طه: 17-20].
كأن الحق يقول لموسى عليه السلام: إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها
وتهش بها على غنمك، أما علمي أنا فهو علم آخر. لذلك يأمره أن يلقى العصا، فلما
ألقاها وجدها حية تسعى، فأوجس في نفسه خيفة.. إن " أوجس في نفسه خيفة "
هي التي فرقت بين سحر القوم ومعجزة موسى عليه السلام ".
لماذا؟ لأن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لأنّ الساحر لو رآها
حية لخاف مثل الناس، لقد خاف موسى عليه السلام لأنها تغيرت وصارت حية فعلا، ولذلك
قال له الله:{ قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأُولَىا
}[طه: 21].
فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لأنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره
حية، وهذا هو الفارق.
وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب، إذن فستجيء الآيات من جنس الحكمة
والطب، ثم تتسامى المعجزة، لأن الذي يطبب جسما ويداويه لا يستطيع أن يعيد الميت
إلى الحياة، لأن الإنسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علاج الطبيب. ولذلك
رقّى الله آية عيسى، إنه يشفي المرضى،ويحيى الموتى أيضا، وهذا ترق في الإعجاز. قال
عيسى: } أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ
مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ
اللَّهِ {. إن كلمة " أخلق " تحتاج إلى وقفة وكذلك " الطين "
و " الهيئة " و " الطير ".
" أخلق " مأخوذة من الخلق، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير، فأنت تتخيله
وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة. فإن كان قد أتى على غير تقديرك
فليس خلقا، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين
ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا. إن الخلق هو المطلوب على تقدير. مثال ذلك الكوب
أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع. هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا،
أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب، ثم
قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟
إذن فالكوب لم تكن موجودة، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب، فهي خلق أُوجد على
تقدير. فماذا عن خلق الله؟ إنه يخلق على تقدير، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق، وبين
صنعة الله حين يخلق. إن صنعة البشر حين تخلق، إنما تخلق من موجود، وحين يخلق الله
فهو يخلق من معدوم، وهذا هو أول فرق، إنه سبحانه يخلق من عدم، أما الإنسان فيضع
الأشياء بنظام يحدث فيها تفاعلات أرادها الله فتوجد، فلا يوجد من يستطيع - على
سبيل المثال - من يصنع كوبا من غير المادة التي خلقها الله.
إن هذا أول فرق بين خلق الله، وخلق الإنسان، فخلق الله يكون من عدم، وخلق الإنسان
من موجود، وإن كان الإثنان على تقدير. وأيضا يعطي الله لخلقه سرا لا يستطيع البشر
إعطاءه لصنعته، فالله يعطيه سر الحياة, والحياة فيها نمو، وفيها تكاثر، لكن البشر
يصنعون الكوب مثلا، فتظل كوبا، ولا يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى.
إن الإنسان يوجد صنعته فتظل على حالتها، ولا يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر، لكن
صنعة الله هي صنعة القادر الذي يهب الحياة، فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل،
وتعطي مثلها. إذن، فالخلق إيجاد على تقدير، هذا الإيجاد يوجد معدوما، والمعدوم
موجودة مادته، هذا في خلق الإنسان، أما في خلق الله، فالله يخلق من معدوم لا توجد
له مادة.
والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل، فها هو ذا قول الحق
سبحانه:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 12-14].
ولم يمنع الحق خَلْقَه أن يخلقوا أشياء، ولكن خلق الله أحسن، لماذا؟ لأنه يخلق من
عدم، والبشر يخلقون من موجود. وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا،
والبشر يخلقون بلا نمو ولا حياة، إنه الحق أحسن الخالقين، إذن قول عيسى عليه
السلام: } أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ " الطَّيْرِ فَأَنفُخُ
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ {.
يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثالا كهيئة الطير. لكن الله أوجد معجزة عيسى
وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، وقد تسأل، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في
الطير، أم في الطين، أم في الهيئة؟ إن قلنا: أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا.
يكون النفخ في الطين، كالنفخ في الطير، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة.{
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىا
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ
فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي }[المائدة: 110].
إن " النفخ فيه " ، تكون للطين أو الطير. و " النفخ فيها "
تكون للهيئة، وهناك آية بالنسبة للسيدة مريم البتول:{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
}[التحريم: 12].
إن النفخ هنا في الفرج، وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول:{ وَالَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ
آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 91].
مرة يقول: " نفخنا فيه " أي في الفرج، ومرة يقول: " نفخنا فيها
" أي فيها هي، والقولان متساويان، وهنا في هذه الآية، نجد أن الإعجاز ليس في
أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير، لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك، فكأنه حينما
قال: } أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ {.
كأنه صار طيرا من النفخة، أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن
يفعلها، لكن عيسى عليه السلام يفعل ذلك بإذن الله، ولا بد أن يجيء الأمر مختلفا، و
" بإذن الله " هنا تضم صناعة الطير، والنفخ فيه.
إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله، وجاءت كلمة " بإذن الله
" من عيسى وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته، وكأنه يقول لقومه:
إن كنتم فتنتم بهذه.
فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى، حينما قطَّع الطير وجعل على كل جبل جزءا
منهن ثم دعاهن.{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي
الْمَوْتَىا قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ
عَلَىا كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[البقرة: 260].
إذن كان من الأولى الفتنة بما أعطاه الله إبراهيم عليه السلام من معجزة، فإن كانت
الفتنة من ناحية الإحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلام أولى بها، وإن كانت
الفتنة من ناحية أنه جاء إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم، لأن
الله خلقه بلا أب أو أم. إذن فالفتنة لا أصل لها, ولا منطق يبررها.. ويتابع الحق
سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام } وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ
وَأُحْيِ الْمَوْتَىا بِإِذْنِ اللَّهِ {.
لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟ لأنها كانت الأمراض المستعصية في ذلك
العصر، والأكمه هو الذي ولد أعمى, أي لم يحدث له العمى من بعد ميلاده. والبرص، هو
ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود. وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في
كافة الجسم بلون أبيض، مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا
اللون، فإن مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص.
وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في
الجسم، واسمها الغدد الملونة، فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء الألوان، جاء
البرص والعياذ بالله. وهو مرض صعب، لم يكن باستطاعتهم أن يداووه، فعندما جاء عيسى
ابن مريم أعطاه الله الآية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب. وجاء لهم بآية هي إبراء
ما كانوا عاجزين عنه.
وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس. يقولون: إن هذه
المعجزة إنما هي سبق زمني، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف
علاجا لهذه الأمراض، لكن لهؤلاء نقول: لا، إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم
الساعة. كيف؟
لنأخذ مثالا من طب العيون، وعندما قالوا إن هناك علاجاً للعمى. " سنقوم
بتركيب قرنية " أو أن نأخذ مثالا من طب الجلد لو قالوا: " سنداوي البرص
" واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلاج تحاول أن تجعل الجلد على لون واحد، لكنه
لا يستعيد لونه الأصلي. ولذلك قال البعض: " إن معجزة عيسى كانت مجرد سبق زمني
". لهؤلاء نقول: لا، لنأخذ كل أمر بأدواته.
إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن
يستطيع العلم أن يبرئ المرض بالكلمة والدعوة، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل
تلك الأشياء، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات، لذلك تظل المعجزة التي جاء بها
عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة؛ لأنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة.
ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم: } وَأُحْيِ الْمَوْتَىا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ {. ومسألة إحياء الموتى لم يأخذها عيسى هكذا
على إطلاقها فيحيي كل ميت، إنما قام بها وفي وحدات تثبت صدق الآية ولا تعمم مدلول
المعجزة كسام بن نوح مثلا، و " عازر " إنها أشياء لمجرد إثبات المعجزة،
ولكنها ليست مطلقة، ذلك أنه نبي ورسول من الله فلا يمكن أن يصادم قدر الله في
الآجال. ولذلك قالوا إنه عندما أحيا سام بن نوح، أحياه حتى نطق بكلمة، ثم عاد سام
إلى الموت من بعد ذلك ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام:
} وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ { [آل
عمران: 49].
لماذا؟ لأن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة، يكون هذا العلم خاصا
به، وكل إنسان -مثلا - يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو، ولا يعرفها الآخرون.
إن الأمر الأول كخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، هي أمور عامة
للكل. أما الإنباء بألوان الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث، لأن كل
واحد يأكل أكلا معينا فيقول له عيسى ابن مريم ماذا أكل. وليس من المعقول أن يكون
عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له أخبار عن كل بيت.
وكذلك أمر الادخار. وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة الإنسان فيعرف لون
الطعام الذي يأكله، لذلك كان الإخبار بما يدخر كل واحد في بيته، فهذه مسألة توضح
بالجلاء التام أنها آية من إخبار من يعلم مغيبات الأمور.
} إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ { [آل عمران: 49].
إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه
الأشياء، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى
ابن مريم، لأن معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه،
فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب - مع إيمانه
بالله - من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم، فالآية واضحة. بالله فلن
تفيده الآية في الإيمان. ويقول الحق متابعا على لسان عيسى ابن مريم: }
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ... {
(/441)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
وقد قلنا: إن " مصدقا " تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء
في التوراة. وقلنا: إن " ما بين يدي " الإنسان هو الذي سبقه، أي الذي
جاء من قبله وصار أمامه. وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة
في زمانه، وكانت التوراة موجودة، فلماذا جاءت رسالته إذن؟
لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى: إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة، ويتضح ذلك في قوله
الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم: { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } إذن فليس المهم هو التصديق فقط، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا
من الذي حرمته التوراة.
وقد يقول قائل: إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي
نزول الكتب السماوية؟ والإجابة هي: أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من
سها عن الكتب السابقة، هذا في المرتبة الأولى، وثانيا: تأتي الكتب السماوية
بأشياء، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب. هذه هي فوائد
الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في
بعض الأحكام.
ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها، وكذلك الأخبار والقصص، لكن
التبديل يشمل بعضا من الأحكام. ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم:
{ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } ونحن نعرف أن القوم الذي
أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من
الله.
إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله
يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولا يصح أن تسأل عن
الضرر فيها، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله. فإن تساءل
أحد: لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له: من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم
الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار, ويحرم بعضا مما هو غير ضار، ولذلك
قال الحق:{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً }[النساء: 160].
وتفصيل ذلك في آية أخرى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ
جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }[الأنعام: 146].
إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده
ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم: { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ } لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله
عليهم من قبل.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم: } وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ { ومجموعة هذه الأوامر التي
تقدمت هي آية أي شيء عجيب، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم، إنه كرسول
وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لا بد أن يكون مبعوثا من الله.
فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو
سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله
نتيجة لذلك، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: } إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ... {
(/442)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد، هو الذي
يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم، وتقتضي إمدادا من عدم، وتقتضي
رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك
لأكون سيدا عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله. { إِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم }.
ومعنى { هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذ
إلتوى؛ انحرف عن الهدف، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد، فلتعلم أنك
إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة، فستجد أن لها محيطا، ولها مركزا، ومركز
الدائرة هو الذي نضع فيه " سن الفرجار " حتى نرسم الدائرة، وبعد ذلك تصل
من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق، وكلما تقرب
من المركز تتلاشى الفروق.
فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق، لكن
الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد
الناس شيعا إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية
للإله الواحد، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق.
إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط
وتمر بمركز الدائرة، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير
عند نقطة المركز شيئا واحدا لا انفصال بينها أبدا. وهكذا الناس إذا التقوا جميعا
عند مركز عبوديتهم للإله الواحد، فإذا ما اختلفوا، بعدوا عن العبودية للإله الواحد
بمقدار ذلك الاختلاف.
ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } ذلك هو منطق عيسى. كان
منطقه الأول حينما كان في المهد{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }[مريم: 30].
إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، إنه عبد الله والقضية
الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة
حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من
عند الله، فالهدف أن يحمل الناس جميعا على سلوك هذا المنهج، ويحدد حركة حياتهم بـ
" افعل كذا " و " لا تفعل كذا " وعندما يسمع الواحد من الناس
الأمر بـ " افعل " فقد يجد في التكليف مشقة، لماذا؟ لأنها تلزمه بعمل قد
يثقل عليه، و " لا تفعل كذا " فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه.
والمرء في الأحداث بين اثنين: عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه، وعمل يستهويه فيحب أن
يقترب منه، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان " افعل " ولا "
تفعل " إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال
التكليف، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف.
ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم، فيأتي أنصار
الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم. إن أفكار الشر تلح على صاحبها
فيتمرد على التكليف الإيماني، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور
التي حرمها التكليف. ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود.
إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع
الكون، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون، فإذا كانت
الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني. فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن،
وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد
الحركة.
إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما، وما دام ذلك هو
هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان
مجتهدا. فاجتهاده حركة تقرب له الهدف، وإن كان كسولا، خاملا فإنه يبتعد بنفسه عن
الهدف. إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا. أو غير صالح.
وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية.
وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فلا بد من حدوث اضطراب وضلال، فالذي يعتبر
أن الحياة هي الهدف، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها. أما الذي
يعرف أن الهدف ليس هو الحياة، إنما الحياة مرحلة، نسأله.. ما الهدف إذن، فيقول:
إنه لقاء الله والآخرة.
هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف. لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه
ولا يؤمن بالجنة أو النار، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه، ويبتعد عما
يتعبه وإن كانت فيه سعادته.
ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا، وأن الهدف في مجال آخر، لذلك يسعى في
تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف، وهو الجنة. إذن ما يفسد سلوك الناس هو
جهلهم بالهدف، وحين يوجد الهدف، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من
الهدف, فيفعله، فهذا هو الخير. أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه
فهذا هو الشر.
وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون
الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة
لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيبا قد انتقل إلى رحمة الله؟
هذا الإنسان يمكننا أن نسأله، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟ لا
بد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له، ولأنك كنت تأنس به، أما حزنك من أجله هو،
فلا حزن، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه.
وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة، نجد
إنسانا ما يذهب إلى الإسكندرية ما شيا، لأنه لا يجد نقودا أو وسيلة توصله، وتجد
آخر يذهب إليها راكبا حمارا، وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا، ورابعا يصل إليها
راكبا " أتوبيسا " ، وخامسا يصل إليها بركوب الطائرة، وسادسا يصل إليها
بصاروخ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي
توافرت له، وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى الله ماشيا في سبعين عاما، وآخر يستدعيه
الله فورا، فلماذا تحزن عليه؟
إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف، أما الموفق في خدمة
الهدف فلنا أن نفرح له، ونقول: إن الله قد قصر عليه المسافة، وأغلبنا إن كان عنده
ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلا " إنه لم ير الدنيا
" لهذا الإنسان نقول: يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه
إلى الغاية، فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه،
ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجا عن الحكمة.
وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام.. قال
الحق سبحانه: } فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىا مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي
إِلَى اللَّهِ... {
(/443)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولا حين قال:{ إِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }[آل عمران: 51].
وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل: " أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى
إله واحد، وأنا لم أجيء لأعلمّكم لأني تميزت عنكم بشيء. فيما يتعلق بالعبادة نحن
سواء، فالله رب لي ورب لكم، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق.
ونحن ساعة نسمع " الصراط المستقيم " فإننا نتخيل على الفور الطرق
الموصلة إلى الغاية، ونعرف جميعا أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق،
إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية. وساعة تسمع " صراط " فإننا نفهم على
الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها. والحق سبحانه يقول:{ وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الأنعام: 153].
وما دام هناك طريق لغاية ما فلا بد أن نحدد الغاية أولا، وتحديد الغاية إنما يهدف
إلى إيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية. وهكذا يقول
الحق على لسان عيسى ابن مريم: { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ }.
والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا
تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه
سبيلا، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين
أوقات الأركان التعبدية، إن الأركان التعبدية لازمة، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس
حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا
هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون.
ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب
العبادات وباب المعاملات، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه "
عبادة ". إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من
خالقه، خالق الكون، ومنها ما يتصل بعمارة الكون. ولذلك قلنا: إنك حينما تتقبل من
الله أمرا بعبادة ما، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثا عن الرزق وغير ذلك من
أمور الحياة، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
}[الجمعة: 9].
إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع، وهذا الأمر
بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ، إنما أخذ الإنسان من عمل، هو البيع.
. ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق. إن كلام
الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر، فلم يقل الله مثلا " اتركوا
الصنعة " " اتركوا الحرث " ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة
النفعية العاجلة.
إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار، لكن الذي يبيع شيئا، فإنه
ينال المنفعة فوراً، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة،
ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة.
إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله، والحق لم يتكلم هنا مثلا عن
الشراء، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب
رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك: لقد
ذهبت إلى الشراء، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع
نقودا، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة. لذلك يخرجنا الحق من قمة " كل
الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها ". لكن ماذا بعد انقضاء
الصلاة؟{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ
مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
}[الجمعة: 10].
لقد أخرجنا من الصلاة إلى الحياة نبتغي من فضل الله، ولذلك يكون الإنتشار في الأرض
والبحث عن الرزق عبادة.
ولننظر إلى الدقة في قوله الحق: } فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ { إن الانتشار يعني
أن ينساح البشر لينتظموا في كل حركات الحياة، وبذلك تعمر كل حركة فيها. إن كل حركة
في الحياة هي عبادة، وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم: } إِنَّ
اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ { ومن بعد
ذلك يقول الحق: } فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىا مِنْهُمُ الْكُفْرَ { لقد حسم عيسى ابن
مريم أمر العقيدة حينما قال: } إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ { إن في ذلك تحذيرا
من أن يقول أتباع عيسى أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد الله خاضع لله، مأمور
بالطاعة والعبادة لله. ووضع أمامهم المنهج، فقال: } هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
{.
وقول الحق: } فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىا مِنْهُمُ الْكُفْرَ { يدل على أن كل صاحب
فكرة، وكل صاحب مهمة، وكل صاحب هدف لا بد أن يكون يقظ الأحاسيس، لأن صاحب الفكرة
وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد يقول قائل: لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟
وتكون الإجابة: إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات، لذلك يكون
بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون، والظالم الذي يأخذ - اغتصابا - خيرَ الآخرين
ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم، ويدعوه إلى الهداية إلى
منطق العقل، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب
أن تُنطق هذه الكلمة، إنه يكره الكلمة والقائل لها.
إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظا لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها،
فإنّه يغضب أناساً آخرين، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد،
فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية
الموجودة عند كل إنسان، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس، اللمس،
والرؤية، والسمع، والتذوق، والشم.
إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي
دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير. إن رجل الدعوة مأمور بدقة
اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير، ومن الذي يستبشر
ويفرح.
وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي، وأنصار
الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان
مليئا باليقظة والانتباه. إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من
مفسدة إلى مصلحة. وعندما أحس منهم الكفر، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر
الدعوة. } قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ {؟
إن الدعوة تحتاج إلى معركة، والمعركة تحتاج إلى تضحية. والتضحية تكون بالنفس
والنفيس، لذلك لا بد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة. وهو
لم يناد أفرادا محددين، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم
القدرة على حمل لواء الدعوة، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع. } فَلَمَّآ
أَحَسَّ عِيسَىا مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ { وكلمة
" أنصار " هي جمع " نصير ". والنصير هو المعين لك بقوة على
بُغْيَتِك.
وعندما سأل عيسى: } مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ؟ { كانت إلى في السؤال تفيد
الغاية، وهي الله، أي من ينصرني نصرا تصير غايته إلى الله وحده لا إلى هؤلاء
البشر؟ إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من
أجل الجاه, أو غير ذلك, إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى
نصرة الله وحده.
ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين رجال من المدينة في
أثناء مبايعتهم له في العقبة فقد قال لهم رسول الله ": " أبايعكم على أن
تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم وأبناءكم " فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال:
" نعم, والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه أزرنا " فبايعوا رسول
الله على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود
حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك
وتَدَعنَا "؟ فتبسم رسول الله ثم قال: " بل الدم الدم, والهدم الهدم أنا
منكم وأنتم مني, أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " أي ذمتي ذمتكم وحرمتي
حرمتكم ".
أقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستمتلكون الأرض, وستسودون الدنيا، أو
ستنتصرون على أعدائكم؟ لا. بل قال صلى الله عليه وسلم أنا منكم وأنتم مِنِّي.
لماذا؟ لأنه لو قال لهم ستنتصرون على أعدائكم، فقد يدخلون المعركة، ويموت واحد
منهم؛ ولا يرى النصر، لكن الأمر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول الله منهم وأنهم
من رسول الله وما داموا كذلك فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الأصيلة.
وعندما سأل عيسى ابن مريم } مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ { فكأنه كان يسأل: من
يعينني معونة غايتها الله؟ ولماذا نأخذ هذا المعنى؟ تكون الإجابة: أنا آخذ المعنى
على قدر ذهني؛ لأن مرادات الله في كلماته لا تتناهى كمالاً، وقد يأتي غيري ويأخذ
منها معنى آخر. ومعنى " النصير ": هو " من ينصر بجهد وقوة ".
وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في
الإيمان قال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد: 7].
إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه، وهذا مراد الله، ولذلك يأتي النصر مرة من
المؤمن لربه، ومرة من الرب لمربوبه، وقد يكون مراد عيسى - عليه السلام - من الذي
ينصرني كي ينضم إلى الله في النصر؟
ونحن هنا أمام معسكرين, معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر. لقد سأل عيسى } مَنْ
أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ { أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي
الله, ونتفهم نحن هذا المعنى على ضوء ما قاله الحق:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد:
7].
ونعرف أيضا أن هناك نصراً من المؤمن لله، وهناك نصر من الله للمؤمن. وهكذا يكون
سؤال عيسى ابن مريم } مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ {؟ فقد أفاد المعنيين معاً.
وكانت الإجابة: } قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ, آمَنَّا
بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {.
والحواريون مأخوذة من الحور، وهو شدة البياض, وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء
الإيمان, فكأنها مشرقة بالنور. ونور الوجه لا يقصد به البشرة البيضاء، ولكن نور
الوجه في المؤمن يكون بإشراقة الإيمان في النفس، ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة
رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ }
[الفتح: 29].
فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه. كيف ولماذا؟ لأن الإنسان مكون
من أجهزة، ومكون من ذرات، وكل جهاز في الإنسان له مطلوب محدد, وساعة أن تتجه كل
الأجهزة إلى ما أراده الله، فإن الذي يحدث للإنسان هو انسجام كل أجهزته، وما دامت
الأجهزة منسجمة فإن النفس تكون مرتاحة، ولكن عندما تتضارب مطلوبات الأجهزة، تكون
السحنة مكفهرة.
عندما قال عيسى: } مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ { سمع الاستجابة من الحواريين،
والحواريون قوم لهم إشراقات انسجام النفس مع الإيمان، أو هم قوم بيض المعاني, أي
أن معانيهم بيضاء ومشرقة. والنبي صلى الله عليه وسلم سمى بعضا من صحابته حواري
رسول الله, وهم الذين جعلهم رسول الله معه طوال الوقت.
وحين قال الحواريون: } نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ { كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم
يريد نصرة الله. فينضم إلى الله ناصرا للمنهج, وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج.
ونحن نعرف مقومات النصرة لله. إنه الإيمان: وما الإيمان؟ إنه اطمئنان القلب إلى
قضية ما، هذا هو الإيمان في عمومه. فلو لم أكن مؤمنا بأن الطريق الذي أسير فيه
موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه.
مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا
الطريق، وإن لم اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت. إذن فكل أمر في
الدنيا يتم بناؤه على الإيمان، لكن إذا أطلق الإيمان بالمعنى الخاص، فهو اطمئنان
القلب إلى قمة القضايا، وهي الإيمان بالله، لذلك فأسلحة النصر إلى الله هي: إسلام
كل جوارح الإنسان إلى الله. ولذلك قال الحواريون: } نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ,
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {.
لماذا يشهد الرسول لهم؟ لأن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن الله، فيشهد عليهم
كما قال الله سبحانه وتعالى:{ وَفِي هَـاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ
وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ
الْمَوْلَىا وَنِعْمَ النَّصِيرُ }[الحج: 78].
ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم - الحواريين - الإيمان أولا، لأنه أمر غيبي
عقدي في القلب، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن
الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه. إن قولهم: } وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ { هو أيضا طلب منهم يسألونه لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات
الإسلام قل لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إنهم قالوا: " آمنا " وما
داموا قد أعلنوا الإيمان بالله، فهم آمنوا بمن بلغهم عن الله، والمطلوب من عيسى
ابن مريم أن يشهد بأنهم مسلمون، ولا تتم الشهادة إلا بعد أن يبلغهم كل الأحكام وقد
بلغهم ذلك وعملوا به وقالوا من بعد ذلك: } رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ... {
(/444)
رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
فهل يكون إعلانهم للإيمان، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة، لا، إن الإيمان هنا
مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله، فوراء مجيء
رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس، ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك
الأخبار؛ وكذلك القصص، ولكن الأحكام هي التي تتغير. فكأن إعلان الحواريين هو إعلان
بالإيمان بما جاء سابقا على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من
أحكام وتشريعات.
وقولهم: { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ } كلمة { بِمَآ أَنزَلَتَ } تدل على
منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى. ولذلك
قلنا سابقا: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول: "
تعالوا " أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في
حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن
يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء.
وقولهم: { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ }. إن
المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من
الإرغام قهرا أو قسرا، فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر على السير معه، وهنا لا
يقال عن المُرغَم: إنه " اتبع " إنما الذي يتبع، أي الذي يسير في نفس
طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره. فلو سار شخص في طريق شخص آخر
بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب، لا بالقلب. ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن
يمسك سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف، لكنه لم
يخضع قلبه، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب.{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ
مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء:
3-4].
إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد. لا يستعصي على خالقه، وأنه سبحانه القادر
على الإحياء والإماتة، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل،
لكن الحق لا يريد أعناق الناس، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار،
وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء. هذه هي العظمة الإيمانية. وقال
الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى: { فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ } إنه الطلب الإيماني العالي الواعي، الفاهم. إنهم يحملون أمانة
التبليغ عن الرسول، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم، ويطلبون أن يكتبهم الله مع
الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن
أمة محمد عليه الصلاة والسلام: إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة
المحمدية إلى أن تقوم الساعة.
لماذا؟ ها هو ذا القول الحق:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـاذَا
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ
مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىا وَنِعْمَ النَّصِيرُ }[الحج: 78].
ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقد ائتمن الله
أمة محمد؛ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وبعد ذلك يخبرنا الحق: } وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ...=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق